...
140. الراسخون في العلم وصفاتهم وجزاؤهم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈140⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 162]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
عثمان:
روي عن عثمان بن عفان (ت 35 هـ) أنّه قال: إن في القرآن لحنا، وستقيمه العرب بألسنتها(1).
__________
(1) ابن أبي داود ص ٣٣.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: في القرآن أربعة أحرف: ﴿الصابئون﴾، ﴿وَالْمُقِيمِينَ﴾، ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون: ١٠]، و(إن هذان لساحران) [طه: ٦٣](1).
__________
(1) ابن أبي داود ص ٣٣.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: لما أتى عثمان بن عفان بالمصحف رأى فيه شيئا من لحن، فقال: لو كان المملي من هذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا(1).
__________
(1) ابن أبي داود ص ٣٣.
أبان:
عن الزبير بن خالد، قال: قلت لأبان بن عثمان بن عفان (ت 105 هـ): ما شأنها كتبت: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾، ما بين يديها وما خلفها رفع، وهي نصب؟ قال إن الكاتب لما كتب: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ﴾ حتى إذا بلغ قال ما أكتب؟ قيل له: اكتب: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾، فكتب ما قيل له(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٦٨٠.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾، استثنى الله منهم، فكان منهم من يؤمن بالله وما أنزل عليهم وما أنزل على نبي الله، يؤمنون به، ويصدقون به، ويعلمون أنه الحق من ربهم(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٦٧٩.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم ذكر مؤمني أهل التوراة، فقال سبحانه: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾، وذلك أن عبد الله بن سلام وأصحابه قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن اليهود لتعلم أن الذي جئت به حق، وإنك لمكتوب عندهم في التوراة، فقالت اليهود: ليس كما تقولون، وإنهم لا يعلمون شيئا، وإنهم ليغرونك، ويحدثونك بالباطل، فقال الله عز وجل: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ثم نعتهم، فقال سبحانه: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ يعني: المعطون الزكاة، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أنه واحد لا شريك له، والبعث الذي فيه جزاء الأعمال، ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا﴾ يعني: جزاء ﴿عَظِيمًا﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢٢.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾ استثنى الراسخين في العلم منهم، والرسخ: هو ثبات الشيء في القلب؛ يقال: رسخ العلم في القلب، ورسخ الإيمان في القلب.
2. ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ رُويَ عن عائشة أنها قالت: هذا خطأ من الكاتب؛ هو: (المقيمون الصلاة، والمؤتون الزكاة)، وكذلك في حرف ابن مسعود: (والمقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة)، وقال الكسائي: وجه قراءتنا: ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ﴾ هذه الرواية لا تثبت ولا تصح، وهي من وضع الزنادقة.
3. ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ يقول: يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ويؤمنون بإقامة الصلاة؛ كما قال عز وجل في سورة البقرة ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ﴾، معناه: ولكن البر الإيمان بِاللهِ.
4. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ يعني: الرسل، وفي حرف حفصة: (لكن الراسخون في العلم يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك المقيمين الصلاة المؤتين الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر سوف نؤتيهم أجرًا عظيمًا)، وكذلك في حرف أبي: ﴿المُقِيمِينَ الصَّلاةَ﴾ بالنصب.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤١٧.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. استثنى الله تعالى من اليهود الذين وصف صفتهم فيما مضى من الآيات في قوله: يسألك أهل الكتاب إلى ها هنا من هداه الله لدينه، ووفقه لرشده فقال: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ﴾ وهم الذين رسخوا في العلم وثبتوا فيه، وقد مضى معنى الرسوخ فيما مضى في العلم الذي جاء به الأنبياء، واحكام الله التي أدوها إلى عباده، والمؤمنون بالله ورسوله منهم يؤمنون بالقرآن الذي أنزله الله اليك يا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبالكتب التي أنزلها على من قبلك من الأنبياء، والرسل، ولا يسألونك ما يسأل هؤلاء الجهال من انزال كتاب من السماء، لأنهم قد علموا صدق قولك بما قرأوا من الكتب التي أنزلها على الأنبياء، ووصفك فيها وأنه يجب عليهم اتباعك، فلا حاجة بهم إلى أن يسألوك معجزة اخرى، ولا دلالة غير ما علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم وهو قول قتادة والمفسرين.
2. ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ اختلفوا هل هم الراسخون في العلم أو غيرهم؟
أ. فقال قوم: هم هم، واختلف هؤلاء في إعرابه ومخالفته لاعراب الراسخين:
• فقال قوم منهم: هو غلط من الكتب وإنما هو، (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون والمقيمون الصلاة) ذكر ذلك حماد بن سلمة عن الزبير، قال: قلت لابان بن عثمان بن عفان: ما شانها كتبت لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون والمقيمين الصلاة فقال: قال إن الكاتب لما كتب لكن الراسخون في العلم منهم إلى قوله: من قبلك قال ما اكتب؟ قيل له: اكتب والمقيمين الصلاة، وروى عروة بن الزبير قال سألت عائشة عن قوله: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾، وعن قوله: ﴿وَالصَّابِئُونَ﴾ وعن قوله: ﴿إِنْ هَذَانِ﴾ فقالت: يا بن اخي هذا عمل الكتاب أخطأوا في الكتابة وفي مصحف ابن مسعود (والمقيمون الصلاة)
• وقال الفراء والزجاج وغيرهما من النحويين: هو من صفة الراسخين، لكن لما طال، واعترض بينهما كلام نصب المقيمين على المدح وذلك سائغ في اللغة كما قال في الآيات التي تلوناها، وفي قوله: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾
• وقال آخرون: هو من صفة الراسخين في العلم ها هنا، وان كان الراسخون في العلم من المقيمين، قالوا: وموضع (المقيمين) خفض عطفاً على ما في قوله: يؤمنون بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة، والمعنى يؤمنون بإقام الصلاة وقوله: والمؤتون الزكاة: قالوا: عطف على قوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾
ب. وقال آخرون: المقيمون الصلاة هم الملائكة، وإقامتهم للصلاة تسبيحهم ربهم، واستغفارهم لمن في الأرض، ومعنى الكلام والمؤمنون يؤمنون بما أنزل اليك وما أنزله من قبلك، وبالملائكة، واختاره الطبري، قال لأنه في قراءة أبي كذلك، وكذلك هو في مصحفه، فلما وافق مصحفه لمصحفنا ذلك على انه ليس بغلط.
ج. وقال آخرون: المعنى المؤمنون يؤمنون بما أنزل اليك، وما أنزل من قبلك، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة، وهم الأئمة المعصومون، والمؤتون الزكاة، كما قال: يؤمن بالله، ويؤمن للمؤمنين، وأنكروا النصب على المدح، قالوا: وإنما يجوز ذلك بعد تمام خبره قالوا وخبر الراسخين قوله: ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ فلا يجوز نصب المؤمنين على المدح في وسط الكلام قبل تمام الخبر، واختار الزجاج ذلك، قال: يجوز أن تقول مررت بزيد كريم، بالجر والنصب والرفع: النصب على المدح، والخفض على الصفة، والرفع على تقدير هو الكريم، وانشد في النصب على المدح:
çلا يبعدن قومي الذين...هم سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك...والطيبون معاقد الأزرé
على معنى اذكر النازلين وهم الطيبون، ولو نصب لكان جائزاً، وقال قوم المعنى لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة قالوا فموضعه خفض.
د. وقال: قوم: المعنى يؤمنون بما أنزل، اليك وإلى المقيمين الصلاة وهذان الوجهان الأخيران ضعيفان عند النحويين، لأنه لا يكاد يعطف ظاهر على مكنى.
3. ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ إشارة إلى هؤلاء الذين وصفهم الله فأخبر أنه سيعطينهم أجراً أي ثواباً، وجزاء على ما كان منهم من طاعة الله واتباع أمره من الخلود في الجنة، وقيل من جملة الراسخين: عبد الله بن سلام وابن يامين وابن صوريا، واسد وثعلبة، وسلام وغيرهم من علماء اليهود الذين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/390.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. رسخ: ثبت، وكل شيء ثابت فهو راسخ، وحكى بعضهم رسخ الغدير: نضب ماؤه.
2. لما تقدم ذكر أهل الكتاب وما هم عليه من الكفر والضلال استثنى منهم من آمن ومدحهم، وعجب من ترك الإيمان به مع ظهور الآيات عليه كما ظهرت على الأنبياء؛ إذ الطريق في الجميع واحدة، وهو ظهور المعجز، عن أبي مسلم.
3. ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ يعني الثابتون في العلم، المبالغون فيه ﴿مِنْهُمْ﴾ أي: من أهل الكتاب الَّذِينَ علموا ما جاء به الأنبياء ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ بذلك، وبما أنزل إليك كعبد الله بن سلام وغيره ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ به بما أنزل إليك، أي: يصدقون ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ من القرآن والشرائع أنه حق ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ من الكتب.
4. ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾:
أ. هو صفة للراسخين على تقدير: أعني المقيمين.
ب. وقيل: هم غيرهم، والمراد به الأنبياء أي: يؤمنون بالمقيمين الصلاة.
ج. وقيل: هم الملائكة.
د. وقيل: هم المؤمنون وإقامة الصلاة أداؤها بشرائطها.
5. ﴿وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ أي: المعطون زكاة أموالهم ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ وحده من غير تشبيه ولا إجبار ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي: يصدقون بالبعث، ويوم القيامة والثواب والعقاب، وسمي آخرًا لتأخره عن الدنيا ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني من صفته ما تقدم ﴿سَنُؤْتِيهِمْ﴾ سنعطيهم ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أي: ثوابًا جزيلاً وهو الجنة جزاء بما عملوا، وسمي أجرًا؛ لأنه في مقابلة العمل مستحق عليه.
6. يدل قوله بعد ذكر الأعمال ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ على أن الثواب يستحق بالعمل.
7. مسائل لغوية ونحوية:
أ. سؤال وإشكال: من أين اجتمعت ﴿لَكِنِ﴾ و﴿إِلَّا﴾ حتى قيل: لكن ههنا استثناء، عن قتادة وغيره؟ والجواب: اجتمعا في الإيجاب بعد النفي، أو النفي بعد الإيجاب، وتنفصل من ﴿إِلَّا﴾ بأن ﴿إِلَّا﴾ لإخراج بعض من كل، و﴿لَكِنِ﴾ تكون بعد الواحد على الحقيقة، نحو: ما جاءني زيد لكن عمرو، ولأن ﴿لَكِنِ﴾ للاستدراك، لا للتخصيص.
ب. في موضع المقيمين ومعناه أقوال:
• الأول: أنه نصب على المدح، وهو في معنى صفة الراسخين، قال الزجاج: وهو مذهب البصريين، قال الشاعر:
çلا يَبْعَدَنْ قَوْمي الَّذِينَ هُمُ...سُمُّ العِدَاة وآفَةُ الجُزْرِ
النَّازِلين بكُلِّ مُعْتَرَكٍ...والطَّيبّونَ مَعاقِد الأَزْرِé
على معنى اذكر النازلين، وكذلك اذكر المقيمين أو أعني المقيمين، وقد ينصب على المدح على معني اذكر أو أعني، ويرفع على معنى هو كذا.
• الثاني: أن يكون موضعه جرًّا عطفا على ﴿مَا﴾ التي في قوله: ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ على تقدير: يؤمنون بالمنزل إليك، وبالمقيمين الصلاة؛ أي: المنيبين المقيمين الصلاة، وعلى هذا هم غير الراسخين.
• الثالث: أن (المقيمين) من صفة (الراسخين) لكنه لما طال الكلام واعترض بينهما كما اعترض نصب على المدح، على تقدير: أعني المقيمين.
• الرابع: أنه عطف على الضمير في ﴿مِنْهُمْ﴾، تقديره: لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة، وقيل: هذا ليس بالقوي؛ لأنه لا يعطف على المضمر المجرور بغير إعادة الجار.
• الخامس: قيل: إن هذا غلط وقع من الكاتب، روي ذلك عن عائشة وأبان بن عثمان، وهذا لا يصح؛ لأنه لو كان كذلك لما تركه الصحابة والتابعون والمسلمون بعدهم، وفي صلحوه مع تشديدهم في أمر القرآن، ويبعد أن يصح ذلك عن عائشة.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/150.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر سبحانه مؤمني أهل التوراة فقال: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ والدين، وذلك أن عبد الله بن سلام وأصحابه قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن اليهود لتعلم أن الذي جئت به حق، وإنك لعندهم مكتوب في التوراة، فقال اليهود: ليس كما يقولون إنهم لا يعلمون شيئا، وإنهم يغرونك ويحدثونك بالباطل، فقال الله تعالى: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ﴾، الثابتون المبالغون ﴿فِي الْعِلْمِ﴾، المدارسون بالتوراة ﴿مِنْهُمْ﴾ أي: من اليهود، يعني: ابن سلام وأصحابه من علماء اليهود، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ يعني: أصحاب النبي من غير أهل الكتاب ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ يا محمد، من القرآن والشرائع، أنه حق ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ من الكتب، على الأنبياء والرسل.
2. وقيل: إنما استثنى الله تعالى من وصفهم ممن هداه الله لدينه، ووفقه لرشده من اليهود الذين ذكرهم فيما مضى، من قوله: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ إلى ها هنا، فقال: لكنهم لا يسألونك ما يسأل هؤلاء الجهال من إنزال الكتاب من السماء، لأنهم قد علموا مصداق قولك بما قرأوا في الكتب المنزلة على الأنبياء، ووجوب اتباعك عليهم، فلا حاجة إلى أن يسألوك معجزة أخرى، ولا دلالة غير ما علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم، عن قتادة، وغيره.
3. ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾:
أ. إذا كان نصبا على الثناء والمدح، على تقدير: واذكر المقيمين الصلاة، وهم المؤتون الزكاة، ويكون على هذا عطفا على قوله: ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ والمعنى: والذين يؤدون الصلاة بشرائطها.
ب. وإذا كان جرا، عطفا على ما أنزل، أي: يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، والمقيمين الصلاة:
• فقيل: إن المراد بهم الأنبياء، أي: ويؤمنون بالأنبياء المقيمين للصلاة.
• وقيل: المراد بهم الملائكة، وإقامتهم للصلاة تسبيحهم ربهم، واستغفارهم لمن في الأرض، أي: وبالملائكة، واختاره الطبري، قال لأنه في قراءة أبي كذلك، وكذلك هو في مصحفه.
• وقيل: المراد بهم الأئمة المعصومون.
4. ﴿وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ أي: والمعطون زكاة أموالهم، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ بأنه واحد لا شريك له ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وبالبعث الذي فيه جزاء الاعمال، ﴿أُولَئِكَ﴾ أي: هؤلاء الذين وصفهم الله ﴿سَنُؤْتِيهِمْ﴾ أي: سنعطيهم ﴿أَجْرًا﴾ أي: ثوابا وجزاء على ما كان منهم من طاعة الله، واتباع أمره ﴿عَظِيمًا﴾ أي: جزيلا وهو الخلود في الجنة.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/214.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ قال ابن عباس: هذا استثناء لمؤمني أهل الكتاب، فأمّا الرّاسخون، فهم الثّابتون في العلم، قال أبو سليمان: وهم عبد الله بن سلّام، ومن آمن معه، والّذين آمنوا من أهل الإنجيل ممّن قدم مع جعفر من الحبشة، والمؤمنون، يعني أصحاب رسول الله.
2. فأمّا قوله تعالى: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ فهم القائمون بأدائها كما أمروا، وفي نصب (المقيمين) أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنه خطأ من الكاتب، وهذا قول عائشة، وروي عن عثمان بن عفّان أنه قال إنّ في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها، وقد قرأ ابن مسعود، وأبيّ، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والجحدريّ: (والمقيمون الصّلاة) بالواو، وقال الزجّاج: قول من قال إنه خطأ، بعيد جدا، لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة، والقدوة، فكيف يتركون في كتاب الله شيئا يصلحه غيرهم!؟ فلا ينبغي أن ينسب هذا إليهم، وقال الأنباريّ: حديث عثمان لا يصحّ، لأنه غير متّصل، ومحال أن يؤخّر عثمان شيئا فاسدا، ليصلحه من بعده.
ب. الثاني: أنه نسق على (ما) والمعنى؛ يؤمنون بما أنزل إليك، وبالمقيمين الصّلاة، فقيل: هم الملائكة، وقيل: الأنبياء.
ج. الثالث: أنه نسق على الهاء والميم من قوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ فالمعنى: لكن الرّاسخون في العلم منهم، ومن المقيمين الصّلاة يؤمنون بما أنزل إليك، قال الزجّاج: وهذا رديء عند النّحويين، لا ينسق بالظّاهر المجرور على المضمر المجرور إلّا في الشّعر.
د. الرابع: أنه منصوب على المدح، فالمعنى: أذكر المقيمين الصّلاة، وهم المؤتون الزّكاة، وأنشدوا:
çلا يبعدن قومي الذين هم...سمّ العداة وآفة الجزر
النّازلين بكلّ معترك...والطّيّبون معاقد الأزرé
وهذا على معنى: أذكر النّازلين، وهم الطّيّبون، ومن هذا قولك: مررت بزيد الكريم، إن أردت أن تخلصه من غيره، فالخفض هو الكلام، وإن أردت المدح والثّناء، فإن شئت نصبت، فقلت: بزيد الكريم، كأنك قلت: اذكر الكريم، وإن شئت رفعت على معنى: هو الكريم، وتقول: جاءني قومك المطعمين في المحل، والمغيثون في الشّدائد على معنى: أذكر المطعمين، وهم المغيثون، وهذا القول اختيار الخليل، وسيبويه، فهذه الأقوال حكاها الزجّاج، واختار هذا القول.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/498.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما وصف الله تعالى طريقة الكفار والجهال من اليهود وصف طريقة المؤمنين منهم، فقال: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾
2. المراد من ذلك عبد الله بن سلام وأصحابه الراسخون في العلم الثابتون فيه، وهم في الحقيقة المستدلون بأن المقلد يكون بحيث إذا شكك يشك، وأما المستدل فإنه لا يتشكك ألبتة، فالراسخون هم المستدلون والمؤمنون، يعني المؤمنين منهم أو المؤمنين من المهاجرين والأنصار وارتفع الراسخون على الابتداء و﴿يُؤْمِنُونَ﴾ خبره.
3. في قوله تعالى: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ أقوال:
أ. الأول: روي عن عثمان وعائشة أنهما قالا: إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها، وهذا بعيد لأن هذا المصحف منقول بالنقل المتواتر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟
ب. الثاني: وهو قول البصريين: أنه نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، قالوا: إذا قلت: مررت بزيد الكريم فلك أن تجر الكريم لكونه صفة لزيد، ولك أن تنصبه على تقدير أعني، وإن شئت رفعت على تقدير هو الكريم، وعلى هذا يقال: جاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد، والتقدير جاءني قومك أعني المطعمين في المحل وهم المغيثون في الشدائد فكذا هاهنا تقدير الآية: أعني المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة، طعن الكسائي في هذا القول وقال: النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام، وهاهنا لم يتم الكلام، لأن قوله: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ منتظر للخبر، والخبر هو قوله: ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، والجواب: لا نسلم أن الكلام لا يتم إلا عند قوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ لأنا بينا أن الخبر هو قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ وأيضا لم لا يجوز الاعتراض بالمدح بين الاسم والخبر، وما الدليل على امتناعه؟ فهذا القول هو المعتمد في هذه الآية.
ج. الثالث: وهو اختيار الكسائي، وهو أن المقيمين خفض بالعطف على (ما) في قوله: ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ والمعنى: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالمقيمين الصلاة، ثم عطف على قوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ قوله: ﴿وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ والمراد بالمقيمين الصلاة الأنبياء، وذلك لأنه لم يخل شرع أحد منهم من الصلاة، قال تعالى في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد أن ذكر أعدادا منهم ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ﴾ [الأنبياء: 73]، وقيل: المراد بالمقيمين الصلاة الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم الصافون وهم المسبحون وأنهم يسبّحون الليل والنهار لا يفترون، فقوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ يعني يؤمنون بالكتب، وقوله: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ يعني يؤمنون بالرسل.
د. الرابع: جاء في مصحف عبد الله بن مسعود والمقيمون الصلاة بالواو، وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي.
4. العلماء على ثلاثة أقسام:
أ. الأول: العلماء بأحكام الله تعالى فقط.. وهم العالمون بأحكام الله وتكاليفه وشرائعه.
ب. الثاني: العلماء بذات الله وصفات الله فقط.. وهم العالمون بذات الله وبصفاته الواجبة والجائزة والممتنعة.
ج. الثالث: العلماء بأحكام الله وبذات الله.. وهم الموصوفون بالعاملين وهم أكابر العلماء.
5. إلى هذه الأقسام الثلاثة أشار النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: (جالس العلماء وخالط الحكماء ورافق الكبراء)، والله تعالى وصفهم بكونهم راسخين في العلم، ثم شرح ذلك فبيّن:
أ. أولا: كونهم عالمين بأحكام الله تعالى وعاملين بتلك الأحكام، فأما علمهم بأحكام الله فهو المراد من قوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾
ب. وأما عملهم بتلك الأحكام فهو المراد بقوله: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ وخصهما بالذكر لكونهما أشرف الطاعات لأن الصلاة أشرف الطاعات البدنية، والزكاة أشرف الطاعات المالية.
ج. ولما شرح كونهم عالمين بأحكام الله وعاملين بها شرح بعد ذلك كونهم عالمين بالله، وأشرف المعارف العلم بالمبدأ والمعاد، فالعلم بالمبدأ هو المراد بقوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ والعلم بالمعاد هو المراد من قوله: ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾
6. ولما شرح هذه الأقسام ظهر كون هؤلاء المذكورين عالمين بأحكام الله تعالى وعاملين بها وظهر كونهم عالمين بالله وبأحوال المعاد، وإذا حصلت هذه العلوم والمعارف ظهر كونهم راسخين في العلم لأن الإنسان لا يمكنه أن يتجاوز هذا المقام في الكمال وعلو الدرجة، ثم أخبر عنهم بقوله: ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾
__________
(1) التفسير الكبير: 11/265.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾ استثنى مؤمني أهل الكتاب، وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا: إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلها ولم تكن حرمت بظلمنا، فنزل ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ والراسخ هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه، والرسوخ الثبوت، وقد تقدم في آل عمران، والمراد عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ونظراؤهما.
2. ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ أي من المهاجرين والأنصار، أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
3. ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ وقرأ الحسن ومالك بن دينار وجماعة: (والمقيمون) على العطف، وكذا هو في حرف عبد الله، وأما حرف أبي فهو فيه ﴿وَالْمُقِيمِينَ﴾ كما في المصاحف، واختلف في نصبه على أقوال ستة:
أ. أصحها قول سيبويه بأنه نصب على المدح، أي وأعني المقيمين، قال سيبويه: هذا باب ما ينتصب على التعظيم، ومن ذلك ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ وأنشد:
çوكل قوم أطاعوا أمر سيدهم...إلا نميرا أطاعت أمر غاويهاé
ويروى (أمر مرشدهم)
çالظاعنين ولما يظعنوا أحدا...والقائلون لمن دار نخليهاé
وأنشد:
çلا يبعدن قومي الذين هم...سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك...والطيبون معاقد الأزرé
قال النحاس: وهذا أصح ما قيل في (المقيمين)
ب. وقال الكسائي: ﴿وَالْمُقِيمِينَ﴾ معطوف على ﴿بِمَا﴾، قال النحاس قال الأخفش: وهذا بعيد، لأن المعنى يكون ويؤمنون بالمقيمين، وحكى محمد بن جرير أنه قيل له: إن المقيمين هاهنا الملائكة عليهم السلام، لدوامهم على الصلاة والتسبيح والاستغفار، واختار هذا القول، وحكى أن النصب على المدح بعيد، لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر، وخبر الراسخين في ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ فلا ينتصب (المقيمين) على المدح.
ج. قال النحاس: ومذهب سيبويه في قوله: ﴿وَالْمُؤْتُونَ﴾ رفع بالابتداء، وقال غيره: هو مرفوع على إضمار مبتدأ، أي هم المؤتون الزكاة.
د. وقيل: ﴿وَالْمُقِيمِينَ﴾ عطف على الكاف التي في ﴿قِبَلَكَ﴾، أي من قبلك ومن قبل المقيمين.
هـ. وقيل: ﴿وَالْمُقِيمِينَ﴾ عطف على الكاف التي في ﴿إِلَيْكَ﴾
و. وقيل: هو عطف على الهاء والميم، أي منهم ومن المقيمين، وهذه الأجوبة الثلاثة لا تجوز، لأن فيها عطف مظهر على مضمر مخفوض.
4. والجواب السادس ما روي أن عائشة سئلت عن هذه الآية وعن قوله: ﴿إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ﴾ [طه]، وقوله: ﴿وَالصَّابِئُونَ﴾ في] المائدة]، فقالت للسائل: يا ابن أخي الكتاب أخطئوا، وقال أبان بن عثمان: كان الكاتب يملى عليه فيكتب فكتب ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ ثم قال له: ما أكتب؟ فقيل له: اكتب ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ فمن ثم وقع هذا، قال القشيري: وهذا المسلك باطل، لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة، فلا يظن بهم أنهم يدرجون في القرآن ما لم ينزل، وأصح هذه الأقوال قول سيبويه وهو قول الخليل، وقول الكسائي هو اختيار القفال والطبري.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/13.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾ استدراك من قوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ أو ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا: إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلها، فنزل: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ﴾ والراسخ: هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه، والرسوخ: الثبوت، وقد تقدّم الكلام عليه في آل عمران، والمراد: عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ونحوهما، والراسخون: مبتدأ، ويؤمنون: خبره، والمؤمنون: معطوف على الراسخون، والمراد بالمؤمنين: إما من آمن من أهل الكتاب، أو من المهاجرين والأنصار، أو من الجميع.
2. ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ قرأ الحسن، ومالك بن دينار، وجماعة: والمقيمون الصّلاة على العطف على ما قبله، وكذا هو في مصحف ابن مسعود، واختلف في وجه نصبه على قراءة الجمهور على أقوال:
أ. الأوّل: قول سيبويه: أنه نصب على المدح، أي: وأعني المقيمين، قال سيبويه: هذا باب ما ينتصب على التعظيم، ومن ذلك: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ وأنشد:
çوكلّ قوم أطاعوا أمر سيّدهم...إلا نميرا أطاعت أمر غاويها
الظّاعنين ولمّا يظعنوا أحدا...والقائلون لمن دار نخلّيها é
وأنشد:
çلا يبعدنّ قومي الذين هم...سمّ العداة وآفة الجزر
النّازلين بكلّ معترك...والطّيّبون معاقد الأزرé
قال النحاس: وهذا أصح ما قيل في المقيمين.
ب. وقال الكسائي والخليل: هو معطوف على قوله: ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ قال الأخفش: وهذا بعيد لأن المعنى يكون هكذا: ويؤمنون بالمقيمين، ووجهه محمد بن يزيد المبرد: أن المقيمين هنا هم الملائكة، فيكون المعنى: يؤمنون بما أنزل إليك وبما أنزل من قبلك وبالملائكة، واختار هذا، وحكى: أن النصب على المدح بعيد، لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر، وخبر الرّاسخون هو قوله: ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾
ج. وقيل: إن المقيمين معطوف على الضمير في قوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ وفيه أنه عطف على مضمر بدون إعادة الخافض.
3. حكي عن عائشة: أنها سئلت عن المقيمين في هذه الآية وعن ﴿إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ﴾ وعن قوله: ﴿وَالصَّابِئُونَ﴾ في المائدة؟ فقالت: يا ابن أخي! الكتاب أخطئوا، أخرجه عنها أبو عبيد في فضائله، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وقال أبان بن عثمان: كان الكاتب يملي عليه فيكتب فكتب: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ ثم قال ما أكتب؟ فقيل له اكتب ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ فمن ثم وقع هذا، وأخرج عنه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، قال القشيري: وهذا باطل لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة فلا يظن بهم ذلك، ويجاب عن القشيري: بأنه قد روي عن عثمان بن عفان أنه فرغ من المصحف وأتي به إليه قال أرى فيه شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنها، أخرجه عنه ابن أبي داوود من طرق، وقد رجح قول سيبويه كثير من أئمة النحو والتفسير، ورجح قول الخليل والكسائي ابن جرير الطبري والقفال، وعلى قول سيبويه تكون الجملة معترضة بين المبتدأ والخبر على قول من قال إن خبر (الرّاسخون) هو قوله: ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ﴾ أو بين المعطوف والمعطوف عليه إن جعلنا خبر (الرّاسخون) هو يؤمنون، وجعلنا قوله: ﴿وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ عطفا على المؤمنون، لا على قول سيبويه: أن المؤتون الزكاة مرفوع على الابتداء أو على تقدير مبتدأ محذوف، أي: هم المؤتون الزكاة.
4. ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ هم مؤمنو أهل الكتاب، وصفوا أوّلا بالرسوخ في العلم، ثم بالإيمان بكتب الله، وأنهم: يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويؤمنون بالله واليوم الآخر، وقيل: المراد بهم: المؤمنون من المهاجرين والأنصار كما سلف، وأنهم جامعون بين هذه الأوصاف.
5. والإشارة بقوله: ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ إلى الرّاسخون وما عطف عليه.
__________
(1) فتح القدير: 1/619.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ﴾ الثابتون ﴿فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾ كعبد الله بن سلام وأصحابه، كأسيد وثعلبة، وفيهم نزلت الآية كما قال ابن عبَّاس، وقد ذكرتُ منهم جملةً فيما مَرَّ، ﴿وَالْمُومِنُونَ﴾ منهم، بأن آمنوا وصحَّ إيمانهم دون أن يكونوا في رتبة من اتَّصف منهم بالرسوخ في العلم، أو (الْمُومِنُونَ): المهاجرون والأنصار وغيرهم مِمَّن آمن وصحَّ إيمانه مطلقًا، أو الراسخ والمؤمن ذاتٌ واحدة، أي: لكن المتَّصفون بالرسوخ في العلم وبالإيمان.
2. ﴿يُومِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ أي: واذكر المقيمين ولا تنسهم، أو أعني المقيمين، أو معطوف على (مَا)، أي: يؤمنون بما أنزل إليك.. إلخ، وبالمقيمين على أنَّهم الأنبياء، قيل: على أنَّ إقامتها هي إشهارها بين الناس، أو على أنَّهم الملائكة، وقد قال الله ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: 20]، ولم يخلُ نبيٌّ عن إقامة الصلاة ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ﴾ [الأنبياء: 73]، أو إليك وإلى المقيمين، وهم الأنبياء، وقيل: وبدين المقيمين، أو لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين، فإنَّه ربَّما عطف على الضمير المجرور المتَّصل بلا إعادة جارٍّ، وقد قيل بجوازه مع الفصل كما هنا، كما جاز مع الفصل في العطف على الضمير المرفوع المتَّصل المفصول، وقرأ مالك بن دينار وعيسى الثقفي والجحدري بالواو، كما في مصحف ابن مسعود.
3. ﴿وَالْمُوتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُومِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الَاخِرِ﴾ مبتدأ ومعطوف عليه، وذلك عامٌّ خبره قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ سَنُوتِيهِمُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، أو عطف على واو (يُومِنُونَ)، أو على (الرَّاسِخُونَ)، وخبر (الرَّاسِخُونَ) (أُوْلَئِكَ..) إلخ، وما بينهما معترض، والأجر العظيم: الجنَّة، لجمعهم بين الإيمان والعمل الصالح، واجتناب المحرَّمات، وصف الله تعالى مؤمني أهل الكتاب بالرسوخ في العلم وبالإيمان بِكُلِّ ما يجب الإيمان به وإيتاء الزكاة.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/347.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾ أي: الثابتون في العلم المستبصرون فيه، كعبد الله بن سلام، قال الرازيّ: الراسخون في العلم: الثابتون فيه، وهم في الحقيقة المستدلون، لأن المقلد يكون بحيث إذا شكّك يشكّ، وأما المستدل فإنه لا يتشكك، البتة، فالراسخون هم المستدلون ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ أي: من الأميين اللاحقين بهم في الرسوخ، بصحبة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ من القرآن ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ على سائر الأنبياء لاطلاعهم على كمالات المنزل عليك وأنه صدق ما أنزل من قبلك، فلا بد من الإيمان به أيضا.
3. ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ قال ابن كثير: هكذا هو في مصاحف الأئمة، وكذا هو في مصحف أبيّ بن كعب، قال الزمخشريّ: (ارتفاع (الراسخون) على الابتداء، و(يؤمنون) خبره و(المقيمين) نصب على المدح، لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع قد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب، ولم يعرف مذاهب العرب، وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغبي عليه أن السابقين الأولين، الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل، كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام، وذب المطاعن عنه، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم، وخرقا يرفوه من يلحق بهم، وقيل: هو عطف على (بما أنزل إليك) أي يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء، وفي مصحف عبد الله (والمقيمون) بالواو، وهي قراءة مالك بن دينار والجحدريّ وعيسى الثقفيّ)، وجوز عطف (المقيمين) على الضمير في (منهم) وعطفه على الضمير في (إليك)، والكتاب أنزل للنبيّ ولأتباعه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [يونس: 57] كذا في حواشي الشذور.
4. وقد أشار الزمخشريّ بقوله: (كانوا أبعد همة) إلى ردّ ما نقل، أن عثمان لما فرغ من المصحف أتى به إليه، فقال: قد أحسنتم وأجملتم، أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها، ولو كان المملي من هذيل والكاتب من قريش، لم يوجد فيه هذا، قال الحافظ السخاويّ: هذا الأثر ضعيف، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع، لأن عثمان جعل للناس إماما يقتدون به، فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها؟ وقد كتب مصاحف سبعة وليس فيها اختلاف قط، إلا فيما هو من وجوه القراءات، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع، كيف يقيمه غيرهم؟ وتأول قوم اللحن في كلامه (على تقدير صحته عنه) بأن المراد الرمز والإيماء كما في قوله:
çمنطق رائع وتلحن أحيا...نا، وخير الكلام ما كان لحناé
أي: المراد به الرمز، بحذف بعض الحروف خطّا، كألف (الصّابرين) مما يعرفه القراء إذا رأوه، وكذا زيادة بعض الحروف، كذا في (عناية الراضي)
5. ﴿وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ رفعه بالعطف على ﴿الرَّاسِخُونَ﴾ أو على الضمير في ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ أو على أنه مبتدأ، والخبر ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ﴾، والوجوه المذكورة تجري في ﴿الْمُقِيمِينَ﴾ على قراءة الرفع.
6. ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ يعني: والمصدقون بوحدانية الله تعالى وبالبعث بعد الموت وبالثواب والعقاب، وإنما قدم الإيمان بالأنبياء والكتب وما يصدقه من اتباع الشرائع، لأنه المقصود في هذا المقام، لأنه لبيان حال أهل الكتاب وإرشادهم، وهم كانوا يؤمنون ببعض ذلك ويتركون بعضه، فبيّن لهم ما يلزمهم ويجب عليهم ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ يعني الجنة، لجمعهم بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح.
7. في الآية وجوه من الإعراب، أحسنها ما اعتمده أبو السعود، من أن جملة ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ﴾ خبر للمبتدأ الذي هو ﴿الرَّاسِخُونَ﴾ وما عطف عليه، وأن جملة ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ﴾ حال من ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ مبينة لكيفية إيمانهم، أو اعتراض مؤكد لما قبله، قال وهذا أنسب بتجاوب طرفي الاستدراك حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم ووعد الآخرون بالأجر العظيم، كأنه قيل إثر قوله تعالى: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ لكن المؤمنون منهم سنؤتيهم أجرا عظيما، وأما ما جنح إليه الجمهور من جعل قوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ﴾ خبرا للمبتدأ، ففي كمال السداد، خلا أنه غير متعرض لتقابل الطرفين.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/447.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما أطلق القول في هذا السياق ببيان سوء حال اليهود وكفرهم وعصيانهم، وكان ذلك يوهم أن ما ذكر عنهم عام مستغرق لجميع أفرادهم، جاء الاستدراك عقبه في بيان حال خيارهم، الذين لم يذهب عمى التقليد ببصيرتهم، وهو﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾ أي لكن أهل العلم الصحيح بالدين من اليهود، الآخذون فيه بالدليل دون التقليد، الراسخون أي الثابتون فيه ثبات الأطواد، بحيث لا يشترون به ثمنا قليلا من المال والجاه ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ من عامتهم أو من أمتك أيها الرسول إيمان إذعان يبعث على العمل، لا إيمان دعوى وعصبية وجدل، كما هو المعروف عن المقلدة في كل الملل، كل منهم.
2. ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ أيها الرسول من البينات والهدى في القرآن ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ على موسى وعيسى وغيرهما من الرسل عليهم السلام، لا يفرقون بين الله ورسله بالهوى والعصبية، روى عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة أنه قال في هذه الجملة: استثنى الله منهم فكان منهم من يؤمن بالله وما أنزل عليهم وما أنزل على الله يؤمنون به ويصدقون به، ويعلمون أنه الحق من ربهم، وروى ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه قال في الآية: نزلت في عبد الله بن سلام وأسيد بن سعية حين فارقوا يهود وأسلموا.
3. وما جرينا عليه من جعل ما تقدم جملة تامة ظاهر يسيغه الفهم بغير غصة، ولا يعترض الذهن فيه شبهة ولا كبوة، واختار بعضهم أن جملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ حالية أو معترضة لا خبرية وأن الخبر هو جملة ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ﴾ في آخر الآية، وقد راجعت تفسير الرازي بعد كتابة ما تقدم فإذا هو يجزم بأن ﴿الرَّاسِخُونَ﴾ مبتدأ خبره ويؤمنون، وإذا هو يفسر الراسخين بالمستدلين وعلل ذلك بأن المقلد يكون بحيث إذا شكك يشك، وأما المستدل فإنه لا يتشكك البتة، وأورد في قوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ وجهين:
أ. أحدهما: أنهم المؤمنون منهم.
ب. الثاني: أنهم المؤمنون من المهاجرين والأنصار، وهذا أظهر وإلا قال: (لكن الراسخون في العلم والمؤمنون منهم) والمعنى أن الراسخين في العلم منهم هم ومؤمنوا المهاجرين والأنصار سواء في كونهم يؤمنون بما أنزل إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وما أنزل إلى من قبله من الرسل صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يفرقون بينهم.
4. أما قوله تعالى: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ فهو جملة مستقلة، و(المقيمين) فيه منصوب على الاختصاص أو المدح على ما قاله النحاة البصريون سيبويه وغيره والتقدير: أعني أو وأخص المقيمين الصلاة منهم الذين يؤدونها على وجه الكمال، فإنهم أجدر المؤمنين بالرسوخ في الإيمان والنصب على المدح أو العناية لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة، والنكتة هنا ما ذكرنا آنفا من مزية الصلاة وكون إقامتها آية كمال الإيمان على أن تغيير الإعراب في كلمة بين أمثالها ينبه الذهن إلى التأمل فيها، ويهدي الفكر إلى استخراج مزيتها، وهو من أركان البلاغة، ونظيره في النطق أن يغير المتكلم جرس صوته وكيفية آدائه للكلمة التي يريد تنبيه المخاطب لها، كرفع الصوت أو خفضه أو مده بها، وقد عد مثل هذا بعض الجاهلين أو المتجاهلين من الغلط في أصح الكلام وأبلغه، وقيل إن المقيمين معطوف على المجرور قبله، والمعنى يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك على الرسل، وبالمقيمين الصلاة، وهم الأنبياء أنفسهم فإن الله تعالى قال في الأنبياء: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ﴾ [الأنبياء: 73] أي إقامتها، أو الملائكة فإنه تعالى حكى عنهم قولهم: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾ [الصافات: 165، 166] ووصفهم بقوله: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: 20] والإيمان بهم من أركان الإيمان كالإيمان بالرسل.
5. وما ذكرناه أولا أبلغ عبارة، وإن عده الجاهل أو المتجاهل غلطا أو لحنا، وروي أن الكلمة في مصحف عبد الله بن مسعود مرفوعة (والمقيمون الصلاة) فإن صح ذلك عنه وعمن قرأها مرفوعة كمالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي كانت قراءة وإلا فهي كالعدم، وروي عن عثمان أنه قال: إن في كتابة المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها، وقد ضعف السخاوي هذه الرواية وفي سندها اضطراب وانقطاع فالصواب أنها موضوعة، ولو صحت لما صح أن يعد ما هنا من ذلك اللحن لأنه فصيح بليغ، وإنني بعد كتابة ما تقدم راجعت الكشاف فإذا هو يقول: (نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع قد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظره في الكتاب (أي كتاب سيبويه) ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم من النصب على الاختصاص من الافتنان، وغبي عليه أن السابقين الأولين.. كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم، وخرقا يرفوه من يلحق بهم)
6. ﴿وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ يجوز أن يكون هذا عطفا على (الراسخون) وعلى ضمير ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ وأن يكون مبتدأ خبره محذوف، أي والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، أو كذلك، أي مثل أولئك المؤمنين أو مثل المقيمين الصلاة في استحقاق المدح بالتبع، وإقامة الصلاة تستلزم إيتاء الزكاة دون العكس، فإن الذي يقيم الصلاة لا يمكن أن يمنع الزكاة لأن الصلاة تعلي همته وتزكي نفسه فيهون عليه ماله، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ [المعارج: 19 ـ 22]
7. سؤال وإشكال: قد يرد هاهنا سؤال وهو أن من سنة القرآن أن يذكر الإيمان بالله قبل العمل الصالح سواء ذكر الإيمان غفلا مطلقا أو ذكرت أركانه كلها أو بعضها كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ [الكهف: 107] ومثلها كثير وكقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 62] والجواب: أن القاعدة الأساسية في التقديم والتأخير هي أن يقدم الأهم الذي يقتضيه السياق لا الأهم في ذاته، ولذلك قال تعالى في سياق تخطئة المفاخرين بدينهم بالأماني ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: 124] بعد ما قال في الآية التي قبلها ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: 123] فالسياق لبيان أن العبرة بالعمل بالدين لا بالانتماء إليه وإلى الرسول الذي جاء به والفخر بذلك، فقدم ذكر العمل على الإيمان والسياق الذي نحن فيه هو بيان أحوال أهل الكتاب في عصر نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم فكان المهم أولا بيان إيمان خيارهم بما أنزل إليه كإيمانهم بما أنزل إلى أنبيائهم من قبله، ثم كون هذا الإيمان إذعانيا يترتب عليه العمل، واكتفى منه بأعلى أنواع العبادات البدنية والمالية، ثم ختم الكلام، بوصفهم بأول صفات الكمال، أي بالإيمان بالله واليوم الآخر، ويجوز أن يراد بالمؤمنين هنا المهاجرين والأنصار وبالمؤمنين في أول الآية المؤمنون من أهل الكتاب.
8. ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أي أولئك الموصوفون بما ذكر كله سنعطيهم في الآخرة أجرا عظيما لا يدرك كنهه في الدنيا أحد منهم.
__________
(1) تفسير المنار: 6/52.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بين الله تعالى في هذا السياق سوء حال اليهود وكفرهم وعصيانهم وأطلق القول في ذلك، وكان هذا مما يوهم أنه شامل لكل أفرادهم، جاء الاستدراك عقبه ببيان حال خيارهم الذين لم يذهب عمى التقليد بنور عقولهم فقال: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ﴾
2. ﴿قِبَلَكَ﴾ أي لكن أهل العلم الصحيح بالدين منهم المستبصرون فيه غير التابعين للظن الذين لا يشترون به ثمنا قليلا من المال والجاه، والمؤمنون من أمتك إيمان إذعان لا إيمان عصبية وجدل، يؤمنون بما أنزل إليك من البينات والهدى وما أنزل على موسى وعيسى وغيرهما من الرسل، ولا يفرقون بين الله ورسله بهوى ولا عصبية، روى ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن الآية نزلت في عبد الله بن سلام وأسيد بن سعية وثعلبة بن سعية حين فارقوا يهود وأسلموا.
3. ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ أي وأخص منهم المقيمين الصلاة الذين يؤدونها على وجه الكمال، فهم أجدر المؤمنين بالرسوخ في الإيمان إذ إقامتها بإتمام أركانها علامة كمال الإيمان واطمئنان النفس به.
4. ﴿وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر مثل المقيمين الصلاة في استحقاق المدح بالتبع، إذ إقامتها تستدعى إيتاء الزكاة، فإن الذي يقيمها على الوجه الذي طلبه الدين لا يمنع الزكاة، إذ هي مما تزكى النفس وتعلى الهمة وتهوّن على النفس المال، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ الآية.
5. ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أي هؤلاء الذين وصفوا بما ذكر كله سنعطيهم أجرا عظيما لا يدرك وصفه إلا علّام الغيوب.
__________
(1) تفسير المراغي 6/19.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لا يترك السياق الموقف مع اليهود، حتى ينصف القليل المؤمن منهم؛ ويقرر حسن جزائهم، وهو يضمهم إلى موكب الإيمان العريق، ويشهد لهم بالعلم والإيمان، ويقرر أن الذي هداهم إلى التصديق بالدين كله: ما أنزل إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وما أنزل من قبله، هو الرسوخ في العلم وهو الإيمان.
2. ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.. فالعلم الراسخ، والإيمان المنير، كلاهما يقود أهله إلى الإيمان بالدين كله، كلاهما يقود إلى توحيد الدين الذي جاء من عند الله الواحد.
3. وذكر العلم الراسخ بوصفه طريقا إلى المعرفة الصحيحة كالإيمان الذي يفتح القلب للنور، لفتة من اللفتات القرآنية التي تصور واقع الحال التي كانت يومذاك؛ كما تصور واقع النفس البشرية في كل حين، فالعلم السطحي كالكفر الجاحد، هما اللذان يحولان بين القلب وبين المعرفة الصحيحة.. ونحن نشهد هذا في كل زمان، فالذين يتعمقون في العلم، ويأخذون منه بنصيب حقيقي، يجدون أنفسهم أمام دلائل الإيمان الكونية؛ أو على الأقل أمام علامات استفهام كونية كثيرة، لا يجيب عليها إلا الاعتقاد بأن لهذا الكون إلها واحدا مسيطرا مدبرا متصرفا، وذا إرادة واحدة، وضعت ذلك الناموس الواحد.. وكذلك الذين تتشوق قلوبهم للهدى ـ المؤمنون ـ يفتح الله عليهم، وتتصل أرواحهم بالهدى.. أما الذين يتناوشون المعلومات ويحسبون أنفسهم علماء، فهم الذين تحول قشور العلم بينهم وبين إدراك دلائل الإيمان أو لا تبرز لهم ـ بسبب علمهم الناقص السطحي ـ علامات الاستفهام، وشأنهم شأن من لا تهفو قلوبهم للهدى ولا تشتاق.. وكلاهما هو الذي لا يجد في نفسه حاجة للبحث عن طمأنينة الإيمان أو يجعل التدين عصبية جاهلية فيفرق بين الأديان الصحيحة التي جاءت من عند ديان واحد، على أيدي موكب واحد متصل من الرسل، صلوات الله عليهم أجمعين.
4. ورد في التفسير المأثور أن هذه الإشارة القرآنية تعني ـ أول من تعني ـ أولئك النفر من اليهود، الذين استجابوا للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وذكرنا أسماءهم من قبل، ولكن النص عام ينطبق على كل من يهتدي منهم لهذا الدين، يقوده العلم الراسخ أو الإيمان البصير.. ونستطيع أن نذكر منهمـ ولا نزكي على الله أحداـ في الزمن الحديث(محمد أسد) النمساوي، وكان اسمه ليو بولد فايس، وقد اهتدى وأسلم، وسمى نفسه محمد أسد.
5. ويضم السياق القرآني هؤلاء وهؤلاء إلى موكب المؤمنين، الذين تعينهم صفاتهم: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، وهي صفات المسلمين التي تميزهم: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بالله واليوم الآخر.. وجزاء الجميع ما يقرره الله لهم.
6. ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ ونلاحظ أن (المقيمين الصلاة) تأخذ إعرابا غير سائر ما عطفت عليه، وقد يكون ذلك لإبراز قيمة إقامة الصلاة في هذا الموضع على معنى ـ وأخص المقيمين الصلاة ـ ولها نظائر في الأساليب العربية وفي القرآن الكريم، لإبراز معنى خاص في السياق له مناسبة خاصة، وهي هكذا في سائر المصاحف وإن كانت قد وردت مرفوعة: (والمقيمون الصلاة) في مصحف عبد الله بن مسعود.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/804.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الراسخون في العلم: هم أهل العلم القائم على النظر السليم، والفهم الذكىّ.. وهؤلاء الراسخون في العلم من أحبار اليهود وعلمائهم ـ ليسوا على شاكلة قومهم من الكفر والعناد، وقساوة القلب.. بل هم إذ يرون الحق يعرفونه ويؤمنون به، وقد آمنوا بما في أيديهم من كتاب، كما آمنوا بما نزل على محمد من كلام الله ـ فهم حيث وجدوا الحق، عرفوه، وانقادوا له، وأسلموا إليه زمامهم.. لا يعنيهم على أيّ يد جاءهم، ولا من أي جهة طلع عليهم.. وهكذا حكم العقل السليم على أهله.. يقودهم إلى الحق، ويجمعهم عليه.
2. ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ هو عطف على قوله تعالى: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ﴾.. فهؤلاء الراسخون هم والمؤمنون سواء، إذ يلتقون جميعا على الحق: ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾، وهؤلاء المؤمنون:
أ. قد يكونون من مؤمني اليهود، الذين آمنوا عن استجابة لدعوة الحق، ولم يتّبعوا أهواء أهل الضلال فيهم، فظلوا متمسكين بالعقيدة السليمة التي جاء بها موسى.. فهم مؤمنون.. وهؤلاء لا يرون في إيمانهم تعارضا مع ما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهم والراسخون في العلم سواء في مواجهة الدعوة الإسلامية، إذ يرونها هي والحق الذي في أيديهم على طريق واحد.
ب. وقد يكون المراد بهؤلاء المؤمنين، المسلمون.. فهم إذ آمنوا بمحمد مدعوون إلى الإيمان برسل الله جميعا، وبالكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء.
3. ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ هو استئناف لتقرير حكم جديد، لمن آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة، ذلك، الحكم هو أن الله سيؤتيهم أجرا عظيما.. ومناسبة هذا الحكم لما قبله، هو أنه لما ذكر الله سبحانه وتعالى الراسخين في العلم والمؤمنين وأنهم يؤمنون بما أنزل على محمد، وما أنزل من قبل ـ ناسب أن يذكر لهؤلاء آمنوا، أن وراء الإيمان عملا، وأن هذا العمل هو الذي يتمم الإيمان ويعطى الثمرة الطيبة التي له.. وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة هما أبرز عملين من أعمال المؤمنين، وأن الاستقامة عليهما سبب لمرضاة الله، وللأجر العظيم عنده.
4. سؤال وإشكال: في عطف قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ على قوله سبحانه: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ مع الاختلاف في الصورة الإعرابية بين العطوف والمعطوف عليه ـ في هذا ما يدعو إلى التوقف والنظر.. فلم لم يكن المتعاطفون نسقا واحدا، على أية صورة.. بالرفع مثلا، هكذا: (والمقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر؟ والجواب: قد كثرت في هذا آراء المفسرين والنحاة.. ولم نر فيما قاله هؤلاء وهؤلاء وجها نستريح له، ونرضى به، ونطمئن إليه.. إذ كلها محاولات لتسوية هذا التخالف، الذي يبدو وكأنه تناقض وخروج على أساليب العرب، ومألوف كلامهم.. وكأنهم ـ أي المفسرون والنحاة ـ يلتمسون المعاذير للقرآن، لهذا الخلل الذي ظهر فيه هنا،! وللقرآن الكريم، أن يكون متفقا مع قواعد النحاة أو مخالفا لها، جاريا ما عرف من أساليب العرب أو خارجا عنها.. وعلى النحاة أن يصححوا نحوهم عليه، وعلى الأساليب العربية أن تستقيم على ما طلع عليه بها القرآن من أساليب جديدة، وأن تجعلها من مذخورها الذي تحرص عليه، وتثرى باقتنائه، وتعتزّ به، فلنتحرر إذن من قواعد النحو، وأساليب العرب، حينما نستقبل جديدا من أساليب القرآن وإعجازه، ولنلقه بقلوبنا، لقاءنا لمعجزة قاهرة متحدية.. ونعم، فإننا بين يدى كل آية من آيات الكتاب الكريم، في مواجهة معجزة متحدية، لا تكشف لنا عن وجهها إلا بعد توقف ونظر.. ولكنا حين نكون بين يدى آية تطلع علينا بأسلوب غير مألوف من أساليب العربية، وغير جار على مقررات النحاة وقواعد النحو ـ فإننا نكون حينئذ في مواجهة آية تكشف لنا عن وجه من وجوه إعجازها، وتدعونا إليها، وتحملنا حملا على النظر في وجهها، فهنا في هذه الآية.. دعوة صريحة، وإشارة مضيئة، إلى كلّ من يلتقى بهذه الآية الكريمة أن يقف عندها، وأن يدبر النظر فيها، وأن يسأل نفسه كل تلك الأسئلة التي سألها المفسرون والنحاة، عندما التقوا أو يلتقون بكلمة: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾، لماذا خالفت نسق ما قبلها؟ ولماذا تخالف نسق ما بعدها؟ ولعلنا لا نقف طويلا عند الإجابة عن السؤال الأول.. إذ نجد الجواب حاضرا قريبا، وهو أنه ليس بين هذه الكلمة وما قبلها صلة عطف، وأن (الواو) التي تسبقها ليست واو عطف، وإنما هي للاستئناف.. إذ قد تمّ الكلام قبلها، واستؤنف بها كلام جديد، لتقرير حكم جديد.، ويبقى بعد ذلك الجواب عن السؤال الثاني.. وهو الذي يحتاج إلى طول نظر، وكثير تأمل! وأقلّ ما تخرج من بعد هذا النظر الطويل، وهذا التأمل الكثير هو:
أ. أولا: قطع ما بعد الواو في قوله تعالى: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ عما قبلها.. إذ كان لما قبلها شأن، ولما بعدها شأن آخر.. ولو لم يلقنا هذا التخالف في نظم الآية لما وقفنا عند تلك الكلمة، ولربّما داخلنا شعور ـ من حيث لا ندرى ـ أن الآية الكريمة نسق واحد، تنتهى إلى حكم واحد، هو ما ختمت به الآية في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾
ب. وثانيا: ترديد كلمة ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ والدوران حولها، والبحث عن الوجه الذي تنتظم فيه بما قبلها أو بعدها.. وفي هذا الترديد لتلك الكلمة، والتحديق الطويل فيها ـ ما يربط الشعور بها، ويشدّ العقل إليها، ويشغل التفكير بها.. وذلك من شأنه أن يقيم الصلاة مقاما مكينا في كيان المؤمنين، الأمر الذي يجب أن يكون للصلاة، إذ هي عمود الدّين، وركنه الركين.. من أقامها فقد أقام الدين، ومن ضيعها فقد ضيّع الدين.. والسؤال هنا.. ما الوجه النحوي الذي يستقيم عليه الرأي في هذه الكلمة؟ وهل هي منصوبة على الاختصاص.. أو معطوفة على معمول الباء في قوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ أي ويؤمنون بالمقيمين الصلاة.. رفعا لشأن الذين يقيمونها، وأنهم معلم من معالم الإيمان..؟ أما نحن فإنا لا نورد هذا السؤال.. ولا نتصدّى للإجابة عليه.. وإنما نتقبّل الأسلوب القرآني دون أن نجد فيه علة تدعو إلى كشف، أو غموضا يحتاج إلى بيان! وغاية ما يمكن أن نقوله هو: أن هذا هو أسلوب القرآن.. وعلى النحو أن يصحح قواعده عليه، وعلى البلاغة أن تضبط موازينها به!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1006.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الاستدراك بقوله: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ ناشئ على ما يوهمه الكلام السابق ابتداء من قوله: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ [النساء: 153] من توغّلهم في الضلالة حتّى لا يرجى لأحد منهم خير وصلاح، فاستدرك بأنّ الراسخين في العلم منهم ليسوا كما توهّم، فهم يؤمنون بالقرآن مثل عبد الله بن سلام ومخيريق.
2. الراسخ حقيقته الثابت القدم في المشي، لا يتزلزل؛ واستعير للتمكّن من الوصف مثل العلم بحيث لا تغرّه الشبه، وقد تقدّم عند قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ في سورة آل عمران [7]، والرّاسخ في العلم بعيد عن التكلّف وعن التعنّت، فليس بينه وبين الحقّ حاجب، فهم يعرفون دلائل صدق الأنبياء ولا يسألونهم خوارق العادات.
3. عطف ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ على ﴿الرَّاسِخُونَ﴾ ثناء عليهم بأنّهم لم يسألوا نبيّهم أن يريهم الآيات الخوارق للعادة، فلذلك قال: ﴿يُؤْمِنُونَ﴾، أي جميعهم بما أنزل إليك، أي القرآن، وكفاهم به آية، وما أنزل من قبلك على الرسل، ولا يعادون رسل الله تعصّبا وحميّة.
4. المراد بالمؤمنين في قوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ الذين هداهم الله للإيمان من أهل الكتاب، ولم يكونوا من الراسخين في العلم منهم، مثل اليهودي الذي كان يخدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وآمن به.
5. عطف ﴿الْمُقِيمِينَ﴾ بالنصب ثبت في المصحف الإمام، وقرأه المسلمون في الأقطار دون نكير؛ فعلمنا أنّه طريقة عربية في عطف الأسماء الدالّة على صفات محامد، على أمثالها، فيجوز في بعض المعطوفات النصب على التخصيص بالمدح، والرفع على الاستئناف للاهتمام، كما فعلوا ذلك في النعوت المتتابعة، سواء كانت بدون عطف أم بعطف، كقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 177]، قال سيبويه في (كتابه) (باب ما ينتصب في التعظيم والمدح وإن شئت جعلته صفة فجرى على الأول، وإن شئت قطعته فابتدأته)، وذكر من قبيل ما نحن بصدده هذه الآية فقال: (فلو كان كلّه رفعا كان جيّدا)، ومثله ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ [البقرة: 177]، ونظيره قول الخرنق:
çلا يبعدن قومي الذي همو...سمّ العداة وآفة الجزر
النازلون بكلّ معترك...والطيّبين معاقد الأزرé
في رواية يونس عن العرب: برفع (النازلون) ونصب (الطيّبين)، لتكون نظير هذه الآية، والظاهر أنّ هذا ممّا يجري على قصد التفنّن عند تكرّر المتتابعات، ولذلك تكرّر وقوعه في القرآن في معطوفات متتابعات كما في سورة البقرة وفي هذه الآية، وفي قوله: و﴿الصَّابِئُونَ﴾ في سورة المائدة [69]، وروي عن عائشة وأبان بن عثمان أنّ نصب ﴿الْمُقِيمِينَ﴾ خطأ، من كاتب المصحف وقد عدّت من الخطأ هذه الآية، وقوله: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ﴾ [البقرة: 177]، وقوله: ﴿إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ﴾ [طه: 63]، وقوله: ﴿الصَّابِئُونَ﴾ في سورة المائدة [69]، وقرأتها عائشة، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، والحسن، ومالك بن دينار، والجحدري، وسعيد بن جبير، وعيسى بن عمر، وعمرو بن عبيد: والمقيمون ـ بالرفع ـ، ولا تردّ قراءة الجمهور المجمع عليها بقراءة شاذّة.
6. ومن النّاس من زعم أنّ نصب ﴿الْمُقِيمِينَ﴾ ونحوه هو مظهر تأويل قول عثمان لكتّاب المصاحف حين أتمّوها وقرأها أنّه قال لهم: (أحسنتم وأجملتم وأرى لحنا قليلا ستقيمه العرب بألسنتها)، وهذه أوهام وأخبار لم تصحّ عن الّذين نسبت إليهم، ومن البعيد جدّا أن يخطئ كاتب المصحف في كلمة بين أخواتها فيفردها بالخطإ دون سابقتها أو تابعتها، وأبعد منه أن يجيء الخطأ في طائفة متماثلة من الكلمات وهي التي إعرابها بالحروف النائبة عن حركات الإعراب من المثنّى والجمع على حدّه، ولا أحسب ما رواه عن عائشة وأبان بن عثمان في ذلك صحيحا، وقد علمت وجه عربيّته في المتعاطفات، وأمّا وجه عربية ﴿إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ﴾ فيأتي عند الكلام في سورة طه [63]، والظاهر أنّ تأويل قول عثمان هو ما وقع في رسم المصحف من نحو الألفات المحذوفة، قال صاحب (الكشاف): (وهم كانوا أبعد همّة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم وخرقا يرفوه من يلحق بهم)، وقد تقدّم نظير هذا عند قوله تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ في سورة البقرة [177].
7. والوعد بالأجر العظيم بالنسبة للراسخين من أهل الكتاب لأنّهم آمنوا برسولهم وبمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد ورد في الحديث الصّحيح: أنّ لهم أجرين، وبالنسبة للمؤمنين من العرب لأنّهم سبقوا غيرهم بالإيمان.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/313.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ليس اليهود جميعا على هذا النحو، ولذلك قال في العقاب للكافرين منهم، فكل طائفة فيهم الخير والشر، واليهود مع ما كانوا عليه في الماضي كان منهم المؤمنون، وإن كانوا قليلا.
2. ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾، الراسخون في العلم هم الذين أدركوا حقائقه وصدقوها، وأذعنوا لها، وثبتت في قلوبهم ثباتا لا يكون معه ريب يزعزعه أو شبهة تفسده، أو هوى يعبث به، وقد قال الراغب في مفرداته في معنى الرسوخ: (رسوخ الشيء ثباته ثباتا متمكنا، ورسخ الغدير نضب ماؤه، ورسخ تحت الأرض، والراسخ في العلم المتحقق فيه الذى لا يعرضه شبهة، فالراسخون في العلم هم الموصوفون بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ [الحجرات]، وكذلك قوله تعالى: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾
3. وإن الله سبحانه وتعالى الحكم العدل تكون أحكامه على مقتضى عدله، فهؤلاء اليهود، وإن كثر جحودهم فيهم العلماء المحققون الراسخون، وإن كانوا مختفين في لجة من جحود اليهود، هؤلاء الراسخون في العلم الديني والعلم برسالته، وسائر رسائل النبيين هم والمؤمنون سواء، فهم يعتقدون كل ما يعتقده المؤمنون من صدق رسالة النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وصدق سائر الرسالات الإلهية.
4. وهؤلاء قد ضموا إلى صفوف المؤمنين، بل إنهم صاروا منهم، وإنما ذكروا كأنهم صنف قائم، باعتبار أنهم من اليهود، ولم يكونوا كالمنحرفين البارزين، وهؤلاء اليهود لم يكفروا بموسى كما لم يكفر سائر المؤمنين بموسى، ولذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ أي أنهم يؤمنون بالرسالة المحمدية وكتابها ورسالات الرسل السابقة وكتبها، فأولئك الراسخون في العلم من بنى إسرائيل هم والمؤمنون لم يخرجوا على موسى، بل آمنوا به أوثق إيمان؛ لأنهم آمنوا بالرسالات كلها.
5. سؤال وإشكال: إن الله تعالى ذم اليهود عموما، ثم خص الراسخين بالثناء، فلم كان التعميم ثم التخصيص؟ والجواب: أن أولئك الراسخين لم يكونوا هم الظاهرين منهم، بل كان الشر هو الطافح على سطحهم، فكان من أجل وصفهم عموما بالشر؛ لأن الجماعة توصف بالشر إذا اختفى الخير فيها، ثم كان الظاهر هو الشر، وكان من إنصاف الله تعالى أن ذكر أولئك العلماء المغمورين في وسط جماعة الأشرار، وبين حقيقتهم، وانضمامهم إلى جماعة المؤمنين.
6. هذه حقيقة المؤمنين ومن معهم من الراسخين في العلم من أهل الكتاب، ثم بين من بعد أعمالهم، وإيمانهم بالغيب، فقال: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ ذكر في هذا النص الكريم أعظم أعمال الخير التي يقوم بها المؤمن الصادق في إيمانه، وهي قسمان:
أ. عبادة هي تطهير النفس وتهذيبها، وهي الصلاة، فإن إقامة الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتهذب الضمير، والصلاة عمود الدين، ولب اليقين، وتهذيب الوجدان، وتجعل المؤمن يألف ويؤلف، وتصرفه إلى الخير، ولذلك ذكرت على سبيل التخصيص ونصبت حيث الظاهر، لتقدير فعل يدل على الاختصاص، والمعنى أخص الصلاة بالذكر؛ لأنها ذكر الله تعالى الأكبر، وبذكر الله تطمئن القلوب، وتصفو النفوس وتهذب الضمائر.
ب. الثاني: عبادة هي معونة اجتماعية للمؤمنين، فهي عطاء بنية العبادة، وهي تومئ إلى التعاون بين المؤمنين، بحيث يعين القوى الضعيف، والغنى الفقير، وكل امرئ في حاجة أخيه وعونه كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الله في عون العبد، ما دام العبد في عونه أخيه)، وكل امرئ مهما يكن يحتاج إلى غيره في ناحية، ويمد الغير بالحاجة من ناحية أخرى.
7. وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك لب اليقين، ونور الايمان وما يكون الرسوخ في العلم والعقيدة؛ فقال سبحانه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾:
أ. فالإيمان بالله جل جلاله، وإدراك معنى صفاته، والإذعان له، واعتقاد أنه فوق كل الوجود وما فيه وأنه القاهر فوق عباده، ذلك الإيمان بضعف كل شيء وأنه لا قادر حق القدرة سواه ـ هو الذى يتربى به القلب فيؤمن، والجوارح فتذعن، والنفوس فتصفو.
ب. والإيمان باليوم الآخر هو إيمان بالغيب، وهو أخص عناصر الإيمان وهو الذى يجعل المؤمن يعرف حقيقة الدنيا، ويصبر على سرائها وضرائها، ولا تذهب نفسه حسرات عند الحرمان، ولا يطغى ويغتر عندما يعطيه، ويعلم أنه مجزى بالصبر، محاسب على ما أنعم الله تعالى به عليه.
8. وقد بين سبحانه من بعد ذلك جزاء هؤلاء المؤمنين، فقال تعالت كلماته: ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أي أولئك الذين نالوا هذه الخصال كلها، فآمنوا بكل الأنبياء وتهذبت ضمائرهم بالصلاة، وتعاونوا فيما بينهم بالزكاة، وآمنوا بالله تعالى حق الإيمان وصدقوا البعث والنشور، وصبروا في السراء والضراء، هؤلاء المتصفون بتلك الصفات يستحقون بسببها جزاء عظيما، وقد أكد ذلك الجزاء بثلاثة مؤكدات:
أ. أولها: (السين) في قوله: ﴿سَنُؤْتِيهِمْ﴾؛ لأنها لتأكيد الوقوع في المستقبل.
ب. ثانيها: إسناد العطاء إلى الله تعالى القادر على كل شيء وهو لا يخلف الميعاد.
ج. ثالثها: تنكير الأجر، ووصفه بالعظمة، فهو أجر عظيم لا يجرى في خيال البشر، ويعلمه خالق البشر.. اللهم اجعلنا ممن تغفر لهم، فينالون رضاك يا رب العالمين.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1959.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وقد استثنى سبحانه هذه القلة بقوله: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾، الراسخون في العلم هم العلماء العاملون بعلمهم، لا المحيطون بما دوّن في الكتب، والمحققون المدققون في أبحاثهم ونظرياتهم، وان لم يعملوا ـ كما يتوهم ـ، وقد استوحينا هذا المعنى من قول علي أمير المؤمنين عليه السلام: (العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل عنه)
2. سؤال وإشكال: إن الله سبحانه عطف ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ على ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ وأخبر انهما معا يؤمنون بالقرآن والتوراة والإنجيل، وهذا الإخبار يصح بالنسبة إلى الراسخين في العلم من اليهود، ولا يصح بالنسبة إلى المؤمنين بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأن معناه على هذا أن المؤمنين يؤمنون، وهو أشبه بقول القائل: الواقفون يقفون، والنائمون ينامون، والقرآن منزه عن مثله، فما هو التأويل؟ والجواب: إن هذا السؤال أو الإشكال إنما يتجه لو فسرنا المؤمنين في الآية بالمؤمنين من صحابة الرسول من غير أهل الكتاب، كما فعل صاحب مجمع البيان، ولم يمنعه الرازي وصاحب المنار وأكثر المفسرين.. أما إذا فسرنا المؤمنين باليهود المقلدين للراسخين في العلم منهم فلا يتجه السؤال، إذا يكون المعنى أن الراسخين في العلم من اليهود والآخذين بأقوالهم من أهل ملتهم يؤمنون بالقرآن والتوراة والإنجيل، أولئك يؤمنون استدلالا، وهؤلاء يؤمنون تقليدا، ونحن نميل إلى هذا التفسير: ونرجحه على الأول.
3. ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾، كثر الكلام حول نصب المقيمين، حتى روي عن عثمان وعائشة انه لحن، وأبطل الرازي ذلك بقوله: (ان المصحف منقول بالتواتر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه)، والصحيح انه منصوب على المدح، أي أمدح المقيمين الصلاة، والغرض الإيماء إلى فضل الصلاة وخطرها
4. ﴿وَالْمُقِيمِينَ﴾، منصوب بفعل محذوف، أي أعني أو أمدح المقيمين الصلاة، سؤال وإشكال: وقال قائل: هذا من خطأ الكتّاب، والجواب: ويرده ان الأئمة والقراء والعلماء لا يقرون أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على الخطأ في غير كتابة القرآن، فكيف في كتابته؟ أجل، يتجه هذا السؤال: لماذا نصب المقيمين الصلاة على المدح، دون غيرها من المعطوفات؟ ونجيب: قد يكون ذلك لإبراز قيمة الصلاة وعظمتها، وانها عمود الدين والايمان، إذا قبلت قبل ما سواها، وإذا ردت رد سواها، والصلاة مفعول للمقيمين، والمؤتون الزكاة خبر مبتدأ محذوف، أي وهم المؤتون الزكاة.
5. ﴿وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، أي وهم المؤتون الزكاة، والمعنى أن المصلين الذين يستحقون المدح هم الذين يقرنون اقامة الصلاة بإيتاء الزكاة، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخر﴾ عطف على ﴿الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾، أما جزاء الجميع فقد أشار إليه بقوله: ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/490.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ استثناء واستدراك من أهل الكتاب، و﴿الرَّاسِخُونَ﴾ وما عطف عليه مبتدأ و﴿يُؤْمِنُونَ﴾ خبره، وقوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ متعلق بالراسخون و﴿مِنَ﴾ فيه تبعيضية.
2. والظاهر أن ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ يشارك ﴿الرَّاسِخُونَ﴾ في تعلق قوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ به معنى والمعنى: لكن الراسخون في العلم والمؤمنون بالحقيقة من أهل الكتاب يؤمنون بك وبما أنزل من قبلك، ويؤيده التعليل الآتي في قوله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾، فإن ظاهر الآية كما سيأتي بيان أنهم آمنوا بك لما وجدوا أن نبوتك والوحي الذي أكرمناك به يماثل الوحي الذي جاءهم به الماضون السابقون من أنبياء الله: نوح والنبيون من بعده، والأنبياء من آل إبراهيم، وآل يعقوب، وآخرون ممن لم نقصصهم عليك من غير فرق، وهذا المعنى ـ كما ترى ـ أنسب بالمؤمنين من أهل الكتاب أن يوصفوا به دون المؤمنين من العرب الذين وصفهم الله سبحانه بقوله: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ [يس: 6]
3. ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ معطوف على ﴿الرَّاسِخُونَ﴾ ومنصوب على المدح، ومثله في العطف قوله: ﴿وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾، وقوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ مبتدأ خبره قوله: ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ ولو كان قوله: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ مرفوعا كما نقل عن مصحف ابن مسعود كان هو وما عطف عليه مبتدأ خبره قوله: ﴿أُولَئِكَ﴾، قال في المجمع: (اختلف في نصب المقيمين فذهب سيبويه والبصريون إلى أنه نصب على المدح على تقدير أعني المقيمين الصلاة، قالوا: إذا قلت، مررت بزيد الكريم وأنت تريد أن تعرف زيدا الكريم من زيد غير الكريم فالوجه الجر، وإذا أردت المدح والثناء فإن شئت نصبت وقلت: مررت بزيد الكريم كأنك قلت: أذكر الكريم، وإن شئت رفعت فقلت: الكريم، على تقدير هو الكريم، وقال الكسائي، موضع المقيمين جر، وهو معطوف (على) ما من قوله: ﴿بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ أي وبالمقيمين الصلاة، وقال قوم: إنه معطوف على الهاء والميم من قوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ على معنى: لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة، وقال آخرون: إنه معطوف على الكاف من ﴿قِبَلَكَ﴾ أي مما أنزل من قبلك ومن قبل المقيمين الصلاة، وقيل: إنه معطوف على الكاف في ﴿إِلَيْكَ﴾ أو الكاف في قبلك، وهذه الأقوال الأخيرة لا تجوز عند البصريين لأنه لا يعطف بالظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، قال: وأما ما روي عن عروة عن عائشة قال: سألتها عن قوله: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ وعن قوله: ﴿وَالصَّابِئِينَ﴾ وعن قوله: ﴿إِنْ هَذَانِ﴾ فقالت: يا ابن أختي هذا عمل الكتاب أخطئوا في الكتاب، وما روي عن بعضهم: أن في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها، قالوا: وفي مصحف ابن مسعود: (والمقيمون الصلاة) فمما لا يلتفت إليه لأنه لو كان كذلك لم يكن ليعلمه الصحابة الناس على الغلط وهم القدوة والذين أخذوه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم)
4. وبالجملة قوله: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ استثناء من أهل الكتاب من حيث لازم سؤالهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن ينزل عليهم كتابا من السماء كما تقدم أن لازم سؤالهم ذلك أن لا يكفي ما جاءهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من الكتاب والحكمة المصدقين لما أنزل من قبله من آيات الله على أنبيائه ورسله، في دعوتهم إلى الحق وإثباته، مع أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يأتهم إلا مثل ما أتاهم به من قبله من الأنبياء، ولم يعش فيهم ولم يعاشرهم إلا بما عاشوا به وعاشروا به كما قال تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 9]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ﴾ ـ إلى أن قال ـ ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء: 10]، فذكر الله سبحانه في فصل من القول: أن هؤلاء السائلين وهم أهل الكتاب ليست عندهم سجية اتباع الحق ولا ثبات ولا عزم ولا رأي، وكم من آية بينة ظلموها، ودعوة حق صدوا عنها، إلا أن الراسخين في العلم منهم لما كان عندهم ثبات على علمهم وما وضح من الحق لديهم، وكذا المؤمنون حقيقة منهم لما كان عندهم سجية اتباع الحق يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك لما وجدوا أن الذي نزل إليك من الوحي يماثل ما نزل من قبلك على سائر النبيين: نوح ومن بعده، ومن هنا يظهر:
أ. أولا: وجه توصيف من اتبع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من أهل الكتاب بالراسخين في العلم والمؤمنين، فإن الآيات السابقة تقص عنهم أنهم غير راسخين فيما علموا غير مستقرين على شيء من الحق وإن استوثق منهم بأغلظ المواثيق، وأنهم غير مؤمنين بآيات الله صادون عنها وإن جاءتهم البينات، فهؤلاء الذين استثناهم الله راسخون في العلم أو مؤمنون حقيقة.
ب. وثانيا: وجه ذكر ما أنزل قبلا مع القرآن في قوله: (يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) لأن المقام مقام نفي الفرق بين القبيلين.
ج. وثالثا: أن قوله في الآية التالية ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا﴾ في مقام التعليل لإيمان هؤلاء المستثنين.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/139.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الرَّاسِخُونَ﴾ مبتدأ، وقوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ إلى آخره الخبر.
2. ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ قال في كتاب (إعراب القرآن): (الواو معترضة، و(المقيمين) نصب على المدح، بإضمار فعل لبيان فضل الصلاة على ما قاله سيبويه وغيره، والتقدير: أعنى أو أَخُصَّ المقيمين الصلاة، الذين يؤدونها على وجه الكمال، فإنهم أجدر المؤمنين بالرسوخ في الإيمان والنصب على المدح أو العناية لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة، والنكتة هاهنا: هي ما ذكرنا آنفا من مزيه الصلاة، على أن تغيير الإعراب في كلمة بين أمثالها ينبه الذهن إلى وجوب التأمل فيها، ويهدي التفكير لاستخراج مزيتها، وهو من أركان البلاغة)، وقد مر في (سورة البقرة) نظيره في الصبر في قوله تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ [البقرة:177] ولعل تخصيص إقامة الصلاة لما فيها من الخشوع المعين على امتثال أمر الله، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [آية:45] وهي في (البقرة) في (بني إسرائيل) في سياق دعوتهم إلى الإيمان بما أنزل الله على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد أمر الله (بني إسرائيل) أن يستعينوا بالصبر والصلاة، فتخصيص ﴿الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ﴾ لمزيد فائدتها في حق أهل الكتاب الذين يصعب عليهم الدخول في الإسلام والإيمان إلا الخاشعين لله.
3. ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ كذلك تخصيص لما قد شمله اسم الإيمان وفائدته التنبيه على الخروج من عقائد اليهود في الله مع دعواهم الإيمان به كالتشبيه ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ خُصَّ مع أنه قد دخل في الإيمان ليحقق إيمانهم على ما يقتضيه الإيمان بالقرآن، لا على عقائدهم السابقة في أمور الثواب والعقاب ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ لإيمانهم وعملهم الصالح، وهو ثواب الآخرة في جنات النعيم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/212.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ينطلق القرآن بنا ـ من خلال هذه الآية ـ إلى الفئة المؤمنة من هؤلاء اليهود الذين انفتحوا على الإسلام، وابتعدوا عن العقد النفسية المتحكمة في بيئتهم، وتخلصوا من كل الرواسب التاريخية التي تتجمّع في أعماقهم، فآمنوا بما أنزل على رسول الله، كما آمنوا بما أنزل على الأنبياء السابقين عليه، وتحدثت الآية عن المقيمين للصلاة والمؤتين للزكاة والمؤمنين بالله واليوم الآخر، وأن الله سيؤتيهم ـ جميعا ـ أجرا عظيما.
2. ثمة ملاحظة نحويّة في الآية، وهي السؤال عن الوجه في نصب كلمة ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ مع أن ما قبلها وهو قوله تعالى: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ جار على الرفع.. وقد ذهب سيبويه والبصريون ـ كما في مجمع البيان ـ إلى أنه نصب على المدح، على تقدير: أعني المقيمين الصلاة، قالوا: إذا قلت: مررت بزيد الكريم، وأنت تريد أن تعرّف زيدا الكريم من زيد غير الكريم، فالوجه الجرّ، وإذا أردت المدح والثناء؛ فإن شئت نصبت وقلت: مررت بزيد الكريم كأنت قلت: أذكر الكريم، وإن شئت رفعت فقلت: الكريم على تقدير هو الكريم.. وقال الكسائي: موضع المقيمين جرّ، وهو معطوف على ما في قوله: ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ أي وبالمقيمين الصلاة، وقال قوم بوجوه أخرى.
3. لكننا قد نتحفظ في ذلك كله، لأن السؤال يبقى على وجه التفرقة بين كلمة ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ وبين ما بعدها وهو ﴿وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ مع أن السياق واحد، سواء كان العطف بلحاظ التتمة للراسخين والمؤمنين في مقام تعداد صفاتهم، أو كان ذلك بلحاظ كونه من متعلّقات الإيمان ـ كما هو الوجه الثاني: فلماذا نصبت كلمة (المقيمين) ورفعت بقية الكلمات من بعدها؟ وقد نقل صاحب مجمع البيان، رواية عن عروة، عن عائشة قال سألتها عن قوله: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾، وعن قوله: ﴿وَالصَّابِئُونَ﴾ [المائدة: 69] وعن قوله: ﴿إِنْ هَذَانِ﴾ [طه: 63] فقالت: يا بن أختي، هذا عمل الكتّاب أخطئوا في الكتاب، وذكر أيضا رواية عن بعضهم: أن في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها؛ قالوا وفي مصحف ابن مسعود، (والمقيمون الصلاة)، وعلق صاحب مجمع البيان على ذلك: ان هذا (مما لا يلتفت إليه، لأنه لو كان كذلك لم يكن لتعلمه الصحابة الناس على الغلط وهم القدوة والذين أخذوه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم)
4. ويمكن المناقشة في ذلك، بأن من الممكن عدم الالتفات في البداية إلى اكتشاف الخطأ في الكتابة، كما لم يلتفتوا إلى الكثير من الأمور التي لم يشعروا بأهميتها كما نشعر الآن، ثم امتنع الجيل الآخر عن التصرف في ذلك، حذرا من الإساءة إلى طريقة الكتابة في القرآن، لئلا يتجرأ الناس على التغيير والتبديل فيما قد يسيء إلى أصل القرآن، وهذا هو ما نشاهده في موضوع الطريقة الإملائية التي كتب فيها القرآن، فقد بقيت على الطريقة الأولى، بالرغم من استلزام ذلك صعوبة في القراءة على المبتدئين في مثل كلمة (الصلوة) و(الزكاة) وأمثالهما، مما لو استبدلت فيه الواو بالألف لكان أسهل للقراءة.. وإننا نسجل ذلك كملاحظة للتفكير وللتأمّل، لأننا نرى أن الالتزام بالخطإ في الكتابة أقرب إلى بلاغة القرآن من هذه الوجوه التي قد تكون أساسا لصحة إعراب الكلمة، ولكنها لا تصلح أن تفسير هذا التخصيص لهذه الكلمة بهذا الإعراب، من بين الكلمات الأخرى الجارية على نسق واحد، مما يتنافى مع طبيعة التعبير من ناحية بلاغية، مع أن القرآن الكريم قد أنزل على أرفع درجات البلاغة، فيما تقتضيه أساليب الإعجاز، وعلى أيّ حال، فإن الموقف لا يتعدى تسجيل الملاحظة؛ والله هو العالم بحقائق آياته.
5. قد نستوحي من كلمة ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾ أن مشكلة الكثيرين من المعاندين والكافرين ليست مشكلة فكرية عميقة، فيما ينكرونه من قضايا الإيمان وحدوده، بحيث يتوقفون أمامها في حالة حيرة أو موقف مضاد، بل هي مشكلة السطحية في الفكر التي تسمح للعقد النفسية أن تتحكم في القناعات الفكرية في مسائل الكفر والإيمان؛ لأن الفكر السطحي، لا يستطيع مواجهة التحديات الضاغطة بقوة، وبالتالي فإنه لا يستطيع حماية صاحبه من المؤثرات الذاتية التي تترك بصماتها على طريقة تفكيره؛ ولهذا كان الأسلوب القرآني جاريا على أساس الدعوة إلى التأمّل والتدبّر والتعمّق في القضايا، وإلى مواجهة الحجة بالحجة في أسلوب الحوار العميق المنفتح الذي يعمل على فحص الأمور من أعماق الداخل لا من سطح الخارج، ويؤدي ـ بالنتيجة ـ إلى تعميق الذهنية الفكرية في تقييم الأشياء.
6. وبهذا كان التأكيد على صفة ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ يمثل التأكيد على ما لهذه الصفة من أثر بعيد في سلامة التفكير، وسلامة الوصول إلى النتائج الصحيحة، فيما تفرضه على شخصية الإنسان من الوقوف مع المشاكل الفكرية موقف الدقّة في ترتيب المقدمات ومناقشتها، وصحة النتائج، بعيدا عن كل الانفعالات والرواسب والتشنّجات النفسية.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/539.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أشارت الآية الكريمة إلى حقيقة مهمّة اعتمدها القرآن الكريم مرارا في آيات متعددة، وهي أنّ ذمّ اليهود وانتقادهم في القرآن لا يقومان على أساس عنصري أو طائفي على الإطلاق، لأنّ الإسلام لم يذم أبناء أي طائفة أو عنصر لانتمائهم الطائفي أو العرقي، بل وجه الذم والانتقاد للمنحرفين والضالمين منهم فقط، لذلك استثنت هذه الآية المؤمنين الأتقياء من اليهود ومدحتهم وبشرتهم بنيل أجر عظيم.
2. وقد آمن جمع من كبار الطائفة اليهودية بالإسلام حين بعث النّبي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وحين شاهدوا على يديه الكريمتين دلائل أحقّيّة الإسلام، ودافع هؤلاء بأرواحهم وأموالهم عن الإسلام، وكانوا موضع احترام وتقدير النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وسائر المسلمين.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/534.
141. الأنبياء والوحي الإلهي
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈141⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ [النساء: 163]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
الربيع:
روي عن الربيع بن خثيم (ت 61 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾، أوحى الله إليه كما أوحى إلى جميع النبيين من قبله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾، أوحى الله إليه كما أوحى إلى جميع النبيين من قبله(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٦٨٥.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قال الله لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ وأمر كل نبي بالأخذ بالسبيل والسنة(1).
2. روي أنّه قال: إني أوحيت إليك كما أوحيت إلى نوح والنبيين من بعده، فجمع له كل وحي(2).
__________
(1) الكافي 2/24.
(2) تفسير العيّاشي 1/285.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: كان بين آدم ونوح ألف سنة، وبين نوح وإبراهيم ألف سنة، وبين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبين موسى وعيسى أربعمائة سنة، وبين عيسى ومحمد ستمائة سنة(1).
__________
(1) عزاه السيوطي إلى ابن أبي حاتم.
القرظي:
روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: أنزل الله: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ إلى قوله: ﴿وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ١٥٣ ـ ١٥٦]، فلما تلاها عليهم ـ يعني: على اليهود ـ، وأخبرهم بأعمالهم الخبيثة؛ جحدوا كل ما أنزل الله، وقالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، ولا على موسى، ولا على عيسى، وما أنزل الله على نبي من شيء، قال فحل حبوته(1).. وقال: (ولا على أحد!؟)، فأنزل الله ـ جل ثناؤه ـ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٩١](2).
__________
(1) الحِبْوة والحُبْوة: الثوبُ الذي يُحْتَبى به، اللسان (حبا).
(2) ابن جرير ٧/٦٨٧.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾، أوحى الله إليه كما أوحى إلى جميع النبيين من قبله(1).
[الربيع] الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ﴾ أعطاه الله ﴿زَبُورًا﴾ الزبور ثناء على الله، ودعاء، وتسبيح(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٦٨٥.
(2) ابن أبي حاتم ٤/١١١٨.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾، يعني: من بعد نوح؛ هود، وصالح(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾، يعني: بني يعقوب يوسف وإخوته، وأوحينا إليهم في صحف إبراهيم، ثم قال ﴿و﴾ أوحينا إلى ﴿عيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان﴾(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾، ليس فيه حد، ولا حكم، ولا فريضة، ولا حلال، ولا حرام، خمسين ومائة سورة، فأخبره الله بهن ليعلموا أنه نبي(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢٢.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عز وجل: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ قيل فيه بوجوه:
أ. قيل: قوله: ﴿كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ﴾ الكاف صلة زائدة، ومعناه: إنا أوحينا إليك ما أوحينا إلى نوح ومن ذكر من بعده، أي: لا يختلف ما أنزل إليك وما أنزل إلى غيرك من الرسل؛ وهو كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ﴾، ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾
ب. وقيل: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ من الحجج والآيات) كما أوحينا إلى نوح) ومن ذكر من الحجج والآيات على صدق ما ادعوا، أي: قد أعطاك الله، من الحجج والآيات ما يدل على رسالتك ونبوتك؛ كما أعطى أُولَئِكَ من الحجج والآيات على صدق ما ادعوا من الرسالة والنبوة، ثم لم يؤمنوا.
ج. وقيل: إن اليهود قالوا: إن محمدًا لو كان رسولا ـ لكان يؤتى كتابًا جملة، كما أوتي موسى كتابًا جملة من غير وحي؛ فقال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ وحيًا من غير أن أوتي كل منهم كتابًا جملة كما أوتي موسى، ثم كان أُولَئِكَ رسلاً؛ فعلى ذلك مُحَمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم رسول وإن لم يؤت كتابًا كما أوتي موسى، ولله أن يفعل ذلك: يؤتي من شاء كتابًا جملة مرة، ومن شاء يوحي إليه بالتفاريق.
2. وقوله عز وجل: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ ومن ذكر:
أ. يحتمل ذكر إبراهيم ومن ذكر من أولاده بعد قوله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ﴾ ـ على التخصيص لإبراهيم ومن ذكر؛ لأنه ذكر النبيين من بعد نوح؛ فدخلوا فيه، ثم خصهم بالذكر؛ تفضيلأ وتخصيصًا لهم.
ب. ويحتمل أن يكون قوله تعالى: ﴿وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾: الرسل الذين كانوا بعد نوح قبل إبراهيم، ثم ابتدأ الكلام فقال: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ ومن ذكر.
ج. وفي حرف حفصة: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح، وكما أوحينا إلى الرسل من بعدهم، وكما أوحينا إلى إبراهيم)؛ فهذا يدل على ما ذكرنا من ابتداء الذكر لهم.
3. الآية ترد على القرامطة مذهبهم؛ لأنهم يقولون: الرسل ستة، سابعهم قائم الزمان؛ لأنه ذكر في الآية من الرسل أكثر من عشرة؛ فظهر كذبهم بذلك، ومخايلهم التي سول لهم الشيطان وزين في قلوبهم.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤١٩.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله عز وجل: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ إلى آخر الآية، ثم ذكر داود وموسى فليس في هذه الآية شيء يحتاج إلى تفسير وبيان إلا الأسباط فيمكن أن يكون نبياً، ويمكن أن يكون اسماً لجماعة أنبياء.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/254.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ حمزة وخلف (زبوراً) بضم الزاي، الباقون بفتحها حيث وقعت:
أ. من ضم الزاي احتمل ذلك وجهين: أحدهما أن يكون جمع زبر، فأوقع على المزبور الزبر، كما قيل: ضرب الأمير ونسج اليمن، كما يسمى المكتوب الكتاب، ثم جمع الزبر على زبور لوقوعه موقع الأسماء التي ليست مصادر كما يجمع الكتاب كتب، فلما استعمل استعمال الأسماء قالوا: زبور والوجه الآخران يكون جمع زبور بحذف الزيادة على زبور، كما قالوا: ظريف وظروف، وكروان وكروان، وورشان وورشان ونحو ذلك مما يجمع بحذف الزيادة يدل على قوة هذا ان التكسير مثل التصغير، وقد اطرد هذا الحذف في ترخيم التصغير نحو أزهر وزهير، وحارث وحريث وثابت وثبيت والجمع مثله في القياس، وإن كان اقل منه في الاستعمال.
ب. ومن فتح الزاي أراد الكتاب المنزل على داوود عليه السلام كما سمى المنزل على موسى التوراة، والمنزل على عيسى الإنجيل، والمنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الفرقان.
2. قال الحسين بن علي المغربي: زبور جمع زبور ومثله تخوم وتخوم وعذوب وعذوب قال ولا يجمع فعول ـ بفتح الفاء ـ على فعول ـ بضم الفاء ـ إلا هذه الثلاثة فيما عرفنا، والزبر احكام العمل في البئر خاصة يقال: بئر مزبورة: إذا كانت مطوية بالحجارة، ويقال: ما لفلان زبر أي عقل، وزبر الحديد: قطعة وأحدها زبرة، ويقول زبرت الكتاب ازبره زبراً مثل اذبره ذبراً ـ بالذال المعجمة ـ.
3. هذا خطاب من الله للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول الله: إنا أوحينا إليك يا محمد أي أرسلنا اليك رسلنا بالنبوة كما أرسلنا إلى نوح وسائر الأنبياء الذين سميناهم لك من بعد والذين لم نسمهم لك:
أ. وقيل: إن هذه الآية نزلت على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن بعض اليهود لما فضحهم الله بالآيات ـ التي أنزلها على رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم من عند قوله: ﴿يَسْأَلُكَ أهل الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ وما بعده، فتلا ذلك عليهم رسول الله، قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء بعد موسى، فأنزل الله هذه الآيات تكذيباً لهم، واخبر نبيه والمؤمنين بها انه قد أنزل على من بعد موسى من الذين سماهم في هذه الآية وعلى من لم يسمهم وهو قول ابن عباس.
ب. وقال آخرون بل قالوا لما أنزل الله الآيات التي قبل هذه في ذكرهم: ما أنزل الله على بشر من شيء ولا على عيسى، ذهب إليه محمد بن كعب القرطي وفيه نزل قوله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أنزل اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾
4. والأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في أولاد إسماعيل، وقد بعث منهم عدة رسل: كيوسف وداوود وسليمان، وموسى وعيسى، فيجوز أن يكون أراد بالوحي اليهم الوحي إلى الأنبياء منهم، كما تقول: أرسلت إلى بني تميم، وإن أرسلت إلى وجوههم وليس يصح عندنا ان الأسباط الذين هم اخوة يوسف، كانوا أنبياء.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/392.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الوحي: الإشارة، والكتاب والرسالة، وكل ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه على وجه خفي، فهو وحي، وَوَحَى وأوحى لغتان.
ب. الزبور: أصله من الزَّبْرِ، وهو القوة، قال ابن أحمر:
çوَلَهَتْ عَلَيْهِ كُلُّ مُعْصِفَةٍ...هَوْجَاء لَيْسَ لَهَا زَبْرُé
أي قوة، يصف الريح بأنها تأتي كالمجنونة، ويُقال: زبرت الرجل أزبره زبرًا: إذا نهرته بقوة، وسمى زبر الحديد لقوتها، وسمي الكتاب زبورًا لقوة الوثيقة به، وزبرت الكتاب: كتبته.
2. لما سألوا ما حكى تعالى عنهم من إظهار معجزة على حسب اقتراحهم، كما قال: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ فقل: الحجة تقوم بنبوتك كما قامت نبوة مَنْ قبلك، فهلا آمنوا كما آمن الراسخون! فهو حجاج وجواب في معنى قول علي بن عيسى.
3. قيل: لما نزل قوله: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ وما بعدها من ذمهم غضبوا، وقالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية وما بعدها ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ إلى آخر الآيات ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾
4. ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ يا محمد قدمه في الذكر وإن تأخرت نبوته لتقدمه في الفضل ﴿كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ﴾ قدّم نوح:
أ. لأنه أبو البشر، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾
ب. وقيل: لأنه أول من عُذِّب أمته لرد دعوته، وأهلك أهل الأرض بسببه.
ج. وقيل: لأنه أطولهم عمرًا، وكانت معجزته في نفسه، لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا لم يسقط له سن ولم تنقص له قوة، ولم يشب شعره.
د. وقيل: لأنه لم يبلغ أحد من الأنبياء في الدعوة ما بلغ، ولم يُقَاسِ أحد من قومه ما قَاسَى.
هـ. وقيل: لأنه أول من تنشق عنه الأرض بعد محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
5. ﴿وَالنَّبِيِّينَ﴾ أي: أوحينا إلى النبيين ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي: من بعد نوح ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ أعاد ذكر هَؤُلَاءِ بعد ذكر النبيين تعظيمًا لهم وتفخيمًا لشأنهم ﴿وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ هم أولاد يعقوب ﴿وَعِيسَى وَأَيُّوبَ﴾ وقدّم عيسى على أنبياء كانوا قبله:
أ. قيل: الواو لا توجب الترتيب.
ب. وقيل: للاهتمام به والإنكار على اليهود في طعنهم عليه.
6. ﴿وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا﴾ أعطينا ﴿دَاوُودَ زَبُورًا﴾ كتابًا يسمى زبورًا، فاشتهر به، كما اشتهر كتاب موسى بالتوراة، وكتاب عيسى بالإنجيل، وكان داوود يقرأ الزبور، فيعجب المستمع.
7. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن الطريق في الأنبياء واحد، وهو أنه أتاهم بالمعجزات، فإذا لزم الإيمان بواحد كذلك بسائرهم.
ب. جواز الحجاج في الدين؛ لأنه تعالى حاجهم بالآية.
8. قرأ حمزة وخلف بن هشام ﴿زَبُورًا﴾ بضم الزاي كل القرآن، وقرأ الباقون بفتحها، والزبور بالفتح: الكتاب، وبالضم: الكُتُب، وهو جمع زَبْرٍ كشهرٍ وشهور، والفتح أوجه؛ لأنه أشهر، والقراءة به أكثر، وكلاهما حسن.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/150.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: هذه الآية تتصل بما قبلها من قوله: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾، وهذا يدل على أنهم قد سألوه ما يدل على نبوته، فأخبر سبحانه أنه أرسله كما أرسل من تقدمه من الأنبياء، وأظهر على يده المعجزات كما أظهرها على أيديهم.
ب. وقيل: إن اليهود، لما تلا النبي عليهم تلك الآيات، قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء بعد موسى، فكذبهم الله بهذه الآيات، إذ أخبر أنه قد أنزل على من بعد موسى من الذين سماهم، وممن لم يسمهم، عن ابن عباس.
2. ﴿زَبُورًا﴾ الزبر: إحكام العمل في البئر خاصة، يقال بئر مزبور أي: مطوية بالحجارة، ويقال ما لفلان زبر أي: عقل، وزبرة من الحديد: قطعة منه، وجمعه زبر، وزبرت الكتاب، أزبره، زبرا، وزبرته، أزبره، زبرا: أي كتبته.
3. خاطب سبحانه نبيه بقوله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ يا محمد، قدمه في الذكر، وإن تأخرت نبوته:
أ. لتقدمه في الفضل ﴿كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ﴾، وقدم نوحا لأنه أبو البشر كما قال: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ وقيل: لأنه كان أطول الأنبياء عمرا، وكانت معجزته في نفسه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، لم يسقط له سن، ولم تنقص قوته، ولم يشب شعره.
ب. وقيل: لأنه لم يبالغ أحد منهم في الدعوة، مثل ما بالغ فيها، ولم يقاس أحد من قومه، ما قاساه، وهو أول من عذبت أمته بسبب أن ردت دعوته.
4. ﴿وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي: وأوحينا إلى النبيين من بعد نوح، ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ أعاد ذكر هؤلاء، بعد ذكر النبيين، تعظيما لأمرهم، وتفخيما لشأنهم ﴿وَالْأَسْبَاطِ﴾:
أ. وهم أولاد يعقوب.
ب. وقيل: إن الأسباط في ولد إسحاق، كالقبائل في ولد إسماعيل، وقد بعث منهم عدة رسل، كيوسف، وداوود وسليمان، وموسى، وعيسى، فيجوز أن يكون أراد بالوحي إليهم، الوحي إلى الأنبياء منهم، كما تقول: أرسلت إلى بني تميم، إذا أرسلت إلى وجوههم، ولم يصح أن الأسباط الذين هم أخوة يوسف، كانوا أنبياء.
5. ﴿وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ﴾ وقدم عيسى على أنبياء كانوا قبله، لشدة العناية بأمره، لغلو اليهود في الطعن فيه، والواو لا يوجب الترتيب.
6. ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ أي: كتابا يسمى ﴿زَبُورًا﴾: واشتهر به كما اشتهر كتاب موسى بالتوراة، وكتاب عيسى بالإنجيل.
7. قرأ حمزة وخلف: (زبورا) بضم الزاي، حيث وقعت، والباقون: ﴿زَبُورًا﴾ بفتحها.. ﴿زَبُورًا﴾: يجوز أن يكون جمع زبور بحذف الزيادة، ومثله تخوم وتخوم، وعذوب وعذوب، ولا نظير لهذه الثلاثة، ويجوز أن يكون جمع زبر بمعنى المزبور، كقولهم ضرب الأمير، وفسخ اليمين.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/216.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ قال ابن عباس: قال عديّ بن زيد، وسكين: يا محمّد ما نعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى، فنزلت هذه الآية.
2. وقد ذكرنا في (آل عمران) معنى الوحي، وذكرنا نوحا هنالك:
أ. وإسحاق: أعجميّ، وإن وافق لفظ العربي، يقال: أسحقه الله يسحقه إسحاقا.
ب. ويعقوب: أعجميّ، فأما اليعقوب، وهو ذكر الحجل وهي القبج فعربيّ، كذلك قرأته على شيخنا أبي منصور اللغويّ.
ج. وأيّوب: أعجميّ.
د. ويونس: اسم أعجميّ، قال أبو عبيدة، يقال: يونس ويونس بضم النون وكسرها، وحكى أبو زيد الأنصاريّ عن العرب همزه مع الكسرة والضمّة والفتحة، وقال الفرّاء: يونس بضم النون من غير همز لغة أهل الحجاز، وبعض بني أسد يقول: يؤنس بالهمز، وبعض بني عقيل يقول: يونس بفتح النون من غير همز، والمشهور في القراءة يونس برفع النون من غير همز، وقد قرأ ابن مسعود، وقتادة، ويحيى بن يعمر، وطلحة: يؤنس بكسر النون مهموزا، وقرأ أبو الجوزاء وأبو عمران والجحدري: يونس بفتح النون من غير همز، وقرأ أبو المتوكل: يؤنس بفتح النون مهموزا، وقرأ أبو السمّاك العدوي: يونس بكسر النون من غير همز، وقرأ عمرو بن دينار برفع النون مهموزا.
هـ. وهارون: اسم أعجميّ، وباقي الأنبياء قد تقدّم ذكرهم.
3. فأما الزّبور، فأكثر القرّاء على فتح الزاي، وقرأ أبو رزين، وأبو رجاء، والأعمش، وحمزة بضمّ الزاي، قال الزجّاج: فمن فتح الزاي، أراد: كتابا، ومن ضمّ، أراد: كتبا.
4. ومعنى ذكر (داود) أي: لا تنكروا تفضيل محمّد بالقرآن، فقد أعطى الله داوود الزّبور، وقال أبو عليّ: كأنّ حمزة جعل كتاب داوود أنحاء، وجعل كلّ نحو زبرا، ثم جمع، فقال: زبورا، وقال ابن قتيبة: الزّبور فعول بمعنى مفعول، كما تقول: حلوب وركوب بمعنى: محلوب ومركوب، وهو من قولك: زبرت الكتاب أزبره زبرا: إذا كتبته، قال وفيه لغة أخرى: الزّبور بضمّ الزاي، كأنّه جمع.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/499.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما حكى الله تعالى أن اليهود سألوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وذكر تعالى بعده أنهم لا يطلبون ذلك لأجل الاسترشاد ولكن لأجل العناد واللجاج، وحكى أنواعا كثيرة من فضائحهم وقبائحهم، وامتد الكلام إلى هذا المقام، شرع الآية في الجواب عن تلك الشبهة فقال: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ والمعنى: أنا توافقنا على نبوّة نوح وإبراهيم وإسماعيل وجميع المذكورين في هذه الآية، وعلى أن الله تعالى أوحى إليهم، ولا طريق إلى العلم بكونهم أنبياء الله ورسله إلا ظهور المعجزات عليهم ولكل واحد منهم نوع آخر من المعجزات على التعيين، وما أنزل الله على كل واحد من هؤلاء المذكورين كتابا بتمامه مثل ما أنزل إلى موسى، فلما لم يكن عدم إنزال الكتاب على هؤلاء دفعة واحدة قادحا في نبوتهم، بل كفى في إثبات نبوتهم ظهور نوع واحد من أنواع المعجزات عليهم، علمنا أن هذه الشبهة زائلة، وأن إصرار اليهود على طلب هذه المعجزة باطل، وتحقيق القول فيه أن إثبات المدلول يتوقف على ثبوت الدليل، ثم إذا حصل الدليل وتم فالمطالبة بدليل آخر تكون طلبا للزيادة وإظهارا للتعنت واللجاج، والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلا اعتراض عليه لأحد بأنه لم أعطى هذا الرسول هذه المعجزة وذلك الرسول الآخر معجزا آخر.
2. هذا الجواب المذكور هاهنا هو الجواب المذكور في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا﴾ [الإسراء: 90] إلى قوله: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 93] يعني أنك إنما ادعيت الرسالة، والرسول لا بدّ له من معجزة تدل على صدقه، وذلك قد حصل، وأما أن تأتي بكل ما يطلب منك فذاك ليس من شرط الرسالة، فهذا جواب معتمد عن الشبهة التي أوردها اليهود، وهو المقصود الأصلي من هذه الآية.
3. الإيحاء: قال الزجاج: الإيحاء الإعلام على سبيل الخفاء، قال تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم: 11] أي أشار إليهم، وقال: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي﴾ [المائدة: 111]، وقال: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل: 68] ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾ [القصص: 7] والمراد بالوحي في هذه الآيات الثلاثة الإلهام.
4. إنما بدأ تعالى بذكر نوح لأنه أول نبي شرع الله تعالى على لسانه الأحكام والحلال والحرام، ثم قال تعالى: ﴿وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ ثم خصّ بعض النبيّين بالذكر لكونهم أفضل من غيرهم كقوله: ﴿وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: 98]
5. الأنبياء المذكورون في هذه الآية سوى موسى عليه السلام اثنا عشر ولم يذكر موسى معهم، وذلك لأن اليهود قالوا: إن كنت يا محمد نبيا فأتنا بكتاب من السماء دفعة واحدة كما أتى موسى عليه السلام بالتوراة دفعة واحدة، فالله تعالى أجاب عن هذه الشبهة بأن هؤلاء الأنبياء الاثني عشر كلهم كانوا أنبياء ورسلا مع أن واحدا منهم ما أتى بكتاب مثل التوراة دفعة واحدة، وإذا كان المقصود من تعديد هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هذا المعنى لم يجر ذكر موسى معهم.
6. ثم ختم ذكر الأنبياء عليهم السلام بقوله: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ يعني أنكم اعترفتم بأن الزبور من عند الله، ثم إنه ما نزل على داوود دفعة واحدة في ألواح مثل ما نزلت التوراة دفعة واحدة على موسى عليه السلام في الألواح، فدل هذا على أن نزول الكتاب لا على الوجه الذي نزلت التوراة لا يقدح في كون الكتاب من عند الله، وهذا إلزام حسن قوي.
7. الزبور: قال أهل اللغة: الزبور الكتاب، وكل كتاب زبور، وهو فعول بمعنى مفعول، كالرسول والركوب والحلوب، وأصله من زبرت بمعنى كتبت، وقد ذكرنا ما فيه عند قوله: ﴿جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾ [آل عمران: 184]، قرأ حمزة ﴿زَبُورًا﴾ بضم الزاي في كل القرآن، والباقون بفتحها، حجة حمزة أن الزبور مصدر في الأصل، ثم استعمل في المفعول كقولهم: ضرب الأمير، ونسج فلان فصار اسما ثم جمع على زبر كشهود وشهد، والمصدر إذا أقيم مقام المفعول فإنه يجوز جمعه كما يجمع الكتاب على كتب، فعلى هذا، الزبور الكتاب، والزبر بضم الزاي الكتب، أما قراءة الباقين فهي أولى لأنها أشهر، والقراءة بها أكثر.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/266.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ﴾ هذا متصل بقوله: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ [النساء]، فأعلم تعالى أن أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كأمر من تقدمه من الأنبياء، وقال ابن عباس فيما ذكره ابن إسحاق: نزلت في قوم من اليهود ـ منهم سكين وعدي بن زيد ـ قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما أوحى الله إلى أحد من بعد موسى فكذبهم الله، والوحي إعلام في خفاء، يقال: وحى إليه بالكلام يحيي وحيا، وأوحى يوحي إيحاء.
2. ﴿إِلَى نُوحٍ﴾ قدمه لأنه أول نبي شرعت على لسانه الشرائع، وقيل غير هذا، ذكر الزبير بن بكار حدثني أبو الحسن علي بن المغيرة عن هشام بن محمد بن السائب عن أبيه قال: أول نبي بعثه الله تبارك وتعالى في الأرض إدريس واسمه أخنوخ، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وقد كان سام بن نوح نبيا، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله إبراهيم نبيا واتخذه خليلا، وهو إبراهيم بن تارخ واسم تارخ آزر، ثم بعث إسماعيل بن إبراهيم فمات بمكة، ثم إسحاق بن إبراهيم فمات بالشام، ثم لوط وإبراهيم عمه، ثم يعقوب وهو إسرائيل بن إسحاق ثم يوسف ابن يعقوب ثم شعيب بن يوبب، ثم هود بن عبد الله، ثم صالح بن أسف، ثم موسى وهارون ابنا عمران، ثم أيوب ثم الخضر وهو خضرون، ثم داوود بن إيشا، ثم سليمان ابن داوود ثم يونس بن متى، ثم إلياس، ثم ذا الكفل واسمه عويدنا من سبط يهوذا ابن يعقوب، قال وبين موسى بن عمران ومريم بنت عمران أم عيسى ألف سنة وسبعمائة سنة وليسا من سبط، ثم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال الزبير: كل نبي ذكر في القرآن من ولد إبراهيم غير إدريس ونوح ولوط وهود وصالح، ولم يكن من العرب أنبياء إلا خمسة: هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين، وإنما سموا عربا لأنه لم يتكلم بالعربية غيرهم.
3. ﴿وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ هذا يتناول جميع الأنبياء، ثم قال: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ فخص أقواما بالذكر تشريفا لهم، كقوله تعالى: ﴿وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾
4. ﴿وَعِيسَى وَأَيُّوبَ﴾ قدم عيسى على قوم كانوا قبله، لأن الواو لا تقتضي الترتيب، وأيضا فيه تخصيص عيسى ردا على اليهود.
5. في هذه الآية تنبيه على قدر نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم وشرفه، حيث قدمه في الذكر على أنبيائه، ومثله قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ﴾] الأحزاب] الآية.
6. ونوح مشتق من النوح، وقد تقدم ذكره موعبا في آل عمران وانصرف وهو اسم أعجمي، لأنه على ثلاثة أحرف فخف، فأما إبراهيم وإسماعيل وإسحاق فأعجمية وهي معرفة ولذلك لم تنصرف، وكذا يعقوب وعيسى وموسى إلا أن عيسى وموسى يجوز أن تكون الألف فيهما للتأنيث فلا ينصرفان في معرفة ولا نكرة، فأما يونس ويوسف فروي عن الحسن أنه قرأ ﴿وَيُونُسَ﴾ بكسر النون وكذا ﴿يُوسُفُ﴾ يجعلهما من آنس وآسف، ويجب على هذا أن يصرفا ويهمزا ويكون جمعهما يآنس ويآسف، ومن لم يهمز قال يوانس ويواسف.
7. وحكى أبو زيد: يونس ويوسف بفتح النون والسين، قال المهدوي: وكأن ﴿يُونُسَ﴾ في الأصل فعل مبني للفاعل، و﴿يُونُسَ﴾ فعل مبني للمفعول، فسمي بهما.
8. ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ الزبور كتاب داوود وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هي حكم ومواعظ، والزبر الكتابة، والزبور بمعنى المزبور أي المكتوب، كالرسول والركوب والحلوب، وقرأ حمزة ﴿زَبُورًا﴾ بضم الزاي جمع زبر كفلس وفلوس، وزبر بمعنى المزبور، كما يقال: هذا الدرهم ضرب الأمير أي مضروبه، والأصل في الكلمة التوثيق، يقال: بئر مزبورة أي مطوية بالحجارة، والكتاب يسمى زبورا لقوة الوثيقة به، وكان داوود عليه السلام حسن الصوت، فإذا أخذ في قراءة الزبور اجتمع إليه الإنس والجن والطير والوحش لحسن صوته، وكان متواضعا يأكل من عمل يده، روى أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال أن كان داوود صلّى الله عليه وآله وسلّم ليخطب الناس وفي يده القفة من الخوص، فإذا فرغ ناولها بعض من إلى جنبه يبيعها، وكان يصنع الدروع، وسيأتي، وفي الحديث: (الزرقة في العين يمن) وكان داوود أزرق.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/15.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ هذا متصل بقوله: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ والمعنى: أن أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كأمر من تقدّمه من الأنبياء، فما بالكم تطلبون منه ما لم يطلبه أحد من المعاصرين للرسل؟
الوحي: إعلام في خفاء، يقال: وحى إليه بالكلام وحيا، وأوحى يوحي إيحاء، وخصّ نوحا لكونه أوّل نبيّ شرعت على لسانه الشرائع، وقيل: غير ذلك.
2. والكافر في قوله: ﴿كَمَا﴾ نعت مصدر محذوف، أي: إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح، أو حال، أي: أوحينا إليك هذا الإيحاء حال كونه مشبها بإيحائنا إلى نوح.
3. ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ معطوف على ﴿أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وإِسْماعِيلَ وإِسْحاقَ ويَعْقُوبَ والْأَسْباطِ﴾ وهم أولاد يعقوب كما تقدّم ﴿وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ﴾ خص هؤلاء بالذكر بعد دخولهم في لفظ النبيين تشريفا لهم كقوله: ﴿وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ﴾
4. قدّم عيسى على أيوب ومن بعده مع كونهم في زمان قبل زمانه، ردا على اليهود الذين كفروا به، وأيضا فالواو ليست إلا لمطلق الجمع.
5. ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ معطوف على أوحينا، والزبور: كتاب داوود قال القرطبي: (وهو مائة وخمسون سورة، ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هي حكم ومواعظ)، هو مائة وخمسون مزمورا، والمزمور: فصل يشتمل على كلام لداود يستغيث بالله من خصومه ويدعو الله عليهم ويستنصره، وتارة يأتي بمواعظ، وكان يقول ذلك في الغالب في الكنيسة، ويستعمل مع تكلمه بذلك شيئا من الآلات التي لها نغمات حسنة، كما هو مصرّح بذلك في كثير من تلك المزمورات، والزبر: الكتابة.
6. والزبور بمعنى المزبور، وقرأ حمزة: ﴿زَبُورًا﴾ بضم الزاي، جمع زبر كفلس وفلوس، والزبر بمعنى المزبور، والأصل في الكلمة: التوثيق، يقال: بئر مزبورة، أي: مطوية بالحجارة، والكتاب سمي زبورا: لقوّة الوثيقة به.
__________
(1) فتح القدير: 1/621.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيئِينَ مِنم بَعْدِهِ﴾ احتجاج على أهل الكتاب بأنَّ أمره في الوحي كسائر الأنبياء، ولا يلزم أن لا نبوَّة إِلَّا بإنزال كتاب جملة، كما أنزلت التوراة، فهذه جملة أنبياء أقررتم بنبوءتهم، وما أنزل على أحدهم كتاب، والأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، وعن كعب: ألف ألف وأربع مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، والكتب نزلت قبل القرآن على شيت وموسى وداود وعيسى، فقيل: إنَّ الإنجيل والزبور نزلَا شيئًا فشيئًا لا جملة، وقيل: كلُّ الكتب نزلت جملة إِلَّا القرآن فشيئًا فشيئًا، ومن ذلك صحف شيت وموسى وإدريس وإبراهيم عليهم السَّلام، وزاد بعض: عشر صحائف على نوح، وبدأ بنوح لأنَّه أوَّل نبيٍّ عُذب قومُهُ بكفرهم، فهُدِّد المشركون وسائرُ الكفَّار بهم، وقيل لأنَّه أوَّل من شرع له الشرائع، واعترض بأنَّه مسبوق في ذلك، وقيل: لأنَّه عامٌّ لأهل الأرض مثل سيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، واعتُرض بأنَّه اتِّفاقيٌّ لا قصديٌّ، وأجيب بأنَّ عمومه كاف مطلقًا، مع أنَّه هو مبعوث إلى الناس كلِّهم قبل الغرق، وذكر بعده إبراهيم لأنَّه أبٌ ثالث، الثاني نوح لأنَّه لم ينسل إلَّا أولاده، ولأبوَّة إبراهيم أعاد ذكر الإيحاء، وقدّم عيسى على من بعده قطعًا لقول اليهود، وقيل: قال مسكين وعديُّ بن زيد: يا محمَّد، ما نعلم أنَّ الله أنزل وحيًا بعد موسى، فنزلت الآية.
2. ﴿وَأَوْحَيْنَآ﴾ أي: وكما أوحينا ﴿إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالَاسْبَاطِ﴾ ظاهر في أنَّ أولاد يعقوب أنبياء، واتَّفقوا على يوسف، والظَّاهِرُ أنَّ الباقين غير أنبياء لفعلهم ما فعلوا بيوسف، فذكرهم تغليبًا له، وباعتبار أنَّ ما أوحي إلى أبيهم موحى إليهم.
3. ﴿وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ﴾ خصَّهم بالذكر بعد العموم تعظيمًا لهم، فإِنَّ إبراهيم ثاني أولي العزم، وعيسى آخر من قبله، والباقون أشرف الأنبياء ومشاهرهم، قيل: وبدأ بنوح لأنَّه أوَّل نبي بعث بشريعة، وَأَوَّل نذير على الشرك، وَأَوَّل من عذِّبت أمَّته لردِّهم دعوته، وَأَوَّل البشر لمن بعده، وأطول الأنبياء عمرًا، ولم يشب ولم ينقص له سنٌّ مع طول عمره، وطول أذى قومه، بعث الله إبراهيم ثمَّ إسماعيل بمكَّة ومات فيها، ثمَّ إسحاق ومات بالشام، ثمَّ شعيب بن نويب، ثمَّ هود بن عبد الله، ثمَّ صالح بن آسف، ثمَّ موسى وهارون، ثمَّ أيُّوب ثمَّ الخضِر، ثمَّ داود ثمَّ سليمان، ثمَّ يونس ثمَّ إلياس، ثمَّ ذا الكِفل، وكلُّ نبيٍّ في القرآن من ولد إبراهيم إلَّا إدريس ونوحًا وهودًا ولوطًا وصالحًا، والصحيح أنَّ هودًا وصالحًا أوَّل الأنبياء بعد نوح 1 .
4. ﴿وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ مائة وخمسين سورة، تسبيح وتقديس وتحميد وثناء على الله تعالى ، ومواعظ، وليس فيها حُكمٌ ولا حلال ولا حرام، ونزل منجَّمًا كما في بعض التفاسير، والمشهور أنَّ كلَّ كتاب نزل بمرَّة إلَّا القرآن، و[الزبور] فَعُول بمعنى مفعول، أي: مزبور، أي: مكتوب، كناقة حلوب بمعنى محلوبة، ويقال أيضًا: حلوبة؛ فهو في الأصل وصف، ويجوز أن يكون في الأصل مصدرًا كقبول، أو بمعنى فاعل، أي: زابر، أي: زاجر مؤثِّر.
5. كما روي أنَّ داود عليه السلام يخرج إلى البريَّة فيقوم ويقرأ الزبور وتقوم علماء بني إسرائيل خلفه، ويقوم الناس خلف العلماء، وتقوم الجنُّ خلف الناس، والشياطين منهم خلف أهل الخير منهم، وتجيء الدوابُّ التي في الجبال فيُقمن بين يديه، وترفرف الطيور على رؤوس الناس وهم يستمعون لقراءة داود ويتعجَّبون منها، فلمَّا قارف الذنب زال عنه ذلك، فقيل: كان ذلك أُنْسَ الطَّاعة وعزَّها، وهذا وحشة المعصية وذلّها.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/348.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ اعلم أنه تعالى لما حكى أن اليهود سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وذكر تعالى بعده أنهم لا يسألون استرشادا، ولكن للتعنت واللجاج، وبيّن أنواعا من فضائحهم ـ أشار إلى رد شبهتهم، فاحتج عليهم بأنه ليس بدعا من الرسل، وأمره في الوحي كسائر الأنبياء الذين يوافقون على نبوتهم، ولم ينزل على كل واحد منهم كتاب بتمامه مثل ما أنزل على موسى، وإذ لم يكن هذا من شرط النبوة، وضح أن سؤالهم محض تعنت.
2. قيل: بدأ بنوح عليه السلام لأنه أول نبيّ شرع الله تعالى على لسانه الأحكام، والحلال والحرام، وفي (العناية) بدأ به تهديدا لهم، لأنه أول نبيّ عوقب قومه، لا أنه أول مشرع، كما توهم، وظاهر الآية يدل على أن من قبل نوح لم يكن يوحى له كما أوحي لنبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا أنه غير موحى إليه أصلا، كما قيل.
3. ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ وهم أولاد يعقوب عليهم السلام ﴿وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/449.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لا يزال الكلام في أهل الكتاب عامة، وكان أول هذا السياق أنهم يفرقون بين الله ورسله فيدعون الإيمان ببعضهم ويصرحون بالكفر ببعض، وأن هذا عين الكفر، وإيمان يتبع فيه الهوى ليس من معرفة الله ومعنى رسالته في شيء ثم ذكر بعده شيء من عناد اليهود خاصة وإعناتهم وسؤالهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وبين له تعالى أنهم شاغبوا موسى صلّى الله عليه وآله وسلّم من قبله وسألوه ما هو أكبر من ذلك، وكفروا بعيسى وبهتوا بأمه، وحاولوا قتله وصلبه، فليس كفرهم وعنادهم ناشئا عن عدم وضوح الدليل، بل عن عناد أصيل وهوى دخيل، كأنه يقول له إنه لولا ذلك لبادروا إلى الإيمان بك أيها الرسول، ولما شاغبوك بهذا القال والقيل، لأن أمر نبوتك ورسالتك، أوضح دليلا وأقوم قيلا مما يدعون الإيمان بمثله ممن قبلك، ولهذا ناسب أن يختم الكلام في محاجة اليهود ويمهد للكلام في محاجة النصارى ببيان أن الوحي جنس واحد، وأنه لو كان إيمانهم بمن يدعون الإيمان بهم من الرسل السابقين صحيحا مبنيا على الفهم والبصيرة لما كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي إنا بما لنا من العظمة والإرادة المطلقة اللائقة بمقام الألوهية، والرحمة التي هي شأن الربوبية، قد أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن، كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده الذين يدعي الإيمان بهم هؤلاء الناس، ولم ننزل على أحد من أممهم ولا منهم كتابا من السماء، كما سألوك للتعجيز والعناد، لأن الوحي ضرب من الإعلام السريع الخفي، وما هو بالأمر المشاهد الحسي، بل هو أمر روحي، يعد الله له النبي، ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: 52]
3. الوحي في اللغة يطلق على الإشارة والإيماء، ومنه قوله تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم: 11] وعلى الإلهام الذي يقع في النفس وهو أخفى من الإيماء ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾ [القصص: 7] ويظهر أن هذا بعناية خاصة من الله تعالى، وعلى ما يكون غريزة دائمة ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل: 68] وعلى الإعلام في الخفاء وهو أن تعلم إنسانا بأمر تخفيه عن غيره، ومنه قوله تعالى: ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: 112] وأطلق على الكتابة والرسالة لما يكون فيهما من التخصيص.
4. ووحي الله إلى أنبيائه هو ما يلقيه إليهم من العلم الضروري الذي يخفيه عن غيرهم بعد أن يكون أعد أرواحهم لتلقيه بواسطة كالملك أو بغير واسطة، وعرفه محمد عبده في رسالة التوحيد بأنه (عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين لأنه من قبل الله، بواسطة أو بغير واسطة، الأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت، ويفرق بينه وبين الإلهام بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين أتى، وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور)، ثم بين وجه إمكانه ووقوعه في فصلين لم ينسج أحد على منوالهما.
5. بدأ الله تعالى بذكر نوح لأنه أقدم نبي مرسل ذكر في كتب القوم (وقصة بعثه في سفر التكوين وهو السفر الأول من الأسفار الخمسة التي يسمونها التوراة) وإنما تنهض الحجة على الناس إذا كانت مقدماتها معروفة عندهم.
6. ثم خص بعض النبيين الذين جاؤوا من بعد نوح بالذكر لشهرتهم وعلو مقامهم عن أهل الكتاب فقال: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ﴾ أي وكما أوحينا إلى إبراهيم ومن بعده، فأما إبراهيم عليه السلام وعلى آله الكرام، فمجمع على فضله ونبوته عند أهل الكتاب كلهم وعند العرب أيضا، وكل أولئك الأنبياء الذين ذكروا بعده من ذريته، ويعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم واشتهر بلقب (إسرائيل) فسائر أنبياء أهل الكتاب من ذريته، ويسمون أنبياء بني إسرائيل، وأما محمد خاتم النبيين والمرسلين، صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، فهو من نسل أخيه الأكبر إسماعيل الذبيح صلّى الله عليه وآله وسلّم.
7. وأما الأسباط فجمع سبط وهو يطلق على ولد الولد، وأسباط بني إسرائيل اثنا عشر سبطا، فكل نسل ولد من أولاد يعقوب العشرة وولدي ابنه يوسف وهما (أفرايم ومنسي) يسمى سبطا ولذلك قيل إن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في ولد إسماعيل.
8. والمراد بالوحي إلى الأسباط الوحي إلى الأنبياء الذين بعثوا فيهم، وخص منهم بالذكر أشهر المرسلين لأن لهم كتبا يهتدى بها، وما كل نبي يوحى إليه مرسلا وله كتاب والمشهور عند المفسرين أن الأسباط هم أولاد يعقوب ولذلك استشكلوا الوحي إليهم وكونهم من النبيين مع ما بينه الله تعالى من كيدهم لأخيهم يوسف وكذبهم على أبيهم وغير ذلك مما لا يليق بالنبيين، وأجاب بعضهم بأن ذلك كان منهم قبل النبوة، ولا يرضى هذا من يقول إن الأنبياء معصومون من الكبائر قبل النبوة وبعدها، وهم بعموم هذه معصومون وإن كان الدليل الذي يحتجون به خاصا بالرسل منهم، وقد علمت أن إطلاق لفظ الأسباط على أبناء إسرائيل من صلبه خاصة غلط، وأن المتفق عليه أهل الكتاب عامة وهو ما ذكرناه، وما حاجهم الله تعالى إلا بما هو معروف عندهم، فالآية لا تدل على نبوة إخوة يوسف من أولاد يعقوب.
9. ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ أي وكما أعطينا داوود كتابا خاصا مزبورا أي مكتوبا فالزبور بمعنى كالركوب بمعنى المركوب، وقرأ حمزة وخلف بضم الزاي وهو جمع وزن مفرده ووزنه (كعرق وعروق) أو (فلس وفلوسي) وقيل جمع زبور بالفتح وقيل مصدر، وهو على كل حال بمعنى كتاب ومكتوب، وقد ذكر بهذا اللفظ ولم يعطف على ما قبله فيفيد مطلق الوحي، لأن لزبور داوود شأنا خاصا في كتب الوحي وعند أهل الكتاب، وهو مع هذه الفائدة موفق لنسق الفواصل فائتلف به اللفظ مع المعنى، فصاحة وبلاغة وحسنا.
__________
(1) تفسير المنار: 6/55.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لا يزال الحديث مع أهل الكتاب، فإنه ذكر عنهم أوّلا أنهم يفرقون بين الله ورسله فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ثم انتقل إلى ذكر شيء من عنادهم وإعناتهم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وطلبهم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وبيّن أنه لا غرابة في ذلك فقد شاغبوا موسى من قبله وسألوه ما هو أكبر من ذلك، ثم ذكر كفرهم بعيسى عليه السلام وبهتهم أمّه ومحاولتهم قتله وصلبه، وفى كل هذا دليل على تأصل العناد فيهم، ولولا ذلك لما شاغبوك، فإن الدليل على نبوتك أوضح مما يدّعون الإيمان بمثله ممن قبلك ـ وهنا ختم الكلام في محاجتهم ببيان أن الوحى جنس واحد، ولو كان إيمانهم بالرسل السابقين صحيحا لما كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ الوحى لغة: الإيماء والإشارة كما قال تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ والإلهام الذي يقع في النفس كما قال: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ وما يكون غريزة دائمة كما قال: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ والإعلام في خفاء بأن تعلم إنسانا بأمر تخفيه على غيره كما قال: ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾، ووحي الله إلى أنبيائه عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة، الأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت، ويفرق بينه وبين الإلهام بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين أتى؟ وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور.
3. والمعنى ـ إنا قد أوحينا إليك هذا القرآن كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ممن يؤمن بهم، والله لم ينزل على أحد منهم كتابا من السماء كما سألوك للتعجيز والعناد، لأن الوحى ضرب من الإعلام السريع الخفيّ وليس هو بالأمر المشاهد الحسىّ.
4. وقد بدأ سبحانه بذكر نوح لأنه أقدم الأنبياء، وقصص بعثته في سفر التكوين وهو أحد الأسفار الخمسة التي تتضمنها التوراة.
5. ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ﴾، الأسباط واحدهم سبط، وهو ولد الولد، وأسباط بنى إسرائيل اثنا عشر سبطا، وهم أبناء يعقوب العشرة وولدا ابنه يوسف، والأسباط في بنى إسرائيل كالقبائل في ولد إسماعيل.
6. ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ الزبور: الكتاب وكل كتاب زبور، وهو هنا اسم للكتاب المنزل على داوود وقد أفرد بالذكر لأن له شأنا خاصا عند أهل الكتاب.
__________
(1) تفسير المراغي 6/21.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يستطرد السياق في مواجهة أهل الكتاب ـ واليهود منهم في هذا الموضع خاصة ـ وموقفهم من رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وزعمهم أن الله لم يرسله، وتفريقهم بين الرسل، وتعنتهم وهم يطلبون أمارة على رسالته: كتابا ينزله عليهم من السماء.. فيقرر أن الوحي للرسول ليس بدعا، وليس غريبا، فهو سنة الله في إرسال الرسل جميعا، من عهد نوح إلى عهد محمد، وكلهم رسل أرسلوا للتبشير والإنذار؛ اقتضت هذا رحمة الله بعباده، وأخذه الحجة عليهم، وإنذاره لهم قبل يوم الحساب.. وكلهم جاءوا بوحي واحد، لهدف واحد؛ فالتفرقة بينهم تعنت لا يستند إلى دليل.. وإذا أنكروا هم وتعنتوا فإن الله يشهد ـ وكفى به شاهدا ـ والملائكة يشهدون.
2. فهو إذن موكب واحد يتراءى على طريق التاريخ البشري الموصول، ورسالة واحدة بهدى واحد للإنذار والتبشير.. موكب واحد يضم هذه الصفوة المختارة من بين البشر: نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، وعيسى، وأيوب، ويونس، وهارون، وسليمان، وداوود وموسى.. وغيرهم ممن قصهم الله على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم في القرآن، وممن لم يقصصهم عليه.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/805.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ما حجّة هؤلاء الذين يفرّقون بين رسل الله، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض؟ ما حجتهم؟ وما عذرهم؟ ورسل الله جميعا هم بعثة الهدى والرحمة المرسلة من الله إلى عباد الله.. لا يحملون في أيديهم إلا الخير، ولا يمدّونها بغير الهدى!.. فكيف يقبل الناس على بعضهم ويعرضون عن بعض؟ وكيف يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض؟ إن ذلك هو كفر، وإن الإيمان المتلبس به لا معتبر له.. لأنه إيمان قائم على التعصب والهوى، لا على الحق والهدى.. ولو كان إيمانا صحيحا لا استقام على كل طريق يقوم على الإيمان ويدعو إليه..
2. ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ هو بيان لهذا المنزّل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم.. ليس بدعا من الرسل.. والأسباط، هم أبناء يعقوب.. وعدتهم اثنا عشر ومنهم، يوسف عليه السلام.
3. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً﴾ ـ ما يسأل عنه.. وهو: لم انفرد داوود عليه السلام بقوله تعالى: ﴿وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً﴾؟ ولم لم يدرج مع الأنبياء الذين أوحى الله إليهم، وكان لهم ذكر قبله؟ والجواب: هو أن (الزبور) لم يكن من كلمات الله الموحى بها، وإنما كان إلهامات ومشاعر فاض بها قلب داوود في مقام الولاء والخشوع للّه، فكانت ترانيم جرت على لسانه، يمجّد الله بها، ويرفعها إليه في صلوات خاشعة، أشبه بالمأثور من دعاء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، في مواقف صلواته للّه، وتسبيحه له.. ولهذا أضيفت إليه فسميت (مزامير داود)، وقد نوّه الله سبحانه وتعالى، بهذه التسابيح التي فاض بها قلب داوود وأطلقتها مشاعره، وردّدها لسانه ـ لما فيها من صدق الإيمان وإخلاص الحبّ والولاء للّه، وجعلها سبحانه، مما يتقرب بها إليه المؤمنون، ويسبّحه بها المسبّحون!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1010.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. استأنفت هذه الآيات الردّ على سؤال اليهود أن ينزّل عليهم كتابا من السماء، بعد أن حمقوا في ذلك بتحميق أسلافهم: بقوله: ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ [النساء: 153]، واستطردت بينهما جمل من مخالفة أسلافهم، وما نالهم من جرّاء ذلك، فأقبل الآن على بيان أنّ إنزال القرآن على محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكن بدعا، فإنّه شأن الوحي للرسل، فلم يقدح في رسالتهم أنّهم لم ينزّل عليهم كتاب من السماء.
2. التأكيد (بإنّ) للاهتمام بهذا الخبر أو لتنزيل المردود عليهم منزلة من ينكر كيفيّة الوحي للرسل غير موسى، إذ لم يجروا على موجب علمهم حتّى أنكروا رسالة رسول لم ينزل إليه كتاب من السماء.
3. الوحي إفادة المقصود بطريق غير الكلام، مثل الإشارة قال تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم: 11]، وقال داوود بن جرير:
çيرمون بالخطب الطوال وتارة...وحي اللواحظ خيفة الرقباءé
4. التشبيه في قوله: ﴿كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ﴾ تشبيه بجنس الوحي وإن اختلفت أنواعه، فإنّ الوحي إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان بأنواع من الوحي ورد بيانها في حديث عائشة في الصحيح عن سؤال الحارث بن هشام النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كيف يأتيك الوحي ـ بخلاف الوحي إلى غيره ممّن سمّاهم الله تعالى فإنّه يحتمل بعض من الأنواع، على أنّ الوحي للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان منه الكتاب القرآن ولم يكن لبعض من ذكر معه كتاب، وعدّ الله هنا جمعا من النبيئين والمرسلين وذكر أنّه أوحي إليهم ولم يختلف العلماء في أنّ الرسل والأنبياء يوحى إليهم.
5. إنّما اختلفت عباراتهم في معنى الرسول والنبي، ففي كلام جماعة من علمائنا لا نجد تفرقة، وأنّ كلّ نبيء فهو رسول لأنّه يوحى إليه بما لا يخلو من تبليغه ولو إلى أهل بيته، وقد يكون حال الرسول مبتدأ بنبوة ثمّ يعقبها إرساله، فتلك النبوة تمهيد الرسالة كما كان أمر مبدإ الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنّه أخبر خديجة، ونزل عليه: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214]، والقول الصحيح أنّ الرسول أخصّ، وهو من أوحي إليه مع الأمر بالتبليغ، والنبي لا يؤمر بالتبليغ وإن كان قد يبلّغ على وجه الأمر بالمعروف والدعاء للخير، يعني بدون إنذار وتبشير، وورد في بعض الأحاديث: الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، وعدّ الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا، وقد ورد في حديث الشفاعة، في الصحيح: أنّ نوحا عليه السلام أوّل الرسل.
6. وقد دلّت آيات القرآن على أنّ الدّين كان معروفا في زمن آدم وأنّ الجزاء كان معلوما لهم، فقد قرّب ابنا آدم قربانا، وقال أحدهما للآخر ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27]، وقال له: ﴿إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: 28، 29]، ودلّ على أنّه لم يكن يومئذ بينهم من يأخذ على يد المعتدي وينتصف للضعيف من القويّ، فإنّما كان ما تعلّموه من طريقة الوعظ والتعليم وكانت رسالة عائلية.
7. ونوح هو أوّل الرسل، وهو نوح بن لامك، والعرب تقول: لمك بن متوشالح بن أخنوخ، ويسمّيه المصريون هرمس، ويسمّيه العرب إدريس بن يارد بن مهلئيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، حسب ـ قول التّوراة ـ، وفي زمنه وقع الطّوفان العظيم، وعاش تسعمائة وخمسين سنة، وقيل تسعمائة وتسعين سنة، والقرآن أثبت ذلك، وقد مات نوح قبل الهجرة بثلاثة آلاف سنة وتسعمائة سنة وأربع وسبعين سنة على حسب حساب اليهود المستمدّ من كتابهم.
8. وإبراهيم هو الخليل، إبراهيم بن تارح ـ والعرب تسمّيه آزر ـ بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالح بن قينان بن أرفخشد بن سام بن نوح، ولد سنة 2893 قبل الهجرة، في بلد أور الكلدانيين، ومات في بلاد الكنعانيين، وهي سوريا، في حبرون حيث مدفنه الآن المعروف ببلد الخليل سنة 2718 قبل الهجرة.
9. وإسماعيل هو ابن إبراهيم من الجارية المصرية هاجر، توفّي بمكة سنة 2686 قبل الهجرة تقريبا، وكان إسماعيل رسولا إلى قومه الذين حلّ بينهم من جرهم وغيرهم، وإلى أبنائه وأهله، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ [مريم: 54]
10. وإسحاق هو ابن إبراهيم من سارة ابنة عمّه، توفّي قبل الهجرة سنة 2613، وكان إسحاق نبيّا مؤيّدا لشرع أبيه إبراهيم ولم يجيء بشرع.
11. ويعقوب هو ابن إسحاق، الملقّب بإسرائيل، توفّي سنة 2586 قبل الهجرة، وكان يعقوب نبيّا مؤيّدا لشرع إبراهيم، قال تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ [البقرة: 132] ولم يجيء بشرع جديد.
12. والأسباط هم أسباط إسحاق، أي أحفاده، وهم أبناء يعقوب اثنا عشر ابنا: روبين، وشمعون، وجاد، ويهوذا، ويساكر، وزبولون، ويوسف، وبنيامين، ومنسّى، ودان، وأشير، وثفتالي، فأمّا يوسف فكان رسولا لقومه بمصر، قال تعالى خطابا لبني إسرائيل على لسان مؤمن بني إسرائيل، أو خطابا من الله ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا﴾ [غافر: 34]، وأمّا بقية الأسباط فكان كلّ منهم قائما بدعوة شريعة إبراهيم في بنيه وقومه، والوحي إلى هؤلاء متفاوت.
13. وعيسى هو عيسى ابن مريم، ولد من غير أب قبل الهجرة سنة 622، ورفع إلى السماء قبلها سنة 589، وهو رسول بشرع ناسخ لبعض أحكام التّوراة، ودامت دعوته إلى الله ثلاث سنين.
14. وأيوب هو نبيء قيل: إنّه عربي الأصل من أرض عوص، في بلاد أدوم، وهي من بلاد حوران، وقيل: هو أيوب بن ناحور أخي إبراهيم، وقيل: اسمه عوض، وقيل: هو يوباب ابن حفيد عيسو، وقيل: كان قبل إبراهيم بمائة سنة، والصحيح أنّه كان بعد إبراهيم وقبل موسى في القرن الخامس عشر قبل المسيح، أي في القرن الحادي والعشرين قبل الهجرة، ويقال: إنّ الكتاب المنسوب إليه في كتب اليهود أصله مؤلف باللغة العربيّة وأنّ موسى عليه السّلام نقله إلى العبرانيّة على سبيل الموعظة، فظنّ كثير من الباحثين في التّاريخ أنّ أيوب من قبيلة عربيّة، وليس ذلك ببعيد، وكان أيوب رسولا نبيّا، وكان له صاحب اسمه اليفاز اليماني هو الّذي شدّ أزره في الصبر، كما سنذكره في موضعه، وإنّما منع اسمه من الصرف إذ لم يكن من عرب الحجاز ونجد؛ لأنّ العرب اعتبرت القبائل البعيدة عنها عجما، وإن كان أصلهم عربيا، ولذلك منعوا ثمود من الصرف إذ سكنوا الحجر.
15. ويونس هو ابن متّى من سبط زبولون من بني إسرائيل، بعثه الله إلى أهل نينوى عاصمة الأشوريين، بعد خراب بيت المقدس، وذلك في حدود القرن الحادي عشر قبل الهجرة.
16. وهارون أخو موسى بن عمران توفّي سنة 1972 قبل الهجرة وهو رسول مع موسى إلى بني إسرائيل.
17. وسليمان هو ابن داوود كان نبيّا حاكما بالتّوراة وملكا عظيما، توفّي سنة 1597 قبل الهجرة، وممّا أوحى الله به إليه ما تضمّنه كتاب (الجامعة) وكتاب (الأمثال من الحكمة والمواعظ)، وهي منسوبة إلى سليمان ولم يقل فيها إنّ الله أوحاها إليه؛ فعلمنا أنّها كانت موحى بمعانيها دون لفظها.
18. وداوود أبو سليمان هو داوود بن يسي، توفّي سنة 1626 قبل الهجرة، بعثه الله لنصر بني إسرائيل، وأنزل عليه كتابا فيه مواعظ وأمثال، كان بنو إسرائيل يترنّمون بفصوله، وهو المسمّى بالزبور، وهو مصدر على وزن فعول مثل قبول، ويقال فيه: زبور ـ بضم الزاي ـ أي مصدرا مثل الشّكور، ومعناه الكتابة ويسمّى المكتوب زبورا فيجمع على الزّبر، قال تعالى: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾ [آل عمران: 184]، وقد صار علما بالغلبة في لغة العرب على كتاب داوود النبي، وهو أحد أسفار الكتاب المقدّس عند اليهود.
19. عطفت جملة ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ على ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾، ولم يعطف اسم داوود على بقيّة الأسماء المذكورة قبله للإيماء إلى أنّ الزبور موحى بأن يكون كتابا.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/315.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآيات السابقات بينت أحوال القلوب إذا أظلمت، والنفوس إذا انحرفت وعصمت أمر ربها، وجعل حال بنى إسرائيل في ماضيهم وحاضرهم مثلا واضحا بينا، فقد مالت قلوبهم عن الحق بعد أن جاءتهم البينات، وما من آية أتتهم لتزيدهم إيمانا إلا ازدادوا بها كفرانا، وما تركوا جريمة إلا ارتكبوها باسم أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، ومع ذلك الزعم يقتلون أنبياء الله ويعصون الآخرين من رسله، وهم يعاملون محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بما عاملوا به من سبقه من الأنبياء، غدروا بعد أن عاهدهم ووفى لهم، وحاولوا قتله غدرا، واشتركوا مع أعدائه لقهره، ولكن الله تعالى منعه منهم، ومكنه من رقابهم.
2. وبعد أن ذكر سبحانه ما يدل على شدة جحودهم، أشار سبحانه إلى أنه لا يلتفت إليهم، وأنه ليس بدعا من الرسل، بل هو كمال السلسلة من النبوة التى اختارها الله تعالى من البشر، لتكون حجة الله تعالى إلى يوم القيامة: فقال عزّ من قائل: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾
3. هذا النص مربوط في المعنى بقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ [النساء]، وقد قالوا غير ذلك في آية أخرى فأنكروا الرسالة الإلهية جملة من بعد موسى، وقالوا: ﴿مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام] مبالغة في إنكار رسالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ففي هذه الآيات وما إليها بيان بوحى الله تعالى إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنه مثل بقية الرسل، فما كان بدعا من الرسل، بل هو في تلقى رسالة الله كسائر الرسل.
4. ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ والوحى في الأصل الإعلام الخفي والإشارة والإيماء، والإلهام، وغير ذلك من المعاني التي تدل على أنه إعلام خاص، لا يكون بطريق الإعلام الظاهر، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا﴾ [الشورى] فالوحى على هذا نوع من خطاب الله تعالى لرسله ويقابله الكلام من وراء حجاب، وإرسال ملك من الملائكة بالخطاب، والوحى هنا يعم الأنواع الثلاثة من كلام الله تعالى لرسله، كما يدل السياق على ذلك.
5. والكلام سيق لبيان المشابهة والمشاكلة بين وحى الله تعالى لنبيه الكريم الذى هو آخر لبنة في صرح النبوة والرسائل الإلهية، وبين الوحى للرسل السابقين، وقد أكد سبحانه وتعالى المشابهة بنسبة الإيحاء إليه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، وب (إن) المؤكدة، فقال: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾
6. وقد ابتدأ سبحانه وتعالى بذكر نوح عليه السلام، لأنه الأب الثاني للخليقة، ولأنه أول نبي معروف في القرآن بعد أبى البشر، ولأن في ذكره معنى التهديد للذين يجحدون ويحاربون الرسالة الإلهية: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح] فذكره تذكير بتهديده، واستجابة الله تعالى لدعائه.
7. وقد ذكر سبحانه وتعالى نبيين من بعده في الزمان الطويل الذى كان بينه وبين إبراهيم أبى الأنبياء من بعده، ثم قال سبحانه وتعالى من بعد: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ﴾ وقد ذكر سبحانه وتعالى كلمة ﴿وَأَوْحَيْنَا﴾ لتأكيد الإيحاء، وللإشارة إلى وجود فترة زمنية طويلة بين نوح عليه السلام وإبراهيم، فإن التكرار في الذكر إيحاء إلى التباعد في الزمن؛ ولأن هنا مفارقة بين الأنبياء الذين جاءوا بعد نوح، والمذكورين، لأن أولئك جميعا من ذرية إبراهيم وإن تفاوتت مراتبهم، واختلفت أماكنهم.
8. القارئ يلاحظ أن كل نبي من هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في هذا النص الكريم يختص بصفة؛ فإبراهيم أبو الأنبياء، وإسماعيل أبو العرب، وإسحاق أبو أنبياء بنى إسرائيل ومثله يعقوب، وقد اختص بالصبر على فراق ولده، وحبيبه، والأسباط، وهم أولاد يعقوب عليه السلام جمع سبط، وهو ولد الولد ـ مثل للغيرة البشرية تعترى الشباب في فورته وحدته، ثم يثوب إلى رشده بعد أن يكتمل عقله، وتكتمل نفسه، وقد أوحى الله تعالى إليهم، وبلغوا مرتبة الأصفياء المهديين، ولعل الوحى إليهم كان من قبيل الإلهام، لأنه لم يكن لهم رسالات بشرائع خاصة، وعيسى عليه السلام كان روحانيا في حياته كلها، ولد من غير أب، وعاش طول حياته يدعو إلى الروح، والخروج من سلطان المادة، فله بين الأنبياء خواصه، وهو من البشر الذين خلقهم الله تعالى آية للعالمين، وأيوب عليه السلام له صفة الصبر على المرض الأليم، وقد قال تعالى فيه: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء]، ويونس عليه السلام إذ تخلى عنه الصبر فهذبه ربه في الدنيا، ثم صار من المخلصين وقد قال سبحانه: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ﴾ [الصافات]
9. وقد ختم سبحانه ذلك الفريق من النبيين بذكر داوود فقال تعالى: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ أي كما أعطينا داوود كتابا خاصا هو الزبور، والقراءة المشهورة بفتح الزاي وقراءة حمزة بضمها أي (زبورا)، وعلى الأول يكون معنى زبورا بمعنى الزبور أي المكتوب، وعلى الضم يكون جمعا لزبر بكسر الزاي والزبر هو الشيء المكتوب، وعلى أي القراءتين فالمعنى أعطيناه كتابا مكتوبا يقرأ ويرتل، ويظهر أن كتاب الزبور لم يكن فيه بيان للأحكام؛ لأن التوراة كانت شرائعها هي النظام المتبع، بل هو حكم ومواعظ، وقد قال فيه القرطبي (الزبور كتاب داوود وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هي حكم ومواعظ)
10. ولقد أعطى الله سبحانه وتعالى داوود صفتين تبدوان بين الناس متعارضتين:
أ. إحداهما ـ أنه كان رجل حرب وجلاد، ورجل حكم وفصل بين الناس.
ب. الثانية: أنه كان طيب النفس متواضعا متطامنا، فكان لا يأكل إلا من عمل يده، ولذلك كان مثلا للنبوة التي تحكم وترشد وتتواضع وتقود الجيوش، وهو الذى كان تحت يده كل خزائن ملكه، ويعف عن أن يمد يده إليه، ويأكل من عمل يده، كما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في بيان حاله: (إن نبي الله داوود كان يأكل من عمل يده) فهو النبي الملك القائد الذى أدخل نفسه في زمرة العمال؛ إذ كان لا يأكل إلا من عمل يده.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1963.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إبراهيم وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾، الأسباط واحدها سبط، وسبط الرجل ولد ولده، والمراد بالأسباط هنا الاثنا عشر سبطا من اثني عشر ابنا ليعقوب بن اسحق بن إبراهيم، والزبور الكتاب بمعنى المكتوب، والمراد بالوحي إلى الأسباط الوحي إلى الأنبياء منهم، لا الوحي اليهم جميعا.
2. هذه الآية وما بعدها تتصل بالآيات السابقة، ووجه الصلة ان الله سبحانه حكى فيما تقدم عن أهل الكتاب انهم يؤمنون بفكرة النبوة من حيث هي، ويعترفون بأن لله رسلا، ولكنهم لا يعترفون بهم جميعا، بل يؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض، ومحمد من هذا البعض الذين كفروا بنبوتهم، وبيّن سبحانه هناك ان من كفر بنبوة واحد من أنبيائه فهو كمن كفر بالله، وان الايمان الصحيح هو الإيمان بالله واليوم الآخر، وملائكته وجميع كتبه ورسله، ثم قرر سبحانه في الآية التي نفسرها وما بعدها ان من اعترف بمبدإ النبوة من حيث هو، وآمن بنبوة واحد كائنا من كان يلزمه قهرا ان يؤمن بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأن الله سبحانه قد أوحى إليه كما أوحى إلى غيره من الأنبياء، وأظهر على يده المعجزات كما أظهر على يد غيره (وما حصل به الاتفاق لا يكون سببا للافتراق) ومن جزأ وفرق فقد فرق بين الشيء ونفسه.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/491.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ في مقام التعليل لقوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ كما عرفت آنفا، ومحصل المعنى ـ والله أعلم ـ أنهم آمنوا بما أنزل إليك لأنا لم نؤتك أمرا مبتدعا يختص من الدعاوي والجهات بما لا يوجد عند غيرك من الأنبياء السابقين، بل الأمر على نهج واحد لا اختلاف فيه، فإنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، ونوح أول نبي جاء بكتاب وشريعة، وكما أوحينا إلى إبراهيم ومن بعده من آله، وهم يعرفونهم ويعرفون كيفية بعثتهم ودعوتهم، فمنهم من أوتي بكتاب كداود أوتي زبورا وهو وحي نبوي، وموسى أوتي التكليم وهو وحي نبوي، وغيرهما كإسماعيل وإسحاق ويعقوب أرسلوا بغير كتاب، وذلك أيضا عن وحي نبوي، ويجمع الجميع أنهم رسل مبشرون بثواب الله منذرون بعذابه، أرسلهم الله لإتمام الحجة على الناس ببيان ما ينفعهم وما يضرهم في أخراهم ودنياهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
2. ﴿وَالْأَسْبَاطِ﴾ تقدم في قوله تعالى: ﴿وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ [آل عمران: 84] أنهم أنبياء من ذرية يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل.
3. ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ قيل إنه بمعنى المكتوب من قولهم: زبره أي كتبه فالزبور بمعنى المزبور.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/141.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّا﴾ فيها دلالة على العظمة لله، فهي تشير إلى استناد الوحي إلى عظمة الله وجلاله وحكمته وفضله ورحمته وعزته ﴿كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ دلالة على أنها سنة الله في الأولين والآخرين، فلا عجب أن يوحي إليك، ودلالة على أنه وحي نبوة مثل وحي نبوتهم.
2. ﴿وَأَوْحَيْنَا﴾ يحتمل: العطف على ﴿أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ﴾ فيكون المعنى: وكما أوحينا، ويحتمل: أنه عطف على أوحينا إليك، وحاصل المعنى واحد، ﴿وَالْأَسْبَاطِ﴾ قيل: يوسف وإخوته أسباط إسرائيل، والسِّبط، قال الراغب فيه في (المفردات): (ولد الولد)، وقال تعالى: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا﴾ [الأعراف:160] سميت ذرية كل سبط باسمه، وهو استعمال شائع، مثل عاد لذريته، وقال الشاعر:
çكانت حنيفة أثلاثاً فثلثهمو...من العبيد وثلث من مواليهاé
أي بنو حنيفة، وفي (لسان العرب): (قال أبو العباس: سألت ابن الأعرابي، ما معنى السبط في كلام العرب؟ قال السبط، والسبطان، والأسباط: خاصة الأولاد والمصاص منهم) وأما تفسير (الأسباط) هنا بقبائل بني إسرائيل ذرية الأسباط فهو سهو؛ لأنهم ليسوا كلهم أنبياء، والأقرب: أن معنى الأسباط: نبي الله يوسف ومن كان مثله من إخوته، وذرية يوسف وإخوته.
3. ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ﴾ عطف على ﴿أَوْحَيْنَا﴾ والزبور: اسم لكتاب داوود عليه السلام، وقوله تعالى: ﴿زَبُورًا﴾ أي كتاباً، ولعله نكِّر لعدم معرفة العرب به قبل نزول القرآن.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/213.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه جولة عامة في آفاق التاريخ النبويّ، من خلال التعداد الإجمالي للرسل مع الإشارة إلى بعض الشخصيات البارزة التي تركت في الواقع البشري بعض الأثر، فيما يمثله تاريخها من حركة متنوعة، أو التي توحي ملامحها الشخصية ببعض العبرة في اتجاه التربية والسلوك العملي للإنسان.
2. ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ فقد جاء الحديث عن شخصية نوح والنبييّن من بعده، الذين أجمل الله ذكرهم لعدم وجود ضرورة في ذلك، لأنهم لم يقوموا بدور بارز، بينما كان نوح الشخصية التي تمثل نهاية تاريخ سابق للبشرية، استوعب الكفر جميع جوانبه وأفراده، وساهم نوح في الجهاد من أجل تغييره بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى إذا استنفد كل التجارب للوصول إلى ذلك، ولم تبق هناك تجربة واحدة، انطلق التغيير على يده بالطوفان، ليبدأ تاريخ جديد يرتكز على أساس الإيمان بالله؛ ولذلك اعتبر الأب الثاني للبشرية.
3. ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ أمّا إبراهيم، فهو الشخصية البارزة المتحركة في هدوء وقوة ووداعة، التي تنوعت مجالاتها في أكثر من صعيد، وكانت رسالته أم الرسالات اللاحقة، لأنها كانت تمثل الخطوط العامة التي تلتقي بكل التفاصيل الموجودة في بقية الرسالات؛ وبهذا كان دوره حيويا في هذا التاريخ.
4. وتحركت القافلة من بعده لتشمل أولاده، ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾، وهم أولاد يعقوب كما قيل، ﴿وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾.. وقد كان لكل واحد منهم بعض الخصائص التي تغري بالتفصيل، بما تشتمل عليه من العبرة، وربما كان لبعضهم امتداد في تاريخ الرسالات أكثر من بعض آخر، فإننا قد نلاحظ اختلاف الآفاق بين شخصية عيسى وشخصية الأنبياء الآخرين من أولاد إبراهيم، وقد يكون الحديث عن بعضهم كالأسباط، حديثا عن متعلقات الأنبياء، لأنه لم يثبت ذلك، فيمكن أن لا يكون المراد بالوحي إليهم الوحي بشكل مستقل، بل ربما كان ذلك يتبع الوحي إلى آبائهم، وقد نواجه في شخصية أيوب ويونس جانب الفكرة الموحية المملوءة بالعبرة أكثر مما نواجه فيها التفاصيل الرسالية الممتدة في الجانب العملي الحركي من الرسالة.
5. أمّا سليمان، فقد انطلقت شخصيته في الملك والسيطرة المطلقة التي تتحرك بالوسائل الغيبية، ولم يبرز منها الشيء الكبير في مجال الحركة الرسالية على مستوى الدعوة إلى الله على طريقة الأنبياء، وليس معنى ذلك أنها غير موجودة، ولكن القرآن لم يحدثنا عنه إلا من جانب الملك بالإضافة إلى الملامح الذاتية الرسولية في إخلاصه لله وانقطاعه إليه.
6. وقد تحدث الله عن داوود كونه صاحب كتاب أوحاه الله اليه ـ وهو الزبور ـ ليكون الوجه الرسالي الذي يلتقي فيه بالناس في روعة الآفاق الفنية الروحية التي توحي بالخشوع، ليعيش دور الخلافة القوي الذي يمارس الحكم في حياة الناس من موقع الإرادة الإلهية.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/543.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لقد تناولت الآيات السابقة مسألة التمييز الذي مارسه اليهود بشأن الأنبياء، حيث كانوا يؤمنون ويصدقون ببعض أنبياء الله تعالى ويكفرون بالبعض الآخر منهم، أمّا هذه الآية الكريمة فهي ترد على اليهود، وتؤكّد أنّ الله أوحى إلى نبيّه محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم كما أنزل الوحي على أنبيائه نوح والنّبيين الذين جاؤوا من بعد نوح، وكما أوحى إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السّلام وأنزل الوحي على الأنبياء من أبناء يعقوب، وعلى عيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان عليهم السّلام، وكما أنزل الله على داوود عليه السّلام كتاب الزّبور.
2. وهذه الآية تردّ على اليهود مؤكّدة على أنّ شرائع الأنبياء العظام مستقاة كلها من ينبوع الوحي الإلهي، وإنّهم جميعا يسيرون في طريق واحد، ولذلك لا تجوز التفرقة بينهم.
3. وقد تكون هذه الآية خطابا للمشركين والكفار من عرب الجاهلية، الذين كانوا يظهرون الدهشة والعجب من نزول الوحي على نبي الإسلام محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهي تردّ على هؤلاء مؤكّدة أن لا عجب في نزول الوحي على محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد نزل قبل ذلك على الأنبياء السابقين.
4. بعض المفسّرين فهموا من قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا﴾ أنّها تهدف إلى بيان حقيقة من النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهي أنّ جميع الخصائص التي وردت في الشرائع السماوية التي نزلت على الأنبياء قبله، جاءت مجتمعة في الشريعة التي أنزلها الله عليه، وإنّ كل خصلة اتصف بها عباد الله الصالحون هي موجودة فيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد أشارت بعض الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السّلام إلى هذا الموضوع أيضا فكان ما استلهمه المفسّرون من هذه الآية نابعا أو مستندا على تلك الروايات.
5. الزّبور من الكتب السماوية أنزله الله على داوود ـ ولا يتنافى هذا مع ما ورد من أنّ الأنبياء أولي العزم الذين نزلت عليهم كتب من الله هم خمسة أنبياء فقط، حيث إن الآيات القرآنية والروايات الإسلامية توضح أن الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء كانت على نوعين، هما:
أ. النّوع الأوّل: الكتب التي اشتملت على الأحكام التشريعية، حيث أن كل كتاب من هذه الكتب قد أعلن عن شريعة جديدة، وأن هذه الكتب السماوية هي خمسة فقط نزلت على خمسة أنبياء هم (اولوا العزم)
ب. النّوع الثّاني: الكتب التي لم تحتو على أحكام جديدة، بل كان فيها الحكم والنصائح والإرشادات والوصايا وأنواع الدعاء، وكتاب (الزّبور) الذي نزل على داوود عليه السّلام من هذا النّوع الثّاني من الكتب السماوية ـ و(مزامير داوود أو (زبور داوود الذي ورد اسمه في (العهد القديم) دليل على هذا الأمر الذي أثبتناه، مع العلم أنّ كتاب (العهد القديم) لم يسلم من التحريف، كما لم تسلم كتب العهد الجديد والقديم الأخرى من التحريف أيضا، إلّا أنّ ما يمكن قوله هو أنّ هذه الكتب قد احتفظت نوعا ما بشكلها القديم.
6. كتاب (مزامير داوود يشتمل على مائة وخمسين فصلا يسمى كل فصل منه (مزمورا) وهو من أوّله إلى آخره يشتمل على صنوف النصح والإرشاد والدعاء والمناجاة.
7. نقل عن أبي ذر أنّه سأل النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن عدد الأنبياء فأجابه النّبي: بأن عددهم يبلغ مائة وأربعا وعشرين ألفا، فسأل أبو ذر عن عدد الرسل من بين هؤلاء الأنبياء ـ فأجابه النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: بأن عددهم هو ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا والباقون كلهم أنبياء.. فسأل أبو ذر مرة أخرى عن عدد الكتب السماوية التي نزلت على أولئك الأنبياء والرسل، فأجابه النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: بأنّها مائة وأربع كتب، نزل عشرة منها على آدم، ونزل خمسون منها على شيث، وثلاثون على إدريس، وعشرة كتب على إبراهيم، حيث يصبح مجموع هذه الكتب مائة كتاب، والأربعة الأخرى هي التوراة، والإنجيل والزبور والقرآن.
8. عبارة (أسباط) هي صيغة للجمع ومفردها (سبط) ومعناها طوائف بني إسرائيل، ولكن المقصود منها في الآية هم الأنبياء الذين بعثوا من هذه الطوائف.
9. لقد كان نزول الوحي على الأنبياء يتمّ بصور مختلفة، فمرّة ينزل بالوحي ملك من الملائكة المكلفين به وأحيانا يلقي الوحي على النّبي بواسطة الإلهام القلبي، وأخرى ينزل بصورة صوت يسمعه النّبي، أي أن الله يخلق الأمواج الصوتية في الفضاء أو الأجسام فيسمعها أنبياؤه وبهذه الواسطة كان يتمّ التخاطب بينهم وبين الله سبحانه وتعالى، ومن الذين حظوا بمزية التخاطب مع الله النّبي موسى بن عمران عليه السّلام، فكان يسمع الصوت، أحيانا من شجرة وادي الأيمن، وأحيانا في جبل طور، ولذلك لقب هذا النّبي بلقب (كليم الله)، ولعل مجيء اسم النّبي موسى عليه السّلام في الآيات الأخيرة بصورة منفصلة كان من أجل بيان هذه الخصيصة التي امتاز بها موسى عليه السّلام على غيره من أنبياء الله عليهم السّلام.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/536.
142. الرسول والقصص وموسى والتكليم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈142⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 164]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
كعب:
روي عن كعب الأحبار (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كلم الله موسى مرتين(1).
2. عن جزء بن جابر الخثعمي قال سمعت كعبا يقول: إن الله ـ جل ثناؤه ـ لما كلم موسى كلمه بالألسنة كلها قبل كلامه ـ يعني: كلام موسى ـ، فجعل يقول: يا رب، لا أفهم، حتى كلمه بلسانه آخر الألسنة، فقال: يا رب، هكذا كلامك؟ قال لا، ولو سمعت كلامي ـ أي: على وجهه ـ لم تك شيئا، قال ابن وكيع، وزاد في رواية: يا رب، هل في خلقك شيء يشبه كلامك؟ قال لا، وأقرب خلقي شبها بكلامي أشد ما تسمع الناس من الصواعق(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٢٠.
(2) ابن جرير ٧/٦٨٩.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: ﴿وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾، بعث الله نبيا عبدا حبشيا، فهو مما لم يقصصه على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفي لفظ: بعث نبي من الحبش(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٤/١١١٩.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن رجلا من بني عبس يقال له: خالد بن سنان، قال لقومه: إني أطفئ عنكم نار الحدثان، فقال له عمارة بن زياد ـ رجل من قومه ـ: والله، ما قلت لنا يا خالد قط إلا حقا، فما شأنك وشأن نار الحدثان، تزعم أنك تطفئها؟ قال فانطلق، وانطلق معه عمارة في ثلاثين من قومه، حتى أتوها وهي تخرج من شق جبل من حرة يقال لها: حرة أشجع، فخط لهم خالد خطة، فأجلسهم فيها، فقال: إن أبطأت عليكم فلا تدعوني باسمي، فخرجت كأنها خيل شقر، يتبع بعضها بعضا، فاستقبلها خالد، فجعل يضربها بعصاه وهو يقول: بدا بدا بدا كل هدى، زعم ابن راعية المعزى أني لا أخرج منها وثيابي تندى، حتى دخل معها الشق، فأبطأ عليهم، فقال عمارة: والله، لو كان صاحبكم حيا لقد خرج إليكم، فقالوا: إنه قد نهانا أن ندعوه باسمه، قال فقال: فادعوه باسمه؛ فوالله، لو كان صاحبكم حيا لقد خرج إليكم، فدعوه باسمه، فخرج إليهم وقد أخذ برأسه، فقال: ألم أنهكم أن تدعوني باسمي؟ قد والله قتلتموني، فادفنوني، فإذا مرت بكم الحمر فيها حمار أبتر فانبشوني؛ فإنكم ستجدوني حيا، فدفنوه، فمرت بهم الحمر فيها حمار أبتر، فقالوا: انبشوه، فإنه أمرنا أن ننبشه، فقال لهم عمارة: لا تحدث مضر أنا ننبش موتانا، والله، لا تنبشوه أبدا، وقد كان خالد أخبرهم أن في عكم(1)، امرأته لوحين، فإذا أشكل عليكم أمر فانظروا فيهما، فإنكم سترون ما تسألون عنه، وقال: لا تمسها حائض، فلما رجعوا إلى امرأته سألوها عنهما، فأخرجتهما وهي حائض، فذهب ما كان فيهما من علم، وقال أبو يونس: قال سماك بن حرب: سئل عنه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: (ذاك نبي أضاعه قومه)، وإن ابنه أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: مرحبا بابن أخي(2).
2. روي أنّه قال: كل الأنبياء من بني إسرائيل، إلا عشرة: نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وشعيب، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يكن نبي له اسمان إلا عيسى ويعقوب؛ فيعقوب إسرائيل، وعيسى المسيح(3).
3. روي أنّه قال: قال كان عمر آدم ألف سنة، ووبين آدم ونوح ألف سنة، وبين نوح وإبراهيم ألف سنة، وبين إبراهيم وموسى سبعمائة سنة، وبين موسى وعيسى خمسمائة سنة، وبين عيسى ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ستمائة سنة(4).
4. روي أنّه قال: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾، قال يعني بالتكليم: مشافهة(5).
__________
(1) العِكْم واحد العكوم: الأحْمال والغَرائر التي تكون فيها الأمْتِعَة وغيرُها، النهاية (عكم).
(2) الحاكم ٢/٦٥٤.
(3) الطبراني (١١٧٢٣.
(4) الحاكم ٢/٥٩٨.
(5) أبو نعيم في أخبار أصبهان ١/١٨٢.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال ـ في حديث طويل ـ: من الأنبياء مستخفين، ولذلك خفي ذكرهم في القرآن، فلم يسموا كما سمي من استعلن من الأنبياء (صلوات الله عليهم أجمعين)، وهو قول الله عز وجل: ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ يعني لم أسم المستخفين كما سميت المستعلنين من الأنبياء (صلوات الله عليهم)، والحديث طويل ذكرناه بتمامه في (تفسير الهادي(1).
2. روي أنّه قال: كان ما بين آدم وبين نوح من الأنبياء مستخفين ومستعلنين، ولذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن من الأنبياء، وهو قول الله عز وجل: ﴿وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ يعني لم أسم المستخفين كما سميت المستعلنين من الأنبياء(2).
__________
(1) الكافي 8/115.
(2) تفسير العيّاشي 1/285.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: فقالت اليهود: ذكر محمد النبيين، ولم يبين لنا أمر موسى؛ أكلمه الله أم لم يكلمه؟ فأنزل الله عز وجل في قول اليهود: ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾، هؤلاء بمكة في الأنعام وفي غيرها؛ لأن هذه مدنية، ﴿وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢٣.
القرظي:
روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: يقول: سئل موسى: ما شبهت كلام ربك مما خلق؟ فقال موسى: الرعد الساكن(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٦٩٠.
البناني:
روي عن ثابت البناني (ت 127 هـ) أنّه قال: لما مات موسى بن عمران جالت الملائكة في السماوات بعضها إلى بعض، واضعي أيديهم على خدودهم، ينادون: مات موسى كليم الله، فأي الخلق لا يموت!؟(1).
__________
(1) عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ص ٧٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾، يعني: مشافهة، وهو ابن أربعين سنة، ليلة النار، ومرة أخرى حين أعطي التوراة(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢٣.
وائل:
روي عن وائل بن داود (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾، مرارا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٢٠.
عيينة:
روي عن يحيى بن زكريا، قال كنت عند سفيان بن عيينة (ت 198 هـ)، فقال له رجل: إنا وجدنا خمسة أصناف من الناس قد كفروا، ليسوا منا، قال من هم؟ قال الجهمية، والقدرية، والمرجئة، والرافضة، والنصارى، قال كيف؟ قال: قال الله ـ تبارك وتعالى ـ: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾، قالت الجهمية: لا، ليس كما قلت، بل خلقت كلاما، قال فكفروا، وأوردوا على الله عز وجل، وقال الله: ﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٨ ـ ٤٩]، قالت القدرية: لا، ليس كما قلت، الشر من الشيطان، وليس مما خلقه، فكفروا، وأوردوا على الله، وقال الله: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية: ٢١]، قالت المرجئة: ليس كما قلت، بل هم سواء، فكفروا، وأوردوا على الله، وقال [[الإمام علي] الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر، قالت الرافضة: لا، ليس كما قلت، بل أنت خير منهما، قال فكفروا، وأوردوا عليه، وقال عيسى ابن مريم عليه السلام: أنا عبد الله ورسوله، قالت النصارى: ليس كما قلت، بل أنت هو، قال فكفروا، وأوردوا عليه، قال سفيان: اكتبوه، اكتبوه(1).
__________
(1) البيهقي في القضاء والقدر ٣/٨٢٦.
ابن الرسّي:
ذكر الإمام محمد بن القاسم الرسي (ت 284 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ معنى كلامه سبحانه عند أهل العلم به أنه أنشأ كلاما أحدثه كما يشاء، فسمعه موسى صلى الله عليه وفهمه، ولم يجعل الله بينه وبين موسى ملكا رسولا، وأسمعه النداء، فقال: ﴿إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، والنداء: غير المنادي، والمنادي هو: الله ـ جل ثناؤه ـ، والنداء: غير الله ـ تباركت أسماؤه ـ، وما كان غير الله تعالى فمحدث، لم يكن، ثم كان، والله الأول القديم الذي لم يزل، ولا يزول(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/280.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿وَكَلَّمَ﴾ هو: ألقى في أذن موسى ما ألقى من الكلام، ولم يكن بينه وبين موسى رسول كما كان بينه وبين سائر الأنبياء، وإنما كان من الله خلق الكلام، وإيقاعه في أذن موسى، فلما أن كان ذلك كذلك قال: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾، إذ لم يكن بينه وبينه رسول، ولم يكن المؤدي الكلام إلى موسى إلا الله سبحانه، فجاز إذ كان ذلك كذلك، أن يقول: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾، إذ لم يكن بينه وبينه مؤدي غير الله سبحانه، ولا مُسمِع سواه(1).
2. سؤال وإشكال: كيف كان الكلام من الله عز وجل لموسى؟ وما معنى قوله: ﴿تَكْلِيمًا﴾؟، والجواب: اعلم ـ هداك الله ـ أن الله تبارك وتعالى لم يوحِ إلى أحد من الأنبياء إلا على لسان الملك الكريم جبريل، وكذلك إلى موسى صلى الله عليه، وقد كان منه الإيحاء إليه على لسان جبريل، حتى كان في هذا الوقت الذي ذكره الله جل جلاله، عن أن يحويه قول الله أو يناله، فكان من الله إليه ما ذكر الله سبحانه من الكلام له، وكان معنى ذلك أن الله خلق له كلاماً في الشجرة سمعه موسى بإذنه، كما كان يسمع ما يأتي به الملك إليه من وحي ربه، فكان فهم موسى ـ وسماعه لذلك الكلام الذي شاء الله إسماعه إياه، لما أراد من كرامته واجتبائه ـ كفهمه لما به كان يأتيه جبريل عن الله من وحيه سواء سواء، فلما أن لم يكن بين الله سبحانه وبين موسى صلى الله عليه ـ لهذا الكلام المخلوق في الشجرة ـ مُؤَّد يؤديه إليه، كما كان يكون فعله في غيره مما ينزله عليه، جاز أن يقول: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ يريد: أسمع موسى وأبلغه ما كان يريد من الكلام والوحي إسماعاً، بلا مؤد لذلك إليه، فَلَمَّا أن لم يكن بين الله وبين موسى مؤد للكلام إلى موسى ـ وكان المتولي لجعل الكلام وفعله وخلقه على ما سمعه موسى من البيان، والكفاية والتبيان ـ قال الله سبحانه: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾
3. معنى ﴿تَكْلِيمًا﴾ هو: تأكيد للإخبار منه عز وجل بما كان من عجيب فعله، وعظيم قدرته، وظاهر برهانه، وما ازداد موسى به بصيرة إلى بصيرته، من خلقه لكلام ينطق بغير لسان، كما ينطق به ذو اللهوات والأدوات، واللسان والآلات، فهذا معنى قوله: ﴿تَكْلِيمًا﴾، لا كما يقول به الجاهلون، وينسب إلى الله الضآلون، من تشبيهه بخلقه، ونَسْبِ الكلام إليه على طريق التكلم به، كما يعقلون في كلام الآدميين، ويعرفون من كلام المخلوقين، تعالى عن ذلك أرحم الراحمين! وجل أن يكون كذلك رب العالمين.
__________
(1) تفسير الإمام الهادي: 1/176.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عز وجل: ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ ذكر في بعض القصة: أن اليهود قالوا: ما بال موسى لم يذكر فيمن ذكر من الأنبياء؟ فأنزل الله عز وجل: ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ هَؤُلَاءِ بمكة في) الأنعام) وفي غيرها؛ لأنه قيل: إن هذه السورة مدنية.
2. في قوله تعالى: ﴿وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ دلائل من وجوه:
أ. أحدها: أن معرفة الرسل بأجمعهم واحدًا بعد واحد ـ ليس من شرط الإيمان بعد أن يؤمن بهم جميعًا؛ لأنه أخبر عز وجل أن من الرسل من لم يقصصهم عليه، ولو كان معرفتهم من شرط الإيمان لقصهم عليه جميعًا، لا يحتمل ترك ذلك؛ دل أنه ليس ذلك من شرط الإيمان.
ب. الثاني: أن الإيمان ليس هو المعرفة، ولكنه التصديق؛ لأنه لم يؤخذ عليه عدم معرفة الرسل، وأخذ بتصديقهم والإيمان بهم جملة.
3. قوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾، اختلف فيه:
أ. قَالَ بَعْضُهُمْ: خلق الله كلامًا وصوتًا، وألقى ذلك في مسامعه.
ب. وقال آخرون: كتب له كتابا فكلمه بذلك؛ فذلك معنى قوله: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ لا أن كلمه بكلامه، ولا ندري كيف كان؟ سوى أنا نعلم أنه أحدث صوتًا لم يكن، فأسمع موسى ذلك كيف شاء، وما شاء، وممن شاء؛ لأن كلامه الذي هو موصوف به في الأزل لا يوصف بالحروف، ولا بالهجاء، ولا بالصوت، ولا بشيء مما يوصف به كلام الخلق بحال، وما يقال: هذا كلام الله ـ إنما يُقال على الموافقة والمجاز؛ كقوله: ﴿حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ﴾، ولا سبيل له أن يسمع كلام الله الذي هو موصوف به بالأزل؛ ولكنه على الموافقة والمجاز يقال ذلك.
4. قوله عز وجل: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ يخرج هذا مخرج التخصيص له؛ إذ ما من رسول إلا وقد كان له خصوصية، والكلام خصوصية لموسى عليه السلام إذ كلمه من غير أن كان ثمة سفير ورسول، وكان لسائر الرسل وحيًا يوحي إليهم؛ أي: دليل برسول.
5. ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ دل المصدر على تحقيق الكلام؛ إذ المصادر مما يؤكد حقائق ما له المصادر في موضوع اللغة، وأيد ذلك الأمر المشهور من تسمية موسى: كليم الله، وما جرى على ألسن الخلق من القول بأن الله كلم موسى؛ فثبت أنه كان له فيما كلمه خصوصية لم يشركه فيها غيره من الرسل، وعلى حق الوحي لمانزال الكتب له شركاء في ذلك من الرسل؛ فثبت أن لما وصف به موسى خصوصية بايَنَ بها غيره؛ على ما ذكره من خصوصية كثير من الرسل بأسماء أو نعوت أوجبت لهم الفضيلة بها، وإن كان حمل ما يحتمل تلك الخصوصية ـ قد يتوجه إلى ما قد يشترك في ذلك جملة الرسل؛ فعلى ذلك أمر تكليم موسى عليه السلام.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٢٠.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
يحتمل نصب ﴿وَرُسُلًا﴾ أمرين:
أ. أحدهما: على قول الفراء ـ إنا أوحينا اليك كما أوحينا إلى نوح، والى رسل قد قصصناهم عليك، ورسول لم نقصصهم عليك، فلما حذف إلى نصب رسلا، وقال الزجاج: تقديره انه لما قال: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا﴾ كان معناه أرسلناك رسولا عطف على ذلك، فقال: ورسلا، وتقديره وأرسلنا رسلا، فعطف الرسل على معنى الأسماء قبلها في الاعراب كما قال الشاعر:
çأوحيت بالخبز له ميسرا...والبيض مطبوخاً معاً والسكراé
لم يرضه ذلك حتى يشكرا
ب. الثاني: أن يكون نصباً بفعل يفسره ما بعده، ويتلوه، وهو اختيار الزجاج، وتقديره وقصصنا عليك رسلا قد قصصناهم عليك، كما قال: ﴿وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ﴾ والتقدير وأعد للظالمين أعد لهم عذاباً أليما.
1. وقرأ أبي ورسل، بالرفع ـ لما كان في الفعل عائد اليهم، وهو قوله: ﴿قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ﴾
2. ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ نصب تكليما على المصدر وفائدته:
أ. وكلم الله موسى بلا واسطة خصوصاً من بين سائر الأنبياء كلمهم الله بواسطة الوحي.
ب. وقيل: إنما قال ذلك، ليعلم، ان كلام الله من جنس هذا المعقول الذي يشقق من التكلم على خلاف ما يقول المبطلون.
ج. وقيل انما اتى بالمصدر تأكيداً.
د. وقيل: إنما أراد بذلك تعظيم كلامه، كأنه قال كلم الله موسى تكليما شريفا كما قال: ﴿فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ﴾ يريد بذلك تعظيم ما غشيهم من الأهوال.
3. فأما قول من قال إن الله كلم موسى باللغات كلها التي لم يفهمها، فلما كان آخر شيء كلمه بكلام فهمه، فإن ذلك لا يجوز عليه تعالى، لأن خطاب من لا يفهم خطابه عبث يجري مجرى قبح خطاب العربي بالزنجية، والله يتعالى عن ذلك.
4. قال البلخي: وفي الآية دلالة على أن كلام الله محدث من حيث انه كلم موسى خاصة دون غيره من الأنبياء، وكلمه في وقت دون وقت، ولو كان الكلام قديماً ومن صفات ذاته لم يكن في ذلك اختصاص ومن فصل بين الكليم والتكلم، فقد ابعد لأن المتكلم لغيره لا يكون إلا متكلما، وإن كان يجوز ان يكون متكلما وان لم يكن مكلما فالمتكلم يجمع الامرين.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/394.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اقتصصت الحديث: رويته على جهته، وهو مني اقتصصت الأثر: إذا اتبعته، ومن ذلك اشتقاق القصاص في الجراح، ثم يدغم أحد الصادين في الآخر، فيقال: قص يقص، وجاء القرآن بهما في قوله: ﴿لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ﴾ و﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ والكلام معروف، والكليم: الذي يكلمك، ويقال للقصيدة: كلمة، يقال: تكلم هو، وكلم غيره، واشتهر موسى بأنه كليم الله، كما اشتهر إبراهيم بأنه خليل الله.
2. أجمل الله تعالى ذكر الرسل بعد تسمية بعضهم فقال: ﴿وَرُسُلًا﴾ أي: أرسلنا رسلاً ﴿قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ أي: حكينا لك أخبارهم كهود وصالح وشعيب وموسى وعيسى وغيرهم ممن ذكر الله في القرآن ﴿وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ لم نحك أخبارهم لك لما كان فيه من المصلحة.
3. ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ ختم المجمل في الآية بذكر موسى بالكلام على طريق العلم كما ختم الآية الأولى: بذكر داوود بالزبور على طريق العلم، فكان هذا حسنا في التقابل، والمراد: كلَّمَهُ بغير واسطة، وأكده بقوله: ﴿تَكْلِيمًا﴾ إزالة التوهم بأنه كلمه بواسطة.
4. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن في الرسل من لم يقص خبره علينا، ولذلك لا يقطع فيهم على عدد معلوم، وإن كان ورد أخبار في عددهم لكنها آحاد.
ب. أنه تعالى كلم موسى في وقته فتدل على حدوث الكلام، ولأنه خصه به، ولو كان قديمًا لما اختص به.
5. قراءة العامة ﴿وَرُسُلًا﴾ وعن أُبَيٍّ بن كعب وَرُسُلٌ) بالرفع على الاستئناف والابتداء.
6. سؤال وإشكال: لم نصب ﴿رُسُلًا﴾، ولم يخفض على العطف على ما قبله؟ والجواب: فيه أربعة أوجه:
أ. الأول: أن يحمل على معنى الذي بعده تقديره: وقصصنا رسلاً، كما تقول: رأيت زيدًا، وعمرًا أكرمته، وهو الاختيار عند الزجاج؛ لأنه أكثر في النظائر.
ب. الثاني: أن يحمل على معنى الفعل الأول للمقارنة؛ لأن معنى ﴿أَوْحَيْنَا﴾ معنى ﴿أَرْسَلْنَا﴾، كأنه قال أرسلناك والنبيين ورسلاً.
ج. الثالث: أن يكون عطفًا على الموضع كقولك: مررت بزيد وعمرًا.
د. الرابع: بنزع الصفة تقديره: وإلى رسل.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/154.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أجمل الله تعالى ذكر الرسل بعد تسمية بعضهم فقال: ﴿وَرُسُلًا﴾ أي: ورسلا آخرين ﴿قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ﴾:
أ. أي: ما حكينا لك أخبارهم، وعرفناك شأنهم وأمورهم، من قبل، قال بعضهم: قصهم عليه بالوحي في غير القرآن ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ ثم قصهم عليه من بعد في القرآن.
ب. وقال بعضهم: قصهم عليه من قبل هؤلاء بمكة في سورة الأنعام، وفي غيرها، لأن هذه السورة مدنية.
2. ﴿وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ هذا يدل على أن الله سبحانه أرسل رسلا كثيرة لم يذكرهم في القرآن، وإنما قص بعضهم على النبي لفضيلتهم على من لم يقصهم عليه.
3. ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ فائدته:
أ. أنه سبحانه كلم موسى بلا واسطة، إبانة له بذلك من سائر الأنبياء، لان جميعهم كلمهم الله سبحانه بواسطة الوحي.
ب. وقيل: إنما قال تكليما، ليعلم أن كلام الله عز ذكره من جنس هذا المعقول الذي يشتق من التكليم، بخلاف ما قاله المبطلون.
4. روي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما قرأ الآية التي قبل هذه، على الناس، قالت اليهود فيما بينهم: ذكر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم النبيين، ولم يبين لنا أمر موسى، فلما نزلت هذه الآية، وقرأها عليهم، قالوا: إن محمدا قد ذكره وفضله بالكلام عليهم.
5. ﴿رُسُلًا﴾ منصوب من وجهين، أحدهما: أن يكون منصوبا بفعل مضمر يفسره الذي ظهر: أي وقصصنا رسلا ﴿قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ﴾ كما تقول رأيت زيدا وعمرا أكرمته، أي: وأكرمت عمرا أكرمته، ويجوز أن ينصب ﴿رُسُلًا﴾ على معنى ﴿أَوْحَيْنَا﴾، لان معنى ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ أنا أرسلناك موحين إليك، وأرسلنا رسلا قد قصصناهم عليك، هذا قول الزجاج، وقال الفراء: إنه على تقدير إنا أوحينا إليك وإلى رسل قد قصصناهم عليك ﴿وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ﴾ فلما حذف إلى نصب الفعل، ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ﴾ منصوب على الحال، ويجوز أن يكون منصوبا على المدح على تقدير: أعني رسلا مبشرين.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/216.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ تأكيد كلّم بالمصدر يدلّ على أنه سمع كلام الله حقيقة.
2. روى أبو سليمان الدّمشقيّ، قال سمعت إسماعيل بن محمّد الصّفّار يقول: سمعت ثعلبا يقول: لولا أنّ الله تعالى أكّد الفعل بالمصدر، لجاز أن يكون كما يقول أحدنا للآخر: قد كلّمت لك فلانا، بمعنى: كتبت إليه رقعة، أو بعثت إليه رسولا، فلمّا قال تكليما، لم يكن إلا كلاما مسموعا من الله.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/500.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. انتصب قوله: ﴿رُسُلًا﴾ بمضمر يفسره قوله: ﴿قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ﴾ والمعنى أنه تعالى إنما ذكر أحوال بعض الأنبياء في القرآن، والأكثرون غير مذكورين على سبيل التفصيل.
2. ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ والمراد أنه بعث كل هؤلاء الأنبياء والرسل وخص موسى عليه السلام بالتكلم معه، ولم يلزم من تخصيص موسى عليه السلام بهذا التشريف الطعن في نبوّة سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكذلك لم يلزم من تخصيص موسى بإنزال التوراة عليه دفعة واحدة طعن فيمن أنزل الله عليه الكتاب لا على هذا الوجه، وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب أنهما قرءا ﴿وَكَلَّمَ اللهُ﴾ بالنصب، وقال بعضهم: وكلم الله معناه وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن وهذا تفسير باطل.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/268.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ يعني بمكة،﴿وَرُسُلًا﴾ منصوب بإضمار فعل، أي وأرسلنا رسلا، لأن معنى ﴿أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ﴾ وأرسلنا نوحا، وقيل: هو منصوب بفعل دل عليه.
2. ﴿قَصَصْنَاهُمْ﴾ أي وقصصنا رسلا، ومثله ما أنشد سيبويه:
çأصبحت لا أحمل السلاح ولا...أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به...وحدي وأخشى الرياح والمطراé
أي وأخشى الذئب، وفي حرف أبي (ورسل) بالرفع على تقدير ومنهم رسل.
3. ثم قيل: إن الله تعالى لما قص في كتابه بعض أسماء أنبيائه، ولم يذكر أسماء بعض، ولمن ذكر فضل على من لم يذكر، قالت اليهود: ذكر محمد الأنبياء ولم يذكر موسى، فنزلت ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ تكليما مصدر معناه التأكيد، يدل على بطلان من يقول: خلق لنفسه كلاما في شجرة فسمعه موسى، بل هو الكلام الحقيقي الذي يكون به المتكلم متكلما، قال النحاس: وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا، وأنه لا يجوز في قول الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطني أن يقول: قال قولا، فكذا لما قال: ﴿تَكْلِيمًا﴾ وجب أن يكون كلاما على الحقيقة من الكلام الذي يعقل، وقال وهب بن منبه: إن موسى عليه السلام قال: (يا رب بم اتخذتني كليما)؟ طلب العمل الذي أسعده الله به ليكثر منه، فقال الله تعالى له: أتذكر إذ ند من غنمك جدي فاتبعته أكثر النهار وأتعبك، ثم أخذته وقبلته وضممته إلى صدرك وقلت له: أتعبتني وأتعبت نفسك، ولم تغضب عليه، من أجل ذلك اتخذتك كليما.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/18.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَرُسُلًا﴾ منصوب بفعل مضمر يدل عليه ﴿أَوْحَيْنَا﴾ أي: وأرسلنا رسلا ﴿قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ وقيل: هو منصوب بفعل دلّ عليه ﴿قَصَصْنَاهُمْ﴾ أي: وقصصنا رسلا، ومثله ما أنشده سيبويه:
çأصبحت لا أحمل السّلاح ولا...أملك رأس البعير إن نفرا
والذّئب أخشاه إن مررت به...وحدي وأخشى الرّياح والمطراé
أي: وأخشى الذئب، وقرأ أبيّ: رسل بالرفع على تقدير: ومنهم رسل.
2. معنى: ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ أنه قصهم عليه من قبل هذه السورة، أو من قبل هذا اليوم، قيل: إنه لما قصّ الله في كتابه بعض أسماء أنبيائه ولم يذكر أسماء بعض قالت اليهود: ذكر محمد الأنبياء ولم يذكر موسى، فنزل: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ وقراءة الجمهور: برفع الاسم الشريف، على أن الله هو الذي كلم موسى، وقرأ النخعي، ويحيى بن وثاب: بنصب الاسم الشريف، على أن موسى هو الذي كلم الله سبحانه.
3. ﴿تَكْلِيمًا﴾ مصدر مؤكد، وفائدة التأكيد: دفع توهم كون التكليم مجازا، كما قال الفراء: إن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما بأيّ طريق؛ وقيل: ما لم يؤكد بالمصدر، فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام، قال النحاس: وأجمع النحويون: على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا.
__________
(1) فتح القدير: 1/621.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَرُسُلاً﴾ منصوب معطوف على (أَوْحَيْنَا) محذوف، أي: وأرسلنا رسلاً، أي: أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح وفلان وفلان، وآتيناك مثل ما آتينا فلانًا، وأرسلناك كما أرسلنا رسلاً قصصناهم عليك، ورسلاً لم نقصصهم عليك، فما للكفرة من اليهود وغيرهم يسألونك ما لم يعط هؤلاء.
2. ﴿قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ﴾ ذكرنا أخبارهم ﴿مِن قَبْلُ﴾ قبل هذا الوقت أو قبل هذه السورة في القرآن، كسورة الأنعام في مكَّة، قيل قصصناهم بالوحي في غير القرآن، ثمَّ قصصناهم في القرآن.
3. ﴿وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ جملة الرُّسل ثلاثمائة وثلاثة عشر، وجملة الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، ولفظ بعض أنَّه تعالى بعث ثمانمائة ألف نبيٍّ، أربع مائة ألف من بني إسرائيل، وأربعمائة ألف من سائر الناس، وزعم بعض أنَّ مقتضى هذا أنَّ ثمانمائة ألف كلُّهم رسل.
4. ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسىٰ تَكْلِيمًا﴾ مصدر مؤكِّد، والمصدر رافع للمجاز عن عامله وهو (كَلَّمَ)، لا عن باقي الكلام كالمسند إليه أو الإسناد، حتَّى لا يقبل حذف مضاف أو تأويلاً، فالكلام حقيقة، أي: كَلَّم مَلَكُ الله، أو خَلَقَ مِن خَلْقِه كلامًا حقيقًا، أو خَلَق في جسد موسى كلِّه أو بعضِه كلامًا حقيقيًّا، أو في الهواء كذلك، أو حيث شاء، والقرينة أنَّ الله لا يتَّصف بصفة الخلق، تقول: قتل زيد عمرًا قتلاً، فقتلاً يفيد أنَّ القتل حقيق لا ضرب وجيع، ولا يفيد أنَّ القاتل لا بدَّ زيد لجواز أن يكون غلامه لقرينة تنصب كقرينة الآية، وهو أنَّه تعالى لا يتَّصف بصفة الخلق، ولو لم ينصب قرينة على نفي أنَّه ضرب وجيع، وعلى ما ذكرت يحمل قول الفرَّاء: إنَّ العرب تسمِّي ما وصل إلى الإنسان كلامًا بأيِّ طريق وصل، ما لم يؤكَّد بالمصدر، فإن أُكِّد به لم يكن إلَّا حقيقة الكلام، قلت: أي فلا يقال: أراد الحائط أن يسقط إرادة، فكذا هنا لَمَّا أَكَّدَ (كَلَّمَ) بـ (تَكْلِيمًا) علمنا أنَّه كلام حقيق، إِلَّا أنَّه لم يتَّصف به الله بل غيره؛ فيقول الخصم: فأين الخصوصيَّة لموسى بالكلام إذا كان المعنى ما ذكرتم؟ فنقول: لم يقع خلق الكلام في الهواء أو نحوه مِمَّا ذكر على طريق الوحي إِلَّا له، لكن سيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم أوتي ما أوتي موسى وزيادة، فتكلَّمَ ما خَلَق الله فيه الكلامَ تكلُّمًا حقيقًا، فلا يرد عليه أنَّ التَّكَلُّمَ بمعنى خَلْقِ الكلامِ مجازٌ، فليس (كَلَّمَ) في الآية بمعنى خَلَقَ الكلامَ، بل بمعنى تكلَّمَ مخلوقُه، وهو الملَك مثلاً، لكن قد جاء تأكيد المجاز في قوله: بَكَى الخَزُّ من عَوْفٍ وأنكرَ جِلدَه وعجَّت عجيجًا من جُذَامَ المطارف، والمطارف نوع من الثياب، ويجاب بأنَّ البيت من المجاز الملحق بالحقيقة لتناسي التشبيه، حتَّى إنَّ طائفة من أهل البيان يعدُّون الاستعارة حقيقة لغويَّة، ولا شكَّ أنَّها مبنيَّة على تناسي التشبيه، وأمَّا نحو المسند إليه فإنَّما يرفع التجوُّز عنه بنحو العين والنفس.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/350.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ أي: في السور المكية ﴿وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ أي: لم نسمهم لك في القرآن، وقد أحصى بعض المدققين أنبياء اليهود والنصارى ورسلهم فوجد عددهم لا يتجاوز الخمسين، روى في عدتهم أحاديث تكلّم في أسانيدها، منها حديث أبي ذر: إن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، والرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر، صححه ابن حبان، وخالفه ابن الجوزيّ فذكره في (موضوعاته) واتهم به إبراهيم بن هاشم، وقد تكلم فيه غير واحد.
2. ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ يعني خاطبه مخاطبة من غير واسطة، لأن تأكيد (كلّم) بالمصدر يدلّ على تحقيق الكلام، وأن موسى عليه السلام سمع كلام الله بلا شك، لأن أفعال المجاز لا تؤكد بالمصادر، فلا يقال: أراد الحائط يسقط إرادة، وهذا رد على من يقول: إن الله خلق كلاما في محلّ، فسمع موسى ذلك الكلام، قال الفراء: العرب تسمي كل ما يوصل إلى الإنسان كلاما، بأي طريق وصل، لكن لا تحققه بالمصدر، وإذا حقق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام، فدل قوله تعالى: ﴿تَكْلِيمًا﴾ على أن موسى قد سمع كلام الله حقيقة من غير واسطة، قال بعضهم: كما أن الله تعالى خص موسى عليه السلام بالتكليم وشرفه به ولم يكن ذلك قادحا في نبوة غيره من الأنبياء، فكذلك إنزال التوراة عليه جملة واحدة لم يكن قادحا في نبوة من أنزل عليه كتابه منجما من الأنبياء، كذا في (اللباب)
3. يحسن في هذا المقام إيراد عقيدة السلف الكرام في مسألة الكلام، فإنها من أعظم مسائل الدين، وقد تحيرت فيها آراء أهل الأهواء من المتقدمين والمتأخرين، واضطربت فيها الأقوال، وكثرت بسببها الأهوال، وأثارت فتنا وجلبت محنا، وكم سجنت إماما، وبكت أقواما، وتشعبت فيها المذاهب، واختلفت فيها المشارب، ولم يثبت إلا قول أهل السنة والجماعة، المقتفين لأثر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وصحابته الكرام، فنقول: قال تقي الدين بن تيمية في كتابه إلى جماعة العارف عدي بن مسافر ما نصه: (ومن ذلك الاقتصاد في السنة واتباعها كما جاءت بلا زيادة ولا نقصان، مثل الكلام في القرآن وسائر الصفات، فإن مذهب سلف الأمة وأهل السنة: أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود، هكذا قال غير واحد من السلف، روي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار وكان من التابعين الأعيان قال: ما زلت أسمع الناس يقولون ذلك، القرآن الذي أنزله الله على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم، وهو كلام الله لا كلام غيره، وإن تلاه العباد وبلّغوه بحركاتهم وأصواتهم، فإن الكلام لمن قاله مبتدئا، لا لمن قاله مبلغا مؤديا، قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ﴾ [التوبة: 6]، وهذا القرآن في المصاحف كما قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج: 21 ـ 22]، وقال تعالى: ﴿يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة: 2 ـ 3]، وقال: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ [الواقعة: 77 ـ 78]، والقرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه، كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله، وإعراب الحروف هو من تمام الحروف، كما قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، وقال أبو بكر وعمر: حفظ إعراب القرآن أحبّ إلينا من حفظ بعض حروفه.
4. ثم قال: والتصديق بما ثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أن الله يتكلم بصوت وينادي آدم عليه السلام بصوت، إلى أمثال ذلك من الأحاديث، فهذه الجملة كان عليها سلف الأمة وأئمة السنة، وقال أئمة السنة: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، حيث تلي، وحيث كتب، فلا يقال لتلاوة العبد بالقرآن إنها مخلوقة، لأن ذلك يدخل فيه القرآن المنزل، ولا يقال غير مخلوقة، لأن ذلك يدخل فيه أفعال العباد، ولم يقل قط أحد من أئمة السلف: إن أصوات العباد بالقرآن قديمة، بل أنكروا على من قال: (لفظ العبد بالقرآن غير مخلوق) وأما من قال إن المداد قديم ـ فهذا من أجهل الناس وأبعدهم عن السنة، قال الله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [الكهف: 109]، فأخبر أن المداد يكتب به كلماته، وكذلك من قال: (ليس القرآن في المصحف، وإنما في المصحف مداد وورق وحكاية وعبارة) فهو مبتدع ضال، بل القرآن الذي أنزله الله على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هو ما بين الدفتين، والكلام في المصحف على الوجه الذي يعرفه الناس، له خاصة يمتاز بها عن سائر الأشياء، وكذلك من زاد على السنة فقال: إن ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة، مبتدع ضال، كمن قال إن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت ـ فإنه أيضا مبتدع منكر للسنة، وكذلك من زاد وقال: إن المداد قديم ـ فهو ضال، كمن قال ليس في المصاحف كلام الله، وأما من زاد على ذلك من الجهال الذين يقولون: إن الورق والجلد والوتد وقطعة من الحائط، كلام الله ـ فهو بمنزلة من يقول: ما تكلم الله بالقرآن ولا هو كلامه، هذا الغلو من جانب الإثبات يقابل التكذيب من جانب النفي، وكلاهما خارج عن السنة والجماعة، وكذلك إفراد الكلام في النقطة والشكلة بدعة، نفيا وإثباتا، وإنما حدثت هذه البدعة من مائة سنة أو أكثر بقليل، فإن من قال إن المداد الذي تنقط به الحروف وتشكل به قديم، فهو ضال جاهل، ومن قال إن إعراب حروف القرآن ليس من القرآن ـ فهو ضال مبتدع، بل الواجب أن يقال، هذا القرآن العربيّ هو كلام الله، وقد دخل في ذلك حروفه بإعرابها، كما دخلت معانيه، ويقال: وما بين اللوحين جميعه كلام الله، فإن كان المصحف منقوطا مشكولا أطلق على ما بين اللوحين جميعه أنه كلام الله، وإن كان غير منقوط ولا مشكول، كالمصاحف القديمة التي كتبها الصحابة، كان أيضا ما بين اللوحين هو كلام الله، فلا يجوز أن تلقى الفتنة بين المسلمين بأمر محدث ونزاع لفظيّ لا حقيقة له، ولا يجوز أن يحدث في الدين ما ليس منه.
5. قال في (العناية): (القراءة المشهورة في الآية رفع الجلالة الشريفة، وقرئ بنصبها في الشواذ)، قال الحافظ ابن كثير: روى الحافظ أبو بكر بن مردويه أن رجلا جاء إلى أبي بكر بن عياش فقال: سمعت رجلا يقرأ: وكلم الله موسى تكليما، فقال أبو بكر: ما قرأ هذا إلا كافر، قرأت على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثّاب، وقرأ يحيى ابن وثّاب على أبي عبد الرحمن السلميّ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلميّ على عليّ بن أبي طالب، وقرأ عليّ بن أبي طالب على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: وكلّم الله موسى تكليما، وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عيّاش،، على من قرأ كذلك، لأنه حرّف لفظ القرآن ومعناه، وكأن هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن الله كلم موسى عليه السلام، أو يكلم أحدا من خلقه، كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ: وكلم الله موسى تكليما، فقال له: يا ابن الخنا! كيف تصنع بقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ [الأعراف: 143] يعني أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/449.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ أي وأرسلنا غير هؤلاء رسلا آخرين قد قصصناهم عليك من قبل تنزيل هذه السورة أوحينا إليهم كما أوحينا إلى هؤلاء، وهم المسرودة أسماؤهم أو المبينة قصصهم في كل السور المكية، وأجمع الآيات لأسماء الأنبياء قوله تعالى في سورة الأنعام في سياق الكلام عن إبراهيم صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 84 ـ 86] وأجمع السور لقصصهم هود وطسم الشعراء، ومنهم هود وصالح وشعيب وهم من العرب.
2. ﴿وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ أي كالمرسلين إلى الأمم المجهول علمها وتاريخها عند قومك وعند أهل الكتاب المجاورين لبلادك، كأمم الشرق (الصين واليابان والهند)، وأمم بلاد الشمال (أوروبة) وأمم القسم الآخر من الأرض (أمريكة) وإنما لم يقص الله تعالى خبر الرسل الذين أرسلهم إلى أولئك الأقوام لأن حكمة ذكر الرسل وفوائد بيان قصصهم له صلّى الله عليه وآله وسلّم لا تتحقق بقصص أولئك المجهول حالهم وحال أممهم عند قومه وجيران بلاده من أهل الكتاب، وهذه الحكم والفوائد هي المشار إليها في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111]، وقوله: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: 120]، وقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص: 44 ـ 46]
3. فالعبرة والتثبيت والذكرى والاحتجاج على نبوته صلّى الله عليه وآله وسلّم كل ذلك يظهر في قصص من ذكرهم من الرسل دون من لم يذكرهم، وحسبنا العلم بأن الله تعالى أرسل الرسل من كل الأمم فكانت رحمته بهم عامة لا محصورة في شعب معين احتكرها لنفسه كما كان يزعم أهل الكتاب، غير مبالين بكونه لا يليق بحكمة الله ولا ينطبق على سعة رحمته، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل: 36]، وقال: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: 24] وهذه الحقيقة من حقائق العلم الإلهي والدين السماوي لم يكن يعلمها أهل الكتاب الذين يزعم مشاغبوهم أن القرآن مقتبس من كتبهم، وكم فيه من الحقائق ولكن طبع على قلوبهم فهم لا يعقلون، ولا نخوض في إحصاء الأنبياء والرسل فإنه لا يعلم إلا بوحي من الله تعالى ولم يبين الله ذلك في كتابه ولا رسوله فيما صح من الخبر عنه.
4. ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ خاصا ممتازا عن غيره من ضروب الوحي العام لأولئك النبيين، ولولا ذلكم لم يختلف التعبير، كما علمت من إيتاء داوود الزبور، وإن صح أن يسمى الوحي إليهم تكليما، والتكليم لهم وحيا، كما يفهم من قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: 51] والظاهر أن تكليم موسى كان من النوع الثاني وهو التكليم من وراء حجاب، وقد سماه وحيا في قوله تعالى: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾ [طه: 13]، أما حقيقة ذلك الوحي والتكليم فليس لنا أن نخوض فيه لأننا لم نكن من أهله، على أننا لا نعرف حقيقة كلام بعضنا مع بعض بواسطة الأصوات التي تجعل كل ذرة من الهواء متكيفة به، وهي أعم الوسائط وأظهرها، وأما الحجاب فحكمته حصر القوة الروحية والاستعداد بالتوجه إلى شيء واحد تتحد فيه همومها وأهواؤها المفترقة كما كان شأن موسى إذا رأى النار في الشجرة، وأما الرسول الذي يرسله الله فيوحي إلى النبي بإذنه ما يشاء فهو ملك الوحي المعبر عنه بالروح الأمين.
5. استدل بعضهم بتأكيد الفعل على كون تكليم الله لموسى لم يكن بواسطة الملك، يعنون أنه لو قال هنا كما قال في سورة البقرة: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ [البقرة: 253] ولم يزد عليه كلمة (تكليما) المؤكدة لجاز أن يكون التكليم مجازيا، فإن الفراء قال إن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر، فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام، وقال بعضهم: إن هذا التأكيد لا يمنع أن يكون التكليم نفسه مجازيا لأنه يمنع المجاز في الفعل لا في الإسناد، بل يجوز أن يسند الكلام المؤكد بمثله إلى المبلغ عن المتكلم كما يبلغ عن الملك حاجبه أو وزيره وعن المرأة المحجبة زوجها أو ولدها، أقول ومنه إسناد الكلام إلى الترجمان إذ المقصد من التكليم توجيه الخطاب إلى المخاطب ولو بواسطة الترجمان أو غيره، والمقصد من الكلام معناه، إلا أن يكون رسالة مقصودة لذاتها، ولكن نقل عنهم تأكيد االفعل المستعمل في الحقيقة دون المجاز كقول هند بنت النعمان في زوجها روح بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان:
çبكى الخز من روح وأنكر جلده...وعجت عجيجا من جذام المطارفé
فأكدت (عجت) مع العلم بأنه مجاز لأن المطارف (جمع مطرف بالكسر والضم وهو رداء من خزله أعلام) لا تعج (والعجيج الصياح)
__________
(1) تفسير المنار: 6/57.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ أي وأرسلنا غير هؤلاء رسلا آخرين قد قصصناهم عليك من قبل تنزيل هذه السورة، وهم الذين ذكرت أسماؤهم في السور المكية كقوله في سورة الأنعام في سياق الكلام عن إبراهيم ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾، وأجمع السور لقصص الأنبياء هود والشعراء.
2. ﴿وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ كالذين أرسلوا إلى الأمم المجهول تاريخها عند قومك وعند أهل الكتاب المجاورين لبلادك كالصين واليابان والهند وأوروبا وأمريقا، وإنما لم يقص الله علينا خبرهم لأن القصد من القصص العبرة والتثبيت والذكرى والاحتجاج على نبوته صلّى الله عليه وآله وسلّم كما أشار إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، وقوله: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ وكل هذا يثبت بذكر من قصهم الله علينا من الرسل.
3. علينا أن نعلم أن الله أرسل رسلا في كل الأمم فكانت رحمته بهم عامة لا مختصة بشعب معين كما يزعم أهل الكتاب، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾، وقوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ وهذه حقيقة دل عليها الدين السماويّ ولم يكن يعلمها أهل الكتاب الذين يزعمون أن القرآن مقتبس من كتبهم، وكم فيه من حقائق جلّاها للناظرين بجميل بيانه، واهتدى العلم الصحيح بعد قرون خلت إلى معرفتها، وما كان العقل وحده يكشف عنها لولا أن هدى إليها الكتاب الكريم.
4. ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ خاصا له ميزه عن غيره من ضروب الوحى العام لأولئك النبيين، وليس لنا أن نخوض في معرفة حقيقته، لأنا لم نكن من أهله، على أنا لا نعرف حقيقة كلام بعضنا بعضا، وكيف تحمل ذرّات الهواء الأصوات إلى الآذان فضلا عن أن نعرف حقيقة كلام الباري، والوحى إلى الأنبياء يسمى تكليما، والتكليم لهم يسمى وحيا كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾، والحكمة في الحجاب الاستعداد بالتوجه إلى شيء واحد تتحد فيه هموم النفس وأهواؤها المتفرقة كما كان شأن موسى إذ رأى النار في الشجرة والرسول الذي يرسله الله فيوحى بإذنه ما يشاء هو ملك الوحى المعبر عنه بالروح الأمين.
__________
(1) تفسير المراغي 6/22.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. فهو إذن موكب واحد يتراءى على طريق التاريخ البشري الموصول، ورسالة واحدة بهدى واحد للإنذار والتبشير.. موكب واحد يضم هذه الصفوة المختارة من بين البشر: نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، وعيسى، وأيوب، ويونس، وهارون، وسليمان، وداوود وموسى.. وغيرهم ممن قصهم الله على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم في القرآن، وممن لم يقصصهم عليه.
2. موكب من شتى الأقوام والأجناس، وشتى البقاع والأرضين، في شتى الآونة والأزمان، لا يفرقهم نسب ولا جنس، ولا أرض ولا وطن، ولا زمن ولا بيئة، كلهم آت من ذلك المصدر الكريم، وكلهم يحمل ذلك النور الهادي، وكلهم يؤدي الإنذار والتبشير، وكلهم يحاول أن يأخذ بزمام القافلة البشرية إلى ذلك النور.. سواء منهم من جاء لعشيرة، ومن جاء لقوم، ومن جاء لمدينة ومن جاء لقطر.. ثم من جاء للناس أجمعين: محمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خاتم النبيين.
3. كلهم تلقى الوحي من الله، فما جاء بشيء من عنده، وإذا كان الله قد كلم موسى تكليما فهو لون من الوحي لا يعرف أحد كيف كان يتم، لأن القرآن ـ وهو المصدر الوحيد الصحيح الذي لا يرقى الشك إلى صحته ـ لم يفصل لنا في ذلك شيئا، فلا نعلم إلا أنه كان كلاما، ولكن ما طبيعته؟ كيف تم؟ بأية حاسة أو قوة كان موسى يتلقاه؟. كل ذلك غيب من الغيب لم يحدثنا عنه القرآن، وليس وراء القرآن ـ في هذا الباب ـ إلا أساطير لا تستند إلى برهان.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/806.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ إشارة إلى أن ما تلقّى موسى من كلمات ربّه لم يكن عن وحي ينقل إليه كلمات الله، كما كان يفعل جبريل مع أنبياء الله، وإنما كان تلقيا مباشرا من الله سبحانه: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ وفي تأكيد هذا الخبر ما يدفع أي احتمال لمجاز، بل إنّ هذا الذي تلقاه موسى من ربّه، كان مما كلّمه الله به، وكتبه له في الألواح.
2. وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 145] وكان ذلك في أربعين ليلة هي التي انعزل فيها موسى عن قومه، ليستقبل ما تلقاه من ربّه.. وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ [الأعراف: 142]
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1013.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ يعني في آي القرآن مثل: هود، وصالح، وشعيب، وزكرياء، ويحيى، وإلياس، واليسع، ولوط، وتبّع.
2. ﴿وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ لم يذكرهم الله تعالى في القرآن، فمنهم من لم يرد ذكره في السنّة: مثل حنظلة بن صفوان نبيء أصحاب الرسّ، ومثل بعض حكماء اليونان عند بعض علماء الحكمة، قال السهروردي في (حكمة الإشراق): (منهم أهل السفارة)، ومنهم من ذكرته السنّة: مثل خالد بن سنان العبسي.
3. إنّما ذكر الله تعالى هنا الأنبياء الذين اشتهروا عند بني إسرائيل لأنّ المقصود محاجّتهم، وإنّما ترك الله أن يقصّ على النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أسماء كثير من الرسل للاكتفاء بمن قصّهم عليه، لأنّ المذكورين هم أعظم الرسل والأنبياء قصصا ذات عبر.
4. ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ غيّر الأسلوب فعدل عن العطف إلى ذكر فعل آخر، لأنّ لهذا النّوع من الوحي مزيد أهمّيّة، وهو مع تلك المزيّة ليس إنزال كتاب من السماء، فإذا لم تكن عبرة إلّا بإنزال كتاب من السماء حسب اقتراحهم، فقد بطل أيضا ما عدا الكلمات العشر المنزّلة في الألواح على موسى عليه السّلام.
5. وكلام الله تعالى صفة مستقلّة عندنا (2)، وهي المتعلّقة بإبلاغ مراد الله إلى الملائكة والرسل، وقد تواتر ذلك في كلام الأنبياء والرسل تواترا ثبت عند جميع الملّيّين، فكلام الله صفة له ثبتت بالشرع لا يدلّ عليها الدليل العقليّ على التحقيق إذ لا تدلّ الأدلّة العقلية على أنّ الله يجب له إبلاغ مراده الناس بل يجوز أن يوجد الموجودات ثم يتركها وشأنها، فلا يتعلّق علمه بحملها على ارتكاب حسن الأفعال وتجنّب قبائحها، ألا ترى أنّه خلق العجماوات فما أمرها ولا نهى، فلو ترك النّاس فوضى كالحيوان لما استحال ذلك، وأنّه إذا أراد حمل المخلوقات على شيء يريده فطرها على ذلك فانساقت إليه بجبلّاتها، كما فطر النحل على إنتاج العسل، والشجر على الإثمار، ولو شاء لحمل النّاس أيضا على جبلّة لا يعدونها، غير أنّنا إذ قد علمنا أنّه عالم، وأنّه حكيم، والعلم يقتضي انكشاف حقائق الأشياء على ما هي عليه عنده، فهو إذ يعلم حسن الأفعال وقبحها، يريد حصول المنافع وانتفاء المضارّ، ويرضى بالأولى، ويكره الثّانية، وإذ اقتضت حكمته وإرادته أن جعل البشر قابلا للتعلّم والصلاح، وجعل عقول البشر صالحة لبلوغ غايات الخير، وغايات الشرّ، والتفنّن فيهما، بخلاف الحيوان الذي يبلغ فيما جبل عليه من خير أو شرّ إلى غاية فطر عليها لا يعدوها، فكان من المتوقّع طغيان الشرّ على الخير بعمل فريق الأشرار من البشر كان من مقتضى الحكمة أن يحمل النّاس على فعل الخير الذي يرضاه، وترك الشرّ الذي يكرهه، وحملهم على هذا قد يحصل بخلق أفاضل النّاس وجبلهم على الصلاح والخير، فيكونون دعاة للبشر، لكنّ حكمة الله وفضله اقتضى أن يخلق الصالحين القابلين للخير، وأن يعينهم على بلوغ ما جبلوا عليه بإرشاده وهديه، فخلق النّفوس القابلة للنبوّة والرسالة وأمدّها بالإرشاد الدالّ على مراده المعبّر عنه بالوحي، كما اقتضاه قوله تعالى: ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124] فأثبت رسالة وتهيئة المرسل لقبولها ومن هنا ثبتت صفة الكلام، فعلمنا بأخبار الشريعة المتواترة أنّ الله أراد من البشر الصلاح وأمرهم به، وأن أمره بذلك بلغ إلى البشر في عصور، كثيرة وذلك يدلّ على أنّ الله يرضى بعض أعمال البشر ولا يرضى بعضها وأنّ ذلك يسمّى كلاما نفسيا، وهو أزلي.
6. ثمّ إنّ حقيقة صفة الكلام يحتمل أن تكون من متعلّقات صفة العلم، أو من متعلّقات صفة الإرادة، أو صفة مستقلّة متميّزة عن الصفتين الأخريين؛ فمنهم من يقول: علم حاجة النّاس إلى الإرشاد فأرشدهم، أو أراد هدي الناس فأرشدهم، ونحن نقول: إنّ الإلهية تقتضي ثبوت صفات الكمال الّتي منها الرضا والكراهيّة والأمر والنهي للبشر أو الملائكة، فثبتت صفة مستقلّة هي صفة الكلام النفسي؛ وكلّ ذلك متقارب، وتفصيله في علم الكلام.
7. أمّا تكليم الله تعالى بعض عباده من الملائكة أو البشر فهو إيجاد ما يعرف منه الملك أو الرسول أنّ الله يأمر أو ينهى أو يخبر، فالتكليم تعلّق لصفة الكلام بالمخاطب على جعل الكلام صفة مستقلّة، أو تعلّق العلم بإيصال المعلوم إلى المخاطب، أو تعلّق الإرادة بإبلاغ المراد إلى المخاطب، فالأشاعرة قالوا: تكليم الله عبده هو أن يخلق للعبد إدراكا من جهة السمع يتحصّل به العلم بكلام الله دون حروف ولا أصوات، وقد ورد تمثيله بأنّ موسى سمع مثل الرعد علم منه مدلول الكلام النفسي، قلت: وقد مثّله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحديث الصحيح عن أبي هريرة (أنّ الله تعالى إذا قضى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنّه سلسلة على صفوان فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربّكم، قالوا للّذي قال: ﴿الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾، فعلى هذا القول لا يلزم أن يكون المسموع للرسول أو الملك حروفا وأصواتا بل هو علم يحصل له من جهة سمعه يتّصل بكلام الله، وهو تعلّق من تعلّقات صفة الكلام النفسي بالمكلّم فيما لا يزال، فذلك التعلّق حادث لا محالة كتعلّق الإرادة، وقالت المعتزلة: يخلق الله حروفا وأصواتا بلغة الرسول فيسمعها الرسول، فيعلم أنّ ذلك من عند الله، بعلم يجده في نفسه، يعلم به أنّ ذلك ورد إليه من قبل الله، إلّا أنّه ليس بواسطة الملك، فهم يفسّرونه بمثل ما نفسّر به نحن نزول القرآن؛ فإسناد الكلام إلى الله مجاز في الإسناد، على قولهم، لأنّ الله منزّه عن الحروف والأصوات، والكلام حقيقة حروف وأصوات، وهذه سفسطة في الدليل لأنّه لا يقول أحد بأنّ الحروف والأصوات تتّصف بها الذات العليّة، وهو عندنا وعندهم غير الوحي الذي يقع في قلب الرسول، وغير التبليغ الذي يكون بواسطة جبريل، وهو المشار إليه بقوله تعالى: ﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ [الشورى: 51]
8. أمّا كلام الله الوارد للرسول بواسطة الملك وهو المعبّر عنه بالقرآن وبالتّوراة والإنجيل وبالزّبور: فتلك ألفاظ وحروف وأصوات يعلّمها الله للملك بكيفية لا نعلمها، يعلم بها الملك أنّ الله يدلّ، بالألفاظ المخصوصة الملقاة للملك، على مدلولات تلك الألفاظ فيلقيها الملك على الرسول كما هي قال تعالى: ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ﴾ [الشورى: 51]، وقال: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: 193 ـ 195]، وهذا لا يمتري في حدوثه من له نصيب من العلم في الدّين، ولكن أمسك بعض أئمّة الإسلام عن التصريح بحدوثه، أو بكونه مخلوقا، في مجالس المناظرة التي غشيتها العامّة، أو ظلمة المكابرة، والتحفّز إلى النبز والأذى: دفعا للإيهام، وإبقاء على النسبة إلى الإسلام، وتنصّلا من غوغاء الطعام، فرحم الله نفوسا فتنت، وأجسادا أوجعت، وأفواها سكتت، والخير أرادوا، سواء اقتصدوا أم زادوا، والله حسيب الذين ألّبوا عليهم وجمعوا، وأغروا بهم وبئس ما صنعوا.
9. ﴿تَكْلِيمًا﴾ مصدر للتوكيد، والتوكيد بالمصدر يرجع إلى تأكيد النسبة وتحقيقها مثل (قد) و(إنّ)، ولا يقصد به رفع احتمال المجاز، ولذلك أكّدت العرب بالمصدر أفعالا لم تستعمل إلّا مجازا كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ فإنّه أراد أنّه يطهّرهم الطهارة المعنوية، أي الكمال النفسي، فلم يفد التأكيد رفع المجاز، وقالت هند بنت النعمان بن بشير تذمّ زوجها روح بن زنباع:
çبكى الخزّ من روح وأنكر جلده...وعجّت عجيجا من جذام المطارفé
وليس العجيج إلّا مجازا، فالمصدر يؤكّد، أي يحقّق حصول الفعل الموكّد على ما هو عليه من المعنى قبل التّأكيد، فمعنى قوله: ﴿تَكْلِيمًا﴾ هنا: أنّ موسى سمع كلاما من عند الله، بحيث لا يحتمل أنّ الله أرسل إليه جبريل بكلام، أو أوحى إليه في نفسه، وأمّا كيفية صدور هذا الكلام عن جانب الله فغرض آخر هو مجال للنظر بين الفرق، ولذلك فاحتجاج كثير من الأشاعرة بهذه الآية على كون الكلام الّذي سمعه موسى الصفة الذاتية القائمة بالله تعالى احتجاج ضعيف، وقد حكى ابن عرفة أنّ المازري قال في (شرح التلقين): إنّ هذه الآية حجّة على المعتزلة في قولهم: إنّ الله لم يكلّم موسى مباشرة بل بواسطة خلق الكلام لأنّه أكّده بالمصدر، وأنّ ابن عبد السلام التّونسي، شيخ ابن عرفة، ردّه بأنّ التأكيد بالمصدر لإزالة الشكّ عن الحديث لا عن المحدّث عنه، وتعقّبه ابن عرفة بما يؤول إلى تأييد ردّ ابن عبد السلام.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/318.
(2) يقصد الأشاعرة
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ هذا بيان إجمالى يقرر أن الله تعالى أرسل رسلا كثيرة، قد قص بعضهم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والآخر لم يقصه، والقص تتبع الأثر يقال قصصت أثره، ثم أطلق على الأخبار المتتابعة، ونرى هنا أن (قص) متعدية، مفعولها المذكور من أخبارهم، والمعنى على هذا في النص تتبعنا آثارهم وأخبارهم التي يكون في ذكرها عبرة لأولى الألباب، وليكون ضرب الأمثال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في صبرهم، وإيذاء أقوامهم لهم، وإن الرسل الذين قصهم الله تعالى على نبيه من قبل كان في السور المكية، فإنها مملوءة بأخبارهم وفيه ذكرى النبوات الأولى السابقة على نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإن أكثر هؤلاء الذين قص الله تعالى أخبارهم ممن كانوا في البلاد العربية أو يجاورونها، أو كانت له صلة بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في نسب، أو كان الذين يدعون اتباعهم يجادلون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويمارون في دعوته.
2. وليست النبوة مقصورة في هؤلاء، إنما هناك نبوات ورسالات أخرى كانت في الأمم البعيدة مثل الصين والهند، وغيرها من الأراضي التي سكنها أقوام كثيرون، وليس لنا إلا أن نفرض أن رسلا بعثوا إلى هؤلاء الأقوام؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة] ولا شك أن تركهم من غير نبي مبعوث ترك لهم سدى، وذلك ما نفى الله تعالى في استنكار أن يقع، وقد قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر]
3. ولذلك قال تعالى في هذا النص الكريم الذى نتكلم في معناه ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ﴾ ونصبت (رسلا) على الاشتغال أي نصبت بفعل قد تضمن معناه الفعل الذى ولى المنصوب، والمعنى قصصنا رسلا من قبل: ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ﴾ ويكون الابتداء بذكر الرسل والاهتمام بهم لأنهم المقصودون، وأخبارهم وقصصهم جاء تبعا لهم.
4. وختم الله النص بقوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ هذا تخصيص لموسى عليه السلام بالذكر، ولم يذكر في ضمن من ذكروا من السابقين؛ وذلك لأنه هو الذى نزلت عليه التوراة التي كانت شريعة لمن جاء بعده، ولأن اليهود الذين جحدوا بآيات الله كانوا يدعون الأخذ بشريعته، ولأنه نزل به اختبار شديد بسبب بنى إسرائيل الذين كانوا محل رسالته، وأخيرا لأنه اختص من بين المذكورين بأن الله تعالى كلمه، وقد جاء الصريح بأنه كلمه في هذا النص، وفى غيره ومن ذلك قوله تعالى في أول سورة طه: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾ [طه]
5. إن هذا يدل على أن الله تعالى متصف بصفة الكلام، والمعتزلة من الفرق الإسلامية ينكرون نسبة صفة الكلام لله تعالى، ويذهب فرط غلو بعضهم إلى أن يفسروا قوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ بأنه كلم من الكلم لا من الكلام، أي أن الله تعالى اختبر موسى عليه السلام اختبارات شديدة كانت كالكلام والجروح وتلك مغالاة في تفسير القرآن الكريم بالمذهبية، وقد أنكره الزمخشري ـ وهو منهم ـ وسماه من بدع التفاسير، والحق أن كلم من الكلام، وقد أكد تكليم الله تعالى لموسى بالمصدر، والظاهر من الكلام إذا أكد، كان غير قابل للمجاز ولا للتأويل، وأنه يجب تفسير القرآن بظواهره، وخصوصا الظواهر المؤكدة ولا تطغى الآراء المذهبية على المعاني القرآنية، فالقرآن منبع الحق، ونور المتقين.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1967.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾، بعد أن ذكر سبحانه جملة من أسماء الرسل في الآية السابقة قال لنبيه الأكرم: وهناك أيضا غير هؤلاء من الرسل قصصنا عليك البعض منهم قبل تنزيل هذه السورة، والبعض الآخر لم نقصصهم عليك.. وجاء في تفسير المنار أن أجمع الآيات لأسماء الأنبياء الآية 84 من سورة الانعام: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾، ومنهم هود وصالح وشعيب، وهم من العرب)
2. قال سبحانه: ﴿وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ دون أن يشير إلى عدد الذين لم يذكرهم لنبيه، ولكن أهل الفضول أبوا إلا الإحصاء، وهم فيه بين إفراط وتفريط، فمن قائل: ثلاثمائة وثلاثة عشر، وقائل: ألف ألف وأربعمائة وأربعة وعشرون ألفا، وثالث: ثمانية آلاف نصفهم من بني إسرائيل، ورابع: مائة وأربعة وعشرون ألفا، وكل هذه الأقوال وغيرها رجم بالغيب، والصحيح ان الله أعلم بعدتهم وهويتهم.
3. سؤال وإشكال: هنا تساؤل يعرض لكل إنسان، وهو: هل الأنبياء كلهم شرقيون، ولا غربي واحد منهم؟، وإذا كانوا كلهم من الشرق، فهل فيهم من الصين واليابان والهند، وما إليها من بلاد الشرق الأقصى؟ ثم على فرض ان جميع الأنبياء شرقيون، فكيف تجمع بين هذا، وبين المبدأ القائل: ان الله لا يترك الناس سدى، وان حكمته ورحمته تقتضي أن يرسل اليهم جميعا رسلا ﴿مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ يذكرونهم ويبصرونهم لئلا يكون لهم على الله حجة؟ وهل يقبل هذا المبدأ التخصيص بشعب، دون شعب، وبجنس، دون جنس؟ والجواب: أن هذا المبدأ الذي يقول: أن الله لا يترك الناس سدى، وانه لا بد أن يلقي الحجة عليهم قبل الحساب والعقاب هو مبدأ عام لا يقبل التخصيص بأرض شرقية، ولا غربية، ولا بجنس أبيض أو أصفر أو أسود.. ولكن الحجة لا تنحصر بوجود النبي بذاته في كل بلد، وفي كل جيل، بل تكون به، أو بكتاب منزل، أو بشريعة إلهية يقوم عليها نواب عن النبي، حتى إذا توفاه الله بقيت الحجة من بعده قائمة بين الناس، قال أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة الأولى من نهج البلاغة: (لم يخل سبحانه خلقه من نبي مرسل، أو كتاب منزل، أو حجة لازمة، أو محجة قائمة)، والحجة النائب عن النبي، والمحجة الشريعة التي أتى بها من عند الله، فكل واحد من هذه الأربعة منفردا أو منضما إلى نظيره تقوم به الحجة لله على الناس، وبهذا نجد تفسير الآية 36 من سورة النحل: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾، والآية 35 من سورة فاطر: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إلا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾، والآية 41 من النساء: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾، فالمراد بالرسول في الآية الأولى، وبالنذير في الثانية، وبالشهيد في الثالثة: واحد من الأربعة: الرسول بشخصه أو نائبه أو الكتاب المنزل أو الشريعة القائمة، ومعلوم ان الثلاثة الأخيرة تنتهي إلى النبي، ولهذا صح اسناد الشهادة وما إليها إلى النبي.
4. سؤال وإشكال: وهنا سؤال يفرض نفسه، وهو: لماذا لم تذكر العقل مع ما ذكرت من الحجج، مع أن الله يحتج به كما يحتج بالنبي؟ والجواب: أن العقل حجة ما في ذلك ريب، ولكنه حجة مستقلة في معرفة وجود الله، أما فيما عداها كمعرفة اليوم الآخر، وحلال الله وحرامه فانه يحتاج إلى موقظ ومنبه يرشده إليها، ويرسم له المنهج الصحيح لإدراكها، فوظيفة العقل في هذا الميدان الذي نحن بصدده هي أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول من موجبات الإيمان ودلائل الهدى إلى خير الدنيا والآخرة، ومتى فهم عن الرسول أقر وأذعن من غير تردد.
5. سؤال وإشكال: وبعد هذا التمهيد الذي لا بد منه لمعرفة موضوعنا نعود إلى السؤال: هل كل الأنبياء شرقيون؟ والجواب: كلا، وإذا لم تصل إلينا أخبار المرسلين لأمم الغرب، وبعض أمم الشرق فليس معنى هذا ان الله لم يرسل اليهم أحدا منهم.. وأيضا ليس من الضروري لالقاء الحجة على أهل الغرب أن يكون الرسول منهم وفيهم، بل قد يكون شرقيا، ومع ذلك تعم رسالته الشرق والغرب، ويكون التبليغ بواسطة خلفائه والمندوبين عنه أو عنهم، كما هو الشأن في محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي خاطبه الله بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سبأ: 28]، وبقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107] وقد أشارت بعض الكتب الدينية الموغلة في القدم إلى أن رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عامة وانها رحمة للعالمين، وفوق ذلك ذكرت اسم أبي لهب بالحرف ونصبه العداء لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال عبد الحق فديارتي في كتاب محمد في الأسفار الدينية العالمية: (ان اسم الرسول العربي مكتوب بلفظه العربي احمد في (السامافيدا) من كتب البراهمة، وقد ورد في الفقرة السادسة والفقرة الثامنة من الجزء الثاني، ونصها ان أحمد تلقى الشريعة من ربه، وهي مملوءة بالحكمة.. وان وصف الكعبة ثابت في كتاب (الآثار فافيدا) وانه قد جاء في كتاب (زندافستا) الذي اشتهر باسم الكتاب المقدس في المجوسية، جاء الإخبار عن نبي يوصف بأنه رحمة للعالمين يدعو إلى إله واحد لم يكن له كفؤا أحد، ويتصدى له عدو يسمى أبو لهب)، ومحال أن يصدر هذا الإخبار من غير الخالق.. انه وحي من الله إلى نبي من أنبيائه، ما في ذلك ريب.. وإلا فمن الذي يتنبأ ويصدق في نبوته انه بعد آلاف السنين أو مئاتها يوجد رجل يسمى أحمد، ويدعو إلى عبادة الواحد الأحد، ويتصدى له عدو، اسمه أبو لهب؟. ان في هذا الاخبار دلالة واضحة صادقة على أمرين:
أ. الأول: صدق محمد في نبوته، وعموم رسالته.
ب. الثاني: ان الله سبحانه قد أرسل في القديم البعيد أنبياء لم نسمع بهم ولا بقصصهم، ثم ما يدرينا ان الذين نقرأ أو نسمع عنهم باسم الحكماء كانوا من الأنبياء، وان تعاليمهم كلها أو جلها قد درست أو حرفت؟
6. وبعد، فإن بعثة الأنبياء للشرق والغرب موضوع هام، ويتسع لكتاب مستقل، أما هذه المناسبة، وهي تفسير قوله تعالى: ﴿وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ فإنها لا تتسع لأكثر مما ذكرنا، وربما تجاوزنا، ونرجو الله سبحانه أن يتيح لهذا الموضوع العلمي النافع من يتمتع بالعلم والصبر على البحث والتنقيب.
7. ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾، لم يذكر الله سبحانه موسى مع من ذكر من الأنبياء في الآية، وأفرد له هذه الجملة، لأنه تعالى قد خصه بالتكليم من دونهم، مع العلم ان الجميع قد تلقوا كلامه جل وعلا، ولكن لتلقي لهذا الكلام صورا ذكرها جلت كلمته في الآية 51 من الشورى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إلا وَحْيًا أو مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أو يُرْسِلَ رَسُولًا﴾.. اذن تكلم موسى كان من وراء حجاب.. ولكن لا يعلم أحد طبيعة هذا الحجاب، وكيف تم، وقد سكت الله عن ذلك، فنسكت نحن عما سكت الله عنه، وعلى أية حال فإن تخصيص موسى بالتكليم لا ينقص من مكانة سائر الأنبياء، ولا يدل على انه أفضل وأكمل، كلا، فإن إرسال الروح الأمين إلى خاتم النبيين هو أعلى المراتب وأكملها.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/493.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ قال في (الكشاف): (﴿رُسُلًا﴾ نصب بمضمر في معنى ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ وهو: أرسلنا ونبأنا وما أشبه ذلك، أو بما فسره قصصنا) يعنى: أنه من الاشتغال، وفي كتاب (إعراب القرآن للدرويش) لم يذكر إلا الوجه الأول قال: (تقديره: وآتينا)
2. ﴿قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ﴾ أي أخبرناك بهم، وبقصة رسالتهم.
3. ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ بلا واسطة مبلغ عن الله من الملائكة، بل خاطبه بلا واسطة خطاباً موجهاً إليه، وهذا الفارق بينه وبين غيره، وليس في الآية دلالة على الكلام النفسي الذي تثبته الأشاعرة وتجعله من الصفات، وقوله تعالى: ﴿تَكْلِيمًا﴾ مصدر مؤكد للتكليم حقيقة وبدون واسطة مبلغ.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/214.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وهكذا أجمل الله لرسوله ـ بعد ذلك ـ قصة الرسالات بين رسل لم يحدثه الله عنهم وآخرين حدّثه عنهم، ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ لأن الكتاب ليس كتاب تاريخ عادي يستعرض كل الوقائع والأشخاص والمواقف، بل هو كتاب هداية وإرشاد وتوجيه، يأخذ من التاريخ في وقائعه وأشخاصه ما يتصل بذلك الهدف، ويترك ما عدا ذلك، وأفرد موسى بالذكر، وأشار إلى أن الله قد كلّمه بشكل مباشر، بخلاف الأنبياء الذين كلمهم عن طريق الوحي.
2. ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ لأن هناك حكمة في هذا الأمر، فيما يعلمه الله من مصلحة الرسالات من خلال مواجهة الرسل للتحديات الضاغطة عليهم في حياتهم، وقد كثر الحديث عن شخصية موسى في القرآن، لأنه من الشخصيات النبوية المتحركة التي كانت أدوارها تضج بالحركة والحياة، من خلال ما تحمله شخصيته من القوة والحيوية والامتداد، وما يتحرك به جوّه البشري من مواقف وتحديات وأوضاع معقّدة في نطاق دوره، وفي نطاق الأدوار اللاحقة له من بعده.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/546.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تبيّن الآية الكريمة أنّ الوحي لم يقتصر نزوله على هؤلاء الأنبياء، بل نزل على أنبياء آخرين حكى الله قصصهم للنّبي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم من قبل، وأنبياء لم يحك الله قصصهم، وكل هؤلاء الأنبياء أرسلهم الله إلى خلقه، وأنزل عليهم الوحي من عنده: ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾
2. تبيّن هذه الآية في آخرها قضية مهمّة جدّا، وهي أنّ الله قد كلم موسى بدل أن ينزل عليه الوحي، فتقول: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/537.
143. الرسل والبشارة والإنذار والحجج
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈143⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 165]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ فيقولوا: ما أرسلت إلينا رسولا(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٦٩٣.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ﴾ بالجنة، ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾ من النار؛ ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ فيقولوا يوم القيامة: لم يأتنا لك رسول، ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ حكم إرسال الأنبياء إلى الناس(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢٣.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ أخبر أنه بعث الرسل بالبشارة في العاقبة لمن أطاعه، والإنذار لمن عصاه؛ فهذا ليعلم أن كل أمر لا عاقبة له فهو عبث، ليس من الحكمة، وأن الذي دعا الرسلُ الخلق إليه إنما دعوا لأمر له عاقبة؛ إذ في عقل كل أحد أن كل أمر لا عاقبة له ليس بحكمة؛ فهذا معنى قوله: ﴿مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ مبشرين، لمن أطاع الله بالجنة، ومنذرين لمن عصاه بالنار.
2. قوله عز وجل: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ﴾، يحتمل هذا وجهين:
أ. يحتمل: لئلا يكون للناس على الله تعالى الاحتجاج بأنه لم يرسل الرسل إلينا، وإن لم يكن لهم في ـ الحقيقة ـ عند الله تعالى ذلك؛ فيقولوا: ﴿لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾
ب. ويحتمل قوله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ حقيقة الحجة، لكن ذلك إنما يكون في العبادات والشرائع التي سبيل معرفتها السمع لا العقل، وأما الدِّين فإن سبيل لزومه بالعقل؛ فلا يكون لهم في ذلك على الله حجة؛ إذ في خلقة كل أحد من الدلائل ما لو تأمل وتفكر فيها لدلته على هيبته، وعلى وحدانيته وربوبيته؛ لكن بعث الرسل لقطع الاحتجاج لهم عنه، وإن لم تكن لهم الحجة، وإن كان على حقيقة الحجة فهو في العبادات والشرائع؛ فبعث الرسل على قطع الحجة لهم.
3. قوله عز وجل: ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ أي: لا يعجزه شيء عن إعزاز من أراد أن يعزه، ولا على إذلال من أراد إذلاله، ﴿حَكِيمًا﴾: يعرف وضع كل شيء موضعه، وقد ذكرنا تأويله في غير موضع.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٢١.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. نصب (رسلا) على القطع من أسماء الأنبياء الذين ذكر أسماءهم (مبشرين) نصب على الحال، والتقدير أرسلت هؤلاء الأنبياء رسلا إلى خلقي وعبادي مبشرين بثوابي من أطاعني وصدق رسلي (ومنذرين) يعني مخوفين من عقابي من عصاني وخالف أمرى، وكذب رسلي.
2. ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ وقال أبو علي: ذلك مخصوص بمن علم الله من حاله أن له في بعثه الأنبياء لطفاً، لأنه إذا كان كذلك متى لم يبعث اليهم نبيا يعرفهم ما فيه لطفهم، كان في ذلك أتم الحجة عليه تعالى وذلك يفسد قول من قال في مقدوره من اللطف ما لو فعله بالكافر لآمن به، لأنه لو كان الأمر على ما قالوه، لكانت لهم الحجة بذلك على الله تعالى قائمة، فأما من لم يعلم من حاله أن له في إنفاذ الرسل إليه لطفاً، فالحجة قائمة عليه بالعقل، وأدلته على توحيده، وصفاته وعدله، ولو لم تقم الحجة بالعقل ولا قامت إلا بإنفاذ الرسل، لفسد ذلك من وجهين:
أ. أحدهما: أن صدق الرسل لا يمكن العلم به إلا بعد تقدم العلم بالتوحيد والعدل فإن كانت الحجة، لم تقم عليه بالعقل فكيف الطريق له إلى معرفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وصدقه.
ب. والثاني: أنه لو كانت الحجة لا تقوم إلا بالرسول لاحتاج الرسول أيضاً إلى رسول آخر حتى تقوم عليه الحجة، والكلام في رسوله كالكلام في هذا الرسول ويؤدي ذلك إلى ما لا يتناهي، وذلك فاسد فمن استدلّ بهذه الآية على أن التكليف، لا يصح بحال إلا بعد إنفاذ الرسل، فقد ابعد على ما قلناه.
3. ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ معناه انه مقتدر على الانتقام ممن يعصيه ويكفر به لا يمنعه منه مانع لعزته حكيم فيما امر به خلقه وفي جميع أفعاله.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/395.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿رُسُلًا﴾ أي: أرسلنا من سميناهم ومن أجملنا ذكرهم رسلا ﴿مُبَشِّرِينَ﴾ بالثواب للمؤمنين ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾ مخوفين بالعقاب على الكفر والعصيان ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ﴾:
أ. يعني ولكي لا يحتج من كفر فيقول: لو أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك، فقطع هذا العذر.
ب. وقيل: لئلا يحتجوا بذلك في الآخرة بأنهم ما أمروا وما نهوا.
2. ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا﴾ أي: قادرا على إيجاد ما وعد على الرسل، لا يمتنع عليه شيء وأشار بقوله: ﴿وَكَانَ اللهُ﴾ لم يزل كان قادرًا ﴿حَكِيمًا﴾ فيما أرسل ووعد وأوعد ليكون حجة ﴿حَكِيمًا﴾:
أ. في فعله للاستحقاق.
ب. وقيل: حكيمًا في جميع تدابيره فيحكم أفعاله.
ج. وقيل: عليمًا.
3. سؤال وإشكال: هل تتفق أحوال المكلفين في البعثة، ولأي شيء يبعث؟ والجواب: أحوال المكلفين تختلف، فربما يكون ذلك مصلحة فيجب، وربما لا يكون مصلحة فلا يجب، ولهذا قلنا: إذا حسن وجب، وإذا لم يجب يقبح، فأما ماله يبعث؟ فعند شيخنا أبي هاشم لا بد أن يكون معه شرع مبتدأ، أو إحياء مندرس، وعند أبي علي يحسن لغير ذلك من الأمر بالمعروف ونحوه، وعند أبي القاسم يجب أن يكون في بعثه فائدة ما.
4. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن ببعثة الرسل تنقطع حجة الخلق على الرب سبحانه، وذلك يدل على أنه لو لم يبعث لكانت الحجة لهم عليه قائمة، ومعلوم أن الرسول لا يصح معرفته إلا بعد العلم بالتوحيد والعدل، فوجب أن يكون ممكنًا من ذلك.
ب. كون البعثة والشرائع التي أتى بها لطفًا، فمن هذا الوجه تدل على وجوب اللطف.
ج. وجوب سائر أنواع اللطف؛ لأن في تركه نقض الغرض بالتكليف.
د. أنه لو لم يبعث لما حسن أن يعاقب؛ لأنه لو حسن لما كانت الحجة عليه.
هـ. بطلان قول الأشعرية: إنه لو أراد أن يعذب قبل البعثة أو أراد أن يعذب المؤمنين حسن منه.
و. بطلان الجبر؛ لأن عدم البعثة إذا كان حجة للعبد فعدم القدرة بل خلق الكفر فيه، وسلب قدرة الإيمان وإرادة الكفر والإضلال عن الإيمان أكبر في الحجة؛ لأنه لو خلق الإيمان أو قدرة الإيمان ولم يرسل إليه أحدًا كان مؤمنًا، ولو لم يفعل ذلك وبعث ألف رسول لم يؤمن فما معنى البعثة.
5. ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ﴾ العامل فيه ﴿أَوْحَيْنَا﴾، على معنى الحال أي: أوحينا إليهم رسلاً، وهو قطع عند الفراء، ويجوز أن يكون مدحًا على تقدير: أعني رسلاً مبشرين.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/154.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ﴾ بالجنة والثواب، لمن آمن وأطاع، ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾ بالنار والعقاب لمن كفر وعصى ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ فيقولوا: لم ترسل إلينا رسولا، ولو أرسلت لآمنا بك، كما أخبر سبحانه في آية أخرى بقوله: ﴿لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا﴾
2. في هذه الآية دلالة على فساد قول من زعم أن عند الله تعالى من اللطف، ما لو فعله بالكافر لآمن، لأنه لو كان كذلك، لكان للكافر الحجة بذلك على الله تعالى قائمة، فأما من لم يعلم من حاله أن له في إنفاذ الرسل إليه لطفا، فالحجة قائمة عليه بالعقل، وأدلته الدالة على توحيده وعدله، ولو لم يقم الحجة إلا بإنفاذ الرسل لفسد ذلك من وجهين:
أ. أحدهما: إن صدق الرسول لا يمكن العلم به إلا بعد تقدم العلم بالتوحيد والعدل، فإن كانت الحجة عليه غير قائمة، فلا طريق له إلى معرفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وصدقه.
ب. الثاني: إنه لو كانت الحجة لا تقوم إلا بالرسل، لاحتاج الرسول أيضا إلى رسول آخر، حتى تكون الحجة عليه قائمة، والكلام في رسوله كالكلام فيه، حتى يتسلسل، وذلك فاسد.
3. فمن استدلّ بهذه الآية على أن التكليف لا يصح بحال إلا بعد إنفاذ الرسل، فقد أبعد لما قلناه.
4. ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا﴾ أي: مقتدرا على الانتقام ممن يعصيه، ويكفر به ﴿حَكِيمًا﴾ فيما أمر به عباده، وفي جميع أفعاله.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/217.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ﴾ أي: لئلّا يحتجّوا في ترك التّوحيد والطّاعة بعدم الرّسل، لأنّ هذه الأشياء إنّما تجب بالرّسل.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/500.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في انتصاب قوله: ﴿رُسُلًا﴾ وجوه:
أ. الأول: قال صاحب (الكشاف): الأوجه أن ينتصب على المدح.
ب. الثاني: أنه انتصب على البدل من قوله: ﴿وَرُسُلًا﴾
ج. الثالث: أن يكون التقدير: أوحينا إليهم رسلا فيكون منصوبا على الحال.
2. هذا الكلام أيضا جواب عن شبهة اليهود، وتقريره أن المقصود من بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يبشروا الخلق على اشتغالهم بعبودية الله، وأن ينذروهم على الإعراض عن العبودية، فهذا هو المقصود الأصلي من البعثة، فإذا حصل هذا المقصود فقد كمل الغرض وتمّ المطلوب، وهذا المقصود الأصلي حاصل بإنزال الكتاب المشتمل على بيان هذا المطلوب، ومن المعلوم أنه لا يختلف حال هذا المطلوب بأن يكون ذلك الكتاب مكتوبا في الألواح أو لم يكن، وبأن يكون نازلا دفعة واحدة أو منجما مفرقا، بل لو قيل: إن إنزال الكتاب منجما مفرقا أقرب إلى المصلحة لكان أولى لأن الكتاب إذا نزل دفعة واحدة كثرت التكاليف وتوجهت بأسرها على المكلفين فيثقل عليهم قبولها، ولهذا السبب أصر قوم موسى عليه السلام على التمرد ولم يقبلوا تلك التكاليف، أما إذا نزل الكتاب منجما مفرقا لم يكن كذلك، بل ينزل التكاليف شيئا فشيئا وجزءا فجزءا، فحينئذ يحصل الانقياد والطاعة من القوم.
3. حاصل هذا الجواب أن المقصود من بعثة الرسل وإنزال الكتب هو الإعذار والإنذار، وهذا المقصود حاصل سواء نزل الكتاب دفعة واحدة أو لم يكن كذلك، فكان اقتراح اليهود في إنزال الكتاب دفعة واحدة اقتراحا فاسدا، وهذا أيضا جواب عن تلك الشبهة في غاية الحسن.
4. ثم ختم الآية بقوله: ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ يعني هذا الذي يطلبونه من الرسول أمر هين في القدرة، ولكنكم طلبتموه على سبيل اللجاج وهو تعالى عزيز، وعزته تقتضي أن لا يجاب المتعنت إلى مطلوبه فكذلك حكمته تقتضي هذا الامتناع لعلمه تعالى بأنه لو فعل ذلك لبقوا مصرين على لجاجهم، وذلك لأنه تعالى أعطى موسى عليه السلام هذا التشريف ومع ذلك فقومه بقوا معه على المكابرة والإصرار واللجاج.
5. احتج أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية على أن وجوب معرفة الله تعالى لا يثبت إلا بالسمع قالوا: لأن قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ يدل على أن قبل البعثة يكون للناس حجة في ترك الطاعات والعبادات، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]، وقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ [طه: 134]
6. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ دلت هذه الآية على أن العبد قد يحتج على الرب، وأن الذي يقوله أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ من أنه تعالى لا اعتراض عليه في شيء وأن له أن يفعل ما يشاء كما يشاء ليس بشيء قالوا: لأن قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ يقتضي أن لهم على الله حجة قبل الرسل، وذلك يبطل قول أهل السنة، والجواب: المراد لئلا يكون للناس على الله حجة أي ما يشبه الحجة فيما بينكم، قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ
7. تدل هذه الآية أيضا على أن تكليف ما لا يطاق غير جائز لأن عدم إرسال الرسل إذا كان يصلح عذرا فبأن يكون عدم المكنة والقدرة صالحا لأن يكون عذرا كان أولى، وجوابه المعارضة بالعلم.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/268.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ هو نصب على البدل من ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ﴾ ويجوز أن يكون على إضمار فعل، ويجوز نصبه على الحال، أي كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده رسلا.
2. ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولا، وما أنزلت علينا كتابا، وفي التنزيل: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الاسراء]، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ﴾ [طه] وفي هذا كله دليل واضح على أنه لا يجب شيء من ناحية العقل، وروي عن كعب الأحبار أنه قال: كان الأنبياء ألفي ألف ومائتي ألف، وقال مقاتل: كان الأنبياء ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرين ألفا، وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (بعثت على أثر ثمانية آلاف من الأنبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل) ذكره أبو الليث السمرقندي في التفسير له، ثم أسند عن شعبة عن أبي إسحاق عن الحارث الأعور عن أبي ذر الغفاري قال: قلت يا رسول الله كم كانت الأنبياء وكم كان المرسلون؟ قال كانت الأنبياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي وكان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر)، هذا أصح ما روي في ذلك، خرجه الآجري وأبو حاتم البستي في المسند الصحيح له.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/18.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ بدل من رسلا الأوّل، أو منصوب بفعل مقدّر، أي: وأرسلنا، أو على الحال بأن يكون رسلا موطئا لما بعده، أو على المدح: أي مبشرين لأهل الطاعات ومنذرين لأهل المعاصي، قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ أي: معذرة يعتذرون بها، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ﴾ وسميت المعذرة حجة مع أنه لم يكن لأحد من العباد على الله حجة: تنبيها على أن هذه المعذرة مقبولة لديه تفضلا منه ورحمة.
2. معنى قوله: ﴿بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ بعد إرسال الرسل ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا﴾ لا يغالبه مغالب ﴿حَكِيمًا﴾ في أفعاله التي من جملتها إرسال الرسل.
__________
(1) فتح القدير: 1/622.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿رُّسُلاً﴾ نعت (رُسُلاً) الأوَّل أو الثاني، ويقدَّر للآخر مع الاعتراض أو حال من أحدهما ويقدَّر كذلك للآخر، أو حال من إحدى الهاءين ويقدَّر للآخر، وكلٌّ من الحال والنعت مُوَطِّئ؛ لأنَّ المقصودَ وصْفُه بقوله: ﴿مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ لا ذاته، أو ينصب على المدح، أو يقدَّر: (أرسلنا رسلاً مبشرين ومنذرين)، ويجوز أن يكون بدلاً لهذا القيد، ولا ضعف في قولك: جاء زيدٌ زيدُ بن عمر، كما ادَّعى بعض المحقِّقين.
2. ﴿لِيَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ﴾ متعلِّق بـ (أَرْسَلْنَا) المقدَّر، أو تنازعه (مُبَشِّرِينَ) و(مُنذِرِينَ)، ﴿عَلَى اللهِ حُجَّةٌ﴾ معذرة بأن يقولوا: ﴿لَوْلَآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ﴾ [طه: 135]، وبأن يقولوا: ﴿إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ﴾ [الأنعام: 156]، وبأن يقولوا: ﴿لَوَ اَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَىٰ مِنْهُمْ﴾ [الأنعام: 157]، ﴿بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ بعد إرسال الرُّسل بالكتب من عنده.
3. والآية دليل على أنَّ حجَّة الله على عباده الكتب والرسل والعقل، وهذا مذهبنا (2) ومذهب الأشاعرة، وإنَّما زيد العقل لأنَّه إِنَّمَا يكلَّف العاقل، ولا نقول بالتقبيح والتحسين العقليَّين كما قالت المعتزلة، وقالت: إنَّ العقل يدرك الأمور الشرعيَّة كلَّها بلا كتاب ولا رسول، إنَّما الكتب والرسل للتنبيه، وإنَّ معنى الآية: لم يُبْقِ على الله حجَّةً وإن لم يُرسِل الرُّسلَ والكتبَ، فقد نصَّت الأشعريَّة على أنَّه لا حجَّة عليه أيضًا؛ لأنَّ له أن يفعل في خلقه ما شاء، والمعتزلة بِهذا أولى؛ لأنَّ العقل عندهم وحده حجَّة، والمذهب أنَّ عليه الحجَّة بمعنى الحقِّ عنده، والحكمة أنَّ تعذيبهم بلا بيانٍ لهم ظُلْمٌ، إلَّا أنِّي أقول: حجَّة الله في توحيده على خلقه أيضًا العقل، فإنَّه يُدرِك انفرادَ الله بالألوهيَّة بعقله لدلائل المخلوقات، فإذا أدرك الانفرادَ دعاه ذلك إلى خدمةِ مَن أَوجَدَه وأنعَم عليه، فيذهب ـ ولو كان في جزيرة لم يلق أحدًا ـ إلى من يعلِّمه كَيفِيَّة الخدمة، فيصحُّ بهذا أنَّ صاحب الجزيرة غير معذور إن لم يكن على دين من الأنبياء والرسل، والكتُبُ مُبيِّنةٌ ومُفَصِّلة لدلائل العقل.
4. وقومنا يقولون: كلُّ كافر جاءه ملك أو من شاء الله تعالى فدعاه إلى الإسلام، فمن ذلك ما رووا عن الحسن البصريِّ أنَّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ما حجَّة الله على كسرى فيك؟ قال: (بعث الله تعالى ملَكا فأخرج يده من سور جدار بيته الذي هو فيه يتلألأ نورًا، فلمَّا رآها فزع، قال: لم ترع يا كسرى؟ إنَّ الله قد بعث رسولاً وأنزل عليه كتابًا، فاتَّبعه تسلم لك دنياك وأخراك)، وقال: سأنظر في ذلك، وكما روي أنَّه دعا ياجوجَ وماجوج ليلة الإسراء فأبوا.
5. واللام متعلِّقة بـ (مُنذِرِينَ)، فيعمل (مُبَشِّرِينَ) في الضمير، وحُذف لأنَّه فضلة، أي: مبشِّرين له، أي: لأجله، أي: لانتفاء الحجَّة على الله لعباده، ولو عُلِّق بـ (مُبَشِّرِينَ) لذكر الضمير مع (مُنذِرِينَ) هكذا: (منذرين له)، أي: لأجله، أي: لانتقاء الحجَّة على الله، و(عَلَى اللهِ) متعلِّق بالاستقرار الذي تعلَّق به اللام أو بقوله: ﴿لِلنَّاسِ﴾ لنيابته عنه، أو لَا خَبرَ للكون فيتعلَّقان به، أو يتعلَّق به (لِلنَّاسِ)، و(عَلَى اللهِ) خبر، و(بَعْدَ) نعتٌ لـ (حُجَّةٌ) أو متعلِّق بالكون، أو بالخبر أو بنائبه.
6. ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا﴾ لا يغالَب على ما أراد، وفي عقاب الكفَّار ﴿حَكِيمًا﴾ في كلِّ ما أراد، وفي العذاب بعد الإنذار.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/352.
(2) يقصد الإباضية
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿رُسُلًا﴾ أي: كل هؤلاء النبيين أرسلناهم رسلا ﴿مُبَشِّرِينَ﴾ بالجنة لمن آمن ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾ من النار لمن كفر ﴿لَيْلًا﴾ لكيلا ﴿يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ﴾ يوم القيامة أي: معذرة يعتذرون بها قائلين: لولا أرسلت إلينا رسولا فيبيّن لنا شرائعك، ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك، لقصور القوّة البشرية عن إدراك جزئيات المصالح، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها، كما في قوله عز وجل: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ﴾ [طه: 134] الآية.
2. وإنما سميت حجة، مع استحالة أن يكون لأحد عليه، سبحانه، حجة في فعل من أفعاله، بل له أن يفعل ما يشاء كما يشاء ـ للتنبيه على أن المعذرة في القبول عنده تعالى، بمقتضى كرمه ورحمته لعباده، بمنزلة الحجة القاطعة التي لا مردّ لها، ولذلك قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]، أفاده أبو السعود، وفي الصحيحين عن المغيرة: لا أحد أحبّ إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين.
3. ﴿بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ أي: بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب، متعلق بـ (حجة) أو بمحذوف وقع صفة لها، وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثه الرسل، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]، وفيه دليل لمذهب أهل السنة على أن معرفة الله تعالى، لا تثبت إلا بالسمع ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا﴾ يعني في انتقامه ممن خالف أمره وعصى رسله ﴿حَكِيمًا﴾ في بعث الرسل للإنذار.
4. أشارت الآية إلى بيان حاجة البشر إلى إرسال الرسل، وإلى وظيفتهم عليهم السلام، قال السيد محمد عبده، مفتى مصر في (رسالة التوحيد) في هذا المبحث: أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام أمر الإنسان على قاعدة الإرشاد والتعليم، الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، علمه الكلام للتفاهم والكتاب للتراسل ـ أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يعدّ لها، بمحض فضله، بعض من يصطفيه من خلقه؟ وهو أعلم حيث يجعل رسالته، يميزهم بالفطر السليمة ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون سره، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم، لفاضت له نفسه أو ذهبت بعقله جلالته وعظمه، فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العاملين، نهاية الشاهد وبداية الغائب، فهم في الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها ثم يتلقون من أمره أن يحدّثوا عن جلاله، وما خفي على العقول من شؤون حضرته الرفيعة، بما يشاء أن يعتقده العباد فيه، وما قدّر أن يكون له مدخل في سعادتهم الأخروية، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه، معبرين عنه بما تحتمله طاقة عقولهم، ولا يبعد عن متناول أفهامهم، وأن يبلغوا عنه شرائع عامة، تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم، في ذلك الكون المغيّب عن مشاعرهم بتفصيله، اللاصق علمه بأعماق ضمائرهم في إجماله، ويدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ظاهرة وباطنة، ثم يؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات، حتى تقوم بهم الحجة ويتم الإقناع بصدق الرسالة، فيكونون بذلك رسلا من لدنه إلى خلقه، مبشرين ومنذرين، لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه، وأبدع في كل كائن صنعه، وجاد على كل حيّ بما إليه حاجته، ولم يحرم من رحمته حقيرا ولا جليلا من خلقه ـ يكون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام المواهب التي اختص بها غيره ـ أن ينقذه من حيرته، ويخلصه من التخبط في أهم حياتيه والضلال في أفضل حاليه، يقول قائل: ولم لم يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم، ولم يضع فيها الانقياد إلى العمل، وسلوك الطريق المؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة؟ وما هذا النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم؟ وهو قول يصدر عن شطط العقل، والغفلة عن موضوع البحث وهو النوع الإنسانيّ، ذلك النوع، على ما به، وما دخل في تقويم جوهره من الروح المفكر، وما اقتضاه ذلك من الاختلاف في مراتب الاستعداد باختلاف أفراده، وأن لا يكون كل فرد منه مستعدا لكل حال بطبعه، وأن يكون وضع وجوده على عماد البحث والاستدلال، فلو ألهم حاجاته كما تلهم الحيوانات، لم يكن هو ذلك النوع، بل كان إمّا حيوانا آخر، كالنحل والنمل، أو ملكا من الملائكة، ليس من سكان هذه الأرض.
5. ثم قال: إن كان الإنسان قد فطر على أن يعيش في جملة، ولم يمنح مع تلك الفطرة ما منحه النحل وبعض أفراد النمل مثلا؛ من الإلهام الهادي إلى ما يلزم ذلك، وإنما ترك إلى فكره يتصرف فيه، كما فطر على الشعور بقاهر تنساق نفسه بالرغم عنها إلى معرفته، ولم يفض عليه، مع ذلك الشعور، عرفانه بذات ذلك القاهر ولا صفاته، وإنما ألقي به في مطارح النظر تحمله الأفكار في مجاريها، وترمي به إلى حيث يدري ولا يدري، وفي كل ذلك الويل على جامعته، والخطر على وجوده، أفهل مني هذا النوع بالنقص، ورزئ بالقصور عن مثل ما بلغه أضعف الحيوانات وأحطها في منازل الوجود؟ نعم، هو كذلك، لولا ما أتاه الصانع الحكيم من ناحية ضعفه، الإنسان عجيب في شأنه: يصعد بقوة عقله إلى أعلى مراتب الملكوت، ويطاول بفكره أرفع معالم الجبروت، ويسامي بقوته ما يعظم عن أن يسامي من قوى الكون الأعظم، ثم يصغر ويتضاءل وينحط إلى أدنى درك من الاستكانة والخضوع، متى عرض له أمر ما، لم يعرف سببه ولم يدرك منشأه، ذلك لسرّ عرفه المستبصرون، واستشعرته نفوس الناس أجمعين، من ذلك الضعف قيد إلى هواه، ومن تلك الضعة أخذ بيده إلى شرف سعادته، أكمل الواهب الجواد لجملته، ما اقتضته حكمته في تخصيص نوعه، بما يميزه عن غيره، أن ينقص من أفراده، وكما جاد على كل شخص بالعقل المصرّف للحواس، لينظر في طلب اللقمة، وستر العورة والتوقي من الحر والبرد ـ جاد على الجملة بما هو أمسّ بالحاجة في البقاء، وآثر في الوقاية من غوائل الشقاء، وأحفظ لنظام الاجتماع الذي هو عماد كونه بالإجماع، منّ عليه بالنائب الحقيقيّ عن المحبة، بل الراجع بها إلى النفوس التي أقفرت منها، لم يخالف سنته فيه، من بناء كونه على قاعدة التعليم والإرشاد، غير أنه أتاه مع ذلك من أضعف الجهات فيه، وهي جهة الخضوع والاستكانة، فأقام له من بين أفراده مرشدين هادين، وميزهم من بينها بخصائص في أنفسهم لا يشركهم فيها سواهم، وأيد ذلك، زيادة في الإقناع، بآيات باهرات تملك النفوس، وتأخذ الطريق على سوابق العقول، فيستخذي الطامح، ويذل الجامح، ويصطدم بها عقل العاقل فيرجع إلى رشده، وينبهر لها بصر الجاهل فيرتدّ عن غيه، يطرقون القلوب بقوارع من أمر الله، ويدهشون المدارك ببواهر من آياته، فيحيطون العقول بما لا مندوحة من الإذعان له، ويستوي في الركون لما يجيئون به المالك والمملوك، والسلطان والصعلوك، والعاقل والجاهل، والمفضول والفاضل، فيكون الإذعان لهم أشبه بالاضطراريّ منه بالاختياريّ النظريّ، يعلمونهم ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم، وما أراد أن يعلموه من شؤون ذاته وكمال صفاته، وأولئك هم الأنبياء والمرسلون، فبعثه الأنبياء، صلوات الله عليهم، من متممات كون الإنسان، ومن أهم حاجاته في بقائه، ومنزلتها من النوع منزلة العقل من الشخص، نعمة أتمها الله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾
6. ثم قال في الكلام على وظيفة الرسل عليهم السلام: تبين مما تقدم في حاجة العالم الإنسانيّ إلى الرسل، أنهم من الأمم بمنزلة العقول من الأشخاص، وأن بعثتهم حاجة من حاجات العقول البشرية، قضت رحمة المبدع الحكيم بسدادها، ونعمة من واهب الوجود ميّز بها الإنسان عن بقية الكائنات من جنسه، ولكنها حاجة روحية؛ وكل ما لامس الحسّ منها، فالقصد فيه إلى الروح وتطهيرها من دنس الأهواء الضالة وتقديم ملكاتها، أو إيداعها ما فيه سعادتها في الحياتين، أمّا تفصيل طرق المعيشة، والحذق في وجوه الكسب، وتطاول شهوات العقل إلى درك ما أعدّ للوصول إليه، من أسرار العلم ـ فذلك مما لا دخل للرسالات فيه، إلا من وجه العظة العامة، والإرشاد إلى الاعتدال فيه، وتقرير أن شرط ذلك كله أن لا يحدث ريبا في الاعتقاد بأن للكون إلها واحدا قادرا عالما حكيما متصفا بما أوجب الدليل أن يتصف به، وباستواء نسبة الكائنات إليه في أنها مخلوقة له وصنع قدرته، وإنما تفاوتها فيما اختص به بعضها من الكمال، وشرطه أن لا ينال شيء من تلك الأعمال السابقة أحدا من الناس بشرّ في نفسه أو عرضه أو ماله، بغير حق يقتضيه نظام عامة الأمة، على ما حدد في شريعتها، يرشدون العقل إلى معرفة الله وما يجب أن يعرف من صفاته، ويبيّنون الحدّ الذي يجب أن يقف عنده في طلب ذلك العرفان، على وجه لا يشق عليه الاطمئنان إليه، ولا يرفع ثقته بما آتاه الله من القوة، يجمعون كلمة الخلق على إله واحد لا فرقة معه، ويخلون السبيل بينهم وبينه وحده، وينهضون نفوسهم إلى التعلق به في جميع الأعمال والمعاملات؛ ويذكرونهم بعظمته بفرض ضروب من العبادات، فيما اختلف من الأوقات، تذكرة لمن ينسى، وتزكية مستمرة لمن يخشى، تقوّي ما ضعف منهم، وتزيد المستيقن يقينا، يبيّنون للناس ما اختلفت عليه عقولهم وشهواتهم وتنازعته مصالحهم ولذاتهم، فيفصلون في تلك المخاصمات بأمر الله الصادع، ويؤيدون، بما يبلغون عنه، ما تقوم به المصالح العامة، ولا تفوت به المنافع الخاصة، يعودون بالناس إلى الألفة، ويكشفون لهم سر المحبة، ويستلفتونهم إلى أن فيها انتظام شمل الجماعة، ويفرضون عليهم مجاهدة أنفسهم، ليستوطنوها قلوبهم، ويشعروها أفئدتهم، يعلمونهم لذلك أن يرعى كلّ حق الآخر، وإن كان لا يغفل حقه، وأن لا يتجاوز في الطلب حدّه، وأن يعين قويّهم ضعيفهم، ويمد غنيّهم فقيرهم، ويهدي راشدهم ضالّهم، ويعلم عالمهم جاهلهم: يضعون لهم بأمر الله حدودا عامة، يسهل عليهم أن يردّوا إليها أعمالهم، كاحترام الدماء البشرية إلا بحق، مع بيان الحق الذي تهدر له، وحظر تناول شيء مما كسبه الغير إلا بحق، مع بيان الحق الذي يبيح تناوله، واحترام الأعراض، مع بيان ما يباح وما يحرم من الأبضاع، ويشرعون لهم مع ذلك أن يقوّموا أنفسهم بالملكات الفاضلة كالصدق والأمانة والوفاء بالعقود والمحافظة على العهود والرحمة بالضعفاء والإقدام على نصيحة الأقوياء والاعتراف لكل مخلوق بحقه بلا استثناء، يحملونهم على تحويل أهوائهم عن اللذائذ الفانية، إلى طلب الرغائب السامية، آخذين في ذلك كله بطرف من الترغيب والترهيب والإنذار والتبشير حسبما أمرهم الله جل شأنه، يفضّلون في جميع ذلك للناس ما يؤهلهم لرضا الله عنهم، وما يعرّضهم لسخطه عليهم، ثم يحيطون بيانهم بنبإ الدار الآخرة، وما أعدّ الله فيها من الثواب وحسن العقبى، لمن وقف عند حدوده، وأخذ بأوامره، وتجنب الوقوع في محظوراته، يعلمونهم من أنباء الغيب ما أذن الله لعباده في العلم به؛ مما لو صعب على العقل اكتناهه، لم يشقّ عليه الاعتراف بوجوده، بهذا تطمئن النفوس وتثلج الصدور، ويعتصم المرزوء بالصبر، انتظارا لجزيل الأجر، أو إرضاء لمن بيده الأمر، وبهذا ينحل أعظم مشكل في الاجتماع الإنساني، لا يزال العقلاء يجهدون أنفسهم في حله إلى اليوم، ليس من وظائف الرسل ما هو من عمل المدرسين ومعلمي الصناعات، فليس مما جاءوا له تعليم التاريخ، ولا تفصيل ما يحويه عالم الكواكب، ولا بيان ما اختلف من حركاتها، ولا ما استكنّ من طبقات الأرض؛ ولا مقادير الطول فيها والعرض، ولا ما تحتاج إليه النباتات في نموها، ولا ما تفتقر إليه الحيوانات في إبقاء أشخاصها وأنواعها.. وغير ذلك مما وضعت له العلوم، وتسابقت في الوصل إلى دقائقه الفهوم فإن ذلك كله من وسائل الكسب وتحصيل طرق الراحة، هدى الله إليه البشر بما أودع فيهم من الإدراك، يزيد في سعادة المخلصين، ويقضي فيه بالنكد على المقصّرين، ولكن كانت سنة الله في ذلك، أن يتبع طريقة التدرج في الكمال، وقد جاءت شرائع الأنبياء بما يحمل على الإجماع بالسعي فيه، وما يكفل التزامه بالوصول إلى ما أعد الله له الفطر الإنسانية من مراتب الارتقاء، أما ما ورد في كلام الأنبياء من الإشارة إلى شيء مما ذكرنا في أحوال الأفلاك أو هيئة الأرض ـ فإنما يقصد منه، النظر إلى ما فيه من الدلالة على حكمة مبدعه، أو توجيه الفكر إلى الغوص لإدراك أسراره وبدائعه، وحالهم، عليهم الصلاة والسلام، في مخاطبة أممهم، لا يجوز أن تكون فوق ما يفهمون، وإلا ضاعت الحكمة في إرسالهم، ولهذا قد يأتي التعبير الذي سيق إلى العامة، بما يحتاج إلى التأويل والتفسير عند الخاصة، وكذلك ما وجه إلى الخاصة، يحتاج إلى الزمان الطويل حتى يفهمه العامة، وهذا القسم أقل ما ورد في كلامهم، على كل حال، لا يجوز أن يقام الدين حاجزا بين الأرواح، وبين ما ميزها الله به من الاستعداد للعلم بحقائق الكائنات الممكنة بقدر الإمكان، بل يجب أن يكون الدين باعثا لها على طلب العرفان، مطالبا لها باحترام البرهان، فارضا عليها أن تبذل ما تستطيع من الجهد في معرفة ما بين يديه من العوالم، ولكن مع التزام القصد، والوقوف في سلامة الاعتقاد عند الحد، ومن قال غير ذلك فقد جهل الدين، وجنى عليه جناية لا يغفرها له رب الدين.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/470.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ أي أرسلنا أولئك الرسل الذين منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك، رسلا مبشرين من آمن وعمل صالحا بالأجر العظيم، ومنذرين من كفر وأجرم بالعذاب الأليم.
2. ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ بأن يدعو أنهم ما كفروا وأجرموا إلا لجهلهم ما يجب عليهم بهدايتهم من الإيمان والعمل الصالح قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ [طه: 134]، وقال عز وجل: ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [القصص: 47] ثم قال في هذه السورة: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ [القصص: 59]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء:] 15وقال تبارك اسمه: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ [الأنعام: 155 ـ 157]
3. المتبادر من الشواهد الأولى: أنها في عذاب الدنيا سواء كان بالاستئصال، أو فقد الاستقلال، وهو المشار إليه بالهلاك، أو بما دون ذلك وهو المشار إليه بالمصيبة، وأما الشاهد الأخير فيظهر أنه أعم، وقد جاء بعده الوعيد بسوء العذاب، والتهديد بقوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ [الأنعام: 158] وفيه تهديد بعذاب الدنيا أو الموت وقيام الساعة العامة أو الخاصة، ويعقب ذلك عذاب الآخرة.
4. أما الآية التي نحن بصدد تفسيرها فهي مطلقة والمتبادر منها أن من حكمة إرسال الرسل قطع حجة الناس واعتذارهم بالجهل عندما يحاسبهم الله تعالى في الآخرة ويقضي بعذابهم، ومفهومه ومفهوم سائر الآيات أنه لولا إرسال الرسل لكان للناس أن يحتجوا في الآخرة على عذابها وعلى عذاب الدنيا الذي كان أصابهم بظلمهم، واستدل بها كثير من العلماء على امتناع مؤاخذة الله الناس وتعذيبهم على ترك الهداية التي لا تعرف إلا من الرسل عليهم السلام، ويستدلون بآية الإسراء على نجاة أهل الفترة، وكل من لم تبلغه الدعوة، ولما كانوا شيعا تتعصب كل شيعة منهم لمذهب ينسب إلى عميد منهم قدسوه بإشهاره والانتساب إليه صارت كل شيعة تلمس من الآيات ما يؤيد مذهبها وتؤول ما ينقضه.
5. وعلى هذا الأساس أول بعضهم آية الإسراء بأن المراد بالرسول فيها العقل، ويرد هذا التأويل سائر الآيات التي بمعناها كالآية التي نفسرها، فلا يجد أبرع المؤولين والمحرفين منفذا لمثل هذا القول في الرسل المبشرين المنذرين، الذين ذكروا في سياق إثبات الوحي وقص الله على نبيه بعضهم وذكرهم بأسمائهم وبين أحوالهم، وكذلك آية القصص ﴿حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ [القصص: 59] لا يقول عاقل إن الرسول هنا هو العقل ولكن قد يقوله الذي جن في مذهبه جنونا مطبقا، وما المجانين في ذلك بقليل، وكيف والتقليد مبني على عدم استعمال العقل في فهم الدين، والاكتفاء فيه بما يعزى إلى المذهب بحجة أن المقلدين تعجز عقولهم عن إدراك الأدلة العقلية والنقلية وإنما يفهمون كلام علمائهم دون كلام الله وكلام رسوله.
6. اختلف العلماء الذين اتبع الناس مذاهبهم في التكليف هل يتوقف كله على إرسال الرسل، أم يمكن أن يعرف كله أو بعضه بالعقل:
أ. فقالت طائفة: لا يجب على أحد إيمان ولا عمل صالح، ولا يحرم على أحد كفر ولا جرم، ولا يستحق أحد ثوابا ولا عقابا على شيء إلا من بلغته دعوة الرسول قامت بها عليه الحجة فإنه يكلف العمل بما جاء به فحسب، ولا يجازى إلا على ذلك.
ب. وذهبت طائفة إلى أن التكليف بعد بعثة الرسل لا يتعدى ما جاؤوا به لمن بلغته، وأما من لم تبلغه دعوة فإنه يمكن أن يدرك بعقله حسن الأشياء والأعمال وقبحها ويجب عليه أن يعمل الحسن ويترك القبيح والله تعالى يؤاخذه بحسب ما يدركه من ذلك بالعقل، كما يؤاخذه بحسب ما يدركه من ذلك بالشرع.
7. المتبادر من الآية التي نحن بصدد تفسيرها أن عدم إرسال الرسل يمكن أن يكون حجة للناس يوم القيامة إذا أراد الله أن يؤاخذهم ويعذبهم على ترك الهدى الذي جاءهم به أولئك الرسل، والمتبادر من آية سورة الإسراء أنه ليس من شأن الله تعالى ولا من سنته أن يعذب الأمم التعذيب السماوي العام الذي عبر عنه بقوله: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 40] إلا إذا أرسل إليهم رسولا فكذبوه، وسنته في هذا النوع من التعذيب مبينة في مواضع من الكتاب العزيز، فهو لا يأخذ به كل قوم كذبوا رسولهم، بل من أنذرهم العذاب فتماروا بالنذر، وتمادوا في عناد الرسل.
8. من أخذ القرآن بجملته وفقه أحكامه وحكمه يعلم أن الدين وضع إلهي لا يستقبل العقل البشري بالوصول إليه بنفسه بل يعرف بالوحي، وأنه مع هذا موفق لسنن الفطرة في تزكية النفس، وإعدادها للحياة الأبدية في عالم القدس، فهو من حيث هو وضع إلهي، يترتب على العمل به والترك جزاء وضعي يحدده الله تعالى في الدنيا والآخرة، وهذا الجزاء خاص بمن بلغته دعوته على وجهها، ومن حيث إنه موافق لسنن الفطرة يترتب على الاهتداء به تزكية النفس وعلى الإعراض عنه تدسيتها، وتأثير العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة والآداب العالية التي إليها تأثير فطري ذاتي، فكل من اهتدى بها زكت نفسه بقدر اهتدائه بها وإن لم يعلم أن رسولا جاء بها، وكذلك تأثير العقائد الباطلة والأعمال القبيحة والأخلاق الفاسدة التي ينهى عنها، فكل من تلوثت بها نفسه فسدت وسفلت، والأصل في هذا وذالك الإخلاص في الإيثار ما يعتقد الإنسان أنه الحق والخير على ضده.
9. فكما دلت الآيات على أن الله تعالى لا يؤاخذ الناس بمخالفة ما جاءت به الرسل إلا إذا بلغتهم دعوتهم، وقامت عليهم حجتهم، لأن هذا النوع من المؤاخذة وضعي لا يتحقق إلا بتحقيق الوضع الذي يترتب هو عليه، وكذلك تدل آيات أخرى على الحساب والجزاء العام بالقسط على حسب تأثير الأعمال في النفوس، فمن دسي نفسه وأبسلها، لا يمكن أن يكون عند الله كمن زكى نفسه وأسلمها، ولا يمكن أن يقول عاقل إن نفوس من لم تبلغهم الدعوة الصحيحة تكون سواء مهما اختلفت عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم، فإن هذا مخالف لحكم العقل وإدراك الحس، إذ لم توجد ولا توجد أمة إلا وفيها الصالحون والأبرار والفجار، والذين يؤثرون ما يرونه من الهدى على داعية الشهوة والهوى، والعكس، فهل يكون الفريقان عند الحكم العدل سواء؟ ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ﴾ [المائدة: 104] ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [هود: 24]؟
__________
(1) تفسير المنار: 6/59.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ أي أرسلنا رسلا قد قصصنا بعضهم عليك ولم نقصص بعضا آخر، ليكونوا مبشرين من آمن وعمل صالحا بالثواب العظيم، وينذروا من كفر وأجرم بالعذاب الأليم، إذ لو لم يرسلهم لكان للناس أن يحتجوا إذا هم أجرموا أو كفروا بأنهم ما فعلوا ذلك إلا لجهلهم ما يجب من الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ وقال: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾
2. والخلاصة ـ إن من حكمة إرسال الرسل قطع حجة الناس واعتذارهم بالجهل عندما يحاسبهم الله ويقضى بعقابهم، فلولا إرسالهم لكان لهم أن يحتجوا في الآخرة على عذابهم فيها وعلى عذاب الدنيا الذي كان قد أصابهم بظلمهم.
3. والدّين وضع إلهىّ لا يستقل العقل بالوصول إليه ولا يعرف إلا بالوحى وهو موافق لسنن الفطرة في تزكية النفوس وإعدادها للحياة الأبدية في عالم القدس، ويترتب على العمل به أو تركه جزاء حدده الله في الدنيا والآخرة، ولن يكون هذا الجزاء إلا لمن بلغته الدعوة على الوجه الصحيح.
4. ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ أي وكان الله عزيزا لا يغالب في أمر يريده، ومن عزته ألا يجاب المتعنت إلى مطلوبه، حكيما في جميع أفعاله، وحكمته تقضى هذا الامتناع عن الإجابة لأنه يعلم أنه لو فعل ذلك لأصرّوا على لجاجهم كما فعلوا مع موسى بعد أن جاءهم بما طلبوا.
__________
(1) تفسير المراغي 6/24.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أولئك الرسل ـ من قص الله على رسوله منهم ومن لم يقصص ـ اقتضت عدالة الله ورحمته أن يبعث بهم إلى عباده يبشرونهم بما أعده الله للمؤمنين الطائعين من نعيم ورضوان؛ وينذرونهم ما أعده الله للكافرين العصاة من جحيم وغضب.. كل ذلك: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾..
2. ولله الحجة البالغة في الأنفس والآفاق؛ وقد أعطى الله البشر من العقل ما يتدبرون به دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق، ولكنه سبحانه رحمة منه بعباده، وتقديرا لغلبة الشهوات على تلك الأداة العظيمة التي أعطاها لهم ـ أداة العقل ـ اقتضت رحمته وحكمته أن يرسل إليهم الرسل (مبشرين ومنذرين) يذكرونهم ويبصرونهم؛ ويحاولون استنقاذ فطرتهم وتحرير عقولهم من ركام الشهوات، التي تحجب عنها أو تحجبها عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق.
3. ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ عزيزا: قادرا على أخذ العباد بما كسبوا، حكيما: يدبر الأمر كله بالحكمة ويضع كل أمر في نصابه.. والقدرة والحكمة لهما عملهما فيما قدره الله في هذا الأمر وارتضاه..
4. ونقف من هذه اللفتة: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ أمام حشد من الإيحاءات اللطيفة العميقة ونختار منه ثلاثا على سبيل الاختصار الذي لا يخرج بنا من الظلال:
أ. نقف منها: أولا: أمام قيمة العقل البشري ووظيفته ودوره في أخطر قضايا (الإنسان) قضية الإيمان بالله؛ التي تقوم عليها حياته في الأرض من جذورها؛ بكل مقوماتها واتجاهاتها وواقعياتها وتصرفاتها؛ كما يقوم عليها مآله في الآخرة وهي أكبر وأبقى (2):
• لو كان الله سبحانه وهو أعلم بالإنسان وطاقاته كلها، يعلم أن العقل البشري، الذي وهبه للإنسان، هو حسب هذا الإنسان في بلوغ الهدى لنفسه والمصلحة لحياته، في دنياه وآخرته، لوكله إلى هذا العقل وحده؛ يبحث عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق، ويرسم لنفسه كذلك المنهج الذي تقوم عليه حياته، فتستقيم على الحق والصواب؛ ولما أرسل إليه الرسل على مدى التاريخ؛ ولما جعل حجته على عباده هي رسالة، الرسل إليهم؛ وتبليغهم عن ربهم؛ ولما جعل حجة الناس عنده سبحانه هي عدم مجيء الرسل إليهم: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾.. ولكن لما علم الله سبحانه أن العقل الذي آتاه للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى ـ بغير توجيه من الرسالة وعون وضبط ـ وقاصرة كذلك عن رسم منهج للحياة الإنسانية يحقق المصلحة الصحيحة لهذه الحياة؛ وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة.. لما علم الله سبحانه هذا شاءت حكمته وشاءت رحمته أن يبعث للناس بالرسل، وألا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والتبليغ: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾.. وهذه تكاد تكون إحدى البديهيات التي تبرز من هذا النص القرآني.. فإن لم تكن بديهية فهي إحدى المقتضيات الحتمية..
• إذن.. ما هي وظيفة هذا العقل البشري؛ وما هو دوره في قضية الإيمان والهدى؛ وفي قضية منهج الحياة ونظامها؟ إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة؛ ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول، ومهمة الرسول أن يبلغ، ويبين، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام، وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق؛ وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح، ومنهج النظر الصحيح؛ وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة.
• وليس دور العقل أن يكون حاكما على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان، والقبول أو الرفض ـ بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله؛ وبعد أن يفهم المقصود بها: أي المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص ـ ولو كان له أن يقبلها أو يرفضها ـ بعد إدراك مدلولها، لأنه هو لا يوافق على هذا المدلول! أو لا يريد أن يستجيب له ـ ما استحق العقاب من الله على الكفر بعد البيان.. فهو إذن ملزم بقبول مقررات الدين متى بلغت إليه عن طريق صحيح، ومتى فهم عقله ما المقصود بها وما المراد منها..
• إن هذه الرسالة تخاطب العقل.. بمعنى أنها توقظه، وتوجهه، وتقيم له منهج النظر الصحيح.. لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بصحتها أو بطلانها، وبقبولها أو رفضها، ومتى ثبت النص كان هو الحكم؛ وكان على العقل البشري أن يقبله ويطيعه وينفذه؛ سواء كان مدلوله مألوفا له أو غريبا عليه..
• إن دور العقل ـ في هذا الصدد ـ هو أن يفهم ما الذي يعنيه النص، وما مدلوله الذي يعطيه حسب معاني العبارة في اللغة والاصطلاح، وعند هذا الحد ينتهي دوره.. إن المدلول الصحيح للنص لا يقبل البطلان أو الرفض بحكم من هذا العقل، فهذا النص من عند الله، والعقل ليس إلها يحكم بالصحة أو البطلان، وبالقبول أو الرفض لما جاء من عند الله.
• وعند هذه النقطة الدقيقة يقع خلط كثير.. سواء ممن يريدون تأليه العقل البشري فيجعلونه هو الحكم في صحة أو بطلان المقررات الدينية الصحيحة.. أو ممن يريدون إلغاء العقل، ونفي دوره في الإيمان والهدى.. والطريق الوسط الصحيح هو الذي بيناه هنا.. من أن الرسالة تخاطب العقل ليدرك مقرراتها؛ وترسم له المنهج الصحيح للنظر في هذه المقررات، وفي شئون الحياة كلها، فإذا أدرك مقرراتها ـ أي إذا فهم ماذا يعني النص ـ لم يعد أمامه إلا التصديق والطاعة والتنفيذ.. فهي لا تكلف الإنسان العمل بها سواء فهمها أم لم يفهمها.
• وهي كذلك لا تبيح له مناقشة مقرراتها متى أدرك هذه المقررات، وفق مفهوم نصوصها.. مناقشتها ليقبلها أو يرفضها، ليحكم بصحتها أو خطئها.. وقد علم أنها جاءته من عند الله، الذي لا يقص إلا الحق، ولا يأمر إلا بالخير.
• والمنهج الصحيح في التلقي عن الله، هو ألا يواجه العقل مقررات الدين الصحيحة ـ بعد أن يدرك المقصود بها ـ بمقررات له سابقة عليها؛ كونها لنفسه من مقولاته (المنطقية)! أو من ملاحظاته المحدودة؛ أو من تجاربه الناقصة.. إنما المنهج الصحيح أن يتلقى النصوص الصحيحة، ويكون منها مقرراته هو! فهي أصح من مقرراته الذاتية؛ ومنهجها أقوم من منهجه الذاتي ـ قبل أن يضبط بموازين النظر الدينية الصحيحة ـ ومن ثم لا يحاكم العقل مقررات الدين ـ متى صح عنده أنها من الله ـ إلى أية مقررات أخرى من صنعه الخاص!.. إن العقل ليس إلها، ليحاكم بمقرراته الخاصة مقررات الله..
• إن له أن يعارض مفهوما عقليا بشريا للنص بمفهوم عقلي بشري آخر له.. هذا مجاله، ولا حرج عليه في هذا ولا حجر ما دام هنالك من الأصول الصحيحة مجال للتأول والأفهام المتعددة، وحرية النظر ـ على أصوله الصحيحة وبالضوابط التي يقررها الدين نفسه ـ مكفولة للعقول البشرية في هذا المجال الواسع، وليس هنالك من هيئة، ولا سلطة، ولا شخص، يملك الحجر على العقول، في إدراك المقصود بالنص الصحيح وأوجه تطبيقه ـ متى كان قابلا لأوجه الرأي المتعددة، ومتى كان النظر في حدود الضوابط الصحيحة والمنهج الصحيح، المأخوذ من مقررات الدين ـ وهذا كذلك معنى أن هذه الرسالة تخاطب العقل..
• إن الإسلام دين العقل.. نعم.. بمعنى أنه يخاطب العقل بقضاياه ومقرراته؛ ولا يقهره بخارقة مادية لا مجال له فيها إلا الإذعان، ويخاطب العقل بمعنى أنه يصحح له منهج النظر ويدعوه إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق؛ ليرفع عن الفطرة ركام الإلف والعادة والبلادة؛ وركام الشهوات المضلة للعقل والفطرة، ويخاطب العقل بمعنى أنه يكل إليه فهم مدلولات النصوص التي تحمل مقرراته، ولا يفرض عليه أن يؤمن بما لا يفهم مدلوله ولا يدركه.. فإذا وصل إلى مرحلة إدراك المدلولات وفهم المقررات لم يعد أمامه إلا التسليم بها فهو مؤمن، أو عدم التسليم بها فهو كافر.. وليس هو حكما في صحتها أو بطلانها، وليس هو مأذونا في قبولها أو رفضها، كما يقول من يبتغون أن يجعلوا من هذا العقل إلها، يقبل من المقررات الدينية الصحيحة ما يقبل، ويرفض منها ما يرفض، ويختار منها ما يشاء، ويترك منها ما يشاء.. فهذا هو الذي يقول الله عنه: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ ويرتب عليه صفة الكفر، ويرتب عليه كذلك العقاب.. فإذا قرر الله سبحانه حقيقة في أمر الكون، أو أمر الإنسان، أو أمر الخلائق الأخرى، أو إذا قرر أمرا في الفرائض، أو في النواهي.. فهذا الذي قرره الله واجب القبول والطاعة ممن يبلغ إليه، متى أدرك المدلول المراد منه..
• إذا قال الله سبحانه ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾.. ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾.. ﴿وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾.. ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾.. إلى آخر ما قال سبحانه عن طبيعة الكون والكائنات والأحياء والأشياء.. فالحق هو ما قال وليس للعقل أن يقول ـ بعد أن يفهم مدلول النصوص والمقررات التي تنشئها ـ إنني لا أجد هذا في مقرراتي، أو في علمي، أو في تجاربي.. فكل ما يبلغه العقل في هذا معرض للخطإ والصواب، وما قرره الله سبحانه لا يحتمل إلا الحق والصواب.
• وإذا قال الله سبحانه: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾.. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾.. ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾.. ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾.. إلى آخر ما قال في شأن منهج الحياة البشرية فالحق هو ما قال سبحانه وليس للعقل أن يقول: ولكنني أرى المصلحة في كذا وكذا مما يخالف عن أمر الله، أو فيما لم يأذن به الله ولم يشرعه للناس.. فما يراه العقل مصلحة يحتمل الخطأ والصواب، وتدفع إليه الشهوات والنزوات.. وما يقرره الله سبحانه لا يحتمل إلا الصحة والصلاح..
• وما قرره الله سبحانه من العقائد والتصورات، أو من منهج الحياة ونظامها، سواء في موقف العقل إزاءه.. متى صح النص، وكان قطعي الدلالة؛ ولم يوقت بوقت.. فليس للعقل أن يقول: آخذ في العقائد والشعائر التعبدية؛ ولكني أرى أن الزمن قد تغير في منهج الحياة ونظامها.. فلو شاء الله أن يوقت مفعول النصوص لوقته، فما دام النص مطلقا فإنه يستوي زمان نزوله وآخر الزمان.. احترازا من الجرأة على الله، ورمي علمه بالنقص والقصور ـ سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.. إنما يكون الاجتهاد في تطبيق النص العام على الحالة الجزئية؛ لا في قبول المبدأ العام أو رفضه، تحت أي مقولة من مقولات العقل في جيل من الأجيال! وليس في شيء من هذا الذي نقرره انتقاص من قيمة العقل ودوره في الحياة البشرية.. فإن المدى أمامه واسع في تطبيق النصوص على الحالات المتجددة ـ بعد أن ينضبط هو بمنهج النظر وموازينه المستقاة من دين الله وتعليمه الصحيح ـ والمدى أمامه أوسع في المعرفة بطبيعة هذا الكون وطاقاته وقواه ومدخراته؛ وطبيعة الكائنات فيه والأحياء؛ والانتفاع بما سخر الله له من هذا الكون ومن هذه الكائنات والأحياء؛ وتنمية الحياة وتطويرها وترقيتها ـ في حدود منهج الله ـ لا كما تبتغي الشهوات والأهواء التي تضل العقل وتغطي الفطرة بالركام!.
ب. ونقف من هذه اللفتة: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ وقفة أخرى: نقف منها أمام التبعة العظيمة الملقاة على الرسل ـ صلوات الله عليهم ـ ومن بعدهم على المؤمنين برسالاتهم ـ تجاه البشرية كلها.. وهي تبعة ثقيلة بمقدار ما هي عظيمة:
• إن مصائر البشرية كلها في الدنيا وفي الآخرة سواء، منوطة بالرسل وبأتباعهم من بعدهم، فعلى أساس تبليغهم هذا الأمر للبشر، تقوم سعادة هؤلاء البشر أو شقوتهم، ويترتب ثوابهم أو عقابهم.. في الدنيا والآخرة، إنه أمر هائل عظيم.. ولكنه كذلك.. ومن ثم كان الرسل ـ صلوات الله عليهم ـ يحسون بجسامة ما يكلفون، وكان الله سبحانه يبصرهم بحقيقة العبء الذي ينوطه بهم.. وهذا هو الذي يقول الله عنه لنبيه: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾.. ويعلمه كيف يتهيأ له ويستعد: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾.. ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا﴾.. وهذا هو الذي يشعر به نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يأمره أن يقول وأن يستشعر حقيقة ما يقول: ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللهِ وَرِسَالَاتِهِ﴾.. ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾..
• إنه الأمر الهائل العظيم.. أمر رقاب الناس.. أمر حياتهم ومماتهم.. أمر سعادتهم وشقائهم.. أمر ثوابهم وعقابهم.. أمر هذه البشرية، التي إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة، وإما أن تبلغ إليها فترفضها وتنبذها فتشقى في الدنيا والآخرة، وإما ألا تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها، وتكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها معلقة بعنق من كلف التبليغ فلم يبلغ! فأما رسل الله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة، ومضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل.. وهم لم يبلغوها دعوة باللسان، ولكن بلغوها ـ مع هذا ـ قدوة ممثلة في العمل، وجهادا مضنيا بالليل والنهار لإزالة العقبات والعوائق.. سواء كانت هذه العقبات والعوائق شبهات تحاك، وضلالات تزين، أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة وتفتنهم في الدين، كما صنع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خاتم النبيين، بما أنه المبلغ الأخير، وبما أن رسالته هي خاتمة الرسالات، فلم يكتف بإزالة العوائق باللسان، إنما أزالها كذلك بالسنان ﴿حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾..
• وبقي الواجب الثقيل على من بعده.. على المؤمنين برسالته.. فهناك أجيال وراء أجيال جاءت وتجيء بعده صلّى الله عليه وآله وسلّم وتبليغ هذه الأجيال منوط ـ بعده ـ بأتباعه، ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة ـ تبعة إقامة حجة الله على الناس؛ وتبعة استنقاذ الناس من عذاب الآخرة وشقوة الدنيا ـ إلا بالتبليغ والأداء.. على ذات المنهج الذي بلغ به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأدى.. فالرسالة هي الرسالة؛ والناس هم الناس..
• وهناك ضلالات وأهواء وشبهات وشهوات.. وهناك قوى عاتية طاغية تقوم دون الناس ودون الدعوة؛ وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل وبالقوة.. الموقف هو الموقف؛ والعقبات هي العقبات، والناس هم الناس.
• ولا بد من بلاغ، ولا بد من أداء، بلاغ بالبيان، وبلاغ بالعمل حتى يكون المبلغون ترجمة حية واقعة مما يبلغون، وبلاغ بإزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة؛ وتفتن الناس بالباطل وبالقوة.. وإلا فلا بلاغ ولا أداء.. إنه الأمر المفروض الذي لا حيلة في النكوص عن حمله.. وإلا فهي التبعة الثقيلة، تبعة ضلال البشرية كلها؛ وشقوتها في هذه الدنيا، وعدم قيام حجة الله عليها في الآخرة! وحمل التبعة في هذا كله، وعدم النجاة من النار..
• فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعة؟ وهي تبعة تقصم الظهر وترعد الفرائص وتهز المفاصل!؟ إن الذي يقول: إنه (مسلم) إما أن يبلغ ويؤدي هكذا، وإلا فلا نجاة له في دنيا ولا في أخرى.. إنه حين يقول: إنه (مسلم) ثم لا يبلغ ولا يؤدي.. كل ألوان البلاغ والأداء هذه، إنما يؤدي شهادة ضد الإسلام الذي يدعيه! بدلا من أداء شهادة له، تحقق فيه قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، وتبدأ شهادته للإسلام، من أن يكون هو بذاته، ثم ببيته وعائلته، ثم بأسرته وعشيرته، صورة واقعية من الإسلام الذي يدعو إليه.. وتخطو شهادته الخطوة الثانية: بقيامة بدعوة الامة ـ بعد دعوة البيت والأسرة والعشيرة ـ إلى تحقيق الإسلام في حياتها كلها.. الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. وتنتهي شهادته بالجهاد لإزالة العوائق التي تضل الناس وتفتنهم من أي لون كانت هذه العوائق.. فإذ استشهد في هذا فهو إذن (شهيد) أدى شهادته لدينه، ومضى إلى ربه.. وهذا وحده هو (الشهيد)
ج. وفي نهاية المطاف نقف وقفة خاشعة أمام جلال الله وعظمته؛ ممثلة في علمه، وعدله، ورعايته، وفضله، ورحمته وبره.. بهذا الكائن الإنساني الذي يجحد ويطغى:
• نقف أمام عظمة العلم بهذا الكائن؛ وما أودعه من القوى والطاقات؛ وما ركب في كينونته من استعدادات الهدى والضلال، وما رتبه على هذا العلم حين لم يكله إلى عقله وحده.. على عظمة هذه الأداة التي وهبها له؛ وعلى كثرة ما في الأنفس والآفاق من دلائل الهدى وموجبات الإيمان.. فلقد علم الله أن هذه الأداة العظيمة تنوشها الشهوات والنزوات؛ وأن الدلائل المبثوثة في تضاعيف الكون وأطواء النفس قد يحجبها الغرض والهوى، ويحجبها الجهل والقصور.. ومن ثم لم يكل إلى العقل البشري تبعة الهدى والضلال ـ إلا بعد الرسالة والبيان ـ ولم يكل إليه بعد البيان والاهتداء وضع منهج الحياة، إنما وكل إليه تطبيق منهج الحياة الذي يقرره له الله.. ثم ترك له ما وراء ذلك ـ وهو ملك عريض ـ يبدع فيه ما شاء، ويغير فيه ما شاء، ويركب فيه ما شاء، ويحلل فيه ما شاء، منتفعا بتسخير الله لهذا الملك كله لهذا الإنسان وهو الذي يخطئ عقله ويصيب، وتعثر قدمه وتستقيم على الطريق! ونقف أمام عظمة العدل الذي يرتب للناس حجة على الله سبحانه لو لم يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، هذا مع احتشاد كتاب الكون المفتوح، وكتاب النفس المكنون بالآيات الشواهد على الخالق، ووحدانيته، وتدبيره وتقديره، وقدرته وعلمه.. ومع امتلاء الفطرة بالأشواق والهواتف إلى الاتصال ببارئها والإذعان له، والتناسق والتجاوب والتجاذب بينها وبين دلائل وجود الخالق في الكون والنفس.. ومع هبة العقل الذي يملك أن يحصي الشواهد ويستنبط النتائج.. ولكن الله سبحانه بما يعلم من عوامل الضعف التي تطرأ على هذه القوى كلها، فتعطلها، أو تفسدها، أو تطمسها، أو تدخل في حكمها الخطأ والشطط، قد أعفى الناس من حجية الكون، وحجية الفطرة، وحجية العقل، ما لم يرسل إليهم الرسل ليستنقذوا هذه الأجهزة كلها مما قد يرين عليها، وليضبطوا بموازين الحق الإلهي الممثل في الرسالة، هذه الأجهزة، فتصح أحكامها حين تستقيم على ضوابط المنهج الإلهي.. وعندئذ فقط يلزمها الإقرار والطاعة والاتباع؛ أو تسقط حجتها وتستحق العقاب..
• ونقف أمام عظمة الرعاية والفضل والرحمة والبر بهذا المخلوق الذي يكرمه الله ويختاره، على ما يعلم به من ضعف ونقص؛ فيكل إليه هذا الملك العريض.. خلافة الأرض.. وهو بالقياس إليه ملك عريض! وإن كان في ملك الله ذرة تمسكها يد الله فلا تضيع في ملكه الكبير! ثم تشاء رعايته وفضله ورحمته وبره، ألا تدعه لما أودع في كينونته من فطرة هادية ولكنها تطمس؛ ومن عقل هاد ولكنه يضل؛ بل يتفضل عليه ربه فيرسل إليه الرسل تترى.. وهو يكذب ويعاند؛ ويشرد وينأى؛ فلا يأخذه ربه بأخطائه وخطاياه؛ ولا يحبس عنه بره وعطاياه، ولا يحرمه هداه على أيدي رسله الهداة.. ثم لا يأخذه بالعقاب في الدنيا أو في الآخرة حتى تبلغه الرسل؛ فيعرض ويكفر، ويموت وهو كافر لا يتوب ولا ينيب..
• ومن عجب أن يأتي على هذا الإنسان زمان يزعم لنفسه أنه استغنى عن ربه.. استغنى عن رعايته وفضله ورحمته وبره.. استغنى عن هدايته ودينه ورسله.. استغنى بالأداة التي علم ربه أنها لا تغنيه ـ ما لم تقوّم بمنهج الله ـ فلم يكتب عليه عقابا إلا بعد الرسالة والبيان.. فيتمثل لنا الطفل الذي يحس ببعض القوة في ساقيه فيروح يبعد عنه اليد التي تسنده، ليتكفأ ويتعثر! غير أن الطفل في هذا المثال أرشد وأطوع للفطرة، إذ أنه بمحاولة الاستقلال عن اليد التي تسنده يجيب داعي الفطرة في استحثاث طاقات كامنة في كيانه؛ وإنماء قدرات ممكنة النماء؛ وتدريب عضلات وأعصاب تنمو وتقوى بالتدريب.. أما إنسان اليوم الذي يبعد عنه يد الله، ويتنكب هداه، فإن كينونته ـ بكل ما يكمن فيها من قوى ـ يعلم الله أنها لا تشتمل على قوة مكنونة تملك الاستغناء عن يد الله وهداه، وقصارى ما في قواه أنها ترشد وتضبط وتستقيم برسالة الله، وتضل وتختل وتضطرب إذا هي استقلت بنفسها، وتنكبت هداه! وخطأ وضلال ـ إن لم يكن هو الخداع والتضليل ـ كل زعم يقول: إن العقول الكبيرة كانت حرية أن تبلغ بدون الرسالة ما بلغته بالرسالة.. فالعقل ينضبط ـ مع الرسالة ـ بمنهج النظر الصحيح؛ فإذا أخطأ بعد ذلك في التطبيق كان خطؤه كخطإ الساعة التي تضبط، ثم تغلبها عوامل الجو والمؤثرات، وطبيعة معدنها الذي يتأثر بهذه المؤثرات، لا كخطإ الساعة التي لم تضبط أصلا، وتركت للفوضى والمصادفة! وشتان شتان! وآية أن ما يتم بالرسالة ـ عن طريق العقل نفسه ـ لا يمكن أن يتم بغيرها؛ فلا يغني العقل البشري عنها..
• أن تاريخ البشرية لم يسجل أن عقلا واحدا من العقول الكبيرة النادرة اهتدى إلى مثل ما اهتدت إليه العقول العادية المتوسطة بالرسالة.. لا في تصور اعتقادي؛ ولا في خلق نفسي، ولا في نظام حياة، ولا في تشريع واحد لهذا النظام..
• إن عقول أفلاطون وأرسطو من العقول الكبيرة قطعا.. بل إنهم ليقولون: إن عقل أرسطو هو أكبر عقل عرفته البشرية ـ بعيدا عن رسالة الله وهداه ـ فإذا نحن راجعنا تصوره لإلهه ـ كما وصفه ـ رأينا المسافة الهائلة التي تفصله عن تصور المسلم العادي لإلهه مهتديا بهدى الرسالة، وقد وصل أخناتون ـ في مصر القديمة ـ إلى عقيدة التوحيد ـ وحتى مع استبعاد تأثره في هذا بإشعاع عقيدة التوحيد في رسالة إبراهيم ورسالة يوسف ـ فإن الفجوات والأساطير التي في عقيدة أخناتون تجعل المسافة بينها وبين توحيد المسلم العادي لإلهه بعيدة بعيدة.
• وفي الخلق نجد في الفترة التي هيمن فيها الإسلام في صدر الإسلام نماذج للأوساط ممن رباهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لا تتطاول إليها أعناق الأفذاذ على مدار التاريخ ممن لم تخرجهم رسالة سماوية.
• وفي المبادئ والنظم والتشريعات لا نجد أبدا ذلك التناسق والتوازن، مع السمو والرفعة التي نجدها في نظام الإسلام ومبادئه وتشريعاته، ولا نجد أبدا ذلك المجتمع الذي أنشأه الإسلام يتكرر لا في زمانه ولا قبل زمانه ولا بعد زمانه في أرض أخرى، بتوازنه وتناسقه ويسر حياته وتناغمها..
• إنه ليس المستوي الحضاري المادي هو الذي يكون عليه الحكم، فالحضارة المادية تنمو بنمو وسائلها التي ينشئها (العلم) الصاعد.. ولكن ميزان الحياة في فترة من الفترات هو التناسق والتوازن بين جميع أجزائها وأجهزتها وأوضاعها.. هو التوازن الذي ينشئ السعادة والطمأنينة، والذي يطلق الطاقات الإنسانية كلها لتعمل دون كبت ودون مغالاة في جانب من جوانبها الكثيرة.. والفترة التي عاشت بالإسلام كاملا لم تبلغها البشرية ـ بعيدا عن الرسالة ـ في أي عصر.. والخلخلة وعدم الاتزان هو الطابع الدائم للحياة في غير ظل الإسلام؛ مهما التمعت بعض الجوانب؛ ومهما تضخمت بعض الجوانب، فإنما تلتمع لتنطفئ جوانب أخرى، وإنما تتضخم على حساب الجوانب الأخرى.. والبشرية معها تتأرجح وتحتار وتشقى.
5. ونقف عند هذا الحد ـ المناسب لسياق الظلال ـ في الحديث عن الإيحاءات القوية العميقة، التي يثيرها في النفس قول الله تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾.. لنمضي بعدها مع السياق القرآني.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/806.
(2) تقسيم الفروع هنا ليس منهجيا، وإنما من باب التبسيط فقط
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ أي أرسلنا رسلا إلى الناس، مبشرين ومنذرين، يبشرونهم بمغفرة ورضوان إذا هم استجابوا لرسل الله، وآمنوا بالله، وينذرونهم بما يلقون من سخط الله وعذابه، إذا هم كذّبوا رسل الله وكفروا بالله..
2. ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ هو إشارة إلى ألطاف الله، ورحمته بعباده، حيث لم يدعهم إلى عقولهم ليتعرفوا إليه، ويستقيموا على سبيله، بل رفد هذه العقول بذلك النور الهادي الذي حمله إليهم رسل الله، لتكون رؤيتهم لآيات الله واضحة، وطريقهم إليه مشرقا.. فمن كفر بالله وحاد عن طريقه، فليس ذلك عن علّة، إلا العناد، واتباع الهوى، والانقياد للشيطان.. فإذا أخذ الكافر بكفره، فذلك هو الحكم الذي حكم به الكافر على نفسه، ورضيه لها، فلا عذر لمعتذر، ولا حجة لكافر.
3. ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ هو بيان للصفة الإلهية المتجلية على العباد في هذا المقام، فهو سبحانه وتعالى عزيز، يخضع لعزته كل موجود.. ولو شاء لأخذ الناس بغير حجّة عليهم، ولعذبهم من غير أن يبعث فيهم رسله مبشرين ومنذرين ـ إذ ليس لأحد أن يراجع الله، ولا أن يعترض على ما يريد.. ولكنه سبحانه مع هذه العزة المتمكنة الغالبة؛ (حكيم) لا يفعل إلا ما تقضى به حكمته، في إشراقها وعدلها.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1013.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿رُسُلًا﴾ حال من المذكورين، وقد سمّاهم رسلا لما قدّمناه، وهي حال موطّئة لصفتها، أعني مبشّرين؛ لأنّه المقصود من الحال.
2. ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ تعليل لقوله: ﴿مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ ولا يصحّ جعله تعليلا لقوله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ لأنّ ذلك مسوق لبيان صحّة الرسالة مع الخلوّ عن هبوط كتاب من السماء ردّا على قولهم: ﴿حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ﴾ [الإسراء: 93]، فموقع قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ موقع الإدماج تعليما للأمّة بحكمة من الحكم في بعثته الرسل.
3. والحجّة ما يدلّ على صدق المدّعي وحقّيّة المعتذر، فهي تقتضي عدم المؤاخذة بالذنب أو التقصير، والمراد هنا العذر البيّن الذي يوجب التنصّل من الغضب والعقاب، فإرسال الرسل لقطع عذر البشر إذا سئلوا عن جرائم أعمالهم، واستحقّوا غضب الله وعقابه، فعلم من هذا أنّ للنّاس قبل إرسال الرسل حجّة إلى الله أن يقولوا: ﴿لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [القصص: 47]
4. أشعرت الآية أنّ من أعمال النّاس ما هو بحيث يغضب الله ويعاقب عليه، وهي الأفعال التي تدلّ العقول السليمة على قبحها لإفضائها إلى الفساد والأضرار البيّنة، ووجه الإشعار أنّ الحجّة إنّما تقابل محاولة عمل ما، فلمّا بعث الله الرسل لقطع الحجّة علمنا أنّ الله حين بعث الرسل كان بصدد أن يؤاخذ المبعوث إليهم، فاقتضت رحمته أن يقطع حجّتهم ببعثة الرسل وإرشادهم وإنذارهم، ولذلك جعل قطع الحجّة علّة غائيّة للتبشير والإنذار: إذ التبشير والإنذار إنّما يبيّنان عواقب الأعمال، ولذلك لم يعلّل بعثه الرسل بالتنبيه إلى ما يرضي الله وما يسخطه.
5. فهذه الآية ملجئة جميع الفرق إلى القول بأنّ بعثة الرسل تتوقّف عليها المؤاخذة بالذنوب، وظاهرها أنّ سائر أنواع المؤاخذة تتوقّف عليها، سواء في ذلك الذنوب الراجعة إلى الاعتقاد، والراجعة إلى العمل، وفي وجوب معرفة الله، فإرسال الرسل عندنا من تمام العدل من الله لأنّه لو لم يرسلهم لكانت المؤاخذة بالعذاب مجرّد الإطلاق الذي تقتضيه الخالقية إذ لا يسأل عمّا يفعل، وكانت عدلا بالمعنى الأعمّ:
أ. فأمّا جمهور أهل السنّة، الذين تترجم عن أقوالهم طريقة الأشعري، فعمّموا وقالوا: لا يثبت شيء من الواجبات، ولا مؤاخذة على ترك أو فعل إلّا ببعثة الرسل حتّى معرفة الله تعالى، واستدلّوا بهذه الآية وغيرها: مثل ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15] وبالإجماع، وفي دعوى الإجماع نظر، وفي الاستدلال به على أصل من أصول الدين نظر آخر، وفي الاستدلال بالآيات، وهي ظواهر، على أصل من أصول الدين نظر ثالث، إلّا أن يقال: إنّها تكاثرت كثرة أبلغتها إلى مرتبة القطع، وهذا أيضا مجال للنظر، وهم ملجئون إلى تأويل هذه الآية، لأنّهم قائلون بمؤاخذة أهل الفترة على إشراكهم بالله، والجواب أن يقال: إنّ الرسل في الآية كلّ إفرادي، صادق بالرسول الواحد، وهو يختلف باختلاف الدعوة، فأمّا الدعوة إلى جملة الإيمان والتوحيد فقد تقرّرت بالرسل الأوّلين، الّذين تقرّر من دعواتهم عند البشر وجوب الإيمان والتوحيد، وأمّا الدعوة إلى تفصيل الآيات والصفات وإلى فروع الشرائع، فهي تتقرّر بمجيء الرسل الذين يختصّون بأمم معروفة.
ب. وأمّا المعتزلة فقد أثبتوا الحسن والقبح الذاتيين في حالة عدم إرسال رسول؛ فقالوا: إنّ العقل يثبت به وجوب كثير من الأحكام، وحرمة كثير، لا سيما معرفة الله تعالى، لأنّ المعرفة دافعة للضرّ المظنون، وهو الضرّ الأخروي، من لحاق العذاب في الآخرة، حيث أخبر عنه جمع كثير، وخوف ما يترتّب على اختلاف الفرق في معرفة الصانع قبل المعرفة الصحيحة من المحاربات، وهو ضرّ دنيويّ، وكلّ ما يدفع الضرّ المظنون أو المشكوك واجب عقلا، كمن أراد سلوك طريق فأخبر بأنّ فيه سبعا، فإنّ العقل يقتضي أن يتوقّف ويبحث حتّى يعلم أيسلك ذلك الطريق أم لا، وكذلك وجوب النظر في معجزة الرسل وسائر ما يؤدّي إلى ثبوت الشرائع، فلذلك تأوّلوا هذه الآية بما ذكره في (الكشاف) إذ قال: (فإن قلت: كيف يكون للنّاس على الله حجّة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلّة التي النظر فيها موصّل إلى المعرفة، والرسل في أنفسهم لم يتوصّلوا إلى المعرفة بالنظر في تلك الأدلّة، أي قبل الرسالة، قلت: الرسل منبّهون عن الغفلة وباعثون على النظر مع تبليغ ما حمّلوه من أمور الدّين وتعليم الشرائع؛ فكان إرسالهم إزاحة للعلّة وتتميما لإلزام الحجّة)، يعني أنّ بعثة الرسل رحمة من الله لا عدل، ولو لم يبعثهم لكانت المؤاخذة على القبائح عدلا، فبعثة الرسل إتمام للحجّة في أصل المؤاخذة، وإتمام للحجّة في زيادة التزكية أن يقول النّاس: ربّنا لم لم ترشدنا إلى ما يرفع درجاتنا في مراتب الصدّيقين وقصرتنا على مجرّد النجاة من العذاب، حين اهتدينا لأصل التّوحيد بعقولنا.
ج. وقال الماتريدي بموافقة الجمهور فيما عدا المعرفة بالله تعالى عند إرادة إفحام الرسل خاصّة لأنّه رآه مبنى أصول الدّين، كما يشير إليه قول صدر الشريعة في (التوضيح) (أي يكون الفعل صفة يحمد فاعل الفعل ويثاب لأجلها أو يذمّ ويعاقب لأجلها؛ لأنّ وجوب تصديق النبي إن توقّف على الشرع يلزم الدور) وصرّح أيضا بأنّها تعرف بالشرع أيضا.
6. وقد ضايق المعتزلة الأشاعرة في هذه المسألة بخصوص وجوب المعرفة فقالوا: لو لم تجب المعرفة إلّا بالشرع للزم إفحام الرسل، فلم تكن للبعثة فائدة، ووجه اللزوم أنّ الرسول إذا قال لأحد: انظر في معجزتي حتّى يظهر صدقي لديك، فله أن يقول: لا انظر ما لم يجب عليّ، لأنّ ترك غير الواجب جائز، ولا يجب عليّ حتّى يثبت عندي الوجوب بالشرع، ولا يثبت الشرع ما دمت لم انظر، لأنّ ثبوت الشرع نظريّ لا ضروري، وظاهرهم الماتريديّة وبعض الشافعيّة على هذا الاستدلال، ولم أر للأشاعرة جوابا مقنعا، سوى أنّ إمام الحرمين في (الإرشاد) أجاب: بأنّ هذا مشترك الإلزام لأنّ وجوب التأمّل في المعجزة نظري لا ضروريّ لا محالة، فلمن دعاه الرسول أن يقول: لا أتأمل في المعجزة ما لم يجب ذلك عليّ عقلا، ولا يجب عليّ عقلا ما لم انظر، لأنّه وجوب نظري، والنّظري يحتاج إلى ترتيب مقدّمات، فأنا لا أرتّبها، وتبعه على هذا الجواب جميع المتكلّمين بعده من الأشاعرة مثل البيضاوي والعضد والتفتازانيّ، وقال ابن عرفة في (الشامل): إنّه اعتراف بلزوم الإفحام فلا يزيل الشبهة بل يعمّمها بيننا وبينهم، فلم يحصل دفع الإشكال وكلام ابن عرفة ردّ متمكّن، والظاهر أنّ مراد إمام الحرمين أن يسقط استدلال المعتزلة لأنفسهم على الوجوب العقلي بتمحّض الاستدلال بالأدلة الشرعيّة وهو مطلوبنا، وأنا أرى أن يكون الجواب بأحد طريقين:
أ. أولهما: بالمنع، وهو أن نمنع أن يكون وجوب سماع دعوة الرسول متوقّفا على الإصغاء إليه، والنظر في معجزته، وأنّه لو لم يثبت وجوب ذلك بالعقل يلزم إفحام الرسول، بل ندّعي أنّ ذلك أمر ثبت بالشرائع الّتي تعاقب ورودها بين البشر، بحيث قد علم كلّ من له علاقة بالمدنيّة البشرية بأنّ دعاة أتوا إلى النّاس في عصور مختلفة، ودعوتهم واحدة: كلّ يقول إنّه مبعوث من عند الله ليدعو النّاس إلى ما يريده الله منهم، فاستقرّ في نفوس البشر كلّهم أنّ هنالك إيمانا وكفرا، ونجاة وارتباقا، استقرارا لا يجدون في نفوسهم سبيلا إلى دفعه، فإذا دعا الرسول النّاس إلى الإيمان حضرت في نفس المدعوّ السامع تلك الأخبار الماضية والمحاورات، فوجب عليه وجوبا اضطراريا استماعه والنظر في الأمر المقرّر في نفوس البشر، ولذلك أخذ الله أهل الفترة بالإشراك كما دلّت عليه نصوص كثيرة من الكتاب والسنّة، ولذلك فلو قدّرنا أحدا لم يخالط جماعات البشر، ولم يسبق له شعور بأنّ النّاس آمنوا وكفروا وأثبتوا وعطّلوا، لما وجب عليه الإصغاء إلى الرسول لأنّ ذلك الانسياق الضروري مفقود عنده، وعلى هذا الوجه يكون الوجوب غير شرعي، ولا عقلي نظري، بل هو من الأمور الضرورية التي لا يستطاع دفعها فلا عجب أن تقع المؤاخذة بتعمّد مخالفتها.
ب. وثاني الجوابين: بالتسليم، غير أنّ ما وقر في جبلّة البشر من استطلاع الحوادث والأخبار الجديدة، والإصغاء لكلّ صاحب دعوة، أمر يحمل كلّ من دعاه الرسول إلى الدين على أن يستمع لكلامه، ويتلقّى دعوته وتحدّيه ومعجزته، فلا يشعر إلّا وقد سلكت دعوته إلى نفس المدعوّ، فحرّكت فيه داعية النظر، فهو ينجذب إلى تلقّي الدعوة، رويدا رويدا، حتّى يجد نفسه قد وعاها وعلمها علما لا يستطيع بعده أن يقول: إنّي لا انظر المعجزة، أو لا أصغي إلى الدعوة، فإن هو أعرض بعد ذلك فقد اختار العمى على الهدى، فكان مؤاخذا، فلو قدّرنا أحدا مرّ برسول يدعو فشغله شاغل عن تعرّف أمره والإصغاء لكلامه والنظر في أعماله، لسلّمنا أنّه لا يكون مخاطبا، وأنّ هذا الواحد وأمثاله إذا أفحم الرسول لا تتعطّل الرسالة، ولكنّه خسر هديه، وسفه نفسه، ولا يرد علينا أنّ من سمع دعوة الرسول فجعل أصابعه في أذنيه وأعرض هاربا حينئذ، لا يتوجّه إليه وجوب المعرفة، لأنّ هذا ما صنع صنعه إلّا بعد أن علم أنّه قد تهيّأ لتوجّه المؤاخذة عليه إذا سمع فعصى، وكفى بهذا شعورا منه بتوجّه التكليف إليه فيكون مؤاخذا على استحبابه العمى على الهدى، كما قال تعالى في قوم نوح: ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ﴾ ـ أي إلى الإيمان ـ ﴿لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾ [نوح: 7]
7. الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ دون أن يقال: بعدهم، للاهتمام بهذه القضيّة واستقلالها في الدلالة على معناها حتّى تسير مسرى الأمثال.
8. مناسبة التذييل بالوصفين في قوله: ﴿عَزِيزًا حَكِيمًا﴾: أمّا بوصف الحكيم فظاهرة، لأنّ هذه الأخبار كلّها دليل حكمته تعالى، وأمّا بوصف العزيز فلأنّ العزيز يناسب عزّته أن يكون غالبا من كلّ طريق فهو غالب من طريق المعبوديّة، لا يسأل عما يفعل، وغالب من طريق المعقوليّة إذ شاء أن لا يؤاخذ عبيده إلّا بعد الأدلّة والبراهين والآيات، وتأخير وصف الحكيم لأنّ إجراء عزّته على هذا التمام هو أيضا من ضروب الحكمة الباهرة.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/322.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ في هذا النص الكريم بيان لعمل الرسل، والحكمة من بعثهم، وقد أرسل هؤلاء مبينين الحق داعين إليه، يبشرون الطائعين بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة، وينذرون العاصين بسوء العقبى، وإن واتاهم نفع في الدنيا، فالعذاب الأليم يستقبلهم في الآخرة.
2. وكان بعث الرسل لكى يكون الذين يعصون على علم بما يستقبلهم والذين يطيعون على بينة بأوامر ربهم ويكون الذين يعذبون ليس لهم عذر من جهل، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾، أي لكى يسقط كل اعتذار للعصاة في عصيانهم بعد البيان الحكيم والإرشاد المبين فمن ضل فعن بينة، والله سبحانه برحمته وفضله ومنه يسمى ذلك حجة عليه، ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء]
3. وقد قال المعتزلة: إن لله دائما الحجة على خلقه بالعقل الذى أودعه خالقهم، وهو هاد مرشد، ولكن إرسال الرسل رحمة من الله تعالى، ولذا قال الزمخشري في تفسير النص: الرسل منبهون من الغفلة وباعثون على النظر كما يرى علماء أهل العدل والتوحيد (أى المعتزلة) مع تبليغ ما حملوه من تفصيل أمور الدين، وبيان أحوال التكليف، وتعليم الشرائع فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة لئلا يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له، والحق أن الناس لا يهتدون في جملتهم إلى الشرائع الصحيحة، بل هم بعدها مراتب منهم من يهتدون بمجرد بيان الحق، ومنهم من لا يقنعون إلا بالبرهان الملزم، ومنهم من لا يطيعون الا بالتهديد ومنهم عصاة جائرون بائرون.
4. وقد ختم سبحانه الآية بقوله: ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ أي أنه القادر الغالب على كل شيء وهو الحكيم، الذى يدبر الأمر بحكمته وعزته.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1968.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾، إن قاعدة لا عقاب بلا بيان كما يعبر الفقهاء، أو لا عقوبة بلا نص كما يقول أهل الشرائع الوضعية، ان هذه واضحة بذاتها لا تحتاج إلى دليل، بل هي دليل على غيرها.
2. وحيث ان الله سبحانه لم يترك الإنسان سدى، بل أمره ونهاه، ولا بد من إبلاغه الأمر والنهي، حتى تقوم عليه الحجة لو خالف، وإلا كانت الحجة له فيما لا يعرف إلا بالوحي، وحيث ان الرسل وسطاء بين الله وخلقه في تبليغ أحكامه ووعده ووعيده، لذلك أرسل الله مبشرين ومنذرين لئلا يدع مجالا لاعتذارات وتعللات: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ﴾ ـ أي من قبل البيان ـ ﴿لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ [طه: 134]
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/496.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ أحوال ثلاثة أو الأول حال والأخيران وصفان له، وقد تقدم استيفاء البحث عن معنى إرسال الرسل وتمام الحجة من الله على الناس، وأن العقل لا يغني وحده عن بعثة الأنبياء بالشرائع الإلهية في الكلام على قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [سورة البقرة: 213]
2. ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ وإذا كانت له العزة المطلقة والحكمة المطلقة استحال أن يغلبه أحد بحجة بل له الحجة البالغة، قال تعالى: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾ [الأنعام: 149]
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/142.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ ﴿رُسُلًا﴾ يعني به المذكورين بأسمائهم وفي الجملة رسلاً قد قصصنا ورسلاً لم نقص، فكلهم جعلهم الله رسلاً ﴿مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ مبشرين لمن آمن واتقى ومنذرين للمجرمين ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ﴾ فيقولوا: ﴿رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ﴾ [طه:134] فما بقي لهم حجة بعد الرسل.
2. ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ غالبا لا ينال حكيماً فقد عامل عباده بالحكمة في التقديم إليهم بإرسال الرسل، مع أنه غني عنهم كما عاملهم بالعزة حيث لم يتركهم هملاً يفسدون ويظلمون من دون جزاء، ولا تمييز بين المطيع والعاصي، فكذبوا الرسل كل رسول كذبته أمته، وكذب الكافرون من أهل الكتاب وغيرهم رسول الله محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم، وجحدوا نزول القرآن عليه من الله.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/215.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ما هو دور هؤلاء الرسل، ولماذا أطلقهم الله في تاريخ البشرية؟ ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ إن هذه الآية تحدد دورهم بالإنذار والتبشير من أجل إقامة الحجة على الناس، فيما يريد الله للناس أن يعرفوه ويعملوا به في طاعته، من خلال القضايا التي قد يحتاجون فيها إلى الوحي، من أجل إدراك تفاصيلها، أو من خلال المواقف المتنوعة التي تواجههم، فلا يملكون التفاصيل الواضحة الهادية إلى الصراط المستقيم، أو في ظل إخراجهم من طبيعة الغفلة التي قد تطبق على أفكارهم وعقولهم، فتبعدهم عن التركيز والامتداد في الخط الصحيح، إلى غير ذلك من الأمور التي قد لا يكفي فيها العقل لإقامة الحجة، بل يحتاج فيها إلى الوحي الذي يهدي العقل، فيما لا سبيل إلى الوصول إليه، أو ما تحيط به الشبهات والأضاليل فتغرقه في الأجواء الكثيفة من الضباب؛ فقد يقول الناس غدا، عندما يحاسبهم الله على ما انحرفوا فيه، أو ما أخطئوا به، إنهم لم يلتقوا بالرسل الذين يبصّرونهم الطريق؛ فكان تاريخ الرسل الذي تلاحقت فيه الرسالات هو الرد على كل ذلك.
2. ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا﴾ في قوته وقدرته، ﴿حَكِيمًا﴾ في أوامره ونواهيه وتقديره في الأمور.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/546.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. صلة الوحي ظلت باقية بين البشر، ولم يكن من عدل الله أن يترك البشر دون مرشد أو قائد، أو أن يتركهم دون أن يعين لهم واجباتهم وتكاليفهم، وهو الذي بعث الأنبياء والرسل للبشر مبشرين ومنذرين، لكي يبشروا الناس برحمته وثوابه، وينذرونهم من عذابه وعقابه لكي يتمّ الحجة عليهم فلا يبقى لهم عذر أو حجّة: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾
2. فقد أحكم الله العزيز القدير خطّة إرسال الأنبياء ونفذها بكل دقة، وبهذا تؤكد الآية ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ فحكمته توجب تحقيق هذا العمل، وقدرته تمهد السبيل إلى تنفيذه، وعلى عكس ذلك فإن إهمال هذا الأمر المهم، إمّا أن يدل على الافتقار إلى الحكمة والمعرفة، أو أنّه دلالة على العجز، والله منزّه عن كل هذه العيوب.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/538.
144. رسالة الرسول وشهاد الله وملائكته
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈144⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 166]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال لهم: إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله، فقالوا: ما نعلم ذلك، فأنزل الله: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ﴾ الآية(1).
__________
(1) ابن إسحاق ـ كما في السيرة لابن هشام ١/٥٦٢.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ في علي ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/285.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ﴾ الآية، قال شهود والله غير متهمة(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٦٩٥.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: إنما أنزلت: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ في علي ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾(1).
__________
(1) تفسير القمّي 1/159.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ من القرآن ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ بذلك، ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ يقول: فلا شاهد أفضل من الله بأنه أنزل عليك القرآن(1).
2. روي أنّه قال: فقال لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنكم لتعلمون حق ما أقول، وإنه لفي التوراة، فإن تتوبوا وترجعوا يغفر لكم ذنوبكم)، قالوا: لو كان ما تقول في التوراة لتابعناك، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (والله، إنكم لتشهدون بما أقول)، قالوا: ما عندنا بذلك شهادة، قال الله عز وجل: فإن لم يشهد لك أحد منهم فإن الله وملائكته يشهدون بذلك؛ فذلك قوله عز وجل: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢٣.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عز وجل: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ قيل فيه بوجهين:
أ. قيل: يشهد الله يوم القيامة ـ والملائكة يشهدون أيضًا ـ أن هذا القرآن الذي أنزل إليك إنما أنزل من عند الله، لا كما يقولون: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾، ﴿مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى﴾، ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾، كما قالوا.
ب. وقيل: قوله: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ أي: يبين بالآيات والحجج التي يعجز الخلائق عن إتيان مثلها، وتلزمهم الإقرار بأنه إنما أنزل من عند الله.
2. قوله عز وجل: ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. أنزله بالآيات والحجج ما يعلم أنها آيات الربوبية والحجج السماوية.
ب. ويحتمل: ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ أي: أنزله على علم منه بمن يقبل ومن لا يقبل، ليس كما يبعث ملوك الأرض بعضهم إلى بعض رسائل وهدايا لا يعلمون قبولها ولا ردها، ولا علم لهم بمن يقبلها وبمن يردها، ولو كان لهم بذلك علم ما أرسلوا الرسل، ولا بعثوا الهدايا؛ إذا علموا أنهم لا يقبلون؛ فأخبر عز وجل أنه على علم منه أنزل بمن يقبل وبمن يرد.
3. قوله عز وجل: ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾:
أ. أي: شاهدًا على ما ذكرنا من شهادته يوم القيامة على أحد التأويلين أنه أنزله.
ب. ويحتمل قوله: ﴿شَهِيدًا﴾ أي: مبينًا، أي: كفى بالله مبينًا بالآيات والحجج.
4. عن ابن عباس قال لما أنزل الله: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ الآية ـ قالت قريش: من يشهد لك أن ما تقول حق؟ فأنزل الله تعالى: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾، وأنزل ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ الآية.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٢٢.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال الزجاج: الرفع مع تخفيف (لكن) والنصب مع تشديده جائز، لكن لم يقرأ بالتشديد أحد.
2. معنى ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ﴾ أي يبين ما تشهد به ويعلم مع إبانته انه حق.
3. ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ دخلت الباء مؤكدة، والمعنى اكتفوا بالله في شهادته والمعنى في الآية ان هؤلاء اليهود الذين سألوك ان ينزل عليهم كتابا من السماء وقالوا لك ما أنزل الله على بشر من شيء وقد كذبوا ليس الامر كما قالوا، لكن الله يشهد بتنزيل ما أنزله اليك من كتابه ووحيه أنزل ذلك إليك، وهو عالم بأنك خيرته من خلقه، وصفوته من عباده يشهد لك بذلك ملائكته، فلا يحزنك تكذيب من كذبك، وخلاف من خالفك.
4. ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ أي حسبك بالله شاهداً على صدقك، دون ما سواه، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في جماعة من اليهود كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دعاهم إلى اتباعه، وأخبرهم أنهم يعلمون حقيقة نبوته فجحدوا نبوته، وأنكروا معرفته، فأنزل الله فيهم هذه الآية تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتعزية له عن تكذيب من كذبه، ومن استدلّ بهذه الآية على انه تعالى عالم بعلم، فقد اخطأ لأن، قوله بعلمه معناه، وهو عالم به، ولو كان المراد بذلك ذاتا اخرى، لوجب أن يكون العلم آلة في الانزال، كما يقولون كتبت بالقلم، وقطعت بالسكين، ونجرت بالناس، ولا خلاف ان العلم ليس بآلة في الانزال، وقال الزجاج معناه إنزال القرآن الذي علمه فيه، وهو اختيار الأزهري.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/396.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الشهادة: الإخبار بما قد شوهد، وأصله من المشاهدة، والشاهد: المبين للأمر الذي يشهد به.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: إن جماعة من اليهود دخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال لهم: (إني ـ وَالله ـ أعلم أنكم لتعلمون أني رسول الله) فقالوا: ما نعلم ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن ابن عباس.
ب. وقيل: إن جماعة من الرؤساء، قالوا له: إنا سألنا اليهود عنك وعن صفتك في كتابهم، فزعموا أنهم لا يعرفونك، فنزلت الآية.
ج. وقيل: إن قريشًا قالت له: من يشهد لك بما تقول، فنزلت الآية.
3. عقب الله تعالى ذكر إنكارهم وجحودهم جوابًا لهم وإنكارًا عليهم، فقال تعالى: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ﴾ يعني: إن لم يشهد لك هَؤُلَاءِ بالنبوة فالله يشهد؛ لأن ﴿لَكِنِ﴾ تنبئ عن ذلك، ومعنى ﴿يَشْهَدُ﴾:
أ. قيل: من الشهادة أي: إن لم يشهدوا فهو يشهد.
ب. وقيل: معناه يبين بما يغني عن بيان أهل الكتاب، عن الزجاج والأصم.
4. ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ يعني يشهد بأنه أنزل عليك القرآن والإسلام ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾:
أ. قيل: يُعلّم بك وأنك أهل لذلك وتبليغه وقيامك به، وعلمك بما فيه وحسن دعائك إليه، عن أبي مسلم.
ب. وقيل: أنزل القرآن بما فيه عن علوم الدين الذي يحتاج إليه العباد، عن الزجاج.
ج. وقيل: أنزل فيه علمه بالحق وما يسرون وما يعلنون، عن الأصم.
د. وقيل: أنزله وهو عالم أنه يوحى إليك على جهته من غير زيادة ولا نقصان ولا تحريف.
هـ. وقيل: أنزله وهو عالم به ووجه المصلحة فيه وبأمره وعلمه أنزله، عن أبي علي.
5. سؤال وإشكال: فأي حجة في هذا على المخالفين؟ والجواب:
أ. إذا أبوا أن يشهدوا بما شهد اللهُ به فقد بانَ خزيهم.
ب. وقيل: بين بالمعجزة ما لا يضرك معهْ جحدهم.
6. ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾:
أ. بأنك رسولُ الله بلغت الرسالة، وهم معصومون، فشهادتهم خير من شهادة هَؤُلَاءِ.
ب. وقيل: الملائكة يشهدون أن أحدًا لا يقدر أن يأتي بمثل ما أتيت به ولو اجتمعوا، عن الأصم.
7. ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ أي: حسبك به شاهدًا على صدقك.
8. ﴿لَكِنِ﴾ إذا خففت رفعت ما بعدها، وإذا ثُقِّلتْ نصبت، والباء في قوله: ﴿بِعِلْمِهِ﴾ معناه أنزله وهو عالم به، كقولهم: أتيتك بعلم؛ أي: وأنا عالم بك..
9. تدل الآية الكريمة على:
أ. حدث القرآن؛ لأنه وصف بأنه أنزله.
ب. تسلية الرسول بالشهادة من الله والملائكة بصدقه، فمع ذلك لا يضره جحد الكفار.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/157.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قيل: إن جماعة من اليهود دخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال النبي لهم: إني أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله، فقالوا: لا نعلم ذلك، ولا نشهد به، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
2. قال سبحانه بعد إنكارهم وجحودهم: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ معناه: إن لم يشهد لك هؤلاء بالنبوة، فالله يشهد لك بذلك، قال الزجاج: والشاهد هو المبين لما يشهد به، والله سبحانه يبين ما أنزل على رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بنصب المعجزات له، ويبين صدقه بما يغني عن بيان أهل الكتاب.
3. ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾:
أ. معناه: أنزل القرآن، وهو عالم بأنك موضع لإنزاله عليك، لقيامك فيه بالحق، ودعائك الناس إليه.
ب. وقيل: معناه أنزل القرآن الذي فيه علمه، عن الزجاج.
4. ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ بأنك رسول الله، وأن القرآن نزل من عند الله ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ معناه: إن شهادة الله تكفي في تثبيت المشهود به، ولا يحتاج معها إلى شهادة.
5. في هذه الآية تسلية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على تكذيب من كذبه، ولا يصح قول من استدلّ على أن الله سبحانه عالم بعلم بما في هذه الآية من قوله: ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾، لأنه لو أراد بالعلم ما ذهبوا إليه، من كونه ذاتا سواه، لوجب أن يكون آلة له في الإنزال، كما يقال: كتبت بالقلم، وعمل النجار بالقدوم، ولا خلاف أن العلم ليس بآلة في الانزال.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/218.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ﴾ في سبب نزولها قولان:
أ. أحدهما: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم دخل على جماعة من اليهود، فقال: (إنّي والله أعلم أنّكم لتعلمون أنّي رسول الله)، فقالوا: ما نعلم ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: أنّ رؤساء أهل مكّة أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: سألنا عنك اليهود، فزعموا أنّهم لا يعرفونك، فائتنا بمن يشهد لك أنّ الله بعثك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن السّائب.
2. قال الزجّاج: الشّاهد: المبيّن لما يشهد به، فالله عزّ وجلّ بيّن ذلك، ويعلم مع إبانته أنه حقّ.
3. في معنى ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنزله وفيه علمه، قاله الزجّاج.
ب. الثاني: أنزله من علمه، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ.
ج. الثالث: أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه، قاله ابن جرير.
4. ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾، فيه قولان:
أ. أحدهما: يشهدون أنّ الله أنزله.
ب. الثاني: يشهدون بصدقك.
5. ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ قال الزجّاج: (الباء) دخلت مؤكّدة، والمعنى: اكتفوا بالله في شهادته.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/500.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله: ﴿لَكِنِ﴾ لا يبتدأ به لأنه استدراك على ما سبق، وفي ذلك المستدرك قولان:
أ. الأول: أن هذه الآيات بأسرها جواب عن قوله: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ [النساء: 153] وهذا الكلام يتضمن أن هذا القرآن ليس كتابا نازلا عليهم من السماء، فكأنه قيل: إنهم وإن شهدوا بأن القرآن لم ينزل عليه من السماء لكن الله يشهد بأنه نازل عليه من السماء.
ب. الثاني: أنه تعالى لما قال: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [النساء: 163] قال القوم: نحن لا نشهد لك بذلك، فنزل ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ﴾
2. شهادة الله إنما عرفت بسبب أنه أنزل عليه هذا القرآن البالغ في الفصاحة في اللفظ والشرف في المعنى إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضته، فكان ذلك معجزا وإظهار المعجزة شهادة بكون المدعي صادقا، ولما كانت شهادته إنما عرفت بواسطة إنزال القرآن لا جرم قال: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ أي يشهد لك بالنبوّة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله إليك.
3. لما قال الله تعالى: ﴿يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ بين صفة ذلك الإنزال وهو أنه تعالى أنزله بعلم تام وحكمة بالغة، فصار قوله: ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ جاريا مجرى قول القائل: كتبت بالقلم وقطعت بالسكين، والمراد من قوله: ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ وصف القرآن بغاية الحسن ونهاية الكمال، وهذا مثل ما يقال في الرجل المشهور بكمال الفضل والعلم إذا صنف كتابا واستقصى في تحريره: إنه إنما صنف هذا بكمال علمه وفضله، يعني أنه اتخذ جملة علومه آلة ووسيلة إلى تصنيف هذا الكتاب فيدل ذلك على وصف ذلك التصنيف بغاية الجودة ونهاية الحسن، فكذا هاهنا.
قال أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ: دلت الآية الكريمة على أن لله تعالى علما، وذلك لأنها تدل على إثبات علم الله تعالى، ولو كان علمه نفس ذاته لزم إضافة الشيء إلى نفسه وهو محال.
4. ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ وإنما تعرف شهادة الملائكة له بذلك لأن ظهور المعجز على يده يدل على أنه تعالى شهد له بالنبوة، وإذا شهد الله له بذلك فقد شهدت الملائكة لا محالة بذلك لما ثبت في القرآن أنهم لا يسبقونه بالقول، والمقصود كأنه قيل: يا محمد إن كذبك هؤلاء اليهود فلا تبال بهم فإن الله تعالى وهو إله العالمين يصدقك في ذلك، وملائكة السموات السبع يصدقونك في ذلك، ومن صدقه ربّ العالمين وملائكة العرش والكرسي والسموات السبع أجمعون لم يلتفت إلى تكذيب أخس الناس، وهم هؤلاء اليهود.
5. ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ والمعنى وكفى الله شهيدا، وقد سبق الكلام في مثل هذا.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/269.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ﴾ رفع بالابتداء، وإن شئت شددت النون ونصبت، وفي الكلام حذف دل عليه الكلام، كأن الكفار قالوا: ما نشهد لك يا محمد فيما تقول فمن يشهد لك؟ فنزل ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ﴾، ومعنى ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ أي وهو يعلم أنك أهل لإنزاله عليك، ودلت الآية الكريمة على أنه تعالى عالم بعلم.
2. ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ ذكر شهادة الملائكة ليقابل بها نفي شهادتهم، ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ أي كفى الله شاهدا، والباء زائدة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/19.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ﴾ الاسم الشريف مبتدأ والفعل خبره، ومع تشديد النون هو منصوب على أنه اسم لكنّ، والاستدراك من محذوف مقدّر، كأنهم قالوا: ما نشهد لك يا محمد بهذا، أي: الوحي والنبوّة، فنزل: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ﴾
2. ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ جملة معطوفة على الجملة الأولى: أو جملة حالية، وكذلك قوله: ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ جملة حالية، أي: متلبسا بعلمه الذي لا يعلمه غيره، من كونك أهلا لما اصطفاك الله له من النبوّة، وأنزله عليك من القرآن.
3. ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ أي: كفى الله شاهدا، والباء زائدة، وشهادة الله سبحانه: هي ما يصنعه من المعجزات الدالة على صحة النبوة، فإن وجود هذه المعجزات شهادة للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بصدق ما أخبر به من هذا وغيره.
__________
(1) فتح القدير: 1/623.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال ابن عبَّاس: دخل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جماعة من اليهود، فقال لهم: (إنِّي والله أعلم أنَّكم لتعلمون أنِّي رسول الله)، فقالوا: (ما نعلم ذلك)، وأتى رؤساءُ مكَّة رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: (يا محمَّد، إنَّا نسأل اليهود عنك وعن صفاتك في كتابهم، فزعموا أنَّهم لا يعرفونك)، ونزل: ﴿اِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَا﴾، قالت اليهود: لا نشهد لك بذلك أبدًا حتَّى ينزل عليك كتاب ويكون كالتوراة، فنزل تسليةً له واحتجاجًا عنه قولُه تعالى: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ﴾ من النبوَّة والقرآن، أي: أنَّهم لا يشهدون لك بذلك، لكن الله يشهد بما أنزل إليك من القرآن الذي أنكروا إنزاله عليك.
2. ﴿أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ وهو علمٌ كاملٌ بأنَّك أهل لإنزاله عليك لكمالك، وإنَّك مبلِّغه إلى عباده، وبمصالح العباد معاشًا ومعادًا في إنزاله عليك، وبأنَّه لا يغَيِّره شيطان، والباء للملابسة، والعلم باق على المعنى المصدريِّ، وبتأليفه المعجز عن المعارضة والإتيان بمثله، أو أوحينا إليك كما أوحينا إلى من قبلك، لكن للإيحاء إليك مزيَّة بشهادة الله تعالى ـ بالتصريح ـ والملائكةِ بعمومهم.
3. ﴿وَالْمَلَآئِكَةُ﴾ ملائكة العرش والكرسيِّ ومَن دونَهُم ﴿يَشْهَدُونَ﴾ أنَّك رسول من الله بالقرآن، لصفاء قلوبهم عن الكدورات المانعة عن الإدراك، ولمشاهدتهم نزوله عليه، ولو استعمل المشركون من اليهودِ وغيرِهِم عقولَهم لأدركوا ذلك، أو أخذوه من التوراة والإنجيل، أو قل: الملائكة يشهدون بما شهد الله تعالى، أو يشهدون به بواسطة حضورهم يوم بدر ظاهرين للناس، كما وعد لهم بالغلبة.
4. ﴿وَكَفَىٰ﴾ عن شهادة الخلق ﴿بِاللهِ شَهِيدًا﴾ لِمَا أقام من الحجج على نبوَّتك ورسالتك، ضلال الكافرين وجزاؤهم ودعوة الناس إلى الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/355.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما تضمن قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ الآية، إثبات نبوته والاحتجاج على تعنتهم عليه، بسؤال كتاب نزل عليهم من السماء، كأنه قيل: إنهم لا يشهدون بذلك، قال: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾
2. ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ من القرآن المعجز الناطق بنبوتك، قال الزمخشريّ: معنى شهادة الله بما أنزل إليه، إثباته لصحته، بإظهار المعجزات، كما تثبت الدعاوي بالبينات، إذ الحكيم لا يؤيد الكاذب، بالمعجزة ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ أي: وهو عالم به، رقيب عليه، فالظرف حال من الفاعل، والجملة كالتفسير لما قبلها ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ أي: بذلك ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ على صحة نبوتك وإن لم يشهد غيره، وفيه تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/476.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ هذا استدراك على ما علم من سياق من إنكارهم نبوته صلّى الله عليه وآله وسلّم وعدم شهادتهم بها، وهي عندهم في المرتبة المشهود به لوضوحها، ولكنهم استبدلوا المباهتة والمكابرة بالشهادة والإيمان، فسألوه أن ينزل عليهم كتابا من السماء يثبت دعواه، ويكون شاهدا له مقنعا لهم، فبين الله تعالى له أن هذا الطلب جار على شنشنتهم في معاملة أنبيائهم من قبل، وأن وحيه إليه هو من جنس وحيه إلى أولئك الأنبياء الذين يزعمون أنهم يؤمنون بهم ويشهدون لهم، فكأنه تعالى يقول لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم إنهم مع وضوح أمر نبوتك في نفسه، لا يشهدون بما أنزل إليك وإن كانوا يشهدون لما هو من جنسه، لكن الله يشهد لك به، فإنه ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ أي متلبسا بعلمه الخاص الذي لم تكن تعلمه أنت ولا قومك من قبل إنزاله إليك ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود: 49]، ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]، ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [االعنكبوت: 48]
2. فهو بما فيه من العلوم الإلهية والأدبية والسياسية والقضائية والاجتماعية، ومن علوم الأنبياء والرسل والأمم وغير ذلك، وبما جاء به من الأسلوب البديع الذي لم يسبق إليه ولا يلحقه فيه، من مزج هذه العلوم بعضها ببعض مزجا دقيقا يؤلف بين ما كان موضوعه منها أعلى الموضوعات كالمسائل الإلهية، وما كان منها أدنى كشؤون الكفار والمجرمين، بحيث يكون القليل من آياته كالكثير منها مؤثرا في جذب القلوب إلى الإيمان وتغذيتها بالحق والخير، وبما له من السلطان على الأرواح بهدايته وبلاغته، وبما فيه من أنباء الغيب عن الماضي والحاضر والمستقبل، وبما فيه من التناسق والتصادق، والسلامة من الخلاف والتعارض، على كثرة علومه، وتشعب فنونه، هو بمثل هذا الخصائص والمزايا البارزة في أعلى حلل الفصاحة والبلاغة، مثبت لشهادة الله تعالى به، وبأنه وحي من عنده، لأن تلك الخصائص والمزايا لا يقدر على الإتيان بها أفراد العلماء الواسعي الاطلاع فضلا عن أمي نشأ بين الأميين ووصل إلى سن الكهولة ولم يظهر منه شيء من مثل ذلك، ولا مما دونه من مظاهر فصاحة قومه كالشعر والخطابة والمفاخرة، فإذا كان لا يقدر على مثله أحد من علماء الدنيا والدين، وفحول البلاغة المقرمين، تعين أنه من عند الله، فكأنه تعالى يقول لنبيه: ماذا يضرك جحود اليهود وعدم شهادتهم لك، والله يشهد بما أنزله إليك، وأنت على يقين من ذلك بالوحي، وقد أيد شهادته لك بعلمه الذي أودعه هذا القرآن فكان بذلك مثبتا لحقية نفسه وكونه أنزل عليك من ربك، بأقوى من إثبات الدعاوى بالبينات والشهادات التي تحتمل النقض، ويؤيدها كذلك يوما بعد يوم بتصديق ما أنزله في القرآن من الوعد لك بالفلاح والنصر، ووعد من عادوك بالخذلان والخسر؟
3. ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ أيضا بذلك لأن الذي نزل به هو الروح الأمين منهم، وأنت تراه وتتلقى عنه لا ريب عندك في ذلك، والله يؤيدك بجند منهم ينفخون روح التثبيت والسكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال: 12] وكل ذلك قد كان، وثبتت به شهادة ملائكة الله عند نبيه وعند المؤمنين بأخبار الله، وبما ظهر لهم من صدقها في أنفسهم، ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ فشهادته أصدق، وقوله الحق، ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ ﴿[الأنعام: 19]
__________
(1) تفسير المنار: 6/62.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ هذا استدراك على ما علم من السياق من إنكارهم نبوته صلّى الله عليه وآله وسلّم وعدم شهادتهم بها، وهي واضحة عندهم في مرتبة المشهود به، لكنهم استبدلوا المباهتة والمكابرة بالشهادة والإيمان، فسألوه أن ينزل عليهم كتابا من السماء يثبت دعواه، ويكون شاهدا له، فكأنه تعالى يقول لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنهم مع وضوح نبوتك لا يشهدون بما أنزل إليك، لكن الله يشهد به.
2. ثم أكد هذه الشهادة فقال: ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ أي فإنه أنزله بعلمه الخاص الذي لم تكن تعلمه أنت ولا قومك بتأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وبما فيه من العلوم الإلهية والأدبية والسياسية والاجتماعية، ومن علوم الأنبياء والرسل والأمم، وبما له من السلطان على الأرواح بهدايته، وبما فيه من أنباء الغيب عن الماضي والحاضر والمستقبل وهو بهذه المزايا مثبت لشهادة الله به وأنه وحي من عنده.
3. والخلاصة ـ كأن الله تعالى يقول لنبيه إن جحود هؤلاء اليهود وعدم شهادتهم لك لا يضرك بشيء فالله يشهد بما أنزل إليك من الوحى وأنت على يقين منه، وقد أيد الله شهادته لك بما أودعه فيه مما عجز عنه البشر فكان بذلك مثبتا لكونه أنزل عليك من لدنه، كما أيده بتصديق ما أنزله فيه من الوعد بالفلاح والنصر لمن اتبعك والوعيد لمن عاداك بالخذلان والخسران.
4. ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ أي والملائكة يشهدون بذلك أيضا، لأن الذي نزل به إليك هو الروح الأمين، وهو منهم كما يؤيدك بجند منهم يثبّتونك ويثبّتون المؤمنين في القتال كما في غزوة بدر، قال تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾
5. ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ على ما شهد به لك، حيث نصب الدليل، وأوضح السبيل، فشهادته أصدق، وقوله الحق ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾
__________
(1) تفسير المراغي 6/24.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾، فإذا أنكر أهل الكتاب هذه الرسالة الأخيرة ـ وهي جارية على سنة الله في إرسال الرسل لعباده ﴿مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ وأهل الكتاب يعترفون بالرسل قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم اليهود يعترفون بمن قبل عيسى عليه السلام والنصارى يعترفون بهم، وبعيسى الذي ألهوه كما سيجيء.. فإذا أنكروا رسالتك ـ يا محمد ـ فلا عليك منهم، فلينكروا: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾..
2. وفي هذه الشهادة من الله.. ثم من ملائكته ومنهم من حملها إلى رسوله.. إسقاط لكل ما يقوله أهل الكتاب، فمن هم والله يشهد؟ والملائكة تشهد؟ وشهادة الله وحدها فيها الكفاية!؟ وفي هذه الشهادة تسرية عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وما يلقاه من كيد اليهود وعنتهم، وفيها كذلك تصديق وتثبيت وتطمين للمسلمين ـ في أول عهدهم بالإسلام بالمدينة ـ أمام حملة يهود التي يدل على ضخامتها هذه الحملة القرآنية المنوعة الأساليب والإيحاءات في ردها والقضاء عليها.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/813.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ هو رد على المكذبين برسول الله، الذين يتهمونه ـ كذبا ـ وبهتانا ـ أنه يدّعى على الله هذا الكتاب الذي يقول فيه إنه من عند الله.. وقد ردّ الله سبحانه وتعالى عليهم بتلك الشهادة القاطعة، بأن هذا الكتاب هو من عند الله.. فهو كتاب الله، وقد شهد الله سبحانه أنه كتابه، وأنه هو الذي أنزله.
2. وإذ يكون الكتاب المكذّب به، هو الذي يحمل تلك الشهادة التي تشهد له بأنه من عند الله، الأمر الذي لا يجرؤ عليه أحد، يقف مثل هذا الموقف، ويواجه بمثل هذا الاتهام ـ فإن هذا في ذاته دليل على أن الكتاب هو كتاب الله، وأن الله هو الذي يشهد لكتابه، ولو أن القرآن كان من عمل محمد، لما كان من التدبير الحكيم أن يحمّل هذا القرآن شهادة تشهد له أنه من عند الله! إذ من يصدق هذا، أو يقبله، ممن يدفعون الكتاب جملة، ويتهمون حامله إليهم بالكذب والافتراء!؟
3. ولكن حين يكون الكتاب هو كتاب الله، والرسول هو رسول الله، فإنه مأمور بأن يبلغ ما ما يتلقّى من ربّه، وأن يحمل هذه الشهادة ويبلّغها، غير عابئ بما يلقاه به المكذبون من تشنيع وشغب! وهذا أبلغ دليل على أن الكتاب هو من عند الله، وليس محمد إلا رسولا مبلّغا له.
4. ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ أي أنزل الله هذا الكتاب الذي أنزل إليك، بعلمه وتقديره، حيث تخيّر له الرّسول الذي هو أهل لحمله وأداء الرسالة المشتمل عليها.. وفي هذا يقول الله سبحانه: ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124] وقوله سبحانه: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ أي والملائكة يشهدون أن هذا الكتاب هو من عند الله، وأنك الرسول المتخيّر.
5. وشهادة الملائكة قائمة على الحق، لأنهم لا يعرفون الكذب، ولا يتعاملون به.. فهم إذا شهدوا على شيء كان حجة على الناس أن يأخذوا بهذه الشهادة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18] أي والملائكة وأولو العلم يشهدون بأن الله لا إله إلّا هو قائما بالقسط.
6. ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ هو دفع لشبهة من يقع في وهمه أن شهادة الملائكة تزكية لشهادة الله وتقوية لها.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
7. وإنما شهادة الملائكة هي إقرار بالحق الذي يجب أن يشهد به الوجود كله، وبخاصة أصحاب العقول، وأولو العلم!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1014.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ هذا استدراك على معنى أثاره الكلام: لأنّ ما تقدّم من قوله: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ [النساء: 153] مسوق مساق بيان تعنّتهم ومكابرتهم عن أن يشهدوا بصدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وصحّة نسبة القرآن إلى الله تعالى، فكان هذا المعنى يستلزم أنّهم يأبون من الشهادة بصدق الرسول، وأنّ ذلك يحزن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فجاء الاستدراك بقوله: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ﴾، فإنّ الاستدراك تعقيب الكلام برفع ما يتوهّم ثبوته أو نفيه، والمعنى: لم يشهد أهل الكتاب لكن الله شهد وشهادة الله خير من شهادتهم.
2. مضى عند قوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ في سورة البقرة [282]، أنّ حقيقة الشهادة إخبار لتصديق مخبر، وتكذيب مخبر آخر، وتقدّم أنّها تطلق على الخبر المحقّق الذي لا يتطرّقه الشكّ عند قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ في سورة آل عمران [18]، فالشهادة في قوله: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ﴾ أطلقت على الإخبار بنزول القرآن من الله إطلاقا مجازيا، لأنّ هذا الخبر تضمّن تصديق الرسول وتكذيب معانديه، وهو إطلاق على وجه الاستعارة من الإطلاق الحقيقي هو غير الإطلاق الذي في قوله: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: 18] فإنّه على طريقة المجاز المرسل، وعطف شهادة الملائكة على شهادة الله: لزيادة تقرير هذه الشهادة بتعدّد الشهود، ولأنّ شهادة الله مجاز في العلم وشهادة الملائكة حقيقة، وإظهار فعل ﴿يَشْهَدُونَ﴾ مع وجود حرف العطف للتّأكيد، وحرف (لكن) بسكون النون مخفّف لكنّ المشدّدة النون التي هي من أخوات (إنّ) وإذا خفّفت بطل عملها، وقوله: ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ يجري على الاحتمالين.
3. ﴿بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ وقع تحويل في تركيب الجملة لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل، ليكون أوقع في النفس، وأصل الكلام: يشهد بإنزال ما أنزله إليك بعلمه؛ لأنّ قوله: ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ لم يفد المشهود به إلّا ضمنا مع المشهود فيه إذ جيء باسم الموصول ليوصل بصلة فيها إيماء إلى المقصود، ومع ذلك لم يذكر المقصود من الشهادة الذي هو حقّ مدخول الباء بعد مادّة شهد، فتكون جملة ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ مكمّلة معنى الشهادة، وهذا قريب من التحويل الذي يستعمله العرب في تمييز النسبة، وقال الزمخشري: (موقع قوله: ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ من قوله: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ موقع الجملة المفسّرة لأنّه بيان للشهادة وأنّ شهادته بصحّته أنّه أنزله بالنظم المعجز)، فلعلّه يجعل جملة ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ مستقلة بالفائدة، وأنّ معنى ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ بصحّة ما أنزل إليك، وما ذكرته أعرق في البلاغة.
4. معنى ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ أي متلبّسا بعلمه، أي بالغا الغاية في باب الكتب السماوية، شأن ما يكون بعلم من الله تعالى، ومعنى ذلك أنّه معجز لفظا ومعنى، فكما أعجز البلغاء من أهل اللّسان أعجز العلماء من أهل الحقائق العالية.
5. الباء في قوله: ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ زائدة للتّأكيد، وأصله: كفى الله شهيدا كقوله: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا أو يضمّن (كفى) معنى اقتنعوا، فتكون الباء للتعدية.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/326.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ جحد أهل الكتاب وكفروا برسالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وطلبوا اليه أن يأتي بشهادة من عند الله، وعينوا الشهادة بأن تكون كتابا كما قال تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ [النساء] فرد سبحانه وتعالى عليهم بقوله تعالى: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ فالاستدراك هنا عن مستدرك من كلامهم وجحودهم، فالمعنى إذا كانوا لا يقرون بالحق، ويذعنون له، فالله تعالى شاهد بالحق وأي بينة أجل من بيان الله تعالى تلزم المنكرين أنى يكونون.
2. والشهادة هي قول الحق المبنى على اليقين القاطع، وشهادة الله أقوى وثيقة في هذا الوجود، وكانت شهادته بالإعجاز في القرآن المحكم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد أنزله الله تعالى بعلمه، وإرادته وحكمته، فهو حجة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وشهادة الله تعالى بالصدق، وشهادة الملائكة تبع لشهادة الله تعالى، وشهادتهم تكون يوم القيامة، يوم الحساب والعقاب، فشهادة الله تعالى للنبي وعليهم، وشهادة الملائكة عليهم يوم الحساب والعقاب.
3. وقد ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله: ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ أي أنه لا عبرة بإنكار المنكرين بعد شهادة الله تعالى، ففيها عزة الحق وخفض الباطل، ولم تذكر هنا شهادة الملائكة لأنها تبع لشهادة الله تعالى، وفى ذكر المتبوع غناء عن التابع، والله سبحانه وتعالى على كل شيء شهيد.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1969.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾، الشهادة تكون بالأقوال، وتكون بالأفعال، كشهادة الكون بوجود المكون وقدرته، وشهادة البذل بكرم الباذل وجوده، وشهادة الاقدام بشجاعة المقدم وبأسه، وهذه الشهادة أدل وأقوى من شهادة الأقوال التي يتطرق إليها الشك والريب.
2. ومن الشهادة بالأفعال شهادة الله لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، حيث زوده بالدلائل والمعجزات على صدقه، ومنها القرآن الكريم الذي أنزله الله عليه بعلمه، ومعنى (بعلمه) ان القرآن من علم الله، لا من علم المخلوقين الذي هو عرضة للأخطاء والأهواء، أما شهادة الملائكة فإنها تبع لشهادة الله التي تغني عن كل شهادة، ولذا قال تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾
3. وبعد، فما من أحد إلا ويود لو صدّقه الناس فيما يقول، ولكن العاقل لا يهتم إطلاقا ان كذّب وردّت عليه أقواله، ما دام على يقين من صدقه.، وهذا ما تهدف إليه الآية، فكأن الله سبحانه يقول لنبيه: لا يهمك تكذيب من كذّب بنبوتك، واعراض من أعرض عن دعوتك، ما دمت عندي صادقا مصدقا.. فهذه الآية تهدف إلى ما تهدف إليه الآية 8 من فاطر: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/497.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ استدراك آخر في معنى الاستثناء المنقطع من الرد المتعلق بسؤالهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تنزيل كتاب إليهم من السماء، فإن الذي ذكر الله تعالى في رد سؤالهم بقوله: ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ (إلى آخر الآيات) لازم معناه أن سؤالهم مردود إليهم، لأن ما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بوحي من ربه لا يغاير نوعا ما جاء به سائر النبيين من الوحي، فمن ادعى أنه مؤمن بما جاءوا به فعليه أن يؤمن بما جاء به من غير فرق، ثم استدرك عنه بأن الله مع ذلك يشهد بما أنزل على نبيه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا.
2. ومتن شهادته قوله: ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ فإن مجرد النزول لا يكفي في المدعى، لأن من أقسام النزول النزول بوحي من الشياطين، بأن يفسد الشيطان أمر الهداية الإلهية فيضع سبيلا باطلا مكان سبيل الله الحق، أو يخلط فيدخل شيئا من الباطل في الوحي الإلهي الحق فيختلط الأمر، كما يشير إلى نفيه بقوله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾ [الجن: 28]، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾: (الأنعام، 121)، وبالجملة فالشهادة على مجرد النزول أو الإنزال لا يخرج الدعوى عن حال الإبهام لكن تقييده بقوله: ﴿بِعِلْمِهِ﴾ يوضح المراد كل الوضوح، ويفيد أن الله سبحانه أنزله إلى رسوله وهو يعلم ماذا ينزل، ويحيط به ويحفظه من كيد الشياطين.
3. وإذا كانت الشهادة على الإنزال والإنزال إنما هو بواسطة الملائكة كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [البقرة: 97]، وقال تعالى في وصف هذا الملك المكرم ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ [التكوير: 21] فدل على أن تحت أمره ملائكة أخرى وهم الذين ذكرهم إذ قال: ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ [عبس: 16]، وبالجملة لكون الملائكة وسائط في الإنزال فهم أيضا شهداء كما أنه تعالى شهيد وكفى بالله شهيدا.
4. والدليل على شهادته تعالى ما أنزله في كتابه من آيات التحدي كقوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ﴾ ﴿لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [إسراء: 88]، وقوله: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، وقوله: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ﴾: (يونس، 38)
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/142.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ ﴿لَكِنِ﴾ استدراك من ذكر تكذيب المكذبين من أهل الكتاب في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ أي ﴿يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ وهو القرآن وسائر الوحي يشهد به أنه منه أنزله إليك ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ أنزله وهو عالم به.
2. ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ أن الله أنزله، وأنه من الله أنزله عليك ﴿وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾؛ لأن قوله الحق، ولا يجوز عليه الكذب؛ لأنه غني لا يحتاج إلى الكذب، وعالم أنه غني، وقد تبين أن الله قد شهد به بكونه معجزاً لم يأتوا بسورة من مثله.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/215.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ربما يحاول بعض اليهود، أو غيرهم، أن يثيروا التشكيك برسالة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، كأسلوب من أساليب الحرب النفسية ضده ليهزموا إرادته، ويفقدوه الثقة بنفسه وبدوره؛ ولكن الله أودع في نفسه الشعور العميق بالثقة المطلقة بالرسالة وبالوحي المنزل إليه من ربه، وذلك من خلال التأكيد القرآني الدائم لهذه الحقيقة، بالإيحاء بأن الله يشهد بما أنزل إليه بعلمه، وبأن الملائكة يشهدون بذلك، ومهما كانت شهادة الملائكة أو غيرهم، فإن شهادة الله كافية عن كل شهادة، لأن كل شهادة من غير الله هي مستمدة من الله سبحانه، فيما أطلع عليه عباده من ذلك.
2. وقد جاءت هذه الآية لتؤكد هذه الحقيقة في نفس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كردّ على كل الأساليب التشكيكية المضادّة التي كان يقوم بها الآخرون.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/548.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تطمئن الآية الكريمة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتوضح له أن المهم هو أنّ الله قد شهد بما أنزل عليه من كتاب، وليس المهم أن يؤمن نفر من هؤلاء بهذا الكتاب أو يكفروا به ـ فتؤكد الآية في هذا المجال ـ ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾
2. ولم يكن اختيار الله لمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم لمنصب النّبوة أمرا عبثا ـ والعياذ بالله ـ بل كان هذا الاختيار نابعا من علم الله بما كان يتمتع به النّبي من لياقة وكفاءة لهذا المنصب العظيم، ولنزول آيات الله عليه ـ حيث تقول الآية: ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾
3. ويمكن ـ أيضا ـ أن تشمل هذه الآية معنى آخر، وهو أن ما نزل على النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من آيات إنّما ينبع من بحر علم الله اللامتناهي، وإن محتوى هذه الآيات يعتبر دليلا واضحا على أنّها نابعة من علم الله ـ وعلى هذا الأساس فإن الشاهد على صدق ادعاء النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الآيات القرآنية، ولا يحتاج إلى دليل آخر لإثبات دعوته، فلو لم يكن محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم يتلقى الوحي من قبل الله سبحانه وتعالى لما أمكنه أبدا ـ وهو المعروف بالأمي ـ أن يأتي بكتاب كالقرآن يشتمل على أرفع وأسمى التعاليم والفلسفات والقوانين والمبادئ الأخلاقية والبرامج الاجتماعية.
4. والقرآن الكريم يؤكّد أن ليس الله وحده الذي يشهد بأن دعوة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم هي الحق، بل يشهد معه ملائكته بأحقّية هذه الدعوة، مع أن شهادة الله كافية وحدها في هذا المجال: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/538.
145. حقيقة الكفرة ومصيرهم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈145⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾ [النساء: 167 ـ 169]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: قوله: ﴿عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾، عن الحق(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٢١.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية هكذا ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا آل﴾ محمد حقهم ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾، ثم قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ في ولاية علي ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ بولاية علي ﴿فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾(1).
__________
(1) الكافي 1/351.
الصادق:
قال علي بن إبراهيم (ت 329 هـ) قرأ الإمام الصادق: (﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا آل﴾ محمد حقهم ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ إلى آخر الآية(1).
__________
(1) تفسير القمّي 1/159.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم قال يعنيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: اليهود كفروا بمحمد والقرآن، ﴿وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ يعني: عن دين الإسلام، ﴿قَدْ ضَلُّوا﴾ عن الهدى ﴿ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ يعني: طويلا(1).
2. روي أنّه قال: ثم قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: اليهود كفروا بمحمد والقرآن، ﴿وَظَلَمُوا﴾ يعني: وأشركوا بالله، ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا﴾ إلى الهدى(1).
3. روي أنّه قال: ثم استثنى: ﴿إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ يعني: طريق الكفر، فهو يقود إلى جهنم خالدين فيها ﴿أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾ يعني: عذابهم على الله هينا(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢٤.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي: كفروا بآيات الله، ﴿وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾:
أ. أي: قد تاهوا وتحيروا تحيرًا طويلا.
ب. ويحتمل: ﴿قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ أي: هلكوا هلاكًا لا نجاة لهم، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم في غير موضع.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا﴾:
أ. أي: كفروا بآيات الله وحججه، وظلموا أمر الله وتركوه.
ب. ويحتمل قوله تعالى: ﴿وَظَلَمُوا﴾ حيث جعلوا أنفسهم لغير الله، وجعلوا العبادة لمن دونه، وهو إنما خلقهم؛ ليجعلوا عبادتهم له، فقد وضعوا أنفسهم في غير موضعها؛ لذلك وصفهم بالظلم؛ لأن الظلم: وضع الشيء في غير موضعه.
ج. ويحتمل: ظلموا أنفسهم، وإن كانوا لا يقصدون ظلم أنفسهم؛ فإن حاصل ذلك يرجع إلى أنفسهم؛ فكأنهم ظلموا أنفسهم.
3. ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾:
أ. كأنه على الإضمار بألا يهديهم في الآخرة طريقًا إلا طريق جهنم.
ب. ويحتمل ما قال أهل التأويل، قالوا: لا يهديهم طريق الإسلام إلا طريق جهنم: طريق الكفر والشرك هما طريقا جهنم في الدنيا، والإسلام هو طريق الجنة في الدنيا.
4. هذه الآية والآية الأولى: في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون أبدًا، ويموتون على ذلك؛ حيث أخبر أنه عز وجل لا يغفر لهم، ولا يهديهم.
5. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾، ظاهر.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٢٣.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ ان الذين جحدوا نبوتك بعد علمهم بها من أهل الكتاب الذين ذكر قصتهم، وأنكروا ان الله تعالى أوحى اليك وانزل كتابه عليك، وصدوا عن سبيل الله يعني عن الدين الذي بعثك به الي خلقه، وهو الإسلام بقولهم للذين يسألونهم عن صحة نبوتك ما نجد صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتبنا، وادعاؤهم عهد إليهم ان النبوة لا تكون إلا في ولد هارون، ومن ذرية داوود وما أشبه ذلك فقد ﴿ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)﴾ يعني جاروا عن قصد الطريق جوراً شديداً، وزالوا عن المحجة التي هي دين الله الذي ارتضاه لعباده وبعثك به الي خلقه زوالا بعيدا، وابعدوا من الرشاد.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا﴾ هذا خبر من الله تعالى بان الذين جحدوا رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كفروا بالله، وجحدوه بجحودهم رسالة نبيه وظلموا نبيه بتكذيبهم إياه، ومقامهم على الكفر على علم منهم بظلمهم عباد الله، وحسدا للعرب، وبغياً على رسوله.
3. ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ يعني لم يكن الله ليعفو عن ذنوبهم بترك عقابهم عليها، لكنه تعالى يفضحهم بها جل ثناؤه بعقوبته إياهم عليه، ولا ليهديهم طريقاً يعني لا يهديهم لطريق الجنة، لأن الهداية إلى طريق الايمان قد سبقت، وقد عم الله أيضاً بها جميع المكلفين، ويحتمل أن يكون المراد لم يكن الله يفعل بهم ما يؤمنون عنده في المستقبل عقوبة لهم على كفرهم الماضي، واستحقاقهم حرمان ذلك، وانه يخذلهم عن ذلك حتى يسلكوا طريق جهنم، ويكون المعنى لم يكن الله ليوفقهم للإسلام، لكنه يخذلهم عنه إلى طريق جهنم جزاء لهم على ما فعلوه من الكفر خالدين فيها مقيمين أبداً.
4. ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾ المعنى وكان تخليد هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم في جهنم على الله يسيراً، لأنه تعالى إذا أراد ذلك به لم يقدر على الامتناع منه، ولا يصعب عليه عقاب من يعصيه، فلذلك كان يسيراً عليه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/397.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اليسر: ضد العسر، ومنه قول ابن عباس: لن يغلب عسر يسرين، واليسار: خلاف اليمين بفتح الياء وكسرها، والأجود الفتح، سُمِّي به لما ييسر من العمل به.
2. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: اتصال الآية بما قبلها اتصال النقيض بالنقيض؛ لأن الأولى: شهادة له بالنبوة، وتسلية له عما يلحقه من تكذيب الكفار، وهذه الآية تحسير لهم بذهابهم عن الرشد.
ب. وقيل: لما بين بشهادته بين أنهم لم يشهدوا، وبين عقيبه أنهم كفروا بذلك، فضلوا ضلالاً بعيدًا.
3. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ جحدوا دين الله، وجحدوا نبوتك ﴿وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾:
أ. قيل: منعوا الناس عن قبول دين الله، وهو دينك.
ب. وقيل: إعراضهم عن ذلك.
4. سؤال وإشكال: كيف صدوا الناس عنه؟ والجواب: بقولهم: ما نجد وَصْفَهُ في الكتاب، وما نعرفه، وإنما النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المبشر به من ولد هارون ومن ذرية داوود ونحوه، فيصرفون الناس عن اتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وجمع بين الكفر والصد، وغلق الوعيد بكل واحد منهما تفحيشًا لحال اليهود وبيانًا أنهم كفروا، وحملوا غيرهم على الكفر.
5. ﴿قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾:
أ. أي: جاروا عن قصد الطريق والهدْي جورًا طويلاً.
ب. وقيل: ضلوا عن الجنة ضلالاً بعيدا، حيث لا يصلون إليها أبدًا.
6. ثم وصفهم أيضًا وآيسهم من رحمته فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا﴾ فجمع بين الكفر والظلم:
أ. قيل: كفروا بِاللهِ وظلموا محمدًا بالتكذيب.
ب. وقيل: كفروا بِاللهِ وظلموا بمحاربتهم عباد الله.
ج. وقيل: جمع بينهما ليبين أن الوعيد يلزمهم مع الكفر على كل ذنب؛ لأن الكافر لا يكون له صغيرة وذنوبه كلها كبائر.
د. وقيل: تفحيشًا لحالهم من جمعهم بين سائر المعاصي.
هـ. وقيل: إنه على تقدير: والَّذِينَ ظلموا، فيكون الوعيد للفريقين كما قال حسان:
çفَمَنْ يَهْجُورَسُولَ الله مِنْكُمْ...وَيَمْدَحُهُ وًينْصُرُهُ سَوَاءُé
أي ومن يمدحه.
7. ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ أي: لا يغفر الله للكفار أبدًا ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا﴾ للنجاة ﴿إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ يعني لكن يهديهم طريق جهنم التي استحقوها بأعمالهم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾:
أ. قيل: لا يتعذر عليه ذلك.
ب. وقيل: لما وصف العذاب بالدوام، بين أنه لا يتعذر عليه وقوع شيء بعد شيء على جهة الدوام؛ لأنه القادر على ما لا يتناهى لا يعجزه شيء · الأحكام،
8. تدل الآية الكريمة على:
أ. دوام العقاب للكفار، فيبطل قول جهم، واتفق العلماء على ذلك، وعلم ذلك من دين الرسول ضرورة؛ ولذلك كَفَّرُوا جَهْمًا لمخالفته فيه، واختلفوا هل يجوز غفران الشرك عقلاً:
• فقال مشايخنا: يجوز ذلك عقلاً، إلا أن السمع ورد به.
• وقال شيخنا أبو القاسم: لا يجوز ذلك عقلاً، وورد السمع مؤكدًا، والذي يدل عليه أن العقاب حقه إليه استيفاؤه، ليس في إسقاطه إسقاط حق الغير، فجاز إسقاطه كالدَّين.
ب. أن عقاب الظلم مؤبد.
9. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿خَالِدِينَ﴾ نصب على الحال، والعامل فيه الفعل في ﴿لَا يَهْدِيهِمُ﴾ أي: لا يهديهم خالدين في الجحيم؛ لأنه بمنزلة يعاقبهم خالدين، فعمل هذا العمل بما فيه من المعنى.
ب. نصب ﴿أَبَدًا﴾ على الظرف، وقيل: إنه في المستقبل نظير قط) في الماضي يقال: لا أراه أبدًا، وما رأيته قط، غير أن قط) مبني، و﴿أَبَدًا﴾ معرب.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/159.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اتصال هذه الآيات بما قبلها، اتصال النقيض على جهة المقابلة، لان ما قبلها يتضمن الشهادة له بالنبوة تسلية له عما لحقه من تكذيب الكفار، وهذه الآيات تتضمن تخير الكفار بذهابهم من الرشد.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بأنفسهم، ﴿وَصَدُّوا﴾ غيرهم، ﴿عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾: عن الدين الذي بعثك الله به إلى خلقه، ﴿قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ يعني: جاوزوا عن قصد الطريق جوازا شديدا، وزالوا عن الحجة التي هي دين الله الذي ارتضاه لعباده، وبعثك به إلى خلقه، زوالا بعيدا عن الرشاد.
3. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: جحدوا رسالة محمد، ﴿وَظَلَمُوا﴾ محمدا بتكذيبهم إياه، ومقامهم على الكفر على علم منهم بظلمهم أولياء الله حسدا لهم، وبغيا عليهم، ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ أي: لم يكن الله ليعفو لهم عن ذنوبهم، بترك عقابهم عليها، ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا﴾ أي: لا يهديهم إلى طريق الجنة، لان الهداية إلى طريق الايمان قد سبقت، وعم الله بها جميع المكلفين، ﴿إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ معناه لكن يهديهم طريق جهنم جزاء لهم على ما فعلوه من الكفر والظلم، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي: مقيمين فيها ﴿أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ﴾ أي: تخليد هؤلاء الذين وصفهم في جهنم ﴿عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾، لأنه إذا أراد ذلك لم يقدر على الامتناع منه أحد.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/219.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ قال مقاتل وغيره: هم اليهود كفروا بمحمّد، وصدّوا الناس عن الإسلام، قال أبو سليمان: وكان صدّهم عن الإسلام قولهم للمشركين ولأتباعهم: ما نجد صفة محمّد في كتابنا.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا﴾ قال مقاتل وغيره: هم اليهود أيضا كفروا بمحمّد والقرآن، وفي الظّلم المذكور هاهنا قولان:
أ. أحدهما: أنه الشّرك، قاله مقاتل.
ب. الثاني: أنه جحدهم صفة محمّد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتابهم.
3. ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ يريد من مات منهم على الكفر، وقال أبو سليمان: لم يكن الله ليستر عليهم قبيح فعالهم، بل يفضحهم في الدنيا، ويعاقبهم بالقتل والجلاء والسّبي، وفي الآخرة بالنار.
4. ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا﴾ ينجون فيه، وقال مقاتل: طريقا إلى الهدى ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾ يعني كان عذابهم على الله هيّنا.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/501.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا من صفات اليهود الذين تقدم ذكرهم، والمراد أنهم كفروا بمحمد وبالقرآن وصدوا غيرهم عن سبيل الله، وذلك بإلقاء الشبهات في قلوبهم نحو قولهم: لو كان رسولا لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء كما نزلت التوراة على موسى، وقولهم: إن الله تعالى ذكر في التوراة أن شريعة موسى لا تبدل ولا تنسخ إلى يوم القيامة، وقولهم: إن الأنبياء لا يكونون إلا من ولد هارون وداوود.
2. ﴿قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ وذلك لأن أشد الناس ضلالا من كان ضالا ويعتقد في نفسه أنه محق، ثم إنه يتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال والجاه، ثم إنه يبذل كنه جهده في إلقاء غيره في مثل ذلك الضلال، فهذا الإنسان لا شك أنه قد بلغ في الضلال إلى أقصى الغايات وأعظم النهايات، فلهذا قال تعالى في حقهم ﴿قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾
3. ولما وصف تعالى كيفية ضلالهم ذكر بعده وعيدهم فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا﴾ محمدا بكتمان ذكر بعثته وظلموا عوامهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾:
أ. إن حملنا قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ على المعهود السابق لم يحتج إلى إضمار شرط في هذا الوعيد، لأنا نحمل الوعيد في الآية على أقوام علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر.
ب. وإن حملناه على الاستغراق أضمرنا فيه شرط عدم التوبة، ثم قال: ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾
4. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ والمعنى أنه تعالى لا يهديهم يوم القيامة إلى الجنة بل يهديهم إلى طريق جهنم ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾ انتصب خالدين على الحال، والعامل فيه معنى لا ليهديهم لأنه بمنزلة نعاقبهم خالدين، وانتصب ﴿أَبَدًا﴾ على الظرف، وكان ذلك على الله يسيرا، والمعنى لا يتعذر عليه شيء فكان إيصال الألم إليهم شيئا بعد شيء إلى غير النهاية يسيرا عليه وإن كان متعذرا على غيره.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/270.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني اليهود، أي ظلموا، ﴿وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ أي عن اتباع الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بقولهم: ما نجد صفته في كتابنا، وإنما النبوة في ولد هارون وداوود وإن في التوراة أن شرع موسى لا ينسخ.
2. ﴿قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ لأنهم كفروا ومع ذلك منعوا الناس من الإسلام.
3. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا﴾ يعني اليهود، أي ظلموا محمدا بكتمان نعته، وأنفسهم إذ كفروا، والناس إذ كتموهم، ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ هذا فيمن يموت على كفره ولم يتب.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/19.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بكل ما يجب الإيمان به، أو بهذا الأمر الخاص، وهو ما في هذا المقام: ﴿وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ وهو دين الإسلام بإنكارهم نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبقولهم: ما نجد صفته في كتابنا، وإنما النبوّة في ولد هارون وداوود وبقولهم: إن شرع موسى لا ينسخ.
2. ﴿قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ عن الحقّ بما فعلوا، لأنهم مع كفرهم منعوا غيرهم عن الحق.
3. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بجحدهم ﴿وَظَلَمُوا﴾ غيرهم بصدهم عن السبيل أو ظلموا محمدا بكتمانهم نبوّته أو ظلموا أنفسهم بكفرهم، ويجوز الحمل على جميع هذه المعاني.
4. ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ إذا استمروا على كفرهم وماتوا كافرين ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ لكونهم اقترفوا ما يوجب لهم ذلك بسوء اختيارهم، وفرط شقائهم، وجحدوا الواضح، وعاندوا البين.
5. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ أي: يدخلهم جهنم خالدين فيها، وهي حال مقدّرة، وقوله: ﴿أَبَدًا﴾ منصوب على الظرفية، وهو لدفع احتمال أن الخلود هنا يراد به المكث الطويل.
6. ﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾ أي: تخليدهم في جهنم، أو ترك المغفرة لهم والهداية مع الخلود في جهنم ﴿عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾ لأنه سبحانه لا يصعب عليه شيء ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾
__________
(1) فتح القدير: 1/623.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ بالله ورسوله ﴿وَصَدُّواْ﴾ أعرضوا، أو صدُّوا الناس ﴿عَن سَبِيلِ اللهِ﴾ دينِهِ، بالكتم والتحريف والكذب في حقِّ النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ووصفِهِ، وهم اليهود، وكانوا يقولون للناس: لو كان محمَّد رسولاً لأتى بكتابه دفعة من السماء، كما نزلت التوراة على موسى دفعة، ويقولون: إنَّ الله تعالى ذكر في التوراة أنَّ شريعة موسى لا تتبدَّل ولا تُنسخ إلى يوم القيامة، ويقولون: إنَّ الأنبياء لا يكونون إِلَّا من ولد هارون وداود، ﴿قَد ضَّلُّواْ ضَلَالاً بَعِيدًا﴾ عن الحقِّ والصواب؛ لأنَّهم جمعوا بين الضلال والإضلال؛ ولأنَّ الْمُضِلَّ يكون أعرقَ في الضلال، وأبعد عن الانقطاع عنه؛ لأنَّه أرسخ فيهم؛ ولأنَّه يلزمهم أن يردُّوا إلى الهدى مَن أَضلُّوا بأن يتوبوا ويخبروهم أنَّ ما أمروهم به ضلال، وأنَّهم تائبون منه.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ بالله ورسوله ﴿وَظَلَمُواْ﴾ نبيَّه محمَّدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وهم اليهودُ، بكتم نعته وتبديله، وإنكار نبوَّته، والناسُ بصدهم عن دينه وغير ذلك من سائر الكبائر، وقيل: المراد اليهود وسائر المشركين في الموضعين، وقيل: المراد في الأوَّل اليهود، وفي الثاني المشركون، وقيل: المراد في الثاني أصحاب الكبائر من أهل التوحيد؛ فتكون الآية في خلود الفسَّاق من أهل التوحيد، ومعنى ظلمهم أنَّهم ظلموا أنفسهم أو مع غيرهم لا بالدعاء إلى الشرك، ولا يتبادر هذا، والمشركون مخاطبون بفروع الشريعة كالصلاة والزكاة والصوم والحجِّ، كما خوطبوا بالإسلام، فهم معذَّبون على تركها كما يعذَّبون على تركه، وعلى ترك اعتقادها كما يعذَّبون على ترك اعتقاده، وكذا اتَّفقت الشافعيَّة والحنفيَّة على أنَّهم يعذَّبون على ترك اعتقاد وجوب العبادات.
3. ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ ذنوبهم لا كبائرهم ولا صغائرهم إن ماتوا على الإشراك، ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا﴾ من الطرق، فالاستثناء متَّصل، أو طريقًا حسنًا، فالاستثناء منقطع، ﴿إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ طريقًا تؤدِّي إلى جهنَّم، وهي اليهوديَّة وسائر المعاصي لسبق شقاوتهم، ومعنى هدايتِهِ إيَّاهم طريقَ جهنَّم: خِذلانُه لهم، وخَلْقُه كَسْبَهم السيِّئَ الموجبَ للنار، أو المعنى: لا يهديهم يوم القيامة طريقًا في الأرض إِلَّا طريقًا فيها يوصل إلى جهنَّم بما كسبوه في الدنيا، يهديهم إيَّاها.
4. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي: جهنَّم، أي: مقدِّرين الخلود فيها ﴿أَبَدًا وَكَانَ ذَالِكَ﴾ أي: ما ذكر من انتفاء غفرانه وانتفاء هدايته، ومِنْ جَعْلِهِم خالدين فيها ﴿عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾ هيِّنا لا يعسر عليه؛ لأنَّه لا يحتاج إلى مؤونة، ولا يصعب عليه تعاقب العذاب بعد العذاب بلا نهاية، كما تصيب الشفقة غيره، ولا يخاف عاقبةً، ولا مانع له.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/356.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي بما شهد الله بإنزاله، مع اطلاعهم على إعجازه ﴿وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ وهو دين الإسلام، من أراد سلوكه ﴿قَدْ ضَلُّوا﴾ أي بما فعلوا ﴿ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا﴾ أي الخلائق بإضلالهم ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا﴾ لعدم استعدادهم للهداية إلى الحق والأعمال الصالحة، التي هي طريق الجنة.
3. ﴿إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ أي: المؤدي إليها، وهو اكتسابهم الأعمال السيئة ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾ أي: هيّنا لا يعسر عليه ولا يستعظمه.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/477.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لقد تجلت في الآيات السابقة الحجة، وتضاءل كل ما أورده اليهود على نبوة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم من شبهة، فثبتت هذه النبوة بشهادة الله تعالى بما أنزله عليه إذ لا يستطيع أحد من الخلق أن يأتي بمثله، فحسن بعد هذا أن ينذر الذين يصرون على كفرهم، ويستمرون على صدهم وظلمهم، وإنما ينذرهم عز وجل سوء العاقبة، ويبين لهم مصيرهم من الهاوية.
2. لذلك قال بعد ما تقدم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي أعرضوا عن طريق الحق والخير الموصلة إلى رضوان الله تعالى، وحملوا غيرهم على الإعراض عنها، بسوء القدوة، وتمويه الشبهة ﴿قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ بسيرهم في سبل الشيطان سيرا حثيثا، بعدوا به عن سبيل الله بعدا شاسعا، حتى لم يعودوا يبصرون ما اتصف به من الوضوح والاستقامة، ولا يفقهون أنها هي الموصلة إلى خير العاقبة ومرسى السلامة.
3. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا﴾ أنفسهم بكفرهم وقبح عملهم، وظلموا غيرهم بإغوائهم إياهم بزخرف قولهم وسوء سيرتهم، ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ أي ليس من شأنه ولا من مقتضى سنته في خلقه، أن يغفر لهم ذلك الكفر والظلم يوم الحساب والجزاء، لأن الكفر والظلم يؤثران في النفس ويكيفانها بكيفية خاصة من الظلمة وفساد الفطرة لا يزولان بمقتضى سنته تعالى في النفوس البشرية وتأثير عقائدها وأعمالها فيها إلا بما يضاد ذلك الكفر والظلم في الدنيا من الإيمان الصحيح والعمل الصالح الذي يزكي النفس ويطهرها فتنشأ خلقا جديدا، ولا سبيل إلى ذلك في يوم الحساب وما يتلوه من الجزاء المشار إليه بقوله: ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ أي ليس من شأنه ولا من مقتضى سنته أن يهديهم طريقا أي يوصلهم إلى طريق من طرق الجزاء على عملهم إلا طريق جهنم، وهي تلك الهاوية التي ينتهي إليها كل من يدسي نفسه بالكفر والظلم، وهي الطريق التي اختاروها لأنفسهم، وأوغلوا في السير فيها طول عمرهم، كالذي يهبط الوادي يكون منتهى شوطه قرارة ذلك الوادي لا قمة الجبل الذي هو فيه، فانتظار المغفرة ودخول الجنة لهؤلاء كانتظار الضد من الضد والنقيض من النقيض، أو انتظار إبطال نظام العالم ونقض سنن الله تعالى وحكمته في خلق الإنسان.
4. هذا هو التحقيق في مثل هذا التعبير، لا ما يزعمه القائلون بالجبر لفظا ومعنى أو معنى فقط، ولا ما يزعمه خصومهم من كل وجه، وقيل إن هذه الآية نزلت في قوم معينين علم الله منهم أنهم لا يتوبون من كفرهم وظلمهم، والأوجب تقييد عدم المغفرة والهداية لغير طريق جهنم بشرط عدم التوبة لأن من تاب تاب الله عليه كما هو ثابت بالنص والإجماع، وما حمل قائلي هذا القول عليه إلا غفلتهم عن كون هذا هو جزاء الكافرين الظالمين في الآخرة، وظنهم أن قوله تعالى: ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا﴾ هو عبارة عن حرمانهم من الهداية في الدنيا، وهذا هو الذي ساقهم إلى معتركهم في الجبر والقدر، لعدم تطبيق مثله على مقتضى الحكمة واطراد الأسباب والسنن.
5. ولما كان مقتضى سنة الله في أولئك الكافرين الظالمين أنه لا يهديهم بكفرهم وظلمهم طريقا إلا طريق جهنم، وعلم منه أنهم صائرون إليها، ولا بد أن يصلوها، قال: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ أي يدخلونها ويذوقون عذابها حال كونهم خالدين فيها أبدا، قيل إن لفظ (أبدا) ينفي أن يراد بالخلود طول المكث فيكون معنى العبارة الخلود الدائم الذي لا نهاية له، والصواب أن هذا معنى اصطلاحي لا لغوي، أما معنى الخلود في اللغة فهو كما يؤخذ من مفردات الراغب بقاء الشيء مدة طويلة على حال واحدة لا يطرأ عليه فيها تغير ولا فساد كقولهم للأثافي (حجارة الموقد) خوالد قال: (ذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها) وفسر الخلد في اللسان بدوام البقاء في دار لا يخرج منها، والمراد بالسكنى الدائمة في العرف ما يقابل السكنى الموقتة المتحولة كسكنى البادية، فالذين لهم بيوت في المدن يسكنونها يقال في اللغة إنهم خالدون فيها، قال في اللسان: وخلد بالمكان يخلد خلودا (من باب نصر) وأخلد أقام.. وخلد (كضرب ونصر) خلد وخلودا أبطأ عنه الشيب، من كبر ولم يشب أو يسقط أسنانه يقال له مخلد وقال زهير:
çلمن الديار غشيتها بالغرقد...كالوحي في حجر المسيل المخلدé
والأبد كما قال الراغب (عبارة عن مدة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان.. وتأبد الشيء بقي أبدا ويعبر به عما يبقى مدة طويلة) وفي لسان العرب (الأبد الدهر) وفيه تساهل، وقالوا في المثل (طال الأبد على لبد) يضرب ذلك لكل ما قدم، وقالوا: أبد بالمكان (من باب ضرب) أبودا، أقام به ولم يبرحه، ولم يكن عندهم شيء بمعنى اللانهاية يدور في كلامهم.
6. ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾ أي وكان ذلك الجزاء سهلا على الله دون غيره، لأنه مقتضى حكمته وسنته، ولا يستعصي على قدرته، فعلى العاقل أن يتدبر ويتفكر، ليعلم أنه لا ملجأ له من الله ولا مفر، ولكل نبأ مستقر.
__________
(1) تفسير المنار: 6/64.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن أزال سبحانه في الآيات السالفة ما كان لليهود من شبهة، في نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بشهادة الله بما أنزل عليه مما لم يستطع البشر أن يأتوا بمثله ـ أنذر في هذه الآيات من يصرّ منهم على الكفر، ويستمر على الإعراض والظلم، وبيّن لهم سوء العاقبة.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ أي إن الذين كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن، وصدوا غيرهم عن سبيل الله بإلقاء الشبهات في قلوبهم كقولهم: لو كان رسولا لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء كما نزلت التوراة على موسى، وقولهم: إن الله تعالى ذكر في التوراة أن شريعة موسى لا تبدل ولا تنسخ إلى يوم القيامة، قد ضلوا ضلالا بعيدا، لأن أشد الناس ضلالا من كان ضالّا ويعتقد في نفسه أنه محق، ويتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال، فهو قد سار في سبيل الشيطان، وبعد عن سبيل الله، فلم يعد يفقه أنها هي الموصلة إلى خير العاقبة.
3. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ أي إن الذين كفروا بما أنزل إليك، وظلموا أنفسهم بإعراضهم عن الطريق الموصل إلى الخير والسعادة وظلموا غيرهم بإغوائهم إياهم بزخرف قولهم، وسوء سيرتهم، وصدهم عن الصراط المستقيم ـ ليس من سنته تعالى أن يغفر لهم ذلك الكفر والظلم يوم الحساب والجزاء، لأن الكفر والظلم قد أفسدا فطرتهم وأثرا في نفوسهم وأعميا قلوبهم وجعلاها تستمرئ قبيح الأفعال، وتهوى شر الخلال والأعمال ـ ولا يزول هذا إلا إذا اتجهت نفوسهم إلى ما يضادّ ذلك، من إيمان صحيح وعمل صالح يزكى النفوس مما ران عليها ويطهرها وينشئها نشأة أخرى، ولا سبيل إلى ذلك يوم الجزاء والحساب، ومن ثم قال تعالى.
4. ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ أي وليس من شأنه أن يهدى أمثالهم طريقا يوصلهم إلى الجزاء على أعمالهم إلا طريق جهنم، فهي الطريق التي ينتهى إليها من دسي نفسه بالكفر والظلم، وأوغل في السير فيها طول عمره، واستمرأ الشرور والمفاسد، حتى هوت به إلى واد سحيق، فانتظار المغفرة ودخول الجنات لأمثال هؤلاء انتظار لإبطال نظام العالم ونقضى لسنن الله وحكمته في خلق الإنسان.
çترجو النجاة ولم تسلك مسالكها...إن السفينة لا تجرى على اليبسé
5. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ الخلود بقاء الشيء مدة طويلة على حال واحدة لا يطرأ عليه فيها تغيير ولا فناء، والأبد: الزمن الممتد، وتأبد الشيء بقي أبدا وأبد بالمكان أبودا: أقام به ولم يبرحه، أي يدخلونها ويذوقون عذابها حال كونهم خالدين فيها أبدا لا يخرجون منها.
6. ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾ أي وكان ذلك الجزاء سهلا على الله دون غيره، لأنه مقتضى حكمته وسننه، وليس بالعزيز على قدرته، وفى هذا تحقير لأمرهم وبيان لأن الله لا يعبأ بهم ولا يبالى بشأنهم.
__________
(1) تفسير المراغي 6/25.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. عندئذ يجيء التهديد الرعيب للمنكرين في موضعه، بعد شهادة الله سبحانه وشهادة الملائكة بكذبهم وتعنتهم والتوائهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾..
2. إن هذه الأوصاف وهذه التقريرات ـ مع كونها عامة ـ تنطبق أول ما تنطبق، على حال اليهود، وتصور موقفهم من هذا الدين وأهله؛ بل من الدين الحق كله؛ سواء منهم من عاصروا فجر الدعوة في المدينة، أو من سبقوهم منذ أيام موسى عليه السلام أو من جاءوا بعدهم إلى يومنا هذا ـ إلا القلة النادرة المستثناة من الذين فتحوا قلوبهم للهدى فهداهم الله.
3. وهؤلاء ـ وكل من ينطبق عليهم وصف الكفر والصد ـ قد ضلوا ضلالا بعيدا، ضلوا عن هدى الله؛ وضلوا طريقهم القويم في الحياة، ضلوا فكرا وتصورا واعتقادا؛ وضلوا سلوكا ومجتمعا وأوضاعا، ضلوا في الدنيا وضلوا في الآخرة، ضلوا ضلالا لا يرتجى معه هدى.. ﴿ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾..
4. ويعيد السياق وصفهم بالكفر، ليضم إليه الظلم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا﴾.. والكفر في ذاته ظلم: ظلم للحق، وظلم للنفس، وظلم للناس.. والقرآن يعبر عن الكفر أحيانا بأنه الظلم كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾.. وقوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ بعد ما قرر أنهم الكافرون في الآية السابقة عليها.. (كما سيجيء في موضعه في هذا الجزء في سورة المائدة).. وهؤلاء لم يرتكبوا ظلم الشرك وحده، ولكن ارتكبوا معه ظلم الصد عن سبيل الله أيضا، فأمعنوا في الكفر.. أو أمعنوا في الظلم.. ومن ثم يقرر الله بعدله جزاءهم الأخير: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾..
5. فليس من شأن الله سبحانه أن يغفر لأمثال هؤلاء، بعد ما ضلوا ضلالا بعيدا، وقطعوا على أنفسهم كل طريق للمغفرة.. وليس من شأن الله سبحانه أن يهديهم طريقا إلا طريق جهنم، وقد قطعوا على أنفسهم كذلك كل طريق للهدى، وأوصدوا في وجوه أنفسهم كل طريق إلا طريق جهنم، فأبعدوا فيه وأوغلوا، واستحقوا الخلود المؤبد فيها بإبعادهم في الضلال والكفر والصد والظلم، بحيث لا يرجى لهم من هذا الإبعاد مآب! ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾.. فهو القاهر فوق عباده، وليس بينه وبين أحد من العباد صهر ولا نسب، يجعل أخذهم بهذا الجزاء العادل المستحق عليهم عسيرا، وليس لأحد من عباده قوة ولا حيلة تجعل أخذه عسيرا على الله أيضا.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/814.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إذا كانت تلك هي شهادة الله سبحانه للقرآن الكريم، وهي شهادة الملائكة أيضا له.. فإن الذين لا يأخذون بهذه الشهادة، ويظلّون على ما هم فيه من كفر وعناد، لا يستقيم لهم طريق على الحق أبدا، وأنهم إذ كفروا وظلموا أنفسهم بهذا الكفر، فليس لهم في رحمة الله نصيب: ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا﴾
2. ﴿إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ هو كشف عن هذا المصير الذي سيصير إليه هؤلاء الذين كذّبوا بآيات الله، ودفعوا شهادة الله، وشهادة ملائكته.. فإن طريق الضلال الذي ركبوه هو منته بهم إلى جهنّم، التي سيصلون سعيرها، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾
3. ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾ أي أن سوق هؤلاء الكافرين إلى عذاب جهنم، وخلودهم فيها، هو هيّن عند الله، وأنّ أخذ هؤلاء الجبابرة العتاة ليس بالأمر الذي يقف دون قدرة الله، كما يتصور الذين لا يعرفون الله حق معرفته، والذين يرون في رؤسائهم وقادتهم، أنهم في مقام عزيز لا ينال.. وهذا هو بعض السرّ في الإشارة إلى صنيع الله بهؤلاء الظلمة الكافرين، الذين هم شيء عظيم في أعين أتباعهم والمستضعفين لهم.. وإلا فإن كلّ شيء هيّن يسير على الله.. لا يعجزه شيء ولا يقف لقدرته شيء.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1015.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ يجوز أن يكون المراد بالذين كفروا هنا أهل الكتاب، أي اليهود، فتكون الجملة بمنزلة الفذلكة للكلام السابق الرّادّ على اليهود من التحاور المتقدّم، وصدّهم عن سبيل الله يحتمل أن يكون من صدّ القاصر الذي قياس مضارعه يصدّ ـ بكسر الصاد ـ، أي أعرضوا عن سبيل الله، أي الإسلام، أو هو من صدّ المتعدي الذي قياس مضارعه ـ بضمّ الصاد ـ، أي صدّوا النّاس، وحذف المفعول لقصد التكثير، فقد كان اليهود يتعرّضون للمسلمين بالفتنة، ويقوون أوهام المشركين بتكذيبهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويجوز أن يكون المراد بالذين كفروا المشركين، كما هو الغالب في إطلاق هذا الوصف في القرآن، فتكون الجملة استئنافا ابتدائيا، انتقل إليه بمناسبة الخوض في مناواة أهل الكتاب للإسلام، وصدّهم عن سبيل الله، أي صدّهم النّاس عن الدخول في الإسلام مشهور.
2. والضلال الكفر لأنّه ضياع عن الإيمان الذي هو طريق الخير والسعادة، فإطلاق الضلال على الكفر استعارة مبنيّة على استعارة الطريق المستقيم للإيمان، ووصف الضلال بالبعيد مع أنّ البعد من صفات المسافات هو استعارة البعد لشدّة الضلال وكماله في نوعه، بحيث لا يدرك مقداره، وهو تشبيه شائع في كلامهم: أن يشبّهوا بلوغ الكمال بما يدلّ على المسافات والنهايات كقولهم: بعيد الغور، وبعيد القعر، ولا نهاية له، ولا غاية له، ورجل بعيد الهمّة، وبعيد المرمى، ولا منتهى لكبارها، وبحر لا ساحل له، وقولهم: هذا إغراق في كذا.
3. ومن بديع مناسبته هنا أنّ الضلال الحقيقي يكون في الفيافي والموامي، فإذا اشتدّ التيه والضلال بعد صاحبه عن المعمور، فكان في وصفه بالبعيد تعاهد للحقيقة، وإيماء إلى أنّ في إطلاقه على الكفر والجهل نقلا عرفيا.
4. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾ الجملة بيان لجملة ﴿قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 167]، لأنّ السامع يترقّب معرفة جزاء هذا الضلال فبيّنته هذه الجملة.
5. إعادة الموصول وصلته دون أن يذكر ضميرهم لتبنى عليه صلة ﴿وَظَلَمُوا﴾، ولأنّ في تكرير الصّلة تنديدا عليهم، ويجيء على الوجهين في المراد من الذين كفروا في الآية الّتي قبلها أن يكون عطف الظلم على الكفر في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا﴾ إمّا أن يراد به ظلم النّفس، وظلم النبي والمسلمين، وذلك اللائق بأهل الكتاب؛ وإمّا أن يراد به الشرك، كما هو شائع في استعمال القرآن كقوله: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]، فيكون من عطف الأخصّ على الأعمّ في الأنواع؛ وإمّا أن يراد به التعدّي على النّاس، كظلمهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بإخراجه من أرضه، وتأليب النّاس عليه، وغير ذلك، وظلمهم المؤمنين بتعذيبهم في الله، وإخراجهم، ومصادرتهم في أموالهم، ومعاملتهم بالنفاق والسخريّة والخداع؛ وإمّا أن يراد به ارتكاب المفاسد والجرائم ممّا استقرّ عند أهل العقول أنّه ظلم وعدوان.
6. ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ صيغة جحود، وقد تقدّم بيانها عند قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ﴾ في سورة آل عمران [79]، فهي تقتضي تحقيق النفي، وقد نفي عن الله أن يغفر لهم تحذيرا من البقاء على الكفر والظلم، لأنّ هذا الحكم نيط بالوصف ولم ينط بأشخاص معروفين، فإن هم أقلعوا عن الكفر والظلم لم يكونوا من الّذين كفروا وظلموا، ومعنى نفي أن يهديهم طريقا: إن كان طريقا يوم القيامة فهو واضح: أي لا يهديهم طريقا بوصلهم إلى مكان إلّا طريقا يوصل إلى جهنّم، ويجوز أن يراد من الطريق الآيات في الدنيا، كقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6]، فنفي هديهم إليه إنذار بأنّ الكفر والظلم من شأنهما أن يخيّما على القلب بغشاوة تمنعه من وصول الهدي إليه، ليحذر المتلبّس بالكفر والظلم من التوغّل فيهما، فلعلّه أن يصبح ولا مخلّص له منهما، ونفي هدى الله إيّاهم على هذا الوجه مجاز عقلي في نفي تيسير أسباب الهدى بحسب قانون حصول الأسباب وحصول آثارها بعدها، وعلى أي الاحتمالين فتوبة الكافر الظالم بالإيمان مقبولة، وكثيرا ما آمن الكافرون الظالمون وحسن إيمانهم، وآيات قبول التّوبة، وكذلك مشاهدة الواقع، ممّا يهدي إلى تأويل هذه الآية، وتقدّم نظير هذه الآية قريبا، أي ﴿الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ [النساء: 137] الآية.
7. ﴿إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ استثناء متّصل إن كان الطريق الذي نفي هديهم إليه الطريق الحقيقي، ومنقطع إن أريد بالطريق الأوّل الهدى، وفي هذا الاستثناء تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه: لأنّ الكلام مسوق للإنذار، والاستثناء فيه رائحة إطماع، ثمّ إذا سمع المستثنى تبيّن أنّه من قبيل الإنذار، وفيه تهكّم لأنّه استثنى من الطريق المعمول ﴿لِيَهْدِيَهُمْ﴾، وليس الإقحام بهم في طريق جهنّم بهدي لأنّ الهدي هو إرشاد الضالّ إلى المكان المحبوب، ولذلك عقّبه بقوله: ﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾ أي الإقحام بهم في طريق النّار على الله يسيرا إذ لا يعجزه شيء وإذ هم عبيده يصرفهم إلى حيث يشاء.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/327.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآيات السابقة كان الكلام في أحوال اليهود، وسائر الكافرين، وبين سبحانه كيف كانت تأتيهم المعجزات القاهرة، والبينات الباهرة، ومع ذلك يستمرون في إنكارهم، ويلجون في عنادهم، ويطلبون آيات أخرى، والمآل الكفران، حتى إن بعضهم في الماضي ليسألون موسى أن يريهم الله جهرة، وبعضهم في عصر نزول آية يطلب آية أخرى، والنبي يتحداهم بالقرآن أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله ولو مفتراة، وهو يجادلهم بالتي هي أحسن، وقد بين سبحانه أنه تعالى أرسل الرسل ليقيم الحجة، ويختار من عباده للرسالة من يشاء، وإنكارهم لا يجديهم ولا يهديهم، ولا ينجيهم، بل إن العقاب يوم القيامة يترقبهم، وإنهم بقدر لجاجتهم في الإنكار يبتعدون عن طريق الهداية، وأوغلوا في طريق الغواية، حتى يصلوا في طريق جهنم إلى نهايته، وأنهم لخالدون فيها.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ (صد) يستعمل متعديا، ومصدره (الصد)، وقد تستعمل كلمة (صد) لازما، ويكون مصدرها الصدود، وقد جاء في مفردات الأصفهاني معنى الصد: (الصد والصدود قد يكونان انصرافا عن الشيء وامتناعا، نحو ﴿يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾ [النساء]، وقد يكون صدا ومنعا نحو: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ [النمل] ونحو: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ [محمد] وكما قال تعالى: ﴿وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ﴾ [القصص])، والصد هنا في هذا النص الكريم بمعنى التعدي فمعنى النص السامي إن الذين جحدوا بالحق إذ جاءهم ولا يكتفون بانصرافهم عن الإذعان والإيمان، بل يصدون غيرهم، ويمنعونهم من الحق بإثارة الشبهات، وإيقاد الفتن بين المؤمنين، يوغلون في الضلال، ويسيرون في طريقه سيرا بعيدا، ويتضمن ذلك المعنى أمورا:
أ. أولها: أن الكفر بطبيعته انصراف عن الحق وصدود عن طريقه، ولذلك فسرنا كلمة ﴿وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ بمعنى منع غيرهم من سلوك الأقوم والهادى إلى الحق الذى لا ريب فيه، وإن الذى يصد غيره قد ابتدأ بصد نفسه، فالمضل لغيره هو في ذات نفسه ضال، فإن الإضلال من ثمرات الضلال، ولا يضل الناس إلا ضال، وقد ضل مرتين إحداهما بإنكاره للحق، والثانية: بمحاولته إضلال غيره.
ب. ثانيها: أن الضلال البعد عن الطريق المستقيم فمن ضل فقد بعد عن الحق، ومن أضل غيره فقد بعد عن الحق بمقدار أوسع، وهكذا كلما سار في التضليل، وفتنة المهتدين، وإيذائهم وإثارة الشبهات بينهم فهو يسير موغلا في البعد عن الطريق المستقيم، وهذا معنى قوله قد ضلوا ضلالا بعيدا.
ج. ثالثها: أن قوله تعالى: ﴿قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ فيه استعارة تمثيلية؛ لأن فيه تشبيه حال الذين يمعنون في الغى والفساد وإنكار الحقائق عندما يلحفون في الإنكار، وإثارة الشبه بحال الذين يسيرون في بيداء، وقد ضلوا الطريق، وساروا على غير هدى، فكلما ساروا بعدوا عن الجادة، وكان سيرهم ضلالا بعيدا لا يهتدون من بعد، إذ لا يجدون من يهديهم إلى سواء الصراط.
د. الرابع: أن النفس البشرية قد هداها الله تعالى النجدين طريق الحق، وطريق الباطل، وألهمها فجورها وتقواها، فإذا اتجهت إلى الخير سارت فيه، وكلما كثرت خيراتها زاد فضلها، وإذا انحرفت عن الطريق السوى، أو سارت فيه، فإذا نبهت من قريب عادت إلى الفطرة والحق، وأمامها الأمارات والعلامات المبينة المرشدة، وإذا لم تنتبه من قريب، سارت في الشر، وبمقدار سيرها تأخذ أمارات الحق تختفى أمامها، حتى تنطمس فلا ترى، ولذلك لا يكون ثمة أمل في العودة إلى الجادة، لأنه قد اختفت في النفس أمارات الحق، وانطفأ نوره.
3. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا﴾ الظلم هنا ظلم النفس وظلم الغير، وأولئك الذين كفروا ولجوا في كفرهم، واسترسلوا في جحودهم قد ظلموا أنفسهم بأن أبعدوها عن طريق الهداية وطمسوا نور الحق فيها وارتكبوا من المآثم ما تردوا به في مهاوى الرذيلة، وظلموا غيرهم بأن أثاروا الشبهات ليضلوهم، وأوقعوا بهم الأذى ليفتنوهم، والوصفان لطائفة واحدة من الناس، فهم اتصفوا بالجحود المطلق، والظلم، وهي الطائفة الموصوفة بالأوصاف السابقة، فالأوصاف الأولى كانت الكفر، والصد عن طريق الحق، والأوصاف الثانية: هي الكفر والظلم، فالكفر مشترك، والاختلاف في الصد، والظلم، وهما متلاقيان، لأن الإعراض عن الحق ظلم للنفس ومنع الغير من الحق ظلم له، كما أن الأذى والفتنة في الدين ظلم لا ريب فيه؛ لأنه تضييق على حرية الاعتقاد، وإكراه في الدين ولا ظلم أبلغ من سلب الحرية الدينية، وإرهاق المؤمن في إيمانه.
4. وإن الذين يوغلون في الجحود والظلم لا ترجى لهم توبة، وإذا كانت توبتهم لا ترتجى، فالغفران لهم لا يرجى؛ لأن الغفران نتيجة التوبة من الجاحدين الظالمين، وما كانت التوبة للذين يعملون السيئات، وتستغرق نفوسهم، ولا يتجهون إلى الله قط، ولذلك قال تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾
5. اللام في قوله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ هي التي تسمى في اصطلاح النحويين لام الجحود، أي لام النفي المطلق، أي النفي الذى يكون ناشئا عن طبيعة موضوعة، وعلى ذلك يكون المعنى لم يكن من حكمة الله تعالى، وتدبيره الحكيم أن يغفر لهم؛ لأن حالهم تنفى الغفران إذ تنفى سببه، وهو الإقلاع عن الكفر والظلم، والندم على ما وقع منهم، وإذا كان ذلك لا يتحقق، فالنفي المؤكد، والجحود المطلق لاستحقاق المغفرة مؤكد، إذ لا يقابل جحودهم بالله إلا جحود الغفران لهم، وإن الهداية إلى الحق تبتدئ بالاتجاه السليم إلى طلبه، والسير في طريقه المستقيم، وأولئك الذين أوغلوا في الشر وساروا في طريقه، أو غابوا في صحرائه وبعدوا عن الجادة لا يمكن أن يهديهم الله تعالى إلى الطريق المستقيم، لأنهم بعدوا عنه بعدا شديدا، ولا يمكن أن يسمعوا نداء الحق؛ لأنه لا يصل إليهم صوته، وقد اختفت من قلوبهم أماراته، فهداية الله تعالى إنما تكون لمن لم يبعد عن طريق الخير، ولا تكون إلا إذا اتجهت النفوس إلى طلبه، ولم تحط بها الخطايا ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد]
6. والآية الكريمة تتضمن بيان حقائق:
أ. الأولى: أن الظلم وإرهاق النفس بالإكراه أشد الموبقات التي توبق أعمال العبيد، وترهقهم، وإن ظلم العباد لا يغفره الله تعالى إلا إذا عفا الذين وقع الظلم عليهم، ولذلك ذكر امتناع الغفران مقرونا بالظلم، ومسببا له، وثمرة مترتبة عليه.
ب. الثانية: أن هداية الله تعالى تكون للنفس الصالحة لقبولها، فهي استجابة من الله تعالى لمن يطلبها، ولا يطلبها من أركس في الشر إركاسا، فمن طلب الهداية نالها، ومن تنكب سبيلها سلب الله تعالى عنه هدايته.
ج. الثالثة: أن التوبة أساس الغفران، والتوبة ندم على الذنب، وإقلاع عنه، واعتزام على عدم العودة.
7. ﴿إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ الاستثناء هنا من ختام الآية السابقة، أي أن الله تعالى لا يوصلهم إلى طريق إلا طريق جهنم، ويكون معنى الهداية التوصيل، وليس التوصيل إلى جهنم فيه نوع من الهداية، بل هو التردي في الهاوية، وكان التعبير عن الهداية من قبيل المشاكلة اللفظية، وفيه نوع من التهكم في مثل قوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الانشقاق]
8. وفى الكلام تنبيه إلى أن أعمالهم تنتهى بهم لا محالة إلى جهنم، وعذابها الشديد، فإذا كانوا ممن يظنون أنفسهم في سعادة في الدنيا، فسيجدون الألم الشديد، ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الحجر]
9. وقد ذكر سبحانه أنهم خالدون في جهنم أبدا، فأكد سبحانه العذاب بأنه عذاب خالد دائم، فوصفهم بأنهم خالدون على وجه التأبيد، وقد وصفهم بالخلود الدائم في العذاب ولم يصف العذاب، للإشارة إلى أنهم متلبسون به ولتصوير الآلام التي تنزل بهم، وأنهم لإخلاص لهم منها، بل هي ملازمة لهم ملازمة الوصف للموصوف، وقد قال الأصفهاني في معنى الخلود: الخلود هو تبرى الشيء من اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة التي هو عليها، وكل ما يتباطأ التغيير والفساد فيه تصفه العرب بالخلود.. ويقال خلد يخلد خلودا قال تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ [الشعراء]، والخلد اسم للجزء الذى يتبقى من الإنسان على حالته.. وأصل المخلد الذى يبقى مدة طويلة.. والخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة التي عليها من غير اعتراض الفساد عليها، قال تعالى: ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾، والأبد قال فيه الراغب: (مدة الزمان الممتد الذى لا يتجزأ، وأبد يأبد بقى أبدا، ويعبر به عما يبقى مدة طويلة)
10. وإن تفسير الخلود على ما ذكره الراغب يقتضى بقاء الناس يوم القيامة بأبدانهم من غير أن يعتريها فساد ولا فناء ولا تحلل أجزاء، فأهل الجنة يبقون بقاء تمتع ونعيم وأهل النار تبقى أجسامهم في شقاء وعذاب أليم، لا تبليها النار ولا يفنيها العذاب، ولا يذهب بالحساسية فيها توالى الاكتواء، ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء]، والأبدية معناها الدوام، كما دل على ذلك مجموع النصوص القرآنية، وإن تأكيد الخلود بالأبدية يدل على بقاء العذاب والنعيم.
11. ذيل الله سبحانه وتعالى الآيات بهذا ليبين لهم أن الله تعالى غالب على كل شيء وأن عذابهم أمر يسير عليه، لإبطال زعمهم في أنهم لا يقدر عليهم أحد، ذلك أن كل طاغية من طغاة الدنيا سبب طغيانه واسترساله في شره ظنه أن لن يقدر عليه أحد، مع أن الله تعالى هو القاهر فوق عباده، اللهم أبعد عن خلقك طغيان الطاغين، وغرور المغترين، وأرزق المؤمنين الأمن والاطمئنان.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1970.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾، قال الرازي وغيره من المفسرين: هذه الأوصاف تنطبق على اليهود، لأنهم كفروا بالإسلام، وصدوا غيرهم عنه بإلقاء الشبهات في قلوب البسطاء.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾، يرى بعض المفسرين أن الآية الأولى: مختصة باليهود، وهذه بالمشركين، وان اليهود قد صدوا عن الإسلام بإلقاء الشبهات، وان المشركين صدوا عنه بالظلم، حيث أعلنوا الحرب على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ودارت بينه وبينهم المعارك أكثر من مرة، ولا يغفر الله لهم ولا لغيرهم ما داموا على الضلال، ولا يرشدهم في الآخرة إلا إلى طريق جهنم، لأنهم في الدنيا سلكوا طريق الضلالة، وانحرفوا عن طريق الهداية رغم الإنذار والإخطار، وقوله أبدا دليل على خلودهم في النار، وعدم انقطاع العذاب عنهم، ولولا لفظ التأبيد لكان لفظ الخلود محتملا للدوام والاستمرار، ولطول أمد المكث في جهنم.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/497.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ لما ذكر تعالى الحجة البالغة في رسالة نبيه ونزول كتابه من عند الله، وأنه من سنخ الوحي الذي أوحي إلى النبيين من قبله وأنه مقرون بشهادته وشهادة ملائكته وكفى به شهيدا حقق ضلال من كفر به وأعرض عنه كائنا من كان من أهل الكتاب.
2. وفي الآية تبديل الكتاب الذي كان الكلام في نزوله من عند الله بسبيل الله حيث قال: ﴿وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ وفيه إيجاز لطيف كأنه قيل: إن الذين كفروا وصدوا عن هذا الكتاب والوحي الذي يتضمنه فقد كفروا وصدوا عن سبيل الله والذين كفروا وصدوا عن سبيل الله.
3. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ تحقيق وتثبيت آخر مقامه التأكيد من الآية السابقة، وعلى هذا يكون المراد بالظلم هو الصد عن سبيل الله كما هو ظاهر، ويمكن أن يكون الآية في مقام التعليل بالنسبة إلى الآية السابقة، يبين فيها وجه ضلالهم البعيد والمعنى ظاهر.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/143.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ ﴿صَدُّوا﴾ إن كان من الصدود فالمعنى: أعرضوا، وإن كان من الصدِّ، فالمعنى: صدوا غيرهم ومنعوهم عن سبيل الله، بأن ضللوا عليهم وأغووهم وقد مر ذكره في قوله تعالى: ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ والكل واقع منهم الإعراض والإغواء، فيحمل على المعنيين.
2. ﴿قَدْ ضَلُّوا﴾ ضلوا عن طريق الصواب وغووا ﴿ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ فصاروا في متاهة لا يهتدون للصواب، وصار بينهم وبين طريق الحق مسافة بعيدة.
3. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ ﴿ظَلَمُوا﴾ بالصدِّ عن سبيل الله، والتكذيب لرسول الله، وغير ذلك ﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ نفي مؤكد، يفيد: أنه لا يليق بعظمة الله ولا ينبغي أن يغفرلهم؛ لأنه مخالف لعزته وحكمته.
4. ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا﴾ لوجوب خذلانهم في الحكمة عقوبة لهم، أو لأنه لا يؤثر في قلوبهم لتهتدي إلا القسر والإلجاء، وذلك ينافي حكمته، لأنه لا يخرجهم إلى الهدى الحقيقي، وإنما هي صورة الهدى ألجأ إليها القسر، ولا فائدة لذلك، وقد استحقوا أن يوليهم ما تولوا بعزته.
5. ﴿إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ أي لكن يهديهم طريق جهنم، وهي مشاكلة لفظية؛ لأن الهدى خاص في الدلالة على طريق الصواب، و﴿خَالِدِينَ﴾ حال مقدرة ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾ لأنه غني عنهم لا نقص عليه في تعذيبهم ولا مشقة ولا عناء، واليسير: ضد العسير.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/216.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هؤلاء الكفار الذين لا يكتفون بأن يكفروا بالله، بل يضيفون إلى ذلك الوقوف كحجر عثرة أمام سبيل الله، في كل جوانب الفكر والعمل، ويعملون على أن يمنعوا العاملين من التحرّك بحرية من أجل الوصول إلى قناعات الناس، من موقع الإقناع القائم على البرهان والحجة الواضحة.. هؤلاء الكافرون تائهون ضالّون ضلالا بعيدا، لأنهم يحسبون أنفسهم في طريق الهدى جهلا واستكبارا؛ ولهذا فإنهم لا يرجعون إلى قاعدة من الهدى ليرتكزوا عليها، بل يظلون ينتقلون من ضلال إلى ضلال، لأنهم لا يسمحون لأفكارهم أن تتحرك في داخلهم بحرية ليكتشفوا الحق من ذلك الموقع.
2. إن هؤلاء الذين كفروا وظلموا أنفسهم والمؤمنين لا يتعلّقون بأيّ أمل يربطهم بمغفرة الله، لأنهم لا يرتبطون به بأيّة رابطة إيمان أو عبادة، فلا يمكن أن ينالوا هذه المغفرة، ولا يمكن أن يهديهم أيّ طريق؛ فكلّ الطرق مغلقة أمامهم، إلا الطريق الوحيد الذي اختاروه بأنفسهم وهو طريق جهنم خالدين فيها أبدا، لأن ذلك هو جزاء الكفر والكافرين؛ ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾، لأنه يملك الأمر كله يوم القيامة.
3. وفي هذه الآيات تصوير لهذا المصير الذي ينتظر الكافرين، ليقف الناس منه موقف المتأمّل الذي يفكر كيف يختار طريقه، على أساس من الشعور بمسؤوليته عن نفسه، فيما ينتظره من عقاب أو ثواب.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/550.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. جرى البحث في الآيات السابقة حول المؤمنين وغير المؤمنين، أمّا الآيات الثلاثة الأخيرة فهي تشير إلى مجموعة اختارت أقبح أنواع الكفر، فهؤلاء ـ بالإضافة ـ إلى انحرافهم وضلالهم سعوا إلى تحريف وإضلال الآخرين، وقد ظلموا أنفسهم بفعلهم هذا وظلموا الآخرين معهم لأنهم لم يسيروا في طريق الحق ولم يسمحوا للآخرين ـ أيضا ـ باتّباع هذا السبيل، والآية الكريمة تصف هؤلاء بأنّهم في ضلال بعيد وذلك بقولها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾
2. فلماذا ـ يا ترى ـ استحق هؤلاء الإبعاد عن طريق الحق؟ إنّهم استحقوا ذلك لدعوتهم الآخرين إلى طريق الضلال، حيث من المستبعد جدّا أن يتخلوا عن طريق هم يدعون الآخرين لاتّباعه ـ فقط خلط هؤلاء كفرهم بالعناد، ووضعوا أقدامهم في طريق الضلال والانحراف، وابتعدوا بذلك كثيرا عن طريق الحق والصواب.
3. أمّا الآية الأخرى فتشير إلى الذين كفروا وظلموا، إذ ظلموا الحق أوّلا لعدم التزامهم بالصواب، كما ظلموا أنفسهم بذلك ـ أيضا ـ إذ حرموها من السعادة وسقطوا في هوة الضلالة، وظلموا الآخرين حين منعوهم من التوجه إلى طريق الحق والصواب، فهؤلاء لن يشملهم أبدا عفو الله، وإن الله لا يهديهم أبدا إلّا إلى طريق جهنم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾، فهؤلاء باقون وخالدون في جهنم دائما وأبدا، كما تقول الآية: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾، وعلى هؤلاء أن يعلموا أنّ وعد الله حق، وأن تهديده يتحقق لا محالة، فليس ذلك على الله بالأمر الصعب تقول الآية: وكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً.
4. نلاحظ في الآيتين المذكورتين تأكيدا من طراز خاص حول هذا النوع من الكفار والعقوبات التي ينالونها ـ فمن جهة يوصف انحرافهم بالضلال البعيد، ومن جهة ثانية تؤكد الآية باستخدام عبارة ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ﴾.. أنّ العفو عن هؤلاء الكفار لا يليق بمنزلة الله سبحانه وتعالى، ومن جانب آخر فقد جاء التأكيد على خلود هؤلاء في النار والتشديد على أنّه خلود أبدي، لأنّ هؤلاء وأمثالهم بالإضافة إلى خروجهم عن جادة الحق وانحرافهم، سعوا إلى إبعاد وحرف الآخرين عن هذا السبيل، وبذلك تحملوا مسئولية وإثما عظيما.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/542.
146. الرسول والحق
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈146⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 170]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، أي: الفريقين جميعا؛ من الكافرين، والمنافقين(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٢٢.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ﴾ يعني: محمدا ﴿بِالْحَقِّ﴾ يعني: بالقرآن ﴿مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ يعني: صدقوا بالقرآن، فهو خير لكم من الكفر، ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ من الخلق، ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢٤.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ يحتمل قوله: ﴿بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾:
أ. بالحق الذي للهِ عليكم.
ب. ويحتمل: ﴿بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ بالحق الذي لبعضكم على بعض، قد جاءكم الرسول من الله ببيان ذلك كله.
ج. ويحتمل قوله: ﴿قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ الحق الذي هو ضد الباطل ونقيضه، وفرق بينهما، وأزال الشبه؛ إن لم تعاندوا ولم تكابروا.
2. ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾، لأن الذي كان يمنعهم عن الإيمان بالله حب الرياسة، وخوف زوال المنافع التي كانت لهم؛ فقال: ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾؛ لأن ذلك لكم في الدنيا، والآخرة دائم لا يزول؛ فذلك خير لكم من الذي يكون في وقت ثم يزول عنكم عن سريع.
3. ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية:
أ. يخبر أن ما يأمر خلقه وينهى ليس يأمر وينهى لحاجة له أو لمنفعة؛ ولكن يأمر وينهى لحاجة الخلق ومنافعهم؛ إذ من له ما في السماوات وما في الأرض وملكهما ـ لا يقع له حاجة ولا منفعة، وهو غنى بذاته.
ب. ويحتمل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وجهًا آخر، وهو: الذي تكفرونه، يقْدر أن يخلق خلقًا آخر سواكم يطيعونه؛ إذ له ما في السماوات وما في الأرض.
4. ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ عليمًا: عن علم بأحوالكم خلقكم، لا عن جهل، وعليمًا بما به صلاحكم وفسادكم، ﴿حَكِيمًا﴾: حيث وضع كل شيء موضعه.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٢٤.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أيها النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ خاطب الله بهذه الآية جميع الكفار الذين لم يؤمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مشركي العرب، وجميع أصناف الكفار، وبين انه قد جاءهم الرسول ـ يعني محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بالحق من ربكم ـ يعني بالإسلام الذي ارتضاه الله لعباده ديناً من ربكم، يعني من عند ربكم.
2. ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ معناه صدقوه وصدقوا ما جاءكم به من عند ربكم من الدين فإن الايمان بذلك خير لكم من الكفر ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ أي تجحدوا نبوته وتكذبوا رسالته وبما جاء به من عند الله فإن ضرر ذلك يعود عليكم دون الله تعالى الذي له ملك السماوات، لا ينقص كفركم بما كفرتم به من أمره، وعصيانكم فيما عصيتموه فيه من ملكه وسلطانه شيئاً.
3. ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا﴾ بما أنتم صائرون إليه من طاعته أو معصيته (حكيما) في أمره إياكم ونهبه عما نهاكم عنه وفي غير ذلك من تدبيره فيكم، وفي غيركم من خلقه.
4. اختلفوا في نصب ﴿خَيْرًا لَكُمْ﴾ فقال الخليل، وجميع البصريين: إن ذلك محمول على المعنى، لأنك إذا قلت: انته خيراً لك، فأنت تدفعه عن امر، وتدخله في غيره، كأنك قلت: انته وأت خيراً لك وادخل فيما هو خير لك وانشد الخليل وسيبويه قول عمر بن أبي ربيعة:
çفواعديه سرحتي مالك...أو الربا بينهما اسهلاé
وتقديره وأنني مكاناً اسهلا، وقال الكسائي: انتصب بخروجه من الكلام، قال: وهذا تفعله العرب في الكلام التام، نحو قولك لتقومن خيراً لك، وانته خيراً لك، فإذا كان الكلام ناقصاً، لم يخبر غير الرفع تقول ان تنته خير لك، وان تصبروا خير لكم، وقال الفراء انتصب ذلك لأنه متصل بالأمر وهو من صفته، إلا ترى انك، تقول: انته هو خير لك؟ فلما أسقطت هو اتصل بما قبله، وهو معرفة فانتصب وقال أبو عبيدة: انتصب ذلك على إضمار كان، كأنه قال فامنوا يكن الايمان خيراً لكم قال وكذلك كل امر ونهي قال الفراء: يلزم على ذلك ما يبطله، إلا ترى انك تقول: اتق الله تكن محسناً، ولا يجوز ان تقول: اتق الله محسناً بإضمار كان، ولا يصلح ان تقول: انصرنا أخانا، وانت تريد تكن أخانا، وقال قوم، انتصب ذلك بفعل مضمر اكتفى في ذلك المضمر بقوله: لا تفعل ذلك وافعل صلاحا لك.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/399.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أعاد الله تعالى العظة وعم الجميع، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾:
أ. قيل: أراد جميع من بعث إليه، عن الأصم.
ب. وقيل: بأنها دعاء وتنبيه وإنذار لزيادة الحجة، عن أبي مسلم.
2. ﴿قَدْ﴾ تحقيق للكلام ﴿جَاءَكُمُ الرَّسُولُ﴾ يعني محمدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿بِالْحَقِّ﴾:
أ. قيل: بدين الإسلام وما فيه من العبادات والأحكام الذي ارتضاه لعباده.
ب. وقيل: بأمر الله ونهيه.
3. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي: ذلك الحق من الله أمره بإبلاغه إليكم ﴿فَآمِنُوا﴾:
أ. قيل: هو عام معناه آمنوا بكل ما يلزم الإيمان به اتباعًا له.
ب. وقيل: آمنوا بأنه رسول، وأن ما جاء به الحق.
4. ﴿خَيْرًا لَكُمْ﴾ أي: يكن الإيمان به خيرًا لكم ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ تجحدوا ما جاء به ﴿فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ملكًا وخلقًا، وفيه محذوف:
أ. يعني: إن تكفروا فإنكم في قبضته يقدر على أخذكم وعقابكم والخسف بكم لكونه مالكًا للسماوات والأرض ويقدر على أن يسقط عليكم السماء ويمنعكم رزقكم، عن الأصم.
ب. وقيل: تقديره: وإن تكفروا لا تضروا بكفركم غير أنفسكم فإنه غني عنكم؛ لأن له ما في السماوات والأرض.
5. ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾:
أ. قيل: عليمًا بما تصيرون إليه من الإيمان والكفر حكيمًا في جزائكم.
ب. وقيل: عليم بمصالحكم وحكيم في إرسال الرسل إليكم وتدابيره فيكم.
ج. وقيل: عليم بكفركم حكيم في إمهالكم.
6. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن المعارف ليست بضرورة، وإلا كان الحق معروفًا باضطرار غير مضاف إليه.
ب. أنه حكيم في تكليف من يعلم أنه يكفر؛ لأنه يجازيهم على فعلهم، لا على علمه.
ج. أن الكفر فعلهم؛ إذ لو لم يكن فعلهم لقبح النهي عنه، فيبطل قول الْمُجْبِرَة في المخلوق.
7. مسائل لغوية ونحوية:
أ. الباء في قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ باء التعدية كألف ﴿افْعَلْ﴾ المنقول من ﴿فَعَلَ﴾ في أتيته بالكتاب، وأته الكتاب، وأصله: آته الكتاب، ومنه: جئت إلى عمرو، وأجاءني زيد إلى عمرو، وجاء بي إلى عمرو، ومنه: ﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾، و﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾
ب. انتصب ﴿خَيْرًا﴾ كانتصاب ﴿انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ لأنك إذا أمرت بفعل دخل في معناه: انته خيرًا لك، وإذا نهيت دخل في معناه: ائت بدله خيرًا لك، وقيل: تقديره: الزموا خيرًا لكم، وقيل: يكن الإيمان خيرًا لكم، فهو خبر ﴿كَانَ﴾
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/161.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. عاد سبحانه إلى العظة، وعم الخلق بذلك فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾:
أ. خطاب لجميع المكلفين.
ب. وقيل: خطاب للكفار.
2. ﴿قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ﴾ يعني: محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿بِالْحَقِّ﴾:
أ. أي: بالدين الذي ارتضاه الله لعباده.
ب. وقيل: بولاية من أمر الله تعالى بولايته، عن أبي جعفر عليه السلام.
3. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي: من عند ربكم ﴿فَآمِنُوا﴾ أي: صدقوه، وصدقوا ما جاءكم به من عند ربكم ﴿خَيْرًا لَكُمْ﴾ أي: ائتوا خيرا مما أنتم عليه من الجحود والتكذيب.
4. ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ أي: تكذبوه فيما جاءكم به من عند الله ﴿فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: فإن ضرر ذلك يعود عليكم دون الله، فإنه يملك ما في السماوات والأرض، لا ينقص كفركم فيما كذبتم به نبيه شيئا من ملكه، وسلطانه.
5. ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا﴾ بما أنتم صائرون إليه من طاعته أو معصيته، ﴿حَكِيمًا﴾ في أمره ونهيه إياكم، وتدبيره فيكم، وفي غيركم.
6. مسائل لغوية ونحوية:
أ. الباء في قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾: للتعدية كهمزة أفعل، تقول: جئت إلى عمرو، وأجاءني زيد، وجاء بي إلى عمرو.
ب. ﴿خَيْرًا لَكُمْ﴾ قال الزجاج: اختلفوا في نصب ﴿خَيْرًا﴾، فقال الكسائي: انتصب بخروجه عن الكلام، كقولهم لتقومن خيرا لك، وانته خيرا لك، فإذا كان الكلام ناقصا رفعوا، فقالوا: إن تنته خير لك، قال الفراء: انتصب هذا، وقوله: ﴿انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾، لأنه متصل بالأمر، ولم يقل هو ولا الكسائي من أي المنصوبات هو، ولا شرحاه، وقال الخليل، وجميع البصريين: إن هذا محمول على معناه، لأنك إذا قلت: انته خيرا لك، فأنت تدفعه عن أمر، وتدخله في غيره، كأنك قلت: انته وائت خيرا لك، وادخل فيما هو خير لك، وأنشد سيبويه قول عمر بن أبي ربيعة:
çفواعدته سرحتي مالك... أو الربى بينهما أسهلاé
كأنه قال أتى مكانا أسهل.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/220.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ الكلام عامّ، وروي عن ابن عباس أنه قال أراد المشركين، ﴿قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ﴾ أي: بالهدى، والصّدق.
2. ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ قال الزجّاج عن الخليل وجميع البصريين: إنّه منصوب بالحمل على معناه، لأنّك إذا قلت: انته خيرا لك، وأنت تدفعه عن أمر فتدخله في غيره، كان المعنى: انته وأت خيرا لك، وادخل في ما هو خير لك، وأنشد الخليل وسيبويه قول عمر بن أبي ربيعة:
çفواعديه سرحتي مالك...أو الرّبا بينهما أسهلاé
كأنّه قال ائتي مكانا أسهل.
3. ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: هو غنيّ عنكم، وعن إيمانكم، ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا﴾ بما يكون من إيمان أو كفر ﴿حَكِيمًا﴾ في تكليفكم مع علمه بما يكون منكم.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/501.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما أجاب الله تعالى عن شبهة اليهود على الوجوه الكثيرة وبيّن فساد طريقتهم ذكر خطابا عاما يعمهم ويعم غيرهم في الدعوة إلى دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وهذا الحق فيه وجهان:
أ. الأول: أنه جاء بالقرآن، والقرآن معجز فيلزم أنه جاء بالحق من ربه.
ب. الثاني: أنه جاء بالدعوة إلى عبادة الله والاعراض عن غيره، والعقل يدل على أن هذا هو الحق، فيلزم أنه جاء بالحق من ربه.
2. ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ يعني فآمنوا يكن ذلك الإيمان خيرا لكم مما أنتم فيه، أي أحمد عاقبة من الكفر، وإن تكفروا فإن الله غني عن إيمانكم لأنه مالك السموات والأرض وخالقهما، ومن كان كذلك لم يكن محتاجا إلى شيء ويحتمل أن يكون المراد: فإن لله ما في السموات والأرض، ومن كان كذلك كان قادرا على إنزال العذاب الشديد عليكم لو كفرتم، ويحتمل أن يكون المراد: أنكم إن كفرتم فله ملك السموات والأرض وله عبيد يعبدونه وينقادون لأمره وحكمه.
3. ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أي عليما لا يخفى عليه من أعمال عباده المؤمنين والكافرين شيء وحكيما لا يضيع عمل عامل منهم ولا يسوي بين المؤمن والكافر والمسيء والمحسن، وهو كقوله: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: 28]
__________
(1) التفسير الكبير: 11/271.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ هذا خطاب للكل، ﴿قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ﴾ يريد محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿بِالْحَقِّ﴾:
أ. بالقرآن
ب. وقيل: بالدين الحق.
ج. وقيل: بشهادة أن لا إله إلا الله.
د. وقيل: الباء للتعدية، أي جاءكم ومعه الحق، فهو في موضع الحال.
2. ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ في الكلام إضمار، أي وأتوا خيرا لكم، هذا مذهب سيبويه، وعلى قول الفراء نعت لمصدر محذوف، أي إيمانا خيرا لكم، وعلى قول أبي عبيدة يكن خيرا لكم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/20.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ اختلف أئمة النحو في انتصاب خيرا على ماذا؟ فقال سيبويه والخليل: بفعل مقدر، أي: واقصدوا أو ائتوا خيرا لكم، وقال الفراء: هو نعت لمصدر محذوف، أي: فآمنوا إيمانا خيرا لكم، وذهب أبو عبيدة، والكسائي: إلى أنه خبر لكان مقدّرة، أي: فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم، وأقوى هذه الأقوال الثالث، ثم الأوّل، ثم الثاني على ضعف فيه.
2. ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ أي: وإن تستمروا على كفركم ﴿فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ من مخلوقاته، وأنتم من جملتهم، ومن كان خالقا لكم ولها فهو قادر على مجازاتكم بقبيح أفعالكم، ففي هذه الجملة وعيد لهم، مع إيضاح وجه البرهان، وإماطة الستر عن الدليل بما يوجب عليهم القبول والإذعان، لأنهم يعترفون بأن الله خالقهم ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾
__________
(1) فتح القدير: 1/623.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَآ أَيُّهَا النَّاسُ﴾ أهل مكَّة كما هو معتاد في (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، ويدخل غيرهم قياسًا ومن خارج، أو المراد: الكفَّار مطلقًا، أو كلُّ الناس، وهو أولى لعمومه، ﴿قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ﴾ محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ﴾ القرآن وسائر ما ينزل عليه بالحقِّ، يتعلَّق بـ (جَاءَ) أو بـ (الرَّسُول)، أو المراد: ملتبسًا بالحقِّ، أو يجعل الحقَّ جائيًا، أو بسبب إقامة الحقِّ، وهو التوحيد ودين الإسلام والقرآن، و(مِن رَّبِّكُمْ) يتعلَّق بـ (جَاءَ) أو بـ (الرَّسُول)، أو حال من (الْحَقِّ)، والمعاني تختلف بذلك، وحاصلها واحد، ﴿فَآمِنُواْ﴾ أي: بربِّكم، أو بالحقِّ، أو بالرسول، ﴿خَيْرًا لَّكُمْ﴾ أي: إيمانًا خيرًا، أي: نافعًا، أو إيمانًا أفضل من غيره؛ لأنَّ الكفرة يَدَّعون أنَّ في الكفر خيرًا، أو صفة مؤكِّدة، وفيه أنَّ أصل التوكيد لمذكور لا لمحذوف، وأيضًا لأهل الكتاب إيمانٌ ببعضٍ كالبعث، إِلَّا أنَّه دون الإيمان الكلِّيِّ، أو يكن الإيمان خيرًا، أو اقصدوا خيرًا، أو افعلوا خيرًا، أو ائتوا خيرًا، ولا تَكَلُّفَ في جزمه على الجواب كما مَرَّ؛ لأنَّه ولو كان المعنى: إن آمنتم يكن الإيمان خيرًا ـ بحذف الشرط والجواب ـ لأنَّ ذلك كشيء يُقصَد معناه ولا يُعتبَر لفظُه.
2. ﴿وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالَارْضِ﴾ أي: فهو غنيٌّ عن إيمانكم؛ لأنَّ لله ما في السماوات والأرض، لا يضرُّه كفركم ولا ينفعه إيمانكم، أو فهو قادر على تعذيبكم لأنَّ لله.. إلخ، أو فقد كابرتم عقولكم، لأنَّ لله.. إلخ ما يدلُّ على ثبوت ما نفيتم، ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا﴾ بِكُلِّ شيء ومنها أحوالكم ﴿حَكِيمًا﴾ في كلِّ ما يفعله ومنها تعذيبكم.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/357.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما قرر الله تعالى أمر النبوة، وبيّن الطريق الموصل إلى العلم بها، ووعيد من أنكرها، خاطب الناس عامة بالدعوة وإلزام الحجة والوعيد على الرد، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي: بالهدى ودين الحق والبيان الشافي الذي يجب قبوله.
2. ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ أي: إيمانا خيرا لكم، أو ائتوا أمرا خيرا لكم من تقليد المعاندين ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: فهو قادر على تعذيبكم لعظم ملكوته، أو فهو غنيّ عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم، كما قال تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [إبراهيم: 8]، ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ في صنعه.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/477.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ نادى الله تعالى بهذه الآية جميع الناس، في سياق خطاب أهل الكتاب، لأن الحجة إذا قامت عليهم بشهادة الله تعالى بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ووجب عليهم الإيمان به، فبالأولى: تقوم على غيرهم، ممن ليس لهم كتاب ككتابهم، وذكر الرسول هاهنا معرفا لأن أهل الكتاب قد بشروا به، وكانوا ينتظرون بعثته، بعنوان أنه الرسول الكامل، الذي هو المتم الخاتم، ومما يدل على أن اليهود كانوا ينتظرون من الله مسيحا ونبيا بشر بهما أنبياؤهم ما جاء في أوائل الفصل الأول من إنجيل يوحنا وهو أنهم أرسلوا بعض الكهنة واللاويين إلى يوحنا (يحيى عليه السلام) ليسألوا من هو وكانت قد ظهرت عليه أمارات النبوة فسألوه أأنت المسيح؟ قال لا، قال أأنت النبي؟ قال لا، والشاهد أنهم ذكروا له النبي بلام العهد، فلا شك أن يهود العرب ونصاراهم لما سمعوا هذه الآية في زمن التنزيل تذكر مجيء الرسول المعرف بصيغة التحقيق (قد) فهموا أن المراد به الرسول الذي بشرهم به موسى صلّى الله عليه وآله وسلّم في التوراة (وهو في سفر تثنيه الاشتراع) وعيسى في الإنجيل (وسيأتي شاهد منه في تفسير الآية التالية لهذا) وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام.
2. ومن لم يعرف شيئا من أمر هذه البشارات يفهم من التعريف معنى آخر هو صحيح ومراد وهو أن التعريف لإفادة أن هذا الرسول هو الفرد الكامل في الرسل لظهور نبوته، ونصوع حجته، وعموم بعثته، وختم النبوة والرسالة به، ومعنى كونه جاء الناس بالحق من ربهم، أنه جاءهم بالقرآن الذي هو أبلغ بيان للحق، وأظهر الآيات المؤيدة له، واختيار لفظ الرب هنا للإشعار بأن هذا الحق الذي جاء به يصدق به تربية المؤمنين وتكميل فطرتهم، وتزكية نفوسهم، ولهذا قال: ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ أي إذا كان الأمر كذلك فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم لأنه يزكيكم ويطهركم من الأدناس الحسية والمعنوية، ويؤهلكم للسعادة الأبدية، وهذا هو التقدير المتبادر عندي وعليه الكسائي وأما الخليل وتلميذه فيقدران واقصدوا بالإيمان خيرا لكم، أي مما أنتم عليه، وقال الفراء فآمنوا إيمانا خيرا لكم.
3. يدل على ما اخترناه قوله في مقابله ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي إن تؤمنون يكن الإيمان خيرا لكم، وإن تكفروا فإن الله غني عن إيمانكم، وقادر على جزائكم بما يقتضيه كفركم، وما يترتب عليه من سوء عملكم، لأن له ما في السماوات وما في الأرض خلقا وعبيدا، وكل يعبده طوعا أو كرها، أما عبادة الكره وعدم الاختيار، فبالخضوع للسنن والأقدار، وهي عامة في جميع الخلق، والملائكة الأبرار، وأمثالهم من جنود الله.
4. ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أي كان شأنه العلم المحيط والحكمة الكاملة كما يظهر ذلك في جميع أفعاله وأحكامه وسننه، فلا يخفى عليه شيء من أمركم، في إيمانكم وكفركم، ولا يعدو حكمته أمر جزائكم، وحاشا عمله وحكمته أن يخلقكم عبثا، وأن يترككم بعد ذلك سدى، كلا إنه يجزي كل نفس بما تسعى، فطوبى لمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، وويل لمن أعرض عن ذكر ربه ولم يرد إلا الحياة الدنيا.
__________
(1) تفسير المنار: 6/65.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب وردّ شبهاتهم واقتراحهم ما اقترحوا تعنتا وعنادا ـ خاطب جميع الناس وأمرهم بالإيمان وشفعه بالوعد على عمل الخير والوعيد على عمل الشر، للإيماء إلى أن المحجة قد وضحت، والحجة قد لزمت، فلم تبق معذرة في الإعراض والصدّ عن اتباع الدعوة وقبول الحق من هذا الرسول الكريم، وقد كان اليهود ينتظرون من الله مسيحا ونبيّا بشر بهما أنبياؤهم، فقد جاء في الفصل الأوّل من إنجيل يوحنا ـ أنهم أرسلوا بعض الكهنة والأحبار إلى يوحنا (يحيى عليه السلام) ليسألوه من هو؟ وكانت قد ظهرت عليه أمارات النبوة ـ فسألوه أأنت المسيح؟ قال لا، قالوا: أأنت النبي؟ قال لا ـ من هذا تعلم أن يهود العرب ونصاراهم لما سمعوا هذه الآية زمن التنزيل فهموا أن المراد به الرسول الذي بشرهم به موسى صلّى الله عليه وآله وسلّم في التوراة في سفر تثنية الاشتراع، وعيسى في الإنجيل وغيرهما من الأنبياء.
2. ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ أي فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم، لأنه يزكيكم ويطهركم من الدنس والرجس ويؤهلكم للسعادة الأبدية.
3. ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي وإن تكفروا فإن الله غنىّ عن إيمانكم وقادر على جزائكم بما يقتضيه كفركم وسوء عملكم، فإن له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا، وكلهم عبيده ينقادون لحكمه طوعا أو كرها، فعبادة الكره وعدم الاختيار تكون بالخضوع لقدرته وسننه في الأكوان، وهي عامة في جميع الخلق سواء منها العاقل وغيره، وعبادة الاختيار خاصة بالمؤمنين الأخيار والملائكة الأبرار.
4. ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أي وكان شأنه تعالى العلم المحيط والحكمة الكاملة في جميع أفعاله وأحكامه، فهو لا يخفى عليه أمركم في إيمانكم وكفركم وسائر أحوالكم، ومن حكمته أن يجازيكم على ما تجترحون من الآثام والموبقات، فإنه لم يخلقكم عبثا ولن يترككم سدى، فطوبى لمن نهى النفس عن الهوى، وآثر الآخرة على الدنيا، وويل لمن أعرض عن ذكر ربه، وأعرض عن أمره ونهيه، وحالف الشيطان وحزبه.
__________
(1) تفسير المراغي 6/27.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لقد كان اليهود ـ كما كان النصارى ـ يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، وكانوا يقولون: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾، وكانوا يقولون: نحن شعب الله المختار.. فجاء القرآن لينفي هذا كله، ويضعهم في موضعهم.. عبادا من العباد.. إن أحسنوا أثيبوا، وإن أساءوا ـ ولم يستغفروا ويتوبوا ـ عذبوا.. وكان ذلك على الله يسيرا.. ومن ثم دعوة شاملة إلى الناس كافة ـ بعد هذه البيانات كلها ـ أن هذا الرسول إنما جاءهم بالحق من ربهم، فمن آمن به فهو الخير، ومن كفر فإن الله غني عنهم جميعا، وقادر عليهم جميعا، وله ما في السماوات والأرض، وهو يعلم الأمر كله، ويجريه وفق علمه وحكمته: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾
2. وهي دعوة سبقها دحض مفتريات أهل الكتاب، وكشف جبلة اليهود ومناكرهم في تاريخهم كله، وتصوير تعنتهم الأصيل، حتى مع موسى نبيهم وقائدهم ومنقذهم، كما سبقها بيان طبيعة الرسالة وغايتها، وهذه الغاية وتلك الطبيعة تقتضيان أن يرسل الله الرسل، وتقتضيان أن يرسل الله محمدا حتما، فهو رسول إلى العالمين، إلى الناس كافة ـ بعد ما غبرت الرسالات كلها خاصة بقوم كل رسول ـ فلم يكن بد من تبليغ عام في ختام الرسالات، يبلغ إلى الناس كافة: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾.. ولو لم تكن هذه الرسالة عامة للناس كافة لكان للناس ـ ممن سيأتون من أجيال وأمم ـ حجة على الله، فانقطعت هذه الحجة بالرسالة العامة للناس وللزمان، وكانت هي الرسالة الأخيرة، فإنكار أن هناك رسالة بعد أنبياء بني إسرائيل غير عيسى، أو بعد عيسى عليه السلام لا يتفق مع عدل الله، في أن يأخذ الناس بالعقاب بعد البلاغ.. ولم يسبق أن كانت هناك رسالة عامة، ولم يكن بد من هذه الرسالة العامة.. فكانت بعدل الله ورحمته بالعباد.. وكان حقا قول الله سبحانه ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.. رحمة في الدنيا ورحمة في الآخرة، كما يتجلى من هذا البيان.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/815.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن كشف الله سبحانه وتعالى عن هذا المصير المشئوم، الذي سيصير إليه أولئك الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله، ووقفوا من الرسول هذا الموقف العنادىّ الآثم ـ جاءت دعوة الله للناس جميعا أن يلتقوا بهذا الرسول، الذي جاءهم بالحق من ربهم، وليؤمنوا به، فإن آمنوا فقد كسبوا أنفسهم، واختاروا الخير لها، وإن كفروا، فقد خسروا أنفسهم، وأوردوها موارد الهلاك.. ولن يضرّ كفرهم إلا أنفسهم، فالله غنىّ عن إيمان المؤمنين، وكفر الكافرين.. له ما في السماوات والأرض.. ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: 93]
2. ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أي يعلم المفسد من المصلح، وما تخفى الصدور من نفاق وكفر، وما تحمل القلوب من هدى وإيمان.. وهو حكيم اقتضت حكمته أن يجزى كلّ عامل بما عمل.. من خير أو شر.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1016.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد استفراغ الحوار مع أهل الكتاب، ثمّ خطاب أهل الكفر بما هو صالح لأن يكون شاملا لأهل الكتاب، وجّه الخطاب إلى النّاس جميعا: ليكون تذييلا وتأكيدا لما سبقه، إذ قد تهيّأمن القوارع السالفة ما قامت به الحجّة، واتّسعت المحجّة، فكان المقام للأمر باتّباع الرسول والإيمان، وكذلك شأن الخطيب إذا تهيّأت الأسماع، ولانت الطباع، ويسمّى هذا بالمقصد من الخطاب، وما يتقدّمه بالمقدّمة، على أنّ الخطاب بيا أيّها النّاس يعني خصوص المشركين في الغالب، وهو المناسب لقوله: ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾
2. التعريف في ﴿الرَّسُولَ﴾ للعهد، وهو المعهود بين ظهرانيهم، (والحقّ) هو الشريعة والقرآن، و﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ متعلّق بـ ﴿جَاءَكُمُ﴾، أو صفة للحقّ، و(من) للابتداء المجازي فيهما، وتعدية جاء إلى ضمير المخاطبين ترغيب لهم في الإيمان لأنّ الذي يجيء مهتمّا بناس يكون حقّا عليهم أن يتّبعوه، وأيضا في طريق الإضافة من قوله: ﴿رَبُّكُمُ﴾ ترغيب ثان لما تدلّ عليه من اختصاصهم بهذا الدّين الذي هو آت من ربّهم، فلذلك أتي بالأمر بالإيمان مفرّعا على هاته الجمل بقوله: ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾
3. انتصب ﴿خَيْرًا﴾ على تعلّقه بمحذوف لازم الحذف في كلامهم لكثرة الاستعمال، فجرى مجرى الأمثال، وذلك فيما دلّ على الأمر والنهي من الكلام نحو ﴿انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ [النساء: 171]، ووراءك أوسع لك، أي تأخّر، وحسبك خيرا لك، وقول عمر بن أبي ربيعة:
çفواعديه سرحتي مالك...أو الرّبا بينهما، أسهلاé
فنصبه ممّا لم يختلف فيه عن العرب، واتّفق عليه أئمّة النحو، وإنّما اختلفوا في المحذوف: فجعله الخليل وسيبويه فعلا أمرا مدلولا عليه من سياق الكلام، تقديره: ايت أو اقصد، قالا: لأنّك لمّا قلت له: انته، أو افعل، أو حسبك، فأنت تحمله على شيء آخر أفضل له، وقال الفرّاء من الكوفيّين: هو في مثله صفة مصدر محذوف، وهو لا يتأتّى فيما كان منتصبا بعد نهي، ولا فيما كان منتصبا بعد غير متصرّف، نحو: وراءك وحسبك، وقال الكسائي والكوفيّون: نصب بكان محذوفة مع خبرها، والتقدير: يكن خيرا، وعندي: أنّه منصوب على الحال من المصدر الذي تضمّنه الفعل، وحده، أو مع حرف النهي، والتقدير: فآمنوا حال كون الإيمان خيرا، وحسبك حال كون الاكتفاء خيرا، ولا تفعل كذا حال كون الانتهاء خيرا، وعود الحال إلى مصدر الفعل في مثله كعود الضمير إليه في قوله: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]، لا سيما وقد جرى هذا مجرى الأمثال، وشأن الأمثال قوّة الإيجاز، وقد قال بذلك بعض الكوفيين وأبو البقاء.
4. ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ أريد به أن تبقوا على كفركم، ﴿فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ هو دليل على جواب الشرط، والجواب محذوف لأنّ التقدير: إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عن إيمانكم لأنّ لله ما في السموات وما في الأرض، وصرّح بما حذف هنا في سورة الزمر [7] في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ﴾ وفيه تعريض بالمخاطبين، أي أنّ كفركم لا يفلتكم من عقابه، لأنّكم عبيده، لأنّ له ما في السموات وما في الأرض.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/329.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كان كل الكلام السابق في شأن الذين لجوا في الإنكار من اليهود حتى لقد سألوا أن يأتي لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بكتاب من السماء يقرءونه، وكان حاضرهم في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كماضيهم، وفى هذه الآيات بيان منزلة الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنه يخاطب الناس جميعا برسالته، ويدعوهم إلى شريعته، وإشارة إلى طائفة أخرى من أهل الكتاب غالوا في تقدير رسولهم، وهم النصارى، فإذا كان اليهود قد لجوا في الإنكار والجحود بالنسبة لرسولهم الذى أنقذهم من فرعون وطغيانه، الذى كان يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم، فالنصارى قد غالوا في تقدير رسولهم حتى جعلوه إلها، وجعلوا الآلهة ثلاثة استرسالا في المغالاة في تقدير المسيح عيسى عليه السلام، وهو بريء مما يقولون.
2. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ الخطاب للناس أجمعين: أهل الشرك وأهل الكتاب، والعرب والعجم، والأبيض والأسود، والقريب الدانى، والبعيد القاصى، فهي رسالة عامة، لا تختص بجنس، ولا لون، ولا إقليم، فإذا كان موسى يخاطب بنى إسرائيل، فمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يخاطب الناس أجمعين.
3. وذكر الرسول معرفا بالألف واللام لمعنى كمال الرسالة فيه، فهي للتعيين بالكمال المطلق، أي أنه رسول الأجيال اللاحقة، ولا رسالة من بعده، فالتعريف هنا للكمال المطلق في الرسالة، وكان كمالها في عمومها، وفى كمال الشريعة التي جاءت بها، وصلاحيتها لكل الأزمان والأقطار والأمصار، ورسالتها فوق ذلك فيها الأحكام الخالدة من كل الرسالات السابقة، فمن آمن به فقد آمن بالرسالات كلها، ومن كفر برسول من السابقين، فقد كفر برسالته، فرسالته هي جماع الرسائل، وهي أوسطها وأشملها وأمثلها.
4. وقد أكد الله سبحانه وتعالى فضل رسالته وكمالها وعمومها بثلاثة أمور:
أ. أولها: في قوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمُ﴾ أي بعث هذا الرسول الأمين الكامل في معنى الرسالة وأدائها، قد جاءكم أيها الناس جميعا، فهي رسالة جاءت لصالحكم جميعا، أي لصالح البشرية كلها، لا لجزء من أجزائها.
ب. ثانيها: التعبير بقوله تعالى: ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي مقرونة بالحق مصاحبة له، متلبسة به، فهي حق ثابت مستقر موافق لفطرة البشر أجمعين، لا يأتيه باطل قط، وما كان حقا ملائما لفطرة البشر لا بد أن يكون عاما، شاملا لا يختص بمكان، ولا بزمان، ولا بعصر من العصور.
ج. ثالثها: قوله تعالى: ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي أن رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم جاءت من ربكم الذى خلقكم، وقام على أموركم الذى يعلم ما فيه نفعكم، وما فيه خيركم، ولا يرضى لعباده إلا النفع لعمومهم.
5. ولذلك كان الإيمان بهذه الرسالة والإذعان لها أمرا واجبا لمصلحة الناس أجمعين، فقال سبحانه: ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، وتقدير الكلام: إذا كان ذلك الرسول هو الكامل في رسالته التي جاءت بالحق تلازمه ويلازمها، وفيها مصلحة لكم لأنها من عند ربكم، فآمنوا خيرا لكم، أي فأذعنوا للحق وصدقوه، واعملوا به خيرا لكم، وهنا أمران لفظيان فيهما توضيح المعنى وكشف لبعض أسرار البلاغة القرآنية:
أ. أولهما ـ في قوله: ﴿فَآمِنُوا﴾ فلم يقل آمنوا به، بل أطلق الإيمان للإشارة إلى أن الإخلاص وحده، وهو الإذعان للحق، وعدم التمرد عليه لسبق الإلحاد والإنكار ـ هو الذى يفتح القلوب للحق، وتصديق ما أنزله الله تعالى على رسوله الأمين صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. ثانيهما ـ قوله تعالى: ﴿خَيْرًا لَكُمْ﴾ ونصبت كلمة (خيرا) وصفا لمحذوف تقديره آمنوا إيمانا هو خير لكم، أو مفعولا لمحذوف وتقديره آمنوا قاصدين خيرا لكم، ويصح أن تكون خبرا لكان المحذوفة في فعل شرط وجوابه، والمعنى إن تؤمنوا يكن خيرا لكم، وذلك مثل (كل امرئ مجزى بعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر)
6. ومهما يكن فإن النص الكريم يبين أن الإيمان فيه الخير المطلق؛ لأنه الحق، ولأنه من عند رب العالمين.
7. هذا فضل الايمان وما فيه من خير، وأما الكفر، فإنه الضرر كله للعباد، ولا يرضى سبحانه وتعالى الكفر لأنه لا يرضى ما يضرهم، وأما هو سبحانه فإنه لا يضره شيء من كفرهم لأنه المالك لكل شيء مالك لكل السموات من أفلاك ونجوم ومدارات، وما تحوى من كائنات، وما في الأرض مما هو على ظاهرها وما في باطنها، فهو المالك والسلطان القاهر، فلا يضيره كفر العباد، وإن كان لا يرضاه، ويرضى إيمانهم، وإن كان لا ينفعه، وهذا تقريب لمعنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾
8. هذا ختام النص الكريم فيه وصف الله الدائم بالعلم المحيط الذى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وبالحكمة وحسن التدبير والإبداع في ملكوت السموات والأرض، إذ يسير الكون بنظام محكم التقدير والتدبير، وبنواميس وأسرار كونية لا يعلمها إلا العليم الخبير الذى خلق كل شيء فقدره وأحسن تقديره، وأنه كان من مقتضى علمه ألا يخفى ضلال الضالين، ولا هداية المهتدين، وكان من مقتضى حكمته، أن يجزى بالكفر عذابا، وبالإيمان نعيما، وأن يجعل من عباده الشكور المهتدى، ومنهم من ضل وغوى.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1975.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أيها النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ المراد بالرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والنداء عام لكل إنسان في كل زمان ومكان، لأن الإيمان برسالة محمد ودعوته إيمان بالحق، ووجوب الايمان بالحق لا يختص بفرد، دون فرد، ولا بوقت دون وقت.
2. ﴿بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ يشعر بأن الإسلام لا يقر أي سلطان إلا سلطان الحق، فمن أعطاه الطاعة فهو عند الله من المقربين، ومن عصى ﴿فإن لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، لا تخفى عليه طاعة من أطاع، ولا معصية من عصى، وقضت حكمته ان يجازي كلا بما يستحقه من الثواب والعقاب.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/499.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد ما أجاب الله تعالى عما اقترحه أهل الكتاب من سؤالهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تنزيل كتاب من السماء ببيان أن رسوله إنما جاء بالحق من عند ربه، وأن الكتاب الذي جاء به من عند ربه حجة قاطعة لا ريب فيها استنتج منه صحة دعوة الناس كافة إلى نبيه وكتابه، وقد كان بين فيما بين أن جميع رسله وأنبيائه ـ وقد ذكر فيهم عيسى ـ على سنة واحدة متشابهة الأجزاء والأطراف، وهي سنة الوحي من الله فاستنتج منه صحة دعوة النصارى وهم أهل كتاب ووحي إلى أن لا يغلوا في دينهم، وأن يلحقوا بسائر الموحدين من المؤمنين، ويقروا في عيسى بما أقروا به هم وغيرهم في سائر الأنبياء أنهم عباد الله ورسله إلى خلقه، فأخذ تعالى يدعو الناس كافة إلى الإيمان برسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن المبين أولا هو صدق نبوته في قوله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ الآيات، ثم دعا إلى عدم الغلو في حق عيسى عليه السلام لأنه المتبين ثانيا في ضمن الآيات المذكورة ثم دعا إلى اتباع كتابه وهو القرآن الكريم لأنه المبين أخيرا في قوله تعالى: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾
2. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾، خطاب عام لأهل الكتاب وغيرهم من الناس كافة، متفرع على ما مر من البيان لأهل الكتاب، وإنما عمم الخطاب لصلاحية المدعو إليه وهو الإيمان بالرسول كذلك لعموم الرسالة.
3. ﴿خَيْرًا لَكُمْ﴾ حال من الإيمان وهي حال لازمة أي حال كون الإيمان من صفته اللازمة أنه خير لكم.
4. ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، أي إن تكفروا لم يزد كفركم عليكم شيئا، ولا ينقص من الله سبحانه شيئا، فإن كل شيء مما في السماوات والأرض لله فمن المحال أن يسلب منه تعالى شيء من ملكه فإن في طباع كل شيء مما في السماوات والأرض أنه لله لا شريك له فكونه موجودا وكونه مملوكا شيء واحد بعينه، فكيف يمكن أن ينزع من ملكه تعالى شيء وهو شيء والآية من الكلمات الجامعة التي كلما أمعنت في تدبرها أفادت زيادة لطف في معناها وسعة عجيبة في تبيانها، فإحاطة ملكه تعالى على الأشياء وآثارها تعطي في الكفر والإيمان والطاعة والمعصية معاني لطيفة، فعليك بزيادة التدبر فيها.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/149.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ دعوة عامة للناس من أهل الكتاب وغيرهم من العرب والعجم ﴿قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ﴾ قد انتهى إليكم الرسول المرسل إليكم، جاءكم ﴿بِالْحَقِّ﴾ الذي أرسل به وأمر بإبلاغه من ربكم أرسله به، وهو القرآن وسائر الوحي إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. ﴿فَآمِنُوا﴾ الإيمان الذي يدعوكم إليه ويأمركم به، وهو الإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، ومن ذلك: الإيمان برسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبالآيات التي جاء بها، ومن ذلك: القرآن ﴿خَيْرًا لَكُمْ﴾ لأن في الإيمان نجاتكم من النار، وسعادتكم في الآخرة أبداً، وذلك خير من الدنيا وما فيها.
3. ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ بالرسول أو بالحق الذي جاء به أي القرآن ﴿فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وإنما أنتم قليل في جملة ما في السموات والأرض فلا يعبأ بكم ولا يبالي بفوات طاعتكم، وأنتم كغيركم مما في السموات والأرض عبيد مملوكون فإن عصيتم حق عليكم العقاب ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ ﴿عَلِيمًا﴾ بكفر من كفر، وبكل شيء ﴿حَكِيمًا﴾ فلا بد من أن يجزي من كفر.
4. قال الشرفي في تفسير الآية السابقة: وفيه وجهان:
أ. الأول: المراد أنه تعالى خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها، فحق كل عاقل أن يكون منقاداً لأوامره ونواهيه، يرجو ثوابه ويخاف عقابه.
ب. الثاني: أنهم إن كفروا، فإن لله ما في سماواته وأرضه من أصناف مخلوقاته من يوحده ويعبده ويتقيه من الملائكة والثقلين، وكان ذلك غنياً عن خلقه وعبادتهم، ومستحقا لأن يحمد؛ لكثرة نعمه وإن لم يحمده أحد)
5. هذان وجهان، والذي ذكرت قبله وجهان، فهي أربعة معان أفادها قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وقد تكررت في هذه السورة لإفادتها الفوائد المتعددة المناسبة للسياقات المختلفة.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/217.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يعود القرآن ليجدّد الدعوة إلى الناس في الإيمان بالحق الذي جاء به الرسول، لما يمثله ذلك من الخير الذي يحصلون عليه، فيما يحقّقه لهم في الدنيا من مصالح ومنافع عامة وخاصة، وما ينتظرهم من الثواب في الآخرة، أمّا إذا تمرّدوا واختاروا الكفر، فإن عليهم أن يعرفوا أن ذلك لن يضر الله شيئا، ولن ينقص من ملكه أيّ شيء فإن له ما في السموات والأرض، وهو القادر على أن يعاقبهم مهما امتدّ بهم العمر.
2. ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، فيما يتعلق بكل شؤونهم وأعمالهم.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/552.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لقد أوضحت الآيات السابقة نهاية وعاقبة الناس الذين انعدم لديهم عنصر الإيمان أمّا الآية الأخيرة فهي تدعو إلى الإيمان وتبيّن نتيجة هذا الإيمان وتستخدم في ترغيب الناس إلى هذا الهدف السامي عبارات واصطلاحات تثير عند الأفراد الرغبة والاندفاع نحو الإيمان وهذه الآية تشير في البداية إلى أنّ النّبي المرسل هو ذلك الذي كان ينتظر الناس ظهوره، والذي أشارت إليه الكتب السماوية السابقة، وهو يحمل إليهم شريعة الحق والعدالة فتقول الآية في هذا المجال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ﴾
2. يبدو من سياق الآية أنّ حرفي (ال) الداخلة على كلمة (رسول) هما (ال) العهدية، وفيها إشارة إلى النّبي الذي كانوا ينتظرون قدومه، ولم يقتصر هذا الانتظار على اليهود والنصارى وحدهم، بل أنّ المشركين ـ أيضا ـ كانوا يتوقعون ـ لما سمعوه من أهل الكتاب ـ ظهور النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
3. فسّرت بعض الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السّلام كلمة (الحق) الواردة في الآية إشارة إلى ولاية علي بن أبي طالب عليه السّلام، وقد بيّنا سابقا إن مثل هذه التفاسير واضحة في بيان المصاديق، وهي لا تدل على الحصر.
4. ثمّ تردف الآية بأن هذا النّبي قد جاء إلى الناس من الله الذي تعهد تربية الخلق أجمعين، وذلك من خلال العبارة القرآنية الواردة في هذه الآية، وهي عبارة: ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾
5. وبعد ذلك تؤكّد الآية ـ على أنّ إيمان الأفراد إنّما تعود فائدته ويعود نفعه عليهم أنفسهم، أي أن الإنسان إذا آمن إنما يخدم نفسه بهذا الإيمان قبل أن يخدم به غيره تقول الآية: ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾
6. كما تؤكّد الآية في النهاية على أن من يتخذ الكفر سبيلا لنفسه فلن يضرّ الله بعمله هذا أبدا، لأن الله يملك كل ما في السماوات وما في الأرض، فهو بهذا لا يحتاج إلى أي شيء من الآخرين: ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
7. وتبيّن الآية في النهاية أنّ أحكام الله وأوامره كلّها لمصلحة البشر، لأنّها نابعة من حكمة الله وعلمه وهي قائمة على أساس تحقيق مصالح الناس، ومنافعهم الخيّرة: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾
8. ومن المنطلق نفسه فإنّ ما أرسله الله من شرائع لتنظيم الحياة الاجتماعية للبشر بواسطة الأنبياء عليهم السّلام، لم يكن ـ مطلقا ـ لحاجة الله إلى ذلك، بل إنّه نابع من علمه وحكمته، فهل يحق للبشر بعد هذا البيان أن يتركوا طريق الإيمان ويتبعوا سبيل الكفر؟
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/544.
147. أهل الكتاب والغلو وحقيقة المسيح
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈147⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ [النساء: 171]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
أبيّ:
روي عن أبيّ بن كعب (ت 22 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢]، أخذهم فجعلهم أرواحا، ثم صورهم، ثم استنطقهم، فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد والميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم، فدخل في فيها، فحملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى عليه السلام(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٧٠٥.
الأشعري:
روي عن أبي موسى الأشعري (ت 44 هـ) أنّه قال: إن النجاشي قال لجعفر: ما يقول صاحبك في ابن مريم؟ قال يقول فيه قول الله: روح الله، وكلمته، أخرجه من البتول العذراء، لم يقربها بشر، فتناول عودا من الأرض، فرفعه، فقال: يا معشر القسيسين والرهبان، ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه(1).
__________
(1) الحاكم ٢/٣٣٨.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾، رسول منه(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٢٣.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: يجوز أن تكون نزلت في اليهود والنصارى، فإنهم جميعا غلوا في أمر عيسى، فاليهود بالتقصير، والنصارى بمجاوزة الحد(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾، قال لا تعتدوا(2).
__________
(1) تفسير البغوي ٢/٣١٤.
(2) ابن أبي حاتم ٤/١١٢٢.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿لَا تَغْلُوا﴾، قال لا تبتدعوا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٢٢.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾، كلمته أن قال كن، فكان(1).
__________
(1) عبد الرزاق ١/١٧٧.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ معناه لا تجاوزوا القدر(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 124.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾، أي: مخلوقا من عنده(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي ٣/٤١٩.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: صاروا فريقين: فريق غلوا في الدين، فكان غلوهم فيه الشك فيه والرغبة عنه، وفريق منهم قصروا عنه، ففسقوا عن أمر ربهم(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٧٠١.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ [المائدة: 77] يعني: النصارى، ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ يعني: الإسلام، فالغلو في الدين أن تقولوا على الله غير الحق في أمر عيسى ابن مريم عليه السلام، ﴿وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ﴾ وليس لله تبارك وتعالى ولدا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ يعني: عيسى عليه السلام، ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ من الخلق عبيده، وفي ملكه عيسى وغيره، ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ يعني: شهيدا بذلك(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢٤.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ الغلو فراق الحق، وكان مما غلوا فيه أن دعوا لله صاحبة وولدا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٢٢.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله عز وجل: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾، أي هو رسول الله إلى عباده.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/254.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ وهذا خطاب للنصارى خاصة ولليهود عامة لأن الفريقين غلوا في المسيح فقالت النصارى هو الرب، وقالت اليهود هو لغير رشده، والغلو مجاوزة الحد ومنه غلا السعر إذا جاوز حده وغلا في الدين إذا أفرط في مجاوزة الحد.
2. ﴿وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ يعني في غلوهم في المسيح ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ﴾ رداً على من جعله إلهاً أو لغير رشده وجعله ساحراً ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ لأنه بشارة الله التي بشرها فصار بذلك كلمة الله ويجوز أنه يهتدى به كما يهتدى بكلمات الله عز وجل ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ أي أنه يحيى به الناس كما تحيى الأجساد بالأرواح والنفخ في اللغة سمي روحاً ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ والثلاثة قول النصارى أب وابن وروح القدس.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/200.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي: (1)
1. ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾، وإنما ألقاها على لسان روحه إليها، وهو التبشير بعيسى صلى الله عليه؛ ومعنى الكلمة فهي: الحكم من الله سبحانه لها بعيسى، وأن يجعله في بطنها من غير ذكر؛ فسماه كلمته؛ إذ كان بقضائه وقدرته، وإيجاده وفعله.
2. فعيسى صلى الله عليه: كلمته، وكلمته فهي: فعله وفطرته، وقضاؤه وجبله، ومجعوله وأمره، الذي ألقاه في مريم وخلقه، وأوجده في الرحم من غير نطفة بذكر، ولا مداناة من ذكر؛ فتعالى الله العلي الأعلى، الفعال لما يشاء.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/282.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾:
أ. الغلو في الدِّين: هو المجاوزة عن الحد الذي حد لهم، وكذلك الاعتداء: هو المجاوزة عن الحد الذي أحد لهم، في الفعل وفي النطق جميعا.
ب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تفسير الغلو ما ذكر: ﴿وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾؛ فالقول على الله بما لا يليق به غلو.
ج. وقيل: لا تغلوا: أي لا تَعَمَّقُوا في دينكم، ولا تَشَدَّدُوا؛ فيحملكم ذلك على الافتراء على الله، والقول بما لا يحل ولا يليق.
د. وعن ابن عباس: ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ يقول: لا تقولوا لله تعالى ولد ولا صاحبة.
هـ. وفي حرف حفصة: (ولا تقولوا: الله ثالث ثلاثة؛ إنما هو إله واحد﴾
2. ﴿وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾، أي: الصدق.
3. الخطاب بقوله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ في حقيقة المعنى ـ للخلق كلهم؛ لأن على كل الخلائق ألا يغلوا في دينهم، وهو في الظاهر في أهل الكتاب، والمقصود منه النصارى دون غيرهم من أهل الكتاب؛ حتى يعلم أن ليس في مخرج عموم اللفظ دليل عموم المراد، ولا في مخرج خصوصه دليل خصوصه؛ ولكن قد يراد بعموم اللفظ: الخصوص، وبخصوص اللفظ: العموم؛ فيبطل به قول من يعتقد بعموم اللفظ عموم المراد، وبخصوص اللفظ خصوصه، ثم افترقت النصارى على ثلاث فرق في عيسى صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد اتفاقهم على أنه ابن مريم: قال بعضهم: هو إله، ومنهم من يقول: هو ابن الإله، ومنهم من يقول: هو ثالث ثلاثة: الرب، والمسيح، وأمه؛ فأكذبهم الله عز وجل في قولهم، وأخبر أنه رسول الله ابن مريم، ولو كان هو إلهًا لكانت أمه أحق أن تكون إلهًا؛ لأن أمه كانت قبل عيسى عليه السلام ومن كان قبلُ، أحق بذلك ممن يكون من بعد، ولأن من اتخذ الولد إنما يتخذ من جوهره، لا يتخذ من غير جوهره؛ فلو كان ممن يجوز أن يتخذ ولدًا ـ لم يتخذ من جوهر البشر؛ كقوله تعالى: ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا﴾
4. ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ قَالَ بَعْضُهُمْ: كلمته: أن قال له: كن؛ فكان، لكن الخلائق كلهم في هذا كعيسى؛ لأن كل الخلائق إنما كانوا بقوله عز وجل: كن؛ فكان؛ فليس لعيسى عليه السلام في ذلك خصوصية، وأصله أنه سمي كلمة الله لما ألقاها إلى مريم، ولا ندري أية كلمة كانت؛ وإنما خلقه بكلمته التي ألقاها إليها؛ فسمي بذلك، كما خلق آدم من تراب؛ فنسب إليه، وحواء خلقها من ضلع آدم؛ فنسبها إليه، وسائر الخلائق خلقهم من النطفة؛ فنسبهم إليها؛ فعلى ذلك عيسى، لما خلقه بكلمة ألقاها إليها ـ نسب إليه، لكن في آدم وغيره من الخلائق ذكر فيهم التغيير من حال إلى حال، ولم يذكر ذلك في عيسى؛ فيحتمل أن يكون له الخصوصية بذلك.
5. ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾:
أ. كقوله تعالى: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا﴾ فسمي لذلك روحًا؛ لما به كان يحيي الموتى؛ ألا ترى أنه سمى القرآن روحًا، وهو قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾، سماه روحًا؛ لما به يحيي القلوب، كما يحيي الأبدان بالأرواح.
ب. وقيل: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ أي: أحياه الله وجعله روحًا.
ج. وقيل: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ أي: رسولا منه.
د. وقيل: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ أي: أمر منه.
6. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾ لأن الرسل كلهم لم يدعوكم إلى الذي أنتم عليه أنه ثالث ثلاثة؛ إنما دعاكم الرسل أنه الله إله واحد لا شريك له ولا ولد.
7. ﴿انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾، بما ذكرنا بالآية الأولى.
8. ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾ بالرفع، أي: لا تقولوا: هو ثلاثة.
9. ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ نزه نفسه عن عظيم ما قالوا فيه بأن له ولدًا، ثم أخبر أن له ما في السماوات وما في الأرض؛ وإنَّمَا يُتَّخَذُ الولد لإحدى خصال ثلاث: إما لحاجة تمسه؛ فيدفعها به عن نفسه، أو لوحشة تصيبه؛ فيستأنس به، أو لخوف غلبة العدو؛ فيستنصر به ويقهره، أو لما يخاف الهلاك؛ فيتخذ الولد ليرث ملكه، فإذا كان الله سبحانه يتعالى عن أن تمسه حاجة أو تصيبه وحشة، أو لملكه زوال ـ يتعالى عن أن يتخذ ولدًا وهو عبده.
10. ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾:
أ. قيل: حافظًا، وقيل: شهيدًا.
ب. وقيل: الوكيل: هو القائم في الأمور كلها.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٢٥.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾: أي إرادته التي يقدر في خلق المسيح، فسمى الإرادة التي هي خلقه لعيسى كلمة، ولعمري إن كلمه نافذة ومنه تامة، والكلمة عبارة عن تكوينه بلا كلام، ولكنه ضرب الكاف والنون مثل لنفاذ الإرادة، التي هي التكوين والفطرة.
2. معنى قوله: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾، أي وروح من خلقه وفضله، وكل خير فمن الله وتدبيره، وحكمته ورأفته وحسن تقديره، والروح هو الحياة والبركة والنجاة والسلامة والنعمة والخيرات، وكذلك سيدنا المسيح صلوات الله عليه روح من أرواح الهدى، وحياة ونعمة ونجاة من الردى.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/254.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه خطاب للنصارى خاصة.
ب. الثاني: أنه خطاب لليهود والنصارى، لأن الفريقين غلوا في المسيح، فقالت النصارى: هو الرب، وقالت اليهود: هو لغير رشدة، وهذا قول الحسن، والغلو: مجاوزة الحد، ومنه غلاء السعر، إذا جاوز الحد في الزيادة، وغلا في الدين، إذا فرط في مجاوزة الحق.
2. ﴿وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ يعني في غلوهم في المسيح، ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ﴾ رداً على مَنْ جعله إلهاً، أو لغير رشدة [أو] ساحراً.
3. ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ في كلمته ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: لأن الله كَلَّمَه حين قال له كن، وهذا قول الحسن، وقتادة.
ب. الثاني: لأنه بشارة الله التي بشر بها، فصار بذلك كلمة الله.
ج. الثالث: لأنه يهتدى به كما يُهْتَدَى بكلام الله.
4. في قوله تعالى: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: سُمِّي بذلك لأنه رُوح من الأرواح، وأضافه الله إلى نفسه تشريفاً له.
ب. الثاني: أنه سُمِّي روحاً؛ لأنه يحيا به الناس كما يُحْيَون بالأرواح.
ج. الثالث: أنه سُمِّي بذلك لنفخ جبريل عليه السلام، لأنه كان ينفخ فيه الروح بإذن الله، والنفخ يُسَمَّى في اللغة روحاً، فكان عن النفخ فسمي به.
5. ﴿فَئآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُواْ: ثَلَاثَةٌ، انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ﴾ في الثلاثة قولان:
أ. أحدهما: هو قول النصارى أب وابن وروح القدس، وهذا قول بعض البصريين.
ب. الثاني: هو قول من قال آلهتنا ثلاثة، وهو قول الزجاج.
__________
(1) تفسير الماوردي: ١/٥٤٦.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا خطاب من الله تعالى لأهل الكتاب الذي هو الإنجيل وهم النصارى نهاهم الله تعالى أن يغلوا في دينهم بأن يجاوزوا الحق فيه، ويفرطوا في دينهم، ولا يقولوا في عيسى غير الحق، فإن قولهم في عيسى إنه ابن الله قول بغير الحق، لأنه تعالى لم يتخذ ولدا فيكون عيسى أو غيره من خلقه ابنا له، ونهاهم أن يقولوا على الله، إلا الحق، وهو الإقرار بتوحيده، وأنه لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد.
2. أصل الغلو في كل شيء تجاوز حده يقال: غلا فلان في الدين يغلو غلوا، وغلا بالجارية عظمها ولحمها: إذا انسرعت الشباب، وتجاوزت لذاتها، يغلو بها غلواً وغلاء قال الحارث بن خالد المخزومي:
çخمصانة فلق موشحها...رود الشباب غلا بها عظمé
3. ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ فأصل المسيح الممسوح ـ نقل من مفعول إلى فعيل، سماه الله بذلك لتطهيره إياه من الذنوب، وقيل مسح من الذنوب والأدناس التي تكون في الآدميين كما يمسح الشيء من الأذى الذي يكون فيه، وهو قول مجاهد، وقال أبو عبيدة: هذه الكلمة عبرانية أو سريانية مشيحاً، فعربت فقيل المسيح، كما عرب سائر أسماء الأنبياء في القرآن، نحو إسماعيل وإسحاق وموسى وعيسى، وقال قوم ليس هذا مثل ذلك، لأن إسماعيل وإسحاق وما أشبههما أسماء، لا صفات، والمسيح صفة ولا يجوز ان يخاطب العرب وغيرها من أجناس الخلق في صفة شيء إلا بما يفهم، فعلم بذلك انها كلمة عربية وقال إبراهيم: المسيح المسيح الصديق وأما المسيح الدجال فانه ايضاً بمعنى الممسوح العين صرف من مفعول إلى فعيل فمعين المسيح في عيسى عليه السلام الممسوح البدن من الأدناس والآثام، ومعنى المسيح في الدجال الممسوح العين اليمنى أو اليسر كما يروى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك.
4. ﴿رَسُولُ اللهِ﴾ اخبار منه تعالى ان المسيح أرسله الله وجعله نبياً، وقوله: ﴿كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ﴾ فانه يعني بالكلمة الرسالة التي امر الله ملائكته أن يأتي بها بشارة من الله تعالى لها التي ذكرت في قوله: ﴿قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ يعني برسالة منه وبشارة من عنده وقال قتادة والحسن: هو قوله: (كن فكان) واختار الطبري الاول وقال الجبائي: ذلك مجاز، وإنما أراد بالكلمة انهم يهتدون بعيسى، كما يهتدون بكلامه، وكذلك يحيون به في دينهم كما يحيى الحي بالروح، فلذلك سماه روحا.
5. ﴿أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ فمعناه أعلمها بها وأخبرها كما يقال ألقيت اليك كلمة حسنة بمعنى أخبرتك بها، وكلمتك بها، وقال الجبائي: معنى ألقاها إلى مريم خلفه في رحمها.
6. ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ اختلفوا فيه على ستة أقوال:
أ. فقال قوم: معناه ونفحة منه وسماه روحا، لأنه حدث عن نفحة جبرائيل في درع مريم بأمر الله له بذلك، ونسب إلى الله، لأنه كان بأمره وإنما سمي النفخ روحا، لأنها ريح تخرج من الروح، واستشهدوا على ذلك قول ذي الرمة ـ واسمه غيلان ـ في صفة نار نفثها.
çفلما بدت كفنها وهي طفلة...بطلساء لم تكمل ذراعا ولا شبراً
وقلت له: ارفعها اليك واحيها...بروحك واقتها لها قيتة قدراً
وظاهر لها من يابس الشخت، واستعن...عليها الصبا واجعل يديك لها ستراًé
معنى احيها بروحك أي بنفخك.
ب. وقال بعضهم: معناه انه كان إنساناً بإحياء الله إياه بتكوينه بلا واسطة من جماع، ونطفة على مجرى العادة.
ج. وقال قوم: قوله: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ معناه ورحمة منه، كما قال في موضع: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ ومعناه ورحمة منه، قال فجعل الله عيسى رحمة على من اتبعه، وآمن به وصدقه، لأنه هداهم إلى سبيل الرشاد.
د. وقال آخرون: معنى ذلك وروح من الله خلقها فصورها، ثم أرسلها إلى مريم، فدخلت في فيها فصيرها الله تعالى روح عيسى ذهب إليه أبو العالية عن أبي ابن كعب.
هـ. وقال بعضهم: ان معنى الروح ـ ها هنا ـ القوة التي كان بها يحيي الموتى قال الراجز: إذا عرج الليل بروح الشمس.
و. وقال قوم: معنى الروح ها هنا جبرائيل، قالوا: والروح معطوفة به على ما في قوله من ذكر الله تعالى، والمعنى إن إلقاء الكلمة إلى مريم كان من الله تعالى، ثم من جبرائيل.
7. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ أمرٌ من الله إياهم بتصديق الله تعالى، والإقرار بوحدانية، وتصديق رسله فيما جاءوا به من عند الله، وفيما أخبرهم به أن الله لا شريك له، ولا صاحبة ولا ولدا.
8. ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا﴾ نهي لهم عن أن يقولوا الأرباب ثلاثة، وإنما رفع ثلاثة بمحذوف دل عليه ظاهر الكلام، وتقديره ولا تقولوا: هم ثلاثة، وإنما جاز ذلك، لأن القول حكاية ومثل ذلك قوله: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ وكذلك كلما ورد من مرفوع بعد القول لا رافع معه ففيه إضمار اسم رافع لذلك الاسم، ثم قال متوعداً لهم على عظيم قولهم الذي قالوه في الله: انتهوا أيها القائلون الله ثالث ثلاثة عما تقولون من الزوج والشرك بالله، والانتهاء عن ذلك خير لكم من قولكم لما لكم عند الله من العقاب العاجل لكم على قولكم ذلك ان أقمتم عليه، ولم ترجعوا إلى الحق.
9. ووجه النصب في ﴿انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ ما قلناه في قوله آمنوا خيراً لكم، فلا وجه لإعادته.
10. ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ معناه الإخبار من الله تعالى ان الذين يحق له العبادة واحد، لأن من كان له ولد، لا يكون آلهاً وكذلك من كان، له صاحبة لا يجوز ان يكون إلهاً معبوداً، ولكن الله الذي له الالوهية والعبادة إله واحد، ومعبود واحد لا ولد له، ولا والد، ولا صاحبة، ولا شريك.
11. ثم نزه تعالى نفسه وعظمها ورفعها عما قاله المبطلون الكافرون فقال: ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ ولفظة سبحان تفيد التنزيه عما لا يليق به من الولد والصاحبة، لأن من يملك ما في السماوات والأرض وما بينهما وله التصرف فيهما، وفيهم عيسى وامه، وهم عبيده، وهو رازقهم وخالقهم، وهم أهل الحاجة إليه والفاقة، فكيف يكون المسيح ابناً له، وهو إما في الأرض أو في السماء، وهو تعالي يملك جميع ذلك، ويحتمل أن يكون في موضع نصب لأنه يصلح أن يقال عن ابن يكون أو من ان يكون، فإذا حذف حرف الجر كانت في موضع نصب، وكان الكسائي يقول هو في موضع خفض، والاول قول الفراء وغيره.
12. ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ معناه حسب ما في السموات وما في الأرض بالله قيما ومدبراً، ورازقاً من الحاجة معه إلى غيره ومعنى كفى بالله اكتفوا بالله.
13. وقد شبهت النصارى قولها: انه ثلاثة أقانيم جوهر واحد بقولنا: سراج واحد، ثم نقول، انه ثلاثة أشياء دهن وقطن ونار وللشمس انها شمس واحدة، ثم نقول انها جسم وضوج وشعاع، قال البلخي، وهذا غلط، لأنا وان قلنا إنه سراج واحد، لا نقول هو شيء واحد، ولا الشمس انها شيء واحد بل نقول هو أشياء على الحقيقة، كما نقول عشرة واحدة، وإنسان واحد، ودار واحدة، وشهر واحد، وهي أشياء متغايرة، فإن قالوا: إن الله شيء واحد حقيقة كما انه إله واحد، فقولهم بعد ذلك انه ثلاثة مناقضة لا يشبه ما قلناه، وان قالوا: هو أشياء، وليس بشيء واحد دخلوا في قول المشبهة، وتركوا القول بالتوحيد، والعجب أنهم يقولون: إن الأب له ابن والابن لا أب له، ثم يزعمون ان الذي له ابن هو الذي لا أب له، ويقولون إن من عبد الإنسان، فقد اخطأ وضلّ، ثم يزعمون أن المسيح إله إنسان، وانهم يعبدون المسيح، وقد تكلمنا على ما نعقل من مذاهبهم في الأقانيم والاتحاد والنبوة في كتاب شرح الجمل بما لا مزيد عليه لا نطول بذكره ها هنا.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/400.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الغلو: مجاوزة الحد، ومنه غلا السعر غلاء: إذا جاوز الحد المعتاد، وغلا فلان في الأمر غلوًّا، إذا جاوز الحق فيه، ومنه سُمِّيَ الغُلاةُ غلاة، وهم من الرافضة، وغلا سهمه غلوًّا: إذا رمى به أقصى الغاية، وتغَإلى الرجلان: تفاعلا من ذلك، وتغَإلى البيت: ارتفع، وغلت الدابة في سيرها، والغلو أن يمر على وجهه جامحًا.
ب. الكلمة: الكلام.
ج. الوكيل: القائم بالأمر والمدبر له بالتفويض إليه، والوكيل: الحفيظ أيضًا.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت الآية في فرق النصارى من النسطورية واليعقوبية والملكية في قولهم بالتثليث، على اختلاف بينهم في ذلك.
ب. وقيل: في اليهود والنصارى لغلو الفريقين في أمر عيسى، عن الحسن.
3. عاد الله تعالى إلى حِجَاجِ أهل الكتاب، فقال سبحانه ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾:
أ. قيل: إنه خطاب لليهود والنصارى، ونهي عن الغلو، عن الحسن؛ لأن النصارى غلت في المسيح وجعلوه إلهًا، وجاوزوا به منزلة الأنبياء، واليهود غلت فيه حتى قالوا: ولد لغير رشده، فالغلو لازم للفريقين.
ب. وقيل: إنه خطاب للنصارى خاصة، عن أبي علي والأصم وأبي مسلم وجماعة من المفسرين.
4. ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ أي: لا تجاوزوا الحق فيه ﴿وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ يعني لا تقولوا: له شريك أو ابن أو شبه، إنما الله إله واحد فقولوا: لا إله إلا الله، ليس كمثله شيء ولما بَيَّنَ التوحيد بين حال المسيح فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ﴾ يعني عيسى ابن مريم، وسمي مسيحًا:
أ. قيل: مسح بالبركة.
ب. وقيل: كان يمسح الأرض مشيًا، وقد مر تفسيره.
5. ﴿عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ يعني هو ابن مريم، لا ابن الله كما تزعمه النصارى، ولا ابن أب كما تزعمه اليهود ﴿رَسُولُ اللهِ﴾ يعني أنه رسول أرسله إلى الخلق، خلاف ما يزعمه الفريقان ﴿وَكَلِمَتُهُ﴾:
أ. قيل: سمي كلمة؛ لأنه كان بكلمة الله، وهي: كن فيكون، عن الحسن وقتادة.
ب. وقيل: كلمة الله بشارة الله التي بشر بها مريم على لسان الملائكة، وهو قوله: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ﴾ وهذا كما يقال: ألقيت إليك كلمة حسنة، يعني: قلت.
ج. وقيل: لأنه يهتدي به الخلق، كما يهتدى بكلمة الله ووحيه، عن أبي علي.
د. وقيل: ألقى إلى مريم كلمة، ثم نقل منها عيسى كما نقل آدم من تراب، عن الأصم.
6. لا يصح أن يقال: إنه من نفس الكلمة خلق عيسى؛ لأن الكلام عرض لا ينقلب جسمًا، إلا أن يحمل على أنه ألقى إليها كلمة البشارة، ثم خلق عيسى كما بشر.
7. ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ فيه أقوال:
أ. الأول: بنفخة منه، يعني نفخه جبريل بأمر الله، والنفخ في اللغة يسمى روحًا، كقول ذي الرمة يصف نارًا:
çفَقُلْتُ لَهُ ارْفَعْهَا إِلَيْكَ وَأَحْيهَا...بروحِكَ واقْتَتهُ لَهَا قِيَتةً قَدْرَاé
يعني: بنفخك، والنفخ إنما يصح في الأجسام، فيجوز أن يخلق منها عيسى.
ب. الثاني: يحيا به الناس في دينهم كما يحيون بالأرواح، عن أبي علي، ومنه يعني خلقه وجعله نبيًّا يقتدي به الخلق ويهتدي.
ج. الثالث: مخلوق منه خلقة، عن السدي، وقيل: إنسان أنشأه، عن أبي عبيدة.
د. الرابع: روح منه، أي: رحمة، وقيل: بوحي منه، وهو أنه أوحى إلى جبريل بالنفخ، وإلى مريم بالبشارة.
هـ. الخامس: وروح من الأرواح، وأراد الروح الذي يحيي به، أي: أحياه بروح خلقه فيه، وأضافه إلى نفسه تشريفا.
و. السادس: الروح جبريل، تقديره: وكلمته ألقاها إلى مريم، وألقاها الروح، وهو جبريل بأن نفخ بأمر الله تعالى.
8. ﴿فَآمِنُوا﴾ أي: صدقوا ﴿بِاللهِ﴾ أي: بأنه واحد لا شريك له ﴿وَرُسُلِهِ﴾ أي: صدقوا الرسل، ولا تغلوا ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾:
أ. قيل: لا تقولوا: الله ثلاثة: أب وابن وروح القدس، عن أبي علي.
ب. وقيل: لا تقولوا: آلهتنا ثلاثة، عن الزجاج، قيل: هذا لا يصح؛ لأن النصارى لا يقولون ذلك.
ج. وقيل: تقديره: لا تقولوا: هم ثلاثة.
9. ﴿انْتَهَوْا﴾ يعني: انتهوا أيها القائلون عما تقولون، أي: امتنعوا عن ذلك ﴿خَيْرًا لَكُمْ﴾ يكن الانتهاء خيرًا لكم ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ يعني: لا إله سواه، وهو المتفرد بالإلهية ﴿سُبْحَانَهُ﴾ تنزيهًا له عن أن يكون له ولد ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾:
أ. خلقًا وملكًا، ومن كان كذلك، فهو متنزه عن الصاحبة والولد، غني عن كل شيء لأن الولد يتخذه ذو النقص والحاجة من الأجسام.
ب. وقيل: ما في السماوات وما في الأرض عبيده وعيسى وأمه منهم، فلم تتخذونهما إلهًا.
10. ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾:
أ. قيل: يكفي تدبيره للسماء والأرض، ولا يحتاج إلى غيره حتى يدعى إلهًا ومدبرًا، كما يقال: كفى لي كذا أي: حسبي بي كذا.
ب. وقيل: كفى به حافظًا لأعمال الخلق حتى يجازيهم عليها، فهو تسلية للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ووعيد لهم.
ج. وقيل: كفى به كافيًا لمن توكل عليه، حثه على التوكل عليه في أمر من خالفه، فإنه يحفظه ويعصمه، عن أبي علي..
11. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن النصارى جاوزت الحد في المسيح.
ب. أن اليهود غلت في أمره، وأن الحق ما عليه أهل الإسلام: أنه عبده خلقه من غير أب، ورسوله إلى الخلق.
ج. أنه تعالى لا يجوز عليه اتخاذ الولد؛ لأنه من صفات الأجسام.
د. أنه لا يجوز وصفه بالولد على جهة التبني؛ لأنه لا يستعمل إلا في المتجانس، فيبطل قول الباطنية في عيسى.
هـ. تدل على التوحيد من وجوه:
• منها: قوله: ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾
• ومنها: قوله سبحانه ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾
• ومنها: قوله: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، ولو كان معه ثان لم يصح ذلك.
• ومنها: قوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾ وفيه تنبيه على أنه لا يجوز أن يكون معه قديم آخر؛ لأنه لا يكون مثله سواء كان اثنان أو ثلاثة، وقد نفى ذلك من كل وجه، فيبطل قول الصفاتية.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/163.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. أصل الغلو: مجاوزة الحد، يقال: غلا في الدين، يغلو، غلوا، أو غلا بالجارية لحمها وعظمها: إذا أسرعت الشباب، وتجاوزت لداتها، تغلو، غلوا، وغلاء، قال الحرث بن خالد المخزومي:
çخمصانة قلق موشحها... رؤد الشباب غلا بها عظمé
وغلا بسهمه غلوا: إذا رمى به أقصى الغاية، وتغالى الرجلان: تفاعلا من ذلك.
ب. أصل المسيح: الممسوح، سماه الله بذلك لتطهيره إياه من الذنوب والأدناس التي تكون في الآدميين، وقيل: إنه سرياني، وأصله مشيحا، فعربت كما عربت أسماء الأنبياء، وقيل: إنه ليس مثل ذلك، فإن إسحاق، ويعقوب، وإسماعيل، وغيرها، أسماء لا صفات، والمسيح صفة، ولا يجوز أن يخاطب الله خلقه في صفة شيء إلا بما يفهم، وأما الدجال فإنه سمي المسيح، لأنه ممسوح العين اليمنى، أو اليسرى، وعيسى ممسوح البدن من الأدناس والآثام، كما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
عاد سبحانه إلى حجاج أهل الكتاب فقال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾:
أ. قيل: إنه خطاب لليهود والنصارى، عن الحسن، قال لأن النصارى غلت في المسيح، فقالت: هو ابن الله، وبعضهم قال هو الله، وبعضهم قال هو ثالث ثلاثة: الأب، والابن، وروح القدس، واليهود غلت فيه حتى قالوا ولد لغير رشدة، فالغلو لازم للفريقين.
ب. وقيل: للنصارى خاصة، عن أبي علي، وأبي مسلم، وجماعة من المفسرين.
2. ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ أي: لا تفرطوا في دينكم ولا تجاوزوا الحق فيه ﴿وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ أي: قولوا إنه، جل جلاله، واحد لا شريك له، ولا صاحبة، ولا ولد، ولا تقولوا في عيسى إنه ابن الله، أو شبهه، فإنه قول بغير الحق.
﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ﴾ وقد ذكرنا معناه، وقيل: سمي بذلك لأنه كان يمسح الأرض مشيا.
3. ﴿عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾: هذا بيان لقوله المسيح يعني: إنه ابن مريم، لا ابن الله، كما يزعمه النصارى، ولا ابن أب، كما تزعمه اليهود، ﴿رَسُولُ اللهِ﴾ أرسله الله إلى الخلق، لا كما زعم الفرقتان المبطلتان ﴿وَكَلِمَتُهُ﴾:
أ. يعني أنه حصل بكلمته التي هي قوله كن، عن الحسن، وقتادة.
ب. وقيل: معناه أنه يهتدي به الخلق، كما اهتدوا بكلام الله ووحيه، عن أبي علي الجبائي.
ج. وقيل: معناه بشارة الله التي بشر بها مريم على لسان الملائكة، كما قال: ﴿وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة﴾ وهو المراد بقوله: ﴿أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾
4. ﴿أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾:
أ. كما يقال ألقيت إليك كلمة حسنة أي: قلت.
ب. وقيل: معنى ﴿أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾: خلقها في رحمها، عن الجبائي.
5. ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ فيه أقوال:
أ. أحدها: إنه إنما سماه روحا، لأنه حدث عن نفخة جبرائيل في درع مريم، بأمر الله تعالى، وإنما نسبه إليه، لأنه كان بأمره، وقيل: إنما أضافه إلى نفسه تفخيما لشأنه، كما قال الصوم لي وأنا أجزي به، وقد يسمى النفخ روحا، واستشهد على ذلك ببيت ذي الرمة، يصف نارا:
çفقلت له ارفعها إليك وأحيها... بروحك، واقتته لها قيتة قدرا
وظاهر لها من يابس الشخت، واستعن... عليه الصبا، واجعل يديك لها ستراé
ومعنى أحيها بروحك أي: بنفخك، ويقال أقتت النار: إذا أطعمتها حطبا.
ب. الثاني: إن المراد به: يحيي به الناس في دينهم، كما يحيون بالأرواح، عن الجبائي، فيكون المعنى أنه جعله نبيا يقتدى به، ويستن بسنته، ويهتدى بهداه.
ج. الثالث: إن معناه إنسان أحياه الله بتكوينه بلا واسطة من جماع، أو نطفة كما جرت العادة بذلك، عن أبي عبيدة.
د. الرابع: إن معناه ورحمة منه، كما قال في موضع آخر ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ أي: برحمة منه، فجعل الله عيسى رحمة على من آمن به واتبعه، لأنه هداهم إلى سبيل الرشاد.
هـ. الخامس: إن معناه روح من الله خلقها فصورها، ثم أرسلها إلى مريم، فدخلت في فيها، فصيرها الله تعالى عيسى، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب.
و. السادس: إن معنى الروح ها هنا جبرائيل عليه السلام، فيكون عطفا على ما في ألقاها من ضمير ذكر الله، وتقديره: ألقاها الله إلى مريم وروح منه أي: من الله أي جبرائيل ألقاها أيضا إليها.
6. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ أمرهم الله بتصديقه، والاقرار بوحدانيته، وتصديق رسله، فيما جاؤوا به من عنده، وفيما أخبروهم به من أن الله سبحانه، لا شريك له، ولا صاحبة، ولا ولد.
7. ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾:
أ. هذا خطاب للنصارى أي: لا تقولوا إلهنا ثلاثة، عن الزجاج.
ب. وقيل: هذا لا يصح لان النصارى لم يقولوا بثلاثة آلهة، ولكنهم يقولون إله واحد، ثلاثة أقانيم: أب، وابن، وروح القدس، ومعناه: لا تقولوا الله ثلاثة: أب، وابن، وروح القدس، وقد شبهوا قولهم: جوهر واحد ثلاثة أقانيم، بقولنا: سراج واحد، ثم تقول ثلاثة أشياء: دهن، وقطن، ونار، وشمس واحدة: وإنما هي جسم، وضوء، وشعاع، وهذا غلط بعيد، لأنا لا نعني بقولنا سراج واحد: إنه شيء واحد، بل هو أشياء على الحقيقة، وكذلك الشمس كما تقول عشرة واحدة، وإنسان واحد، ودار واحدة، وإنما هي أشياء متغايرة، فإن قالوا: إن الله شيء واحد، وإله واحد حقيقة، فقولهم ثلاثة متناقضة، وإن قالوا: إنه في الحقيقة أشياء مثل ما ذكرناه في الإنسان، والسراج، وغيرهما، فقد تركوا القول بالتوحيد، والتحقوا بالمشبهة، وإلا فلا واسطة بين الأمرين.
8. ﴿انْتَهَوْا﴾ عن هذه المقالة الشنيعة أي: امتنعوا عنها ﴿خَيْرًا لَكُمْ﴾ أي: ائتوا بالانتهاء عن قولكم، خيرا لكم مما تقولون ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ أي: ليس كما تقولون إنه ثالث ثلاثة، لان من كان له ولد، أو صاحبة، لا يجوز أن يكون إلها معبودا، ولكن الله الذي له الإلهية، وتحق له العبادة، إله واحد، لا ولد له، ولا شبه له، ولا صاحبة له، ولا شريك له.
9. ثم نزه سبحانه نفسه عما يقوله المبطلون فقال: ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ ولفظة ﴿سُبْحَانَهُ﴾ تفيد التنزيه عما لا يليق به، أي: هو منزه عن أن يكون له ولد.
10. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ملكا، وملكا، وخلقا، وهو يملكها، وله التصرف فيها، وفيما بينهما، ومن جملة ذلك عيسى وأمه، فكيف يكون المملوك والمخلوق ابنا للمالك، والخالق؟
11. ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾:
أ. أي: حسب ما في السماوات، وما في الأرض، بالله قيما، ومدبرا، ورازقا.
ب. وقيل: معناه وكفى بالله حافظا لاعمال العباد، حتى يجازيهم عليها، فهو تسلية للرسول، ووعيد للقائلين فيه سبحانه، بما لا يليق.
12. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿ثَلَاثَةٌ﴾ خبر مبتدأ محذوف، دل عليه ظاهر الكلام، وتقديره لا تقولوا هم ثلاثة، وكذلك كل ما ورد من مرفوع بعد القول لا رافع معه، ففيه إضمار اسم رافع لذلك الاسم، وإنما جاز ذلك، لان القول حكاية، والحكاية تكون لكلام تام.
ب. ﴿انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾: قد ذكرنا وجه النصب في ﴿خَيْرًا﴾ فيما قيل، وأن يكون في موضع نصب أي: سبحانه من أن يكون، فلما حذف حرف الجر، وصل إليه الفعل، فنصبه، وقيل: في موضع جر، وقد مر نظائره.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/221.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾:
أ. قال مقاتل: نزلت في نصارى نجران: السّيّد والعاقب ومن معهما، والجمهور على أنّ المراد بهذه الآية: النّصارى.
ب. وقال الحسن: نزلت في اليهود والنّصارى.
2. الغلو: الإفراط ومجاوزة الحدّ، ومنه غلا السّعر، وقال الزجّاج: الغلو: مجاوزة القدر في الظّلم، وغلوّ النّصارى في عيسى: قول بعضهم: هو الله، وقول بعضهم: هو ابن الله، وقول بعضهم: هو ثالث ثلاثة، وعلى قول الحسن غلوّ اليهود فيه قولهم: إنه لغير رشدة، وقال بعض العلماء: لا تغلوا في دينكم بالزّيادة في التّشدّد فيه.
3. ﴿وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ أي: لا تقولوا: إنّ الله له شريك أو ابن أو زوجة.
4. وقد ذكرنا معنى (المسيح) والكلمة في (آل عمران)، وفي معنى ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ سبعة أقوال:
أ. أحدها: أنه روح من أرواح الأبدان، قال أبيّ بن كعب: لمّا أخذ الله الميثاق على بني آدم كان عيسى روحا من تلك الأرواح، فأرسله إلى مريم، فحملت به.
ب. الثاني: أنّ الرّوح النّفخ، فسمّي روحا، لأنّه حدث عن نفخة جبريل في درع مريم، ومنه قول ذي الرّمّة:
çوقلت له ارفعها إليك وأحيها...بروحك واقتته لها قيتة قدراé
هذا قول أبي روق.
ج. الثالث: أن معنى ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ إنسان حيّ بإحياء الله له.
د. الرابع: أن الرّوح: الرّحمة، فمعناه: ورحمة منه، ومثله ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾
هـ. الخامس: أن الرّوح هاهنا جبريل، فالمعنى ألقاها الله إلى مريم، والذي ألقاها روح منه، ذكر هذه الأقوال الثلاثة أبو سليمان الدّمشقيّ.
و. السادس: أنه سمّاه روحا، لأنه يحيا به الناس كما يحيون بالأرواح، ولهذا المعنى سمّي القرآن روحا، ذكره القاضي أبو يعلى.
ز. السابع: أن الرّوح: الوحي أوحى إلى مريم يبشّرها به، وأوحى إلى جبريل بالنّفخ في درعها، وأوحى إلى ذات عيسى أن: كن فكان، ومثله: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ﴾ أي، بالوحي، ذكره الثّعلبيّ.
5. فأمّا قوله: (منه) فإنه إضافة تشريف، كما تقول: بيت الله، والمعنى من أمره، ومما يقاربها قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾
6. ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾ قال الزجّاج: رفعه بإضمار: لا تقولوا آلهتنا ثلاثة ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ أي: ما هو إلّا إله واحد ﴿سُبْحَانَهُ﴾ ومعنى (سبحانه): تبرئته من أن يكون له ولد، قاله أبو سليمان: ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ أي: قيّما على خلقه، مدبّرا لهم.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/502.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما أجاب الله تعالى عن شبهات اليهود تكلم بعد ذلك مع النصارى في هذه الآية، والتقدير: يا أهل الكتاب من النصارى لا تغلوا في دينكم أي لا تفرطوا في تعظيم المسيح، وذلك لأنه تعالى حكى عن اليهود أنهم يبالغون في الطعن في المسيح، وهؤلاء النصارى يبالغون في تعظيمه وكلا طرفي قصدهم ذميم، فلهذا قال للنصارى ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾
2. ﴿وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ يعني لا تصفوا الله بالحلول والاتحاد في بدن الإنسان أو روحه، ونزهوه عن هذه الأحوال، ولما منعهم عن طريق الغلو أرشدهم إلى طريق الحق، وهو أن المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وعبده.
3. ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾، فسرنا (الكلمة) في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ﴾ [آل عمران: 45] والمعنى أنه وجد بكلمة الله وأمره من غير واسطة ولا نطفة كما قال: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59]
4. في قوله تعالى: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ وجوه:
أ. الأول: أنه جرت عادة الناس أنهم إذا وصفوا شيئا بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح، فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب وإنما تكون من نفخة جبريل عليه السلام لا جرم وصف بأنه روح، والمراد من قوله: ﴿مِنْهُ﴾ التشريف والتفضيل كما يقال: هذه نعمة من الله، والمراد كون تلك النعمة كاملة شريفة.
ب. الثاني: أنه كان سببا لحياة الخلق في أديانهم، ومن كان كذلك وصف بأنه روح، قال تعالى في صفة القرآن ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: 52]
ج. الثالث: روح منه أي رحمة منه، قيل في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ [المجادلة: 22] أي برحمة منه، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنما أنا رحمة مهداة) فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من حيث إنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم لا جرم سمي روحا منه.
د. الرابع: أن الروح هو النفخ في كلام العرب، فإن الروح والريح متقاربان، فالروح عبارة عن نفخة جبريل وقوله: ﴿مِنْهُ﴾ يعني أن ذلك النفخ من جبريل كان بأمر الله وإذنه فهو منه، وهذا كقوله: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا﴾ [الأنبياء: 91]
هـ. الخامس: قوله: ﴿رُوحُ﴾ أدخل التنكير في لفظ ﴿رُوحُ﴾ وذلك يفيد التعظيم، فكان المعنى: وروح من الأرواح الشريفة القدسية العالية، وقوله: ﴿مِنْهُ﴾ إضافة لذلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف والتعظيم.
5. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ أي أن عيسى من رسل الله فآمنوا به كإيمانكم بسائر الرسل ولا تجعلوه إلها.
6. ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ المعنى: ولا تقولوا إن الله سبحانه واحد بالجوهر ثلاثة بالأقانيم، ومذهب النصارى مجهول جدا، والذي يتحصل منه أنهم أثبتوا ذاتا موصوفة بصفات ثلاثة، إلا أنهم وإن سموها صفات فهي في الحقيقة ذوات، بدليل أنهم يجوزون عليها الحلول في عيسى وفي مريم بأنفسها، وإلا لما جوزوا عليها أن تحل في الغير وأن تفارق ذلك الغير مرة أخرى، فهم وإن كانوا يسمونها بالصفات إلا أنهم في الحقيقة يثبتون ذوات متعددة قائمة بأنفسها، وذلك محض الكفر، فلهذا المعنى قال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا﴾ فأما إن حملنا الثلاثة على أنهم يثبتون صفات ثلاثة، فهذا لا يمكن إنكاره، وكيف لا نقول ذلك وإنا نقول: هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام العالم الحي القادر المريد، ونفهم من كل واحد من هذه الألفاظ غير ما نفهمه من اللفظ الآخر، ولا معنى لتعدد الصفات إلا ذلك، فلو كان القول بتعدد الصفات كفرا لزم رد جميع القرآن ولزم رد العقل من حيث إنا نعلم بالضرورة أن المفهوم من كونه تعالى عالما غير المفهوم من كونه تعالى قادرا أو حيا.
7. ﴿ثَلَاثَةُ﴾ خبر مبتدأ محذوف، ثم اختلفوا في تعيين ذلك المبتدأ على وجوه:
أ. الأول: ما ذكرناه، أي ولا تقولوا الأقانيم ثلاثة.
ب. الثاني: قال الزجاج: ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة، وذلك لأن القرآن يدل على أن النصارى يقولون: إن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة، والدليل عليه قوله تعالى: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ [المائدة: 116]
ج. الثالث: قال الفرّاء ولا تقولوا هم ثلاثة كقوله: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ﴾ [الكهف: 22] وذلك لأن ذكر عيسى ومريم مع الله تعالى بهذه العبارة يوهم كونهما إلهين، وبالجملة فلا نرى مذهبا في الدنيا أشد ركاكة وبعدا عن العقل من مذهب النصارى.
8. ﴿انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ ذكرنا وجه انتصابه عند قوله: ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾
9. ثم أكد التوحيد بقوله: ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ ثم نزّه نفسه عن الولد بقوله: ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ ودلائل تنزيه الله عن الولد قد ذكرناها في سورة آل عمران وفي سورة مريم على الاستقصاء، وقرأ الحسن: إن يكون، بكسر الهمزة من إن ورفع النون من يكون، أي سبحانه ما يكون له ولد، وعلى هذا التقدير فالكلام جملتان.
10. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ الله سبحانه في كل موضع نزّه نفسه عن الولد ذكر كونه ملكا ومالكا لما في السموات وما في الأرض فقال في مريم: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: 93] والمعنى: من كان مالكا لكل السموات والأرض ولكل ما فيها كان مالكا لعيسى ولمريم لأنهما كانا في السموات وفي الأرض، وما كانا أعظم من غيرهما في الذات والصفات، وإذا كان مالكا لما هو أعظم منهما فبأن يكون مالكا لهما أولى، وإذا كانا مملوكين له فكيف يعقل مع هذا توهم كونهما له ولدا وزوجة.
11. ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ والمعنى أن الله سبحانه كاف في تدبير المخلوقات وفي حفظ المحدثات فلا حاجة معه إلى القول بإثبات إله آخر، وهو إشارة إلى ما يذكره المتكلمون من أنه سبحانه لما كان عالما بجميع المعلومات قادرا على كل المقدورات كان كافيا في الإلهية، ولو فرضنا إلها آخر معه لكان معطلا لا فائدة فيه، وذلك نقص، والناقص لا يكون إلها.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/271.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ نهي عن الغلو، والغلو التجاوز في الحد، ومنه غلا السعر يغلو غلاء، وغلا الرجل في الأمر غلوا، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها، ويعني بذلك فيما ذكره المفسرون غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه ربا، فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر، ولذلك قال مطرف بن عبد الله: الحسنة بين سيئتين، وقال الشاعر:
çوأوف ولا تسوف حقك كله...وصافح فلم يستوف قط كريم
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد...كلا طرفي قصد الأمور ذميمé
وقال آخر:
çعليك بأوساط الأمور فإنها...نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعباé
وفي صحيح البخاري عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى وقولوا عبد الله ورسوله)
2. ﴿وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ أي لا تقولوا إن له شريكا أو أبناء.
3. ثم بين تعالى حال عيسى عليه السلام وصفته فقال: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ﴾، ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ﴾ المسيح رفع بالابتداء، و﴿عِيسَى﴾ بدل منه وكذا ﴿ابْنُ مَرْيَمَ﴾، ويجوز أن يكون خبر الابتداء ويكون المعنى: إنما المسيح ابن مريم، ودل بقوله: ﴿عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ على أن من كان منسوبا بوالدته كيف يكون إلها، وحق الإله أن يكون قديما لا محدثا، ويكون ﴿رَسُولُ اللهِ﴾ خبرا بعد خبر.
4. لم يذكر الله تعالى امرأة وسماها باسمها في كتابه إلا مريم ابنة عمران، فإنه ذكر اسمها في نحو من ثلاثين موضعا لحكمة ذكرها بعض الأشياخ، فإن الملوك والاشراف لا يذكرون حرائرهم في الملإ، ولا يبتذلون أسماءهن، بل يكنون عن الزوجة بالعرس والأهل والعيال ونحو ذلك، فإن ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسماءهن عن الذكر والتصريح بها، فلما قالت النصارى في مريم ما قالت، وفي ابنها صرح الله باسمها، ولم يكن عنها بالأموة والعبودية التي هي صفة لها، وأجرى الكلام على عادة العرب في ذكر إمائها.
5. اعتقاد أن عيسى عليه السلام لا أب له واجب، فإذا تكرر اسمه منسوبا للأم استشعرت القلوب ما يجب عليها اعتقاده من نفي الأب عنه، وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة اليهود لعنهم الله.
6. ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ أي هو مكون بكلمة ﴿كُنَّ﴾ فكان بشرا من غير أب، والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان صادرا عنه، وقيل: (كلمته) بشارة الله تعالى مريم، ورسالته إليها على لسان جبريل عليه السلام، وذلك قوله: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾] آل عمران]، وقيل: (الكلمة) هاهنا بمعنى الآية، قال الله تعالى: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا﴾] التحريم] و﴿مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ﴾] لقمان]، وكان لعيسى أربعة أسماء، المسيح وعيسى وكلمة وروح، وقيل غير هذا مما ليس في القرآن.
7. معنى ﴿أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ أمر بها مريم.
8. ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾، هذا الذي أوقع النصارى في الإضلال، فقالوا: عيسى جزء منه فجهلوا وضلوا، وعنه أجوبة ثمانية:
أ. الأول: قال أبي بن كعب: خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق، ثم ردها إلى صلب آدم وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام، فلما أراد خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم، فكان منه عيسى عليه السلام، فلهذا قال: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾
ب. وقيل: هذه الإضافة للتفضيل وإن كان جميع الأرواح من خلقه، وهذا كقوله: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾] الحج]
ج. وقيل: قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحا، وتضاف إلى الله تعالى فيقال: هذا روح من الله أي من خلقه، كما يقال في النعمة إنها من الله، وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فاستحق هذا الاسم.
د. وقيل: يسمى روحا بسبب نفخة جبريل عليه السلام، ويسمى النفخ روحا، لأنه ريح يخرج من الروح، قال الشاعر ـ هو ذو الرمة ـ:
çفقلت له أرفعها إليك وأحبها...بروحك واقتته لها قيتة قدراé
وقد ورد أن جبريل نفخ في درع مريم فحملت منه بإذن الله، وعلى هذا يكون ﴿رُوحٌ مِنْهُ﴾ معطوفا على المضمر الذي هو اسم الله في ﴿أَلْقَاهَا﴾ التقدير: ألقى الله وجبريل الكلمة إلى مريم.
هـ. وقيل: ﴿رُوحٌ مِنْهُ﴾ أي من خلقه، كما قال: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾] الجاثية] أي من خلقه.
و. وقيل: ﴿رُوحٌ مِنْهُ﴾ أي رحمة منه، فكان عيسى رحمة من الله لمن اتبعه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾] المجادلة] أي برحمة، وقرى: ﴿فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ﴾
ز. وقيل: ﴿رُوحٌ مِنْهُ﴾ وبرهان منه، وكان عيسى برهانا وحجة على قومه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
9. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ أي آمنوا بأن الله إله واحد خالق المسيح ومرسله، وآمنوا برسله ومنهم عيسى فلا تجعلوه إلها، ﴿وَلَا تَقُولُوا﴾ آلهتنا ﴿ثَلَاثَةُ﴾ عن الزجاج، قال ابن عباس: يريد بالتثليث الله تعالى وصاحبته وابنه، وقال الفراء وأبو عبيد: أي لا تقولوا هم ثلاثة، كقوله تعالى: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ﴾ [الكهف]، قال أبو علي: التقدير ولا تقولوا هو ثالث ثلاثة، فحذف المبتدأ والمضاف.
10. النصارى مع فرقهم مجمعون على التثليث ويقولون: إن الله جوهر واحد وله ثلاثة أقانيم، فيجعلون كل أقنوم إلها ويعنون بالأقانيم الوجود والحياة والعلم، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس، فيعنون بالأب الوجود، وبالروح الحياة، وبالابن المسيح، في كلام لهم فيه تخبط بيانه في أصول الدين، ومحصول كلامهم يؤول إلى التمسك بأن عيسى إله بما كان يجريه الله تعالى على يديه من خوارق العادات على حسب دواعيه وإرادته، وقالوا: قد علمنا خروج هذه الأمور عن مقدور البشر، فينبغي أن يكون المقتدر عليها موصوفا بالإلهية، فيقال لهم: لو كان ذلك من مقدوراته وكان مستقلا به كان تخليص نفسه من أعدائه ودفع شرهم عنه من مقدوراته، وليس كذلك، فإن اعترفت النصارى بذلك فقد سقط قولهم ودعواهم أنه كان يفعلها مستقلا به، وإن لم يسلموا ذلك فلا حجة لهم أيضا، لأنهم معارضون بموسى عليه السلام، وما كان يجري على يديه من الأمور العظام، مثل قلب العصا ثعبانا، وفلق البحر واليد البيضاء والمن والسلوى، وغير ذلك، وكذلك ما جرى على يد الأنبياء، فإن أنكروا ذلك فننكر ما يدعونه هم أيضا من ظهوره على يد عيسى عليه السلام، فلا يمكنهم إثبات شي من ذلك لعيسى، فإن طريق إثباته عندنا نصوص القرآن وهم ينكرون القرآن، ويكذبون من أتى به، فلا يمكنهم إثبات ذلك بأخبار التواتر.
11. وقد قيل: إن النصارى كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعد ما رفع عيسى، يصلون إلى القبلة، ويصومون شهر رمضان، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس، قتل جماعة من أصحاب عيسى فقال: إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا وجحدنا وإلى النار مصيرنا، ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار، وإني أحتال فيهم فأضلهم فيدخلون النار، وكان له فرس يقال لها العقاب، فأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب وقال للنصارى: أنا بولس عدوكم قد نوديت من السماء أن ليست لك توبة إلا أن تتنصر، فأدخلوه في الكنيسة بيتا فأقام فيه سنة لا يخرج ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل، فخرج وقال: نوديت من السماء أن الله قد قبل توبتك فصدقوه وأحبوه، ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم نسطورا وأعلمه أن عيسى بن مريم إله، ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال: لم يكن عيسى بإنس فتأنس ولا بجسم فتجسم ولكنه ابن الله، وعلم رجلا يقال له يعقوب ذلك، ثم دعا رجلا يقال له الملك فقال له، إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى، فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا وقال له: أنت خالصتي ولقد رأيت المسيح في النوم ورضي عني، وقال لكل واحد منهم: إني غدا أذبح نفسي وأتقرب بها، فادع الناس إلى نحلتك، ثم دخل المذبح فذبح نفسه، فلما كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته، فتبع كل واحد منهم طائفة، فاقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا، فجميع النصارى من الفرق الثلاث، فهذا كان سبب شركهم فيما يقال، والله أعلم.. وقد رويت هذه القصة في معنى قوله تعالى: ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [المائدة] وسيأتي إن شاء الله تعالى.
12. ﴿انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ ﴿خَيْرًا﴾ منصوب عند سيبويه بإضمار فعل، كأنه قال ائتوا خيرا لكم، لأنه إذا نهاهم عن الشرك فقد أمرهم بإتيان ما هو خير لهم، قال سيبويه: ومما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره ﴿انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ لأنك إذا قلت: ائته فأنت تخرجه من أمر وتدخله في آخر، وأنشد:
çفواعديه سرحتي مالك...أو الربا بينهما أسهلاé
ومذهب أبي عبيدة: انتهوا يكن خيرا لكم، قال محمد بن يزيد: هذا خطأ، لأنه يضمر الشرط وجوابه، وهذا لا يوجد في كلام العرب، ومذهب الفراء أنه نعت لمصدر محذوف، قال علي بن سليمان: هذا خطأ فاحش، لأنه يكون المعنى: انتهوا الانتهاء الذي هو خير لكم.
13. ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ هذا ابتداء وخبر، و﴿وَاحِدٌ﴾ نعت له، ويجوز أن يكون ﴿إِلَهِ﴾ بدلا من اسم الله تعالى و﴿وَاحِدٌ﴾ خبره، التقدير إنما المعبود واحد، ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ أي تنزيها عن أن يكون له ولد، فلما سقط ﴿عَنْ﴾ كان ﴿أَنْ﴾ في محل النصب بنزع الخافض، أي كيف يكون له ولد؟ وولد الرجل مشبه له، ولا شبيه لله تعالى.
14. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ فلا شريك له، وعيسى] ومريم [من جملة ما في السماوات وما في الأرض، وما فيهما مخلوق، فكيف يكون عيسى إلها وهو مخلوق! وإن جاز ولد فليجز أولاد حتى يكون كل من ظهرت عليه معجزة ولدا له، ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ أي لأوليائه.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/21.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ الغلو: هو التجاوز في الحدّ، ومنه: غلا السعر يغلو غلاء، وغلا الرجل في الأمر غلوا، وغلا بالجارية لحمها وعظمها: إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها.
2. المراد بالآية: النهي لهم عن الإفراط تارة والتفريط أخرى، فمن الإفراط: غلو النصارى في عيسى حتى جعلوه ربا، ومن التفريط: غلو اليهود فيه عليه السلام حتى جعلوه لغير رشدة؛ وما أحسن قول الشاعر:
çولا تغل في شيء من الأمر واقتصد...كلا طرفي الأمور ذميمé
3. ﴿وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ وهو ما وصف به نفسه ووصفته به رسله، ولا تقولوا: الباطل، كقول اليهود: عزير ابن الله، وقول النصارى: المسيح ابن الله.
4. ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ﴾ المسيح: مبتدأ، وعيسى: بدل منه، وابن مريم: صفة لعيسى، ورسول الله: الخبر، ويجوز أن يكون عيسى ابن مريم عطف بيان، والجملة تعليل للنهي، وقد تقدّم الكلام على المسيح في آل عمران.
5. ﴿وَكَلِمَتُهُ﴾ عطف على رسول الله، و﴿أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ حال، أي: كوّنه بقوله: كن؛ فكان بشرا من غير أب، وقيل: ﴿وَكَلِمَتُهُ﴾ بشارة الله مريم ورسالته إليها على لسان جبريل بقوله: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ وقيل: الكلمة هاهنا بمعنى الآية، ومنه: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا﴾، وقوله: ﴿مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ﴾
6. ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ أي: أرسل جبريل؛ فنفخ في درع مريم؛ فحملت بإذن الله؛ وهذه الإضافة للتفضيل، وإن كان جميع الأرواح من خلقه تعالى؛ وقيل: قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة: روحا ويضاف إلى الله فيقال: هذا روح من الله، أي: من خلقه، كما يقال في النعمة: إنها من الله، وقيل: ﴿رُوحٌ مِنْهُ﴾ أي: من خلقه، كما قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾، أي من خلقه، وقيل: ﴿رُوحٌ مِنْهُ﴾ أي: رحمة منه، وقيل: ﴿رُوحٌ مِنْهُ﴾ أي: برهان منه، وكان عيسى برهانا وحجة على قومه.
7. ﴿مِنْهُ﴾ متعلق بمحذوف وقع صفة لروح، أي: كائنة منه، وجعلت الروح منه سبحانه وإن كانت بنفخ جبريل: لكونه تعالى الآمر لجبريل بالنفخ.
8. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ أي: بأنه سبحانه إله واحد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وبأن رسله صادقون مبلغون عن الله ما أمرهم بتبليغه، ولا تكذبوهم ولا تغلوا فيهم، فتجعلوا بعضهم آلهة.
9. ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾ ارتفاع ثلاثة: على أنه خبر مبتدأ محذوف، قال الزجاج: أي: لا تقولوا: آلهتنا ثلاثة، وقال الفراء وأبو عبيد: أي: لا تقولوا هم ثلاثة كقوله: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ﴾ وقال أبو علي الفارسي: لا تقولوا هو ثالث ثلاثة، فحذف المبتدأ والمضاف.
10. النصارى مع تفرّق مذاهبهم متفقون على التثليث، ويعنون بالثلاثة: الثلاثة أقانيم فيجعلونه سبحانه جوهرا واحدا وله ثلاثة أقانيم، ويعنون بالأقانيم: أقنوم الوجود، وأقنوم الحياة، وأقنوم العلم، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس، فيعنون بالأب الوجود، وبالروح الحياة، وبالابن المسيح، وقيل: المراد بالآلهة الثلاثة: الله سبحانه وتعالى، ومريم، والمسيح، وقد اختبط النصارى في هذا اختباطا طويلا، ووقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطلق عليها عندهم اسم الإنجيل على اختلاف كثير في عيسى: فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان، وتارة يوصف بأنه ابن الله، وتارة يوصف بأنه ابن الربّ، وهذا تناقض ظاهر وتلاعب بالدين، والحق ما أخبرنا الله به في القرآن، وما خالفه في التوراة أو الإنجيل أو الزبور فهو من تحريف المحرّفين، وتلاعب المتلاعبين.
11. ومن أعجب ما رأيناه أن الأناجيل الأربعة كل واحد منها منسوب إلى واحد من أصحاب عيسى عليه السلام، وحاصل ما فيها جميعا: أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ذكر سيرة عيسى من عند أن بعثه الله إلى أن رفعه إليه، وذكر ما جرى له من المعجزات والمراجعات لليهود ونحوهم، فاختلفت ألفاظهم، واتفقت معانيها، وقد يزيد بعضهم على بعض بحسب ما يقتضيه الحفظ والضبط، وذكر ما قاله عيسى وما قيل له، وليس فيها من كلام الله سبحانه شيء ولا أنزل على عيسى من عنده كتابا، بل كان عيسى عليه السلام يحتج عليهم بما في التوراة ويذكر أنه لم يأت بما يخالفها، وهكذا الزبور فإنه من أوّله إلى آخره من كلام داوود عليه السلام، وكلام الله أصدق، وكتابه أحق، وقد أخبرنا: أن الإنجيل كتابه أنزله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم، وأن الزبور كتابه آتاه داوود وأنزله عليه.
12. ﴿انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ أي: انتهوا عن التثليث، وانتصاب ﴿خَيْرًا﴾ هنا فيه الوجوه الثلاثة التي تقدمت في قوله: ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾
13. ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ لا شريك له، صاحبة ولا ولدا ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ أي: أسبحه تسبيحا عن أن يكون له ولد.
14. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ وما جعلتموه له شريكا أو ولدا هو من جملة ذلك، والمملوك المخلوق لا يكون شريكا ولا ولدا ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ فكلّ الخلق أمورهم إليه ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا.
__________
(1) فتح القدير: 1/623.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ الإنجيل، بدليل: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ﴾، فأهل الكتاب النصارى، أو الأهل: اليهود والنصارى، والكتاب: التوراة والإنجيل، ﴿لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ﴾ لا تتجاوزوا الحدَّ فيه، فغُلُوُّ اليهود هو قولهم: إنَّه ساحر وإنَّه ولد زنى، وقولهم: عزيز ابن الله ونحو ذلك، وغلوُّ النصارى قولهم: إنَّه إله ثالث، أو ابن إله، أو إنَّه الله، ويدلُّ لكون الخطاب للنصارى قوله: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ﴾، ﴿وَلَا تَقُولُواْ عَلَى اللهِ﴾ في عيسى ولا في غيره ﴿إِلَّا الْحَقَّ﴾ نزِّهوه عن الشريك والولد والصاحبة، أي: الأمر الحقَّ، لجواز نصب القول المفرد الذي تضمَّن جملةً فصاعدًا، كـ : (قلت خطبة وقلت قصيدة)، أو إِلَّا القول الحقَّ.
2. ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى اَبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ﴾ لا إله ثالث، ولا ابن الله، ولا الله؛ فـ (رَسُولُ) خبر، ﴿وَكَلِمَتُهُ﴾ لأنَّه وُجد بقوله: (كُنْ)، أي: بتوجُّه الإرادة إلى وجوده، ﴿أَلْقَاهَآ﴾ أوصَلَها ﴿إِلَىٰ مَرْيَمَ﴾ وحصَّلها فيها ﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ أي: وذو روح صادرة من الله بلا واسطة أب، وهي الروح التي خلقها الله جلَّ وعلا لعيسى عليه السلام ، لم ترجع في آدم بعد خروجها منه، فله سبب بعيد فقط، ولكلِّ مولود سواه سببٌ بعيد وهو قول: (كن)، وقريبٌ وهو المنيُّ ونحوه، ولآدم ـ وليس مولودا ـ السببُ البعيدُ فقط، قيل: جعل قول: (كن) كالمنيِّ الذي يُلقى في الرحم، وإنَّه استعارة.
3. ﴿مِنْهُ﴾ بيان لقوله في عيسى: إنَّه روح الله، فإنَّ معناه أنَّ روحه روحٌ لله وملْكٌ له؛ فليس فيه مدح زائد على كون سيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم حبيب الله، من حيث إنَّ روحك أعزُّ عندك من حبيبك؛ لأنَّه ليس في الآية سوى أنَّ روحه من الله، شريفة لم يتوسَّط فيها أب، وأمَّا أن يقولوا: إنَّه جزء من روح الله، أو هي روح الله كلُّها فلا يصحُّ لعاقل؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا لا يتجزَّأ ولا يتَّصف بالروح ولا بالحلول، فلو كان ذلك لبقي الله بلا روح، أو بروح ناقصة، بانتقال بعضها إلى عيسى في زعمهم إن زعموه، وذلك من صفات الخلق ولم يختصَّ عيسى بذلك، ففي إنجيل لوقا: قال ياسوع لتلاميذه: إنَّ أباكم السماويَّ يعطي روح القدس الذين يسألونه، وفي إنجيل متَّى: إنَّ يوحنَّا امتلأ من روح القدس، وهو في بطن أمِّه، وفي التوراة: قال الله تعالى لموسى عليه السلام : اختر سبعين من قومك حتَّى أفيض عليهم من الروح التي عليك، وفيها في حقِّ يوسف عليه السلام : يقول الملَك: هل رأيت مثل هذا الفتى الذي روح الله تعالى حالٌّ فيه؟، وفيها أنَّ روح الله حلَّت على دانيال، وغير ذلك.
4. ناظر بعض النصارى بعض أكابر المسلمين بأنَّ في القرآن ما يشهد بأنَّ عيسى جزء من الله تعالى، وتلا قوله تعالى: ﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ فعارضه المسلم بقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الَارْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ [الجاثية: 13]؛ فيلزم أن تكون الأشياء جزءًا منه، وهو محال باتِّفاق، فأسلم النصرانيُّ، والمسلم هو عليُّ بن الحسين الواقديُّ، والنصرانيُّ: طبيب حاذق، وحضر عند الرشيد، وفرح الرشيد بذلك فرحًا شديدًا، فأعطى عليًّا صلة فاخرة، فإنَّ في ذلك (مِنْ) للاِبتداء لا للتبعيض؛ فذلك الروح كسائر الأرواح، أو هي ريح مِن فِي جبريل نَفَخها في دَرعها، والنصارى لعنهم الله قالوا: مريم زوج الله ولد منها عيسى، فلَاهُوتِـيَّـتُه ـ أي: إلهيَّته ـ من جهة الأب، تعالى الله، ونَاسُوتيَّـتُه ـ أي: إنسانيَّته ـ من جهة الأمِّ، فنفى الله جلَّ وعلا لاهُوتِيَّته وأثبت نَاسُوتيَّتُه، ولا نطفة فيه من أمِّه أيضًا، كمثل آدم خلقه من تراب، وقيل: سمِّي روحًا لأنَّه يحيي الموتى والقلوب، وقيل: (رُوحٌ مِّنْهُ) بشارة من الله تعالى لها على ألسنة الملائكة، كما قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ﴾ [آل عمران: 45]، وقيل: (رُوحٌ) بمعنى رحمة، كما قال تعالى: ﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾ [المجادلة: 22] في تفسير، وقيل: سِرٌّ من أسرار الله تعالى ، وقيل: ذو روح، وقيل: جبريل، فيعطف على الضمير في (ألقى)
5. ﴿فَئامِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ عيسى وغيره عليهم السَّلام إيمانًا خالصًا ﴿وَلَا تَقُولُواْ ثَلَاثَةٌ﴾ أي: الآلهة ثلاثة: الله وعيسى ومريم؛ لقوله تعالى: ﴿ءَآنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اِتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ﴾ [المائدة: 116]، أو لا تقولوا: الله ثلاثة، كما حُكي عن النصارى مذهب ثان: أنَّ الله جلَّ وعلا جوهر مركَّب من ثلاثة أقانيم: الأب والابن وروح القدس، ويريدون بالأب الذات، وبالابن العِلْم، وبروح القدس الحياة، والصحيح عنهم القول الأوَّل، وكلا القولين باطل، والقائلون منهم بألُوهيَّة مريم طائفة انقرضوا؛ ولذلك أنكر نصارى العصر القول به، كما أنَّ القائلين عزيز ابن الله طائفة من اليهود انقرضوا.
6. ﴿اِنتَهُواْ﴾ عن التثليث والتجسيم ﴿خَيْرًا لَّكُم﴾ مَرَّ مثله، ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ بالذَّات لا جزء له، ولا شريك ﴿سُبْحَانَهُ﴾ أُسَبِّحه، أي: أنزِّهه، أو سبِّحوه، أي: نزِّهوه، ﴿أَنْ يَّكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ عن أن يكون له ولد، فإنَّه يكون للأجسام والله غير جسم ولا عرض، والجسم والعرض يستحقَّان الموجِد، فيتسلسل أو يدور، وكلاهما محال.
7. ذكر نصرانيٌّ أنَّ حروف البسملة بالتقديم والتأخير تفيد كلامًا هكذا: (المسيح ابن الله المحرِّر)، وأجابه البصيري صاحب الهمزيَّة بأنَّها بذلك تفيد نقض ذلك، هكذا: (إِنَّمَا الله ربُّ المسيح راحم)، (النحرُ لأمم لها المسيح ربٌّ)، (ما برح الله راحم المسلمين)، (سل ابن مريم أحل له الحرام)؟، (لا المسيح ابن الله المحرِّر)، (لا مرحم للئام أبناء السحرة)، (رُحم حرٌّ مسلم أناب إلى الله)، (لله نبيٌّ مسلم حرَّم الراح)، وهكذا عبارات لا تنحصر، وحساب حروفها سبعمائة وستَّة وثمانون، كحروف قولك: إنَّ مثل عيسى كآدم، ليس لله من شريك، ولا أشرك بربِّي أحدًا، يهدي الله لنوره من يشاء.
8. والولد إِنَّمَا يكون لمن يعادله مثلٌ، ويتطرَّق إليه فناء فيخلفه ولده، وتتوكَّل الأمور له وتقوم عنه، والله حافظ قائم بِكُلِّ ما سواه؛ ولذلك لا تلد الملائكة ولا أهل الجنَّة، وكلُّ موجود سواه ملك له، فلا يتصوَّر أنَّ شيئا ملك له وولد له؛ ولذلك قال الله: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الَارْضِ﴾ لا يحتاج ولا يماثله شيء يكون له ولد، أو الولد يكون مالكًا فلا يكون الله مالكًا لجميعها، ﴿وَكَفيٰ بِاللهِ وَكِيلاً﴾ قائمًا بحفظ الأشياء غير محتاج ولا مستكمِل، وشاهدًا على ذلك لا يحتاج لحافظ يحفظ معه كالولد.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/358.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما أجاب تعالى عن شبهات اليهود وألزمهم الحجة، جرّد الخطاب للنصارى، زجرا لهم عما هم عليه من الكفر والضلال، فقال سبحانه: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ أي: بالإفراط في رفع شأن عيسى عليه السلام وادعاء ألوهيته، فإنه تجاوز فوق المنزلة التي أوتيها، وهي الرسالة، واستفيد حرمة الغلو في الدين وهو مجاوزة الحد، وفي الصحيح عن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله، وقال أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البنانيّ، عن أنس بن مالك أن رجلا قال يا محمد! يا سيدنا وابن سيدنا! وخيرنا وابن خيرنا! فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أيها الناس! عليكم بقولكم ولا يستهوينّكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله! ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل، قال ابن كثير: تفرد به من هذا الوجه.
2. ﴿وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ أي: لا تصفوه بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد، بل نزهوه عن جميع ذلك.
3. ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ صفة له مفيدة لبطلان ما وصفوه به من كونه ابنا لله تعالى: ﴿رَسُولُ اللهِ﴾ خبر المبتدأ أعني المسيح، أي: مقصود على مقام الرسالة لا يتخطاه ﴿وَكَلِمَتُهُ﴾ أي: مكوّن بكلمته وأمره الذي هو (كن) من غير واسطة أب ولا نطفة ﴿أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ أي: أوصلها إليها وحصلها فيها بنفخ جبريل عليه السلام.
4. ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ أي بتخليقه وتكوينه كسائر الأرواح المخلوقة، وإنما أضافه إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم كما يقال: بيت الله، وناقة الله، وقيل: الروح هو نفخ جبريل عليه السلام في جيب درع مريم، فحملت بإذن الله، سمى النفخ روحا لأنه ريح تخرج من الروح، وإنما أضافه إلى نفسه لأنه وجد بأمره تعالى وإذنه.
5. قال أبو السعود: (من) لابتداء الغاية مجازا، لا تبعيضية، كما زعمت النصارى، يحكى أن طبيبا نصرانيّا للرشيد، ناظر عليّ بن حسين الواقديّ المروزيّ ذات يوم، فقال له: إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى، وتلا هذه الآية، فقرأ الواقديّ: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية: 13]، فقال: إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزءا منه، تعالى علوّا كبيرا، فانقطع النصرانيّ وأسلم، وفرح الرشيد فرحا شديدا، ووصل الواقديّ بصلة فاخرة، وقيل: سمي روحا، لإحيائه الموتى بإذن الله، وقيل: لإحيائه القلوب، كما سمى به القرآن لذلك، في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: 52]، وقيل: أريد بالروح الوحي الذي أوحي إلى مريم بالبشارة، وقيل: جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شيء بغاية الطهارة والنظافة، قالوا: إنه روح، فلما كان عيسى عليه السلام متكوّنا من النفخ، لا من النطفة، وصف بالروح، وتقديم كونه عليه السلام رسول الله في الذكر، مع تأخره عن كونه كلمته تعالى وروحا منه، في الوجود ـ لتحقيق الحق من أول الأمر بما هو نص فيه غير محتمل للتأويل، وتعيين مآل ما يحتمله، وسدّ باب التأويل الزائغ.
6. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ﴾ وخصوه بالألوهية ﴿وَرُسُلِهِ﴾ أي: جميعهم وصفوهم بالرسالة ولا تخرجوا بعضهم عن سلكهم بوصفه بالألوهية ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾ أي: الآلهة ثلاثة: الله، والمسيح، ومريم، كما ينبئ عنه قوله تعالى: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ [المائدة: 116]، وقد ذكر السيد عبد الله الهنديّ في مناظرته مع قسيس الهند حكاية عن مناظره؛ أنه حكى أن فرقة من النصارى تسمى (كولى ري دينس) كانت تقول: (الآلهة ثلاثة: الأب والابن ومريم، قال ولعل هذا الأمر كان مكتوبا في نسخهم، لأن القرآن كذبهم) أو التقدير: ولا تقولوا: الله ثلاثة، أي ثلاثة أقانيم، وفي تعاليمهم المدرسية المطبوعة الآن ما نصه: أخص أسرار المسيحية سر الثالوث، وهو إله واحد في ثلاثة أقانيم: الأب والابن وروح القدس، والأب هو الله والابن هو الله وروح القدس هو الله، وليسوا ثلاثة آلهة، بل إله واحد موجود في ثلاثة أقانيم متساوين في الجوهر ومتميزين فيما بينهم بالأقنومية، وذلك لأن لهم جوهرا واحدا ولاهوتا واحدا وذاتا واحدة، وليس أحد هذه الأقانيم الثلاثة أعظم أو أقدم أو أقدر من الآخرين، لكون الثلاثة متساوية في العظمة والأزلية والقدرة وفي كل شيء ما عدا الأقنومية، ولا نقدر أن نفهم جيدا هذه الحقائق لأنها أسرار فائقة العقل والإدراك البشريّ، انتهى كلامهم في تعليمهم المدرسيّ المطبوع في بيروت سنة مسيحية، فانظر إلى هذا التناقض والتمويه، يعترفون بأن الثلاثة آلهة، ثم يناقضون قولهم وينكرون ذلك.
7. نقل الشيخ رحمة الله الهنديّ في كتابه (إظهار الحق) عن صاحب (ميزان الحق) النصرانيّ أنه قال: (نحن لا نقول: إن الله ثلاثة أشخاص أو شخص واحد، بل نقول بثلاثة أقانيم في الوحدة، وبين الأقانيم الثلاثة وثلاثة أشخاص بعد السماء والأرض)، قال رحمة الله: وهذه مغالطة صرفة، لأن الموجود لا يمكن أن يوجد بدون التشخص، فإذا فرض أن الأقانيم موجودون وممتازون بالامتياز الحقيقيّ، كما صرح هو بنفسه في كتبه، فالقول بوجود الأقانيم الثلاثة هو بعينه القول بوجود الأشخاص الثلاثة، على أنه وقع في الصحيفة التاسعة والعشرين من كتاب الصلاة، الرائج في كنيسة انكلترة، المطبوع سنة ما ترجمته: أيها الثلاثة المقدسون والمباركون والعالون منزلة، الذين هم واحد، يعني ثلاثة أشخاص وإلها واحدا، فوقع فيه ثلاثة أشخاص صريحا، وكذلك مملوءة بعبارات مصرحة بأن عيسى ابن الله، وأنه الله، وأن مريم أم الله وزوجه الله، ويسجدون لها ولصورتها السجود المحرّم في كتبهم لغير الله، كما يسجدون للّه، نسأله سبحانه وتعالى الحفظ، ونعوذ به من الخذلان وتسويلات الشيطان.
8. شفى الغليل الأستاذ الجليل الشيخ رحمه الله في (إظهار الحق) فساق، في الباب الرابع منه، إبطال التثليث بالبراهين الدامغة والحجج البالغة، كما رد عليهم من المسلمين وممن أسلم منهم عدد وافر يفوت الحصر، وقد انتشر، والله الحمد، في ذلك مؤلفات نافعة، بل رد عليهم فرق كثيرة منهم فقد جاء في كتاب (الرأي الصواب وفصل الخطاب) للقس جبارة ما صورته: إن المسيحيين الموحدين الذي ظهروا منذ سنة في أميركا ولهم الآن ثلاثمائة كنيسة والدرجة الأولى: في المعارف والمدارس والاجتماعات الأدبية، وكذلك لهم في انكلترا ثلاثمائة كنيسة وتآليف عديدة معتبرة، ويعتبرون القرآن كما يعتبرون الإنجيل والتوراة كتبا إلهية ـ لا يؤمنون بتثليث الآلهة، أي إنهم لا يعتقدون بكون السيد المسيح أو الروح القدس هو إله حقيقيّ، كالله الواجب الوجود، بل يعتقدون أن الله وحده هو الإله الحق، وفيه أيضا ما لفظه: كل الكتب المنزلة تعلّم بالوحدانية وتنفي تثليث الآلهة، أو كون الله ثلاثة، وتعلن صريحا بأوضح العبارة؛ أن الله واحد أحد، وأنه لا إله حقّا سواه، وفي كتاب (سوسنة سليمان) ذكر فرق منهم متعددة صارت إلى إنكار ألوهية المسيح والروح القدس، وهذا الكتاب ساق من فرقهم العتيقة والحديثة واختلافهم ما يقضي بالعجب، مما يؤيد ما قاله الحافظ ابن كثير، من أن لهم آراء مختلفة وأقوالا غير مؤتلفة، ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولا.
9. قال تقيّ الدين بن تيمية في (الرسالة القبرصية): فتفرّق النصارى في التثليث والاتحاد تفرقا وتشتتوا تشتيتا لا يقرّ به عاقل ولم يجئ نقل، إلا كلمات متشابهات في الإنجيل وما قبله من الكتب، قد بينتها كلمات محكمات في الإنجيل وما قبله، كلها تنطق بعبودية المسيح وعبادته لله وحده، ودعائه وتضرعه، ولما كان أصل الدين هو الإيمان بالله ورسله، كان أمر الدين توحيد الله والإقرار برسله، فأرباب التثليث في الوحدانية، والاتحاد في الرسالة، قد دخل في أصل دينهم من الفساد ما هو بيّن بفطرة الله التي فطر الناس عليها، وبكتب الله التي أنزلها.
10. وقد اجتمع لديّ، بحمده تعالى، حين كتابة هذه السطور عشرون مؤلّفا في الرد عليهم، وكلها، ولله الحمد، مطبوعة منتشرة، فلا حاجة للإطالة بالنقل عنها، لسهولة الوقوف عليها.
11. قال الماورديّ في (أعلام النبوّة): فأما النصارى فقد كانوا، قبل أن تنصر قسطنطين الملك، على دين صحيح في توحيد الله تعالى ونبوة عيسى عليه السلام، ثم اختلفوا في عيسى بعد تنصر قسطنطين، وهو أول من تنصر من ملوك الروم، أي لأن الروم كانوا صابئة، ثم قهرهم على التنصر قسطنطين لما ملكهم، فقال أوائل النسطورية: إن عيسى هو الله، وقال أوائل اليعاقبة: إنه ابن الله، وقال أوائل الملكانية: إن الآلهة ثلاثة، أحدهم عيسى، ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر، حين استنكرته النفوس، ودفعته العقول، فقالوا: إن الله تعالى جوهر واحد، هو ثلاثة أقانيم: أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، وأنها واحدة في الجوهرية، وأن أقنوم الأب هو الذات، وأقنوم الابن هو الكلمة، وأقنوم روح القدس هو الحياة، واختلفوا في الأقانيم، فقال بعضهم: هي خواص، وقال بعضهم: هي أشخاص، وقال بعضهم: هي صفات، وقالوا: إن الكلمة اتحدت بعيسى، واختلفوا في الاتحاد، ثم قال: وليس لهذه المذاهب شبهة تقبلها العقول، وفسادها ظاهر في المعقول، وقوله تعالى: ﴿انْتَهَوْا﴾ أي: عن التثليث ﴿خَيْرًا لَكُمْ﴾ أي: انتهاء خيرا، أو اقصدوا خيرا من التثليث وهو التوحيد.
12. ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ أي: بالذات، لا تعدد فيه بوجه ما، وبقوله: ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ تنزيه لمقامه جل شأنه، عما زعموه من نبوّة عيسى، حيث قالوا: إنه الله وابن الله، والذي أوقعهم في هذه المهلكة الوخيمة، والورطة الجسيمة، ما ورد موهما من ألفاظ الإنجيل كالأب والابن، فلم يحملوها على ما أريد منها، وحملوها على ظاهرها، فضلّوا وأضلّوا، وفي (منية الأذكياء) ما نصه: وأما ما ورد في الإنجيل الموجود الآن، من إطلاق ابن الله على عيسى عليه السلام، فهو ـ إن لم يكن مما حرّف، يكون مجازا، بمعنى ابن المحبة، كما يقال: فلان من أبناء الدنيا، ونظير ذلك قول عيسى عليه السلام لليهود، حين ادعوا أن لهم أبا واحدا هو الله: (لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني)، ثم قال لهم، (أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا) ادعت اليهود أن الله تعالى أبوهم، أي أنهم مطيعون له إطاعة الابن للأب، فكذبهم عيسى عليه السلام وجعلهم أبناء الشيطان، أي أنهم مطيعون له، ولا يخفي أن الابن والأب هنا مجازان، وقد كثر إطلاق اسم الأب على الله تعالى، واسم الابن على العبد الصالح، في الكتب السالفة، فهو إما من الخبط في الترجمة، وإما مؤوّل بما ذكرنا، فلا تغفل، لكن قد منع من هذا الإطلاق في الملة المحمدية بالكلية، تحرزا من الإيهام والوقوع في شرك الأوهام، وهذا هو الطريق الرشد.
13. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ تعالى للتنزهه مما نسب إليه، بمعنى أن كل ما فيهما خلقه وملكه، فكيف يكون بعض ملكه جزءا منه؟ إذ البنوّة والملك لا يجتمعان ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ أي: إليه يكل كل الخلق أمورهم، وهو غنيّ عنهم، فإنّي يتصور في حقه اتخاذ الولد، الذي هو شأن العجزة المحتاجين في تدبير أمورهم إلى من يخلفهم ويقوم مقامهم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/478.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآيات نزلت في محاجة النصارى خاصة بعد محاجة اليهود وإقامة الحجة عليهم، وقد غلت اليهود في تحقير عيسى وإهانته والكفر به ففرطوا كل التفريط، فغلت النصارى في تعظيمه وتقديسه فأفرطوا كل الإفراط.
2. لما دحض تعالى شبهات أولئك قفى بدحض شبهات هؤلاء، فقال عز من قائل: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ فتتجاوزوا الحدود التي حدها الله لكم، فإن الزيادة في الدين كالنقص منه، كلاهما مخرج له عن وضعه.
3. ﴿وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ أي الثابت المتحقق في نفسه، إما بنص ديني متواتر، وإما ببرهان عقلي قاطع، وليس لكم على مزاعمكم في المسيح شيء منهما ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ﴾ إلى بني إسرائيل أمرهم بأن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا، وأن يرجعوا عن الإيمان بالجبت والطاغوت، وعن إتباع الهوى وعبادة المال، وإيثار شهوات الأرض على ملكوت السماء، وزهدهم في الحياة الدنيا، وحثهم على حق التقوى وبشرهم بالنبي الخاتم الذي يبين لهم كل شيء ويقيمهم على صراط الاعتدال، ويهديهم إلى الجمع بين حقوق الأرواح وحقوق الأجساد.
4. ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ أي هو تحقيق كلمته التي ألقاها إلى أمه مريم ومصداقها، والمراد كلمة التكوين أو البشارة، فإنه لما أرسل إليها الروح الأمين جبريل عليه السلام بشرها بأنه مأمور بأن يهب لها غلاما زكيا فاستنكرت أن يكون لها ولد وهي عذراء لم تتزوج فقال لها: ﴿كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 47] فكلمة (كن) هي الكلمة الدالة على التكوين بمحض قدرة الله تعالى عند إرادته خلق الشيء وإيجاده وقد خلق المسيح بهذه الكلمة، وفي تفسيرها وجوه أخرى سبقت في التفسير.
5. والإلقاء يستعمل في المعاني والكلام كما يستعمل في المتاع، قال تعالى: ﴿فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾ [النحل: 8687] ومعناه الطرح والنبذ، فلما عبر الله عن التكوين أو البشارة بالكلمة حسن التعبير بقوله: (كلمته ألقاها إلى مريم) أي أوصلها إليها وبلغها إياها.
6. أما قوله: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ ففيه وجهان:
أ. أحدهما: أن معناه أنه مؤيد بروح منه تعالى، ويوضحه قوله فيه ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: 253]، وقال في صفات المؤمنين الذين لا يوادون من حاد الله ورسوله ولو كان من ذوي القربى ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ [المجادلة: 22]
ب. ثانيهما: أن معناه أنه خلق بنفخ من روح الله وهو جبريل عليه السلام، ويوضحه قوله تعالى في أمه ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا﴾ [الأنبياء: 91]، وقال تعالى فيها ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم: 16] كما قال في خلق الإنسان بعد ذكر بدئه من طين ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [الحج: 8 9]، وقال بعضهم إن المراد بالروح هنا النفخ الملك بأمر الله في مريم فإنه استعمل بمعنى النفخ والنفس الذي ينفخ كم قال ذو الرمة في إضرام النار:
çفقلت له ارفعها إليك وأحيها...بروحك واجعلها لها فيئة قدراé
والروح الذي يحيا به الإنسان مأخوذة من اسم الريح (أصل الريح رِوح بالكسر فقلبت الواو ياء لتناسب الكسرة وجمعه أرواح ورياح وأصل هذه رواح بالكسر) كما ان اسم النفس بسكون الفاء من النفس بفتحها.
7. يجوز أن يراد بقوله تعالى: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ الأمران معا أي أنه خلق بنفخ الملك المعبر عنه بالروح القدس في أمه نفخا كان كالتلقيح الذي يحصل باقتران الزوجية، وكان مؤيدا بهذا الروح مدة حياته ولذلك غلبت عليه الروحانية، وظهرت آيات الله فيه زمن الطفولة وزمن الرجولية، ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة: 110] فلما كان كذلك أطلق عليه أنه (روح) كأنه هو عين ذلك الملك الذي جعله الله سبب ولادته، وأيده به مدة حياته، كما يقال: (رجل عدل) على سبيل المبالغة والمراد ذو عدل.
8. قال بعض المفسرين إن المراد بالروح هنا الرحمة كقوله تعالى في المؤمنين ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ [المجادلة: 22] ويقويه قوله تعالى فيه: ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا﴾ [مريم: 20] ويمكن إدخال هذا المعنى في الوجه الأول لأنه من فروعه.
9. والمعنى الجامع أن الروح ما به الحياة، والحياة قسمان حسية ومعنوية، فالأولى: ما به يشعر الإنسان ويدرك ويتفكر ويتذكر، ما به يكون رحيما حكيما فاضلا محبا محبوبا نافعا للخلق، وقد سمى الله الوحي روحا فقال لخاتم رسله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الزخرف: 52]، وقال: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [النحل: 2] وكلا المعنيين متحقق في عيسى عليه السلام على وجه الكمال، فلهذا جوزنا الوجهين في مسألة.
10. وآية الله تعالى في خلق عيسى بكلمته، وجعله بشرا سويا بما نفخ فيه من روحه، كآيته في خلق آدم بكلمته وما نفخ فيه من روحه، إذ كان خلق كل منهما بغير السنة العامة في خلق الناس من ذكر وأنثى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59]
11. علم مما قررناه أن قوله: (منه) متعلق بمحذوف صفة لروح أي وروح كائنة منه، وزعم بعض النصارى أن من للتبعيض وأن عيسى جزءا من الله بمعنى أنه ابنه، ونقل المفسرون أن طبيبا نصرانيا للرشيد ناظر علي بن حسين الوقدي المروزي ذات يوم فقال له إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى، وتلا هذه الآية، فقرأ له الواقدي قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية: 12]، وقال يلزم إذا أن تكون جميع هذه الأشياء أجزاء منه تبارك وتعالى، فانقطع النصراني وأسلم ففرح الرشيد بإسلامه ووصل الواقدي بصلة فاخرة.
12. أما أناجيل النصارى وكتبهم فقد استعملت لفظ الروح في معان مختلفة فيما يتعلق بالمسيح وفي غير ما يتعلق به، فمن ذلك قول متى: [18 أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا: لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس: 1] وفي الفصل الأول من إنجيل لوقا تفصيل لظهور الملك جبريل لها وتبشيره إياها بولد ومحاورتها في ذلك، ومنها أنها سألته عن كيفية ذلك فقال لها (الروح القدس يحل عليك) فروح القدس ليس هو الله، ومن يؤيده الله به لا يكون إلها، ففي هذا الفصل نفسه من إنجيل لوقا أن (اليصابات) أم يحيى امتلأت من الروح القدس وبذلك حملت بيحيى وكانت عاقراً، ـوأن زكريا أباه امتلأ من الروح القدس وفي الفصل الثاني منه ما نصه (25 وكان رجل في أرشليم اسمه سمعان وهذا الرجل كان بارا تقيا ينتظر إسرائيل والروح القدس كان عليه 26 وكان قد أوحي إليه بالروح القدس) وهذا الاستعمال كثير عندهم لا حاجة لإضاعة الوقت بكثرة إيراد الشواهد فيه، وإنما نقول إن روح القدس عندهم وعندنا واحد هو ملك من ملائكة الله الذين لا يحصي عددهم غير تعالى، والقدس الطهر، ويذكر في مقابلِهِ في الأناجيل الروحُ النجس أي الشيطان، فجعلوه إلها كما فعل الوثنيون من قبل.
13. وجملة القول إن هذه الأناجيل تدل على ما ذكرناه آنفا من كون عيسى خلق بواسطة روح القدس، وأن يحيى خلق كذلك، وكان خلقه آية من وجه آخر إذا كان أبوه شيخا كبيرا وأمه عاقرا، ولكن الواسطة والسبب واحد وهو الملك المسمى بروح القدس أيدهم الله به نساء ورجالا عليهم السلام، فمن الحماقة أن يقول القائل مع هذا ان قوله تعالى: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ يفيد أنه جزء من الله تعالى عن التركيب والتجزؤ والحلول والاتحاد بخلقه، بل يقولون إن تلاميذ المسيح أنفسهم كانوا مؤيدين بروح القدس حتى من طرده المسيح ولعنه منهم وسماه شيطانا، وقد أيد به من كان دونهم أيضا.
14. علمنا أن مؤلفي الأناجيل يستعملون كلمة روح القدس استعمالا يدل على أنه ملك من خلق الله، ولكن يوحنا قد انفرد بعبارات يمكن إرجاعها إلى استعمال غيره ويمكن تحريفها للاستدلال بها على شيء آخر كما فعلوا، فهم يقولون إن الروح منبثق من الأب وأنه عين الأب ويستدلون على ذلك بقول يوحنا حكاية عن المسيح [26 ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق على ما وراءه: 15]، وفي قراءة أخرى في ترجمة البرتستانت (يخرج) فمن هذه الكلمة استنبطوا عقيدة وثنية وتنقضها نصوص كثيرة في الأناجيل، وهذه الجملة خبر عن شيء يكون في المستقبل (وفرق بين ينبثق من عنده وبين انبثق منه على هذه أن لا تدل على ما زعموا أيضا) وهي بشارة من المسيح بمن يرسله الله تعالى بعده الذي عبروا عنه هنا بالمعزي، وكلمة المعزي ترجمة للبارقليط وهي كلمة يونانية معناها (محمد أو أحمد) وتقرأ بالاستقامة وبالامالة فلا يحتاج في تحريفها عن المعنى الذي قلناه إلى معنى المعزي الذي قالوه إلا إلى لي اللسان بها ليا قليلا، وقد ترجمت في إنجيل برنابا بمحمد فكانت هذه الترجمة موضع الاستغراب عند كثير من الناس ظانين أن برنابا نقل عن المسيح أنه نطق بكلمة محمد العربية، والظاهر أنه نطق بترجمتها، ومن عادة أهل الكتاب، ترجمة الأعلام والألقاب، على أن (روح الحق) من جملة أسماء نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ترى في أسمائه المسرودة في دلائل الخيرات، وقد بين يوحنا في الفصل السادس عشر من إنجيله تفصيلا عن المسيح عليه السلام لبشارته بالبارقليط، منه أنه خير لهم أن يذهب هو من الدنيا لأنه إذا لم يذهب لا يأتي البارقليط، وأنه متى جاء يبكت العالم على الخطيئة وعلى البر والحساب (الدينونة) وفسر الخطيئة بعدم الإيمان به أي المسيح، ومنه أنه هو المسيح لا يستطيع أن يقول لهم كل شيء لعدم استعدادهم وعدم طاقتهم الاحتمال، قال: (13 وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية 14 ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم) ولم يجيء بعد المسيح أحد من عند الله وبخ الناس وبكتهم على عدم الإيمان بالمسيح وعلى طعن بعضهم فيه وفي أمه، وعلى غلو طائفة فيهما وجعلهما إلهين مع الله، وعلم الناس كل شيء من أمور العقائد والآداب والفضائل والأحكام الشخصية والمدنية، وأخبر بالأمور المستقبلية لم يجيء أحد بكل هذا إلا روح الحق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو منبثق من الله أي مرسل منه لإحياء الناس كما يرسل الله الغيث لإحياء الأرض، وفي الحديث أنه شبه بعتثه بالغيث الذي تأخذ منه كل أرض بحسب استعدادها.
15. فإذا كانت عبارة يوحنا تدل على أن روح الحق الذي بشر به المسيح وأنه يأتي بعده تدل بلفظ الانبثاق على ما قالوا فليجعلوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الأقنوم الثالث أو أقنوما رابعا وينتقلوا من التثليث إلى التربيع، لا، لا أقول لهم أصروا على هذا التأويل والتضليل، بل أقول لهم ما قاله الله عز وجل: ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾ أي فإذا كان الأمر كذلك وهو المعقول، الذي لا يتحمل غيره النقول، فآمنوا بالله إيمانا يليق به وهو أنه واحد أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، تنزه عن صفات الحوادث، ونسبتها إليه واحدة، وهي أنها مخلوقة وهو الخالق، ومملوكة هو المالك، وأن هذه الأرض في مجموع ملكه أقل من حبة رمل بالنسبة إلى اليابس منها، ومن نقطة ماء بالنسبة إلى بحارها وأنهارها، فمن الجهل الفاضح أن يجعل له ند وكفؤ فيها، أو يقال إنه حل أو اتحد بشيء منها، وآمنوا برسله كلهم، كما يليق بهم، وهو أنهم عبيد له خصهم بضرب من العلم والهداية (الوحي) ليعلموا الناس كيف يوحدون ربهم ويعبدونه ويشكرونه، وكيف يزكون أنفسهم، ويصلحون ذات بينهم ولا تقولوا: الألهة ثلاثة الآب والابن وروح القدس، أو: الله ثلاثة أقانيم كل منها عين الآخر، فكل منها إله كامل، ومجموعها إله واحد، فتسفهوا أنفسكم بترك التوحيد الخالص الذي هو ملة إبراهيم وسائر الأنبياء عليهم السلام، والقول بالتثليث الذي هو عقيدة الوثنيين الطغام، ثم تدعوا الجمع بين التثليث الحقيقي والتوحيد الحقيقي وهو تناقض تحيله ولا تقبله الأفهام.
16. ﴿انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ أي انتهوا عن هذا القول الذي ابتدعتموه في دين الأنبياء، تقليدا لآبائكم الأغبياء، يكن هذا الانتهاء خيرا لكم، أو انتهوا عنه وانتحلوا قولا آخر لكم منه، وهو قول جميع النبيين والمرسلين بتوحيده وتنزيهه حتى المسيح الذي سميتموه إلها فإن مما لا تزالون تحفظون عنه قوله في إنجيل يوحنا (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته)
17. ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ ليس له أجزاء ولا أقانيم ولا هو مركب ولا متحد بشيء من المخلوقات ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ أي تنزه وتقدس عن أن يكون له ولد كما تقولون في المسيح إنه ابنه وأنه هو عينه، فإنه تبارك وتعالى ليس له جنس فيكون له منه زوج يقترن بها فتلد له ابنا، والنكتة في اختيار لفظ الولد في الرد عليهم، على لفظ الابن الذي يعبرون به، هي بيان أنهم إذا كانوا يريدون الابن الحقيقي الذي يفهم من اللفظ فلا بد أن يكون ولدا أي مولودا من تلقيح أبيه لأمه وهذا محال على الله تعالى، وإن أرادوا أنه ابن مجازا لا حقيقة كما أطلق في كتب العهد العتيق والعهد الجديد على إسرائيل وداوود وعلى صانعي السلام وغيرهم من الأخيار، فلا يكون له دخل في الألوهية، ولا يعد من باب الخصوصية.
18. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي ليس له ولد خاص مولود منه يصح أن يسمى ابنه حقيقة بل له كل ما في السماوات والأرض والمسيح من جملتها خلق كل ذلك خلقا، وكل ذي عقل منها وإدراك يفتخر بأن يكون له عبدا ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: 93] فرق في هذه بين الملائكة المقربين، والنبيين الصالحين، كما صرحت به الآية التالية لهذا، ولا بين من خلقه ابتداء من غير أب ولا أم كالملائكة وآدم، ومن خلق من أصل واحد كحواء وعيسى، ومن خلق من الزوجين الذكر والأنثى، كلهم بالنسبة إليه تعالى سواء، عبيد له من خلقه محتاجون دائما إلى فضله وهو يتصرف فيهم كما يشاء.
19. ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ أي به الكفاية لمن عرفه وعرف سننه في خلقه إذا وكلوا إليه أمورهم، ولم يحاولوا الخروج عن سننه وشرائعه بسواء اختيارهم.
20. ذكر هنا فصلا مطولا في عقيدة التثليث، هو عبارة عن نقول من كتب مختلفة، ليس له صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، وقد سبق ذكر بعضه في تفسير القاسمي.
__________
(1) تفسير المنار: 6/67.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن انتهى من محاجة اليهود وإقامة الحجة عليهم، وهم قد غلوا في تحقير عيسى وإهانته وكفروا به ـ ذكر هنا محاجة النصارى خاصة ودحض شبهاتهم، وهم قد غلوا في تعظيم عيسى وتقديسه، كما دحض شبهات اليهود فيما سلف.
2. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ أي لا تتجاوزوا الحدود التي حدها الله، فإن الزيادة في الدين كالنقص فيه، ولا تعتقدوا إلا القول الحق الثابت بنصّ دينيّ متواتر، أو برهان عقلىّ قاطع، وليس لكم على ما زعمتم من دعوى الاتحاد والحلول واتخاذ الصاحبة والولد شيء منها.
3. ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ﴾ إلى بنى إسرائيل، وقد أمرهم بأن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا، وزهدهم في الدنيا، وحثهم على التقوى وبشرهم بمحمد خاتم النبيين، وأرشدهم إلى الاعتدال في كل شيء فهداهم إلى الجمع بين حقوق الأبدان وحقوق الأديان، لها: ﴿كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ فكلمة (كن) هي الكلمة الدالة على التكوين بمحض القدرة عند إرادة خلق الشيء وإيجاده.
4. وهو أيضا مؤيد بروح منه كما قال تعالى: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ وكما قال في صفات المؤمنين ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾، وآية الله في خلق عيسى بكلمته وجعله بشرا سويّا بما نفخ فيه من روحه كآيته في خلق آدم بكلمته وما نفخ فيه من روحه، فخلقهما كان بغير السنة العامة في خلق الناس من ذكر وأنثى ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾
5. زعم بعض النصارى أن كلمة (منه) تدل على أن عيسى جزء من الله بمعنى أنه ابنه، فقد نقل بعض المفسرين أن طبيبا نصرانيا للرشيد ناظر على بن حسين الواقدي المروزي ذات يوم فقال له: إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى وتلا الآية، فقرأ له الواقدىّ قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ فلئن صح ما تقول لزم أن تكون جميع هذه الأشياء جزءا منه تبارك وتعالى ـ فأفحم النصراني وأسلم ففرح بذلك الرشيد ووصل الواقدىّ بصلة عظيمة وقد جاء في إنجيل متى (أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا، لما كانت أمه مريم مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس)، وفى إنجيل لوقا تفصيل لظهور الملك جبريل لها وتبشيره إياها بولد ومحاورتهما في ذلك، ومنها أنها سألته عن كيفية ذلك فقال لها (الروح القدس يحلّ عليك)، وفى هذا الفصل أن اليصابات أم يحيى امتلأت من الروح القدس، وبذلك حملت بيحيى، وكانت عاقرا، وأن زكريا أباه امتلأ من الروح القدس.
6. ومن هذا تعلم أن روح القدس عندهم وعندنا واحد وهو ملك من ملائكة الله الذين لا يحصى عددهم، وأن عيسى خلق بوساطته، وكذلك يحيى، وكان خلقه من وجه آخر، إذ كان أبوه شيخا كبيرا وأمه عاقرا ولكن الواسطة والسبب واحد، وهو الملك المسمى بروح القدس، أيدهم الله به رجالا ونساء، فلا يستفاد إذا من قوله: وروح منه، أنه جزء من الله، تعالى الله عن التركيب والتجزؤ والحلول والاتحاد بخلقه.
7. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾ أي فآمنوا بالله إيمانا يليق به، وهو أنه واحد أحد تنزه عن صفات الحوادث، وأن كل ما في الكون مخلوق له، وهو الخالق له، وأن الأرض في مجموع ملكه أقل من حبة رمل بالنسبة إلى اليابس منها، ومن نقطة ماء بالنسبة إلى بحارها وأنهارها، وآمنوا برسله كلهم إيمانا يليق بشأنهم وهو أنهم عبيد له خصهم بضروب من التكريم والتعظيم، وألهمهم بضرب من العلم والهداية بالوحى ليعلموا الناس كيف يوحّدون ربهم ويعبدونه ويشكرونه، ولا تقولوا: الآلهة ثلاثة: الأب والابن وروح القدس، أو الله ثلاثة أقانيم كل منها عين الآخر، وكل منها إله كامل، ومجموعها إله واحد، فإن في هذا تركا للتوحيد الذي هو ملة إبراهيم وسائر الأنبياء، واتباعا لعقيدة الوثنيين، والجمع بين التثليث والتوحيد تناقض تحيله العقول، ولا يقبله أولو الألباب.
8. ﴿انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ أي انتهوا عنه وقولوا قولا آخر خيرا لكم منه، وهو قول جميع النبيين والمرسلين الذين جاءوا بتوحيد الله وتنزيهه، فإن المسيح الذي سميتموه إلها يقول كما في إنجيل يوحنا (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته)
9. ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ بالذات منزه عن التعدد، فليس له أجزاء ولا أقانيم، ولا هو مركب ولا متحد بشيء من المخلوقات.
10. ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ أي تقدس عن أن يكون له ولد كما قلتم في المسيح إنه ابنه، أو إنه هو عينه، فإنه تبارك وتعالى ليس له مماثل فيكون له منه زوج يتزوجها فتلد له ولدا، والتعبير بالولد دون الابن الذي يعبرون به في كلامهم، لبيان أنهم إذا كانوا يريدون الابن الحقيقي الذي يفهم من هذا اللفظ فلا بد أن يكون ولدا أي مولودا من تلقيح أبيه لأمه، وهذا محال على الله تعالى، وإن أرادوا الابن المجازى لا الحقيقي فلا خصوصية لعيسى في ذلك، لأنه قد أطلق في كتب العهد العتيق والعهد الجديد على إسرائيل وداوود وغيرهما من الأخيار.
11. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي إنه ليس له ولد يصح أن يسمى ابنا له حقيقة، بل له كل ما في السموات وما في الأرض خلقا وملكا، والمسيح من جملتها كما قال تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾، ولا فرق في هذا بين الملائكة والنبيين، ولا بين من خلقه ابتداء من غير أب ولا أمّ كالملائكة وآدم، ومن خلقه من أصل واحد كحواء وعيسى، ومن خلق من الزوجين الذكر والأنثى، فكل هؤلاء عبيده يحتاجون إلى فضله وكرمه وجوده، وهو يتصرف فيهم كما يشاء.
12. ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ أي كفى به حافظا ووكيلا إذا وكلوا أمورهم إليه، فهو غنى عن الولد، فإن الولد إنما يحتاج إليه أبوه ليعينه في حياته، ويقوم مقامه بعد وفاته، والله تعالى منزه عن كل ذلك.
13. اعلم أن عقيدة التثليث وثنية نقلها الوثنيون المتنصرون إلى النصرانية واعتمدوا فيها على بعض ألفاظ في الكتب اليهودية جعلوها تكأة لهم على ما أرادوا وحرّفوا فيها وأوّلوا، لتفيد ما ادّعوا، وبذا هدموا آيات التوحيد، وقد فصل ذلك علماء أوروبا وأتوا عليه بشواهد كثيرة من الآثار القديمة والتاريخ:
أ. فقال البحاثة موريس في كتابه (الآثار الهندية القديمة) كان عند أكثر الأمم البائدة تعاليم دينية جاء فيها القول باللاهوت الثلاثي أو الثالوثى، وقال مستر فابر في كتابه (أصل الوثنية) كما نجد عند الهنود ثالوثا مؤلفا من برهما وفشنو وسيفا، نجد عند البوذيين ثالوثا فإنهم يقولون إن (بوذه) إله ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.
ب. وقال مستر دوان في كتابه (خرافات التوراة) وكان قسيسو هيكل منفيس بمصر يعبرون عن الثالوث المقدس في تعليمهم المبتدئين بقولهم إن الأول خلق الثاني وهما خلقا الثالث، وبذلك تم الثالوث المقدس، وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكى ـ هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه؟ فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كل شيء ثم الكلمة ومعهما روح القدس، ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوة الأبدية، فاذهب يا فاني يا صاحب الحياة القصيرة، ثم قال المؤلف: لا ريب أن تسمية الأقنوم الثاني من الثالوث المقدس (كلمة) هو من أصل وثنى مصري دخل في غيره من الديانات المسيحية و(أبولوّ) المدفون في (دهلى) يدعى الكلمة، وفى علم اللاهوت الإسكندرى الذي كان يعلمه (بلاتو) قبل المسيح بسنين عدة (الكلمة هي الإله الثاني) ويدعى أيضا ابن الله البكر وقال هيجين في كتابه (الانكلوسكسون) كان الفرس يسمون (متروسا) الكلمة والوسيط ومخلص الفرس، وقال دوان: كان الفرس يعبدون إلها مثلث الأقانيم مثل الهنود ويسمون الأقانيم (أوزمرد مترات، أهرمن)، فأوزمرد الخلاق ومترات ابن الله المخلص والوسيط، وأهرمن الملك، والمشهور عن مجوس الفرس التثنية دون التثليث فكانوا يقولون بإله هو مصدر النور والخير وإله هو مصدر الظلمة والشر.
ج. وقال صاحب كتاب (ترقى الأفكار الدينية) إن اليونانيين كانوا يقولون إن الإله مثلث الأقانيم وكان قساوستهم إذا شرعوا في تقديم الذبائح يرشّون المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات (إشارة إلى الثالوث) ويرشون المجتمعين حول المذبح ثلاث مرات، ويأخذون البخور من المبخرة بثلاث أصابع، ويعتقدون أن الحكماء قالوا إنه يجب أن تكون جميع الأشياء المقدسة مثلثة، ولهم اعتناء بهذا العدد في جميع شعائرهم الدينية، وقد اقتبست الكنيسة بعد دخول نصرانية قسطنطين فيهم هذه الشعائر كلها، ونسخت بها شريعة المسيح التي هي التوراة، وظلموا المسيح بنسبتها إليه.
14. والخلاصة ـ إن الديانة النصرانية بنيت على أساس التوحيد الخالص، فحوّلها الكهنة إلى ديانة وثنية تقول بتثليث غير معقول أخذوه من تثليث اليونان والرومان المقتبس من تثليث المصريين والبراهمة اقتباسا مشوّها، ونسخوا شريعة سماوية برمّتها، واستبدلوا بها بدعا وتقاليد غريبة عنها، فقد كانت ديانة زهد وتواضع، فجعلوها ديانة طمع وجشع وكبرياء وترف وأثرة واستعباد للبشر، ديانة نسبوها إلى المسيح وليس عندهم نص فيها يدل على التثليث، بل عندهم نصوص من كلامه تدل على التوحيد وإبطال التثليث، ولو لم يكن عندهم من النصوص في هذه العقيدة إلا ما رواه يوحنا في إنجيله لكفى من قوله عليه السلام: (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) فهذا نص واضح في أنه هو الإله وحده وأنه هو رسوله، وقال مرقص في الفصل الثاني عشر من إنجيله: إن أحد الكتبة سأل يسوع عن أول الوصايا فأجابه، أول الوصايا: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد إلخ، فقال له الكاتب (جيدا) يا معلّم بالحق قلت، لأنه واحد وليس آخر سواه، فلما رأى يسوع أنه أجاب بعقل قال له (لست بعيدا عن ملكوت السموات) ومن هذا النص يعلم أن التوحيد الخالص هو العقيدة المعقولة التي تؤخذ على ظاهرها بلا تأويل.
__________
(1) تفسير المراغي 6/29.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا الدرس جولة مع النصارى من أهل الكتاب، كما كان الدرس الماضي جولة مع اليهود منهم وهؤلاء وهؤلاء من أهل الكتاب، الموجه إليهم هذا الخطاب.
2. في الدرس الماضي أنصف القرآن عيسى بن مريم وأمه الطاهرة من افتراءات اليهود، وأنصف العقيدة الصحيحة في حكاية صلب المسيح عليه السلام وأنصف الحق نفسه من يهود، وأفاعيل يهود، وعنت يهود! وفي هذا الدرس يتجه السياق إلى إنصاف الحق والعقيدة، وإنصاف عيسى بن مريم كذلك من غلو النصارى في شأن المسيح عليه السلام ومن الأساطير الوثنية التي تسربت إلى النصرانية السمحة من شتى الأقوام، وشتى الملل، التي احتكت بها النصرانية؛ سواء في ذلك أساطير الإغريق والرومان، وأساطير قدماء المصريين، وأساطير الهنود!
3. ولقد تولى القرآن الكريم تصحيح عقائد أهل الكتاب التي جاء فوجدها مليئة بالتحريفات مشحونة بالأساطير؛ كما تولى تصحيح عقائد المشركين، المتخلفة من بقايا الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام في الجزيرة العربية ومن ركام فوقها من أساطير البشر وترهات الجاهلية! لا بل جاء الإسلام ليتولى تصحيح العقيدة في الله للبشر أجمعين؛ وينقذها من كل انحراف وكل اختلال، وكل غلو، وكل تفريط، في تفكير البشر أجمعين.. فصحح ـ فيما صحح ـ اختلالات تصور التوحيد في آراء أرسطو في أثينا قبل الميلاد، وأفلوطين في الإسكندرية بعد الميلاد؛ وما بينهما وما تلاهما من شتى التصورات في شتى الفلسفات التي كانت تخبط في التيه، معتمدة على ذبالة العقل البشري، الذي لا بد أن تعينه الرسالة، ليهتدي في هذا التيه!
4. والقضية التي يعرض لها السياق في هذه الآيات، هي قضية (التثليث) وما تتضمنه من أسطورة (بنوة المسيح) لتقرير وحدانية الله سبحانه على الوجه المستقيم الصحيح.
5. لقد جاء الإسلام والعقيدة التي يعتنقها النصارى ـ على اختلاف المذاهب ـ هي عقيدة أن الإله واحد في أقانيم ثلاثة: الأب، والابن، والروح القدس، والمسيح هو (الابن).. ثم تختلف المذاهب بعد ذلك في المسيح، هل هو ذو طبيعة لاهوتية وطبيعة ناسوتية؟ أم هل هو ذو طبيعة واحدة لاهوتية فقط، وهل هو ذو مشيئة واحدة مع اختلاف الطبيعتين؟ وهل هو قديم كالأب أو مخلوق.. إلى آخر ما تفرقت به المذاهب، وقامت عليه الاضطهادات بين الفرق المختلفة.. (وسيأتي شيء من تفصيل هذا الإجمال في مناسبته في سياق سورة المائدة)
6. والثابت من التتبع التاريخي لأطوار العقيدة النصرانية، أن عقيدة التثليث، وكذلك عقيدة بنوة المسيح لله سبحانه (ومثلها عقيدة ألوهية أمه مريم، ودخولها في التثليثات المتعددة الأشكال) كلها لم تصاحب النصرانية الأولى، إنما دخلت إليها على فترات متفاوتة التاريخ، مع الوثنيين الذين دخلوا في النصرانية، وهم لم يبرءوا بعد من التصورات الوثنية والآلهة المتعددة.. والتثليث بالذات يغلب أن يكون مقتبسا من الديانات المصرية القديمة، من تثليث (أوزوريس وإيزيس، وحوريس) والتثليثات المتعددة في هذه الديانة.. وقد ظل النصارى الموحدون يقاومون الاضطهادات التي أنزلها بهم الأباطرة الرومان، والمجامع المقدسة الموالية للدولة (الملوكانيون) إلى ما بعد القرن السادس الميلادي على الرغم من كل ما لاقوه من اضطهاد وتغرب وتشرد بعيدا عن أيدي السلطات الرومانية! وما تزال فكرة (التثليث) تصدم عقول المثقفين من النصارى، فيحاول رجال الكنيسة أن يجعلوها مقبولة لهم بشتى الطرق، ومن بينها الإحالة إلى مجهولات لا ينكشف سرها للبشر إلا يوم ينكشف الحجاب عن كل ما في السماوات وما في الأرض! يقول القس بوطر صاحب رسالة: (الأصول والفروع) أحد شراح العقيدة النصرانية، في هذه القضية: (قد فهمنا ذلك على قدر طاقة عقولنا، ونرجو أن نفهمه فهما أكثر جلاء في المستقبل، حين ينكشف لنا الحجاب عن كل ما في السماوات والأرض)
7. لا نريد هنا أن ندخل في سرد تاريخي للأطوار وللطريقة التي تسللت بها هذه الفكرة إلى النصرانية، وهي إحدى ديانات التوحيد الأساسية، فنكتفي باستعراض الآيات القرآنية الواردة في سياق هذه السورة، لتصحيح هذه الفكرة الدخيلة على ديانة التوحيد! ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾.. فهو الغلو إذن وتجاوز الحد والحق، هو ما يدعو أهل الكتاب هؤلاء إلى أن يقولوا على الله غير الحق؛ فيزعموا له ولدا سبحانه كما يزعمون أن الله الواحد ثلاثة..
8. وقد تطورت عندهم فكرة البنوة، وفكرة التثليث، حسب رقي التفكير وانحطاطه، ولكنهم قد اضطروا أمام الاشمئزاز الفطري من نسبة الولد للّه، والذي تزيده الثقافة العقلية، أن يفسروا البنوة بأنها ليست عن ولادة كولادة البشر، ولكن عن (المحبة) بين الأب والابن، وأن يفسروا الإله الواحد في ثلاثة.. بأنها (صفات) لله سبحانه في (حالات) مختلفة.. وإن كانوا ما يزالون غير قادرين على إدخال هذه التصورات المتناقضة إلى الإدراك البشري، فهم يحيلونها إلى معميات غيبية لا تنكشف إلا بانكشاف حجاب السماوات والأرض.
9. والله سبحانه تعالى عن الشركة؛ وتعالى عن المشابهة، ومقتضى كونه خالقا يستتبع.. بذاته.. أن يكون غير الخلق، وما يملك إدراك أن يتصور إلا هذا التغاير بين الخالق والخلق، والمالك والملك.. وإلى هذا يشير النص القرآني: ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ وإذا كان مولد عيسى عليه السلام من غير أب عجيبا في عرف البشر، خارقا لما ألفوه، فهذا العجب إنما تنشئه مخالفة المألوف، والمألوف للبشر ليس هو كل الموجود، والقوانين الكونية التي يعرفونها ليست هي كل سنة الله، والله يخلق السنة ويجريها، ويصرفها حسب مشيئته، ولا حد لمشيئته.
10. والله سبحانه يقول ـ وقوله الحق ـ في المسيح: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾.. فهو على وجه القصد والتحديد: (رسول الله).. شأنه في هذا شأن بقية الرسل، شأن نوح وإبراهيم وموسى ومحمد، وبقية الرهط الكريم من عباد الله المختارين للرسالة على مدار الزمان..
11. ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ وأقرب تفسير لهذه العبارة، أنه سبحانه، خلق عيسى بالأمر الكوني المباشر، الذي يقول عنه في مواضع شتى من القرآن: إنه ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾.. فلقد ألقى هذه الكلمة إلى مريم فخلق عيسى في بطنها من غير نطفة أب ـ كما هو المألوف في حياة البشر غير آدم ـ والكلمة التي تخلق كل شيء من العدم، لا عجب في أن تخلق عيسى عليه السلام في بطن مريم من النفخة التي يعبر عنها بقوله: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾..
12. وقد نفخ الله في طينة آدم من قبل من روحه، فكان (إنسانا).. كما يقول الله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾.. وكذلك قال في قصة عيسى: ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا﴾.. فالأمر له سابقة.. والروح هنا هو الروح هناك.. ولم يقل أحد من أهل الكتاب ـ وهم يؤمنون بقصة آدم والنفخة فيه من روح الله ـ إن آدم إله، ولا أقنوم من أقانيم الإله، كما قالوا عن عيسى؛ مع تشابه الحال ـ من حيث قضية الروح والنفخة ومن حيث الخلقة كذلك، بل إن آدم خلق من غير أب وأم: وعيسى خلق مع وجود أم.. وكذلك قال الله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾..
13. ويعجب الإنسان ـ وهو يرى وضوح القضية وبساطتها ـ من فعل الهوى ورواسب الوثنية التي عقدت قضية عيسى عليه السلام هذا التعقيد كله، في أذهان أجيال وأجيال وهي ـ كما يصورها القرآن ـ بسيطة بسيطة، وواضحة مكشوفة، إن الذي وهب لآدم.. من غير أبوين.. حياة إنسانية متميزة عن حياة سائر الخلائق بنفخة من روحه، لهو الذي وهب عيسى.. من غير أب.. هذه الحياة الإنسانية كذلك.. وهذا الكلام البسيط الواضح أولى من تلك الأساطير التي لا تنتهي عن ألوهية المسيح، لمجرد أنه جاء من غير أب، وعن ألوهية الأقانيم الثلاثة كذلك!.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾
14. وهذه الدعوة للإيمان بالله ورسله ـ ومن بينهم عيسى بوصفه رسولا، ومحمد بوصفه خاتم النبيين ـ والانتهاء عن تلك الدعاوى والأساطير، تجيء في وقتها المناسب بعد هذا البيان الكاشف والتقرير المريح.. ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾.. تشهد بهذا وحدة الناموس.. ووحدة الخلق، ووحدة الطريقة: كن.. فيكون..
15. ويشهد بذلك العقل البشري ذاته، فالقضية في حدود إدراكه، فالعقل لا يتصور خالقا يشبه مخلوقاته، ولا ثلاثة في واحد، ولا واحدا في ثلاثة: ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾.. والولادة امتداد للفاني ومحاولة للبقاء في صورة النسل.. والله الباقي غني عن الامتداد في صورة الفانين؛ وكل ما في السماوات وما في الأرض ملك له سبحانه على استواء: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾
16. ويكفي البشر أن يرتبطوا كلهم بالله ارتباط العبودية للمعبود؛ وهو يرعاهم أجمعين، ولا حاجة لافتراض قرابة بينهم وبينه عن طريق ابن له منهم! فالصلة قائمة بالرعاية والكلاءة: ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾..
17. وهكذا لا يكتفي القرآن ببيان الحقية وتقريرها في شأن العقيدة، إنما يضيف إليها إراحة شعور الناس من ناحية رعاية الله لهم؛ وقيامه سبحانه عليهم وعلى حوائجهم ومصالحهم؛ ليكلوا إليه أمرهم كله في طمأنينة..
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/815.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الغلوّ: المبالغة في الشيء ومجاوزة الحدّ به، والخروج حدّ الاعتدال فيه.. سواء كان ذلك في الدين، أو في غيره، والاستنكاف: الاستكبار، واستنكف أن يفعل كذا: أي أبى أن يفعله استكبارا.
2. هاتان الآيتان تخاطبان أتباع المسيح من أهل الكتاب، وتكشفان لهم عن موقفهم الخاطئ منه، وفهمهم المغلوط له..
3. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ أي لا تميلوا بدينكم إلى جانب الغلوّ والمبالغة في نظرتكم إلى الأشياء، وتقديركم لها، والمراد بهذا هو موقف أتباع المسيح منه، وتأليههم له، على حين أن اليهود قد غالوا من جانب آخر فنزلوا بالمسيح إلى درجة المشعوذين، والمجدفين على الله، والواقعين تحت لعنته!
4. ﴿وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ أي لا تقولوا في الله، وفيما ينبغي له من صفات الكمال، إلا الحقّ.. وإنه ليس من الحق في شيء أن يلبس الله سبحانه وتعالى هذا الثوب البشرى الذي كان عليه المسيح، وأن يولد من رحم امرأة، ثم يساق قسرا إلى الصلب، ثم يدفن مع الموتى!
5. ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ فهو:
أ. (أولا) رسول الله.. ورسول الله غير الله.
ب. وهو (ثانيا) كلمة الله ألقاها إلى مريم.. وكلمة الله غير الله.. فكل شيء خلقه الله بكلمته (كن) فكان.. كما يقول سبحانه: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: 40]
ج. وهو (ثالثا) روح من عند الله.. ونفخة منه.. كالنفخة التي كان منها آدم، وكالروح التي كان منها الملائكة، ومن كان هذا شأنه فهو ليس إلها.. لأنه من صنعة إله.. إذ هو مضاف إلى الله.. رسول الله.. وكلمة الله.. وروح من الله.
6. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ أي فآمنوا بالله إيمانا قائما على تنزيه الله أن يكون على صورة خلق من خلقه.. وآمنوا برسله، ومنهم عيسى.. فالله هو الله ربّ العالمين، وعيسى هو رسول الله رب العالمين.. فآمنوا بالله، وآمنوا برسل الله..!
7. ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾ هو تخطئة لهذه الكلمة الخاطئة التي يقولها من يرى الله ثلاثة آلهة: الأب، والابن، وروح القدس.. أو هو الأب، والابن، والأمّ..
8. ﴿انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ هو توجيه إلى قولة الحق، وإلى طريق الحق، بعد العدول عن قولة الزور، وطريق الضلال..
9. ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾، هذا هو الوصف الحق لله تعالى: ﴿إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ تنزّه أن يكون له ولد، لأنه سبحانه غنى عن العالمين ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾.. فما حاجته إلى الولد إذا احتاج الناس إلى الأولاد؟
10. ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ إشارة إلى أن التوجه إلى الله وحده، هو المعتصم الذي ينبغي أن يعتصم به الإنسان.. فليس بعد قدرة الله قدرة، ولا مع سلطان الله سلطان.. ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3]
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1017.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾، استئناف ابتدائي بخطاب موجّه إلى النصارى خاصّة، وخوطبوا بعنوان أهل الكتاب تعريضا بأنّهم خالفوا كتابهم، وقرينة أنّهم المراد هي قوله: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ﴾ إلى قوله: ﴿أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ﴾ [النساء: 172] فإنّه بيان للمراد من إجمال قوله: ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ وابتدئت موعظتهم بالنّهي عن الغلوّ لأنّ النّصارى غلوا في تعظيم عيسى ـ فادّعوا له بنوّة الله، وجعلوه ثالث الآلهة.
2. الغلوّ: تجاوز الحدّ المألوف، مشتقّ من غلوة السهم، وهي منتهى اندفاعه، واستعير للزيادة على المطلوب من المعقول، أو المشروع في المعتقدات، والإدراكات، والأفعال، والغلوّ في الدّين أن يظهر المتديّن ما يفوت الحدّ الّذي حدّد له الدين، ونهاهم عن الغلوّ لأنّه أصل لكثير من ضلالهم وتكذيبهم للرسل الصّادقين، وغلوّ أهل الكتاب تجاوزهم الحدّ الذي طلبه دينهم منهم: فاليهود طولبوا باتّباع التّوراة ومحبّة رسولهم، فتجاوزوه إلى بغضة الرسل كعيسى ومحمّد ـ عليهما السّلام ـ، والنّصارى طولبوا باتّباع المسيح فتجاوزوا فيه الحدّ إلى دعوى إلهيّته أو كونه ابن الله، مع الكفر بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
3. ﴿وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ عطف خاصّ على عامّ للاهتمام بالنهي عن الافتراء الشنيع، وفعل القول إذا عدّي بحرف (على) دلّ على أنّ نسبة القائل القول إلى المجرور بـ (على) نسبة كاذبة، قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ [آل عمران: 78]، ومعنى القول على الله هنا: أن يقولوا شيئا يزعمون أنّه من دينهم، فإنّ الدين من شأنه أن يتلقّى من عند الله.
4. ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ جملة مبيّنة للحدّ الذي كان الغلوّ عنده، فإنّه مجمل؛ ومبيّنة للمراد من قول الحقّ، ولكونها تتنزّل من الّتي قبلها منزلة البيان فصلت عنها، وقد أفادت الجملة قصر المسيح على صفات ثلاث: صفة الرسالة، وصفة كونه كلمة الله ألقيت إلى مريم، وصفة كونه روحا من عند الله، فالقصر قصر موصوف على صفة، والقصد من هذا القصر إبطال ما أحدثه غلوّهم في هذه الصّفات غلوّا أخرجها عن كنهها؛ فإنّ هذه الصّفات ثابتة لعيسى، وهم مثبتون لها فلا ينكر عليهم وصف عيسى بها، لكنّهم تجاوزوا الحدّ المحدود لها فجعلوا الرسالة النبوّة، وجعلوا الكلمة اتّحاد حقيقة الإلهيّة بعيسى في بطن مريم فجعلوا عيسى ابنا لله ومريم صاحبة لله سبحانه، وجعلوا معنى الروح على ما به تكوّنت حقيقة المسيح في بطن مريم من نفس الإلهية.
5. القصر إضافي، وهو قصر إفراد، أي عيسى مقصور على صفة الرسالة والكلمة والروح، لا يتجاوز ذلك إلى ما يزاد على تلك الصّفات من كون المسيح ابنا لله واتّحاد الإلهيّة به وكون مريم صاحبة.
6. وصف المسيح بأنّه كلمة الله وصف جاء التّعبير به في الأناجيل؛ ففي صدر إنجيل يوحنا (في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله ـ ثم قال ـ والكلمة صار جسدا وحلّ بيننا)، وقد حكاه القرآن وأثبته فدلّ على أنّه من الكلمات الإنجيلية، فمعنى ذلك أنّه أثر كلمة الله، والكلمة هي التكوين، وهو المعبّر عنه في الاصطلاح بـ (كن)، فإطلاق الكلمة على التكوين مجاز، وليس هو بكلمة، ولكنّه تعلّق القدرة، ووصف عيسى بذلك لأنّه لم يكن لتكوينه التأثير الظاهر المعروف في تكوين الأجنّة، فكان حدوثه بتعلّق القدرة، فيكون في ﴿كَلِمَتُهُ﴾ في الآية مجازان: مجاز حذف، ومجاز استعارة صار حقيقة عرفيّة.
7. ومعنى ﴿أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ أوصلها إلى مريم، وروعي في الضمير تأنيث لفظ الكلمة، وإلّا فإنّ المراد منها عيسى، أو أراد كلمة أمر التكوين، ووصف عيسى بأنّه روح الله وصف وقع في الأناجيل، وقد أقرّه الله هنا، فهو ممّا نزل حقّا.
8. ومعنى كون عيسى روحا من الله أنّ روحه من الأرواح الّتي هي عناصر الحياة، لكنّها نسبت إلى الله لأنّها وصلت إلى مريم بدون تكوّن في نطفة فبهذا امتاز عن بقيّة الأرواح، ووصف بأنّه مبتدأ من جانب الله، وقيل: لأنّ عيسى لمّا غلبت على نفسه الملكية وصف بأنّه روح، كأنّ حظوظ الحيوانية مجرّدة عنه، وقيل: الروح النفخة، والعرب تسمّى النفس روحا والنفخ روحا، قال ذو الرمّة يذكر لرفيقه أن يوقد نارا بحطب:
çفقلت له ارفعها إليك فأحيها...بروحك واقتته لها قيتة قدرا é
(أي بنفخك)، وتلقيب عيسى بالروح طفحت به عبارات الأناجيل، و(من) ابتدائية على التقادير.
9. سؤال وإشكال: ما حكمة وقوع هذين الوصفين هنا على ما فيهما من شبهة ضلّت بها النّصارى، وهلّا وصف المسيح في جملة القصر بمثل ما وصف به محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الكهف: 110] فكان أصرح في بيان العبوديّة، وأنفى للضلال؟ والجواب: الحكمة في ذلك أنّ هذين الوصفين وقعا في كلام الإنجيل، أو في كلام الحواريّين وصفا لعيسى عليه السّلام، وكانا مفهومين في لغة المخاطبين يومئذ، فلمّا تغيّرت أساليب اللّغات وساء الفهم في إدراك الحقيقة والمجاز تسرّب الضلال إلى النّصارى في سوء وضعهما فأريد التنبيه على ذلك الخطأ في التأويل، أي أنّ قصارى ما وقع لديكم من كلام الأناجيل هو وصف المسيح بكلمة الله وبروح الله، وليس في شيء من ذلك ما يؤدّي إلى اعتقاد أنّه ابن الله وأنّه إله.
10. تصدير جملة القصر بأنّه ﴿رَسُولُ اللهِ﴾ ينادي على وصف العبوديّة إذ لا يرسل الإله إلها مثله، ففيه كفاية من التنبيه على معنى الكلمة والروح.
11. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ الفاء للتفريع عن جملة القصر وما بنيت عليه، أي إذا وضح كلّ ما بيّنه الله من وحدانيّته، وتنزيهه، وصدق رسله، يتفرّع أن آمركم بالإيمان بالله ورسله، وأمروا بالإيمان بالله مع كونهم مؤمنين، أي النصارى، لأنّهم لمّا وصفوا الله بما لا يليق فقد أفسدوا الإيمان وليكون الأمر بالإيمان بالله تمهيدا للأمر بالإيمان برسله، وهو المقصود، وهذا هو الظاهر عندي، وأريد بالرسل جميعهم، أي لا تكفروا بواحد من رسله، وهذا بمنزلة الاحتراس عن أن يتوهّم متوهّمون أن يعرضوا عن الإيمان برسالة عيسى عليه السلام مبالغة في نفي الإلهية عنه.
12. ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾ أي لا تنطقوا بهذه الكلمة، ولعلّها كانت شعارا للنصارى في دينهم ككلمة الشهادة عند المسلمين، ومن عوائدهم الإشارة إلى التثليث بالأصابع الثلاثة: الإبهام والخنصر والبنصر، والمقصود من الآية النهي عن النطق بالمشتهر من مدلول هذه الكلمة وعن الاعتقاد، لأنّ أصل الكلام الصدق فلا ينطق أحد إلّا عن اعتقاد، فالنهي هنا كناية بإرادة المعنى ولازمه، والمخاطب بقوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا﴾ خصوص النّصارى.
13. ﴿ثَلَاثَةُ﴾ خبر مبتدأ محذوف كان حذفه ليصلح لكلّ ما يصلح تقديره من مذاهبهم من التثليث، فإنّ النصارى اضطربوا في حقيقة تثليث الإله كما سيأتي، فيقدر المبتدأ المحذوف على حسب ما يقتضيه المردود من أقوالهم في كيفية التثليث ممّا يصحّ الإخبار عنه بلفظ ﴿ثَلَاثَةُ﴾ من الأسماء الدّالة على الإله، وهي عدّة أسماء، ففي الآية الأخرى ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ [المائدة: 73]، وفي آية آخر هذه السورة ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ [المائدة: 116]، أي إلهين مع الله، كما سيأتي، فالمجموع ثلاثة: كلّ واحد منهم إله؛ ولكنّهم يقولون: أنّ مجموع الثلاثة إله واحد أو اتّحدت الثلاثة فصار إله واحد، قال في (الكشّاف): (ثلاثة) خبر مبتدأ محذوف فإن صحّت الحكاية عنهم أنّهم يقولون: هو جوهر واحد وثلاثة أقانيم، فتقديره الله ثلاثة وإلّا فتقديره الآلهة ثلاثة.
14. التثليث أصل في عقيدة النصارى كلّهم، ولكنّهم مختلفون في كيفيته، ونشأ من اعتقاد قدماء الإلهيّين من نصارى اليونان أنّ الله تعالى: (ثالوث)، أي أنّه جوهر واحد، وهذا الجوهر مجموع ثلاثة أقانيم، واحدها أقنوم ـ بضم الهمزة وسكون القاف ـ، قال في (القاموس): هو كلمة رومية، وفسّره القاموس بالأصل، وفسّره التفتازانيّ في كتاب (المقاصد) بالصفة، ويظهر أنّه معرّب كلمة (قنوم بقاف معقد عجمي) وهو الاسم، أي (الكلمة)، وعبّروا عن مجموع الأقانيم الثلاثة بعبارة (آبا ـ ابنا ـ روحا قدسا) وهذه الأقانيم يتفرّع بعضها عن بعض: فالأقنوم الأول أقنوم الذات أو ـ الوجود القديم وهو الأب وهو أصل الموجودات، والأقنوم الثاني أقنوم العلم، وهو الابن، وهو دون الأقنوم الأول، ومنه كان تدبير جميع القوى العقلية، والأقنوم الثالث أقنوم الروح القدس، وهو صفة الحياة، وهي دون أقنوم العلم ومنها كان إيجاد عالم المحسوسات، وقد أهملوا ذكر صفات تقتضيها الإلهية، مثل القدم والبقاء، وتركوا صفة الكلام والقدرة والإرادة، ثمّ أرادوا أن يتأوّلوا ما يقع في الإنجيل من صفات الله فسمّوا أقنوم الذات بالأب، وأقنوم العلم بالابن، وأقنوم الحياة بالروح القدس، لأنّ الإنجيل أطلق اسم الأب على الله، وأطلق اسم الابن على المسيح رسوله، وأطلق الروح القدس على ما به كوّن المسيح في بطن مريم، على أنّهم أرادوا أن ينبّهوا على أنّ أقنوم الوجود هو مفيض الأقنومين الآخرين فراموا أن يدلّوا على عدم تأخّر بعض الصّفات عن بعض فعبّروا بالأب والابن، (كما عبّر الفلاسفة اليونان بالتولّد)، وسمّوا أقنوم العلم بالكلمة لأنّ من عبارات الإنجيل إطلاق الكلمة على المسيح، فأرادوا أنّ المسيح مظهر علم الله، أي أنّه يعلم ما علمه الله ويبلّغه، وهو معنى الرسالة إذ كان العلم يوم تدوين الأناجيل مكلّلا بالألفاظ الاصطلاحية للحكمة الإلهية الروميّة، فلمّا اشتبهت عليهم المعاني أخذوا بالظواهر فاعتقدوا أنّ الأرباب ثلاثة وهذا أصل النصرانيّة، وقاربوا عقيدة الشرك.
15. ثمّ جرّهم الغلوّ في تقديس المسيح فتوهّموا أنّ علم الله اتّحد بالمسيح، فقالوا: إنّ المسيح صار ناسوته لاهوتا، باتّحاد أقنوم العلم به، فالمسيح جوهران وأقنوم واحد، ثمّ نشأت فيهم عقيدة الحلول، أي حلول الله في المسيح بعبارات متنوّعة، ثمّ اعتقدوا اتّحاد الله بالمسيح، فقالوا: الله هو المسيح، هذا أصل التثليث عند النّصارى، وعنه تفرّعت مذاهب ثلاثة أشار إلى جميعها قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾ ـ وقوله ـ ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: 72]، وقوله: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ [المائدة: 116] وكانوا يقولون: في عيسى لاهوتية من جهة الأب وناسوتيّة ـ أي إنسانية ـ من جهة الأمّ.
16. وظهر بالإسكندرية راهب اسمه (آريوس) قالوا بالتوحيد وأنّ عيسى عبد الله مخلوق، وكان في زمن (قسطنطينوس سلطان الرّون باني القسطنطينية)، فلمّا تديّن قسطنطينوس المذكور بالنصرانية سنة 327 تبع مقالة (آريوس)، ثمّ رأى مخالفة معظم الرهبان له فأراد أن يوحّد كلمتهم، فجمع مجمعا من علماء النصارى في أواخر القرن الرابع من التّاريخ المسيحي، وكان في هذا المجمع نحو ألفي عالم من النصارى فوجدهم مختلفين اختلافا كثيرا ووجد أكثر طائفة منهم على قول واحد ثلاثمائة وبضعة عشر عالما فأخذ قولهم وجعله أصل المسيحيّة ونصره، وهذه الطائفة تلقّب (الملكانيّة) نسبة للملك، واتّفق قولهم على أنّ كلمة الله اتّحدت بجسد عيسى، وتقمّصت في ناسوته، أي إنسانيته، ومازجته امتزاج الخمر بالماء، فصارت الكلمة ذاتا في بطن مريم، وصارت تلك الذات ابنا لله تعالى، فالإله مجموع ثلاثة أشياء: الأوّل الأب ذو الوجود، والثاني الابن ذو الكلمة، أي العلم، والثالث روح القدس.
17. ثمّ حدثت فيهم فرقة اليعقوبية وفرقة النّسطوريّة ـ اليعقوبية منسوبة إلى راهب اسمه يعقوب البرذعاني، كان راهبا بالقسطنطينية، والنسطورية نسبة إلى نسطور الحكيم، راهب ظهر في زمن الخليفة المأمون وشرح الأناجيل، كذا قال الشهرستاني في كتاب(الملل والنحل)، والظاهر أنّه من اشتباه الأسماء في أخبار هذه النحلة، والذي يقوله مؤرخو الكنيسة أنّ نحلة النسطورية موجودة من أوائل القرن الخامس من التاريخ المسيحي وأنّ مؤسسها هو البطريق نسطوريوس، بطريق القسطنطينية السوري، المولود في حدود سنة 380 مسيحية والمتوفّى في برقة في حدود سنة 440، وهاتان النحلتان تعتبران عند الملكانية مبتدعين ـ في مجامع أخرى انعقدت بين الرهبان، فاليعقوبيّة، ويسمّون الآن (أرثودكس)، ظهروا في أواسط القرن السادس المسيحي، وهم أسبق من النسطورية؛ قالوا: انقلبت الإلهية لحما ودما؛ فصار الإله هو المسيح فلأجل ذلك صدرت عن المسيح خوارق العادات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فأشبه صنعه صنع الله تعالى ممّا يعجز عنه غير الله تعالى، وكان نصارى الحبشة يعاقبه، وسنتعرّض لذكرها عند قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ في سورة المائدة [72]، وعند قوله تعالى: ﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ﴾ [مريم: 37]، والنّسطوريّة قالت: اتّحدت الكلمة بجسد المسيح بطريق الإشراق كما تشرق الشّمس من كوة من بلّور، فالمسح إنسان، وهو كلمة الله، فلذلك هو إنسان إله، أو هو له ذاتيتان ذات إنسانيّة وأخرى إلهيّة، وقد أطلق على الرئيس الديني لهذه النّحلة لقب (جاثليق)، وكانت النحلة النسطورية غالبة على نصارى العرب، وكان رهبان اليعاقبة ورهبان النسطوريين يتسابقون لبث كلّ فريق نحلته بين قبائل العرب، وكان الأكاسرة حماة للنسطورية، وقياصرة الرّوم حماة لليعقوبية، وقد شاعت النّصرانيّة بنحلتيها في بكر، وتغلب، وربيعة، ولخم، وجذام، وتنوخ، وكلب، ونجران، واليمن، والبحرين، وقد بسطت هذا ليعلم حسن الإيجاز في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾ وإتيانه على هذه المذاهب كلّها، فلله هذا الإعجاز العلمي.
18. القول في نصب (خيرا) من قوله: ﴿انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ كالقول في قوله تعالى: ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ [النساء: 170]، والقصر في قوله: ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ قصر موصوف على صفة، لأنّ (إنّما) يليها المقصور، وهو هنا قصر إضافي، أي ليس الله بثلاثة.
19. ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ إظهار لغلطهم في أفهامهم، وفي إطلاقاتهم لفظ الأب والابن كيفما كان محملهما لأنّهما إمّا ضلالة وإمّا إيهامها، فكلمة (سبحانه) تفيد قوة التنزيه لله تعالى عن أن يكون له ولد، والدلالة على غلط مثبتيه، فإنّ الإلهية تنافي الكون أبا واتّخاذ ابن، لاستحالة الفناء، والاحتياج، والانفصال، والمماثلة للمخلوقات عن الله تعالى، والبنوّة تستلزم ثبوت هذه المستحيلات لأنّ النسل قانون كوني للموجودات لحكمة استبقاء النوع، والناس يتطلّبونها لذلك، وللإعانة على لوازم الحياة، وفيها انفصال المولود عن أبيه، وفيها أنّ الابن مماثلة لأبيه فأبوه مماثل له لا محالة.
20. (سبحان) اسم مصدر سبّح، وليس مصدرا، لأنّه لم يسمع له فعل سالم، وجزم ابن جني بأنّه علم على التسبيح، فهو من أعلام الأجناس، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والزيادة، وتقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ في سورة البقرة [32]، ﴿أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ متعلّق بـ (سبحان) حرف الجرّ، وهو حرف (عن) محذوفا.
21. جملة ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ تعليل لقوله: ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ لأنّ الذي له ما في السموات وما في الأرض قد استغنى عن الولد، ولأنّ من يزعم أنّه ولد له هو ممّا في السماوات والأرض كالملائكة أو المسيح، فالكلّ عبيده وليس الابن بعبد.
22. ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ تذييل، والوكيل الحافظ، والمراد هنا حافظ ما في السماوات والأرض، أي الموجودات كلّها، وحذف مفعول (كفى) للعموم، أي كفى كلّ أحد، أي فتوكّلوا عليه، ولا تتوكّلوا على من تزعمونه ابنا له، وتقدّم الكلام على هذا التركيب عند قوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ في هذه السورة.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/331.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ نهى في هذا النص الكريم عن الغلو في الدين، والغلو هو تجاوز الحد سلبا أو إيجابا، وقد تجاوز اليهود الحد في شأن عيسى عليه السلام، فأنكروا رسالته لعنة الله عليهم، واتهموا أمه البتول، وغالى فيه النصارى، حتى أخرجوه من مرتبة البشرية مع أن البشرية واضحة فيه، وفى ولادته، وفى حياته، وفى كونه لحما ودما يحيا ويموت، ويأكل ويشرب، كما يأكل سائر البشر، وإذا كان الغلو في شأن عيسى وقع من اليهود، ومن النصارى، فإنه يصح أن يكون الخطاب موجها إلى الفريقين، باعتبار أن الغلو وقع مستمرا، فيكون النهى عن الاستمرار، ولكن سياق القول يدل على أن أهل الكتاب المخاطبين في هذه الآية هم النصارى لأنه سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا﴾ إلى آخره، فالسياق في خطاب النصارى ومغالاة اليهود بشأن عيسى قد سبق بيانها آنفا.
2. ولقد أردف الله سبحانه النهى عن المغالاة بتجاوز الحق، وبالأمر بالحق، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾، أي لا تقولوا يا معشر النصارى على الله إلا الحق الثابت القائم على الدليل المقنع، لا على الوهم البعيد، وفى هذا النص السامي إشارات إلى معان، فإن أقوالهم التي قالوها غير الحق هي افتراء وكذب على الله تعالى، وكذلك عدى القول فقال على الله؛ لأن القول يتضمن معنى الافتراء، وفوق ذلك إنها لا تعتمد على الحق الثابت، وتناقض الدليل الواضح، والبرهان القاطع قائم في أن عيسى ولد، والإله لا يولد، وعيسى كان يأكل ويشرب، والإله ليس كذلك، وقد زعموا أنهم قتلوه، والإله لا يقتل، وزعموا أنه قتل افتداء للخليقة عن عصيان آدم لله تعالى، وليس من المعقول في أي منطق أن يفتدى الله الخليقة عن عصيان أبيها بتمكينهم من قتل ابنه في زعمهم، فإن ذلك القتل جريمة أشد وأشنع، وإذا كانت الأولى: تحتاج إلى فداء، فالثانية: لا يغنى عنها فداء، ولكن هكذا سوغ الوهم لهم.
3. وإذا كان ما قالوا باطلا، لا يمت إلى الحق بسبب، فالحق هو ما قرره الله تعالى في قوله تعالت كلماته، ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ صدر الكلام بأداة القصر، وهي (إنما) ومعنى القول ليس المسيح عيسى ابن مريم إلا رسول الله أرسله لهداية الحق، وهو قد نشأ بكلمته، ونفخ بروح منه في مريم، فكان من بعد بشرا سويا، وهو في إيجاده آية قدرة الله تعالى على الخلق من غير تقيد بالأسباب التي تجرى بين الناس، فهو سبحانه خالق الأسباب والمسببات بديع السموات والأرض وليس له ولد: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص]، ولا بد أن نتعرض بقليل من البيان لثلاث عبارات:
أ. الأولى: التعبير بـ ﴿الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾: فإن الله تعالى قد ذكر أنه المسيح، وأنه عيسى، وأنه ابن مريم، فأما الأول فهو الاسم الذى يذكر به في القرآن، وذكر بجواره عيسى للإشارة إلى أنه شخص ككل الشخوص فيه إشارة إلى بشريته، والتصريح بالبشرية في قوله تعالى: ﴿ابْنُ مَرْيَمَ﴾ فهو مولود خرج من رحم أنثى، كما يخرج الأولاد من أمهاتهم، وإذا كان لم يخرج من صلب أب، فإنه قد خرج من رحم أم، وحسبنا ذلك دليلا على البشرية المطلقة، وفى ذكر الأم من غير ذكر أب دليل على أنه لا ينتسب إلى أب قط، فليس ابن يوسف النجار، وليس ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
ب. الثانية: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ فإن الكلمة هنا قد تكون مجملة، ولكنها ذكرت في آيات مبينة، ذكرت في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، فقد قال تعالى في شأن خلق عيسى عليه السلام: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم]، هذا ما جاء في سورة مريم، وقد جاء في سورة آل عمران: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران]، وقال في شأن خلق عيسى من غير أب: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران]، وبهذا يتبين أن الله سبحانه وتعالى خلقه بكلمة منه، وهو (كن)، كما خلق آدم، وكان عيسى بهذا كلمة الله لأنه خلقه بها، فقد خلق من غير بذر يبذر في رحم أمه، فما كان تكوينه نماء لبذر وجد، وللأسباب التي تجرى بين الناس، بل كان السبب هو إرادة الله وحده، وكلمته (كن) وبذلك سمى كلمة الله، وتعلق النصارى بأن كون عيسى كلمة الله دليل على ألوهيته، وما كانت الكلمة من الله إلها يعبد، فضلا عن أنه سمى بذلك؛ لأنه فعلا نشأ بكلمة، لا بمنى من الرجل يمنى، بل كلمته التكوين ألقاها (أى أوصلها) إلى مريم فكان التكوين لعيسى.
ج. الثالثة ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ وهذه أيضا من العبارات التي تعلقت بها أوهامهم، إذ قد فتحوا باب الوهم فيها حتى غشى عقولهم، فحجبها، فظنوا أن هذه الكلمة تدل على معنى الألوهية في عيسى، وإن تتبع هذا اللفظ في القرآن يدل على أنه يراد به أحيانا الروح التي ينشئها الله تعالى في الأبدان، وينفخ بها فيها، وتكون بمعنى الملك جبريل عليه السلام، وتكون بمعنى رحمة، وليس في ذلك ما يدل على الربوبية أو الألوهية فيمن تقال فيه أو يسمى باسمه، وقد قيل المعنيان الأولان في شأن عيسى وشأن أمه، فقد قال في شأن أمه مريم البتول: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا﴾ [الأنبياء] وهو جبريل عليه السلام، وقد ذكرنا من قبل قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم]، وعلى ذلك يكون معنى قوله تعالى: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ أي أنه سبحانه أنشأه بروح مرسل منه، وهو (جبريل الأمين)، وقد يقال أنه نشأ بروح منه سبحانه، أي أنه أفاض بروحه في جسمه كما أفاض بها على كل إنسان، ولقد قال تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [السجدة]، والأول أولى، وعلى ذلك يكون معنى قوله: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ أي أنه نشأ بنفخ الله تعالى الروح فيه من غير توسيط سلالة بشرية، ونطفة تتشكل إنسانا، وذلك بالملك الذى أرسله وهو جبريل وقد تمثل لها بشرا سويا.
4. سؤال وإشكال: لماذا سماه الله تعالى روحا؟ والجواب: عيسى سمى روحا باعتباره نشأ من الروح مباشرة، ولأنه غلبت عليه الروحانية، وإن كان بشرا كسائر البشر، يأكل ويشرب، ويمشى في الأسواق، ولهذا المعنى سمى روحا، (ومن) هنا للابتداء أي أن الروح مرسل من عند الله تعالى، ونافخ بإذنه.
5. وبهذا الكلام يزول الوهم الذى سلطه الله على عقول الذين غالوا في المسيح عليه السلام غلوا بعيدا، فنحلوه ما ليس له، وما ليس من شأنه، وجعلوه إلها، وابن إله، ومنهم من جعل أمه مريم إلها، إلى آخر ما توهموا، ولقد لج الوهم ببعضهم فظن أن في القرآن الكريم ما يدل على ما توهموا، فقد قالوا إن في القرآن ما يدل على أن عيسى عليه السلام مؤيد بروح القدس، فقد قال سبحانه: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة]، ونقول في إزالة هذا الوهم إن روح القدس الذى ذكر في القرآن عدة مرات في مقام التأييد لعيسى هو جبريل عليه السلام، وقد ذكر بالنسبة لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد قال تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل]
6. وإذن لا لبس ولا التباس، ويجب أن تفسر بذلك روح القدس التي جاءت في الأناجيل بالنسبة لعيسى، فقد جاء في إنجيل متى: (ولما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا، وجدت حبلى من الروح القدس) وبالتفسير المعقول المتفق مع نص القرآن يكون الحبل بنفخ من روح القدس جبريل، وقد جاء في الإنجيل ما يدل على أن روح القدس هو جبريل عليه السلام: (وهذا الرجل كان بارا تقيا ينتظر نفسه إسرائيل والروح القدس)، وجاء في الإصحاح الثاني من إنجيل متى آية 26 (وكان قد أوحى إليه بالروح القدس)
7. وإذا كان الحق في عيسى عليه السلام أنه رسول الله، وأنه تعالى خلقه من غير طريق الأسباب المعتادة، إذ خلقه بكلمة، وأنه روح جاءت من قبل الله إذ نفخ جبريل الروح في مريم فكان منها الحبل، وأنه غلبته روحانية، إذا كان كذلك، فيجب الإيمان بالحق، وإزالة الأوهام، وكذا قال سبحانه: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ أي إذا كانت تلك حقيقة المسيح، وليس بابن إله، فآمنوا بالله وحده لا شريك له في العبادة، ولا في السلطان، وليس معه ثان ولا ثالث، وليس بوالد ولا ولد، وآمنوا بالرسالة الإلهية، وآمنوا بالرسل الذين سبقوا عيسى والرسول الذى جاء من بعده، ولا تكفروا بأحد منهم ولا تغالوا فتقولوا ثلاثة، ولذا قال سبحانه: ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾
8. وعبر سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾ بدل قوله: (ولا تؤمنن بثلاثة أو لا تصدقوا بثلاثة، أو لا تزعموا ثلاثة)؛ لأن أمر الثلاثة قول يقولونه، فإن سألتهم عن معناه قالوا مرة الأب والابن وروح القدس أي أنهم ثلاثة متفرقون، ومرة يقولون ثلاثة أقانيم، والذات واحدة، فإن أردت تفسيرا لمعنى الثالث، قالوا كلاما لا يمكن أن تقبله العقول المستقيمة.
9. وإن الدارس لتاريخ النصرانية من غير تحيز لهذه الأوهام أو متحيز عليها يرى أنها في ابتدائها ديانة توحيد خالص، وأنه ما كانت ألوهية المسيح عندهم رائجة، ولا يعتنقها الأكثرون، بل كان الأكثرون على أن الله إله واحد ليس له ولد ولا والد، واستمر الحال كذلك إلى أن أراد قسطنطين أن يدخل في المسيحية، وقد كان وثنيا، ولكنه أراد أن يدخلها بعد أن يحرفها، فعقد مجمع (نيقية) سنة 325 ميلادية، وقد ادعى أن انعقاده للرد على أريوس الذى أنكر ألوهية المسيح، فكان المجتمعون أكثر من تسعمائة، وقد كانت الكثرة منكرة ألوهية المسيح، والذين قالوا ألوهية المسيح 318 فاكتفى بهم وأعلنوا الألوهية، وعلى رأسهم أسقف الإسكندرية، ودخل قسطنطين في المسيحية من بعد قرارهم، وقد استنكر أكثر المسيحيين ما قرره مجمع نيقية، ولذلك انعقد فوره مجمع (صور) ورفض دعوى ألوهية المسيح بالإجماع، ولكن استخدمت القوة والإرهاب لتشتيت المجتمعين، وأخذت القوة تعلن الألوهية، وتخفى الوحدانية.
10. ولم يكن إلى ذلك الوقت أحد يقول إن روح القدس إله، حتى دعا أسقف الإسكندرية إلى عقد المجتمع القسطنطينى الأول سنة 381، فقرر ألوهية روح القدس، وبذلك قالوا ثلاثة، وبتوالى العصور، وإخفات صوت المخالفين، وتقرير التثليث وتثبيته سيطرت الأوهام، واستقر الأمر على ثلاثة.
11. وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن أن يقولوا ثلاثة، وأكد سبحانه وتعالى النهى بقوله: ﴿انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ وفى التعبير بـ ﴿انْتَهَوْا﴾ دليل على أنهم لم يعتنقوا ما يدعون اعتقادا جازما، بل إنهم إن فكروا غيروا، فكان الأمر بالانتهاء، وقال: انتهوا خيرا لكم، أي انتهوا يكن الانتهاء خيرا لكم؛ لأنكم تخرجون من حيرة الأوهام إلى تفكير العقول، وتدركون الحق، وتذعنون له، وتكونون مؤمنين بالمسيح حقا وصدقا، والاطمئنان إلى حكم العقل خير من حيرة الوهم والشك، وفى انتهائهم رضا الله والجزاء في الآخرة.
12. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ أي أن المعبود بحق ليس إلا واحدا، وهو الله تعالى ذو الجلال والإكرام، ووحدانيته تكون في الذات والصفات والعبودية، فليست ذاته الكريمة كذات المخلوقات، وهو وحده سبحانه الجدير بالعبودية والألوهية فلا معبود سواه، وهو وحده الخالق للكون، وقد تنزه سبحانه عن أن يكون له ولد؛ لأن هذه صفات المخلوقين، وذاته تعالى واحدة ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لأن كون أحد ولده يقضى الاتصال بالمخلوقين ويكون مثلهم، وهو الخالق لهم ولكل شيء فكيف يكون المخلوق ولدا، وكيف يكون البشر متولدا من الله تعالى الخالق له المنشئ المكون المربى.
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ كل ما في السموات من بروج ونجوم وكواكب، وما في الأرض من أحياء على ظهرها، ومعادن وفلزات وكنوز في باطنها، وما في البحار من أحياء، ومن جواهر ولآلئ، هو ملك لله تعالى، فعيسى ابن مريم وأمه وغيرهما مملوكان لله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم]، والله سبحانه هو المدبر للكون الذى وكل إليه أمره.
13. ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ أي أن الله تعالى هو الذى قد وكل إليه أمر الكون، وتدبيره ظاهره وباطنه، وما ظهر منه للناس، وما خفى عليهم، وكفى بالله وكيلا ليستقيم الأمر فيه، وليسير على سنن مستقيم لا اضطراب فيه ولا اختلاف، اللهم أنت بديع السموات والأرض لا نؤمن إلا بك، ولا نعبد إلا إياك، ولا نرجو الخير إلا منك، اللهم إنك أنت مانح النعم ومجراها، ولا يرجى سواك.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1979.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لا نعرف دينا أكّد وتشدد في عقيدة التوحيد كالإسلام، فلا شبيه ولا ند للّه، ولا حلول ولا اتحاد ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ هذا هو الأساس الذي ترتكز عليه عقيدة الإسلام، ومن الطريف قول من قال: (إذا كان الله قادرا على كل شيء فينبغي أن يكون قادرا على أن يخلق إلها مثله؟. ووجه الطرافة أو الغرابة في هذا القول انه يجمع بين صفة الخالق والمخلوق، والعابد والمعبود في ذات واحدة، وبديهة ان المخلوق لا يكون إلها خالقا.. اللهم إلا عند من قال ان في المسيح طبيعتين: لاهوتية وناسوتية.
2. ﴿يَا أهل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلا الْحَقَّ﴾، قال كل من اليهود والنصارى قولا تجاوزوا فيه الحق.. فاليهود أنزلوه إلى الحضيض، والنصارى رفعوه إلى الالوهية، وقال المسلمون فيه ما قاله القرآن، وهو قول وسط بين القولين، وكان الخطاب في الآيات السابقة موجها إلى اليهود، وهو في هذه الآيات موجه إلى النصارى بدليل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾ وهذا هو الغلو في الدين، والقول على الله بالباطل، لأنه تعالى منزه عن الشريك والشبيه، والحلول والاتحاد، والولد والصاحبة.
3. ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾، هذه هي حقيقة عيسى، وبها قال المسلمون.. رسول الله، وكفى تماما كإبراهيم وموسى ومحمد وسائر الأنبياء.. ووقفنا مع المبشرين بالمسيحية في مكان سابق من هذا التفسير، ونقف معهم الآن عند تفسير هذه الآية، لأن لهم قصة معها، ستعرفها مما يلي، ونبدأ الحديث بالسؤال، كعادتنا في ارادة الإيضاح، ليمضي القارئ معنا إلى النهاية من غير سأم أو ملل.
4. سؤال وإشكال: كيف يكون عيسى كغيره من الأنبياء، وقد ولدوا جميعا من آبائهم، وولد هو من غير أب خارقا لما هو مألوف ومعروف؟ والجواب: تولى سبحانه بنفسه الاجابة عن هذا السؤال، وأوجزه بهذا الإيجاز الرائع: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾، ومعناه بضرب من الشرح والتفصيل أن قول النصارى: ولد عيسى من غير أب قول صحيح، وصحيح أيضا قولهم: ان هذا يخالف المألوف.. ولكن الخطأ الجسيم في قولهم: إن هذه المخالفة دليل على ربوبية عيسى.. ووجه الخطأ انه لا ملازمة بين عدم الأبوة، وبين وجود الربوبية، وإلا فانه يلزم ان يكون آدم ربا، بل هو أولى بالربوبية من عيسى ـ على منطقهم ـ لأنه خلق من غير أب وأم، وعيسى تولد من امه مريم.. هذا، إلى أن خرق العادات ليس بعزيز، فقد كانت النار بردا وسلاما على إبراهيم، فينبغي أن يكون ربا، لأن ما حصل مخالف للمألوف، ثم هل يكثر على من خلق الكون العجيب من لا شيء خلقه بكلمة واحدة، وهي (كن فيكون)، هل يكثر عليه أن يخلق بهذه الكلمة رجلا من غير أب؟ هل خلق عيسى عليه السلام أعظم من خلق السموات والأرض؟: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [غافر: 57].. فكلمة (كن فيكون) هي نفس الكلمة التي أطلقها الله على عبده عيسى في قوله: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ ومعنى إلقائها إلى مريم ان الله أعلمها على لسان ملائكته بهذا المولود: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: 45]، فالكلمة هنا هي الكلمة هناك.
5. أما الروح التي نعت بها سبحانه عيسى في هذه الآية وغيرها فالمراد بها الحياة التي لا مصدر لها إلا هو جل ثناؤه، وان الله سبحانه قد وهبها لعيسى، كما وهبها لطينة آدم: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ [ص: 71]، فالروح في طينة آدم هي الروح في رحم مريم، فما يقال في تلك يقال في هذه، والفرق تحكّم.
6. حاول المبشرون من رجال الكنيسة أن يوهموا من لا علم له بالكتاب وأسرار اللغة ان قوله تعالى: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ هو حجة لهم لا ردّ عليهم بعد أن فسروا كلمة الله وروح الله بالمعنى المساوي لله وصفاته، لا بأثر من آثار قدرته وعظمته، كما هو الحق.. ولو جاءت (كلمة الله وروح الله) في سياق آخر لحملنا المبشرين في تفسيرهم الخاطئ على غير المكر والخداع.. ولكن المبشرين قد انتزعوا الكلمتين ـ بسوء نية ـ من بين نهيين: أحدهما نهي عن الغلو في السيد المسيح عليه السلام، وثانيهما نهي عن القول بالتثليث، ونسبة الولد إليه تعالى، ثم فسروا الكلمتين بما يتفق مع أغراضهم ومقاصدهم، كما لو جاءتا في قاموس من قواميس اللغة.. ولا معنى لهذا إلا التدليس والتلبيس.
7. ونعيد الآية بمجموعها احترازا من غفلة القارئ عنها: ﴿يَا أهل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾، فهل بعد هذا النص مبرر لتفسير كلمة الله وروح الله بذاته وصفاته؟ بل لا مبرر لهذا التفسير، حتى ولو جاءت الكلمتان في القرآن منفردتين مستقلتين، لا يسوغ هذا التفسير بوجه من الوجوه، مع نسبتهما إلى القرآن الذي قال بلسان مبين: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ [المائدة: 73]، أبعد هذا التكفير الصريح يقال: ان القرآن يؤيد النصارى في قولهم: المسيح هو الله، أو ابن الله، أو فيه صفة من صفات الله؟ وإذا كان القرآن حجة في بعض آياته أو كلماته فيجب أن يكون حجة أيضا في قوله: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾، وفي قوله: ﴿يَا أهل الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ وإذا لم يكن القرآن حجة في قوله هذا فيجب أن لا يكون حجة في غيره.. إما الايمان بالجميع، وإما الكفر بالجميع، والتفكيك خداع وتدليس.
8. لقد أساء المبشرون أو الكثير منهم إلى السيد المسيح، والى أنفسهم، أساءوا بالتحريف والتزييف الذي ذكرنا منه كلمتين على سبيل المثال، دون الحصر.. ولنفترض ان رجلا عاديا انخدع لهم، فهل يكون هذا ربحا للمسيح والمسيحية؟ وما ذا تكون النتيجة لو انكشف له الغطاء، كما انكشف تطوعهم لصالح جهة معينة، ولم يجدهم التستر باسم التبشير، والدعوة إلى الصلاة والتكبير.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/499.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾، ظاهر الخطاب بقرينة ما يذكر فيه من أمر المسيح عليه السلام أنه خطاب للنصارى، وإنما خوطبوا بأهل الكتاب ـ وهو وصف مشترك ـ إشعارا بأن تسميهم بأهل الكتاب يقتضي أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزله الله وبينه في كتبه، ومما بينه أن لا يقولوا عليه إلا الحق، وربما أمكن أن يكون خطابا لليهود والنصارى جميعا، فإن اليهود أيضا كالنصارى في غلوهم في الدين، وقولهم على الله غير الحق، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾، وقال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 31]، وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ ـ إلى أن قال ـ ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 64]، وعلى هذا فقوله: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ﴾ تخصيص في الخطاب بعد التعميم أخذا بتكليف طائفة من المخاطبين بما يخص بهم.
2. هذا، لكن يبعده أن ظاهر السياق كون قوله: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ﴾ تعليلا لقوله: ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ ولازمه اختصاص الخطاب بالنصارى وقوله: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ﴾ أي المبارك ﴿عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ تصريح بالاسم واسم الأم ليكون أبعد من التفسير والتأويل بأي معنى مغاير، وليكون دليلا على كونه إنسانا مخلوقا كأي إنسان ذي أم.
3. ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ تفسير لمعنى الكلمة، فإنه كلمة (كن) التي ألقيت إلى مريم البتول، لم يعمل في تكونه الأسباب العادية كالنكاح والأب، قال تعالى: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 47] فكل شيء كلمة له تعالى غير أن سائر الأشياء مختلطة بالأسباب العادية، والذي اختص لأجله عيسى عليه السلام بوقوع اسم الكلمة هو فقدانه بعض الأسباب العادية في تولده ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ والروح من الأمر، قال تعالى: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [إسراء: 85] ولما كان عيسى عليه السلام كلمة (كن) التكوينية وهي أمر فهو روح، وقد تقدم البحث عن الآية في الكلام على خلقة المسيح.
4. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ تفريع على صدر الكلام بما أنه معلل بقوله: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ﴾ أي فإذا كان كذلك وجب عليكم الإيمان على هذا النحو، وهو أن يكون إيمانا بالله بالربوبية ولرسله ـ ومنهم عيسى ـ بالرسالة، ولا تقولوا ثلاثة انتهوا حال كون الانتهاء أو حال كون الإيمان بالله ورسله ونفي الثلاثة خيرا لكم، والثلاثة هم الأقانيم الثلاثة: الأب والابن وروح القدس، وقد تقدم البحث عن ذلك في الآيات النازلة في أمر المسيح عليه السلام من سورة آل عمران.
5. ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ السبحان مفعول مطلق مقدر الفعل، يتعلق به قوله: ﴿أَنْ يَكُونَ﴾ وهو منصوب بنزع الخافض، والتقدير: أسبحه تسبيحا وأنزهه تنزيها من أن يكون له ولد، والجملة اعتراض مأتي به للتعظيم.
6. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ حال أو جملة استيناف، وهو على أي حال احتجاج على نفي الولد عنه سبحانه، فإن الولد كيفما فرض هو الذي يماثل المولد في سنخ ذاته متكونا منه، وإذا كان كل ما في السماوات والأرض مملوكا في أصل ذاته وآثاره لله تعالى وهو القيوم لكل شيء وحده فلا يماثله شيء من هذه الأشياء فلا ولد له، والمقام مقام التعميم لكل ما في الوجود غير الله عز اسمه ولازم هذا أن يكون قوله: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ تعبيرا كنائيا عن جميع ما سوى الله سبحانه إذ نفس السماوات والأرض مشمولة لهذه الحجة، وليست مما في السماوات والأرض بل هي نفسها.
7. ثم لما كان ما في الآية من أمر ونهي هداية عامة لهم إلى ما هو خير لهم في دنياهم وأخراهم ذيل الكلام بقوله: ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ أي وليا لشئونكم، مدبرا لأموركم، يهديكم إلى ما هو خير لكم ويدعوكم إلى صراط مستقيم.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/150.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ خطاب لليهود والنصارى ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ الغلو في الدين: تجاوُزُ الحد الصحيح في الدين، وهو نوع من البدعة اختص باسم الغلو؛ لأن الباعث عليه رغبة أصلها ديني، ولكنها قويت وصارت هوى نفسياً فدعت إلى تجاوز الحد؛ حد الصواب، فاليهود غلوا في أنفسهم، فتجاوزوا نعمة الله عليهم بتفضيلهم على العالمين بما اختصهم به مثل: فلق البحر لهم لينجيهم ويغرق عدوهم وهم ينظرون، فتجاوزوا ذلك حتى قالوا: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة:80]، وقالوا: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ [آل عمران:75]، وقالوا: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ﴾ [التوبة:30]، والنصارى قالوا: ﴿الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ﴾ [التوبة:30] واتخذوا عيسى إلهاً على اختلافهم، بين من يقول: ﴿إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [المائدة:17] ومن يقول: (ثلاثة أقانيم): أقنوم أب، وأقنوم ابن، وأقنوم روح القدس، ومجموع الثلاثة بزعمهم الله سبحانه وتعالى.
2. ﴿وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ فاتركوا الغلو، لئلا تقولوا على الله غير الحق، فقد نهى عن ذلك وحرمه ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ فدرجته في الشرف أن الله اصطفاه رسولاً له إلى (بني إسرائيل) وكفاه شرفاً من هذه الناحية أنه رسول الله، وخلْقه من غير أب لا علاقة له بأن يكون إلهاً؛ إنما خلقه الله بقوله: ﴿كُنَّ﴾ ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران:47] وهي ﴿كَلِمَتُهُ﴾ التي خلق بها آدم بل وكل شيء وهي قضاؤه وإيجاده للشيء ﴿أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ بأن قضى وجود ابنها في بطنها.
3. ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ من أمره نفخه في جسد الولد، كما نفخ في آدم من روحه ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء:85] صدق الله فهو أمر استأثر الله بعلمه؛ وبه يحيي المخلوق، ويحتمل أن الروح في قوله تعالى: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ غير الروح في قوله: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا﴾ [التحريم:12] وأن قوله تعالى: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ مدح لعيسى كما مدح القرآن بذلك، وقد حكى عن عيسى عليه السلام قوله: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾ [مريم:31] فلما كان عيسى عليه السلام سبباً لحياة الإيمان في القلوب ببركته وحسن تعليمه وموعظته، كان حقيقاً بأن يسمى روحا كما سمي القرآن روحاً، وهذا أقرب عندي؛ لوجوه:
أ. الأول: أن نفخ الروح قد دخل في قوله: ﴿وَكَلِمَتُهُ﴾؛ لأنها عبارة عن إيجاده جسداً وروحاً.
ب. الثاني: أنه تعالى جعل عيسى نفسه روحا بجملته وذلك غير الإخبار بنفخ الروح فيه وكون الروح جزءً منه.
ج. الثالث: أن الحصر بـ ﴿إِنَّمَا﴾ في خطاب الذين غلوا فيه يناسبه أن يشمل مزاياه التي من أجلها غلوا فيه، ويشمل ما يمتاز به عيسى؛ ولذلك لم يقتصر على قوله كلمته، بل قال: ﴿رَسُولُ اللهِ﴾
4. فكذلك ينبغي أن يذكر ما كان له من البركات، وما ظهر على يديه من الآيات التي يحيَى بها الإيمان في قلوب المؤمنين، كنفخه في صورة الطير بحيث تكون ﴿طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ﴾ [آل عمران:49] وإحيائه القلوب الميتة بمواعظه وحكمته وسائر بركاته، التي كانت له أينما كان بإذن الله، وحينئذ تكون هذه الكلمات الثلاث قد عمت وشملت مزايا عيسى ـ صلى الله عليه ـ فكان إدخالها في الحصر بـ ﴿إِنَّمَا﴾ هو مقتضى الحال، وكان أبلغ في الحجة على الغلاة فيه.
5. قوله تعالى: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ يشير إلى أن تلك البركات والحياة إنما هي من الله وبإذنه، و(مِن) هذه هي (مِن الابتدائية) مثل: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ﴾ [النحل:53] أعني في قوله تعالى: ﴿فَمَنَّ اللهُ﴾ أي صادرة منه.
6. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ﴾ فلا تجعلوه متعدداً ثلاثة أقانيم، ولا تجعلوه عيسى، بل نزهوه عن مشابهة المخلوقين؛ لأن من آمن بشبيه للمخلوق لم يؤمن بالله، فآمنوا بالله ورسله، ومن ذلك الإيمان بعيسى رسولاً لا إلهاً، والإيمان برسول الله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾ أقانيم، ولا تقولوا: الآلهة ثلاثة: الله، وعيسى، ومريم.
7. ﴿انْتَهَوْا﴾ عن الشرك ﴿خَيْرًا لَكُمْ﴾ لتهتدوا ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ لا ثلاثة أقانيم: أقنوم أب، واقنوم ابن، واقنوم روح القدس ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ لأنه الغني فلا يحتاج إلى ولد، والولد إن أرادوا به الفرع لزمهم أن يكون الله جنساً قابلاً للزيادة بالتفرع، فلزم أنه قابل للزيادة والنقصان والوجود والعدم سبحانه وتعالى، وإن أرادوا به الولد بالعاطفة والحب والحنو، فذلك خاص بالمخلوق، ولا يليق بالغني عن كل شيء لأن العاطفة حاجة ولعلهم أرادوا هذا، فرد الله عليهم بأنه الغنيّ ﴿قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [يونس:68] فالرد عليهم بأنه الغني، فقال تعالى: ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ لأن ذلك نسبة الحاجة إليه.
8. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ فكل من جعلوه إلهاً من دون الله إنما هو عبد لله، فلا يشارك الله في ملكه ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ لعباده، كما قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر:36] فعلى عباده أن يكلوا إليه أمورهم ويستغنوا به لتدبير شؤونهم عن إثبات إله غيره.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/218.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يتابع القرآن توجيه الإنسان إلى السير في خط الحق الذي أراد منه الإيمان به، ليحصل على الخير من خلاله؛ فأطلق النداء إلى أهل الكتاب الذين انحرفوا في تصورهم العقيدي لله وللمسيح، فابتعدوا عن التوحيد بما استحدثوه من عقيدة التثليث، سواء في الفكرة التي تعتقد بالتثليث الإلهي بشكل مباشر، أو في الفكرة التي تعتقد بالتثليث في نطاق الوحدة، كما هو الشائع لدى النصارى من أهل الكتاب.
2. ودعاهم إلى عدم الغلو في المسيح باعتقاد صفة الألوهية فيه، ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ وأراد منهم أن يبتعدوا عن أي خط لا يلتقي بالحق، وأوضح لهم شخصية المسيح بكل بساطة ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾، فهو لا يحمل في داخل ذاته أسرارا غيبية معقّدة، أو أجزاء إلهية مقدسة، فهو بشر كبقية البشر في تكوينه الجسدي وفي طاقاته الإنسانية؛ وقد ميّزه الله عنهم برسالته التي كلفه بها، كما ميّز سائر الرسل بذلك؛ ولكن له ميزة أخرى يختلف بها عن سائر الناس والأنبياء، فهو لم يولد كما ولد سائر الأنبياء والرسل والناس بالطريقة البشرية الطبيعية الخاضعة لنظام التناسل الطبيعي، بل كان ـ كما تقول الآية ـ كلمة الله ألقاها إلى مريم، وروحا منه أفاضها عليها، كما أفاضها على آدم من قبل، ليكون مظهرا لقدرة الله في ولادة إنسان بلا أب، كما كان آدم مظهرا لقدرته ـ تعالى ـ في ولادة إنسان من غير أب أو أم، كما أشارت الآية الكريمة إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59]
3. وليست الكلمة، أو الروح، في الآية، تعبيرا عن الجزء الإلهي أو الحقيقة الإلهية، لأن طبيعة الله لا تتجزأ، فهي بسيطة كل البساطة، ولا يمكن أن تنتقل من مكان إلى آخر، بل المراد بهما مظهر قدرة الله وسر إبداعه، فيما أفاضه على جسد آدم الهامد الجامد الخالي من الروح، كما أفاضها على مريم الخالية عن أسباب الولادة الطبيعية، ولهذا التقت الكلمات القرآنية في التعبير عنهما، فنقرأ ـ مثلا ـ في قصة آدم في حوار الله مع الملائكة في الآية الكريمة: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص: 71 ـ 72]، ونقرأ في قصة مريم وابنها، قوله تعالى: ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 91]
4. أما وصف عيسى بالكلمة، فلأن وجوده انطلق من كلمة الإيجاد المتمثلة في قوله تعالى: ﴿لَكِنِ﴾ المعبر عن إرادته سبحانه، من دون تخلّل الأسباب الطبيعية خلافا للناس الآخرين، مع أن الجميع خاضعون لإرادة الله وقدرته التكوينية.
5. ولعل الخلاف بين المفسرين فيما يتعلق بالكلمة، وبالروح خاضع لطريقتهم في فهم القرآن الكريم، على أساس الاستنطاق الحرفي لمعنى الكلمتين، والابتعاد عن الجو الذي يحكم الفكرة، وهو الجو الذي تتحرك فيه القدرة الإلهية بشكل غير مألوف، ممّا يصحح الطريقة الكنائية في التعبير، التي يسوغ ـ معها ـ اعتباره مصداقا لروح الله، أو نفخة من روحه تماما، مع الفارق الكبير في التشبيه، كما يقول الأديب أو الشاعر عن القصيدة أو الأثر الفني الذي يصدر عنه: بأنها قطعة من روحه، أو أنها ذوب روحه، أو أنه أودع فيها روحه، للتدليل على ما بذله فيها من جهد فني أو صرفه عليها من طاقة، ومن الطبيعي أن ذلك لا يصلح للانطباق على أفعال الله بشكل دقيق، على أساس المعنى الحقيقي للكلمة، لأن الجهد لا معنى له فيما يخلقه الله، ولكنه يتجسّد في مظهر القدرة وعظمة الخلق؛ وبهذا يكون التعبير بالروح التي نفخها الله في الجسد أو اعتبرها المخلوق نفسه، كناية عن قدرة الله التي بها يخلق ما يخلق، ويبدع ما يبدع.
6. تلك هي صفة عيسى عليه السّلام التي يريد الله للمؤمنين أن يتمثلوها في إيمانهم، لأنها تمثل الصفة الواقعية التي ترتفع عن الغلو، وتنسجم مع طبيعة الأشياء، ثم يدعوهم ـ من خلال ذلك ـ إلى الإيمان بالله ورسله.
7. ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾ وإلى الامتناع عن القول بالتثليث؛ ﴿انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ فإن ذلك خير لهم، لأن الله إله واحد، تعالى عن أن يكون له ولد، سواء في ذلك ما يعطيه ويدل عليه لفظ الابن في المفهوم البشري من التولّد عن طريق التناسل، مما يستتبع وجود الزوجة، أو ما يحاول بعض المتفلسفين في المسيحية أن يحملوه عليه، وهو التولّد الذاتي الذي يجعل له الطبيعة الإلهية المستمدة من الأب، فإن ذلك كله مستحيل في حقه ـ كما سنرى في الحديث ـ وبهذا تلتقي آيات التثليث بالآيات التي تجعل لله الابن، كما في الآية الكريمة المتقدمة ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾
8. ونلاحظ ـ في هذا المجال ـ أن القرآن اتخذ في أسلوب الرد على هذه الفكرة، طريقة التركيز على عظمة الله وتنزيهه عن ذلك بما توحيه كلمة (سبحانه)، ثم محاولة إلفات الإنسان إلى أن الله هو مالك السموات والأرض وما فيهن، وأن كل ما فيهن قانت له خاضع لإرادته، وأنه مبدع كل شيء ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ فهو لا يحتاج في إيجاد أي شيء ـ مهما عظم ـ إلا إلى تعلق إرادته به التي تعبّر عنها كلمة الإيجاد، وهي قوله: ﴿لَكِنِ﴾
9. وإذا كانت القضية على هذا الأساس، فأيّة حاجة به إلى جعل الولد بأيّ معنى كان؟ وما معنى التثليث بعد ذلك؟ ويلتقي هذا الأسلوب، بالطريقة القرآنية العامة التي لا تميل إلى التعقيد في مجالات الاحتجاج، بل تتبع سبيل التبسيط والتسهيل الذي يخاطب الفطرة الصافية عن قرب، لأن ذلك هو السبيل الصحيح للإيمان الحق، حيث يهيّئ الجو للفطرة أن تمتد وتتحرك من أجل الوصول إلى الحقيقة من أقرب طريق.. وبهذا ندرك أن القرآن الكريم لم يدخل مع هؤلاء في جدل فلسفي حول قضية التثليث والوحدة وما يلزم ذلك أو يستتبعه من الوقوع في الفروض المستحيلة، بل اكتفى بالتأكيد على الوحدة التي يقرها هؤلاء، وتقتضيها الأدلة، ثم أطلق النهي عن القول بالتثليث، وأكّد كفر القائلين به، لأنه يتنافى مع التوحيد الذي يرفض تعدد مظاهر الطبيعة الواحدة، كما يفرض تعدد الطبائع؛ فإن التوحيد الإلهي، لا يلتقي بأيّ معنى من هذه المعاني.
10. وترك للفطرة أن تقارن ـ بعد ذلك ـ وتحكيم، دون أن يحدّد لها تفاصيل المقارنة والحكم، انطلاقا من المنهج القرآني الذي يحاول أن يشقّ الطريق للفكر ويدلّه على المنهج، ثم يدع له أمر سلوكه أو الاطلاع على ما فيه، والاستفادة من كل ذلك في كل ما يريد؛ ذلك هو الخط العريض للفكرة، من وجهة عامة.
11. أمّا قضية المسيح عيسى ابن مريم بالذات، فلا يمكن أن يتصور فيها ذلك، مع غضّ النظر عن استحالة الفكرة في ذاتها، لأن فكرة ابن الله تلتقي مع فكرة أنه الله، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم من حديث، وكيف يمكننا أن نقرّ بذلك فيما يتصف بكل خصائص البشرية ولوازمها، تماما كأيّ بشر عادي؟ وقد ركّز القرآن في أكثر من آية على استعراض الخصائص البشرية في وجود عيسى منذ ولادته إلى أن رفعه الله إليه، ثم أفاض في وصف ولادته وما أحاط بها من العوارض التي عرضت له في حياته، كجسد يتأثر بكل ما يتأثّر به الجسد في دائرة الحياة والموت، مما يتنافى مع أية طبيعة إلهية.
12. أما قصة ولادته الخارجة عن نواميس الطبيعة العادية، وما قام به من معاجز وخوارق، فلا يمكن اعتبارها دليلا على الجانب الإلهي فيه، لأن موضوع الولادة غير المألوفة كان متمثلا في آدم قبله، بصورة أكثر من ذلك، إذ ليس لآدم ولادة بالمعنى الطبيعي للولادة، أما الخوارق، فقد حدثت على أيدي الأنبياء باعتراف كتب العهدين، من دون أن يكون في هذا أو ذاك ما يوجب اعتبار آدم إلها، أو القول بألوهية الأنبياء.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/555.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تتطرق هذه الآية والآية التي تليها إلى واحد من أهم انحرافات الطائفة المسيحية، وهذا الانحراف هو اعتقاد المسيحيين بالتثليث، أي وجود آلهة ثلاثة.. فهذه الآية تحذر في البداية أهل الكتاب من المغالاة والتطرف في دينهم، وتدعوهم أن لا يقولوا على الله غير الحق: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾
2. لقد كانت قضية الغلو في حق القادة السابقين إحدى أخطر منابع الانحراف في الأديان السماوية، فالإنسان بما أنّه يميل إلى ذاته يندفع بهذا الميل إلى إظهار زعمائه وقادته بصورة أكبر ممّا هم عليه، لكي يضفي على نفسه الأهمية والعظمة من خلال هؤلاء القادة، وقد يدفع الإنسان التصور الواهي بأن الإيمان هو المبالغة والغلو في احترام وتعظيم القادة ـ إلى الوقوع في متاهات هذا النوع من الانحراف الرهيب.
3. والغلو في أصله ينطوي على عيب كبير يفسد العنصر الأساسي للدين ـ الذي هو عبادة الله وتوحيده ـ ولهذا السبب فقد عامل الإسلام الغلاة أو المغالين بعنف وشدّة، إذ عرفت كتب الفقه والعقائد هذه الفئة من الناس بأنّهم أشد كفرا من الآخرين.
4. بعد ذلك تشير الآية الكريمة إلى عدّة نقاط، يعتبر كل واحد منها في حدّ ذاته دليلا على بطلان قضية التثليث، وعدم صحة الوهية المسيح عليه السّلام، وهذه النقاط هي:
أ. لقد حصرت الآية بنوة السيد المسيح عليه السّلام بمريم عليها السّلام ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾، وإشارة البنوة ـ هذه الواردة في ستة عشر مكانا من القرآن الكريم ـ إنّما تؤكّد أنّ المسيح عليه السّلام هو إنسان كسائر الناس، خلق في بطن امّه، ومرّ بدور الجنين في ذلك الرحم، وفتح عينيه على الدنيا حين ولد من بطن مريم عليها السّلام كما يولد أفراد البشر من بطون أمهاتهم ومرّ بفترة الرضاعة وتربى في حجر امّه، ممّا يثبت بأنّه امتلك كل صفات البشر فكيف يمكن ـ وحالة المسيح عليه السّلام هذه ـ أن يكون إلها أزليا أبديا، وهو في وجوده محكوم بالظواهر والقوانين المادية الطبيعية ويتأثر بالتحولات الجارية في عالم الوجود!؟ وعبارة الحصر التي هي (إنّما) الواردة في الآية تحصر بنوة المسيح عليه السّلام بمريم عليها السّلام وتؤكّد على أنّه وإن لم يكن له والد، فليس معنى ذلك أن أباه هو الله، بل هو فقط ابن مريم عليها السّلام.
ب. تؤكّد الآية الكريمة أنّ المسيح عليه السّلام هو رسول الله ومبعوث إلى البشر من قبله سبحانه وتعالى، وإن هذه المنزلة ـ أي منزلة النّبوة ـ لا تتناسب ومقام الألوهية، والجدير بالذكر هو أنّ معظم كلام المسيح عليه السّلام الوارد قسم منه في الأناجيل المتداولة في الوقت الحاضر، إنّما يؤكّد نبوته وبعثته لهداية الناس، وليس فيه دلالة على ادعائه الألوهية والربوبية.
ج. تبيّن الآية أن عيسى المسيح عليه السّلام هو كلمة الله التي ألقاها إلى مريم عليها السّلام حيث تقول: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾، وقد وردت عبارة: (كلمة) في وصف المسيح في عدد من الآيات القرآنية، وهذه إشارة إلى كون المسيح مخلوقا بشريا، إذ أن الكلمات مخلوقة من قبل الله، كما أنّ الموجودات في الكون من مخلوقاته عزّ وجلّ، فكما أن الكلمات تبيّن مكنونات أنفسنا ـ نحن البشر ـ وتدل على صفاتنا وأخلاقياتنا، فإنّ مخلوقات الكون تحكي صفات خالقها وجماله وتدل على جلاله وعظمته، وعلى هذا الأساس فقد وردت عبارة (كلمة) في عدد من العبارات القرآنية، لتشمل جميع مخلوقات الله، كما في الآية من سورة الكهف والآية من سورة لقمان، وبديهي أنّ الكلمات الإلهية تتفاوت بعضها مع البعض في المنزلة والأهمية وعيسى عليه السّلام يعتبر إحدى كلمات الله البارزة الأهمية، لكونه ولد من غير أب، إضافة إلى كونه يتمتع بمقام الرسالة الإلهية.
د. تشير الآية إلى أنّ عيسى المسيح عليه السّلام هو روح مخلوقة من قبل الله ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ وهذه العبارة التي وردت في شأن خلق آدم ـ أو بعبارة أخرى خلق البشر أجمعين ـ في القرآن الكريم، إنما تدل على عظمة تلك الروح التي خلقها الله تعالى وأودعها في أفراد البشر بصورة عامّة، وفي المسيح عليه السّلام وسائر الأنبياء بصورة خاصّة، وعلى الرغم من أنّ البعض أساء الاستفادة من هذه العبارة وفسّرها بأنّ المسيح عليه السّلام هو جزء من الله سبحانه وتعالى، مستندا إلى عبارة (منه) ولكن الواضح في مثل هذه الحالات أن كلمة (من) ليست للتبعيض، بل تدل على مصدر ومنشأ وأصل وجود الشيء وهناك طرفة تاريخية تذكر أنّه كان لهارون الرشيد طبيب نصراني، دخل يوما في نقاش مع (علي بن الحسين الواقدي) وهو أحد المفكرين الإسلاميين في ذلك العصر، فقال له هذا الطبيب: (توجد في كتابكم السماوي آية تبيّن أنّ المسيح عليه السّلام هو جزء من الله..) وتلا هذا النصراني الآية الكريمة، فرد عليه (الواقدي) مباشرة تاليا هذه الآية: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾، وأضاف مبيّنا أنّ كلمة (من) لو كانت تفيد التبعيض، لاقتضى ذلك أن تكون جميع موجودات السماء والأرض ـ بناء على هذه الآية ـ جزءا من الله، فلما سمع الطبيب النصراني كلام الواقدي أسلم في الحال، وسر إسلامه هارون الرشيد فكافأ الواقدي بجائزة مناسبة.
5. إنّ ما يثير العجب ـ إضافة إلى ما ذكر ـ هو أنّ المسيحيين يرون ولادة المسيح من أمّ دون أب دليلا على ألوهيته، وهم ينسون في هذا المجال أن آدم عليه السّلام كان قد ولد من غير أب، ولا أم، ولم ير أحد هذه الخصيصة الموجودة في آدم دليلا على ربوبيته.
6. بعد ذلك تؤكّد الآية على ضرورة الإيمان بالله الواحد الأحد وبأنبيائه، ونبذ عقيدة التثليث، مبشرة المؤمنين بأنّهم إن نبذوا هذه العقيدة فسيكون ذلك خيرا لهم حيث قالت الآية: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾.
7. وتعيد الآية التأكيد على وحدانية الله قائلة: ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ وهي تخاطب المسيحيين لأنّهم حين يدعون التثليث يقبلون ـ أيضا ـ بوحدانية الله، فلو كان لله ولد لوجب أن يكون شبيهه، وهذه حالة تناقض أساس الوحدانية، فكيف ـ إذن ـ يمكن أن يكون لله ولد، وهو منزّه من نقص الحاجة إلى زوجة أو ولد، كما هو منزّه من نقائص التجسيم وأعراضه؟ تقول الآية: ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ والله هو مالك كل ما في السموات وما في الأرض والموجودات كلها مخلوقاته وهو خالقها جميعا، والمسيح عليه السّلام ـ أيضا ـ واحد من خلق الله، فكيف يمكن الادعاء بهذا الاستثناء فيه؟ وهل يمكن المملوك والمخلوق أن يكون ابنا للمالك والخالق!؟ حيث تؤكد الآية: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ والله هو المدبر والحافظ والرازق والراعي لمخلوقاته: ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾، والحقيقة هي أنّ الله الأزلي الأبدي الذي يرعى جميع الموجودات منذ الأزل إلى الأبد لا يحتاج مطلقا إلى ولد، فهل هو كسائر الناس لكي يحتاج إلى ولد يخلفه من بعد الموت؟
8. ليس في الانحرافات التي تورط بها العالم المسيحي أكبر من انحراف عقيدة التثليث، لأنّ المسيحيين يعتقدون صراحة بالثالوث الإلهي، وهم في نفس الوقت يصرحون بأن الله واحد! أي أنّهم يرون الحقيقة في التثليث والتوحيد في أن واحد، وقد خلقت هذه القضية ـ التي لها حدان متناقضان ـ مشكلة كبيرة للمفكرين والباحثين المسيحيين، فلو كان المسيحيون مستعدين لقبول مسألة التوحيد بأنّها (مجازية) وقبول مسألة التثليث بأنّها مسألة حقيقية أو قبول العكس، لأمكن تبرير هذا الأمر، ولكنهم يرون الحقيقة في الجمع بين هذين المتناقضين، فيقولون أن الثلاثة واحد كما يقولون أن الواحد ثلاثة في نفس الوقت.
9. وما يلاحظ من ادعاء في الكتابات التبشيرية الأخيرة للمسيحيين، والتي توزع للناس الجهلاء، من أن التثليث شيء مجازي، إنّما هو كلام مشوب بالرياء ولا يتلاءم مطلقا مع المصادر الأساسية للمسيحية، كما لا يتفق مع الآراء والمعتقدات الحقيقية للمفكرين المسيحيين.
10. ويواجه المسيحيون ـ هنا ـ قضية لا تتفق مع العقل فالمعادلة التي افترضوا فيها أن 1 3 لا يقبلها حتى الأطفال الذين هم في مرحلة الدراسة الابتدائية، ولهذا السبب ادعوا أنّ هذه القضية لا تقاس بمقياس العقل، وطلبوا الإذعان بها عبر ما سمّوه بالرؤية التعبدية القلبية، وكان هذا التناقض منشأ للتباعد الحاصل لديهم بين الدين والعقل، وسببا لجر الدين إلى متاهات خطيرة، الأمر الذي اضطرهم إلى القول بأن الدين ليس له صلة بالعقل، أو ليس فيه الطابع العقلاني، وأنّه ذو طابع تعبدي محض، وهذا هو أساس التناقض بين الدين والعلم في منطق المسيحية، فالعلم يحكم بأنّ الثلاثة لا تساوي الواحد، والمسيحية المعاصرة تصر على أنّهما متساويان! ويجب الالتفات ـ هنا ـ إلى عدّة نقاط حول هذا الإعتقاد المسيحي:
أ. لم يشر أي من الأناجيل المتداولة في الوقت الحاضر إلى مسألة التثليث لذلك يعتقد الباحثون المسيحيون أنّ مصدر التثليث في الأناجيل خفي وغير بارز، وفي هذا المجال يقول الباحث الأمريكي المستر هاكس: (إنّ قضية التثليث تعتبر في العهدين القديم والجديد خفية وغير واضحة) وذكر المؤرّخون أنّ قضية التثليث قد برزت بعد القرن الثّالث الميلادي لدى المسيحيين وإن منشأ هذه البدعة كان الغلو من جانب، واختلاط المسيحيين بالأقوام الأخرى من جانب آخر، ويرى البعض احتمال أن يكون مصدر التثليث عند المسيحيين واردا من عقيدة الثالوث الهندي، أي عبادة الهنود للآلهة الثلاثة.
ب. إنّ قضية التثليث القائلة بأن الثلاثة واحد تعتبر أمرا غير معقول أبدا، ويرفضها العقل بالبداهة، والشيء الذي نعرفه هو أن الدين لا يمكنه أن يكون منفصلا عن العقل والعلم، فالعلم الحقيقي والدين الواقعي كلاهما متفقان ومتناسقان دائما ـ ولا يمكن القول بأن الدين أمر تعبدي محض ـ لأننا لو أزحنا العقل جانبا عند قبول مبادئ الدين وأذعنا للعبادة العمياء الصماء، فلا يبقى لدينا ما نميز به بين الأديان المختلفة، وفي هذه الحالة، أي دليل يوجب على الإنسان أن يعبد الله ولا يعبد الأصنام؟ وأي دليل يدعو المسيحيين إلى التبشير لدينهم لا للأديان الأخرى؟ ومن هذا المنطلق فإن الخصائص التي يراها المسيحيون لدينهم ويصرّون على دعوة الناس للقبول بها، هي بحدّ ذاتها دليل على أن الدين يجب أن يعرف بمنطق العقل، وهذا يناقض دعواهم حول قضية التثليث التي يرون فيها انفصال الدين عن العقل، وليس هناك كلام يستطيع تحطيم الدين أشد وأقبح من أن يقال: إن الدين لا يمتلك طابعا عقلانيا ومنطقيا، وأنّه ذو طابع تعبدي محض!
ج. إنّ الأدلة العديدة التي يستشهد بها ـ في مجال إثبات التوحيد، ووحدانية الذات الإلهية ـ ترفض كل أنواع التثنية أو التثليث ـ فالله سبحانه وتعالى هو وجود مطلق لا يحد بالجهات، وهو أزلي أبدي لا حدود لعلمه ولقدرته ولقوته. وبديهي أنّه لا يمكن تصور التثنية في اللامتناهي، لأنّ فرض وجود لا متناهيين يجعل من هذين الإثنين متناهيين ومحدودين، لأن وجود الأوّل يفتقر إلى قدرة وقوة ووجود الثّاني كما أن وجود الثّاني يفتقر إلى وجود وخصائص الأوّل، وعلى هذا الأساس فإن كلا الوجودين محدودان، وبعبارة أخرى: إنّنا لو افترضنا وجود لا متناهيين من جميع الجهات، فلا بدّ حين يصل اللامتناهي الأوّل إلى تخوم اللامتناهي الثّاني ينتهي إلى هذا الحد كما أن اللامتناهي الثّاني حين يصل إلى حد اللامتناهي الأوّل ينتهي هو أيضا، وعلى هذا الأساس فإن كليهما يكونان محدودين ولا تنطبق صفة اللامتناهي على أي منهما، بل هما متناهيان محدودان، والنتيجة هي أن ذات الله ـ الذي هو وجود لا متناه ـ لا يمكن أن تقبل التعدد أبدا، وهكذا فإنّنا لو اعتقدنا بأن الذات الإلهية تتكون من الأقانيم الثلاثة، لا يستلزم أن يكون كل من هذه الأقانيم محدودا، ولا تصح فيه صفة اللامحدود واللامتناهي، وكذلك فإن أي مركب في تكوينه يكون محتاجا إلى أجزائه التي تكونه، فوجود المركب يكون معلولا لوجود أجزائه، وإذا افتراضنا التركيب في ذات الله لزم أن تكون هذه الذات محتاجه أو معلولة لعلّة سابقة في حين إنّنا نعرف أنّ الله غير محتاج، وهو العلّة الأولى: لعالم الوجود، وعلّة العلل كلها منذ الأزل وإلى الأبد.
د. بالإضافة إلى كل ما ذكر، كيف يمكن للذات الإلهية أن تتجسد في هيكل إنساني لتصبح محتاجة إلى الجسم والمكان والغذاء واللباس وأمثالها؟ إنّ فرض الحدود لله الأزلي الأبدي، أو تجسيده في هيكل إنسان ووضعه جنينا في رحم أمّ، يعتبر من أقبح التهم التي تلصق بذات الله المقدسة المنزهة عن كل النقائص، كما أنّ افتراض وجود الابن لله ـ وهو يستلزم عوارض التجسيم المختلفة ـ إنما هو افتراض غير منطقي وبعيد عن العقل بعدا مطلقا، بدليل أنّ أي إنسان لم ينشأ في محيط مسيحي ولم يتربّ منذ طفولته على هذه التعليمات الوهمية الخاطئة عندما يسمع هذه التعابير المنافية للفطرة الإنسانية والمخالفة لما يحكم به العقل البشري، يشعر بالسخط والاشمئزاز، وإذا كان المسيحيون أنفسهم لا يرون بأسا في كلمات مثل (الله الأب) و(الله الابن) فما ذلك إلّا لأنّهم جبلوا على هذه التعاليم الخاطئة منذ نعومة أظفارهم.
هـ. لوحظ في السنين الأخيرة أنّ جماعة من المبشرين المسيحيين يلجؤون إلى أمثلة سفسطائية من أجل خداع الجهلاء من الناس في قبول قضية التثليث، من هذه الأمثلة قولهم أن اجتماع التوحيد والتثليث معا يمكن تشبيهه بقرص الشمس والنور والحرارة النابعتين من هذا القرص، حيث أنّها ثلاثة أشياء في شيء واحد، أو تشبيههم ذلك بانعكاس صورة إنسان في ثلاث مرايا في آن واحد، فهذا الإنسان مع كونه واحدا إلّا أنّه يظهر وكأنّه ثلاثة في المرايا الثلاث، كما يشبهون التثليث بالمثلث الذي له ثلاث زوايا من الخارج، ويقولون بأنّ هذه الزوايا لو مدت من الدخل لوصلت كلها إلى نقطة واحدة!؟ لكننا بالتعمق قليلا في هذه الأمثلة يتبيّن لنا أن لا صلة لها بموضوع بحثنا الحاضر، فقرص الشمس شيء ونورها شيء آخر والنور الذي يتكون من الأشعة فوق الحمراء يختلف عن الحرارة التي تتكون من الأشعة دون الحمراء، وهذه الأشياء الثلاثة تختلف الواحدة منها عن الأخرى من حيث النظرة العلمية، وهي ليست بمجموعها شيئا واحدا من خلال هذه النظرة، وإذا صح القول بأنّ هذه الأشياء الثلاثة شيء واحد، إنّما يكون ذلك من باب التسامح أو التعبير المجازي ليس إلّا، والأوضح من ذلك مثال الجسم والمرايا الثلاث، فالصورة الموجودة في المرايا عن الجسم ليست إلّا انعكاسا للنور، وبديهي أنّ انعكاس النّور عن جسم معين غير ذات الجسم، وعلى هذا الأساس فليس هناك أي اتحاد حقيقي أو ذاتي بين الجسم وصورته المنعكسة في المرآة، وهذه قضية يدركها حتى الدارس المبتدي لعلم الفيزياء، أمّا في مثال المثلث فالأمر واضح كما في المثالين السابقين، حيث أن زوايا المثلث المتعددة لا علاقة لها بالبداهة بالامتداد الداخلي الحاصل للزوايا، والذي يوصلها جميعا إلى نقطة واحدة، والذي يثير العجب ـ أكثر من ذلك ـ هو محاولة بعض المسيحيين المستشرقين مطابقة قضية (التوحيد في التثليث) مع نظرية (وحدة الوجود) التي يقول بها الصوفيون والأمر الواضح من غير دليل ـ في هذا المجال ـ هو إنّما لو قبلنا بالنظرية الخاطئة والمنحرفة القائلة بوحدة الوجود، لاقتضى ذلك منّا أن نذعن بأن كل موجودات العالم أو الكون هي جزء من ذات الله سبحانه وتعالى، بل الإذعان بأنّها هي عين ذاته، عند ذلك لا يبقى معنى للتثليث، بل تصبح جميع الموجودات ـ صغيرها وكبيرها ـ جزءا أو مظهر الله سبحانه، وعلى هذا الأساس فلا يمكن تطابق نظرية التثليث المسيحية بالنظرية الصوفية القائلة بوحدة الوجود بأي شكل من الأشكال، علما بأن النظرية الصوفية هذه قد دحضت وبان بطلانها.
و. يقول بعض المسيحيين ـ أحيانا ـ إنّها حين يسمّون المسيح عليه السّلام بـ (ابن الله) إنّما يفعلون ذلك كما يفعل المسلمون في تسمية سبط الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السّلام بـ (ثار الله وابن ثاره) أو كالتسمية التي وردت في بعض الروايات لعلي بن أبي طالب عليه السّلام حيث سمى فيها بـ (يد الله)، وهؤلاء المسيحيون يفسرون كلمة (ثار) بأنّها تعني الدم، أي أنّ العبارة الواردة في الحسين الشهيد عليه السّلام تعني (دم الله وابن دمه)، إنّ هذا الأمر هو عين الخطأ:
• أوّلا: لأنّ العرب لم تطلق كلمة الثأر أبدا لتعني بها الدم، بل اعتبرت الثأر دائما ثمنا للدم، ولذلك فإن معنى العبارة أن الله هو الذي يأخذ ثمن دم الحسين الشهيد، وأن هذا الأمر منوط به سبحانه وتعالى، أي أنّ الحسين عليه السّلام لم يكن ملكا أو تابعا لعشيرة أو قبيلة معينة لتطالب بدمه، بل هو يخص العالم والبشرية جمعاء ويكون تابعا لعالم الوجود وذات الله المقدسة، ولذلك فإن الله هو الذي يطالب ويأخذ ثمن دم هذا الشهيد ـ كما أن الحسين هو ابن علي بن أبي طالب عليه السّلام الذي استشهد في سبيل الله، والله هو الذي يطالب ويأخذ ثمن دمه أيضا.
• وثانيا: حين يعبّر في بعض الأحيان عن بعض أولياء الله بعبارة (يد الله) فإن هذا التعبير ـ حتما ـ من باب التشبيه والكناية والمجاز ليس إلّا، فهل يجيز أي مسيحي لنفسه أن يقال في عبارة (ابن الله) الواردة عندهم في حق المسيح عليه السّلام أنّها ضرب من المجاز والكناية؟ بديهي أنّه لا يقبل ذلك، لأنّ المصادر المسيحية الأصلية اعتبرت صفة البنوة لله سبحانه منحصرة بالمسيح عليه السّلام وحده وليس في غيره، واعتبروا تلك الصفة حقيقية لا مجازية، وما بادر إليه بعض المسيحيين من الادعاء بأن هذه الصفة هي من باب الكناية أو المجاز، إنّما هو من أجل خداع البسطاء من الناس، ولإيضاح هذا الأمر نحيل القاري إلى كتاب (القاموس المقدس) في مادة (الله) حيث يقول هذا الكتاب بأنّ عبارة (ابن الله) هي واحدة من القاب منجي ومخلص وفادي المسيحيين، وأن هذا اللقب لا يطلق على أي شخص آخر إلّا إذا وجدت قرائن تبيّن بأنّ المقصود هو ليس الابن الحقيقي للّه.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/546.
148. المسيح والملائكة والعبودية لله
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈148⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ [النساء: 172]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ﴾، قال لن يستكبر(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٢٤.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قيل له: ما المقربون؟ قال: أقربهم إلى السماء الثانية(1).
2. روي أنّه قال: ﴿جَمِيعًا﴾، البر، والفاجر(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٧٠٨.
(2) ابن أبي حاتم ٤/١١٢٤.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾، لن يحتشم المسيح أن يكون عبدا لله، ولا الملائكة المقربين(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٧٠٨.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ﴾ معناه لن يأنف(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 124.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: إن وفد نجران قالوا: يا محمد، تعيب صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟)، قالوا: عيسى، قال: وأي شيء أقول فيه؟)، قالوا: تقول: إنه عبد الله ورسوله، فقال لهم: (إنه ليس بعار لعيسى أن يكون عبدا لله)، قالوا: بلى، فنزلت: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ﴾ الآية(1).
__________
(1) أورده الواحدي في أسباب النزول ص ١٨٧.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم قال عز وجل: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ﴾ يعني: لن يأنف ﴿أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا﴾ يستنكف ﴿الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ أن يكونوا عبيدا لله؛ ليعتبروا بكون الملائكة أقرب إلى الله عز وجل منزلة من عيسى ابن مريم وغيره، فإن عيسى عبد من عباده(1).
3. روي أنّه قال: ثم أوعد النصارى، فقال: ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ﴾ يعني: ومن يأنف ﴿عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ﴾ يعني: من يأنف عن عبادة الله، يعني: التوحيد، ﴿وَيَسْتَكْبِرْ﴾ يعني: ويتكبر عن العبادة؛ ﴿فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾، فلم يستنكف ويستكبر غير إبليس(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢٥.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ تكلم الناس في هذه الآية: قال الحسن: فيه دليل تفضيل الملائكة على البشر؛ لأنه قال عز وجل: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾؛ لأن الثاني يخرج مخرج التأكيد للأول، وأبدًا إنما يذكر ما به يؤكد؛ إذا كان أفضل منه وأرفع، لا يكون التأكيد بمثله ولا بما دونه؛ كما يقال: لا يقدر أن يحمل هذه الخشبة واحد ولا عشرة، ولا يعمل هذا العمل واحد ولا عدد؛ فهو على التأكيد يقال؛ فعلى ذلك:
أ. الأول: خرج ذكر الملائكة على أثر ذكر المسيح؛ على التأكيد، وأبدًا إنما يقع التأكيد بما هو أكبر، لا بما دونه.
ب. الثاني: قال: ﴿لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾، وقال عز وجل: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾، وقالوا: فكيف يستوي حال من يعصي مع حال من لا يعصي!؟ وحال من لا يفتر عن عبادته طَرْفَةَ عَيْنٍ مع حال من يرتكب المناهي!؟
ج. الثالث: ما قال الله تعالى حكاية عن إبليس؛ حيث قال لآدم وحواء عليهما السلام ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾، لو لم يكن للملائكة فضل عندهم ومنزلة ـ ليس ذلك للبشر ـ لم يكن إبليس بالذي يغرهما بذلك الملك والوعد لهما أنهما يصيران مَلَكَينِ، ولا كان آدم وحواء باللَّذين يغتران بذلك ـ دل أن الملك أفضل من البشر.
د. الرابع: أن الأنبياء ـ صلى الله عليهم وسلم ـ ما استغفروا لأحد، إلا بدءوا بالاستغفار لأنفسهم ثم لغيرهم من المؤمنين؛ كقول نوح صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ الآية، وكقول إبراهيم عليه السلام ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وما أمر الله عز وجل نبيه محمدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم بالاستغفار؛ فقال: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ الآية، وقال: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾، وما أمر بذلك، وما فعلوا ذلك؛ إلا ما يحتمل ذلك فيهم، والملائكة لم يستغفروا لأنفسهم؛ ولكنهم طلبوا المغفرة للمؤمنين من البشر؛ كقوله: ﴿فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾
2. وإلى هذا ذهب بعض الناس: بتفضيلهم الملائكة على البشر، وقال آخرون بتفضيل البشر على الملائكة، ولا يجب أن يتكلم في تفضيل البشر على الإطلاق على الملائكة؛ لأنهم يعملون بالفساد وبكل فسق، إلا أن يتكلم في تفضيل أهل الفضل من البشر والمعروف منهم بذلك ـ على الملائكة؛ فذلك يحتمل أن يتكلم فيه، ويذهب من قال بتفضيل من ذكرنا من البشر على الملائكة ـ إلى أنه: ليس في قوله تعالى: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ ـ دلالة على أن الملائكة كلهم أفضل منهم؛ لأنه إنما ذكر (المقربون)، لم يذكر الملائكة مطلقًا؛ فيجوز أن يكون لمن ذكر فضل على البشر، وكلامنا في تفضيل الجوهر على الجوهر، ولأن البشر ركب فيهم من الشهوات والأماني التي تدعوهم إلى ما فيه الخلاف لله والمعصية له، وجعل لهم أعداء أمروا بالمجاهدة معهم، من نحو: أنفسهم، والشياطين الذين سلطوا عليهم، ولا كذلك الملائكة؛ فمن حفظ نفسه، وصانها، وأخلصها من بين الأعداء، وقمع ما ركب فيهم من الشهوات، والحاجات الداعية إلى الخلاف لله والمعصية له ـ كان أفضل ممن لا يشغله شيء من ذلك.
3. وما ذكر من اغترار آدم وحَواء بقول إبليس: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾ لا يحتمل أن يكون آدم لما خلقه من جوهر البشر، وأخبر أنه جعله خليفة في الأرض أنه يتناول ما نهي عنه؛ ليصير من جوهر الملائكة، ولكنه رأي أن الملائكة طبعوا على حب العبادة لله، ولم يركب فيهم من الشهوات والحاجات التي تشغل المرء عن العبادة لله والطاعة له ـ فأحب أن يطبع بطبعهم؛ ليقوم بعبادة الله كما قاموا هم.
4. والتكلم في مثل هذا فضل؛ ذلك إلى الله تعالى، وإليه التخيّر والإفضال.
5. ثم تأويل قوله عز وجل والله أعلم ـ: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾: وذلك أنهم كانوا يعبدون الملائكة دون الله، ويعبدون المسيح دونه؛ فأخبر أن أُولَئِكَ الذين تعبدونهم أنتم لم يستنكفوا عن عبادتي؛ فكيف تستنكفون أنتم!؟
6. ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ فهو على الإضمار؛ كأنه قال ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر، ومن لم يستنكف عن عبادته ولم يستكبر؛ فسيحشرهم إليه جميعًا.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٢٨.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ﴾ لم يأنف، وأصله في اللغة من نكفت الدمع: إذا نحيته بإصبعك من خدك، قال الشاعر:
çفباتوا فلولا ما تذكر منهم...من الخلف لم ينكف لعينيك مدمعé
فتأويل ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ﴾ لن ينقبض ولن يمتنع، فمعنى الآية (لن يستكبر المسيح ان يكون عبداً) بمعنى من ان يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون، ومعناه ولا يستنكف الملائكة أيضاً، ولا يأنفون، ولا يستكبرون من الإقرار لله بالعبودية، والإذعان له بذلك.
2. (المقربون) الذين قربهم ورفع منازلهم على غيرهم من خلقه، وقال الضحاك: المقربون معناه انه قربهم إلى السماء الثانية.
3. ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ﴾ معناه من يأنف من عبادة الله، ويتعظم عن التذلل والخضوع له، والطاعة له من جميع خلقه.
4. ﴿فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾، ومعناه فسيبعثهم يوم القيام جميعاً يجمعهم لموعدهم عنده، ومعنى إليه إلى الموضع الذي لا يملك التصرف فيه سواه، كما يقال صار أمر فلان إلي القاضي أي لا يملكه غير القاضي، ولا يراد بذلك المكان الذي فيه القاضي.
5. استدل قوم بهذه الآية على أن الملائكة أفضل من الأنبياء قالوا: لا يجوز أن يقول القائل: لا يأنف الأمير أن يركب إليّ ولا غلامه، وإنما يجوز أن يقال: لا يأنف الوزير أن يركب إليّ ولا الأمير، فيعطف بعالي الرتبة على الأدون، ولا يعطف بالادون على الأعلى، وهذا الذي ذكروه لا دلالة فيه من وجوه:
أ. أحدها: ان يكون هذا القول متوجهاً إلى قوم اعتقدوا أن الملائكة أفضل من الأنبياء، فأجرى الكلام على اعتقادهم، كما يقول القائل لغيره: لا يستنكف أبي من من كذا، ولا أبوك، وإن كان القائل يعتقد أن أباه أفضل.
ب. الثاني: انه لا تفاوت بين الأنبياء والملائكة التفاوت البعيد كتفاوت الأمير والحارس، وما يجري مجرى ذلك، ويجوز أن يقدم الفاضل ويؤخر المفضول، إلا ترى أنك تقول: لا يستنكف الأمير فلان من كذا، ولا الأمير فلان؟ وان كان الاول أفضل.
ج. والثالث: انه اخر ذكر الملائكة، لأن جميع الملائكة اكثر ثواباً لا محالة من المسيح منفرداً فمن أين ان كل واحد منهم أفضل من المسيح، أو غيره من الأنبياء؟
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/405.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الاستنكاف: الأَنَفَةُ من الشيء وأصله الامتناع من الشيء أنفة منه، يقال: نكفت الدمع: إذا أنحيته بأصبعك عن خدك أنفة أن يُرى أثر البكاء عليك، ثم كثر حتى قيل لكل ما نحى الدمع: نكف، قال الشاعر:
çفَبَانُوا وَلَوْلاَ مَا تَذكَّرُ مِنْهُمُ...من الحِلْفِ لم يُنْكَفْ لِعَيْنَيْكَ مَدْمَعُé
ودرهم منكوف: مبهرج رديء؛ لأنه يمتنع من أخذه لرداءته، واستنكفت من الأمر ونَكِفْتُ بكسر الكاف أيضًا: أنفت منه، حكاها أبو عمرو.
ب. الاستكبار: طلب الكبر من غير استحقاق، والتكبر يكون باستحقاق؛ فلذلك يجوز في صفة الله تعالى التكبر، ولا يجوز الاستكبار.
2. روي أن وفد نجران قالوا: يا محمد، لم تسب صاحبنا؟ قال: (وَمَنْ صاحبكم)؟ قالوا: عيسى، قال: (وأي شيء أقول فيه)؟ قالوا: تقول: إنه عبد الله ورسوله، فقال: (ليس بِعَارٍ بعيسى أن يكون عبدًا لله)، قالوا: بلى، فنزلت الآية.
3. لما تقدم الحكاية عن النصارى في أمر المسيح عقبه بالرد عليهم، فقال تعالى: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ﴾:
أ. أي: لن يأنف.
ب. وقيل: لن يتكبر.
ج. وقيل: لا يمتنع أن يصف نفسه بذلك.
4. ﴿الْمَسِيحُ﴾، يعني: عيسى ﴿أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ﴾؛ لأن استحقاق العبودية بأصول النعم التي لا يقدر عليها غير الله تعالى كالخلق والإحياء والرزق ونحو ذلك، وعيسى مخلوق لله منعم عليه بجميع النعم، فاستحق عليه العبادة.
5. ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ أي: ولا يستنكف الملائكة أن يكونوا عبيدًا لله، فرد على مشركي العرب قولهم: إن الملائكة بنات الله، وعلى من قال إنهم آلهة كما ود على النصارى؛ لأن الملائكة في استحقاق العبودية عليهم كعيسى وسائر الخلق، و﴿الْمُقَرَّبُونَ﴾ أراد القرب في المنزلة والرفعة لا في المكان.
6. ثم عقب بالوعيد فقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ أي: يأنف عن الإقرار بالعبودية، ﴿وَيَسْتَكْبِرْ﴾ عن الإذعان بالطاعة ﴿فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ﴾ أي: يبعثهم ويجمعهم ﴿إِلَيْهِ﴾ أي: إلى حكمه يوم القيامة ﴿جَمِيعًا﴾ يعني الجاحد والمقر.
7. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن الملائكة أفضل من الأنبياء؛ لأن قوله: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ﴾، وقوله: ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ﴾ يقتضي ذلك؛ لأنه لا يقال: لا يستنكف الأمير أن يزورني ولا الحاجب، بل يقال: لا يستنكف الحاجب ولا الأمير، وإذا ثبت ذلك في عيسى ثبت في سائر الأنبياء، وقد اختلفوا في هذه المسألة:
• فمشايخنا اتفقوا أن الملائكة أفضل.
• وقال جماعة: الأنبياء كلهم أفضل.
• وقالت الإمامية: الأنبياء والأئمة أفضل منهم.
• وقال بعضهم: بنو آدم المؤمنون منهم أفضل من الملائكة.
• ومنهم من مال إلى التوقف.
• ومنهم من فضل نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. بطلان قول من يقول: إنهم مجبورون على الطاعة، لا اختيار لهم؛ لأن مدحهم وما وصفهم تعالى به في القرآن لا يليق بذلك.
8. نصب ﴿عَبْدًا﴾ لأنه خبر ﴿كَانَ﴾
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/166.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الاستنكاف: الأنفة من الشيء وأصله في اللغة من نكفت الدمع: إذا نحيته بإصبعك من خدك، قال الشاعر:
çفباتوا فلولا ما تذكر منهم... من الحلف لم ينكف لعينك مدمعé
وقال الفرزدق:
çوقاتل كلب الحي عن نار أهله... ليربض فيها والصلا متكنفé
ودرهم منكوف: مبهرج ردئ، لأنه يمتنع من أخذه لرداءته، ونكفت من الامر، بكسر الكاف، بمعنى: استنكفت أيضا، حكاها أبو عمرو، فتأويل ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ﴾: لن ينقبض، ولم يمتنع والاستكبار: طلب الكبر من غير استحقاق.
ب. التكبر: قد يكون باستحقاق، فلذلك جاز في صفة الله تعالى المتكبر، ولا يجوز المستكبر.
2. روي أن وفد نجران قالوا لنبينا: يا محمد لم تعيب صاحبنا؟ قال ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى عليه السلام، قال وأي شيء أقول فيه؟ قالوا: تقول: إنه عبد الله ورسوله، فنزلت الآية.
3. لما تقدم ذكر النصارى، والحكاية عنهم في أمر المسيح، عقبه سبحانه بالرد عليهم، فقال: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ﴾ أي: لن يأنف، ولم يمتنع ﴿الْمَسِيحُ﴾ يعني عيسى عليه السلام من ﴿أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ أي: ولا الملائكة المقربون يأنفون، ويستكبرون عن الاقرار بعبوديته، والإذعان له بذلك، والمقربون الذين قربهم تعالى، ورفع منازلهم على غيرهم من خلقه.
4. ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ أي: من يأنف عن عبادته ﴿وَيَسْتَكْبِرْ﴾ أي: يتعظم بترك الاذعان لطاعته ﴿فَسَيَحْشُرُهُمْ﴾ أي: فسيبعثهم ﴿إِلَيْهِ﴾ يوم القيامة ﴿جَمِيعًا﴾ يجمعهم لموعدهم عنده.
5. معنى قوله: ﴿إِلَيْهِ﴾: أي: إلى الموضع الذي لا يملك التصرف فيه سواه، كما يقال صار أمر فلان إلى الأمير أي: لا يملكه غير الأمير، ولا يراد بذلك المكان الذي فيه الأمير.
6. استدل بهذه الآية من قال بأن الملائكة أفضل من الأنبياء، قالوا: إن تأخير ذكر الملائكة في مثل هذا الخطاب، يقتضي تفضيلهم، لان العادة لم تجر بأن يقال لن يستنكف الأمير أن يفعل كذا، ولا الحارس، بل يقدم الأدون، ويؤخر الأعظم، فيقال: لن يستنكف الوزيران بفعل كذا، ولا السلطان، وهذا يقتضي فضل الملائكة على الأنبياء، وأجاب أصحابنا (2) عن ذلك بأن قالوا: إنما أخر ذكر الملائكة، عن ذكر المسيح، لان جميع الملائكة أفضل، وأكثر ثوابا من المسيح، وهذا لا يقتضي أن يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح، وإنما الخلاف في ذلك، وأيضا فإنا وإن ذهبنا إلى أن الأنبياء أفضل من الملائكة، فإنا نقول، مع قولنا بالتفاوت، إنه لا تفاوت في الفضل بين الأنبياء والملائكة، ومع التقارب والتداني، يحسن أن يقدم ذكر الأفضل، ألا ترى أنه يحسن أن يقال ما يستنكف الأمير فلان من كذا، ولا الأمير فلان، إذا كانا متساويين في المنزلة، أو متقاربين، وإنما لا يحسن أن يقال ما يستنكف الأمير فلان من كذا، ولا الحارس، لأجل التفاوت.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/223.
(2) يقصد الإمامية.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ﴾ سبب نزولها: أنّ وفد نجران وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: يا محمّد لم تذكر صاحبنا؟ قال ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى، قال وأيّ شيء أقول له؟ هو عبد الله، قالوا: بل هو الله، فقال: إنه ليس بعار عليه أن يكون عبد الله، قالوا: بلى، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
2. قال الزجّاج: معنى يستنكف: يأنف، وأصله في اللغة من نكفت الدّمع: إذا نحّيته بإصبعك من خدّك، قال الشاعر:
çفبانوا فلولا ما تذكّر منهم...من الحلف لم ينكف لعينيك مدمعé
3. ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ قال ابن عباس: هم حملة العرش.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/503.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ﴾: قال الزجاج: لن يستنكف أي لن يأنف، وأصله في اللغة من نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خدك، فتأويل ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ﴾ أي لن يتنغص ولم يمتنع، وقال الأزهري: سمعت المنذري يقول: سمعت أبا العباس وقد سئل عن الاستنكاف فقال: هو من النكف، يقال ما عليه في هذا الأمر من نكف ولا وكف، والنكف أن يقال له سوء، واستنكف إذا دفع ذلك السوء عنه.
2. روي أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لم تعيب صاحبنا قال ومن صاحبكم؟ قالوا عيسى، قال: وأي شيء قلت؟ قالوا: تقول إنه عبد الله ورسوله، قال إنه ليس بعار أن يكون عبد الله، فنزلت هذه الآية،
3. إنه تعالى لما أقام الحجة القاطعة على أن عيسى عبد الله، ولا يجوز أن يكون ابنا له أشار بعده إلى حكاية شبهتهم وأجاب عنها، وذلك لأن الشبهة التي عليها يعولون في إثبات أنه ابن الله هو أنه كان يخبر عن المغيبات وكان يأتي بخوارق العادات من الإحياء والإبراء، فكأنه تعالى قال: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ﴾ بسبب هذا القدر من العلم والقدرة عن عبادة الله تعالى فإن الملائكة المقربين أعلى حالا منه في العلم بالمغيبات لأنهم مطلعون على اللوح المحفوظ، وأعلى حالا منه في القدرة لأن ثمانية منهم حملوا العرش على عظمته، ثم إن الملائكة مع كمال حالهم في العلوم والقدرة لا يستنكفوا عن عبودية الله، فكيف يستنكف المسيح عن عبوديته بسبب هذا القدر القليل الذي كان معه من العلم والقدرة، وإذا حملنا الآية على ما ذكرناه صارت هذه الآيات متناسبة متتابعة ومناظرة شريفة كاملة، فكان حمل الآية على هذا الوجه أولى.
4. استدلّ المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر، وقد ذكرنا استدلالهم بها في تفسير قوله: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [البقرة: 34] وأجبنا عن هذا الاستدلال بوجوه كثيرة، والذي نقول هاهنا: إنا نسلم أن اطلاع الملائكة على المغيبات أكثر من اطلاع البشر عليها ونسلم أن قدرة الملائكة على التصرف في هذا العالم أشد من قدرة البشر، كيف ويقال: إن جبريل عليه السلام قلع مدائن قوله لوط بريشة واحدة من جناحه إنما النزاع في أن ثواب طاعات الملائكة أكثر أم ثواب طاعات البشر، وهذه الآية لا تدل على ذلك ألبتة، وذلك لأن النصارى إنما أثبتوا إلهية عيسى بسبب أنه أخبر عن الغيوب وأتى بخوارق العادات، فإيراد الملائكة لأجل إبطال هذه الشبهة إنما يستقيم إذا كانت الملائكة أقوى حالا في هذا العلم، وفي هذه القدرة من البشر، ونحن نقول بموجبه، فأما أن يقال: المراد من الآية تفضيل الملائكة على المسيح في كثرة الثواب على الطاعات فذلك مما لا يناسب هذا الموضع ولا يليق به، فظهر أن هذا الاستدلال إنما قوي في الأوهام لأن الناس ما لخصوا محل النزاع.
5. سؤال وإشكال: في الآية سؤال، وهو أن الملائكة معطوفون على المسيح فيصير التقدير: ولا الملائكة المقربون في أن يكونوا عبيدا لله وذلك غير جائز، والجواب: فيه وجهان:
أ. أحدهما: أن يكون المراد ولا كل واحد من المقربين.
ب. الثاني: أن يكون المراد ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا فحذف ذلك لدلالة قوله: ﴿عَبْدًا لِلَّهِ﴾ عليه على طريق الإيجاز.
6. قرأ علي بن أبي طالب (عبيد الله) على التصغير.
7. ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ يدل على أن طبقات الملائكة مختلفة في الدرجة والفضيلة فالأكابر منهم مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش، وقد شرحنا طبقاتهم في سورة البقرة في تفسير قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ﴾ [البقرة: 30]
8. ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ والمعنى أن من استنكف عن عبادة الله واستكبر عنها فإن الله يحشرهم إليه أي يجمعهم إليه يوم القيامة حيث لا يملكون لأنفسهم شيئا.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/273.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ﴾ أي لن يأنف ولن يحتشم أن يكون عبدا لله، أي من أن يكون، فهو في موضع نصب، وقرأ الحسن: ﴿أَنْ يَكُونَ﴾ بكسر الهمزة على أنها نفي هو بمعنى ﴿مَا﴾ والمعنى ما يكون له ولد وينبغي رفع يكون ولم يذكره الرواة.
2. ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ أي من رحمة الله ورضاه، فدل بهذا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وكذا ﴿وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى في البقرة.
3. ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ﴾ أي يأنف ن عبادته ﴿وَيَسْتَكْبِرْ﴾ فلا يفعلها، ﴿فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ﴾ أي إلى المحشر، ﴿جَمِيعًا﴾ فيجازي كلا بما يستحق، كما بينه في الآية بعد هذا ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ إلى قوله: ﴿نَصِيرًا﴾
4. أصل ﴿يَسْتَنْكِفْ﴾ نكف، فالياء والسين والتاء زوائد، يقال: نكفت من الشيء واستنكفت منه وأنكفته أي نزهته عما يستنكف منه، ومنه الحديث سئل عن ﴿سُبْحَانَ اللهِ﴾ فقال: (إنكاف الله من كل سوء) يعني تنزيهه وتقديسه عن الأنداد والأولاد، وقال الزجاج: استنكف أي أنف مأخوذ من نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خدك، ومنه الحديث (ما ينكف العرق عن جبينه) أي ما ينقطع، ومنه الحديث (جاء بجيش لا ينكف آخره) أي لا ينقطع آخره، وقيل: هو من النكف وهو العيب، يقال: ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف أي عيب: أي لن يمتنع المسيح ولن يتنزه من العبودية ولن ينقطع عنها ولن يعيبها.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/26.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أصل يستنكف: نكف، وباقي الحروف زائدة، يقال: نكفت من الشيء واستنكفت منه، وأنكفته، أي: نزهته عما يستنكف منه، قال الزجاج: استنكف، أي: أنف، مأخوذ من نكفت الدمع: إذا نحيته بإصبعك عن خديك؛ وقيل: هو من النكف، وهو العيب، يقال: ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف، أي: عيب، ومعنى الأوّل: لم يأنف عن العبودية ولن يتنزه عنها، ومعنى الثاني: لن يعيب العبودية ولن ينقطع عنها.
2. ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾: عطف على المسيح، أي: ولن يستنكف الملائكة المقرّبون عن أن يكونوا عبادا الله، وقد استدلّ بهذا: القائلون بتفضيل الملائكة على الأنبياء، وقرر صاحب الكشاف وجه الدلالة بما لا يسمن ولا يغني من جوع، وادعى أن الذوق قاض بذلك، ونعم، الذوق العربي إذا خالطه محبة المذهب، وشابه شوائب الجمود، كان هذا، وكل من يفهم لغة العرب يعلم أن من قال لا يأنف من هذه المقالة إمام ولا مأموم، أو لا كبير ولا صغير، أو لا جليل ولا حقير، ثم يدل هذا: على أن المعطوف أعظم شأنا من المعطوف عليه، وعلى كل حال فما أردأ الاشتغال بهذه المسألة، وما أقل فائدتها، وما أبعدها عن أن تكون مركزا من المراكز الشرعية الدينية وجسرا من الجسور.
3. ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ﴾ أي: يأنف تكبرا ويعد نفسه كبيرا عن العبادة ﴿فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ المستنكف وغيره، فيجازي كلا بعمله، وترك ذكر غير المستنكف هنا لدلالة أول الكلام عليه، ولكون الحشر لكلا الطائفتين.
__________
(1) فتح القدير: 1/626.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. روي أنَّ وفد نجران قالوا لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم : لم تعيب صاحبنا؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ومن صاحبكم؟) قالوا: عيسى عليه السلام ، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (وأيُّ شيء أقول؟) قالوا: (عبد الله ورسوله)، قال: (إنَّه ليس بعار أن يكون عبدًا لله)، قالوا: بلى، فنزل قوله تعالى: ﴿لَنْ يَّسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ﴾ لن يترفَّع، وأصله مطلق الاعتزال عن الشيء، أو الابتداء في شيء، ومن هذا ـ مع اختلاف المادَّة ـ : استأنفَ العملَ، والجملة المستأنَفَة، ومن ذلك: (نَكَفَ الدَّمعَ) إذا أزاله بإصبعه، و(بحر لا ينكف)، أي: لا ينزح، والنكف أيضًا: قول السوء، يقال: ما عليه في هذا الأمر نكف، أي: سوء، فيجوز حمل الآية عليه، واستفعل للسلب، وشهر الاستنكاف في الامتناع والانقباض والتكبُّر، وقد فسَّره ابن عبَّاس بالاستكبار.
2. ﴿أَنْ يَّكُونَ﴾ عن أن يكون، ﴿عَبْدًا لِّلَّـهِ﴾ لأنَّه مذعن لله بالربوبيَّة، وفي نفسه بالعبوديَّة، متشرِّف بها، منتفٍ عن الْمَعْبُوديَّة والبنوَّة اللتين تُدَّعَيانِ عليه.
3. أرسل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صحابيًّا إلى الجلندى في عُمان يأمره بالإيمان، فقدَّم الصحابيُّ من نفسه كلامًا هو أنَّه: هل تعرف أنَّ عيسى عليه السلام يعبد الله؟ قال: نعم، قال: فإنِّي أدعوك إلى من كان عيسى يعبده، ثمَّ بلَّغه رسالة النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وقد نصَّ (قولس) من النصارى في رسالته أنَّ يسوع مؤتمن مِن عندِ مَن خَلَقَه مثل موسى، وأنَّه أفضل من موسى، وقال: (مرقس): إنَّ يسوع قال: نفسي حزينة حتَّى الموت، ثمَّ خرَّ على وجهه يصلِّي لله تعالى، وَقَالَ: لله الأمر كما تريد لا كما أريد، وخرَّ على وجهه يصلِّي.
4. ﴿وَلَا الْمَلَآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ أن يكونوا عبيدًا لله، متشرِّفين بالعبادة، متنَزِّهين عن أن يكونوا آلهة، ومُنَزِّهين لله أن يكونوا بناتٍ لله، وإذا كان الملائكة مع علوِّ مقامهم بالسماوات وقوَّتهم وعِظَم عبادتهم وطول أعمارهم مع عدم الفتور عنها لا يأنفون عن العبوديَّة، ويقْصُرون العظمةَ على الله، وينزِّهونه عن صفات الخلق، فكيف عيسى عليه السلام الذي هو دون ذلك؟ فهو ولو كان أفضل من الملائكة بالنبوَّة وعصيان الهوى والنفس والدواعي، لكنَّه دونهم في العبادة المذكورة لهم، فالآية تتضمَّن الردَّ على مشركي العرب القائلين: الملائكة بنات الله، والمجوس العابدين لهم، والملائكة كلُّهم مقربون، وقيل: المراد في الآية نوع منهم يسمَّوْن مقرَّبين، وهم أفضل الملائكة، وفي الحديث: (المؤمن الواحد خير من الملائكة كلِّهم)، ولا يشكل أن سيِّدنا محمَّدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم أفضل منهم، وزعمت المعتزلة والقاضي أبو بكر والحليمي أنَّ الملائكة أفضل من الأنبياء، وكون كلام العرب على الترقِّي من الفاضل إلى الأفضل غالب لا لازم، ولا حجَّة لهم في الآية، وتوقف بعض المحقِّقِينَ في غيره صلّى الله عليه وآله وسلّم من الأنبياء، هل هم أفضل من الملائكة؟ وقال: إنَّ الباب خطير فالوقوف أسلم.
5. ﴿وَمَنْ يَّسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ﴾ الاستكبار دون الاستنكاف، وإنَّما يستعمل الاستنكاف حيث لا استحقاق بخلاف الاستكبار، فقد يكون بالاستحقاق، وأصله: طلب الكبر من غير استحقاق، فهو اعتقاد نفسه أنَّه كبير، واختار صيغة الطلب لأنَّه لو أمكن تحصيله لم يحصل إلَّا بكدٍّ، وأيضًا لأنَّه محض طلب دون حصول المطلوب، وفي الحديث: (الكبر بطر الحقِّ وغمط الناس)
6. ﴿فَسَيَحْشَرُهُم﴾ إنَّما صحَّ أن يكون جوابًا مع أنَّ الحشر واقع ولو لم يستنكفوا؛ لأنَّ حاصله الجزاء، فكأنَّه قيل: فسيجازيهم، أو يقدَّر: فلن يهملهم لأنَّه سيجازيهم، ﴿إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ للعقاب والثواب، من يستنكف ومن لا يستنكف، بدليل التفصيل في قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾، أو الهاء لمن يستنكف، والتفصيل من عَرَض الكلام في عذابهم، إمَّا بتحسُّرهم بما نال المؤمنين، فإِنَّ التحسُّر بالخسران وفوز العدوِّ عذاب عظيم، وإمَّا بالعذاب الأليم المذكور بعدُ.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/362.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ﴾ جملة مستأنفة لتقرير ما سبق من التنزيه، أي: لن يأنف من أن يكون عبدا للّه، فإن عبوديته شرف يتباهى به ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ من أن يكونوا عبيدا له تعالى، واحتج بالآية من زعم فضل الملائكة على الأنبياء.
2. قال الزمخشريّ: أي: ولا من هو أعلى منه قدرا وأعظم منه خطرا، وهم الملائكة الكروبيون، الذين حول العرش، كجبريل وميكائيل وإسرافيل، ومن في طبقتهم.
3. سؤال وإشكال: من أين دل قوله: ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ على أن المعنى: ولا من فوقه؟ والجواب:
أ. قال الزمخشريّ: من حيث إن علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، وذلك أن الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوّهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية، فوجب أن يقال لهم: لن يترفع عيسى عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة، كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية، فكيف بالمسيح؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة، تخصيص المقربين، لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة، ومثاله قول القائل:
çوما مثله ممن يجاود حاتم...ولا البحر ذو الأمواج يلتجّ زاخرهé
لا شبهة في أنه قصد بالبحر ذي الأمواج، ما هو فوق حاتم في الجود، ومن كان له ذوق فليذق، مع هذه الآية قوله: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى﴾ [البقرة: 120]، حتى يعترف بالفرق البين.
ب. قال البيضاويّ: وجوابه أن الآية: للرد على عبدة المسيح والملائكة، فلا يتجه ذلك، وإن سلم اختصاصها بالنصارى فلعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير، كقولك: أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرؤوس، وإن أراد به التكبير فغايته تفضيل المقربين من الملائكة، وهم الكروبيون، الذين هم حول العرش، أو من أعلى منهم رتبة من الملائكة، على المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا والنزاع فيه.
4. قال ناصر الدين في (الانتصاف): وقد كثر الاختلاف في تفضيل الأنبياء على الملائكة، فذهب جمهور الأشعرية إلى تفضيل الأنبياء، وذهب القاضي أبو بكر، منّا، والحليمي وجماعة المعتزلة إلى تفضيل الملائكة، واتخذ المعتزلة هذه الآية عمدتهم في تفضيل الملائكة، من حيث الوجه الذي استدلّ به الزمخشريّ.
5. ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ أي: يأنف منها ويمتنع ﴿وَيَسْتَكْبِرْ﴾ أي: يتعظم عنها ويترفع ﴿فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ أي: فيجمعهم يوم القيامة لموعدهم الذي وعدهم، ويفصل بينهم بحكمه العدل.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/483.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ﴾ الاستنكاف الإمتناع عن الشيء أنفة وانقباضا منه، قيل أصله من نكف الدمع إذا نحاه عن خده بأصبعه حتى لا يظهر، ونكف منه أنف، وأنكفه عنه برأه، والمعنى لن يأنف المسيح ولا يتبرأ من أن يكون عبدا لله ولا هو بالذي يترفع عن ذلك لأنه من أعلم خلق الله بعظمة الله وما يجب له على العقلاء من خلقه من العبودية والشكر، وأن هذه العبودية هي أفضل ما يتفاضلون به.
2. ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ يستنكفون عن أن يكونوا عبيدا لله أو عن عبادته، أو لا يستنكف أحد منهم أن يكون عبدا لله، (كل تقدير من هذه التقديرات صحيح يفهم من الكلام) على أنهم أعظم من المسيح خلقا وأفعالا، ومنهم روح القدس جبريل عليه السلام الذي بنفخة منه خلق المسيح وبتأييد الله إياه به كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ولولا نفخته وتأييده لما كان للمسيح مزية على غيره من الناس.
3. استدلّ بهذه الآية على أن الملائكة المقربين أفضل من الأنبياء المرسلين وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني والحليمي من أئمة الأشعرية وجمهور المعتزلة، وأما جمهور الأشعرية فيفضلون الأنبياء على الملائكة، ووجه التفضيل أن السياق في رد غلو النصارى في المسيح إذا اتخذوا إلها ورفعوه عن مقام العبودية فالبلاغة في الرد عليهم تقتضي الترقي في الرد من الرفيع إلى الأرفع كما تقول إن فلانا التقي لا يستنكف عن تقبيل يده الوزير ولا الأمير، فإذا بدأت بذكر الأمير لم يعد لذكر الوزير مزية ولا فائدة، بل يكون لغوا لأنه يندمج في الأول بالطريق الأولى، وقد بين ذلك الزمخشري وجزم به فتكلف بعضهم في الرد عليه وكان آخر شوط البيضاوي أن جعل غاية الآية تفضيل الملائكة المقربين على أولى العزم من المرسلين لا كل الملائكة على كل الأنبياء، وأما القاضي أحمد بن المنير فإنه بعد أن أطال في تقريره على الكشاف برد طريقة الترقي والتفصي من الاستدلال بها على تفضيل الملائكة المقربين، على الأنبياء المرسلين، عاد إلى الإنصاف من نفسه، وجزم بأن الآية تدل على تفضيل هؤلاء الملائكة في الخلق والقدرة على الأعمال العظيمة وهو الذي يناسب الرد على من استكبروا خلق المسيح من غير أب وصدور بعض الآيات عنه فجعلوه إلها، والملائكة خلقوا من غير أب ولا أم ويعلمون ما هو أعظم من آيات المسيح فهم بهذا أفضل منه وأعظم، ولكن هذا التفضيل في غير موضع الخلاف بين الأشعرية والمعتزلة وهو كثرة الثواب على الأعمال في الآخرة، والمنصف يرى أن التفاضل في هذا من الرجم بالغيب، إذ لا يعلم إلا بنص من الشارع ولا نص، وليس للخلاف في هذه المسألة فائدة في الإيمان ولا عمل، ولكنه من توسيع مسافة التفرق بالمراء والجدال.
4. ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ﴾ الاستكبار أن يجعل الإنسان نفسه كبيرة فوق ما هي عليه غرورا وإعجابا فيحملها بذلك عل غمظ الحق سواء كان لله أو لخلقه وعلى احتقار الناس، ومعنى الجملة: ومن يترفع عن عبادته أنفة ويتبرأ منها، ويجعل نفسه كبيرة فيرى أنه لا يليق بها التلبيس بها.
5. ﴿فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ أي فسيحشر هؤلاء المستنكفين والمستكبرين للجزاء، مجتمعين مع غير المستكبرين والمستنكفين الذي ذكر بعضهم في أول الآية، فإن الله يحشر الخلق كلهم في صعيد واحد كما ورد.
__________
(1) تفسير المنار: 6/79.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ أي لن يأنف المسيح ولن يترفع عن أن يكون عبد الله لعلمه بعظمة الله وما يجب له من العبودية والشكر، ولا الملائكة المقربون يستنكف أحد منهم أن يكون عبدا له.
2. ومن هذه الآية يفهم أن الملائكة أعظم من المسيح خلقا وأفعالا، ومنهم روح القدس الذي بنفخة منه خلق المسيح، ومن ثم استدلّ بها كثير من العلماء على تفصيل الملائكة المقربين على الأنبياء، إذ السياق في ردّ غلوّ النصارى في المسيح باتخاذه إلها ورفعه عن مقام العبودية فالرد عليهم يقتضى الترقي من الرفيع إلى الأرفع كما تقول إن فلانا التقى لا يستنكف من تقبيل يد الوزير ولا الأمير، فإذا بدأت بذكر الأمير لم يعد لذكر الوزير فائدة، بل يكون لغوا لأنه يندمج في الأول بالطريق الأولى، وقال آخرون إن الآية لا تدل على ذلك لأنها في معرض تفضيل هؤلاء الملائكة في عظم الخلق والقدرة على الأعمال العظيمة وهو المناسب للرد على من استكبروا خلق المسيح من غير أب وصدور بعض الآيات عنه فجعلوه إلها، مع أن الملائكة خلقوا من غير أب ولا أم ويعملون ما هو أعظم من آيات المسيح فهم بهذا أفضل منه وأعظم.
3. أيا كان فالتفاضل في هذا من الرجم بالغيب، إذ لا يعلم إلا بنص مع أنه ليس له فائدة في إيمان ولا عمل ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾، أي ومن يترفع عن عبادته تعالى أنفة وكبرا فيرى أنه لا يليق به ذلك فسيجزيه أشد الجزاء، إذ يحشر الناس جميعا للجزاء، المستنكفين منهم والمستكبرين مع غيرهم في صعيد واحد كما ورد في الحديث ثم يحاسبهم ويجزيهم على أعمالهم.
__________
(1) تفسير المراغي 6/35.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يمضي السياق في البيان؛ لتقرير أكبر قضايا التصور الاعتقادي الصحيح، وهي الحقيقة الاعتقادية التي تنشأ في النفس من تقرير حقيقة الوحدانية.. حقيقة أن ألوهية الخالق تتبعها عبودية الخلائق.. وأن هناك فقط: ألوهية وعبودية.. ألوهية واحدة، وعبودية تشمل كل شيء وكل أحد، في هذا الوجود، ويصحح القرآن هنا عقيدة النصارى كما يصحح كل عقيدة تجعل للملائكة بنوة كبنوة عيسى، أو شركا في الألوهية كشركته في الألوهية: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾
2. لقد عنى الإسلام عناية بالغة بتقرير حقيقة وحدانية الله سبحانه؛ وحدانية لا تتبلس بشبهة شرك أو مشابهة في صورة من الصور؛ وعنى بتقرير أن الله سبحانه ليس كمثله شيء فلا يشترك معه شيء في ماهية ولا صفة ولا خاصية، كما عني بتقرير حقيقة الصلة بين الله سبحانه وكل شيء (بما في ذلك كل حي) وهي أنها صلة ألوهية وعبودية، ألوهية الله، وعبودية كل شيء للّه.. والمتتبع للقرآن كله يجد العناية فيه بالغة بتقرير هذه الحقائق ـ أو هذه الحقيقة الواحدة بجوانبها هذه ـ بحيث لا تدع في النفس ظلا من شك أو شبهة أو غموض.
3. ولقد عنى الإسلام كذلك بأن يقرر أن هذه هي الحقيقة التي جاء بها الرسل أجمعون، فقررها في سيرة كل رسول، وفي دعوة كل رسول؛ وجعلها محور الرسالة من عهد نوح عليه السلام، إلى عهد محمد خاتم النبيين صلّى الله عليه وآله وسلّم تتكرر الدعوة بها على لسان كل رسول: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾..
4. وكان من العجيب أن أتباع الديانات السماوية ـ وهي حاسمة وصارمة في تقرير هذه الحقيقة ـ يكون منهم من يحرف هذه الحقيقة؛ وينسب لله سبحانه البنين والبنات؛ أو ينسب لله سبحانه الامتزاج مع أحد من خلقه في صورة الأقانيم؛ اقتباسا من الوثنيات التي عاشت في الجاهليات! ألوهية وعبودية.. ولا شيء غير هذه الحقيقة، ولا قاعدة إلا هذه القاعدة، ولا صلة إلا صلة الألوهية بالعبودية، وصلة العبودية بالألوهية..
5. ولا تستقيم تصورات الناس ـ كما لا تستقيم حياتهم ـ إلا بتمحيض هذه الحقيقة من كل غبش، ومن كل شبهة، ومن كل ظل! أجل لا تستقيم تصورات الناس، ولا تستقر مشاعرهم، إلا حين يستيقنون حقيقة الصلة بينهم وبين ربهم.. هو إله لهم وهم عبيده.. هو خالق لهم وهم مخاليق.. هو مالك لهم وهم مماليك.. وهم كلهم سواء في هذه الصلة، لا بنوة لأحد، ولا امتزاج بأحد.. ومن ثمّ لا قربى لأحد إلا بشيء يملكه كل أحد ويوجه إرادته إليه فيبلغه: التقوى والعمل الصالح.. وهذا في مستطاع كل أحد أن يحاوله، فأما البنوة، وأما الامتزاج فاني بهما لكل أحد!؟ ولا تستقيم حياتهم وارتباطاتهم ووظائفهم في الحياة، إلا حين تستقر في أخلادهم تلك الحقيقة: أنهم كلهم عبيد لرب واحد.. ومن ثم فموقفهم كلهم تجاه صاحب السلطان واحد.. فأما القربى إليه ففي متناول الجميع..
6. عندئذ تكون المساواة بين بني الإنسان، لأنهم متساوون في موقفهم من صاحب السلطان.. وعندئذ تسقط كل دعوى زائفة في الوساطة بين الله والناس؛ وتسقط معها جميع الحقوق المدعاة لفرد أو لمجموعة أو لسلسلة من النسب لطائفة من الناس.. وبغير هذا لا تكون هناك مساواة أصيلة الجذور في حياة بني الإنسان ومجتمعهم ونظامهم ووضعهم في هذا النظام! فالمسألة ـ على هذا ـ ليست ـ مسألة عقيدة وجدانية يستقر فيها القلب على هذا الأساس الركين، فحسب، إنما هي كذلك مسألة نظام حياة، وارتباطات مجتمع، وعلاقات أمم وأجيال من بني الإنسان، إنه ميلاد جديد للإنسان على يد الإسلام.. ميلاد للإنسان المتحرر من العبودية للعباد، بالعبودية لرب العباد..
7. ومن ثم لم تقم في تاريخ الإسلام (كنيسة) تستذل رقاب الناس، بوصفها الممثلة لابن الله، أو للأقنوم المتمم للأقانيم الإلهية؛ المستمدة لسلطانها من سلطان الابن أو سلطان الأقنوم، ولم تقم كذلك في تاريخ الإسلام سلطة مقدسة تحكم (بالحق الإلهي) زاعمة أن حقها في الحكم والتشريع مستمد من قرابتها أو تفويضها من الله!
8. وقد ظلّ (الحق المقدس) للكنيسة والبابوات في جانب؛ وللأباطرة الذين زعموا لأنفسهم حقا مقدسا كحق الكنيسة في جانب.. ظل هذا الحق أو ذاك قائما في أوربا باسم (الابن) أو مركب الأقانيم، حتى جاء (الصليبيون) إلى أرض الإسلام مغيرين، فلما ارتدوا أخذوا معهم من أرض الإسلام بذرة الثورة على (الحق المقدس) وكانت فيما بعد ثورات (مارتن لوثر) و(كالفن) و(زنجلي) المسماة بحركة الإصلاح.. على أساس من تأثير الإسلام، ووضوح التصور الإسلامي، ونفي القداسة عن بني الإنسان؛ ونفي التفويض في السلطان.. لأنه ليست هنالك إلا ألوهية وعبودية في عقيدة الإسلام.. وهنا يقول القرآن كلمة الفصل في ألوهية المسيح وبنوته؛ وألوهية روح القدس (أحد الأقانيم) وفي كل أسطورة عن بنوة أحد للّه، أو ألوهية أحد مع الله، في أي شكل من الأشكال.. يقول القرآن كلمة الفصل بتقريره أن عيسى بن مريم عبد للّه؛ وأنه لن يستنكف أن يكون عبدا للّه، وأن الملائكة المقربين عبيد للّه؛ وأنهم لن يستنكفوا أن يكونوا عبيدا للّه، وأن جميع خلائقه ستحشر إليه، وأن الذين يستنكفون عن صفة العبودية ينتظرهم العذاب الأليم، وأن الذين يقرون بهذه العبودية لهم الثواب العظيم: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾.
9. إن المسيح عيسى بن مريم لن يتعالى عن أن يكون عبدا للّه، لأنه عليه السلام وهو نبي الله ورسوله ـ خير من يعرف حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية؛ وأنهما ماهيتان مختلفتان لا تمتزجان، وهو خير من يعرف أنه من خلق الله؛ فلا يكون خلق الله كالله؛ أو بعضا من الله! وهو خير من يعرف أن العبودية لله ـ فضلا على أنها الحقيقة المؤكدة الوحيدة ـ لا تنقص من قدره، فالعبودية لله مرتبة لا يأباها إلا كافر بنعمة الخلق والإنشاء.
10. وهي المرتبة التي يصف الله بها رسله، وهم في أرقى حالاتهم وأكرمها عنده.. وكذلك الملائكة المقربون ـ وفيهم روح القدس جبريل ـ شأنهم شأن عيسى عليه السلام وسائر الأنبياء ـ فما بال جماعة من أتباع المسيح يأبون له ما يرضاه لنفسه ويعرفه حق المعرفة!؟ ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾.. فاستنكافهم واستكبارهم لا يمنعهم من حشر الله لهم بسلطانه.. سلطان الألوهية على العباد.. شأنهم في هذا شأن المقرين بالعبودية المستسلمين للّه..
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/819.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ هو بيان لما بين الله وبين عباده من حدود.. فالله هو الله، والعباد هم العباد.. ولن يستنكف أي مخلوق من مخلوقات الله أن يدين له بالعبودية والولاء.. لا المسيح ولا غير المسيح.. وإذا كان المسيح هو روح من الله، فإنه قد تلبّس بالجسد.. أما الملائكة فإنهم روح من الله لم يتلبس بجسد.. فهم ـ والحال كذلك ـ أولى من المسيح بأن ينازعوا الله في ألوهيته.. ولكنهم هم خلق من خلق الله، وعباد من عباده.. لا يستكبرون عن عبادته! فالقول بألوهية المسيح ـ من هذه الجهة ـ منقوض، إذ كان الملائكة أعلى درجة منه، وأبعد مدى في هذا الباب الذي دخل منه المسيح إلها مع الله، أو إلها من دون الله!
2. ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ أي ومن يستكبر عن عبادة الله، ويتأبّى أن يكون عبدا له، فإنه سيحشر مع من يحشرهم الله يوم القيامة، وسيلقى الجزاء المناسب له!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1019.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ استئناف واقع موقع تحقيق جملة ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [النساء: 171] أو موقع الاستدلال على ما تضمّنته جملة ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ [النساء: 171]
2. الاستنكاف: التكبّر والامتناع بأنفة، فهو أشد من الاستكبار، ونفي استنكاف المسيح: إمّا إخبار عن اعتراف عيسى بأنّه عبد الله، وإمّا احتجاج على النّصارى بما يوجد في أناجيلهم، قال الله تعالى حكاية عنه ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ [مريم: 30] وفي نصوص الإنجيل كثير ممّا يدلّ على أنّ المسيح عبد الله وأنّ الله إلهه وربّه، كما في مجادلته مع إبليس، فقد قال له المسيح (للربّ إلهك تسجد وإيّاه وحده تعبد)
3. عدل عن طريق الإضافة في قوله: ﴿عَبْدًا لِلَّهِ﴾ فأظهر الحرف الّذي تقدّر الإضافة عليه: لأنّ التنكير هنا أظهر في العبودية، أي عبدا من جملة العبيد، ولو قال عبد الله لأوهمت الإضافة أنّه العبد الخصّيص، أو أنّ ذلك علم له، وأمّا ما حكى الله عن عيسى عليه السلام في قوله: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ [مريم: 30] فلأنّه لم يكن في مقام خطاب من ادّعوا له الإلهية.
4. عطف الملائكة على المسيح مع أنّه لم يتقدّم ذكر لمزاعم المشركين بأنّ الملائكة بنات الله حتّى يتعرّض لردّ ذلك، إدماج لقصد استقصاء كلّ من ادعيت له بنوة الله، ليشمله الخبر بنفي استنكافه عن أن يكون عبدا للّه، إذ قد تقدّم قبله قوله: ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ [النساء: 171]، وقد قالت العرب: إنّ الملائكة بنات الله من نساء الجنّ، ولأنّه قد تقدّم أيضا قوله: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [النساء: 171]، ومن أفضل ما في السماوات الملائكة، فذكروا هنا للدلالة على اعترافهم بالعبوديّة، وإن جعلت قوله: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ﴾ استدلالا على ما تضمّنه قوله: ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ [النساء: 171] كان عطف ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ محتملا للتتميم كقوله: ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [الفاتحة: 3] فلا دلالة فيه على تفضيل الملائكة على المسيح، ولا على العكس؛ ومحتملا للترقّي إلى ما هو الأولى: بعكس الحكم في أوهام المخاطبين، وإلى هذا الأخير مال صاحب (الكشّاف) ومثله بقوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة: 120] وجعل، الآية دليلا على أنّ الملائكة أفضل من المسيح، وهو قول المعتزلة بتفضيل الملائكة على الأنبياء، وزعم أنّ علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، وهو تضييق لواسع، فإنّ الكلام محتمل لوجوه، كما علمت، فلا ينهض به الاستدلال.
5. تفضيل الأنبياء على الملائكة مطلقا هو قول جمهور أهل السنّة، وتفضيل الملائكة عليهم قول جمهور المعتزلة والباقلّاني والحليمي من أهل السنّة، وقال قوم بالتفصيل في التفضيل، ونسب إلى بعض الماتريدية ولم يضبط ذلك التفصيل، والمسألة اجتهادية، ولا طائل وراء الخوض فيها، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الخوض في تفاضل الأنبياء، فما ظنّك بالخوض في التفاضل بين الأنبياء وبين مخلوقات عالم آخر لا صلة لنا به.
6. ﴿الْمُقَرَّبُونَ﴾، يحتمل أن يكون وصفا كاشفا، وأن يكون مقيّدا، فيراد بهم الملقّبون (بالكروبيين) وهم سادة الملائكة: جبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل، ووصفهم بالكروبيين وصف قديم وقع في بيت نسب إلى أميّة بن أبي الصلت، وقد قالوا: إنّه وصف مشتقّ من كرب مرادف قرب، وزيد فيه صيغتا مبالغة، وهي زنة فعول وياء النسب، والّذي أظنّ أنّ هذا اللّفظ نقل إلى العربيّة من العبرانيّة: لوقوع هذا اللّفظ في التّوراة في سفر اللاويين وفي سفر الخروج، وأنّه في العبرانيّة بمعنى القرب، فلذلك عدل عنه القرآن وجاء بمرادفه الفصيح فقال: ﴿الْمُقَرَّبُونَ﴾، وعليه فمن دونهم من الملائكة يثبت لهم عدم الاستنكاف عن العبوديّة لله بدلالة الأحرى.
7. ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ الآية تخلّص إلى تهديد المشركين كما أنبأ عنه قوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾
8. ضمير الجمع في قوله: ﴿فَسَيَحْشُرُهُمْ﴾ عائد إلى غير مذكور في الكلام، بل إلى معلوم من المقام، أي فسيحشر النّاس إليه جميعا كما دلّ عليه التفصيل المفرّع عليه وهو قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، وضمير ﴿وَلَا يَجِدُونَ﴾ عائد إلى ﴿الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا﴾، أي لا يجدون وليّا حين يحشر الله النّاس جميعا، ويجوز أن يعود إلى الّذين ﴿اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا﴾ ويكون ﴿جَمِيعًا﴾ بمعنى مجموعين إلى غيرهم، منصوبا، فإنّ لفظ جميع له استعمالات جمّة: منها أن يكون وصفا بمعنى المجتمع، وفي كلام عمر للعبّاس وعليّ: (ثم جئتماني وأمركما جميع) أي متّفق مجموع، فيكون منصوبا على الحال وليس تأكيدا، وذكر فريق المؤمنين في التفصيل يدلّ على أحد التقديرين.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/337.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة مغالاة النصارى في تقدير السيد المسيح عليه السلام، وأنهم رفعوه إلى مرتبة الألوهية، وقالوا بألسنتهم إن الله ثالث ثلاثة من غير أن يحددوا معنى الألوهية في الاثنين اللذين زادوهما في أقوالهم، ومن غير أن يميزوا علاقة الثلاثة بعضهم ببعض، إلا أن يقولوا المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، ودفعهم إلى ما يقولون أن عيسى ولد من غير أب، وأنه كان إنسانا روحانيا، فزعموا أنه ليس كغيره من رسل الله تعالى، واستنكفوا أن تكون علاقته بالله تعالى الخالق لكل شيء كعلاقة سائر العباد من حيث إنه مخلوق لرب العالمين، وفى هذه الآية يبين سبحانه أن علاقة المسيح عليه السلام بربه علاقة عبد بخالقه، وأنه لن يترفع عن هذه العلاقة.
2. ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ ومعنى النص الكريم: لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولن ينزل من مرتبته أن يكون من عبيد الله تعالى، فإن ذلك وضع للأمور في مواضعها، إذ هو مخلوق لله تعالى، روى أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لم تعيب صاحبنا؟ فقال عليه السلام: ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى عليه السلام فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: وأي شيء أقول؟ قالوا: تقول إنه عبد الله ورسوله، فقال لأمير القوم: (إنه ليس بعار أن يكون عبدا لله، قالوا: بلى)
3. هنا بحثان لفظيان نريد أن نلم بهما بعض الإلمام:
أ. أولهما ـ التعبير بـ (لن) فإن هذا التعبير النافي فيه تأكيد للنفي وفيه بيان استمراره وفيه فوق ذلك إشارة إلى أن المنفى هو الأمر الذى لا يتصور العقل غيره، فلا يتصور العقل أن يترفع المسيح عن أن يكون عبدا لله، لأنه هو الذى خلقه، وهو الذى سواه، وهو الذى جعل له كل الصفات التي امتاز بها على غيره من الناس في عهده، إن الكمال للإنسان في أن يحس بعبوديته لله تعالى وحده، فذلك ليس عارا كما ذكر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لأن شكر المنعم هو كمال الإنسان، والمنعم بنعمة الوجود، ومجرى النعم هو الله سبحانه وتعالى، فالعبودية له سبحانه شكر وهي كمال الصلة بين الله تعالى وخلقه.
ب. وثانيهما ـ أصل معنى يستنكف، أنها في مغزاها لن يأنف أو يترفع، ولكن في أصل اللغة لها أصول ثلاثة:
• أولها: أنها مشتقة من التنزيه، فالفعل الثلاثي لها (نكف)، دخله السين والتاء فيقال نكفت من الشيء واستنكفت منه، وأنكفته أي نزهته عما يستنكف منه، وروى في الحديث أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل عن معنى سبحان الله فقال عليه السلام (إنكاف الله عن كل سوء) بمعنى تنزيهه عن كل سوء، ويكون معنى ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ﴾ لن يتنزه عن أن يكون عبدا لله، فالعبودية ليس للبشر أن يتنزهوا عنها، بل عليهم أن يخضعوا لها.
• ثانيها: أنها مأخوذة من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك عن خدك سترا لمظهر البكاء، ومنه الحديث: (ما ينكف العرق عن جبينه) أي ما ينقطع، ومنه الحديث: (جاء بجيش لا ينكف آخره)، ومعنى ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ﴾ أي لن ينقطع أن يكون المسيح عبدا لله، وقد اختار ذلك الزجاج، وارتضاه الزمخشري في الكشاف.
• ثالثها: أنها مأخوذة من النكف وهو العيب، ويكون المعنى (لن يعاب المسيح أن يكون عبدا لله)
4. وكلها معان متلاقية لله، ولا يستنكف أيضا الملائكة المقربون إليه سبحانه كجبريل وإسرافيل وميكائيل، وحملة العرش فإن هؤلاء على روحانياتهم الكاملة، ومع أن الله تعالى خلقهم من غير أب ولا أم لا يترفعون، أن يكونوا عبيدا لله تعالى؛ لأن الله تعالى خلقهم وهم المدركون لجلاله وكماله: ﴿لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم]
5. أخذ الزمخشري من هذا النص أن الملائكة المقربين أعلى درجة من الأنبياء وقال في ذلك: (ولا من هو أعلى قدرا وأعظم خطرا وهم الكروبيون الذين حول العرش كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومن في طبقتهم، فإن قلت من أين دل قوله تعالى: ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ على أن المعنى ولا من فوقه، قيل: من حيث إن علم المعاني لا يقتضى غير ذلك، وذلك أن الكلام سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية، فوجب أن يقال لهم لن يترفع المسيح عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة، كأنه قيل لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية فكيف بالمسيح! ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة، ومثاله قول القائل:
çوما مثله ممن يجاود حاتم...ولا البحر ذو الأمواج يلتج ذاخرهé
ولا شبهة في أن مقصده بالبحر ذي الأمواج ما هو فوق حاتم في الجود، ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى﴾ [البقرة] حتى يعترف بالفرق المبين)
6. وينتهى من هذا إلى أن الملائكة المقربين أفضل من عيسى عليه السلام، وعيسى من أولى العزم من الرسل، فالملائكة أفضل من النبيين، وقد خالفه في ذلك كثير من العلماء، وردوا عليه بردود لا تسقط مقدمة الدليل وهو كون النص يفيد الترقي من المفضول إلى الأفضل، فالمسيح مفضول، والملائكة المقربون أفضل، ولكنها تبطل النتيجة في ذاتها، وهي كون الملائكة أفضل؛ ذلك لأن الحديث في الملائكة المقربين، فكيف تكون النتيجة أوسع وتعم الملائكة أجمعين، المقربين ومن دونهم؟
7. وعندى أن الترقي قائم، ولكن في المعنى الذى سيق له الكلام، ذلك أن النصارى غلوا غلوا كبيرا في المسيح؛ لأنه ولد من غير أب، ولأنه جرت على يديه معجزات كثيرة، ولأنه روحاني المعاني فبين الله سبحانه وتعالى أنه مع كل هذا لن يستنكف أن يكون عبدا لله، ولا يستنكف من هو أعلى منه في هذه المعاني وهم الملائكة الذين خلقوا من غير أب ولا أم، وأجرى على أيديهم ما هو أشد وأعظم من معجزات، ومنهم من كان الروح الذى نفخ في مريم، وهم أرواح طاهرة مطهرة، فكان الترقي في هذه المعاني وهم فيها يفضلون عيسى وغيره، وبذلك تكون الآيات بعيدة عن الأفضلية المطلقة، فلا تدل على أفضلية الملائكة على الرسل في المنزلة عند الله تعالى ورضوانه، وتكون الآية بعيدة عن موطن الخلاف، والترقي دائما يكون في المعاني التي سيق لها الكلام دون غيرها، وليس المتأخر أعلى في ذاته من المتقدم وأفضل، ولكنه أعلى في الفعل الذى كان فيه كقول القائل لا تضرب حرا ولا عبدا، فالتدرج هنا في النهى عن الضرب، لأنه إذا كان ضرب العبد غير جائز فإن ضرب الحر من باب أولى غير جائز.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1986.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾، لأنه لا طريق لهم إلى ثواب الله، والنجاة من عذابه إلا الإخلاص في العبودية له وحده.
2. ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إليه جَمِيعًا﴾، وهناك ينتظرهم العذاب الأليم.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/503.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ احتجاج آخر على نفي ألوهية المسيح عليه السلام مطلقا سواء فرض كونه ولدا أو أنه ثالث ثلاثة، فإن المسيح عبد لله لن يستنكف أبدا عن عبادته، وهذا مما لا ينكره النصارى، والأناجيل الدائرة عندهم صريحة في أنه كان يعبد الله تعالى، ولا معنى لعبادة الولد الذي هو سنخ إله ولا لعبادة الشيء لنفسه ولا لعبادة أحد الثلاثة لثالثها: الذي ينطبق وجوده على كل منها، وقد تقدم الكلام على هذا البرهان في مباحث المسيح عليه السلام.
2. ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ تعميم للكلام على الملائكة لجريان الحجة بعينها فيهم وقد قال جماعة من المشركين ـ كمشركي العرب ـ: بكونهم بنات الله فالجملة استطرادية.
3. والتعبير في الآية أعني قوله: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ عن عيسى عليه السلام بالمسيح، وكذا توصيف الملائكة بالمقربين مشعر بالعلية لما فيهما من معنى الوصف، أي إن عيسى لن يستنكف عن عبادته وكيف يستنكف وهو مسيح مبارك؟ ولا الملائكة وهم مقربون؟ ولو رجي فيهم أن يستنكفوا لم يبارك الله في هذا ولا قرب هؤلاء، وقد وصف الله المسيح أيضا بأنه مقرب في قوله: ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [آل عمران: 45]
4. ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ حال من المسيح والملائكة وهو في موضع التعليل أي وكيف يستنكف المسيح والملائكة المقربون عن عبادته والحال أن الذين يستنكفون عن عبادته ويستكبرون من عباده من الإنس والجن والملائكة يحشرون إليه جميعا، فيجزون حسب أعمالهم، والمسيح والملائكة يعلمون ذلك ويؤمنون به ويتقونه.
5. من الدليل على أن قوله: ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ﴾ في معنى أن المسيح والملائكة المقربين عالمون بأن المستنكفين يحشرون إليه قوله: ﴿وَيَسْتَكْبِرْ﴾ إنما قيد به قوله: ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ﴾ لأن مجرد الاستنكاف لا يوجب السخط الإلهي إذا لم يكن عن استكبار كما في الجهلاء والمستضعفين، وأما المسيح والملائكة فإن استنكافهم لا يكون إلا عن استكبار لكونهم عالمين بمقام ربهم، ولذلك اكتفى بذكر الاستنكاف فحسب فيهم، فيكون معنى تعليل هذا بقوله: ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ﴾ أنهم عالمون بأن من يستنكف عن عبادته.
6. ﴿جَمِيعًا﴾ أي صالحا وطالحا وهذا هو المصحح للتفضيل الذي يتلوه من قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/151.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ﴾ لن يأنف ﴿أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ﴾ لأنه معترف بأنه عبد لله خاشع له ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ فهم مؤمنون بأنهم عباد لله، ولا يدّعون ما يدّعيه بعض المشركين الذين يزعمون أنهم بنات الله ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء:26] عطفهم على عيسى لمشابهة القول فيهم للقول في عيسى؛ ولكون الرد على الفريقين واحداً؛ ولكون الرد على النصارى جاء لتقرير أن الله ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ فناسب ذكر الرد على من جعل الملائكة ولداً لله، مع الرد على اليهود الذين جعلوا عزيراً بن الله، والنصارى الذين قالوا: ﴿الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ﴾ [التوبة:30] كقوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ [آل عمران:80]
2. ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ عن الاعتراف بالعبودية لله ربهم، المالك لهم ﴿وَيَسْتَكْبِرْ﴾ يظن أنه فوق أن يعترف بالعبودية أو يترفع عن الاعتراف بالعبودية، فالله سيحشرهم يحشر العباد ﴿إِلَيْهِ﴾ يوم القيامة إلى محل السؤال والحساب حيث يجمعهم، كما قال تعالى: ﴿جَمِيعًا﴾ أي مجتمعين.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/222.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يؤكد القرآن هذه الحقيقة من خلال الحياة العادية للمسيح، فيعلن أن ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ﴾ من خلال الالتزام والممارسة، لأنها الحقيقة الواضحة التي تفرض نفسها على كيانه، وقد كانت سيرته في حياته، في الدعوة إلى الله الواحد، وفي خضوعه العملي له، دليلا على ذلك.
2. ﴿وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ سيستنكفون من ذلك، بل يؤكدون هذه العبودية بكل ما لديهم من وسائل التعبير المتنوعة في مظاهر العبادة، بكلّ ما لديهم من مشاعر الانسحاق أمام عظمة الله..
3. ولا تتوقف هذه الآية عند حدود هذا التقرير للحقيقة في حياة السيد المسيح والملائكة المقرّبين، بل تواجه الموقف بالتهديد الإلهي لكل الذين يعيشون حياتهم بعيدا عن ذلك، من خلال ابتعادهم عن عبادة الله استنكافا وتكبّرا ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ ليواجه المتعبدون والمستكبرون حركة هذه الحقيقة في مصيرهم، عندما يحشرون إلى الله، ليروا أن القوة لله، وأن العزة له؛ فله الملك وله السلطة المطلقة في كل خلقه، وبيده الأمر كله.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/560.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. روى جمع من المفسّرين أنّ هذه الآية نزلت بشأن طائفة من مسيحيي نجران، حين زاروا النّبي محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم واستفسروا منه عن سبب اعتراضه على نبيّهم المسيح عليه السّلام، فسألهم النّبي عليه السّلام عن أي اعتراض هم يتحدثون؟ فقالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنّك تقول بأنّ المسيح هو عبد الله ورسوله..) فنزلت الآيتان جوابا على قولهم هذا.
على الرغم من أنّ هاتين الآيتين لهما سبب نزول خاص بهما، إلّا أنّهما جاءتا في سياق الآيات السابقة التي تحدثت في نفي الألوهية عن المسيح عليه السّلام وعلاقتهما بالآيات السابقة في دحض قضية التثليث واضحة وجلية.
2. في البداية تشير الآية الأولى: إلى دليل آخر لدحض دعوى ألوهية المسيح، فتقول مخاطبة المسيحيين: كيف تعتقدون بألوهية عيسى عليه السّلام في حين أنّ المسيح لم يستنكف عن عبادة الله والخضوع بالعبودية له سبحانه، كما لم يستنكف الملائكة المقرّبون من هذه العبادة؟ حيث قالت الآية: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾، وبديهي أنّ من يكون عبدا لا يمكن أن يصبح معبودا في آن واحد، فهل يمكن أن يعبد فرد نفسه؟ أو هل يكون العابد والمعبود والرّب فردا واحدا؟
3. وفي هذا المجال ينقل بعض المفسّرين حادثة طريفة تحكي أن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام لكي يدين ويفند عقيدة التثليث المنحرفة قال لكبير المسيحيين في ذلك الحين ـ وكان يلقب بـ (الجاثليق) ـ بأنّ المسيح عليه السّلام كان حسنا في كل شيء لولا وجود عيب واحد فيه، وهو قلة عبادته للّه، فغضب الجاثليق وقال للإمام الرضا عليه السّلام: ما أعظم هذا الخطأ الذي وقعت فيه، إنّ عيسى المسيح كان من أكثر أهل زمانه عبادة، فسأله الإمام عليه السّلام على الفور: ومن كان يعبده المسيح!؟ فها أنت قد أقررت بنفسك أنّ المسيح كان عبدا ومخلوقا لله وأنّه كان يعبد الله ولم يكن معبودا ولا ربّا؟ فسكت الجاثليق ولم يحر جواب.
4. بعد ذلك تشير الآية إلى أن الذين يمتنعون عن عبادة الله والخضوع له بالعبودية، يكون امتناعهم هذا ناشئا عن التكبر والأنانية وإنّ الله سيحضر هؤلاء الناس في يوم القيامة ويجازي كل واحد منهم بالعقاب الذي يناسبه، فتقول الآية: ﴿وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾
5. في هذه الآية نقطتان يجب الانتباه إليهما، وهما:
أ. إنّ كلمة (استنكاف) تأتي بمعنى الامتناع أو الاستياء الشديد من شيء ولها معان واسعة، وتحدد معناها ـ هنا ـ بما أتى بعدها من قرينة في عبارة ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾ لإنّ الامتناع عن عبادة الله ورفض الخضوع له بالعبودية إمّا ناشئ عن الجهل أو الغفلة، وأحيانا أخرى ينشأ هذا الامتناع عن التكبر والأنانية والغرور، ومع أن الامتناعين يعتبران ذنبا، إلّا أن الامتناع الأخير يفوق الأوّل قبحا بمراتب كبيرة.
ب. إنّ الآية جاءت بعبارة توضح عدم استنكاف الملائكة المقرّبين عن عبادة الله، وذلك ردّا على المسيحيين الذين يثلثون الآلهة (الأب ولابن وروح القدس) ولتدحض عن هذا الطريق فرضية وجود المعبود الثّالث الذي ادعاه المسيحيون ومثلوه في أحد الملائكة المسمى بـ (روح القدس) ولتثبت التوحيد ووحدانية ذات الله سبحانه وتعالى، وقد تكون هذه الآية إشارة إلى الشرك الذي وقع فيه الوثنيون العرب، والشرك الذي تورط به المسيحيون حيث أنّ مشركي الجاهلية كانوا يعتبرون الملائكة أبناء الله سبحانه، أو يعدونهم جزءا منه، فجاءت هذه الآية لترد عليهم وتدخص أقوالهم هذه، وعند التعمق في هذين الأمرين يتبيّن لنا ـ بجلاء ـ أنّ الآية لم تأت لبيان التفاضل بين الملائكة والأنبياء، بل جاءت فقط لدحض عقيدة (الأقنوم الثّالث) أو دحض عقيدة المشركين العرب في الملائكة، وليس فيها أي دلالة على مسألة التفاضل بين المسيح عليه السّلام وبين الملائكة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/557.
149. جزاء المؤمنين وجزاء المستنكفين المستكبرين
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈149⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [النساء: 173]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
الأعمش:
روي عن سليمان بن مهران الأعمش (ت 148 هـ) أنّه قال: ﴿يوفيهم أجورهم﴾ أجورهم أن يدخلهم الجنة، ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ قال الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٢٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: وأخبر المؤمنين بمنزلتهم في الآخرة ومنزلة المستنكفين، فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ يعني: فيوفي لهم جزاءهم، ﴿وَيَزِيدُهُمْ﴾ على أعمالهم ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ الجنة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾، قال إلا أن يتوب قبل موته فيتوب الله عليه(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا﴾ يعني: أنفوا، ﴿وَاسْتَكْبَرُوا﴾ عن عبادة الله بالتوحيد؛ ﴿فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، يعني: وجيعا(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا﴾ يعني: قريبا ينفعهم، ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ يعني: مانعا يمنعهم من الله عز وجل(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢٥.
(2) ابن أبي حاتم ٤/١١٢٥.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين الله تعالى جزاء من لم يستنكف عن عبادته ومن لم يستكبر، ومن استنكف واستكبر، فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ الآية، ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا﴾ الآية؛ وإلا لم يكن في الذين استنكفوا مؤمن؛ بل كانوا كلهم كفارًا؛ بالاستنكاف والاستكبار عن عبادته.
2. والاستنكاف والاستكبار واحد في الحقيقة، وقال الكساني: وإنما جمع بينهما؛ لاختلاف اللفظين، وهذا من حسن كلام العرب: كقول العرب: كيف حالك؟ وبالك؟ والحال والبال واحد، ومثله في القرآن والشعر كثير، لكن الاستنكاف ـ والأنفة ـ لا يضاف إلى الله تعالى، والاستكبار يضاف، فهما من هذا المعنى مختلفان، وأما في الحقيقة فهما واحد.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٣١.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أخبر الله تعالى في هذه الآية ووعد ان الذين يقرون بوحدانيته تعالى، ويعترفون بربوبيته، ويخضعون لعبادته، ويعملون الاعمال الصالحات التي أمر الله بها، وبعث بها رسله انه يوفيهم أجورهم، ومعناه يؤتيهم جزاء أعمالهم الصالحة وافياً تاماً، ويزيدهم من فضله يعني يزيدهم ما كان وعدهم به من الجزاء على أعمالهم الصالحة والثواب عليها من الفضل، والزيادة هو ما لم يعرفهم مبلغه لأنه تعالى وعد على الحسنة عشر أمثالها من الثواب، والزيادة على ذلك تفضل من الله عليهم، وإن كان كل ذلك من فضله إلى عباده، وقد روي ان الزيادة إلى سبعين ضعفاً وإلى سبعمائة وإلى ألفين وكل ذلك جائز على ما يختاره الله ويفعله.
2. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا﴾ معناه أن الذين يأنفون عن الإقرار بتوحيد الله، ويتعظمون عن الاعتراف بعبوديته، والإذعان له بالطاعة، واستكبروا عن التذلل له، وتسليم ربوبيته يعذبهم عذاباً أليما أي مؤلماً موجعاً، ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً، وإنما رفع ولا يجدون بالعطف على ما بعد فيعذبهم ولو جزم على موضع ما بعد الفاء، كان جائزاً يعني ولا يجد المستنكفون والمستكبرون لأنفسهم ولياً ينجيهم من عذابه، وناصراً ينقذهم من عقابه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/406.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني بِاللهِ وبرسله، وجميع ما يلزم الإيمان به ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي: الطاعات فَيُوَفِّيهِ) أي: يعطيهم تامًّا وافيًا ﴿أُجُورَهُمْ﴾ جزاء أعمالهم ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ زيادة تعم على ما استحقوه: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا﴾ عن الإقرار بالعبودية ﴿وَاسْتَكْبَرُوا﴾ عن العبادة والخضوع.
2. سؤال وإشكال: لم كرر الوعيد؟ والجواب:
أ. لاختلاف الموعود له.
ب. وقيل: لأنه عم الوعد والوعيد.
3. ﴿فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ وجيعًا ﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ أي: سواه ينجيهم من عذابه ﴿وَلِيًّا﴾ أي: عن يلى أمرهم في الدفع عنه ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ معينًا يعينه للدفع.
4. تدل الآية الكريمة على:
أ. أنه تعالى يوفر الثواب ثم يزيدهم على ما استحقوا، وأنه لا يزيدهم على العقاب المستحق؛ لأنه ظلم، والأول إنعام وتفضل.
ب. أن الثواب والعقاب يكون بعد الحشر.
جـ. أن الثواب والعقاب جزاء على الأعمال خلاف ما يقوله أهل الجبر.
د. أن أفعال العباد حادثة من جهتهم، فيبطل قولهم في المخلوق.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/166.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ ويؤتيهم جزاء أعمالهم، وعد الله الذين يقرون بوحدانيته، ويعملون بطاعته، أنه يوفيهم أجورهم، ويؤتيهم جزاء أعمالهم الصالحة، وافيا تاما.
2. ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي: يزيدهم على ما كان وعدهم به من الجزاء على أعمالهم الحسنة، والثواب عليها، من الفضل والزيادة، ما لم يعرفهم مبلغه، لأنه وعد على الحسنة عشر أمثالها من الثواب، إلى سبعين ضعفا، وإلى سبعمائة، وإلى الاضعاف الكثيرة، والزيادة على المثل، تفضل من الله تعالى عليهم.
3. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا﴾ أي: أنفوا عن الاقرار بوحدانيته ﴿وَاسْتَكْبَرُوا﴾ أي: تعظموا عن الاذعان له بالطاعة والعبودية ﴿فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ أي: مؤلما موجعا ﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ أي: ولا يجد المستنكفون المستكبرون لأنفسهم، وليا ينجيهم من عذابه، وناصرا ينقذهم من عقابه.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/224.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ أي: ثواب أعمالهم ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ مضاعفة الحسنات.
2. روى ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله تعالى: ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ قال يدخلون الجنة ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ الشّفاعة لمن وجبت له النار ممّن صنع إليهم المعروف في الدّنيا.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/503.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما ذكر الله تعالى أنه يحشر هؤلاء المستنكفين المستكبرين لم يذكر ما يفعل بهم بل ذكر أولا ثواب المؤمنين المطيعين، فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾
2. ثم ذكر آخرا عقاب المستنكفين المستكبرين، فقال: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ والمعنى ظاهر لا إشكال فيه، وإنما قدم ثواب المؤمنين على عقاب المستنكفين لأنهم إذا رأوا أولا ثواب المطيعين ثم شاهدوا بعده عقاب أنفسهم كان ذلك أعظم في الحسرة.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/275.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ من غير أن يفوتهم منها شيء ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ بسبب استنكافهم واستكبارهم.
2. ﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا﴾ يواليهم ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ ينصرهم.
__________
(1) فتح القدير: 1/626.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾، التفصيل من عَرَض الكلام في عذابهم، إمَّا بتحسُّرهم بما نال المؤمنين، فإِنَّ التحسُّر بالخسران وفوز العدوِّ عذاب عظيم، وإمَّا بالعذاب الأليم المذكور بعدُ.
2. ﴿فَيُوَفِّيهِمُ أُجُورَهُمْ﴾ على توحيدهم وأعمالهم وتقواهم، ﴿وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ﴾ كلَّ ما أمكن ولَاقَ، مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، تفصيلا وإحاطة، ولو كان نِعَمُ الجنَّة كلُّها كذلك لكنْ بعضٌ فوق بعض، ومقتضى الظاهر: فأمَّا الذين لم يستنكفوا، كما هو المناسب لِمَا قبلُ وما بعدُ، وعدل عنه إلى ما في النظم الجليل لأنَّه المستـتبع لتوفية الأجور وزيادة الفضل، وأمَّا عدم الاستنكاف فلا يفيد ذلك صراحًا.
3. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اَسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا اَلِيمًا﴾ عند الموت وفي القبر، والحشر والموقف، والنار، ﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا﴾ يدفع عنهم العذاب بعد مجيئه ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ يمنعه عنهم قبل المجيء، أو وَلِيًّا يلي أمورهم ومصالحهم، ونصيرًا ينجِّيهم من العذاب مطلقًا.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/365.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فلم يستكبروا عن عبوديته ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فلم يستنكفوا عن عبادته ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ أي ثواب أعمالهم من غير أن ينقص منها شيء ﴿وَيَزِيدُهُمْ﴾ أي: على أجورهم شيئا عظيما: ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ بتضعيفها أضعافا مضاعفة، مبالغة في إعزازهم.
2. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا﴾ أي عن عبادة الله عز وجل ﴿فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ هو عذاب النار ﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا﴾ يواليهم ليعزهم ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ ينصرهم ويدفع عنهم العذاب.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/487.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ ثم يحاسبهم ويجزيهم كما يجزي غيرهم على النحو المبين في قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي يعطيهم أجورهم على إيمانهم وعملهم الصالح وافية تامة كما يستحقون بحسب سنته تعالى في ترتيب الجزاء على تأثير الإيمان والعمل في النفس، ويزيدهم عليه من محض فضله وجوده من عشرة أضعاف إلى سبع مئة ضعف ـ إلى ما شاء (وتقدم الكلام في المضاعفة في تفسير سورة البقرة)
2. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ أي فيعذبهم عذابا مؤلما كما يستحقون بحسب سنته تعالى أيضا، ولكن لا يزيدهم على ما يستحقون شيئا، لأن الرحمة سبقت الغضب، فهو تعالى يجازي المحسن بالعدل والفضل، ويجازي المسيء بالعدل فقط ﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ أي ولا يجدون لهم من غير الله تعالى وليا يتولى شيئا من أمرهم يوم الجزاء والحساب، ولا نصيرا ينصرهم فيدفع العذاب، ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: 19]
3. من مباحث اللفظ والإعراب في الآية إفراد فعل يستنكف وما عطف عليه مراعاة لفظ (من) وجمع (فسيحشرهم) مراعاة لمعناها فإنها من صيغ العموم (ومنها) مسألة مطابقة التفصيل في هذه الآية للمفصل المذكور بصيغة العموم في آخر الآية التي قلبها، قال بعضهم إن التفصيل للمجازاة لا للمحشورين المجزيين فلا حاجة إلى المطابقة وذلك أن الجزاء لازم للحشر فبينه عقبه، واختار هذا البيضاوي ورده السعد، وقال الزمخشري هو مثل قولك جمع الإمام الخوارج فمن لم يخرج عليه كساه وحمله (أي أعطاه ما يركبه) ومن خرج نكل به، وصحة ذلك لوجهين:
أ. أحدهما: أن يحذف أحد الفريقين لدلالة الآخر عليه، ولأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني، كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله عقيب هذا ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ [النساء: 175]
ب. الثاني: هو أن الإحسان إلى غيرهم مما يفهمهم فكان داخلا في جملة التنكيل بهم، فكأنه قيل ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين، وبما يصيبه من عذاب الله)
4. قد يدل على حشر المستنكفين مع غيرهم قوله تعالى: ﴿جَمِيعًا﴾ كما أشرنا إليه، ثم وجه آخر وهو القرآن كثيرا ما يذكر بصيغة العاملين مبتدأ يكون خبره محذوفا لدلالة الكلام أو القرينة عليه ولاسيما إذا كان شرطا كما هنا وكان جزاؤه كلاما عاما يشير إلى الخير إشارة ضمنية كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 5]، وقوله: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الحديد: 24] ولا يبعد أن يكون ما هنا من هذا القبيل، والمراد: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيجزيه إذ يحشر الناس كلهم للجزاء، ثم فصل هذا الجزاء المشار إليه لازمه.
__________
(1) تفسير المنار: 6/80.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي فهؤلاء الذين عملوا الصالحات سيعطيهم أجورهم وافية كاملة على إيمانهم وعملهم الصالح بحسب سنته سبحانه في ترتيب الجزاء على مقدار تأثير الإيمان والعمل الصالح في النفس وتزكيتها وطهارتها من أدران الشرور والآثام.
2. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ أي فهؤلاء يعذبون عذابا مؤلما يستحقونه بحسب سنته أيضا، لكن لا يزيدهم على ما يستحقون شيئا لأن رحمته سبقت غضبه، فهو يجازى المحسن على إحسانه بالعدل والفضل، ويجازى المسيء على إساءته بالعدل.
3. ﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ أي ولا يجدون لهم من غير الله تعالى وليا يلى أمورهم ويدبر مصالحهم، ولا نصيرا ينصرهم من بأسه ويرفع عنهم العذاب، إذ لا عاصم اليوم من أمر الله ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾
__________
(1) تفسير المراغي 6/36.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. فأما الذين عرفوا الحق، فأقروا بعبوديتهم للّه؛ وعملوا الصالحات لأن عمل الصالحات هو الثمرة الطبيعية لهذه المعرفة وهذا الإقرار؛ فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾
2. ما يريد الله سبحانه من عباده أن يقروا له بالعبودية، وأن يعبدوه وحده، لأنه بحاجة إلى عبوديتهم وعبادتهم، ولا لأنها تزيد في ملكه تعالى أو تنقص من شيء ولكنه يريد لهم أن يعرفوا حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، لتصح تصوراتهم ومشاعرهم، كما تصح حياتهم وأوضاعهم، فما يمكن أن تستقر التصورات والمشاعر، ولا أن تستقر الحياة والأوضاع، على أساس سليم قويم، إلا بهذه المعرفة وما يتبعها من إقرار، وما يتبع الإقرار من آثار.. يريد الله سبحانه أن تستقر هذه الحقيقة بجوانبها التي بيناها في نفوس الناس وفي حياتهم، ليخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ليعرفوا من صاحب السلطان في هذا الكون وفي هذه الأرض؛ فلا يخضعوا إلا له، وإلا لمنهجه وشريعته للحياة، وإلا لمن يحكم حياتهم بمنهجه وشرعه دون سواه، يريد أن يعرفوا أن العبيد كلهم عبيد؛ ليرفعوا جباههم أمام كل من عداه؛ حين تعنو له وحده الوجوه والجباه، يريد أن يستشعروا العزة أمام المتجبرين والطغاة، حين يخرون له راكعين ساجدين يذكرون الله ولا يذكرون أحدا إلا الله، يريد أن يعرفوا أن القربى إليه لا تجيء عن صهر ولا نسب، ولكن تجيء عن تقوى وعمل صالح؛ فيعمرون الأرض ويعملون الصالحات قربى إلى الله، يريد أن تكون لهم معرفة بحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، فتكون لهم غيرة على سلطان الله في الأرض أن يدعيه المدعون باسم الله أو باسم غير الله فيردون الأمر كله للّه.. ومن ثم تصلح حياتهم وترقى وتكرم على هذا الأساس..
3. إن تقدير هذه الحقيقة الكبيرة؛ وتعليق أنظار البشر لله وحده؛ وتعليق قلوبهم برضاه؛ وأعمالهم بتقواه؛ ونظام حياتهم بإذنه وشرعه ومنهجه دون سواه.. إن هذا كله رصيد من الخير والكرامة والحرية والعدل والاستقامة يضاف إلى حساب البشرية في حياتها الأرضية؛ وزاد من الخير والكرامة والحرية والعدل والاستقامة تستمتع به في الأرض.. في هذه الحياة.. فأما ما يجزي الله به المؤمنين المقرين بالعبودية العاملين للصالحات، في الآخرة، فهو كرم منه وفضل في حقيقة الأمر، وفيض من عطاء الله.
4. في هذا الضوء يجب أن ننظر إلى قضية الإيمان بالله في الصورة الناصعة التي جاء بها الإسلام؛ وقرر أنها قاعدة الرسالة كلها ودعوة الرسل جميعا؛ قبل أن يحرفها الأتباع، وتشوهها الأجيال.. يجب أن ننظر إليها بوصفها ميلادا جديدا للإنسان؛ تتوافر له معه الكرامة والحرية، والعدل والصلاح، والخروج من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده في الشعائر وفي نظام الحياة سواء، والذين يستنكفون من العبودية للّه، يذلون لعبوديات في هذه الأرض لا تنتهي.. يذلون لعبودية الهوى والشهوة، أو عبودية الوهم والخرافة، ويذلون لعبودية البشر من أمثالهم، ويحنون لهم الجباه، ويحكمون في حياتهم وأنظمتهم وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم عبيدا مثلهم من البشر هم وهم سواء أمام الله.. ولكنهم يتخذونهم آلهة لهم من دون الله.. هذا في الدنيا.. أما في الآخرة ﴿فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾.. إنها القضية الكبرى في العقيدة السماوية تعرضها هذه الآية في هذا السياق في مواجهة انحراف أهل الكتاب من النصارى في ذلك الزمان، وفي مواجهة الانحرافات كلها إلى آخر الزمان.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/821.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. التوفية أصلها إعطاء الشيء وافيا، أي زائدا على المقدار المطلوب، ولمّا كان تحقّق المساواة يخفى لقلّة الموازين عندهم، ولاعتمادهم على الكيل، جعلوا تحقّق المساواة بمقدار فيه فضل على المقدار المساوي، أطلقت التوفية على إعطاء المعادل؛ وتقابل بالخسار وبالغبن، قال تعالى حكاية عن شعيب ﴿أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ﴾ [الشعراء: 181] ولذلك قال هنا: ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾، وهذه التوفية والزيادة يرجعان إلى تقدير يعلمه الله تعالى.
2. ﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ تأييس لهم إذ قد عرف عند العرب وغيرهم، من أمم ذلك العصر، الاعتماد عند الضيق على الأولياء والنصراء ليكفّوا عنهم المصائب بالقتال أو الفداء، قال النابغة: (يأملن رحلة نصر وابن سيّار) ولذلك كثر في القرآن نفي الوليّ، والنصير، والفداء ـ ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [آل عمران: 91]
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/339.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لا شيء عندنا لتفسير قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ إلى آخر الآية، لأنها أوضح من أن تفسر.. حتى قولي: وهناك ينتظرهم العذاب الأليم قلته لمجرد الاستهلاك وملء الفراغ، كما لاحظ القارئ.. وهكذا فعل غيري من أهل التفاسير، قال شيخهم الطبري: (لن يستنكف يعني لن يأنف.. ومن يستنكف يعني من يتعاظم)، وقال فيلسوفهم الرازي: (لن يستنكف قال الزجاج: أي لن يأنف.. ومن يستنكف المعنى من استنكف) إلى آخر الآية 173.. ومثله كثير، وهو ما عناه الشاعر بقوله: (وفسر الماء بعد الجهد بالماء)، وقد فعلوه عن علم وعمد، لا لشيء إلا لأن مفسر القرآن الكريم يجب ـ بزعمهم ـ أن يفسر كل ما جاء فيه، وان كان واضحا ذاهلين عما قالوه في تفسير قوله تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ وان المحكمات هي الواضحات، وان توضيحها من أشكل المشكلات.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/503.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ التعرض لنفي الولي والنصير مقابلة لما قيل به من ألوهية المسيح والملائكة.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/151.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فقد عبدوا الله مع الإيمان عبادة مقبولة لمصاحبتها الإيمان ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ بالحسنة عشر أمثالها ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ خيراً كثيراً يتفضل به عليهم.
2. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا﴾ أنفوا من عبادة الله ﴿وَاسْتَكْبَرُوا﴾ ترفعوا عن عبادة الله ﴿فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ عذاب جهنم ﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ مَن يدفع عنهم بتولي شؤونهم والقيام بإصلاح أمورهم ولا بنصر لهم، وهذا ردٌّ على المشركين الذين يظنون أن شركاءهم سيشفعون لهم ويدفعون عنهم بما لهم من المكانة عند الله ـ بزعمهم ـ تخولهم أن يتدخلوا يوم القيامة إن بعثوا، فيدفعوا عنهم وينصروهم بالشفاعة.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/223.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾، جزاء لإخلاصهم ولعملهم.
2. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، لأنهم لم يستسلموا للإيمان الذي يفرض نفسه على فكرهم وشعورهم، ولكنهم يتمرّدون عليه ﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾
__________
(1) من وحى القرآن: 7/560.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إنّ الله العزيز القدير سيكافئ في يوم القيامة أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقاموا بالأعمال الخيرة، ويعطيهم ثوابهم كاملا غير منقوص ويجزل لهم الثواب والنعم، أمّا الذين تكبروا وامتنعوا عن عبادة الله، فإنهم سينالون منه عذابا أليما شديدا، ولن يجدوا في يوم القيامة لأنفسهم وليا أو حاميا من دون الله.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/559.
150. القرآن والبرهان الإلهي والاعتصام
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈150⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [النساء: 174 ـ 175]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنه كان إذا تحرك من الليل قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة ١٠/٢٢٤.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، حجة(1).
2. روي أنّه قال: في قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾، بينا، يعني: القرآن(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٧١١.
(2) تفسير ابن أبي زمنين ١/٤٢٦.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾، هذا القرآن(1).
2. روي أنّه قال: في قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾، هذا هو القرآن، نبوة من الله، وهدى، وضياء، وعصمة لمن اعتصم به(2).
__________
(1) ابن جرير ٧/٧١١.
(2) ذكره عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره ص ١٣٣.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ قال: البرهان محمد (عليه وآله السلام)، والنور علي عليه السلام، ﴿صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ الصراط المستقيم علي عليه السلام(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/285.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾، يعني: ضياء بينا من العمى، وهو القرآن(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ﴾ يعني: صدقوا بالله عز وجل بأنه واحد لا شريك له، ﴿وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ يعني: احترزوا به، يعني: بالله عز وجل، ﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ﴾ يعني: الجنة، ﴿وَفَضْلٍ﴾ يعني: الرزق في الجنة(2).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢٥.
(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢٦.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾، بالقرآن(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٧١٢.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
__________
(1) عزاه السيوطي إلى ابن عساكر.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾:
أ. والبرهان: هو الحجة توضح وتظهر الحق من الباطل.
ب. وقيل: بيان من ربكم، وهما واحد.
ج. قَالَ بَعْضُهُمْ: هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
د. وقال آخرون: هو القرآن؛ فأيهما كان فهو حجة وبيان، يلزم الحق ـ ويبين ـ من لم يعاند.
2. ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ يبصر به الحق من الباطل، وبه يعرف: وهو القرآن، سماه: نورًا؛ لما به يبصر الحق، وإن لم يكن هو بنفسه نورًا؛ كالنهار: سماه مبصرًا؛ لما به يبصر، وإن لم يكن هو كذلك، وقال قتادة: ﴿نُورًا مُبِينًا﴾: هو هذا القرآن، وفيه بيانه ونوره وهداه، وعصمة لمن اعتصم به.
3. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾، جعل الاعتصام به ما به ينال رحمته وفضله، والاعتصام: هو أن يلتجأ إليه في كل الأمور، وبه يوكل، لا يلتجأ بمن دونه.
4. ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ كأنه على التقديم والتأخير: (فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به، ويهديهم إليه صراطًا مستقيمًا؛ فسيدخلهم في رحمة منه)، يعني: (الجنة) و(فضل)؛ كقوله تعالى: ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٣٢.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ والبرهان هو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وما معه من المعجز الذي يشهد بصدقه ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ يعني القرآن نوراً لأنه يظهر به الحق كما تظهر المرئيات بالنور.
2. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ أي اعتصموا بالقرآن ويجوز واعتصموا بالله من زيغ الشيطان ﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ والهداية أن يعطيهم في الدنيا ما يوديهم إلى نعيم الآخرة ويجوز ويهديهم في الآخرة إلى طريق الجنة.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/201.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لِمَا معه من المعجز الذي يشهد بصدقه، ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ يعني القرآن سُمِّي نوراً لأنه يظهر به الحق، كما تظهر المرئيات بالنور.
2. في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَءَامَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: اعتصموا بالقرآن، وهذا قول ابن جريج.
ب. الثاني: اعتصموا بالله من زيغ الشيطان وهوى الإنسان.
3. ﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ في الهداية قولان:
أ. أحدهما: أن يعطيهم في الدنيا ما يؤديهم إلى نعيم الآخرة، وهذا قول الحسن.
ب. الثاني: هو الأخذ بهم في الآخرة إلى طريق الجنة، وهو قول بعض المفسرين البصريين.
__________
(1) تفسير الماوردي: ١/٥٤٨.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا خطاب من الله تعالى لجميع الخلق من الناس المكلفين من سائر أصناف الملل الذين قص قصصهم في هذه السورة من اليهود والنصارى والمشركين.
2. ﴿قَدْ جَاءَكُمُ﴾ يعني أتاكم حجة من الله تبرهن لكم عن صحة ما أمركم به، وهو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم جعله الله حجة عليكم، وقطع به عذركم.
3. ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ يعني وأنزلنا إليكم معه نوراً مبيناً يعني بين لكم المحجة الواضحة، والسبل الهادية إلى ما فيه لكم النجاة من عذاب الله واليم عقابه، وذلك النور هو القرآن الذي أنزله الله على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو قول مجاهد، وقتادة والسدي وابن جريج، وجميع المفسرين، وإنما سماه نوراً لنا فيه من الدلالة على ما امر الله به ونهى عنه والاهتداء به تشبها بالنور الذي يهتدي به في الظلمات وفي الآية دلالة على أن كلام الله محدث، لأنه وصفه بالإنزال فلو كان قديماً، لما جاز ذلك عليه.
4. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمنوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إليه صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ هذا إخبار من الله ووعد منه لمن صدق الله وأقر بوحدانيته، واعترف بما بعث به نبيه محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم من أهل الملل، واعتصم به وتمسك بالنور الذي أنزله إلى نبيه، قال ابن جريج الهاء في (به) كناية عن القرآن، فسيدخلهن في رحمة منه معناه ستنالهم رحمته التي تنجيهم من عقابه، وتوجب لهم ثوابه، وجنته، ويلحقهم ما لحق أهل الايمان به، والتصديق لرسله.
5. ﴿وَيَهْدِيهِمْ إليه صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ يعني يوفقهم لإصابة فضله الذي تفضل به على أوليائه ويسددهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل طاعته واقتفاء اثارهم واتباع دينهم، وذلك هو الصراط المستقيم، وهو الإسلام الذي ارتضاه الله دينا لعباده، ونصب ﴿صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ على القطع من الهاء في قوله: (إليه) ويحتمل أن يكون المراد بقوله: ﴿وَيَهْدِيهِمْ إليه﴾ يعني إلى ثوابه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/407.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. البرهان: الشاهد بالحق في نفسه، وقيل: البرهان: البيان، يقال: برهن قوله؛ أي: بينه بحجة ومنه ﴿بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي: حجتان.
ب. الاعتصام: الامتناع، واعتصم فلان بِاللهِ: إذا امتنع من الشر به، والعصمة من الله: دفع الشر عن عبده، وأعصمت فلانا: هيأت له ما يعتصم به، وكل متمسك بالشيء معتصم، واعتصم فلان بك: إذا لزمك، والعصمة من الله على وجهين:
• أحدهما: بمعنى الحفظ، فيمنع كيد الكائدين، كما قال لنبيه، صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾
• الثاني: أن يلطف بعبده بشيء يمتنع عبده من المعاصي، وقيل: هو الأمر والدلالة، يقال: عصمه، فلم يعتصم من الناس، والأول قول شيخينا أبي علي وأبي هاشم.
ج. الصراط: الطريق المستقيم، خلاف المعوج.
2. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: اتصال الآية بما قبلها اتصال الدليل بالأحكام، لأنه لما فصل ذكر الأحكام التي يجب العمل بها ذكر البرهان ليكون الإنسان على ثقة منها.
ب. وقيل: لما ذكر حديث عيسى وما قيل فيه وما احتج عليهم خاطب بأنه قد جاءكم برهان فاتبعوه، ولا تتبعوا أهل الزيغ.
3. ﴿يَا أَيُّهَا﴾ نداء وتنبيه ﴿النَّاسِ﴾ خطاب لجميع المكلفين ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ﴾ أي: حجة:
أ. قيل: هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما معه من المعجزات التي تشهد بصدقه فيما يؤديه ويدعو إليه.
ب. وقيل: أراد جميع الحجج.
4. ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ قيل: هو القرآن، عن الحسن وقتادة وابن جريج، وشبه بالنور؛ لأنه يتبين به الحق من الباطل، كما بالنور تتبين الأشياء وتميز الأشخاص والألوان ﴿مُبِينًا﴾ يبين الأحكام والحق من الباطل.
5. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ﴾ أي: بوحدانيته، وما يجوز عليه، وما لا يجوز عليه، ونزهوه عن صفات الخلق وقبائح الفعل ﴿وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾:
أ. قيل: امتنعوا بالقرآن عن المعاصي.
ب. وقيل: امتنعوا بِاللهِ وطاعته، واتباع أمره من شر الشياطين، وهوى النفس.
6. ﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ﴾ يعني: الجنة ﴿وَفَضْلٍ﴾ ما يبسط لهم من الكرامة من تضعيف الحسنات، وما يزيدهم من النعم على المستحق ﴿وَيَهْدِيهِمْ﴾ يدلهم ﴿إِلَيْهِ﴾:
أ. قيل: إلى الله ورضاه بما بين لهم من طاعته، وبيان ما يوجب لهم رضاه، في معني قول الحسن والأصم وأبي مسلم.
ب. وقيل: إلى الجنة والثواب، عن أبي علي كأنه يرجع إلى الفضل إلى محذوف، وهو الثواب.
7. ﴿صِرَاطًا﴾ طريقًا ﴿مُسْتَقِيمًا﴾:
أ. أي: لا عوج فيه، وهو الإسلام، عن الحسن.
ب. وقيل: طريق الجنة، عن أبي علي.
8. مسائل لغوية ونحوية:
أ. الهاء في قوله: ﴿بِهِ﴾:
• قيل: يعود على البرهان، وهو القرآن، عن ابن جريج وأبي علي.
• وقيل: يعود على اسم الله على معنى الاعتصام لطلب مرضاته.
ب. في ﴿صِرَاطٍ﴾ قولان:
• أحدهما: على المفعول به؛ لأن فيه معنى يعرفهم صراطًا مستقيمًا.
• الثاني: على القطع من الهاء.
ج. في ﴿إِلَيْهِ﴾ يعني ويهديهم إلى الحق صراطًا مستقيمًا، فحمل النصب على المعنى، وهو على هذا الوجه حال عندنا، عن علي بن عيسى.
د. نصب ﴿مُسْتَقِيمًا﴾؛ لأنه صفة للصراط.
9. سؤال وإشكال: لم كرر التنبيه في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا﴾؟ والجواب: على عادة العرب في الإفهام والمبالغة والتأكيد.
10. سؤال وإشكال: أليس عندكم الأعمال من الإيمان فكيف عطف عليه؟ والجواب:
أ. أن الإيمان في اللغة هو التصديق، وهو المراد بالآية.
ب. وقيل: أعاد ذكر الأعمال تأكيدًا وإزالة للتوهم.
11. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن المعارف ليست ضرورية حتى يصح أن يكون الرسول والمعجزات براهين، والقرآن نورًا يستدل به.
ب. أن مجرد الإيمان لا يكفي في استحقاق الثواب حتى تنضم إليه الأعمال، فيبطل قول المرجئة.
ج. أن الهداية تكون بمعنى الثواب؛ لأن الأليق بالكلام حمله عليه.
د. أن ذلك فعل العبد لذلك ألحق الوعيد بهم، وأضافه إليهم، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق.
هـ. أن الثواب جزاء على العمل، فيبطل قولهم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/169.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. البرهان: الشاهد بالحق، وقيل: البرهان: البيان، يقال: برهن قوله أي: بينه بحجة.
ب. الاعتصام الامتناع، واعتصم فلان بالله أي: امتنع من الشر به، والعصمة من الله: دفع الشر عن عبده، واعتصمت فلانا: هيأت له ما يعتصم به، والعصمة من الله تعالى على وجهين:
• أحدهما: بمعنى الحفظ، وهو أن يمنع عبده كيد الكائدين، كما قال سبحانه لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾
• والآخر: أن يلطف بعبده بشيء يمتنع عنده من المعاصي.
2. لما فصل الله ذكر الاحكام التي يجب العمل بها، ذكر البرهان بعد ذلك ليكون الإنسان على ثقة ويقين، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ وهو خطاب للمكلفين من سائر الملل الذين قص قصصهم في هذه السورة ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي: أتاكم حجة من الله يبرهن لكم عن صحة ما أمركم به، وهو:
أ. محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، لما معه من المعجزات القاهرة، الشاهدة بصدقه.
ب. وقيل: هو القرآن.
3. ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ﴾ معه ﴿نُورًا مُبِينًا﴾ يبين لكم الحجة الواضحة، ويهديكم إلى ما فيه النجاة لكم من عذابه، وأليم عقابه، وذلك النور:
أ. هو القرآن، عن مجاهد، وقتادة، والسدي.
ب. وقيل: النور ولاية علي عليه السلام، عن أبي عبد الله عليه السلام.
4. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ﴾ أي: صدقوا بوحدانية الله، واعترفوا ببعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ أي: تمسكوا بالنور الذي أنزله على نبيه، ﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ﴾ أي: نعمة منه هي الجنة، عن ابن عباس ﴿وَفَضْلٍ﴾ يعني ما يبسط لهم من الكرامة، وتضعيف الحسنات، وما يزاد لهم من النعم، على ما يستحقونه.
5. ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ أي يوفقهم لإصابة فضله الذي يتفضل به على أوليائه، ويسددهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل طاعته، واقتفاء آثارهم، والاهتداء بهديهم، والاستنان بسنتهم، واتباع دينهم، وهو الصراط المستقيم، الذي ارتضاه الله منهجا لعباده.
6. ﴿صِرَاطًا﴾: انتصب على أنه مفعول ثان ﴿لِيَهْدِيَهُمْ﴾، فهو على معنى يعرفهم صراطا، ويجوز أن يكون حالا من الهاء في إليه بمعنى: ويهديهم إلى الحق صراطا.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/225.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ في البرهان ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه الحجّة، قاله مجاهد، والسّدّي.
ب. الثاني: القرآن، قاله قتادة.
ج. الثالث: أنه النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله سفيان الثّوريّ، فأمّا النّور المبين، فهو القرآن، قاله قتادة، وإنّما سمّاه نورا، لأنّ الأحكام تبين به بيان الأشياء بالنّور.
2. ﴿وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ أي: استمسكوا، وفي (هاء) به قولان:
أ. أحدهما: أنها تعود إلى النّور وهو القرآن، قاله ابن جريج.
ب. الثاني: تعود إلى الله تعالى، قاله مقاتل.
3. في (الرّحمة) قولان:
أ. أحدهما: أنها الجنة، قاله ابن عباس، ومقاتل.
ب. الثاني: أنها نفس الرّحمة، والمعنى: سيرحمهم، قاله أبو سليمان.
4. في (الفضل) قولان:
أ. أحدهما: أنه الرّزق في الجنة، قاله مقاتل.
ب. الثاني: أنه الإحسان، قاله أبو سليمان.
5. ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ أي: يوفّقهم لإصابة الطّريق المستقيم، وقال ابن الحنفيّة: الصّراط المستقيم: دين الله.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/504.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما أورد الله تعالى الحجة على جميع الفرق من المنافقين والكفار واليهود والنصارى وأجاب عن جميع شبهاتهم عمم الخطاب، ودعا جميع الناس إلى الاعتراف برسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾:
أ. والبرهان هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنما سماه برهانا لأن حرفته إقامة البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل.
ب. والنور المبين هو القرآن، وسماه نورا لأنه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب.
2. ولما قرر الله تعالى على كل العالمين كون محمد رسولا وكون القرآن كتابا حقا أمرهم بعد ذلك أن يتمسكوا بشريعة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ووعدهم عليه بالثواب فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ والمراد آمنوا بالله في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه، واعتصموا به أي بالله في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن نزغ الشيطان ويدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما، فوعد بأمور ثلاثة: الرحمة والفضل والهداية:
أ. قال ابن عباس: الرحمة الجنة، والفضل ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ يريد دينا مستقيما.
ب. الرحمة والفضل محمولان على ما في الجنة من المنفعة والتعظيم، وأما الهداية فالمراد منها السعادات الحاصلة بتجلي أنوار عالم القدس والكبرياء في الأرواح البشرية وهذا هو السعادة الروحانية، وأخر ذكرها عن القسمين الأولين تنبيها على أن البهجة الروحانية أشرف من اللذات الجسمانية.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/275.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن الثوري، وسماه برهانا لأن معه البرهان وهو المعجزة، وقال مجاهد: البرهان هاهنا الحجة، والمعنى متقارب، فإن المعجزات حجته صلّى الله عليه وآله وسلّم، والنور المنزل هو القرآن، عن الحسن، وسماه نورا لأن به تتبين الأحكام ويهتدى به من الضلالة، فهو نور مبين، أي واضح بين.
2. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ أي بالقرآن عن معاصيه، وإذا اعتصموا بكتابه فقد اعتصموا به وبنبيه، وقيل: ﴿وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ أي بالله، والعصمة الامتناع.
3. تقدم ﴿وَيَهْدِيهِمْ﴾ أي وهو يهديهم، فأضمر هو ليدل على أن الكلام مقطوع مما قبله، ﴿إِلَيْهِ﴾ أي إلى ثوابه، وقيل: إلى الحق ليعرفوه، ﴿صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ أي دينا مستقيما، و﴿صِرَاطًا﴾ منصوب بإضمار فعل دل عليه ﴿وَيَهْدِيهِمْ﴾ التقدير، ويعرفهم صراطا مستقيما، وقيل: هو مفعول ثان على تقدير، ويهديهم إلى ثوابه صراطا مستقيما، وقيل: هو حال.
4. والهاء في ﴿إِلَيْهِ﴾:
أ. قيل: هي للقرآن.
ب. وقيل: للفضل.
ج. وقيل: للفضل والرحمة، لأنهما بمعنى الثواب.
د. وقيل: هي لله تعالى على حذف المضاف كما تقدم من أن المعنى ويهديهم إلى ثوابه، أبو علي: الهاء راجعة إلى ما تقدم من اسم الله تعالى، والمعنى ويهديهم إلى صراطه، فإذا جعلنا ﴿صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ نصبا على الحال كانت الحال من هذا المحذوف.
5. في قوله: ﴿وَفَضْلٍ﴾ دليل على أنه تعالى يتفضل على عباده بثوابه، إذ لو كان في مقابلة العمل لما كان فضلا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/27.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ بما أنزله عليكم من كتبه، وبمن أرسله إليكم من رسله، وما نصبه لهم من المعجزات، والبرهان: ما يبرهن به على المطلوب.
2. ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ وهو القرآن، وسماه نورا: لأنه يهتدى به من ظلمة الضلال ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ أي: بالله، وقيل: بالنور المذكور.
3. ﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ﴾ يرحمهم بها ﴿وَفَضْلٍ﴾ يتفضل به عليهم ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ﴾ أي: إلى امتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، أو إليه سبحانه وتعالى باعتبار مصيرهم إلى جزائه وتفضله ﴿صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ أي: طريقا يسلكونه إليه مستقيما لا عوج فيه، وهو التمسك بدين الإسلام وترك غيره من الأديان، قال أبو علي الفارسي: الهاء في قوله: ﴿إِلَيْهِ﴾ راجعة إلى ما تقدم من اسم الله، وقيل: راجعة إلى القرآن؛ وقيل: إلى الفضل؛ وقيل: إلى الرحمة والفضل، لأنهما بمعنى الثواب، وانتصاب صراطا: على أنه مفعول ثان للفعل المذكور؛ وقيل: على الحال.
__________
(1) فتح القدير: 1/626.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَآ أَيُّهَا النَّاسُ﴾ مطلقًا ﴿قَدْ جَآءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ البرهان المعجزات والدين والرسول ودلائل العقل، وعن ابن عبَّاس: هو النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم .
2. ﴿وَأَنزَلْنآ إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا﴾ القرآن، أو البرهان والنور كلاهما القرآن، فإنَّه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب، ولأنَّه يتبيَّن به الأحكام كما يتبيَّن بالنور الأعيان، وبرهان على صدق مبلِّغه في دعوى الرسالة، وجاز أنَّ البرهان الدين لابتنائه على البراهين القاطعة، وأنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم برهان لأنَّ حرفته إقامة البراهين على تحقيق الحقِّ وإبطال الباطل.
3. وفرَّع على مجيء البرهان وإنزال النور تفصيلاً بقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ﴾ بالله تعالى، وقيل: بالنور المبين، وهو القرآن، والصحيح الأوَّل، ﴿فَسَيُدْخِلُهُمُ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ﴾ جنَّته، سمَّاها على التجوُّز الإرساليِّ، والظرفيَّة حقيقة باسم ما ينزل فيها، وذلك في مقابلة عملهم، ولا واجب على الله، وقيل: الرحمة الثواب، والظرفيَّة مجازيَّة، ﴿وَفَضْلٍ﴾ إحسان بما لا يعلمه إلَّا الله زائد على ذلك ﴿وَيَهْدِيهِمُ إِلَيْهِ﴾ إلى الله، أي: ثواب الله، أو إلى الفضل أو الموعود به ﴿صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾ دين الإسلام في الدُّنيا، أو طريق الجنَّة في الآخرة، وأمَّا الذين كفروا واعتصموا بالطاغوت فسيدخلهم في عذابه، وقدَّم ذكر الرحمة والفضل مع تأخيرهما في الوجود عن الهدى إلى الصراط المستقيم تعجيلاً للمسرَّة، ويجوز جعل (إِلَيْهِ) حالاً من (صِرَاطًا)
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/365.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ لما بيّن تعالى بطلان ما عليه الكفرة على طبقاتهم من فنون الكفر والضلال، عمم الخطاب ودعا جميع الناس إلى الاعتراف برسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وسماه برهانا لما أوتيه من البراهين القاطعة التي شهدت بصدقه، ففيه تنبيه لهم على أن الحجة قد تمت ببعثته، فلم يبق بعد ذلك علة لمتعلل، قال أبو السعود: التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين، لإظهار اللطف بهم والإيذان بأن مجيئه إليهم لتربيتهم وتكميلهم.
2. ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ أي: ضياء واضحا على الحق، يهتدى به من ظلمات الضلال، وهو القرآن.
3. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ أي: عصموا به أنفسهم مما يرديها من زيغ الشيطان ﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ﴾ وهي الجنة ﴿وَفَضْلٍ﴾ يتفضل به عليهم بعد إدخالهم الجنة، كالنظر إلى وجهه الكريم وغيره من مواهبه الجليلة.
4. ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ فيسلكهم، بتمسكهم بالبرهان والنور المبين، الطريق الواضح القصد، وهو الإسلام، وتقديم ذكر الوعد بإدخال الجنة، على الوعد بالهداية إليها، على خلاف الترتيب في الوجود بين الموعودين ـ للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصليّ.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/487.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما قامت الحجة في الآيات الأخيرة على النصارى وفيما قبلها على اليهود وهم أهل الكتاب، والمعرفة بالنبوات والشرائع، وقامت الحجة قبل ذلك على المنافقين في أثناء السورة كما قامت على المشركين فيها وفي سور كثيرة، وظهرت نبوة النبي الخاتم ظهور الشمس ليس دونها سحاب لأن سحب الشبهات قد انقشعت بالحجج المشار إليها كل الانقشاع، نادى الله تعالى الناس كافة ودعاهم إلى اتباع برهانه، والاهتداء بالنور الذي جاء به، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي قد جاءكم من قبل ربكم، بفضله وعنايته بتربيتكم وتزكية نفوسكم، برهان عظيم أو جلي يبين لكم حقيقة الإيمان الصحيح بالله عز وجل، وجميع ما تحتاجون إليه من أمر دينكم ـ مؤيدا لكم ذلك بالدلائل والبينات والحكم، وهو محمد النبي العربي الأمي، الذي يظهر لكل من عرف سيرته في نشأته وتربيته، وحاله في بعثته وسنته، أنه هو نفسه برهان على حقية ما جاء به: أمي لم يتعلم شيئا من كتب قط، ولم يعن في طفولته ولا في شبابه بشيء مما كان يسمى علما عند قومه الأميين كالشعر والنسب وأيام العرب، قام في كهولته يعلم الأميين والمتعلمين حقائق العلوم الإلهية، وصفات الربوبية، وما يجب لتلك الذات العلية، وما تتزكى به النفس البشرية، وتصلح به الحياة الاجتماعية، ويكشف ما اشتبه على أهل الكتاب من أصول دينهم، وما اضطرب فيه نظار الفلسفة العليا من مسائل فلسفتهم، ويرفع قواعد الإيمان على أساس الحجج الكونية العقلية، ويسلك هذا المسلك في بيان الشرائع العلمية، والحكمة الأدبية، والسياسية والحربية والاجتماعية، كل ذلك كان على طريق الحجة والبرهان، فلا غرو أن يسمى هو نفسه برهانا.
2. وهو برهان بسيرته العملية، كما أنه برهان في دعوته الشرعية، فقد نشأ يتيما لم يعن بتربيته عالم ولا حكيم ولا سياسي، بل ترك كما كان ولدان المشركين يتركون وشأنهم، وكان في سن التعليم وتكون الأخلاق والملكات يرعى الغنم نهارا وينام من أول الليل، فلا يحضر سمار قومه (مواضع السمر في الليل) ولا معاهد لهوهم، واتجر قليلا في شبابه، مع قومه من أبناء الجاهلية وأترابه، فهو لم يصادف من التربية المنزلية والتأديب الاجتماعي في أول نشأته، ما يؤهله للمنصب الذي تصدى له في كهولته، وهو تربية الأمم تربية دينية اجتماعية سياسية حربية، ولكنه قام بهذه التربية أكمل قيام، وما زال يعجز عن مثل ما قام به من يستعدون له بالعلوم والأعمال، فكان بهذا برهانا على عناية الله به، وتأييده إياه وبوحيه وتوفيقه.
3. وذلك قوله عز وجل: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ أي أنزلنا إليكم أيها الناس بما أوحينا إليه كتابا من لدنا هو كالنور: بيّن في نفسه، مبين لكل ما أنزل لبيانه، وتنجلي لكم الحقائق ببلاغته وأساليب بيانه بحيث لا يشتبه فيها من تدبره وعقل معانيه، بل تثبت في عقله، وتؤثر في قلبه، وتكون هي الحاكمة على نفسه، والمصلحة له عمله، مثال ذلك توحيد الله في ألوهيته وربوبيته، هو أثبت الحقائق، وأعلى ما يصل إليه البشر من المعارف، وأفضل ما تتزكى به النفوس، وتترقى به العقول، وقد بعث به جميع رسل الله إلى جميع الأمم، كان كل منهم يدعو أمته إليه، وكان يستجيب الناس لهم بقدر استعدادهم لفهم هذه الحقيقة العليا، ثم لا يلبثون أن يشوهوها بعدَهم بالشرك وضروب الوثنية التي تطمس العقول، وتدنس النفوس، وتهبط بالفطرة البشرية من أوج كرامتها وعزتها التي جعلها الله أهلا لها، إلى المهانة والذلة بالخضوع والخنوع والاستخداء لبعض المخلوقات من جنسهم أو من أجناس أخرى فضل الله جنسهم عليها، وكان أقرب الأمم التاريخية عهدا بالأنبياء والرسل اليهود والنصارى وكانوا على نسيانهم حظا مما ذكروا به لا يزالون يحفظون بعض وصايا رسلهم بالتوحيد ولكنهم لا يفقهون معناها إذ يلبسونها بالشرك في الألوهية كاتخاذ المسيح إلها بل اتخاذ من دونه من مقدسيهم آلهة أو أنصاف آلهة يزعمون أنهم وسطاء بينهم وبين الله في كل ما ينفعهم ويضرهم في معاشهم ومعادهم، وبالشرك في الربوبية باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ويحلون لهم ويحرمون عليهم فيتبعونهم.
4. هكذا كانت اليهود والنصارى في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يتبعون أناسا من علمائهم وأحبارهم ومقدسيهم في عقائد وآداب وشرائع مشوبة بالوثنية والخضوع لغير الله تعالى، لم تؤخذ من وحي الله المنزلة كما هو الواجب في أمور الدين الخالص من العقائد والعبادات وسائر ما يتقرب به إلى الله تعالى، ولو كان البشر يستقلون بمعرفة هذا من غير وحي من الله لما كانوا محتاجين إلى بعثة الرسل، وقد يزعمون أنهم كانوا مبينين لما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام، ولو صدقوا لما صار دينهم في شكل غير ما كانا عليه هما ومن كان متبعا لهما في زمنهما، بحيث لو بعثا ثانية لأنكرا كل ما عليه هؤلاء الأعيان أو أكثره، وإذا كان الركن الأعظم لدينهما وهو التوحيد قد زلزل عند اليهود وزال من عند النصارى فكيف يكون دينهما هو دين موسى وعيسى عليهما السلام؟، هذه إشارة إلى ما كان عليه أقرب الناس عهدا بدعوة الرسل إلى التوحيد فما ظنك بغيرهم؟، فما الذي فعله القرآن في بيان هذه العقيدة؟
5. لو لم يجئ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في بيان التوحيد بغير عنوانه في الشهادتين (لا إله إلا الله) لما كان كتابه نورا مبينا لهذا الحقيقة لأن من أشرك من أهل الكتاب وأمثالهم من الأمم القديمة كالهنود والكلدانيين والمصريين واليونان كانوا يقولون إن الإله واحد، وبعضهم كان يصرح بمثل كلمة التوحيد عندنا أو بها نفسها ولكنهم كانوا على ذلك مشركين يزعمون أن بعض البشر أو الحيوان أو الجماد ينفع أو يضر بصفة خارقة للعادة غير داخلة في سلسلة نظام الأسباب والمسببات، فيتوجهون إلى تلك الأشياء المعتقدة توجه العباد، ويزعمون أن ما جاء به رسلهم من أحكام الدين غير كاف في بيان الدين فيجب تركه إلى ما يضعه رؤسائهم من أحكام الحلال والحرام من غير نظر التقليدي فيه، لدعمه به وإرجاعه إليه.
6. فلما كانت الوثنية قد تغلغلت في جميع الأديان المأثورة وأفسدتها على أهلها، فقلد بعضها بعضا فيما ورثوه منها، أنزل الله لهداية البشر هذا النور المبين (القرآن) فكان أشد إبانة لدقائق مسائل التوحيد وخفاياها من نور الكهرباء المتألق في هذا العصر الذي نرى فيه السراج الواحد في قوة أو ألوف من نور الشمع، فبين لمن يفهم لغته حقيقة التوحيد بالدلائل والبراهين الكونية والعقلية، وضرب الأمثال المادية والمعنوية وضروب القصص والمواعظ، والهداية إلى النظر والتجارب، وكشف ما ران على هذه العقيدة من شبهات المضلين، وأوهام الضالين، التي مزجتها بالشرك مزجا، جمع بين الضدين بل النقضين جمعا، ولون أساليب الكلام فيها ونوعه لتتقبل النفس تكراره بقبول حسن، ولا يعرض لها من ترتيل آياته شيء من الملل، فكان بيانه في تشييد صرح الوحدانية، وتقويض بناء الوثنية، بيانا لم يعهد مثله في كماله وتأثيره في كتاب بشري ولا إلهي.
7. إلا أن إدراك هذه الحقيقة العليا والإحاطة بها، والعلم بما كان من ضروب الشبهات عليها، والأباطيل المتخللة فيها، وبما لها من التمكن في نفوس الناس، وما يتوقف عليه امتلاخها وانتزاعها من فنون البيان، بحسب سنة الله تعالى في تحويل الأمم من حال إلى حال، كل ذلك مما لا يعقل أن يتفق لرجل أمي لم يقرأ كتابا في الدين ولا في العلم، ولا عاشر أحدا عارفا بهما، كيف وقد كان ذلك فوق علوم الذين صرفوا كل حياتهم في الدرس والقراءة، بل نقول إن هذا البيان الأكمل لتقرير التوحيد واجتثات جذور الوثنية الذي جاء به القرآن وأشرنا إليه آنفا لم يكن قط معهودا من الحكماء الربانيين، ولا من النبيين والمرسلين، دع من دونهم من الأميين أو المتعلمين، لهذا تعين أن يكون الله تعالى هو المنزل لهذا النور المبين، ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: 195 196]
8. فمن تأمل ما قلناه بإنصاف ظهر له به على اختصاره أن محمدا النبي الأمي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان نفسه برهانا من الله تعالى أي حجة قطعية على حقية دينه، وأن كتابه القرآن العربي أنزل من العلم الإلهي عليه، ولم يكن لعلمه الكسبي أن يأتي بمثله، وإنما أنزل نورا مبينا إلى جميع الناس، ليروا بتدبره حقيقة دين الله الذي يسعدون به في حياتهم الدنيا، وينالون به في الآخرة ما هو خير وأبقى، ولذلك قال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ﴾
9. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ﴾ الاعتصام الأخذ والتمسك بما يعصم ويحفظ، مأخوذ من العصام وهو الحبل الذي تشد به القرابة والإداوة لتحمل به، والأعصم الوعل يعتصم في شعاف الجبال وقننها، فالذين يعتصمون بهذا القرآن يدخلهم الله في رحمة خاصة منه لا يدخل فيها سواهم، وفضل خاص لا يتفضل به على غيرهم ويدل على هذا التخصيص تنكير الفضل والرحمة، ورحمة الله وفضله غير محصورين، ولكنه يختص من يشاء بما شاء من أنواعهما، وقد فسر الرحمة هنا بالجنة، والفضل بما يزيد الله به أهلها على ما يستحقون من الجزاء، كما قال في آية أخرى تقدمت: ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ ويمكن أن يفسرا بما هو أهم من نعيم الآخرة جزاء وزيادة، فيشملا ما يكون لأهل الاعتصام بالقرآن الذي هو حبل الله المتين من الخصوصية في الدنيا، إذ يكونون رحمة للناس بعلومهم وأعمالهم وفضائلهم، واجتماعهم وتعاونهم وتراحمهم، يرحم الناس الاقتداء بهم والاقتباس منهم، ومن ذلك أنهم يكونون رحماء للناس، تحملهم رحمتهم على السعي لخير الناس، وبذل فضلهم من علم وعمل ومال لهم، فيكونون أئمة للناس برحمتهم وفضلهم.
10. ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ أي ويهديهم تعالى هداية خاصة موصلة إليه صراطا مستقيما أي طريقا قويما قريبا يبلغون به الغاية من العمل بالقرآن، أما في الدنيا فبالسيادة والعزة والكمال، وأما في الآخرة فبالجنة والرضوان، فهذا الصراط المستقيم لا يهتدى إليه إلا بالاعتصام بالقرآن الكريم، فيا خسارة المعرضين، ويا طوبى للمعتصمين، وقد صدق وعد الله للصادقين، ففاز من اعتصم من الأولين، وخاب وخسر من أعرض من الآخرين، فعسى أن يعتبر بذلك المنتمون في هذا العصر إلى هذا الدين، وقد سكت عن القسم الآخر المقابل لهؤلاء المؤمنين المعتصمين للعلم به من المقابلة، وللإيذان بأنه بعد ظهور البرهان،وتألق نور البيان، لا ينبغي أن يوجد، وإن وجد لا يؤبه له لأنه كالعدم.
__________
(1) تفسير المنار: 6/81.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن حاجّ الله تعالى أهل الزيغ والضلال جميعا، فحاجّ النصارى في الآية السابقة، وحاج اليهود في الآية التي قبلها، وحاج المنافقين والمشركين أثناء السورة وفى سور كثيرة غيرها، وأقام الحجة عليهم جميعا وظهرت نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ظهور الشمس في رائعة النهار ـ نادى الناس كافة ودعاهم إلى اتباع برهانه والاهتداء بنوره.
2. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي قد جاءكم من قبل ربكم برهان جلىّ يبين لكم حقيقة الإيمان به وبجميع ما أنتم في حاجة إليه من أمر دينكم مؤيد بالدلائل والبينات، ألا وهو النبي الأمي الذي هو برهان على حقية ما جاء به بسيرته العملية، ودعوته التشريعية، فإن أمّيّا لم يتعلم في مدرسة ولم يعن في طفولته بما كان يسمى عند قومه علما كالشعر والنسب وأيام العرب بل ترك ولدان المشركين وشأنهم ولم يحضر سمّار قومه ولا معاهد لهوهم، ولم يحظ من التربية المنزلية والتأديب الاجتماعي في أول نشأته ما يؤهله للمنصب الذي تصدّى له في كهولته، وهو تربية الأمم تربية دينية اجتماعية سياسية حربية، وهو مع هذا قد قام به على أتم وجه وأكمل طريق ـ لهو برهان على عناية الله به، وتأييده إياه بوحيه وهديه.
3. ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ أي وأنزلنا إليكم بما أوحينا إليه كتابا هو كالنور في الهداية للناس، مبينا لكل ما أنزل لبيانه من توحيد الله وربوبيته وهو المقصد الأعلى الذي بعث به جميع الرسل وكان كل منهم يدعو أمته إليه ويستجيب له الناس بقدر استعدادهم لفهم حقيقته، ثم لا يلبثون أن يشوّهوه بالشرك وضروب الوثنية التي تدنس النفوس وتهبط بها من أوج العزة والكرامة إلى المهانة والذلة بالخضوع لبعض مخلوقات من جنسهم أو من أجناس أخرى.
4. ولما تغلغلت الوثنية في جميع الأديان المعروفة وأفسدتها على أهلها، أنزل الله لهداية البشر هذا النور المبين وهو القرآن، فبين لمن يفهم لغته حقيقة التوحيد بالدلائل والبراهين الكونية والعقلية مع ضرب الأمثال وذكر شيء من القصص لكشف ما ران على هذه العقيدة من شبهات المضلين وأوهام الضالين التي مزجتها بالشرك.
5. هذا البيان الذي جاء به القرآن لتقرير التوحيد واجتثاث جذور الوثنية لم يكن معهودا مثله من الحكماء ولا من الأنبياء، فمن ثم وجب أن يكون من رب العالمين ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾
6. والخلاصة ـ إن محمدا النبي الأمي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان برهانا على حقية دينه، وكتابه القرآن أنزل من العلم الإلهي ولم يكن لعلمه الكسبي أن يأتي بمثله، وأنزل نورا مبيّنا لجميع الناس ما هم في حاجة إليه في معاشهم ومعادهم ليتدبروا آياته ويسعدوا به في حياتهم الدنيا وينالوا به الخير في العقبى.
7. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ﴾ الاعتصام التمسك بما يعصم ويحفظ، أي فأما الذين يعتصمون بهذا القرآن فيدخلهم الله في رحمة خاصة منه لا يدخل فيها سواهم، وفضل خاصّ لا يتفضل به على غيرهم، ولكنه يختص من يشاء بما شاء من أنواعهما، وقال ابن عباس: الرحمة الجنة، والفضل ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
8. ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ أي ويهديهم طريقا قويما وهداية خاصة تبلّغهم السعادة في الدنيا بالعزة والكرامة وفى الآخرة بالجنة والرضوان، وهذا الصراط المستقيم لا يهدى إليه إلا الاعتصام بالقرآن الكريم واتباع سنة سيد المرسلين، والمراد أنه يوقفهم ويثبّتهم على تلك الهداية إلى الصراط المستقيم وسكت عن القسم الآخر المقابل لهؤلاء المؤمنين المعتصمين للإيذان بأنه بعد ظهور البرهان لا ينبغي أن يوجد، وإن وجد لا يؤبه له ولا يهتمّ بشأنه.
__________
(1) تفسير المراغي 6/36.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ومن ثم دعوة إلى الناس كافة ـ كتلك الدعوة التي أعقبت المواجهة مع أهل الكتاب من اليهود في الدرس الماضي ـ أن الرسالة الأخيرة تحمل برهانها من الله، وهي نور كاشف للظلمات والشبهات، فمن اهتدى بها واعتصم بالله فسيجد رحمة الله تؤويه؛ وسيجد فضل الله يشمله؛ وسيجد في ذلك النور والهدى إلى صراط الله المستقيم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾..
2. وهذا القرآن يحمل برهانه للناس من رب الناس، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، إن طابع الصنعة الربانية ظاهر فيه؛ يفرقه عن كلام البشر وعن صنع البشر.. في مبناه وفي فحواه سواء، وهي قضية واضحة يدركها أحيانا من لا يفهمون من العربية حرفا واحدا، بصورة تدعو إلى العجب.
3. كنا على ظهر الباخرة في عرض الأطلنطي في طريقنا إلى نيويورك، حينما أقمنا صلاة الجمعة على ظهر المركب.. ستة من الركاب المسلمين من بلاد عربية مختلفة وكثير من عمال المركب أهل النوبة، وألقيت خطبة الجمعة متضمنة آيات من القرآن في ثناياها، وسائر ركاب السفينة من جنسيات شتى متحلقون يشاهدون! وبعد انتهاء الصلاة جاءت إلينا ـ من بين من جاء يعبر لنا عن تأثره العميق بالصلاة الإسلامية ـ سيدة يوغسلافية فارة من الشيوعية إلى الولايات المتحدة! جاءتنا وفي عينيها دموع لا تكاد تمسك بها وفي صوتها رعشة، وقالت لنا في انجليزية ضعيفة: أنا لا أملك نفسي من الإعجاب البالغ بالخشوع البادي في صلاتكم.. ولكن ليس هذا ما جئت من أجله.. إنني لا أفهم من لغتكم حرفا واحدا، غير أنني أحس أن فيها إيقاعا موسيقيا لم أعهده في أية لغة.. ثم.. إن هناك فقرات مميزة في خطبة الخطيب، هي أشد إيقاعا، ولها سلطان خاص على نفسي! وعرفت طبعا أنها الآيات القرآنية، المميزة الإيقاع ذات السلطان الخاص! لا أقول: إن هذه قاعدة عند كل من يسمع ممن لا يعرفون العربية.. ولكنها ولا شك ظاهرة ذات دلالة! فأما الذين لهم ذوق خاص في هذه اللغة، وحس خاص بأساليبها، فقد كان من أمرهم ما كان؛ يوم واجههم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذا القرآن.. وقصة الأخنس بن شريق، وأبي سفيان بن حرب، وأبي جهل وعمرو بن هشام، في الاستماع سرا للقرآن، وهم به مأخوذون، قصة مشهورة، وهي إحدى القصص الكثيرة.. والذين لهم ذوق في أي جيل يعرفون ما في القرآن من خصوصية وسلطان وبرهان من هذا الجانب..
4. فأما فحوى القرآن.. التصور الذي يحمله، والمنهج الذي يقرره، والنظام الذي يرسمه، و(التصميم) الذي يضعه للحياة.. فلا نملك هنا أن نفصله.. ولكن فيه البرهان كل البرهان على المصدر الذي جاء منه؛ وعلى أنه ليس من صنع الإنسان، لأنه يحمل طابع صنعة كاملة ليس هو طابع الإنسان.
5. وفي هذا القرآن نور: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾.. نور تتجلى تحت أشعته الكاشفة حقائق الأشياء واضحة؛ ويبدو مفرق الطريق بين الحق والباطل محددا مرسوما.. في داخل النفس وفي واقع الحياة سواء.. حيث تجد النفس من هذا النور ما ينير جوانبها أولا؛ فترى كل شيء فيها ومن حولها واضحا.. حيث يتلاشى الغبش وينكشف؛ وحيث تبدو الحقيقة بسيطة كالبديهية، وحيث يعجب الإنسان من نفسه كيف كان لا يرى هذا الحق وهو بهذا الوضوح وبهذه البساطة!؟ وحين يعيش الإنسان بروحه في الجو القرآني فترة؛ ويتلقى منه تصوراته وقيمه وموازينه، يحس يسرا وبساطة ووضوحا في رؤية الأمور، ويشعر أن مقررات كثيرة كانت قلقة في حسه قد راحت تأخذ أماكنها في هدوء؛ وتلتزم حقائقها في يسر؛ وتنفي ما علق بها من الزيادات المتطفلة لتبدو في براءتها الفطرية، ونصاعتها كما خرجت من يد الله..
6. ومهما قلت في هذا التعبير: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾.. فإنني لن أصور بألفاظي حقيقته، لمن لم يذق طعمه ولم يجده في نفسه! ولا بد من المكابدة في مثل هذه المعاني! ولا بد من التذوق الذاتي! ولا بد من التجربة المباشرة!
7. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾.. والاعتصام بالله ثمرة ملازمة للإيمان به.. متى صح الإيمان ومتى عرفت النفس حقيقة الله وعرفت حقيقة عبودية الكل له، فلا يبقى أمامها إلا أن تعتصم بالله وحده، وهو صاحب السلطان والقدرة وحده.. وهؤلاء يدخلهم الله في رحمة منه وفضل، رحمة في هذه الحياة الدنيا ـ قبل الحياة الأخرى ـ وفضل في هذه العاجلة ـ قبل الفضل في الآجلة ـ فالإيمان هو الواحة الندية التي تجد فيها الروح الظلال من هاجرة الضلال في تيه الحيرة والقلق والشرود، كما أنه هو القاعدة التي تقوم عليها حياة المجتمع ونظامه؛ في كرامة وحرية ونظافة واستقامة ـ كما أسلفنا ـ حيث يعرف كل إنسان مكانه على حقيقته، عبد لله وسيد مع كل من عداه.. وليس هذا في أي نظام آخر غير نظام الإيمان ـ كما جاء به الإسلام ـ هذا النظام الذي يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، حين يوحد الألوهية؛ ويسوي بين الخلائق جميعا في العبودية، وحيث يجعل السلطان لله وحده والحاكمية لله وحده؛ فلا يخضع بشر لتشريع بشر مثله، فيكون عبدا له مهما تحرر! فالذين آمنوا في رحمة من الله وفضل، في حياتهم الحاضرة، وفي حياتهم الآجلة سواء..
8. ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾.. وكلمة (إليه).. تخلع على التعبير حركة مصورة، إذ ترسم المؤمنين ويد الله تنقل خطاهم في الطريق إلى الله على استقامة؛ وتقربهم إليه خطوة خطوة.. وهي عبارة يجد مدلولها في نفسه من يؤمن بالله على بصيرة، فيعتصم به على ثقة.. حيث يحس في كل لحظة أنه يهتدي؛ وتتضح أمامه الطريق؛ ويقترب فعلا من الله كأنما هو يخطو إليه في طريق مستقيم، إنه مدلول يذاق.. ولا يعرف حتى يذاق!
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/822.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن كشف الله سبحانه وتعالى ما عليه أهل الكتاب من عمى وضلال، ومن غلوّ في جانب، وتقصير من جوانب أخرى ـ جاء هذا النداء الكريم، من قبل الحق، دعوة عامة للناس جميعا، أن ينظروا في أنفسهم، وأن يدعو هذا الضلال الذي هم فيه، وأن يتلفتوا إلى هذا الرسول الكريم، الذي هو برهان مبين، وحجة مشرقة لا يزيغ عنها إلّا ضالّ، ولا يجحد بها إلا هالك، فإنها تحمل بين يديها، هذا النور السماوي، الذي فيه تبصرة لأولى الألباب، وهدى للمتقين! ووصف الرسول الكريم بأنه برهان من عند الله، لما يحمل من الأمارات الدالة على أنه رسول رب العالمين ـ تحدثت به التوراة وتحدث به الإنجيل، وعرف أهل الكتاب من اليهود والنصارى صفته، فجاء على الوصف الذي يعرفونه.. ثم جحدوه وأنكروه.. فهو حجة قائمة عليهم، ودينونة معلقة في أعناقهم.
2. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ هو بيان للآثار المترتبة على هذه الدعوة الكريمة من ربّ كريم.. فمن استجاب لها، وأقبل على الله مؤمنا، مخلصا له الإيمان به وحده، فهو في رحمته وفضله، وهو على نور من ربّه وهدى، لا يضلّ ولا يزيغ.. ومن كان هذا شأنه، وتلك سبيله، فالجنة مأواه، والنعيم نزله.. ومن صدّ عن سبيل الله، وحادّ الله ورسوله، فهو بعيد من رحمة الله، بعيد عن طريقه.. ومن كانت تلك صفته، فالجحيم مستقرّه، والنار مثواه! وقد ذكر القرآن الكريم الجانب المثمر من تلك الدعوة الكريمة، وعرض أهل الإيمان وما يلقون من فضل وإحسان.. تشويقا للنفوس إلى هذا المتّجه الكريم، وبعثا للهمم والعزائم إلى أخذ حظها من هذا الخير المبسوط.. فتلك هي سبيل العقلاء، وهذا هو مبتغى الراشدين من عباد الله.
3. أما السبيل الآخر ـ سبيل الغواة والضالين ـ فلم يذكره القرآن هنا، ولم يجعله وجها مقابلا لتلك الصورة المشرقة، إزراء به وبأهله، وحجبا للعيون أن تصطدم بهذه الصورة الكريهة، التي ينبغي أن ينصرف عنها كل عاقل، وأن يتجنبها كل رشيد!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1019.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. فذلكة للكلام السابق بما هو جامع للأخذ بالهدى ونبذ الضلال، بما اشتمل عليه القرآن من دلائل الحقّ وكبح الباطل، فالجملة استئناف وإقبال على خطاب النّاس كلّهم بعد أن كان الخطاب موجّها إلى أهل الكتاب خاصّة، والبرهان: الحجّة، وقد يخصّص بالحجّة الواضحة الفاصلة، وهو غالب ما يقصد به في القرآن، ولهذا سمّى حكماء الإسلام أجلّ أنواع الدليل، برهانا.
2. المراد هنا دلائل النبوءة، وأمّا النور المبين فهو القرآن لقوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا﴾ والقول في ﴿جَاءَكُمُ﴾ كالقول في نظيره المتقدّم في قوله: ﴿قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [النساء: 170]؛ وكذلك القول في ﴿أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ﴾
3. ﴿فَأَمَّا﴾ في قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ﴾ يجوز أن يكون للتفصيل: تفصيلا لما دلّ عليه ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ من اختلاف الفرق والنزعات: بين قابل للبرهان والنّور، ومكابر جاحد، ويكون معادل هذا الشقّ محذوفا للتهويل، أي: وأمّا الذين كفروا فلا تسل عنهم، ويجوز أن يكون (أمّا) لمجرد الشرط دون تفصيل، وهو شرط لعموم الأحوال، لأنّ (أمّا) في الشرط بمعنى (مهما يكن من شيء وفي هذه الحالة لا تفيد التفصيل ولا تطلب معادلا.
4. الاعتصام: اللوذ، والاعتصام بالله استعارة للوذ بدينه، وتقدّم في قوله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا﴾ في سورة آل عمران [103]، والإدخال في الرحمة والفضل عبارة عن الرضى.
5. ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾: تعلّق الجار والمجرور بـ (يهدي) فهو ظرف لغو، و﴿صِرَاطًا﴾ مفعول (يهدي)، والمعنى يهديهم صراطا مستقيما ليصلوا إليه، أي إلى الله، وذلك هو متمنّاهم، إذ قد علموا أنّ وعدهم عنده.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/340.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة جحود المشركين وأهل الكتاب للرسالة المحمدية، وبين بطلان قولهم، والإفك فيما يزعمون من تدين، وأن المسيح عليه السلام كان موضع المغالاة، فاليهود غالوا في إنكار رسالته، وزعموا أنهم قتلوه وما قتلوه وما صلبوه، وما مكنهم الله تعالى من أن يقتلوه، كما قتلوا نبيين من قبله، وغالى فيه النصارى فادعوا له الألوهية، بعد أن بين سبحانه وتعالى ذلك أخذ يبين المنهاج المستقيم، والدين الحق الذى لا يأتيه الباطل، وليس فيه غلو في أمر من الأمور، بل فيه النور والحجة والبرهان.
2. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ الخطاب عام لأهل العقول من الناس أجمعين كافرهم وملحدهم، ومشركهم ويهودهم ونصاراهم والمؤمنين بالله ورسله، وما أنزل على رسوله الأمين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
3. والبرهان الذى جاء رب العالمين الناس به هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقيل إنه القرآن، وقيل إنه القرآن والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد ذكر الزمخشري الأقوال الثلاثة على أنها محتملة، ويصح أن يكون آخرها أجمعها وهو أولى بالاعتبار لهذا.
4. وتوجيه القول على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو البرهان، أن شخصه الكريم من يوم مولده إلى أن قبضه الله تعالى إليه برهان صدق الرسالة التي كان يدعو إليها، ويهدى الناس بها، ذلك أنه نشأ يتيما من أبيه وأمه ومع ذلك لم يتدل إلى ما يتدلى إليه اليتامى، فلم يقع منه ما يتهافت فيه الذين حرموا عطف الأب وحنان الأم، ولم يتجه إلى ما يتجه إليه الغلمان في حياته الأولى، بل كان الجد يغلبه، حتى لقد قال فيه جده وهو لم يبلغ الثامنة من عمره: (إن ولدى هذا سيكون له شأن)، لما رآه من مخايل الذكاء والجد، والعزوف صغيرا عن المعابث، ولما بلغ سن الشباب بدا فيه الكمال وظهر واضحا في كل حياته، فلم يكذب قط، ولم يخن قط، ولم يقع منه ما يقع من الشباب من مجون، ولم يشرب خمرا أبدا مع شيوعها في الجاهلية، والتفاخر بها، ولم يلعب الميسر مع الانغمار فيه، ولم يرتكب ما يخل بالمروءة، ولم يسجد لصنم، بل تاجر، ولم يكن إلا أمينا في تجارته كما كان أمينا في عامة شئونه، حتى لقد لقب في العرب بلقب الأمين، فكان إذا ذكر هذا اللفظ لا يطلق إلا إليه، كما يحمل الكل، ويحمى الضعيف، ويعين على نوائب الدهر، كما وصفته زوجه أم المؤمنين خديجة، ولما بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، كان أوضح ما يوصف به الخلق العظيم، والعطف الكريم، والجزم في الدعوة إلى الحق من غير وناء، ولا كسل، إذا سالم كان الوفى في عهده، وإذا حارب كان العدل في حربه، وإذا خاصم كان الشريف في خصومته، وإذا تكلم كان العف في قوله، وإذا عامل كان السمح في معاملته، وإذا خطب كان كلامه فصل الخطاب، أوتى جوامع الكلم، كلامه حكم، وعمله سلم، وشرعه صلاح للناس في الدنيا والآخرة، وإذا كان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم له ذلك السمو، فشخصه برهان الصدق، ودليل الحق، وكثيرا ما كان يراه الرائى، فيسمع قوله، فيحكم بصدقه من غير أن يطلب دليلا من غير شخصه الكريم، رآه أعرابي فاسترعاه منظره الكريم، فقال: من أنت؟، قال الرسول الكريم: أنا محمد، فقال الأعرابي الذى يتكلم بما يسمع: (أنت الذى تقول فيك قريش أنك كذاب، لا، ليس هذا الوجه وجه كذاب)، ثم آمن به بعد أن علم ما يدعو إليه.
5. هذا تخريج قول الذين قالوا إن البرهان هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهم كثيرون من التابعين، وأما قول الذين قالوا إن البرهان هو القرآن الكريم، فهو واضح لأن القرآن هو معجزة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الدالة على صدق رسالته، ولكن الذى يقتضى توضيحه هو قوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ فإنه واضح أن المراد منها القرآن؛ لأنه المنزل من رب العالمين، وهو النور الواضح الهادي إلى الرشاد، ويجاب عن ذلك بأن القرآن الكريم فيه المزايا الثلاث، فهو الحجة القائمة، والمعجزة الدائمة، وهو تنزيل من رب العالمين، وهو نور يهدى للتي هي أقوم، وإن النور المبين في القرآن، ما اشتمل عليه من أحكام شرعية خالدة تنير السبيل وتوضحه لمن يسلك سبيل المؤمنين، فهي نافعة في الدين مبينة الحق، ومن اتبع أحكام القرآن هدى، ومن خالفها هوى، وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾، أنزلنا إليكم مواعظ وقصصا وأحكاما شرعية هي كالنور في هدايته وإرشاده وبيانه للأشياء فهي مبينة للطريق المستقيم، والنهج القويم، والحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
6. ولا يتغير المعنى اذا قلنا إن البرهان هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنه حينئذ يفسر قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾، بأنه القرآن، والمعنى والمؤدى فيهما، لا يختلف.
7. وهنا مباحث لفظية لا بد من الإشارة إليها بعبارات موجزة موضحة.
أ. أولها: التعبير بقوله تعالى: ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾، في قوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ﴾ فيه تقوية لمعنى البرهان؛ لأن ذلك الدليل إذا كان قد جاء من عند علام الغيوب الذى خلق السموات والأرض وما فيهما، لا بد أن يكون برهانا صادقا مقنعا لطالب الحق، مفحما لأهل الباطل الجاحدين، وقد زكى معنى التأكيد التعبير بقد وبالمجيء في قوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمُ﴾ أي أنه أتاكم كالأمر المحسوس المؤكد الذى يرى ويحس، فهو قائم بين أيديكم وحجة عليكم.
ب. ثانيها: إسناد الإنزال إلى الذات العلية ذات الجلال والإكرام في قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ﴾ فأسند إليه تعالى للإشارة إلى أنه تعالى المرجع وكما أن المآب إليه.
ج. ثالثها: وصف الشرائع والقصص والمواعظ التي نزل بها القرآن بأنها نور مبين واضح، أي أنه لا يخفى إلا على من أنفت حواسه، وفسدت مشاعره، وأصيب بعمى البصيرة، وكان عليه غشاوة، لا يرى معها النور الواضح المبين.
8. وإن الناس الذين خوطبوا بذلك الخطاب الإلهي قسمان، فريق آمن واهتدى، وانتفع بالنور الذى جاء الرسول به، وفريق ضل وغوى، ولم ينتفع بالنور الذى حمل مصباحه المزهر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد بين سبحانه وتعالى الفريق الذى اهتدى فقال تعالت كلماته: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ﴾ ذكر الله سبحانه وتعالى وصفين للذين اهتدوا وزادهم هدى، أول هذين الوصفين أنهم آمنوا بالله تعالى، وثانى هذين الوصفين أنهم اعتصموا به، فلا يلجئون إلا إليه، ولنتكلم في كل من هذين الوصفين، ومقامهما من اتباع الحق، والاهتداء بهديه:
أ. أما الإيمان بالله فمعناه الإيمان بعظمته وجلاله، والإحساس بأنه فوق كل شيء وهو القاهر فوق عباده والإذعان له، والمحبة لذاته الكريمة واجبة على الإنسان، وأن يذكره دائما كأنه يراه، كما في الحديث، (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك)، والإيمان بالله تعالى يقتضى اعتقاد الوحدانية، وأنه لا منشئ للكون سواه، ولا يعبد بحق غيره، ويقتضى أن يحب الوجود؛ لأن الله تعالى خالق الوجود، ويقتضى ألا يحب شيئا إلا ابتغاء مرضاة الله، كما قال النبى صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا الله) فالإيمان بالله تعالى يقتضى الإخلاص المطلق لذاته العلية، وإذا وجد ذلك الإخلاص اتجه اتجاها مستقيما، وإذا اتجه ذلك الاتجاه أشرق عليه بنور الحكمة، وطلب الحق لذات الحق، وتجرد من تدرن النفس بالهوى، والشهوة، وبذلك يكون للحق، ولا يكون منه إلا الحق، لأنه أخلص للحق جل جلاله.
ب. وأما الاعتصام بالله تعالى، فإن معناه ألا يجد لنفسه عاصما من الناس إلا هو، ولا ملجأ يلجأ إليه الا هو، ولا معاذ له إلا رب العالمين، وبهذا يعلو عن طاعة المستكبرين، ويتجافى عن الخضوع لذوى السلطان إلا بالحق، فلا يذل ولا يخضع، ولا يجبن، ولا ينافق، ولا يكذب، ولا يكون فيه إلا السلوك الفاضل، ولا يكون إلا المجتمع الفاضل المؤمن بالله، وبالحق لا يخشى في الله لومة لائم، ولا يدهن في كلامه، ولا أفعاله، ولا يخاف إلا الله تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد، الذى يخضع لكل شيء تبارك وتعالى بيده الملك وهو على كل شيء قدير.
9. ولقد ذكر سبحانه وتعالى جزاء هؤلاء، فقال تعالت كلماته: ﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ هذا جزاء الذين آمنوا بالله واعتصموا به، وهو جزاء مكون من ثلاثة أجزاء: رحمة وفضل، وهداية إلى الطريق المستقيم الذى لا عوج فيه ولا أمت.
10. لكن ما هي الرحمة، وما هو الفضل، وما هي الهداية، ثم أهذا الجزاء في الدنيا أم هو في الآخرة؟ أم هو فيهما معا؟ لم يبين النص الكريم مكان ذلك الجزاء المؤكد، وعندى أن هذا الجزاء في الدنيا والآخرة، وعلى هذا يكون معنى الرحمة في الدنيا أن يكونوا في سعادة واطمئنان وهدوء بال؛ لأنهم فوضوا أمورهم للعلى الأعلى الذى ليس كمثله شيء وهو العلى الحكيم، وركنوا أنفسهم إلى الملجأ الأعصم، والركن الأمكن، فاطمأنوا بالله تعالى، وبذكره، وبامتلاء قلوبهم به، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد]، ولا شك أن شقاء الناس في الدنيا سببه انحرافهم عن الجادة وانشغالهم بأمور توجد بلبالا مستمرا، واضطرابا دائما، من خصومات، وأحقاد، وحسد، ولجاجات، ومن شأن المؤمن أن يعلو عن سفساف هذه الأمور، فيكون في راحة واطمئنان بال، وكل آفة بالجسم تهون بجوار الاطمئنان بالله، وكل نعيم مادى دنيوي يذهب به القلق وعدم الاطمئنان.. هذه رحمة الدنيا، أما رحمة الآخرة، فهي النعيم المقيم، وجنات عدن خالدين فيها أبدا.
11. هذه الرحمة بنوعيها، ومعانيها، أما الفضل، فأصل معناه الزيادة، وهو يطلق على الزيادة في الإحسان، والزيادة في العطاء، والزيادة في المنزلة، والفضل في الدنيا هو علو المنزلة والسلطان العادل والتمكين لهم إذا كانوا على جادة الايمان لم يجانبوها، كما قال تعالت كلماته: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص] يؤمنون بالله تعالى ويعتصمون به، وينصرونه وينصرهم، ويمكن لهم في الأرض، ويمن عليهم بالعزة، وإذا وجدت الذين يحملون شعار أهل الايمان في ذلة ومغلوبين على أمرهم بعد أن قامت دولة الحق، فاعلم أن ذلك لأنهم جانبوا طريق الإيمان وضعف إيمانهم بالله، والأخذ بأوامره، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد]
12. هذا هو الفضل في الدنيا، وأما الفضل في الآخرة، فهو رضوان الله تعالى، والرفعة في الدرجات، والقرب منه سبحانه، وذلك هو الفضل العظيم.
13. والجزاء الثالث هو الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو في الدنيا السبيل إلى الآخرة؛ وذلك لأن الإيمان بالله تعالى حق الإيمان يضيء في القلب، فيعرفه السبيل القويم، الذى يوصل إليه تعالى، فمن آمن بالله فقد اهتدى إليه، ومن اعتصم به وبأوامره واجتنب نواهيه، فقد سلك طريقه، ومن سلك طريق الحق في الدنيا، كان في الآخرة أهدى، ومن ضل طريق الحق في الدنيا وغوى، فهو في الآخرة في الهاوية.
14. وفى الآية بعض مباحث لفظية تؤدى إلى توضيح معانى النص الكريم:
أ. أولها: أن السين في قوله تعالى: ﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ﴾ للتأكيد، والسين وسوف في القرآن يدلان على توكيد الوقوع في المستقبل.
ب. ثانيها: الضمير في قوله تعالى: ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ﴾، يعود على لفظ الجلالة، ذلك أن الهداية إلى الله تعالى هي ثمرة الإيمان به، وطريق النجاة، وبها يهتدى المؤمنون إلى أقوم سبيل، وصراط الله تعالى طريقه الذى يوصل إلى الغاية.
ج. ثالثها: إعراب (صراطا مستقيما) لقد قال بعض العلماء إنها مفعول ثان ليهدى، وآخرون قالوا إنها مفعول لفعل محذوف، وتقدير الكلام هكذا ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ﴾ ويعرفهم طريقا يوصل إلى أعلى الغايات، وكان قوله تعالى: ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ اشتمل على جزءين ساميين:
• أولهما ـ الهداية إلى الله وهو نعمة في ذاته، لأنه معرفة الله تعالى حق معرفته.
• وثانيهما ـ معرفة الطريق المستقيم الذى يوصل إلى الحق، وتلك نعمة أخرى تفضل بها مانح النعم ومجراها رب العالمين.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1990.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أيها النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾، تعرضت الآيات السابقة لمحاجة اليهود والنصارى، وبعد أن أقام سبحانه الحجة على الجميع دعا الناس عامة إلى الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن الكريم، فقد اتفق المفسرون على أن المراد بالبرهان محمد، وبالنور المبين القرآن، وكل من سنة محمد وكتاب الله برهان قاطع على احقاق الحق، وإبطال الباطل، ونور ساطع يهدي للتي هي أقوم، لأنهما ينطقان بالوحي عن الله، لا عن سواه: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إلا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأحقاف: 9].. ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ [آل عمران: 31]
2. أما الدليل على انهما وحي من الله، وانهما برهان ونور فلا يتلخص بكلمات تقال في تفسير آية من الآيات، وقد وضع المتخصصون فيه مئات الكتب، وذكرنا الكثير مما جاء فيها في مطاوي هذا التفسير، وسنذكر أيضا الكثير كلما دعت المناسبة، وعلى طالب الحق ان يبحث ويتتبع.. أجل، شيء واحد نسأل هذا الطالب ان لا يذهل عنه، وهو أن يقارن بين تعاليم القرآن، وتعاليم غيره من كتب الأديان.. وأيضا يقارن بين تاريخه وتاريخها، والمراحل التي مرت بها عبر القرون والأجيال.. ويبحث أيضا بصورة خاصة عن عدد الأناجيل واشتهارها، وكم كانت في القرن الأول والثاني الميلاديين؟ ولماذا انعقد المجمع المسكوني في نيقية سنة 325 م الذي ضم ألفين وأربعين أسقفا يمثلون جميع الكنائس في العالم المسيحي؟ وماذا تم في هذا المجمع؟ وهل اتفق جميع الأساقفة على أن عيسى إله، أو ان فئة منهم قالت: انه بشر مخلوق، وأخرى قالت: هو إله؟ وهل تعرض هذا المجمع للعنصر الثالث روح القدس، وأتى على ذكر ألوهيته، أو ان الذي أقر ألوهية هذا العنصر هو المجمع الذي انعقد في القسطنطينية سنة 381 م، ولم يعرف هذا العنصر من قبل هذا التاريخ.. نرغب إلى طالب الحق أن يبحث عن هذه الجهات، ونحن معه في النتيجة التي ينتهي إليها آية تكون.
3. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمنوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إليه صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾، الضمائر الثلاثة في به ومنه واليه كلها تعود إلى الله.. وبعض المفسرين فرّق بين الرحمة والفضل بأن الرحمة تكون في الدنيا، والفضل يكون في الآخرة، وقال آخر نقلا عن ابن عباس: ان الرحمة هي الجنة، وان الفضل ما لا عين رأت، ولا اذن سمعت.. ويلاحظ بأن هذا أراد أن يفرق فجمع، لأن هذا الوصف هو للجنة بالذات.. أما نحن فلا نرى أي فرق بين رحمة الله وفضله.. ويكفي لصحة العطف المفارقة في اللفظ.. وعطف بعض المترادفات على بعض في اللغة العربية كثير ومستحسن، ويسمى بعطف التفسير.
4. ومعنى الآية بمجموعها ان من آمن بالله، واتكل عليه، دون سواه فهو في رحمة الله وفضله دنيا وآخرة، أما في الدنيا فإن الله يمنحه التوفيق والهداية إلى الطريق المؤدية إلى الحق، لا ينحرف عنه أبدا، واما في الآخرة فروح وريحان وجنة نعيم، وأخصر تفسير لهذه الآية الكريمة قول علي أمير المؤمنين عليه السلام: (رب رحيم، ودين قويم)، وكل امرئ وما يختار.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/504.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ قال الراغب: (البرهان بيان للحجة، وهو فعلان مثل الرجحان والثنيان، وقال بعضهم: هو مصدر بره يبره إذا ابيض)، فهو على أي حال مصدر، وربما استعمل بمعنى الفاعل كما إذا أطلق على نفس الدليل والحجة.
2. والمراد بالنور هو القرآن لا محالة بقرينة قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ﴾ ويمكن أن يراد بالبرهان أيضا ذلك، والجملتان إذا تؤكد إحداهما الأخرى، ويمكن أن يراد به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويؤيده وقوع الآية في ذيل الآيات المبينة لصدق النبي في رسالته، ونزول القرآن من عند الله تعالى، وكون الآية تفريعا لذلك ويؤيده أيضا قوله تعالى في الآية التالية، ﴿وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ لما تقدم في الكلام على قوله: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ إن المراد بالاعتصام الأخذ بكتاب الله والاتباع لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
3. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ بيان لثواب من اتبع برهان ربه والنور النازل من عنده.
4. والآية كأنها منتزعة من الآية السابقة المبينة لثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات أعني قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ ولعله لذلك لم يذكر هاهنا جزاء المتخلف من تبعية البرهان والنور، لأنه بعينه ما ذكر في الآية السابقة، فلا حاجة إلى تكراره ثانيا بعد الإشعار بأن جزاء المتبعين هاهنا جزاء المتبعين هنالك، وليس هناك إلا فريقان: المتبعون والمتخلفون.
5. وعلى هذا فقوله في هذه الآية: ﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ﴾ يحاذي قوله في تلك الآية: ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ وهو الجنة، وأيضا قوله في هذه الآية: ﴿وَفَضْلٍ﴾ يحاذي قوله في تلك الآية: ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ وأما قوله: ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ فهو من آثار ما ذكر فيها من الاعتصام بالله كما في قوله: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران: 101]
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/153.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قد تم في الآيات الماضية الرد على المشركين من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ وما جاء في اليهود من قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ مع ما سبق فيهم عند قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ وما جاء في النصارى في الآيات التي مرت قريباً احتجاجاً كاملاً وإنذاراً وإعذاراً، ثم عقب ذلك بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾
2. ﴿بُرْهَانَ﴾ دليل وحجة ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وما كان من ربكم فهو الحق والهدى، والبرهان هو القرآن الكريم فهو دليل من حيث إعجازه على أنه من الله، وهو نور من حيث أنه من الله يبيِّن الحق في الدين ويدل على بطلان الأديان المخالفة للإسلام، وعلى ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران:19]
3. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ﴾ إلهاً واحداً لا إله إلا هو ولا رب سواه فعبدوه وأخلصوا له العبادة ﴿وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ فلم يتخذوا شفعاء ولا شركاء يعتقدون أنهم ينصرونهم، أو يشفون مرضاهم، أو يوفرون أرزاقهم، بل اعتصموا بالله وتوكلوا عليه ولم ينافقوا.
4. ﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ﴾ وهي رحمة خاصة بالمؤمنين، ﴿وَفَضْلٍ﴾ منه عليهم خاص بالمؤمنين ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ كقول موسى: ﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ [النازعات:19] والهداية إليه تفيد معرفته الكاملة وذكره وشكره وخشيته ومراقبته ﴿صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ طريقاً واضحاً لا عوج فيه، وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده، يؤديهم إلى ذكر الله بقلوبهم وخشيته ومراقبته وكمال معرفته بمعرفة معاني أسمائه الحسنى والإيمان بها، وهذه الرحمة والفضل، والهداية عاجلة لأولياء الله في الدنيا ثم في الآخرة حين يصيرون ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر:55] في دار كرامته ورضوانه وفضله ورحمته.. فنسأل الله التوفيق والسداد والثبات، وقد جرت عادة القرآن بإتْبَاع الوعد بالوعيد، لكنه هنا كفى الوعيد في الآية التي قبل هذه، وأغنت عن تكرار الوعيد لقربها.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/223.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يتابع القرآن تأكيد الحقيقة الإلهية، على أساس انطلاقها من موقع الحجة والبرهان الذي يريد للناس أن يأخذوا به ويرتكزوا عليه؛ ويوجه الناس إلى أن يسيروا في طريق النور الواضح الذي يتمثل بالوحي الذي أنزله الله عليهم بواسطة رسوله.
2. فإذا انسجموا مع أفكار الإيمان واعتصموا بحبل الله الذي يمتد منه، فسيجدون أمامهم الباب الذي يدخلون منه إلى رحمة الله، فيعيشون هناك في فضله، وينفتحون من خلال ذلك على خط الهداية الذي يقودهم إلى الصراط المستقيم، حيث يجدون عند الله الخير والرحمة والغفران.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/561.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن تناولت الآيات السابقة بعضا من انحرافات أهل الكتاب بالنسبة لمبدأ التوحيد ومبادئ وتعاليم الأنبياء، جاءت الآيتان الأخيرتان لتختما القول في بيان سبيل النّجاة والخلاص من تلك الانحرافات.
2. لقد توجه الخطاب أوّلا إلى عامّة الناس، مبينا أنّ الله قد بعث من جانبه نبيّا يحمل معه الدلائل والبراهين الواضحة، وبعث معه النور المبين المتجسد في القرآن الكريم الذي يهدي الناس إلى طريق السعادة الأبدية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾
3. يعتقد بعض العلماء أنّ كلمة (برهان) المشتقة من المصدر (بره) على وزن (فرح) تعني الابيضاض ـ ولمّا كانت الأدلة الواضحة تجلى للمسامع وجه الحق وتجعله واضحا مشرقا أبيض لذلك سميت بـ (البرهان)، والمقصود بالبرهان الوارد في الآية الكريمة ـ وكما يقول جمع من المفسّرين وتؤكّد ذلك القرائن ـ هو شخص نبيّ الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنّ المقصود بالنور هو القرآن المجيد الذي عبّرت عنه آيات أخرى بالنور أيضا.
4. وقد فسّرت الأحاديث المتعددة المنقولة عن أهل البيت عليهم السّلام ـ والتي أوردتها تفاسير (نور الثقلين) و(على بن إبراهيم) و(مجمع البيان) ـ أن (البرهان) هو النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم و(النّور) هو علي بن أبي طالب عليه السّلام، ولا يتنافى هذا التّفسير مع ذلك الذي أوردناه قبله، حيث يمكن أن يقصد بعبارة (النور) معان عديدة لتشمل (القرآن) و(أمير المؤمنين علي عليه السّلام) الذي يعتبر حافظا ومفسّرا للقرآن ومدافعا عنه.
5. توضح الآية الثانية: عاقبة اتّباع هذا البرهان وهذا النور، فتؤكّد على أنّ الذين آمنوا بالله وتمسكوا بهذا الكتاب السماوي، سيدخلهم الله عاجلا في رحمته الواسعة، ويجزل لهم الثواب من فضله ورحمته، ويهديهم إلى الطريق المستقيم: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/561.
151. أحكام الكلالة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈151⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النساء: 176]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
معاذ:
روي عن الأسود بن يزيد، قال قضى فينا معاذ بن جبل (ت 18 هـ) على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ابنة وأخت: للابنة النصف، وللأخت النصف(1).
__________
(1) البخاري ٨/١٥١.
عمر:
روي عن عمر بن الخطاب (ت 23 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثلاث وددت أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا(1).
2. روي أنّه قال: ثلاث لأن يكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بينهن لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها: الخلافة، والكلالة، والربا(2).
3. عن طارق بن شهاب، قال: أخذ عمر بن الخطاب كتفا، وجمع أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم قال لأقضين في الكلالة قضاء تحدث به النساء في خدورهن، فخرجت حينئذ حية من البيت، فتفرقوا، فقال: لو أراد الله أن يتم هذا الأمر لأتمه(3).
__________
(1) عبد الرزاق (١٩١٨٤.
(2) الطيالسي، وعبد الرزاق (١٩١٨٤.
(3) ابن جرير ٧/٧٢١.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: الكلالة ما خلا من الولد والوالد(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/283.
الأشعري:
روي عن أبي موسى الأشعري (ت 44 هـ) أنّه سئل عن ابنة، وابنة ابن، وأخت لأبوين، فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فيتابعني، فسئل ابن مسعود، وأخبر بقول أبي موسى، فقال: لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت، فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم(1).
__________
(1) البخاري ٨/١٥١.
ابن ثابت:
روي عن زيد بن ثابت (ت 45 هـ) أنه سئل عن زوج، وأخت لأب وأم، فأعطى الزوج النصف، والأخت النصف، فكلم في ذلك، فقال: حضرت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى بذلك(1).
__________
(1) أحمد ٣٥/٥٠١.
عقبة:
روي عن عقبة بن عامر (ت 60 هـ) أن رجلا سأل عقبة بن عامر عن الكلالة، فقال: ألا تعجبون من هذا!؟ يسألني عن الكلالة، وما أعضل بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شيء ما أعضلت بهم الكلالة!(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة ١١/٤١٦.
ابن شرحبيل:
روي عن عمرو بن شرحبيل (ت 63 هـ) أنّه قال: ما رأيتهم إلا قد تواطئوا أن الكلالة: من لا ولد له ولا والد(1).
__________
(1) عبد الرزاق في تفسيره ١/١٧٧.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية في جابر وفي أخته، أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا رسول الله، إن لي أختا، فما لي وما لها؟(1).
2. روي أنّه قال: ﴿قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾، الكلالة: ما خلا الوالد والولد(2).
3. روي أنّه سئل عن رجل توفي، وترك ابنته، وأخته لأبيه وأمه، فقال: البنت النصف، وليس للأخت شيء، وما بقي فلعصبته.. فقيل: إن عمر جعل للأخت النصف، فقال ابن عباس: أنتم أعلم أم الله!؟ قال الله: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾، فقلتم أنتم: لها النصف وإن كان له ولد!(3).
4. روي أنّه قال: شيء لا تجدونه في كتاب الله، ولا في قضاء رسول الله، وتجدونه في الناس كلهم: للابنة النصف، وللأخت النصف، وقد قال الله: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾(4).
5. روي أنّه قال: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾، في شأن المواريث(5).
__________
(1) تفسير الثعلبي ٣/٤٢١.
(2) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره ص ١٣٤.
(3) عبد الرزاق في المصنف (١٩٠٢٣.
(4) الحاكم ٤/٣٣٧.
(5) عزاه السيوطي إلى ابن المنذر.
جابر:
روي عن جابر بن عبد الله (ت 73 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: اشتكيت، فدخل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقلت: يا رسول الله، أوصي لأخواتي بالثلث؟ قال: أحسن)، قلت: بالشطر؟ قال ثم خرج، ثم دخل علي، فقال: (لا أراك تموت في وجعك هذا، إن الله أنزل وبين ما لأخواتك، وهو الثلثان)، فكان جابر يقول: نزلت هذه الآية في: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾(1).
2. روي أنّه قال: دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ، ثم صب علي، فعقلت، فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض(2).
__________
(1) أحمد ٢٣/٢٤٥.
(2) البخاري ١/٥٠.
المسيب:
روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) أن عمر بن الخطاب كتب في الجد والكلالة كتابا، فمكث يستخير الله، يقول: اللهم، إن علمت أن فيه خيرا فامضه، حتى إذا طعن دعا بالكتاب فمحى، ولم يدر أحد ما كتب فيه، فقال: إني كنت كتبت في الجد والكلالة كتابا، وكنت أستخير الله فيه، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه(1).
__________
(1) عبد الرزاق (١٩١٨٣.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: في قول الله تعالى: ﴿فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾، من الميراث، والبقية للعصبة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ﴾ فلو مات الأخ وكانت له أختان فصاعدا؛ من أبيه وأمه، أو من أبيه، ﴿فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ يعني: الأخ(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً﴾ يعني: إخوة الميت ﴿رِجَالًا وَنِسَاءً﴾ من أبيه وأمه، أو من أبيه؛ ﴿فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾(2).
4. روي أنّه قال: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾، يقول: أن لا تحطوا قسمة الميراث(3).
5. روي أنّه قال: ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، يعني: من قسمة المواريث وغيرها ﴿عَلِيمٌ﴾(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٢٦.
(2) ابن أبي حاتم ٤/١١٢٧.
(3) ابن أبي حاتم ٤/١١٢٨.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إذا مات الرجل وله اخت لها نصف ما ترك من الميراث بالآية كما تأخذ البنت لو كانت، والنصف الباقي يرد عليها بالرحم، إذا لم يكن للميت وارث أقرب منها، فإن كان موضع الاخت أخ أخذ الميراث كله بالآية لقول الله: ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾ وإن كانتا أختين أخذتا الثلثين بالآية، والثلث الباقي بالرحم، وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك كله إذا لم يكن للميت ولد، أو أبوان، أو زوجة(1).
2. عن بكير بن أعين، قال: كنت عند الإمام الباقر فدخل عليه رجل، فقال: ما تقول في أختين وزوج؟ فقال الإمام الباقر: (للزوج النصف، وللأختين ما بقي)، فقال الرجل: ليس هكذا يقول الناس، قال: فما يقولون؟ قال يقولون: للأختين الثلثان، وللزوج النصف، ويقسمون على سبعة، قال فقال الإمام الباقر أنّه قال: (ولم قالوا ذلك؟) قال لأن الله سمى للأختين الثلثين، وللزوج النصف، قال: فما يقولون لو كان مكان الأختين أخ؟ قال يقولون: للزوج النصف وما بقي فللأخ، فقال له: فيعطون من أمر الله له بالكل النصف، ومن أمر الله بالثلثين أربعة من سبعة!؟ قال: وأين سمى الله له ذلك؟ فقال الإمام الباقر: اقرأ الآية التي في آخر السورة ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾ فقال: فإنما كان ينبغي لهم أن يجعلوا لهذا المال للزوج النصف ثم يقسمون على تسعة، فقال الرجل: هكذا يقولون، فقال: (فهكذا يقولون)، ثم أقبل علي فقال: (يا بكير، نظرت في الفرائض؟) قلت: وما أصنع بشيء هو عندي باطل؟ فقال: (انظر فيها، فإنه إذا جاءت تلك كان أقوى لك عليها(2).
3. روي أنّه قال: إذا ترك الرجل امه وأباه وابنته أو ابنه، فإذا هو ترك واحدا من هؤلاء الأربعة، فليس هو من الذي عنى الله في قوله: ﴿قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ ليس يرث مع الام ولا مع الأب ولا مع الابن ولا مع الابنة إلا زوج أو زوجة، فإن الزوج لا ينقص من النصف شيئا إذا لم يكن معه ولد، ولا تنقص الزوجة من الربع شيئا إذا لم يكن معها ولد(3).
4. روي أنّه قال: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ﴾ إنما عنى الله الاخت من الأب والام، أو أخت لأب، فلها النصف مما ترك، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد، وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين، فهم الذين يزادون وينقصون، وكذلك أولادهم يزادون وينقصون(3).
5. عن زرارة، قال: قال عليه السلام: (سأخبرك ولا أزوي لك شيئا، والذي أقول لك هو والله الحق المبين ـ قال ـ فإذا ترك امه أو أباه أو ابنه أو ابنته، فإذا ترك واحدا من هذه الأربعة، فليس الذي عنى الله في كتابه: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ ولا يرث مع الأب ولا مع الام ولا مع الابن ولا مع الابنة أحد من الخلق غير الزوج والزوجة، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد، يعني جميع مالها(4).
6. عن بكير، قال: دخل رجل على الإمام الباقر فسأله عن امرأة تركت زوجها وإخوتها لامها وأختا لأب، قال: للزوج النصف ثلاثة أسهم، وللإخوة من الام الثلث سهمان، وللاخت للأب سهم فقال له الرجل: فإن فرائض زيد وابن مسعود وفرائض العامة والقضاة على غير ذا يا أبا جعفر، يقولون: للاخت للأب والام ثلاثة أسهم، نصيب من ستة، يعول إلى ثمانية! فقال الإمام الباقر أنّه قال: (ولم قالوا)؟ قال لأن الله قال ﴿وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ قال الإمام الباقر: (فما لكم نقصتم الأخ إن كنتم تحتجون بأمر الله، فإن الله سمى لها النصف، وإن الله سمى للأخ الكل، فالكل أكثر من النصف، فإنه تعالى قال: ﴿فَلَهَا نِصْفُ﴾ وقال للأخ: ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا﴾ يعني جميع المال إن لم يكن لها ولد، فلا تعطون الذي جعل الله له الجميع في بعض فرائضكم شيئا، وتعطون الذي جعل الله له النصف تاما!؟)(4)
__________
(1) تفسير القمّي 1/159.
(2) تفسير العيّاشي 1/285.
(3) تفسير العيّاشي 1/286.
(4) تفسير العيّاشي 1/287.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: قال بعضهم على الكلالة، فقالوا: يا نبي الله، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ أي: يستخبرونك ويسألونك، ﴿قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي ٣/٤٢١.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) سئل عن الكلالة، فقال: ما لم يكن له والد ولا ولد(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/286.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾، يقول: أن تحفظوا قسمة المواريث، فهذه الضلالة التي يكون فيها الإخوة عصبة، إذا لم يكن ولد فيرثون مع الجد في الكلالة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٤/١١٢٨.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾، قال في شأن المواريث(1).
__________
(1) ابن جرير ٧/٧٢٥.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾، نزلت في جابر بن عبدالله الأنصاري من بني سلمة بن جشم بن سعد بن علي بن شاردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج وفي أخواته، ﴿قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ يعني به: الميت الذى يموت وليس له ولد ولا والد، فهو الكلالة، وذلك أن جابر بن عبد الله الأنصاري مرض بالمدينة، فعاده رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا رسول الله، إني كلالة؛ لا أب لي ولا ولد، فكيف أصنع في مالي؟ فأنزل الله عز وجل: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ﴾ الآية(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾ إذا ماتت قبله(1).
3. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ﴾ يعني: أختين ﴿فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾(1).
4. روي أنّه قال: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾، يقول: لئلا تخطئوا قسمة المواريث(1).
5. روي أنّه قال: ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من قسمة المواريث ﴿عَلِيمٌ﴾، نظيرها في الأنفال(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٢٦.
مالك:
روي عن مالك بن أنس (ت 179 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: الأمر المجتمع عليه عندنا، الذي لا اختلاف فيه، والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا: أن الكلالة على وجهين: فأما الآية التي أنزلت في أول سورة النساء التي قال الله ـ تبارك وتعالى ـ فيها: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ [النساء: ١٢] فهذه الكلالة التي لا يرث فيها الإخوة للأم حتى لا يكون ولد ولا والد، وأما الآية التي في آخر سورة النساء التي قال الله ـ تبارك وتعالى ـ فيها: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾؛ قال مالك: فهذه الكلالة التي تكون فيها الإخوة عصبة إذا لم يكن ولد، فيرثون مع الجد في الكلالة، فالجد يرث مع الإخوة، لأنه أولى بالميراث منهم، وذلك أنه يرث مع ذكور ولد المتوفى السدس، والإخوة لا يرثون مع ذكور ولد المتوفى شيئا، وكيف لا يكون كأحدهم وهو يأخذ السدس مع ولد المتوفى!؟ فكيف لا يأخذ الثلث مع الإخوة وبنو الأم يأخذون معهم الثلث!؟ فالجد هو الذي حجب الإخوة للأم، ومنعهم مكانه الميراث، فهو أولى بالذي كان لهم؛ لأنهم سقطوا من أجله، ولو أن الجد لم يأخذ ذلك الثلث أخذه بنو الأم، فإنما أخذ ما لم يكن يرجع إلى الإخوة للأب، وكان الإخوة للأم هم أولى بذلك الثلث من الإخوة للأب، وكان الجد هو أولى بذلك من الإخوة للأم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾، فهذه الضلالة التي يكون فيها الإخوة عصبة، إذا لم يكن ولد فيرثون مع الجد في الكلالة(2).
__________
(1) الموطأ ٢/١٧.
(2) ابن أبي حاتم ٤/١١٢٨.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال بعض العلماء: الكلالة: ما خلا من الولد، واحتجوا بهذه الآية، وهي قوله سبحانه: ﴿قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾، وقال آخرون: الكلالة: ما خلا من الولد والأبوين؛ لقول الله عز وجل في أول السورة: ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾، وذكر الإخوة، فلم يجعل لهم مع الأب شيئا سبحانه، فلا نرى أنه قد ورثهم عز وجل في الكلالة، فقال تبارك وتعالى في السورة: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾؛ فبين في هذه الآية: أن الأب ليس يدخل في الكلالة، واحتجوا في الولد بالآية التي في آخر السورة، وهي قوله سبحانه: ﴿قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾، وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أن رجلا سأله عن الكلالة، فقال: (أما سمعت الآية التي نزلت في الصيف: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾، من لم يترك ولدا ولا والدا فورثته الكلالة)، وروي عن أمير المؤمنين أنّه قال: (الكلالة ما خلا من الولد والوالد)، وذلك الصواب عندنا؛ والحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين، وصلى الله على محمد وعلى أهل بيته وسلم(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/283.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾، الكلالة: ما خلا الولد والوالد، وهذه الآية يروى أنها نزلت في جابر بن عبد الله وفي أخته: أتى إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال له: (إن لي أختا، فما لي من ميراثها بعد موتها؟) فنزلت هذه الآية.
2. سؤال وإشكال: ما معنى قوله سبحانه: ﴿لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾، هل أراد الذكور والإناث معا، أو الذكور خاصة دون الإناث؟ والجواب: الذكور والإناث في هذا المعنى سواء؛ لأن الأنثى والذكر كلاهما ولد، وكذلك ولد الولد إذا لم يكن ولد، قاموا مقام الولد، الذكور منهم مثل الذكور، والإناث مثل الإناث سواء، مثل ابن الابن وبنت الابن وما سواهم ـ كلالة، وذكرت أن بعض من يدعي العلم: يحجب العصبة بالبنت، ولا يعطيهم شيئا معها، ويقيمها مقام الابن.. وليس هذا قول من له علم، وكيف يقيمها مقام الذكر، والله عز وجل لم يقمها كذلك مع العصبة؟.. والبنت تحجب الزوج عن النصف، وتحجب الزوجة عن الربع؛ فليس لزوج مع ابنة ولا ابن إلا ربع، ولا لزوجة مع بنت ولا ابن إلا ثمن، والبنت فلها: النصف، وإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان، وما بقي فللعصبة، مثل: العم وابن العم، والأخ وابن الأخ، ومن كان من العصبة.. وقلت: إنك قبلت الحجبة في العول، فقد ـ والحمد لله ـ قبلت صوابا، وأزحت عنك في ذلك شكا وارتيابا؛ وفقك الله للهدى، وأعانك على التقوى.
3. وقلت: إني كتبت إليك أن الفرائض بالإتباع للثقات، فما كان منها ـ يرحمك الله ـ منصوصا في الكتاب مشروحا فقد اجتزينا به عن النظر في غيره، وما كان فيه مجملا يحتاج إلى تفسير فذلك موجود في السنة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والإتباع له فرض من الله عز وجل؛ لقوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، مع ما قد برأه الله منه سبحانه في كتابه من التكلف، فقال: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأنعام: 50]، وقال في موضع آخر: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص: 86]، فشهد له سبحانه بالبراءة من التكلف، وأنه لا يتبع إلا ما يوحى إليه، ثم قال عز وجل: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [التغابن: 12]، وقال: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ [النساء: 80]؛ فكل ما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فمن الله: أمره به، وإذا صح عنه بسبب، ونقله الثقات تبعناه وعملنا به؛ لأن الله قد أمرنا بذلك أمرا، وحكم به حكما؛ لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/284.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾، ذكر الاستفتاء، ولم يذكر: فيم استفتوا؟ لكن في الجواب بيان أن الاستفتاء فيم كان، وقال: ﴿قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾، والكلالة: ما ذكر: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي﴾ إلى آخر ما ذكر، قال جابر: فِيَّ نزلت الآية، ورُويَ عن عمر أنه قال ما سألت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة، ثم طعن في صدري بأصبعه، فقال: (ألا يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيفِ التي في آخِرِ سُورَةِ النسَاءِ!؟)، وفيه دلالة أن قد يترك بيان ما يدرك بالاجتهاد والنظر، ولا يبين؛ ليجتهد، ويدرك بالنظر؛ لأن عمر سأل غير مرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يبينه، وأشار إلى الآية التي فيها ذكر ما سأل عنه؛ لينظر ويجتهد؛ ليدرك، وفيه دليل جواز تأخير البيان؛ لأن عمر سأله غير مرة، ولم يبينه حتى أمره بالنظر في الآية، وعمر لم يكن عرف قبل ذلك؛ فدل على جواز تأخير البيان، وروي عن أبي بكر أنه قال الكلالة: من ليس له ولد ولا والد، وكذلك قال عمر وقال: إِنِّي لأستحي من الله أن أرد شيئا قاله أبو بكر، واسأل ابن عباس عن الكلالة؟ فقال: من لا ولد له ولا والد، وروي عن جابر قال مرضت؛ فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعودني وأبو بكر معه؛ فوجدني قد أغمى عليَّ؛ فصبَّ وضوءه عليَّ؛ فأفقت؛ فقلت: يا رسول الله، كيف أصنع في مالي؟ وكان لي تسع أخوات؛ فلم يجبني حتى نزل قوله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ إلى آخر ما ذكر، قال جابر: فِيَّ نزلت الآية.
2. قال بعض الناس: إذا مات الرجل؛ وترك ابنة وأختًا ـ فلا شيء للأخت؛ لأن الله تعالى قال: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ والابنة ولد؛ فلا ميراث للأخت وللأخ مع الابنة؛ لأنها ولد؛ فيقال: إن الله عز وجل جعل للابنة النصف؛ إذا لم يكن معها ابن؛ بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾؛ فإذا مات وترك ابنة وأختًا فللابنة النصف، وذلك النصف الباقي إذا لم يُعْطَ للأخت ـ يرد إلى الابنة؛ فيكون لها كل الميراث، وقد جعل الله تعالى ميراثها إذا لم يكن معها ولدٌ ذَكَرٌ ـ النصف، أو لا يرد إلى الابنة؛ فيجب أن ينظر أيهما أحق بذلك النصف الباقي؛ فجاء في بعض الأخبار: أن الأخوات مع البنات عَصَبَة؛ لذلك كانت الأخت أَوْلَى بذلك النصف الباقي.
3. ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ ذكر للاثنتين الثلثين، ولم يذكر ما للثلاث فصاعدًا منهن، وذكر في الابنة الواحدة النصف في أول السورة بقوله: ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ ولم يذكر ما للبنتين؛ ولكن ذكر الثلاث فصاعدًا بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ فترك بيان الحق في الابنتين؛ لبيانه في الأختين، وترك البيان للأخوات؛ لبيانه في البنات؛ ففيه دليل القياس: حيث اكتفى ببيان البعض عن الآخر.
4. ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ دل قوله تعالى: ﴿إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً﴾ أن اسم الإخوة يجميع الإناث والذكور جميعًا؛ لأنه ذكر إخوة، ثم فسر الرجال والنساء؛ فهو دليل لنا في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ وإنهم يحجبون الأم عن الثلث، ذكورًا كانوا أو إناثًا.
5. ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ قيل: ألا تضلوا، قال الكسائي: العرب تقول للرجل: أطعمتك أن تجوع، وأغنيتك أن تفتقر؛ على معنى ألا تجوع ولا تفتقر، وفي القرآن كثير مثل هذا.
6. ثم قوله: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾:
أ. قيل: ألا تضلوا في قسمة المواريث.
ب. وقيل: ألا تخطئوا.
ج. وقيل: ألا تخلطوا، وهو واحد.
7. ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، وعيد، وبالله الحول والقوة، والله المستعان.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٣٢.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ روينا أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو في مسيرة وإلى جنبه حذيفة بن اليمان فبلغها حذيفة فقيل إن جابر بن عبدالله سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال لي تسع جوارٍ ولي مال كيف أصنع به فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/201.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ الآية، قال البراء ابن عازب: آخر سورة نزلت كاملة سورة براءة، وآخر آية أنزلت خاتمة، سورة النساء ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ وقال جابر بن عبد الله: نزلت هذه الآية فيَّ، وقد سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين عادني في مرضي، ولي تسع أخوات، كيف أصنع بمالي؟ فلم يجبني بشيء، حتى نزلت ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ إلى آخر السورة، وقال ابن سيرين: نزلت هذه الآية على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو في مسيرة، وإلى جبنه حذيفة بن اليمان، فبلغها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حذيفة بن اليمان، وبلغها حذيفة عمر بن الخطاب، وهو يسير خلفه.
__________
(1) تفسير الماوردي: ٢/٥.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. روى البراء بن عازب قال آخر سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ وقال جابر بن عبد الله: نزلت في المدينة وقال ابن سيرين: نزلت في مسير كان فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، واختلفوا في سبب نزول هذه الآية:
أ. فقال سعيد بن المسيب: سأل عمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الكلالة، فقال: ليس قد بين الله ذلك؟ قال: فنزلت ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾
ب. وقال جابر بن عبد الله: اشتكيت وعندي تسع أخوات لي أو سبع، فدخل عليّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فنفخ في وجهي، فأفقت، فقلت: يا رسول الله إلا أوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال أحسن، قلت: الشطر، قال أحسن، ثم خرج وتركني، ورجع الي فقال: يا جابر اني لا أراك ميتاً من وجعك هذا، وان الله عز وجل قد أنزل في الذي لاخواتك فجعل لهن الثلثين، قال وكان جابر يقول: نزلت هذه الآية فيّ.
ج. وقال قتادة: ان اصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم همهم شأن الكلالة، فأنزل الله (عز وجل) فيها هذه الآية.
2. معنى ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ يسألونك يا محمد ان تفتيهم في الكلالة، وحذف اقتصاراً لما دل الجواب عليه، والاستفتاء والاستقضاء واحدة يقال: قاضيته وفأتيته، çقال الشاعر:
تعالوا نفاتيكم أأعيا وفقعس...إلى المجد أدنى ام عشيرة حاتمé
هكذا أنشده الحسين بن علي المغربي، وقد فسرنا معنى الكلالة وذكرنا اختلاف العلماء في ذلك فأغنى عن الاعادة.
3. ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ قال السدي: معناه مات ليس له ولد ذكر وأنثى، ﴿وَلَهُ أُخْتٌ﴾ يعني وللميت اخت لأبيه وامه، فلها نصف ما ترك، فإن لم يكن أخت لاب وأم، وكانت اختاً لاب قامت مقامها، والباقي عندنا رد على الاخت سواء كان هناك عصبة، أو لم يكن، وقال جميع الفقهاء: إن الباقي للعصبة، وإن لم يكن هناك عصبة، وهم العم وبنو العم، وأولاد الأخ، قال فمن قال الرد على ذوي الأرحام، رد على الاخت الباقي وهو اختيار الجبائي، وأكثر أهل العلم، وقال زيد بن ثابت، والشافعي وجماعة: إن الباقي لبيت المال يرثه جميع المسلمين.
4. ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾ يعني إن كانت الأخت هي الميتة، ولها أخ من أب وأم، أو من أب فالمال كله له بلا خلاف إذا لم يكن هناك ولد، سواء كان ولدها ذكراً، أو أنثى، فإن كان ولدها ذكراً، فالمال له بلا خلاف ويسقط الأخ، وإن كانت بنتاً كان لها النصف بالتسمية بلا خلاف والباقي رد عليها، لأنها اقرب دون الأخ، ولأن الله تعالى انما قال: ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا﴾ يعني الأخ إذا لم يكن لها ولد، والبنت ولد بلا خلاف ومن خالف في تسمية البنت ولداً فقد اخطأ، ذكر ذلك البلخي واستدل على ذلك بان قال لو مات وخلف بنتاً وأبوين إن للأبوين الثلث، مع، قوله: ﴿ولأبويه لكل واحد منهما السدس ان كان له ولد﴾ وإنما أراد الولد الذكر، وهذا الذي ذكره خطأ، لأنه خلاف لأهل اللغة، لأنه لا خلاف في تسمية البنت بأنها ولد، ولأنه قال: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ ثم فسر الأولاد فقال: ﴿فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ فلو كان الولد لا يقع على الأنثى، لكان المال بينهم بالسوية، وذلك خلاف القرآن، على أنا نخالف في المسألة التي ذكرها، فنقول للأبوين السدسان، وللبنت النصف والباقي رد عليهم على قدر سهامهم، فنجعل الفريضة من خمسة ومن رد الباقي على الأب فإنما يرده بالتعصيب، لا لأن البنت لا تسمى ولداً، فبان بطلان ما قاله.
5. ومن خالفنا من الفقهاء في مسألة الأخ والبنت، يقول: الباقي للأخ لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما أبقت الفرائض فلأولي عصبته) ذكر هذا الخبر عندنا ضعيف، لأنه أو لا خبر واحد، وقد طعن على صحته، ضعفه أصحاب الحديث بما ذكرناه في مسائل الخلاف، وتهذيب الأحكام، وغير ذلك من كتبنا، وما هذه صفته لا يترك له ظاهر القرآن.
6. ﴿فإن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ﴾ يعني ان كانت الأختان اثنتين، فلهما الثلثان، وهذا لا خلاف فيه والباقي على ما بيناه من الخلاف في الأخت الواحدة، عندنا، رد عليها دون عصبتها، ودون ذوي الأرحام، وإذا كان هناك عصبة، رد الفقهاء الباقي عليهم، وإن لم يكن رد على ذوي الأرحام، من قال بذلك فرد على الأختين، لأنهما أقرب، ومن لم يقل بذلك رد على بيت المال، فإن كانت احدى الأختين لاب وام، والاخرى لاب، فللأخت للأب والام النصف بلا خلاف، والباقي رد عليها عندنا، لأنها تجمع السببين ولا شيء للاخت للأب، لأنها انفردت بسبب واحد وعند الفقهاء لها السدس تكملة الثلثين والباقي على ما بيناه من الخلاف، وإن كانوا أخوة رجالا ونساء يعني يكون الورثة أخوة رجالا ونساء للأب، والام، أو للأب فللذكر مثل حظ الأنثيين، بلا خلاف فإن كان الذكور منهم للأب والام والإناث للأب، انفرد الذكور بجميع المال بلا خلاف، وإن كان الإناث للأب والام والذكور للأب كان للإناث الثلثان ما سمي بلا خلاف والباقي عندنا، رد عليهن لما بيناه من اجتماع السببين لهن، وعند جميع الفقهاء ان الباقي للاخوة مع الأب، ولأنهم عصبة، وقد قلنا ما عندنا في خبر العصبة ويمكن ان يحمل خبر العصبة مع تسليمة على ما مات وخلف زوجاً أو زوجة وأخا لاب وأم، وأخاً للأب أو ابن أخ لاب وأم، أو ابن أخ لأب أو ابن عمّ لاب وامّ، وابن عمّ لاب فإن للزوج سهمه المسمى والباقي لمن يجمع كلالة الأب والام دون من يتفرد بكلالة الأب.
7. ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ قال الفراء: معناه لئلا تضلوا، قال القطامي:
çرأينا ما رأى البصراء فيها...فآلينا عليها ان تباعاé
والمعنى إلا تباعا، وقال الزجاج والبصريون: لا يجوز إضمار لا، والمعنى يبين الله لكم كراهة أن تضلوا، وحذف كراهة، لدلالة الكلام عليه، قالوا: وإنما جاز الحذف في قوله: ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾ والمعنى وسل أهل القرية، لأنه بقي المضاف فدل على المحذوف، فأما حذف (لا) وهي حرف جاء لمعنى النفي، فلا يجوز، لكن قد تدخل في الكلام مؤكدة وهي لغو كقوله: (لئلا يعلم أهل الكتاب) والمراد لئن يعلم، ومثله قول الشاعر:
çوما ألوم البيض إلا تسخراً...إذا رأين الشمط القفندراé
والمعنى وما ألوم البيض ان تسخر ومثله قوله: ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ و﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ والمعنى أقسم، ولا يجوز على القياس على ذلك أن تقول: لا أخلف عليك وتريد أخلف عليك، لأن (لا) إنما تلغى إذا مضى صدر الكلام على غير النفي، فإذا بنيت الكلام على النفي، فقد نقضت الإيجاب.
8. وإنما جاز الغاء (لا) في أول السورة، لأن القرآن كله كالسورة الواحدة إلا ترى أن جواب الشيء فيه يقع وبينهما سور؟ كما قال تعالى جواباً لقوله: ﴿وَقَالُوا يَا أيها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ فقال: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ وبينهما سور كثيرة، ذكره الزجاج، وقوله: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ﴾ قال الفراء (هلك) في موضع جزم، ومثله قوله: ﴿وَإِنْ أحد مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ﴾ ولو كان موضعها يفعل كان جزماً، وقال الزجاج: جاز مع ان تقديم الاسم قبل الفعل، لأن (ان) لا تعمل في الماضي، ولأنها (ام) في الجزاء قال والتقدير ان هلك امرؤ هلك، وانشد الفراء:
çصعدة قد نبتت في حائر...انما الريح تميلها تملé
فجزم تميلها، وقد حال بينها وبين أينما بالاسم وهو الريح، وقال عمر: سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الكلالة، فقال: ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف، وفي خبر آخر ـ تكفيك آية الصيف.
9. ﴿امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ يمنع أن يكون الاخت ترث مع البنت، لأنه شرط في ميراثها عدم الولد، والبنت ولد بلا خلاف بين أهل اللغة، وما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن (الأخوات مع البنات عصبة) خبر واحد، لا يلتفت إليه، لأنه يخالف نصب القرآن، وبما قلناه قال ابن عباس، لأنه لم يجعل الأخوات مع البنات عصبة.
10. وموضع (ان) في قوله: (ان تضلوا) نصب في قول الأكثر، لاتصالها بالفعل وفي قول الكسائي: خفض، لأن تقديره عنده لئلا تتولوا.
11. سؤال وإشكال: ما وجه قوله: (اثنتين) مع أن قوله: (فإن كانتا) قد دل على اثنتين؟ والجواب: يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: ان يكون ذلك تأكيداً للمضمر يقول القائل: فعلت أنا.
ب. والثاني: ان يبين بذلك ان المطلوب في ذلك العدد، لا غيره من الصفات من صغر أو كبر أو عقل أو عدمه، وغير ذلك من الصفات، بل متى جعل العدد ثبت ما ذكره من الميراث.
12. ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ معناه عالم بكل شيء من مصالح عباده في قسمته مواريثهم، وغيرها من جميع الأشياء، لا يخفى عليه شيء من جميعه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/408.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الاستفتاء: استفعال من الفتيا، وهو السؤال عن الحكم، يقال: أفتى في المسألة إذا بين حكمها، فَتْوًى وفُتْيًا فهو مُفْتٍ.
ب. الكلالة قال المبرد: من تَكَلَّلَ به من النسب أي: أطاف، ومنه الإكليل لإطافته بالرأس، والولد خارج من ذلك، وقال ابن الأعرابي: الكلالة بنو العم الأباعد، والمروي عن أبي بكر أن من مات وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة، والكلالة: مصدر من تَكَلَّلَهُ النسب أي: يعطف عليه، ويُقال: لم يَرِثْهُ كلالة؛ أي: لم يرثه عن عرض، بل عن قرب واستحقاق، قال الفرزدق:
çوَرِثْثُمْ قَنَاةَ المُلْكِ لا عَنْ كَلاَلَةٍ...عَنِ ابْنَي مَنافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِé
ج. الحظ: النصيب والجَدُّ، يقال: فلان أحظى من فلان، فهو محظوظ، وجمع الحظ قيل: أَحَاظٌ على غير قياس، وقيل: أَحُظٌّ، وقيل: حُظوظ.
2. مما روي في سبب نزول قوله تعالى:
أ. روى أبو الزبير عن جابر قال مرضت، فعادني رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم فقلت: كيف أقضي في مالي، وكان لي تسع أخوات، ولم يكن لي والد ولا ولد؟ فلم يجبني شيئًا حتى نزلت الآية.
ب. وعن البراء: أنها آخر آية نزلت، وعن أبي بكر أن الآية في أول سورة النساء في فرائض الوالد والولد، والثانية: في الزوج والزوجة والإخوة والأخوات من الأم، والتي ختم بها السورة في الإخوة والأخوات من الأب والأم أو من الأب، والتي ختم بها سورة الأنفال في ذوي الأرحام.
3. لما بَيَّنَ تعالى في أول السورة بعض السهام ختم السورة ببيان ما بقي من ذلك، فقال تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ يعني يطلبون منك الفتيا ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿اللهُ يُفْتِيكُمْ﴾ أي: يبين لكم الحكم في الكلالة:
أ. قيل: هو ما سوى الولد والوالد عن أبي بكر، وعليه أكثر أهل العلم.
ب. وقيل: للإخوة والأخوات، عن الحسن.
4. ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ ولا والد ﴿وَلَهُ أُخْتٌ﴾ لأب وأم أو لأب بالاتفاق ﴿فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ من الميراث ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا﴾ يعني الأخ من الأب والأم أو من الأب يرث أخته ـ إذا ماتت ـ جميع المال؛ لأنه عصبة ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ﴾ أي: إن كانت الأختان اثنتين ﴿فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ الأخ من التركة.
5. ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً﴾ أي: إخوة وأخوات مجتمعين لأب وأم، أو لأب ﴿فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ فسهم للأخت وسهمان للأخ ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ﴾ مواريثكم:
أ. قيل: أمور ميراثكم لئلا تخطئوا في الحكم فيها.
ب. وقيل: يبين جميع الأحكام لتهتدوا في دينكم، عن الأصم وأبي مسلم.
6. ﴿أَنْ تَضِلُّوا﴾:
أ. أي: ألا تضلوا.
ب. وقيل: أراد بالضلال الجهل، أي: يبين الله لكم بيانًا من ضلالكم أي: من جهلكم.
7. ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾:
أ. فيعلمكم ما تحتاجون إليه.
ب. وقيل: عليم بما سألتم وما لم تسألوا من مصالحكم.
ج. وقيل: هو عام لم يدخله التخصيص.
8. تدل الآية الكريمة على:
أ. سهام الأخت لأب وأم ولأب، فللواحدة النصف، وللبنتين فصاعدًا الثلثان.
ب. أن الأخ من الأب والأم أو من الأب عصبة؛ لذلك يحوز جميع المال.
ج. أن الأخت تصير عصبة بالأخ؛ لذلك جعل المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين.
د. أنه أراد بالبيان ترك الضلال لا الإضلال، خلاف ما تقوله الْمُجْبِرَة، لأن تقديره: كراهة أن تضلوا، أو إرادة ألّا تضلوا.
9. مسائل لغوية ونحوية:
أ. في الآية حذف في مواضع:
• فمنها في قوله: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ يعني في الكلالة، فحذف لأن ذكره في الجواب دل عليه على العادة في الإيجاز، عن أبي مسلم.
• ومنها في قوله: ﴿لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ﴾ فحذف ذكر الأب؛ لأن الأخت لا ترث مع الوالد كما لا ترث مع الولد، فدل المحذوف على أن الفتيا في الكلالة.
• ومنها في قوله: ﴿وَلَهُ أُخْتٌ﴾ يعني من أبيه وأمه أو من أبيه؛ لأن الأخت من الأم والأخ من الأم بُيِّنَ في أول السورة بالإجماع.
• ومنها في قوله: ﴿أَنْ تَضِلُّوا﴾:
● قيل: ألا تضلوا، فحذف ﴿لَا﴾ كما تحذف مع القسم في: والله أبرح قاعدًا؛ أي: لا أبرح قاعدًا.
● وقيل: كراهة أن تضلوا كقوله: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ أي: أهل القرية عن المبرد، قال الشاعر: فآلينا عليها أن تباعا، أي: ألا تباعا.
ب. موضع ﴿أَنْ﴾ نصب بوقوع الفعل عليه، وقيل: جر ب ألا تضلوا)
ج. نصب ﴿رِجَالًا﴾ و﴿نِسَاءٌ﴾ بدلاً من ﴿إِخْوَةٌ﴾، و﴿إِخْوَةٌ﴾ خبر ﴿كَانَ﴾
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/171.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. ذكرنا معنى (الكلالة) في أول السورة.
ب. الاستفتاء: السؤال عن الحكم، وهو استفعال من الفتيا، ويقال أفتى في المسألة: إذا بين حكمها فتوى، وفتيا.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روي عن جابر بن عبد الله، أنه قال: (اشتكيت وعندي تسع أخوات لي، أو سبع، فدخل علي النبي، فنفخ في وجهي، فأفقت، فقلت: يا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الا أوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال أحسن، قلت: الشطر، قال أحسن، ثم خرج وتركني، ورجع إلي، فقال: يا جابر! إني لا أراك ميتا من وجعك هذا، وإن الله تعالى قد أنزل في الذي لأخواتك، فجعل لهن الثلثين)، قالوا: (وكان جابر يقول: أنزلت هذه الآية في.
ب. وعن قتادة قال إن الصحابة كان همهم شأن الكلالة، فأنزل الله فيها هذه الآية.
ج. وقال البراء بن عازب: آخر سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ الآية، أورده البخاري ومسلم في صحيحيهما، وقال جابر: نزلت بالمدينة.
د. وقال ابن سيرين: نزلت في مسير كان فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، وتسمى هذه الآية، آية الصيف، وذلك أن الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين: إحداهما في الشتاء، وهي التي في أول هذه السورة، وأخرى في الصيف وهي هذه الآية.
هـ. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الكلالة، فقال يكفيك، أو يجزيك آية الصيف.
3. لما بين سبحانه في أول السورة بعض سهام الفرائض، ختم السورة ببيان ما بقي من ذلك فقال: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ يا محمد أي: يطلبون منك الفتيا في ميراث الكلالة ﴿قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ﴾ أي: يبين لكم الحكم ﴿فِي الْكَلَالَةِ﴾:
أ. وهو اسم للإخوة والأخوات، عن الحسن، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام.
ب. وقيل: هي ما سوى الوالد والولد، عن أبي بكر، وجماعة من المفسرين.
4. ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ قال السدي: يعني ليس له ولد ذكر وأنثى، وهو موافق لمذهب الامامية، فمعناه إن مات رجل ليس له ولد ولا والد، وإنما أضمرنا فيه الوالد للإجماع ولان لفظة الكلالة ينبئ عنه، فإن الكلالة اسم للنسب المحيط بالميت، دون اللصيق، والوالد لصيق الولد، كما أن الولد لصيق الوالد، والإخوة والأخوات المحيطون بالميت.
5. ﴿وَلَهُ أُخْتٌ﴾ يعني: وللميت أخت لأبيه وأمه، أو لأبيه، لان ذكر أولاد الأم، قد سبق في أول السورة.
6. ﴿فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾ عنى به: إن الأخت إذا كانت الميتة، ولها أخ من أب وأم، أو من أب، فالمال كله له، بلا خلاف، إذا لم يكن هناك ولد، ولا والد.
7. ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ﴾ يعني: إن كانت الأختان اثنتين ﴿فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ الأخ والأخت، من التركة ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً﴾ أي: إخوة وأخوات مجتمعين لأب وأم، أو لأب، ﴿فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾
8. في قوله سبحانه ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾ دلالة على أن الأخ، أو الأخت، لا يرثان مع البنت، لأنه سبحانه شرط في ميراث الأخ والأخت، عدم الولد، والولد يقع على الابن والبنت بلا خلاف فيه بين أهل اللغة، وما روي من الخبر في أن الأخوات مع البنات عصبة، خبر واحد، يخالف نص القرآن، وإلى هذا الذي ذكرناه ذهب ابن عباس، وهو المروي عن سادة أهل البيت عليهم السلام.
9. ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ أَنْ تَضِلُّوا﴾:
أ. أمور مواريثكم ﴿أَنْ تَضِلُّوا﴾ معناه: كراهة أن تضلوا، أو لئلا تضلوا أي: لئلا تخطؤوا في الحكم فيها.
ب. وقيل: معناه يبين الله لكم جميع الأحكام لتهتدوا في دينكم، عن أبي مسلم.
10. ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فائدته هنا بيان كونه سبحانه عالما بجميع ما يحتاج إليه عباده من أمر معاشهم ومعادهم على ما توجبه الحكمة.
11. وقد تضمنت الآية التي أنزلها الله في أول هذه السورة، بيان ميراث الولد، والوالد، والآية التي بعدها بيان ميراث الأزواج، والزوجات، والاخوة، والأخوات، من قبل الأم، وتضمنت هذه الآية التي ختم بها السورة، بيان ميراث الإخوة، والأخوات، من الأب والأم، والاخوة والأخوات من قبل الأب، عند عدم الاخوة والأخوات من الأب والأم، وتضمن قوله سبحانه: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 75] أن تداني القربى سبب في استحقاق الميراث، فمن كان أقرب رحما، وأدنى قرابة، كان أولى بالميراث من الأبعد، والخلاف بين الفقهاء في هذه المسائل وفروعها، مذكور في كتب الفقه.
12. مسائل لغوية ونحوية:
أ. سؤال وإشكال: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ يسأل عن أي الفعلين أعمل في الكلالة، والجواب: أن المعمل الثاني، وهو ﴿يُفْتِيكُمْ﴾ والتقدير: يستفتونك في الكلالة قل الله يفتيكم في الكلالة، وإعمال الفعل الثاني هو الأجود، وجاء عليه القرآن نحو قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ﴾ فأعمل ﴿يَسْتَغْفِرْ﴾، ولو اعمل ﴿تَعَالَوْا﴾ لقال: تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومنه قول طفيل:
çوكمتا مدماة كأن متونها... جرى فوقها واستشعرت لون مذهبé
فأعمل استشعرت، ولو أعمل جرى لقال: واستشعرته لون مذهب، ومثل ذلك قول كثير:
çقضى كل ذي دين فوفى غريمه... وعزة ممطول معنى غريمهاé
فأعمل وفى، ولو أعمل قضى لقال: قضى كل ذي دين فوفاه غريمه.
وهو كثير في القرآن، والشعر.
ب. ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ﴾ ارتفع ﴿امْرُؤٌ﴾ بإضمار فعل يفسره ما بعده، وتقديره: إن هلك امرؤ هلك، ولا يجوز إظهاره، لان الثاني يعبر عنه.
ج. ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ﴾: إنما ذكرت اثنتين، وإن دلت الألف عليهما، لأحد أمرين: إما أن يكون تأكيدا للضمير كما تقول: أنا فعلت أنا، وإما أن يبين أن المطلوب في ذلك العدد دون غيره، من الصفات، من صغر، أو كبر، أو عقل، أو عدمه، بل متى حصل العدد، ثبت الميراث، وهذا قول أبي علي الفارسي، وهو الصحيح.
د. ﴿رِجَالًا وَنِسَاءً﴾ بدل من قوله: ﴿إِخْوَةٌ﴾ وهو خبر كان.
هـ. ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ في أن ثلاثة أقوال:
• أحدها: إن المعنى أن لا تضلوا، أضمر حرف النفي، وتلخيصه: لئلا تضلوا، عن الكسائي، وأنشد القطامي:
çرأينا ما يرى البصراء فيها... فآلينا عليها أن تباعاé
يريد: أن لا تباع.
• ثانيها: ما قاله البصريون: إن المعنى كراهة أن تضلوا، فهو على هذا في موضع نصب بأنه مفعول له، ومثله قول عمرو بن كلثوم (فعجلنا القرى أن تشتمونا) أي: كراهة أن تشتمونا، قالوا: ولا يجوز أن يضمر لا لأنه حرف جاء لمعنى، فلا يجوز حذفه، ولكن يجوز أن تدخل لا في الكلام مؤكدة، وهي لغو، كقوله: (لان لا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون) والمعنى: لأن يعلم، وكقول الشاعر:
çوما ألوم البيض أن لا تسخرا... إذا رأين الشمط القفندراé
والمعنى أن تسخرا.
• ثالثها: ما قاله الأخفش، وهو أن مع الفعل بتأويل المصدر، وموضع أن نصب يبين، وتقديره يبين الله لكم الضلال لتجتنبوه.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/228.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ في سبب نزولها قولان:
أ. أحدهما: أنها نزلت في جابر بن عبد الله، روى أبو الزّبير عن جابر قال: مرضت فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعودني هو وأبو بكر وهما ماشيان فوجدني قد أغمي عليّ، فتوضّأرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم صبّ عليّ من وضوئه، فأفقت، وقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي وكان لي تسع أخوات، ولم يكن لي ولد؟ فلم يجبني بشيء ثمّ خرج وتركني، ثم رجع إليّ وقال: يا جابر لا أراك ميتا من وجعك هذا، وإنّ الله عزّ وجلّ قد أنزل في أخواتك، وجعل لهنّ الثّلثين، فقرأ عليّ هذه الآية: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ﴾ فكان جابر يقول: أنزلت هذه الآية فيّ.
ب. الثاني: أن الصحابة أهمّهم بيان شأن الكلالة فسألوا عنها نبيّ الله، فنزلت هذه الآية، هذا قول قتادة، وقال سعيد بن المسيّب: سأل عمر بن الخطّاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كيف نورّث الكلالة؟ فقال: (أو ليس قد بين الله ذلك، ثم قرأ: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً﴾ فأنزل الله عزّ وجلّ ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾
2. ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ﴾ أي: مات ﴿لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ يريد: ولا والد: فاكتفى بذكر أحدهما، ويدلّ على المحذوف أنّ الفتيا في الكلالة، وهي من ليس له ولد ولا والد.
3. ﴿وَلَهُ أُخْتٌ﴾ يريد من أبيه وأمّه ﴿فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ عند انفرادها ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا﴾ أي: يستغرق ميراث الأخت إذا لم يكن لها ولد ولا والد، وهذا هو الأخ من الأب والأمّ، أو من الأب ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ﴾ يعني: أختين، واسأل الأخفش ما فائدة قوله: (اثنتين) و﴿كَانَتَا﴾ لا يفسّر إلا باثنتين؟ فقال: أفادت العدد العاري عن الصّفة، لأنه يجوز في ﴿كَانَتَا﴾ صغيرتين، أو حرّتين، أو صالحتين، أو طالحتين، فلمّا قال: ﴿اثْنَتَيْنِ﴾ فإذا إطلاق العدد على أيّ وصف كانتا عليه، ﴿فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ﴾ من تركة أخيهما الميت ﴿وَإِنْ كَانُوا﴾ يعني المخلّفين.
4. ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ قال ابن قتيبة: لئلّا تضلّوا، وقال الزجّاج: فيه قولان:
أ. أحدهما: أن لا تضلّوا، فأضمرت لا.
ب. الثاني: كراهية أن تضلّوا، وهو قول البصريين، قال ابن جريج: أن تضلّوا في شأن المواريث.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/504.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تكلم الله تعالى في أول السورة في أحكام الأموال وختم آخرها بذلك ليكون الآخر مشاكلا للأول، ووسط السورة مشتمل على المناظرة مع الفرق المخالفين للدين.
2. قال أهل العلم: إن الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول هذه السورة، والأخرى في الصيف وهي هذه الآية، ولهذا تسمى هذه الآية آية الصيف وقد ذكرنا أن الكلالة اسم يقع على الوارث وعلى الموروث، فإن وقع على الوارث فهو من سوى الوالد والولد، وإن وقع على الموروث فهو الذي مات ولا يرثه أحد الوالدين ولا أحد من الأولاد.
3. ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ ارتفع امرؤ بمضمر يفسره الظاهر، ومحل ﴿لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ الرفع على الصفة، أي إن هلك امرؤ غير ذي ولد، وظاهر هذه الآية فيه تقييدات ثلاث:
أ. الأول: أن ظاهر الآية يقتضي أن الأخت تأخذ النصف عند عدم الولد، فأما عند وجود الولد فإنها لا تأخذ النصف، وليس الأمر كذلك، بل شرط كون الأخت تأخذ النصف أن لا يكون للميت ولد ابن، فإن كان له بنت فإن الأخت تأخذ النصف.
ب. الثاني: أن ظاهر الآية يقتضي أنه إذا لم يكن للميت ولد فإن الأخت تأخذ النصف وليس كذلك، بل الشرط أن لا يكون للميت ولد ولا والد، وذلك لأن الأخت لا ترث مع الوالد بالإجماع.
ج. الثالث: أن قوله: ﴿وَلَهُ أُخْتٌ﴾ المراد منه الأخت من الأب والأم، أو من الأب، لأن الأخت من الأم والأخ من الأم قد بيّن الله حكمه في أول السورة بالإجماع.
4. ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾ يعني أن الأخ يستغرق ميراث الأخت إذا لم يكن للأخت ولد، إلا أن هذا الأخ من الأب والأم أو من الأب، أما الأخ من الأم فإنه لا يستغرق الميراث.
5. ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ وهذه الآية دالة على أن الأخت المذكورة ليست هي الأخت من الأم فقط، وروي أن أبا بكر قال في خطبته: ألا أن الآية التي أنزلها الله في سورة النساء في الفرائض، فأولها: في الولد والوالد، وثانيها: في الزوج والزوجة والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الأخوة والأخوات من الأب والأم، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام.
6. في قوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ وجوه:
أ. الأول: قال البصريون: المضاف هاهنا محذوف وتقديره: يبين الله لكم كراهة أن تضلوا، إلا أنه حذف المضاف كقوله ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: 82]
ب. الثاني: قال الكوفيون: حرف النفي محذوف، والتقدير: يبين الله لكم لئلا تضلوا، ونظيره قوله: ﴿إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ [فاطر: 41] أي لئلا تزولا.
ج. الثالث: قال الجرجاني صاحب (النظم): يبين الله لكم الضلالة لتعلموا أنها ضلالة فتجنبوها.
7. ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فيكون بيانه حقا وتعريفه صدقا.
8. في هذه السورة لطيفة عجيبة، وهي أن أولها: مشتمل على بيان كمال قدرة الله تعالى فإنه قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [النساء: 1] وهذا دال على سعة القدرة، وآخرها مشتمل على بيان كمال العلم وهو قوله: ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ وهذان الوصفان هما اللذان بهما تثبت الربوبية والإلهية والجلالة والعزة، وبهما يجب على العبد أن يكون مطيعا للأوامر والنواهي منقادا لكل التكاليف.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/275.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال البراء بن عازب: هذه آخر آية نزلت من القرآن، كذا في كتاب مسلم، وقيل: نزلت والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم متجهز لحجة الوداع، ونزلت بسبب جابر، قال جابر بن عبد الله: مرضت فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبو بكر يعوداني ماشيين، فأغمي علي، فتوضأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم صب علي من وضوئه فأفقت، فقلت: يا رسول الله كيف أقضي في مالي؟ فلم يرد علي شيئا حتى نزلت آية الميراث ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ رواه مسلم، وقال: آخر آية نزلت: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ﴾ [البقرة] وقد تقدم، ومضى في أول السورة الكلام في ﴿الْكَلَالَةِ﴾ مستوفى، وأن المراد بالإخوة هنا الإخوة للأب والأم أو للأب وكان لجابر تسع أخوات.
2. ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ أي ليس له ولد ولا والد، فاكتفى بذكر أحدهما، قال الجرجاني: لفظ الولد ينطلق على الوالد والمولود، فالوالد يسمى، والدا لأنه ولد، والمولود يسمى ولدا لأنه ولد، كالذرية فإنها من ذرا ثم تطلق على المولود وعلى الوالد، قال الله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾
3. الجمهور من العلماء من الصحابة والتابعين يجعلون الأخوات عصبة البنات وإن لم يكن معهن أخ، غير ابن عباس، فإنه كان لا يجعل الأخوات عصبة البنات، وإليه ذهب داوود وطائفة، وحجتهم ظاهر قول الله تعالى: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ ولم يورث الأخت إلا إذا لم يكن للميت ولد، قالوا: ومعلوم أن الابنة من الولد، فوجب ألا ترث الأخت مع وجودها، وكان ابن الزبير يقول بقول ابن عباس في هذه المسألة حتى أخبره الأسود بن يزيد: أن معاذا قضى في بنت وأخت فجعل المال بينهما نصفين.
4. هذه الآية تسمى بآية الصيف، لأنها نزلت في زمن الصيف، قال عمر: إني والله لا أدع شيئا أهم إلي من أمر الكلالة، وقد سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عنها فما أغلظ لي في شي ما أغلظ لي فيها، حتى طعن بإصبعه في جنبي أو في صدري ثم قال: (يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء)، وعنه قال: ثلاث لأن يكون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بينهن أحب إلي من الدنيا وما فيها: الكلالة والربا والخلافة، خرجه ابن ماجه في سننه.
5. ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ قال الكسائي: المعنى يبين الله لكم لئلا تضلوا، قال أبو عبيد، فحدثت الكسائي بحديث رواه ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (لا يدعون أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجابة) فاستحسنه، قال النحاس: والمعنى عند أبي عبيد لئلا يوافق من الله إجابة، وهذا القول عند البصريين خطأ صراح، لأنهم لا يجيزون إضمار لا، والمعنى عندهم: يبين الله لكم كراهة أن تضلوا، ثم حذف، كما قال: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ وكذا معنى حديث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي كراهية أن يوافق من الله إجابة، ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ تقدم في غير موضع.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/28.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تقدّم الكلام في الكلالة في أوّل هذه السورة، وسيأتي ذكر المستفتي المقصود بقوله: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾
2. ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ﴾ أي: إن هلك امرؤ هلك كما تقدم في قوله: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ﴾
3. ﴿لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ إما صفة لامرؤ، أو حال، ولا وجه للمنع من كونه حالا، والولد: يطلق على الذكر والأنثى، واقتصر على عدم الولد هنا مع أن عدم الوالد معتبر في الكلالة: اتكالا على ظهور ذلك؛ قيل: والمراد بالولد هنا الابن، وهو أحد معنى المشترك، لأن البنت لا تسقط الأخت.
4. ﴿وَلَهُ أُخْتٌ﴾ عطف على قوله: ﴿لَيْسَ لَهُ وَلَدَ﴾، والمراد بالأخت هنا: هي الأخت لأبوين، أو لأب، لا لأم، فإن فرضها السدس كما ذكر سابقا، وقد ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: إلى أن الأخوات لأبوين أو لأب عصبة للبنات وإن لم يكن معهم أخ، وذهب ابن عباس: إلى أن الأخوات لا يعصبن البنات، وإليه ذهب داوود الظاهري وطائفة، وقالوا: إنه لا ميراث للأخت لأبوين أو لأب مع البنت، واحتجوا بظاهر هذه الآية، فإنه جعل عدم الولد المتناول للذكر والأنثى قيدا في ميراث الأخت، وهذا استدلال صحيح لو لم يرد في السنة ما يدل على ثبوت ميراث الأخت مع البنت، وهو ما ثبت في الصحيح: أن معاذا قضى على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في بنت وأخت فجعل للبنت النصف وللأخت النصف، وثبت في الصحيح أيضا: (أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى في بنت وبنت ابن وأخت: فجعل للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، وللأخت الباقي) فكانت هذه السنة مقتضية لتفسير الولد بالابن دون البنت.
5. ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا﴾ أي: المرء يرثها، أي: يرث الأخت ﴿إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾ ذكر إن كان المراد بإرثه لها: حيازته لجميع ما تركته، وإن كان المراد: ثبوت ميراثه لها في الجملة أعمّ من أن يكون كلا أو بعضا، صح تفسير الولد بما يتناول الذكر والأنثى، واقتصر سبحانه في هذه الآية على نفي الولد ـ مع كون الأب يسقط الأخ كما يسقطه الولد الذكر ـ: لأن المراد بيان حقوق الأخ مع الولد فقط هنا، وأما سقوطه مع الأب فقد تبين بالسنة، كما ثبت في الصحيح من قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر) والأب أولى من الأخ.
6. ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ﴾ أي: فإن كان من يرث بالأخوة اثنتين، والعطف على الشرطية السابقة، والتأنيث والتثنية؛ وكذلك الجمع في قوله: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً﴾ باعتبار الخبر ﴿فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ المرء إن لم يكن له ولد كما سلف، وما فوق الاثنتين من الأخوات يكون لهنّ الثلثان بالأولى.
7. ﴿وَإِنْ كَانُوا﴾ أي: من يرث بالأخوّة ﴿إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً﴾ أي: مختلطين ذكورا وإناثا ﴿فَلِلذَّكَرِ﴾ منهم ﴿مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ تعصيبا.
8. ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ أي: يبين لكم حكم الكلالة وسائر الأحكام كراهة أن تضلوا، هكذا حكاه القرطبي عن البصريين، وقال الكسائي: المعنى لئلا تضلوا، ووافقه الفراء وغيره من الكوفيين.
9. ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء التي هذه الأحكام المذكورة منها ﴿عَلِيمٌ﴾ أي: كثير العلم.
__________
(1) فتح القدير: 1/627.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يروى أنَّ جابر بن عبد الله مرض فعاده رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فقال: (إنِّي كلالة كيف أصنع بمالي؟) ولفظ البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله: مرضت فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبو بكر، يعوداني ماشيَيْن فأغمي عليَّ، فتوضَّأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثمَّ صبَّ عليَّ من وَضوئه، فأفقت، فإذا النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فقلت: يا رسول الله، كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يردَّ عليَّ شيئًا حتَّى نزل قوله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾
2. ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ أي: في الكلالة، بدليل قوله تعالى: ﴿قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾، ولفظ أبي ذرٍّ من رواية البخاريِّ: (اشتكيت وعندي سبع أخوات، فدخل عليَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ويروى: وأبو بكر ـ فنفخ في وجهي، فأفقت وقلت: يا رسول الله، أوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال: (أحسن)، قلت: بالشطر؟ قال: (أحسن وأحسن)، فعل أمر، يعني أنَّ الإيصاء لهنَّ بالثلثين أو بالنصف إسراف غير إحسان، [ومثل ذلك لأبي داود، وكذا الترمذي إلَّا أنَّه ذكر تسعا بالمثنَّاة.
3. وروى ابن سيرين أنَّ الآية نزلت في مسير النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وإلى جنبه حذيفة بن اليمان وبلَّغها حذيفة إلى عمر وهو يسير خلف حذيفة، ولَمَّا استُخلِف عمر سأل حذيفةَ عن تفسيرها وقال: والله إنَّك لعاجز إن ظننتَ أنَّ إمارتك تحملني أن أحدِّثك فيها ما لم أحدِّثك يومئذ، فقال عمر: لم أرد هذا رحمك الله تعالى! ثمَّ خرج وتركني] فقال: (يا جابر ما أراك ميِّـتًا من وجعك هذا، وإنَّ الله قد أنزل قرآنا فبيَّنَ [الذي] لأَخَواتك فجعل لهنَّ الثلثين)، فكان جابر يقول: (أنزلت هذه الآية فِيَّ)، وفي رواية: دخل عليَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنا مريض لا أعقل، فتوضَّأ ثمَّ صبَّ عليَّ فعقلت، فقلت: إنَّه لا يرثني إلَّا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض، وهي آخر آية نزلت، وقال البراء: آخر آية نزلت خاتمة سورة النساء، وآخر سورة نزلت كاملة براءة، والمراد: الآيات المتعلِّقة بالأحكام، ومن حديث جابر عند الترمذي: (وكان لي تسع أخوات حتَّى نزلت آية الميراث: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾.
4. ﴿إِنِ امْرُؤٌاْ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ ذَكرٌ، ولا ولدٌ ابنُ ذكرٍ، ولا والدٌ ولو علا، واختار بعض أنَّ المرادَ بالولدِ الذكرُ؛ لأنَّه المتبادر، إذ هو أحبُّ إليهم، وليتوافق الاسم والمسمَّى في الذكورة؛ ولأنَّ الأخت وإن ورثت مع البنت النصفَ لكن لا بالفرضيَّة بل بالعصبة، واعتُرض بأنَّه تخصيص بلا مخصِّص، والتعليل بأنَّ الابن يُسقط الأختَ دون البنت ليس بسديد؛ لأنَّ الحكم تعيين النصف، وهذا ثابت عند عدم الابن، والبنت غير ثابت عند وجود أحدهما فإنَّ الابن يسقط الأخت والبنت تصير عصبة، فلم يتعيَّن لها فرض، والنصف لها مع البنت بالعصوبة، وأيضًا الكلام في الميِّت الكلالة وهو الذي لا ولد له.
5. ﴿وَلَهُ أُخْتٌ﴾ شقيقة أو أبويَّة ﴿فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ﴾ أي: هذا الأخ ﴿يَرِثُهَآ﴾ يرث مالها كلَّه وحده ﴿إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ﴾ لا ذكر ولا أنثى، فإن كان لها أو له ولد ذكر ولو سفل، أو أب وإن علا فلا شيء لهذا الأخ أو الأخت، وإن كان له أو لها ولد أنثى فصاعدًا فالموجود منهما عاصب، وإن كان الأخ أو الأخت من الأمِّ فالسدس، أو متعدِّد فالثلث، والآية كما لم تدلَّ على سقوط الإخوة بغير الولد لم تدلَّ على عدم سقوطهم به، ودلَّت السنَّة على أنَّهم لا يرثون مع الأب، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأَوْلَى عصبة ذكر) بفتح همزة (أَوْلَى) ولامه، أي: لأقرب ذكر، ولا شكَّ أنَّ الأب أقرب من الأخ.
6. ذكر الطبريُّ عن قتادة أنَّ الصحابة أهمَّهم شأن الكلالة، فسألوا عنها النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزل: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾، وهي عند جمهور أهل اللغة وكثير من الصحابة: من لم يخلِّف ولدا ولا والدا، كما قال جابر: (إنِّي كلالة)، وقد يعبَّر بها عن القرابة من غير جهة للوالد والولد للضعف، كما في رواية عن جابر: (وإنما يرثني كلالة)، ويقال: أنزل الله جلَّ وعلا في الكلالة آية في الشتاء وهي التي أوَّل السورة وأخرى في الصيف وهي هذه وتسمَّى آية الصيف، روى مالك ومسلم عن عمر : ما سألت النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أكثر مِمَّا سألته عن الكلالة حتَّى طعن بأصبعه في صدري وقال: (يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء)، وعن ابن عبَّاس : آخر آية نزلت آية الربا، وآخر سورة نزلت: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ﴾، وروي أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم عاش بعد سورة النصر عامًا ونزلت بعدها براءة، وهي آخر سورة نزلت كاملة، فعاش النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم بعدها ستَّة أشهر، ثمَّ نزل في طريق حجَّة الوداع قوله تبارك وتعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ﴾، وقيل: نزلت وهو يتجهَّز لحجَّة الوداع في الصيف، ونزل وهو واقف بعرفات: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ﴾ الآية [المائدة: 3]، وعاش بعدها أحدًا وثمانين، ثمَّ نزلت آية الربا، ثمَّ نزلت: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا﴾ الآية [البقرة: 281]، وعاش بعدها أحدًا وعشرين يومًا، وذكر البخاري ومسلم عن البراء أنَّ آية ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ﴾ آخر آية نزلت من الفرائض.
7. ﴿فَإِن كَانَتَا﴾ أي: وإن كان من يرث بالأُخُوَّة، وثنَّى وأنَّث اعتبارًا للخبر، وهو قوله: ﴿اثْنَتَيْنِ﴾ وإلَّا فكيف يشترط للاثنتين أن تكونا اثنتين، فإنَّه تحصيل للحاصل، وفي الآية تنبيه على أنَّ المعتبر العدد لا الصغر والكبر، ولا غير ذلك، والمراد اثنتان فصاعدًا؛ لأنَّها نزلت في جابر، وقد مات عن أخوات سبع أو تسع، وهو آخر الصحابة موتًا بالمدينة ﴿فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ أخوهما.
8. ﴿وَإِن كَاُنُواْ﴾ أي: كان من يرث بالأخوَّة، وجُمِعَ باعتبار الخبر وهو قوله: ﴿إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً﴾ على حدِّ ما مَرَّ قبله، وفي أوَّل السورة، غلَّب الذكور فدخلن في الإخوة، ﴿فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ﴾ أحكام الإرث وغيرِهِ.
9. ﴿لَكُمُ أَن تَضِلُّواْ﴾ لئلَّا تضلُّوا، أو كراهة أن تضِلُّوا، لِوُرُودِ لفظ الكراهة بمعنى المنع في حقِّ الله تعالى ، مثل قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنَّ الله كره لكم القيل والقال) في أحاديث، وهذا أولى لقلَّة الحذف، وفي الأوَّل حذف اللام و(لا)، وحذف المضاف أيضًا أوسع، بخلاف حذف (لا) فإنَّما هو في مثل قوله تعالى: ﴿تَاللهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾ [يوسف: 85]، والوجهان في قوله تعالى: ﴿أَن تَزُولَا﴾ [فاطر: 41]، وفي حديث ابن عمر: (لا يدْعُ أحدكم على ولده أن يوافق من الله ساعة إجابة)، ولو استحسن الكسائي في الحديث حذف اللَّام و(لا).
10. ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ من مصالح الحياة والموت.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/366.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ أي: في ميراث الكلالة، استغنى عن ذكره لوروده في قوله سبحانه ﴿قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ وقد مر تفسيرها في مطلع السورة الكريمة، والمستفتي جابر بن عبد الله، روى الشيخان وغيرهما عن جابر ابن عبد الله قال دخل علي النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنا مريض، فتوضأ فصب عليّ، أو قال صبوا عليه، فعقلت فقلت: لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض.
2. ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ﴾ أي: مات واختصاص الهلاك بميتة السوء عرف طارئ لا يعتد به، بدليل ما لا يحصى من الآي والأحاديث، ولطروّ هذا العرف قال الشهاب في (شرح الشفاء): إنه يمنع إطلاقه في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا يعتدّ بأصل اللغة القديمة، كما لا يخفى عمن له مساس بالقواعد الشرعية والله أعلم، كذا في (تاج العروس)، ﴿لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ أي: الميت، من المال.
3. قال ابن كثير: تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد، وهو رواية عن عمر بن الخطاب رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح، ولكن الذي يرجع إليه، قول الجمهور، وقضى أبو بكر؛ أنه الذي لا ولد له ولا والد، ويدل على ذلك قوله: (وله أخت) ولو كان معها أب لم ترث شيئا، لأنه يحجبها بالإجماع، فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن، ولا والد بالنص أيضا، عند التأمل أيضا، لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد، بل ليس لها ميراث بالكلية، وروى أحمد عن زيد بن ثابت أنه سئل عن زوج وأخت لأب وأم؟ فأعطى الزوج النصف والأخت النصف، فكلم في ذلك فقال: حضرت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى بذلك، وقد نقل ابن جرير وغيره عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان (في الميت ترك بنتا وأختا): أنه لا شيء للأخت لقوله: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ قال فإذا ترك بنتا فقد ترك ولدا، فلا شيء للأخت، وخالفهما الجمهور فقالوا (في المسألة): للبنت النصف بالفرض، وللأخت النصف الآخر بالتعصيب، بدليل غير هذه الآية، وهذه نقصت أن يفرض لها في هذه الآية، وأما وراثتها بالتعصيب، فما رواه البخاريّ من طريق سليمان عن إبراهيم الأسود قال قضى فينا معاذ بن جبل، على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، النصف للبنت والنصف للأخت، ثم قال سليمان (قضى فينا) ولم يذكر (على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفي صحيح البخاري أيضا عن هزيل بن شرحبيل قال سئل أبو موسى الأشعريّ عن بنت، وبنت ابن، وأخت؟ فقال، للبنت النصف وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فسيتابعني، فسأل ابن مسعود فأخبره بقوله أبي موسى فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: النصف للبنت، ولبنت الابن السدس، تكملة للثلثين، وما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم، قوله تعالى: ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾ أي: والأخ يرث جميع مالها إذا ماتت كلالة، وليس لها ولد أي: ولا والد، لأنها لو كان لها ولد لم يرث الأخ شيئا، فإن فرض أن معه من له فرض، صرف إليه فرضه، كزوج أو أخ من أم، وصرف الباقي إلى الأخ، لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر.
4. ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ أي: فإن كان، لمن يموت كلالة، أختان ـ فرض لهما الثلثان، وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما، ومن هاهنا أخذ الجماعة حكم البنتين، كما استفيد حكم الأخوات من البنات في قوله: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ [النساء: 11]
5. ﴿وَإِنْ كَانُوا﴾ أي: من يرث بطريق الأخوة ﴿إِخْوَةٌ﴾ أي مختلطة ﴿رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ﴾ أي منهم ﴿مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ أي مثل نصيب اثنتين من أخواته الإناث.
6. ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ أي: كراهة أن تضلوا في ذلك، أو على تقدير (اللام ولا) في طرفي (أن) أي لئلا تضلوا، وقيل: ليس هناك حذف ولا تقدير، وإنما هو مفعول (يبين) أي: يبين لكم ضلالكم الذي هو من شأنكم إذا خليتم وطباعكم، لتحترزوا عنه وتتحروا خلافه، ورجحه بعضهم بأنه من حسن الختام، والالتفات إلى أول السورة وهو ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ [النساء: 1] فإنه أمرهم بالتقوى، وبين لهم ما كانوا عليه في الجاهلية، ولما تم تفصيله قال لهم: إني بينت لكم ضلالكم فاتقوني كما أمرتكم، فإن الشر إذا عرف اجتنب، والخير إذا عرف ارتكب، قال أبو السعود: وأنت خبير بأن ذلك إنما يليق بما إذا كان بيانه تعالى على طريقة تعيين مواقع الخطأ والضلال، من غير تصريح بما هو الحق والصواب، وليس كذلك.
7. ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء التي من جملتها أحوالكم المتعلقة بمحياكم ومماتكم ﴿عَلِيمٌ﴾ مبالغ في العلم، فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم.
8. لما بين الله تعالى في أول السورة أحكام الأموال، ختم آخرها بذلك أيضا ليكون الآخر مشاكلا للأول، وأما وسط السورة فقد اشتمل على المناظرة مع الفرق المخالفة للدين.
9. أنزل في الكلالة آيتان: إحداهما في الشتاء، وهي التي في أول هذه السورة، والأخرى في الصيف وهي هذه الآية، ولهذا تسمى هذه الآية آية الصيف.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/488.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بينا سابقا معنى الكلالة واشتباه عمر فيها وسؤاله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عنها بنفسه وبواسطة بنته حفصة زوج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وروى ابن راهوية وابن مردويه أن هذه الآية نزلت بسبب سؤاله عن الكلالة فلم يفهمها فكلف حفصة أن تسأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عنها عندما تراه طيبة نفسه، وروى مالك ومسلم وابن جرير والبيهقي عن عمر قال: (ما سألت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن شيء أكثر ما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري وقال: (تكفيك آية الصيف التي آخر سورة النساء)، وروى أحمد وأبو داوود والترمذي والبيهقي عن البراء بن عازب أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الكلالة فقال: (تكفيك آية الصيف) وروى عبد بن حميد وأبو داوود في المراسيل والبيهقي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مثله وزاد (فمن لم يترك ولدا ولا والدا فورثته كلالة) وأخرجه الحاكم موصولا عن أبي سلمة عن أبي هريرة.
2. قال الخطابي: أنزل الله في الكلالة آتين إحدهما في الشتاء وهي الآية التي في أول سورة النساء وفيها إجمال وإبهام لا يكاد يتبين هذا المعنى من ظاهرها، ثم أنزل الآية الأخرى في الصيف وهي التي في آخر سورة النساء، وفيها من زيادة البيان ما ليس في آية الشتاء، فأحال السائل عليها ليتبين المراد بالكلالة المذكورة فيها اه، أقول: وقد بينا في تفسير الآية الأولى: أنها نزلت في الإخوة من الأم بعد بيان إرث الوالدين لأنهم يحلون محلها عند فقدها فيأخذون ما كانت تأخذه، ثم عرضت الحاجة إلى بيان حكم إخوة العصب عند مرض جابر فنزلت هذه الآية، وما ورد أنها نزلت في السفر غلط سببه أن حذيفة لما تلقاها من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ظن أنها نزلت في ذلك الوقت لأنه لم يكن سمعها من قبل، وبهذا يجمع بين الروايتين، وكثيرا ما يظن الصحابي عند سماعه الآية لأول مرة أو عند حدوث حادثة أنها نزلت في ذلك الوقت أو حدوث تلك الحادثة وتكون قد نزلت قبل ذلك، ومن علم هذا سهل عليه الجمع بين كثير من الروايات المتعارضة في أسباب النزول وهي كثيرة جدا، ومن الغلط على الغلط قول بعضهم ان السفر الذي نزلت فيه سفر حجة الوداع، وإنما كانت حجة الوداع في الشتاء وقد صرح في الروايات الصحيحة أن هذه هي آية الصيف ورواية نزولها بسبب سؤال عمر لا تصح.
3. ثم إن اختلافهم في تفسير الكلالة له مثار من اللغة ومجال من الآيتين:
أ. أما الأول فقد قيل إن أصل الكلالة في اللغة ما لم يكن من النسب لحا أي لاصقا بلا واسطة، وقيل إنه ما عدا الوالد والولد من القرابة وهو بيان للقول الأول، وقيل ما عدا الولد فقط، وقيل الإخوة من الأم، قال في لسان العرب عند ذكره (وهو المستعمل) وقيل الكلالة من العصبة من ورث معه الإخوة من الأم، ويطلق هذا اللفظ على الميت الذي يرثه من ذكر، وقيل بل على الورثة غير من ذكر، وقيل على كل منهما والمرجح القرينة، وهذا هو الصحيح لغة الذي يجمع بين النصوص، والجمهور على أن الكلالة من المورثين من لا ولد له ولا والد، وهو الذي قضى به أبو بكر وهو الحق وفيه الحديث الذي أرسله أبو داوود ووصله الحاكم، ولعله لو بلغهم كلهم لزال به كل خلاف.
ب. وأما الثاني وهو مجال الخلاف من الآيتين فهو أن الآية الأولى: التي ذكرت بين آيات الفرائض في أول السورة لم تفسر الكلالة وإنما ذكرت ما يرثه الإخوة للأم إرث كلالة، وأجمعوا على أن المراد بالإخوة فيها الإخوة من الأم، والآية الثانية: بينت فرض أخوات العصب كلالة واشترطت فيه عدم الولد، ولكن من تأمل الآيات كلها، علم أنه لا خلاف ولا إشكال فيها، ذلك أنه بين قبل الآية الأولى: إرث الأولاد ثم إرث الوالدين مع وجود الأولاد وعدمه، ومع وجود الإخوة وعدمه، ثم إرث الأزواج مع وجود الأولاد وعدمه، وهؤلاء هم الذين يدلون إلى من يرثونه بأنفسهم وكل من عداهم يرث بالواسطة فيعد كلالة على الإطلاق، ثم جاء بعد ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ [النساء: 11] ومعنى يورث كلالة يموت فيرثه من يرثه من أهله إرث كلالة أو حال كونه أي الميت كلالة أي لا ولد ولا والد، فلو لم يعلم هذا من اللغة لعلم من الآيات السابقة لأنه تقدم فيها ذكر إرث كل منهما، فتعين أن تكون الكلالة عبارة عن عدمهما، ولم يشترط أن لا يكون له زوج لأن العرب تطلق الكلالة على النسب دون الصهر، ولولا ذلك لكانت القرينة قاضية بأن يقال إن المراد بالكلالة هنا من ليس له ولد ولا والد ولا زوج لأن الزوج يرث بلا واسطة كالأصول والفروع وقد ذكر فرضه ذكرا وأنثى قبل ذكر الكلالة.
4. فعلم من هذه الآية أن الإخوة من الأم أصحاب فرض في الكلالة وأن فرضهم هو فرض الأم التي حلوا محلها في الإرث، وهو من القرائن على كون المراد الإخوة من الأم، وبقي الإخوة من الأب والأم معا أو الأب فقط مسكوتا عنهم، وقد بينت السنة أن من لم يفرض من الأقارب يحوز ما بقي من التركة بعد الفريضة إن كان عصبة على قاعدة أخذ الذكر مثل حظ الاثنين وقاعدة كون الأقرب يحجب الأبعد، فلما مرض جابر وله أخوات من عصبته أراد أن يوصي لهن لأنه ليس لهن فرض وهو الكلالة والعرب لم تورث الإناث فأنزل الله آية الفتوى في الكلالة فجعل لهن فيها فرضا، ولكن روي أن عمر أخذ بظاهر هذه الآية إذ نفت الولد ولم تنف الوالد، وروي أنه كان كتب رأيه في لوح ومكث يستخير الله مدة فيه يقول اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه، حتى إذا طعن دعا بالكتاب فمحي ولم يدر أحد ما كتب فيه، فقال: إني كنت كتبت في الجد والكلالة كتابا وكنت أستخير الله فيه فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه، وروى عبد الرزاق وابن سعيد عن ابن عباس قال أنا أول من أتى عمر حين طعن فقال: (احفظ عني ثلاثا فإني أخاف أن لا يدركني الناس: أما أنا فلم اقض في الكلالة ولم استخلف على الناس خليفة وكل مملوك لي عتيق) وروي أيضا أن عليا كان أنكر قول أبي بكر أن الكلالة من لا ولد له ولا والد ثم رجع إلى قوله.
5. جملة القول إن الكلالة من الوارثين من كل وأعيا عن أن يصل إلى الميت المورث بنفسه فهو يصل إليه بواسطة من يتصل نسبه به بالذات، وإنما النسب المتصل بالذات الأصل والفرع، وما علا من الأصول وسفل من الفروع هو عمود النسب فلا يكون كلالة، فالكلالة من الوارثين إذا هم الحواشي الذين يدلون إلى الميت بواسطة الأبوين أحدهما أو كليهما من الأطراف، والكلالة من المورثين هو الذي يرثه غير الولد والوالد فهذا ما كان يفهمه الصحابة لأنه المعروف في العربية ولا صحة لغيره، وما اشتبه بعضهم إلا لنفي الولد في هذه الآية، لأنهم عهدوا أن القرآن خال من العبث واعتقدوا أنه منزه عنه في ذكر ما يتركه في معرض الحاجة إلى بيانه، وهم موقنون بأنهم حفظوا هذا القرآن أكمل حفظ وأتمه فلا يحتمل أن يكونوا قد نسوا أو تركوا ذكر نفي الوالد مع نفي الولد في الآية، ولهذا أغلظ حذيفة الرد على عمر في خلافته لما سأله عن الآية إذا توهم أن يحمله على أن يقول فيها شيئا برأيه، وعلى هذا يكون محل الإشكال هو نكتة نفي الولد دون نفي الوالد في الآية وإليك تفسيرها متضمنا لهذا النكتة:
6. ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ أي يطلبون منك أيها الرسول الفتيا فيمن يورث كلالة كجابر بن عبد الله الذي ليس له والد ولا ولد، وله أخوات من عصبته وهؤلاء لم يفرض لهم شيء في التركة من قبل، وإنما فرض للإخوة من الأم السدس للواحد منهم والثلث لما زاد عن الواحد شركاء فيه مهما كثروا لأنه سهم أمهم ليس لها سواه، فقال لهم الله يفتيكم في الكلالة التي سألتم عنها بقوله: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ هلك مات ولا يستعمل منذ قرون إلا في مقام التحقير، وقد استعمله القرآن في غير هذا المكان بمعنى الموت مطلقا بقوله عن يوسف عليه السلام ﴿حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا﴾ [غافر: 34]
7. ﴿لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ صفة امرؤ أو حال من الضمير في هلك، والمعنى إن هلك امرؤ عادم للولد أو غير ذي ولد والحال إن له أختا من أبويه معا أو أبيه فقط فلما نصف ما ترك، والنكتة في الاكتفاء بنفي الولد وعد اشتراط نفي الوالد تظهر بوجوده:
أ. أنه داخل في مفهوم الكلالة لغة.
ب. أن الأكثر أن الإنسان يموت عن تركه بعد موت والده لأن المال الذي يتركه إما أن يكون ورثه منهما وإما أن يكون اكتسبه وإما يكون الكسب في سن الشباب والكهولة ويقل في هذا الحال بقاء الوالدين فلم يراع في الذكر إيجازا.
ج. وهو العمدة أن عدم إرث الإخوة والأخوات مع الوالد الذي يدلون به قد علم من آيات الفرائض التي أنزلت أولا وتقدمت في أوائل السورة، ومضت السنة في بيانها والعمل بها على ذلك ـ وعلم أيضا من القاعدة القياسية المأخوذة من تلك الآيات ومن هذه الآية، وهي كون الأصل في الإرث أن يكون للذكر من كل صنف مثل حظ الأنثيين، ومن قاعدة حجب الوالد لأولاده، قال تعالى في الآيات الأولى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ [النساء: 11] أي والباقي وهو الثلثان لأبيه عملا بالقاعدة.
8. ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ [النساء: 11] لأن أولادها يحجبونها حجب نقصان فيكون ثلثها سدسا، والسدس الآخر يكون لهم عند ابن عباس وأما الجمهور فيقول إن الباقي كله لأن الآية بينت أن وجودهما ينقص فرضا ولم تفرض لهم شيئا، وعلى كل قول ليس لهم فرض مع وجود الأب الذي يحجبهم حجب حرمان لأنهم لا يصلون إلى أخيهم إلا به وما يتركه من هذا المال وغيره يعود إليهم، فلهذه الوجوه لم يكن لاشتراط عدم الأب فائدة فترك إيجازا للعلم به من لفظ الكلالة ومن الآيات السابقة والقواعد الثابتة، وكذا من قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المبني على ما ذكر والمبين له وهو ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر)، وليس الاستغناء عن نفي الوالد هنا مع إرادته إلا مثل الاستغناء عن اشتراط ن يكون هذا الفرض من بعد وصية يوصي بها أو دين، كل منهما علم مما قبله، فاستغني عن إعادة ذكره، بل الاستغناء عن ذكر نفي الوالد أقوى لما ذكرناه من العلم به من اللفظ، وكون الغالب أنه لا يوجد، وكونه إن وجد يكون حجبه لأولاده معلوما قطعيا لأنه منصوص ومقيس.
9. إنما أطلت في هذه المسألة وكررت بعض المعاني لاضطراب المتقدمين والمتأخرين في الكلالة وعدم الاطلاع على بيان تام في التوفيق بين ما جرى عليه جمهور الصحابة واتفق عليه المتأخرون وبين عبارة القرآن المجيد، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنتهدي لولا أن هدانا الله.
10. وقد اختلفوا في الولد هنا هل هو على إطلاقه فيشمل البنت أو هو خاص بالابن كما يطلق أحيانا، وسبب الخلاف أن الأخت لا ترث شيئا مع وجود الابن بالإجماع وأما مع وجود البنت فترث، ومن قال إن الولد يشمل الذكر والأنثى هنا لم ير إرث الأخت مع وجود البنت مانعا من اشتراط عدم وجود البنت لإرثها النصف فرضا، لأن الفرض الثابت لها هنا وهو النصف يشترط فيه عدم وجود البنت فإنها إذا وجدت تجعلها عصبة ترث ما بقي بعد أخذ ذي الفرض حقه من التركة، وقد يكون هذا الباقي النصف وقد يكون أقل من النصف، فإذا لم يكن ثم وارث إلا البنت والأخت كان النصف للبنت فرضا والباقي وهو النصف للأخت تعصيبا لا فرضا فلا ينافي الآية لأنه إذا كان مع البنت زوجة فإنها تأخذ الثمن فيكون ما بقي للأخت أقل من النصف، ولو كانت ترث النصف فرضا مع وجود البنت ووجد مع البنت زوجة للميت لعالت المسألة وكان النقض من السهام لاحقا بكل الأنصباء فلا تقل سهام الأخت عن سهام البنت، فعلم من هذا أن الوالد المنفي هنا يشمل الذكر والأنثى ولا إشكال فيه.
11. ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾ أي والمرء يرث أخته إذا ماتت إن لم يكن لها ولد ذكر ولا أنثى، ولا والد يحجبه عن إرثها كما علم من معنى الكلالة ومن الآيات والقواعد التي أشرنا إليها آنفا وبينا أنها لها هي التي جعلت من الإيجاز البليغ عدم ذكر اشتراط نفي الوالد، لأنه كتحصيل الحاصل، كاشتراط كونه بعد الوصية والدين للعلم بذلك، فإن لم يكن لها ولد البتة ورثها وحده فكان له كل التركة، وهو موافق لقاعدة للذكر مثل حظ الأنثيين، والظاهر أن هذا هو المراد لأنه مقابل إرث الأخت للنصف، وإنما أطلق الإرث ولم يبين النصيب لأن الأخ ليس صاحب فرض معين لا يزيد ولا ينقص بل هو عصبة يحوز كل التركة عند عدم وجود أحد من أصحاب الفروض وأما عند وجود أحد منهم يرث هو فيحوز كلالة جميع ما بقي على القاعدة المبينة في الحديث الصحيح الذي ذكرناه آنفا، فبنت الأخت في مسألتنا لها النصف فرضا إذا انفردت فهو يرث معها الباقي وهو النصف الآخر، فإذا ماتت عنه وعن بنت وزوج فللبنت النصف وللزوج الربع وللأخ الباقي وهو الربع، وقد أراد بعضهم أن يدخل الصور التي يرث فيها الأخ مع بنت الأخت في مفهوم (وهو يرثها إن لم يكن لها ولد) ففسر الوالد بالابن ولا مندوحة عن ذلك إذاً لأن البنت لا تحجبه عن الميراث بالإجماع، ولكن إرادة هذه الصور غير متعين وحكمها معلوم من النصوص الأخرى.
12. ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ أي فإن كان من يرث بالإخوة أختين فلهما الثلثان مما ترك أخوهما كلالة وكذا إن كن أكثر من اثنتين بالأولى: كأخوات جابر وكن سبعا أو تسعا، والباقي لمن يوجد من العصبة إن لم يكن هنالك أحد من أصحاب الفروض كالزوجة وإلا أخذ كل ذي فرض فرضه أولا كما هو مقرر وعبر بالعدد فقال اثنتين دون أختين لأن الكلام في الإخوة والعبرة في الفرض بالعدد.
13. ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً﴾ أي إن كان من يرثون بالإخوة كلالة ذكورا وإناثا ﴿فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ منهم على القاعدة في كل صنف اجتمع منه أفراد في درجة واحدة إلا أولاد الأم فإنهم شركاء في سدس أمهم لحلولهم محلها ولولا ذلك لم يرثوا لأنهم ليسوا من عصبة الميت، وفي العبارة تغليب الذكور على الإناث وهو معروف في اللغة.
14. ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ أي يبين الله لكم أمور دينكم ومن أهمها تفصيل هذه الفرائض وأحكامها كراهة أن تضلوا أو تفاديا بها أن تضلوا، والمراد: لتتقوا بمعرفتها والإذعان لها الضلال في قسمة التركات وغيرها، هذا هو التوجيه المشهور زدناه بيانا بالتصرف في التقدير، وهو على هذا مفعول لأجله، وقدم عليه البيضاوي وجها آخر فقال: (أي يبين الله لكم ضلالكم الذي من شأنكم إذا خليتم وطباعكم لتحترزوا عنه وتتحروا خلافه، ونقل الرازي عن الجرجاني صاحب النظم أنه قال: (يبين لكم الله الضلالة لتعلموا أنها ضلالة وتتجنبوها)) والكوفيون يقدرون حرف النفي أي لئلا تضلوا، الأول الذي عليه البصريون أظهر، وفي حديث ابن عمر (لا يدعو أحدكم على ولده أن يوافق من الله ساعة إجابة) قيل معناه لئلا يوافق ساعة إجابة، والأظهر تقدير البصريين أي كراهة أن يوافق ساعة إجابة، وفي معنى الكراهة الحذر والتفادي، وهو استعمال معروف وتكرر في القرآن.
15. ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فما شرع لكم هذه الأحكام وسواها إلا عن علم بأن فيها الخير لكم وحفظ مصالحكم وصلاح ذات بينكم ذات بينكم، كما هو شأنه في جميع أحكامه وأفعاله، كلها موافقة للحكمة الدالة على إحاطة العلم وسعة الرحمة.
16. من مباحث اللفظ والأسلوب في الآية أنها تدل على أن المعلوم من السياق له حكم المذكور في اللفظ حتى في إعادة الضمير عليه، فلا يتعين تقدير لفظ المرء في بيان مرجع ضمير ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا﴾ بل يصح أن نقول إن المعنى: وهو أي أخوها يرثها الخ، ومثله قوله: (فإن كانتا ـ فإن كانوا)
__________
(1) تفسير المنار: 6/86.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن تكلم في أول السورة في أحكام الأموال، ختم آخرها بذلك ليكون الآخر مشاكلا للأول، والوسط مشتمل على المناظرة مع فرق المخالفين للدين.
2. ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ الكلالة: ما عدا الوالد والولد من القرابة وقيل الإخوة من الأم، قال في لسان العرب ـ وهو المستعمل ـ والمعنى يطلبون منك أيها النبي الفتيا فيمن يورث كلالة كجابر بن عبد الله ليس له والد ولا ولد وله أخوات من العصبة لم يفرض لهم شيء في التركة من قبل، وإنما فرض للإخوة من الأم، السدس للواحد منهم والثلث لما زاد على الواحد وهم شركاء فيه مهما كثروا لأنه ميراث أمهم ليس لها سواه، فقل لهم جوابا عما سألتم عنه.
3. ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ هلك مات ـ أي إن هلك امرؤ غير ذي ولد والحال أن له أختا من أبويه معا أو من أبيه فقط فلها نصف ما ترك.
4. ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾ أي والأخ يرث أخته إذا ماتت إن لم يكن لها ولد ذكر ولا أنثى، ولا والد يحجبه عن إرثها، وإنما أطلق الإرث ولم يبين النصيب لأن الأخ ليس صاحب فرض معين بحيث لا يزيد ولا ينقص بل هو عصبة يحوز كل التركة عند عدم وجود أحد من أصحاب الفروض، وعند وجود أحد منهم يرث هو معه كلالة جميع ما بقي الفروض كالزوجة وإلا أخذ كل ذي فرض فرضه أوّلا.
5. ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ أي وإن كان من يرثون بالأخوّة كلالة ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين كما هي القاعدة في كل صنف اجتمع منه أفراد في درجة واحدة إلا أولاد الأم فإنهم شركاء في سدس أمهم لحلولهم محلها، ولولا ذلك لم يرثوا، إذ هم ليسوا من عصبة الميت.
6. ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ أي يبين الله لكم أمور دينكم التي من أولها: تفصيل هذه الأحكام كراهة أن تضلوا: أي لتتقوا بمعرفتها الضلال في قسمة التركات وغيرها.
7. ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فهو لم يشرع لكم من الأحكام إلا ما علم أن فيه الخير لكم لصلاح أنفسكم، وذلك شأنه في جميع أفعاله وأحكامه، فكلها موافقة للحكمة، دالة على واسع العلم وعظيم الرحمة.
__________
(1) تفسير المراغي 6/39.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هكذا تختم السورة التي بدأت بعلاقات الأسرة، وتكافلها الاجتماعي؛ وتضمنت الكثير من التنظيمات الاجتماعية في ثناياها.. تختم بتكملة أحكام الكلالة ـ وهي على قول أبي بكر وهو قول الجماعة: ما ليس فيها ولد ولا والد.
2. وقد ورد شطر هذه الأحكام في أول السورة، وهو الشطر المتعلق بوراثة الكلالة من جهة الرحم حين لا توجد عصبة، وقد كان نصه هناك: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾.. فالآن يستكمل الشطر الآخر في وراثة الكلالة.. فإن كانت للمتوفى، الذي لا ولد له ولا والد، أخت شقيقة أو أب، فلها نصف ما ترك أخوها، وهو يرث تركتها ـ بعد أصحاب الفروض ـ إن لم يكن لها ولد ولا والد كذلك، فإن كانتا أختين شقيقتين أو لأب فلهما الثلثان مما ترك، وإن تعدد الإخوة والأخوات فللذكر مثل حظ الأنثيين ـ حسب القاعدة العامة في الميراث ـ والإخوة والأخوات الأشقاء يحجبون الإخوة والأخوات لأب حين يجتمعون.
3. وتختم آية الميراث، وتختم معها السورة، بذلك التعقيب القرآني الذي يرد الأمور كلها للّه، ويربط تنظيم الحقوق والواجبات، والأموال وغير الأموال بشريعة الله: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.. صيغة جامعة شاملة ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من الميراث وغير الميراث، من علاقات الأسر وعلاقات الجماعات، من الأحكام والتشريعات.. فإما اتباع بيان الله في كل شيء وإما الضلال.. طريقان اثنان لحياة الناس لا ثالث لهما: طريق بيان الله فهو الهدى، وطريق من عداه فهو الضلال، وصدق الله: فماذا بعد الحق إلا الضلال؟
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/824.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية مكملة لآيات المواريث التي وردت في أوائل هذه السورة.. وقد جاء في هذه الآيات شيء عن توريث (الكلالة)! وهو من لا عصبة له تتلقّى ميراثه.. فقال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾! والمراد بالأخوة هنا، الأخوة لأم! وفي هذه الآية التي نحن بين يديها، بيان لموقف الأخت، أو الأختين، من أبى المورث وأمه، أو من أبيه.. فإن كان للمورّث الكلالة، (أخت) فلها نصف ما ترك.. وإن كان له أختان أو أكثر فلهما أو لهن الثلثان..
2. ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾ أي انها إذ كانت لا ولد لها ولا والد.. فالأخ في تلك الحال هو عصبتها، وهو يتلقى ميراثها بعد أن يأخذ الزوج ـ إن كان لها زوج ـ فرضه وهو النصف.
3. ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ أي فإن كان ورثة المرأة التي لا ولد لها ولا والد إخوة من رجال، ونساء، اقتسموا ميراثها بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك بعد الفرض المفروض للزوج، إن كان لها زوج.
4. وواضح من هذا أن (الكلالة) في الآية الكريمة لا تتناول هنا إلا الرجل في صورة الأخ الشقيق أو لأب ـ حين يتوفي وليس له ولد أو والد، أما المرأة في صورة الأخت الشقيقة أو لأب، فهي ليست كلالة، لأن لها عاصب يرثها وهو الأخ، وقد ذكرت هنا استكمالا للصورة التي تقع بينها وبين إخوتها، حين تكون وارثة، ثم حين تكون موروثة!
5. ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ هذا البيان الذي بينه الله لكم في هذه الآية، وفي غيرها من آيات القرآن الكريم، هو إرشاد وهداية لكم من الضلال، حين ترجعون إلى ما تقضون به إلى غير بيان من الله! وقوله سبحانه ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ هو بيان لسعة علم الله، وأن ما يقضى به هو الحق، وما بيّنه هو البيان الحق، الذي ليس وراءه بيان! فالتزموه، واستقيموا عليه، ليكون في ذلك خيركم ورشدكم، وصلاح أمركم!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1022.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لا مناسبة بين هذه الآية وبين اللّاتي قبلها، فوقوعها عقبها لا يكون إلّا لأجل نزولها عقب نزول ما تقدّمها من هذه السورة مع مناسبتها لآية الكلالة السابقة في أثناء ذكر الفرائض؛ لأنّ في هذه الآية بيانا لحقيقة الكلالة أشار إليه قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾، وقد تقدّم في أوّل السورة أنّه ألحق بالكلالة المالك الّذي ليس له والد، وهو قول الجمهور ومالك بن أنس، فحكم الكلالة قد بيّن بعضه في آية أول هذه السورة، ثمّ إنّ النّاس سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن صورة أخرى من صور الكلالة، وثبت في الصحيح أنّ الّذي سأله هو جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله وأبو بكر ماشيين في بني سلمة فوجداني مغمى عليّ فتوضّأرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وصبّ عليّ وضوءه فأفقت وقلت: كيف أصنع في مالي فإنّما يرثني كلالة، فنزل قوله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ الآية، وقد قيل: إنّها نزلت ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم متجهّز لحجّة الوداع في قضية جابر بن عبد الله.
2. ضمير الجماعة في قوله: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ غير مقصود به جمع، بل أريد به جنس السائلين، على نحو: (ما بال أقوام يشترطون شروطا) وهذا كثير في الكلام، ويجوز أن يكون السؤال قد تكرّر وكان آخر السائلين جابر بن عبد الله فتأخّر الجواب لمن سأل قبله، وعجّل البيان له لأنّه وقت الحاجة لأنّه كان يظنّ نفسه ميّتا من ذلك المرض وأراد أن يوصي بماله، فيكون من تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
3. التعبير بصيغة المضارع في مادة السؤال طريقة مشهورة، نحو: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ [البقرة: 189]، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: 219]، لأنّ شأن السؤال يتكرّر، فشاع إيراده بصيغة المضارع، وقد يغلب استعمال بعض صيغ الفعل في بعض المواقع، ومنه غلبة استعمال المضارع في الدعاء في مقام الإنكار: كقول عائشة (يرحم الله أبا عبد الرحمن) (تعني ابن عمر)، وقولهم: (يغفر الله له)، ومنه غلبة الماضي مع لا النافية في الدعاء إذا لم تكرّر لا؛ نحو (فلا رجع)، على أنّ الكلالة قد تكرّر فيها السؤال قبل نزول الآية وبعدها، وقد قال عمر بن الخطّاب: ما راجعت رسول الله في شيء مراجعتي إيّاه في الكلالة، وما أغلظ لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في شيء ما أغلظ لي فيها حتّى طعن في نحري، وقال: (يكفيك آية الصيف الّتي في آخر سورة النساء)، وقوله: ﴿فِي الْكَلَالَةِ﴾ يتنازعه في التعلّق كلّ من فعل (يستفتونك) وفعل (يفتيكم)
4. وقد سمّى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هذه الآية بآية الصيف، وعرفت بذلك، كما عرفت آية الكلالة التي في أوّل السورة بآية الشتاء، وهذا يدلّنا على أنّ سورة النّساء نزلت في مدّة متفرّقة من الشتاء إلى الصيف وقد تقدّم هذا في افتتاح السورة، وقد روي: أنّ هذه الآية في الكلالة نزلت في طريق حجّة الوداع، ولا يصحّ ذلك لأن حجّة الوداع كانت في زمن البرد لأنّه لا شكّ أنّ غزوة تبوك وقعت في وقت الحرّ حين طابت الثّمار، والنّاس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم، وذلك يقتضي أن تكون غزوة تبوك في نحو شهر أغسطس أو اشتنبر وهو وقت طيب البسر والرطب، وكانت سنة تسع وكانت في رجب ونزل فيها قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ﴾ [التوبة: 81]، ثم كانت حجّة أبي بكر في ذي القعدة من تلك السنة، سنة تسع، وذلك يوافق دجنبر، وكان حجّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حجّة الوداع في ذي الحجّة من سنة عشر فيوافق نحو شهر دجنبر أيضا، وعن عمر بن الخطّاب: أنّه خطب فقال: (ثلاث لو بيّنها رسول الله لكان أحبّ إلي من الدنيا وما فيها: الجدّ، والكلالة، وأبواب الرّبا)، وفي رواية والخلافة، وخطب أيضا فقال: والله إنّي ما أدع بعدي شيئا هو أهمّ إليّ من أمر الكلالة، وقال في مجمع من الصحابة: لأقضينّ في الكلالة قضاء تتحدّث به النّساء في خدورها، وأنّه كتب كتابا في ذلك فمكث يستخير الله فيه، فلمّا طعن دعا بالكتاب فمحاه، وليس تحيّر عمر في أمر الكلالة بتحير في فهم ما ذكره الله تعالى في كتابه ولكنّه في اندراج ما لم يذكره القرآن تحت ما ذكره بالقياس، وقد ذكر القرآن الكلالة في أربع آيات: آيتي هذه السورة المذكور فيها لفظ الكلالة، وآية في أوّل هذه السورة وهي قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ [النساء: 11]، وآية آخر الأنفال [75] وهي قوله: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ﴾ عند من رأى توارث ذوي الأرحام، ولا شكّ أنّ كلّ فريضة ليس فيها ولد ولا والد فهي كلالة بالاتّفاق، فأمّا الفريضة التي ليس فيها ولد وفيها والد فالجمهور أنّها ليست بكلالة، وقال بعض المتقدّمين: هي كلالة.
5. وأمره بأن يجيب بقوله: ﴿اللهُ يُفْتِيكُمْ﴾ للتنويه بشأن الفريضة، فتقديم المسند إليه للاهتمام لا للقصر، إذ قد علم المستفتون أنّ الرسول لا ينطق إلّا عن وحي، فهي لمّا استفتوه فإنّما طلبوا حكم الله، فإسناد الإفتاء إلى الله تنويه بهذه الفريضة.
6. المراد بالأخت هنا الأخت الشقيقة أو الّتي للأب في عدم الشقيقة بقرينة مخالفة نصيبها لنصيب الأخت للأمّ المقصودة في آية الكلالة الأولى، وبقرينة قوله: ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا﴾ لأنّ الأخ للأمّ لا يرث جميع المال إن لم يكن لأخته للأمّ ولد إذ ليس له إلّا السدس.
7. ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ﴾ تقديره: إن هلك امرؤ، فامرؤ مخبر عنه بـ (هلك) في سياق الشرط، وليس (هلك) بوصف لـ (امرؤ) فلذلك كان الامرؤ المفروض هنا جنسا عامّا.
8. ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا﴾ يعود الضمير فيه على لفظ (امرؤ) الواقع في سياق الشرط، المفيد للعموم: ذلك أنّه وقع في سياق الشرط لفظ (امرؤ) ولفظ (أخ) أو (أخت)، وكلّها نكرات واقعة في سياق الشرط، فهي عامّة مقصود منها أجناس مدلولاتها، وليس مقصودا بها شخص معيّن قد هلك، ولا أخت معيّنة قد ورثت، فلمّا قال: ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا﴾ كان الضمير المرفوع راجعا إلى (امرؤ) لا إلى شخص معيّن قد هلك، إذ ليس لمفهوم اللفظ هنا فرد معيّن فلا يشكل عليك بأنّ قوله: ﴿امْرُؤٌ هَلَكَ﴾ يتأكّد بقوله: ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا﴾ إذ كيف يصير الهالك وارثا، وأيضا كان الضمير المنصوب في (يرثها) عائدا إلى مفهوم لفظ أخت لا إلى أخت معيّنة، إذ ليس لمفهوم اللّفظ هنا فرد معيّن.
9. علم من قوله: ﴿يَرِثُهَا﴾ أنّ الأخت إن توفّيت ولا ولد لها يرثها أخوها، والأخ هو الوارث في هذه الصورة، وهي عكس التي قبلها، فالتقدير: ويرث الأخت امرؤ إن هلكت أخته ولم يكن لها ولد، وعلم معنى الإخوة من قوله: ﴿وَلَهُ أُخْتٌ﴾، وهذا إيجاز بديع، ومع غاية إيجازه فهو في غاية الوضوح، فلا يشكل بأنّ الأخت كانت وارثة لأخيها فكيف عاد عليها الضمير بأن يرثها أخوها الموروث، وتصير هي موروثة، لأنّ هذا لا يفرضه عالم بالعربية، وأنّما يتوهّم ذلك لو وقع الهلك وصفا لامرئ؛ بأن قيل: المرء الهالك يرثه وارثه وهو يرث وارثه إن مات وارثه قبله، والفرق بين الاستعمالين رشيق في العربية.
10. ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ امتنان، و﴿أَنْ تَضِلُّوا﴾ تعليل لـ (يبيّن) حذفت منه اللام، وحذف الجار مع (أن) شائع، والمقصود التعليل بنفي الضلال لا لوقوعه؛ لأنّ البيان ينافي التضليل، فحذفت لا النافية، وحذفها موجود في مواقع من كلامهم إذا اتّضح المعنى، كما ورد مع فعل القسم في نحو: (فآلينا عليها أن تباعا أي أن لا تباع)، وقوله: (آليت حبّ العراق الدهر أطعمه) وهذا كقول عمرو بن كلثوم:
çنزلتم منزل الأضياف منّا...فعجّلنا القرى أن تشتموناé
أي أن لا تشتمونا بالبخل، وهذا تأويل الكوفيين، وتأوّل البصريون الآية والبيت ونظائرهما على تقدير مضاف يدلّ عليه السياق هو المفعول لأجله، أي كراهة أن تضلّوا، وبذلك قدّرها في (الكشاف)
11. وقد جعل بعض المفسّرين ﴿أَنْ تَضِلُّوا﴾ مفعولا به لـ (يبيّن) وقال: المعنى أنّ الله فيما بيّنه من الفرائض قد بيّن لكم ضلالكم الذي كنتم عليه في الجاهلية، وهذا بعيد؛ إذ ليس ما فعلوه في الجاهلية ضلالا قبل مجيء الشريعة، لأنّ قسمة المال ليست من الأفعال المشتملة على صفة حسن وقبيح بيّنه إلّا إذا كان فيها حرمان لمن هو حقيق بالمؤاساة والمبرّة، ولأنّ المصدر مع (أن) يتعيّن أن يكون بمعنى المستقبل، فكيف يصحّ أن يراد بـ ﴿أَنْ تَضِلُّوا﴾ ضلالا قد مضى، وسيجيء زيادة بيان لهذا عند قوله تعالى: ﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا﴾ في سورة الأنعام [156]
12. ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ تذييل، وفي هذه الآية إيذان بختم الكلام، كقوله: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ﴾ [إبراهيم: 52] الآية، وكقوله تعالى في حكاية كلام صاحب موسى: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: 82]، فتؤذن بختام السورة، وتؤذن بختام التنزيل إن صحّ أنّها آخر آية نزلت كما ذلك في بعض الروايات، وإذا صح ذلك فلا أرى اصطلاح علماء بلدنا على أن يختموا تقرير دروسهم بقولهم: (والله أعلم) إلّا تيمّنا بمحاكاة ختم التنزيل.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/341.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ابتدأت سورة النساء ببيان أحكام للأسرة، وختمت كما بدأت ببيان أحكام للأسرة، بدئت ببيان أحكام الزواج، وإباحة تعدد الزوجات في الحدود التي رسمها الله تعالى لعباده ثم فصل القول في المواريث ثم فصل القول فيمن يصح الزواج منهن، ثم كان من بعد ذلك الكلام في علاقات آحاد الأمة، ثم في علاقات الناس بعضهم على بعض، وكأنما كان الانتقال من الأسرة التي هي النواة الأولى: للبناء الاجتماعي إلى المجتمع الصغير في حقوق الجوار وما يتصل به، ثم إلى المجتمع الكبير في الأمة وعلاج الآفات الاجتماعية فيه، وعلى رأسها النفاق والمنافقون، ثم انتقلت إلى علاج العلاقات الإنسانية العامة، وضرورة الحرب إن اعتدت الرذيلة على الفضيلة؛ لأن فضيلة الإسلام إيجابية عاملة لا سلبية خاملة، وتكلمت عن فساد الأمم والجماعات، وسببه التعصب للباطل، وسيطرة الأوهام والغلو في الأحكام مبينة قصة الذين اجترءوا على الحق وأصله وأهله من اليهود، والذين غلوا غلوا خرج بهم عن كل معقول ومقبول، وهم النصارى الذين غلوا في دينهم، ورفعوا المسيح إلى مرتبة الألوهية، وزعمهم أنه ابن الله، وكان ختام السورة ببعض أحكام الميراث تذكيرا بأمرين:
أ. أولهما ـ أن الأسرة هي الخلية الأولى: التي يتربى فيها النزع الاجتماعي بكل ضروبه، وكل شعبه وأنه لا يوجد مجتمع صالح إلا بأسر صالحة، وفساد الأسرة فيه فساد المجتمع.
ب. ثانيهما ـ أن أحكام الأسرة مستمدة من الله تعالى من غير توسط أحد كبيرا كان أو صغيرا، وأن مخالفة أحكام الله تعالى ضلال ليس بعده ضلال، ولذا ختمت السورة بأن بيان الله تعالى لمنع الضلال، كما سنتلو من الآية الكريمة إن شاء الله تعالى.
2. ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ رويت روايات كثيرة في الاستفتاء الذى وقع من الصحابة، رضى الله عنهم، ويظهر أن السؤال في ميراث الإخوة والأخوات قد كثر، ولذلك تعددت الروايات، وتعدد أشخاص المستفتين، وأوضح الروايات ما رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة وأحمد عن جابر بن عبد الله قال: (دخل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ ثم صب على، فقلت: إنه لا يرثنى إلا كلالة فنزلت آية الفرائض) وقد فصل القول النسائي والبيهقي في سننهما فقد ذكرا عن جابر قال اشتكيت فدخل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على فقلت: يا رسول الله أوصى لأخواتى بالثلث؟ قال: (أحسن)، قلت: بالشطر؟ قال: (أحسن)، ثم خرج ودخل على فقال: (لا أراك تموت في مرضك هذا، إن الله أنزل وبين ما لأخواتك، وهو الثلثان)، فكان جابر يقول: (نزلت هذه الآية: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ في)، وتسمى هذه الآية آية الصيف؛ لأنها نزلت في الصيف، وسماها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم آية الصيف، ولقد قال عمر: (إنى والله لا أدع شيئا أهم إلى من أمر الكلالة، وقد سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طعن بأصبعه في جنبى أو في صدرى، ثم قال: (يا عمر، ألا تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء)
3. والاستفتاء طلب الفتيا، أو الإفتاء، والإفتاء الإجابة السريعة التي تكون جديدة بالنسبة للسائل الطالب لها، وأصل الفتيا من الفتاء والفتى والفتاة الطري الشباب المقبل على الجديد فيها، وأطلق على العبد فتى، وعلى الأمة فتاة لسرعة استجابتها لحاجة مولاها.
4. والكلالة كما جاء في مفردات الراغب الأصفهاني وغيره من المعاجم وكتب التفسير والفقه اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة.. وروى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل عنها فقال: (من مات وليس له ولد ولا والد) فجعلها صلّى الله عليه وآله وسلّم اسما للمتوفى الذى يرثه غير ولده ووالده، وهي تطلق بهذا المعنى، وتطلق على الوارث غير الوالد والولد، وقد ورد اسم الكلالة في الميراث مرتين في سورة النساء، أولاهما:في آيات المواريث، وهي قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ [النساء]
5. وقد فسر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الكلالة هنالك بأولاد الأم، وانعقد الإجماع على ذلك، وأما الكلالة هنا ففسرت بأولاد الأب الأشقاء أو لأب أي العصبات وانعقد الإجماع على أن الميراث يكون للأشقاء، فإن لم يكن أشقاء فإنه يكون للإخوة لأب، على ذلك انعقد إجماع المسلمين ترجيحا لقوة قرابة الأبوين على الأب الواحد.
6. وقد بين الله ميراث الكلالة من العصبة بقوله تعالى: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾ الأخت هنا هي الأخت الشقيقة أو الأخت لأب، فإنها ترث النصف إذا لم يكن للمتوفى ولد، والولد يشمل الذكر والأنثى، فالأخت الشقيقة أو لأب لا تأخذ النصف إذا كان ثمة ولد ذكر أو أنثى، وكذلك الأخت لأب، وإن كانوا عند عدم وجود الولد الذكر أو الأنثى إخوة ذكورا وإناثا، فإن الميراث يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وإن كانت عدة من الأخوات الشقيقات أو لأب إذا لم يكن أشقاء فإنهن يأخذن الثلثين، لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ قد أشرنا إلى تقسيم الميراث اذا كان مع الأخوات الشقيقات أو لأب إذا لم يكن أشقاء أخ شقيق أو لأب، وأما اذا تعددت الأخوات من غير أخ يكن عصبة ويقاسمهن للذكر مثل حظ الأنثيين، فإنهن يأخذن الثلثين، لا يزدن عليه مهما يكن عددهن.
7. وقد يقال إن النص الكريم جاء في حال ما إذا كانتا اثنتين، ولم يبين حال الأكثر من ثنتين، ونقول أن ذلك فهم من دلالة النص أو قياس الأولى: في ميراث البنتين، فإنه جاء النص في ميراث البنتين في قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ [النساء] فذكر في هذا النص السامي أنهن إن كن فوق اثنتين يأخذن الثلثين، وهن أقرب إلى المتوفى من الأخوات فبالأولى: الأخوات إذا كن أكثر من اثنتين لا يأخذن أكثر من الثلثين؛ لأنهن لسن أقوى قرابة من البنات، فحذف من هنا ما بان بالمفهوم من الآيات الأولى، وكذلك حذف من الآية الأولى: ما يفهم بدلالة النص من هذه الآية، فإن آية البنات قد نص فيها على ميراث الأكثر من ثلثين ولم ينص فيها على ميراث الاثنين؛ وذلك لأنه إذا كان الاخوات اثنتين أخذن الثلثين، فبالأولى: البنات لأنهن أقرب من الأخوات نزلت في آية الأخوات ما يفهم من آية البنات، وترك من آية البنات ما يفهم من آية الأخوات وذلك من الإعجاز.
8. وقد بين النص القرآني حال ميراث الإخوة والأخوات الشقيقات أو لأب إذا لم يكن لهن ولد ذكرا كان أو أنثى، ولم يبين حال ما إذا كان ثمة ولد، فبقى على الأصل وهو لا يستحق شيئا في حال ما إذا كان الولد ذكرا؛ لأنه لم يرد أثر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يورث الإخوة أو الأخوات عند وجود الولد الذكر، وفوق ذلك فإن الولد الذكر يكون عصبة بنفسه، وهو أقرب رجل ذكر، فيكون مقدما على غيره بمقتضى النص النبوي أما إذا كان الولد أنثى، فقد ورد الأثر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنه ورث البنتين الثلثين وأعطى الأخ الباقى، وروى ابن مسعود أنه أفتى في مسألة كان فيها بنت وبنت ابن، وأخت فأعطى البنت النصف وبنت الابن السدس تكملة للثلثين، وأعطى الأخت الباقي تعصيبا، وذكر أن ذلك قضاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان أبو موسى الأشعري قد رد على البنت وبنت الابن، فلما ذكر ابن مسعود له عدل عن رأيه، وقال: لا تسألونى وهذا الحبر بينكم) وروى أن ابن عباس يرى أن تعطى البنت وبنت الابن نصيبهما، ثم يرد الباقي عليهما بنسبة نصيبهما.
9. والشيعة لا يورثون الإخوة والأخوات مطلقا عند وجود الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا، لعموم النص القرآني الذى يثبت أن ميراث الإخوة والأخوات هو بمقتضى الكلالة، والكلالة تقضى ألا يكون هناك والد ولا ولد، فإذا كان هناك ولد كانت الحال كما لو كان هناك والد، والإخوة والأخوات لا يرثون عند وجود الوالد، فكذلك لا يرثون مطلقا عند وجود الولد، ولم يصح عندهم حديث ابن مسعود، وإذا فرض وكان رواته ثقات فإنهم لا يعارضون النص القرآني الذى اشترط ألا يكون ولد، واشترط ثانيا أن يكون ميراث الإخوة والأخوات ميراث كلالة، ولا يرثون إذا كان ثمة ولد.
10. ويفترق الشيعة الاثني عشرية عن جمهور الفقهاء بالنسبة لميراث الإخوة والأخوات في أصلين يتفرع عنهما الكثير من المسائل:
أ. الأول: أن البنت حيث وجدت ولو منفردة عن الابن استحقت الميراث كله إن لم يكن زوج ولا أم ولا أب كما ينفرد الابن بذلك، ولا تستحق الأخوات والأخوة شيئا، وكذلك لا يستحق بنات الابن شيئا، سيرا على قاعدتهم من أن البنت كالابن تستحق الميراث كله إذا انفردت، تأخذ النصف فرضا، والباقي ردا، وتحجب أولاد الأب فروض، فإنها تأخذ الباقي ردا.
ب. الثاني: أن الأخت الشقيقة إذا استحقت النصف، فإن الأخت لأب، والأخ لأب لا يستحقان معا شيئا، بل تأخذ النصف فرضا، والباقي ردا، وتحجب أولاد الأب والجمهور على أن الأخت الشقيقة تأخذ النصف فرضا، والأخت لأب تأخذ السدس تكملة للثلثين إذا لم يكن أخ شقيق أو لأب، وإذا كانت أخت شقيقة أو أخوات، وليس معهن أخ شقيق، وكان هناك أخ لاب، فإن الباقي يكون للأخ لأب هو وأخته التي لاب للذكر مثل حظ الأنثيين وإذا كان أخ شقيق يحجب الأخوة والأخوات لأب.
11. هذا ما اقتضى التفسير أن نذكره، وهناك فروع كثيرة تركناها لكتب الفقه في السنة والشيعة.
12. ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ هذا النص الكريم يبين أن الله سبحانه وتعالى هو الذى تولى شرح بيان أحكام الميراث، وحسب الميراث فضلا أن يكون تأكيده وتوثيقه ببيان الله تعالى.
13. وقد ذكر النص الكريم لماذا تولى القرآن الكريم بيانه فقال سبحانه ﴿أَنْ تَضِلُّوا﴾ أي خشية أن تذهبوا إلى طرق ضالة بأمور ثلاثة ـ إما بإهمال الميراث جملة بألا تعطوا أحدا من الورثة شيئا، كما حاول أن يفعل الشيوعيون فأضعفوا الأسرة، وأضعفوا النشاط الإنساني والإقبال الاختياري على العمل، وتركوا ذرية ضعافا لا يجدون ما يقيم أودهم، وإذا كانت الدولة ترعاهم في بعض الأحيان، فعلى نقص بين واضح، وإما يجعل الحرية للمورث يوصى بماله لمن يشاء من غير قيد، وفى ذلك ضلال أي ضلال، إذ يترك ورثته ضياعا، ويعطى المال غيرهم، وإما بحرمان من يشاء وإعطاء من يشاء، وفى ذلك إثارة للبغضاء والعداوة بينهم.
14. وقد قرر العلماء في كل بقاع العالم أن أعدل نظام للميرات هو نظام القرآن الكريم، ولكن وجد من بيننا من يحاربه، بل وجد من يزعمون أنهم مفسرون للقرآن من يدعي نسخه، وصدق رسول الله تعالى إذ يقول: (إن الفرائض أول علم ينسى)
15. وقد ذيل الله تعالى الآية بقوله ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ وفي هذا إشارة إلى أن شرعه أحكم شرع، لأنه شرع من يعلم كل شيء، من يعلم الماضي والقابل، والعدل على أتم وجوهه، والمصلحة المستقرة الثابتة التي لا تعبث بها الأهواء ثم هو عليم بمن يخالفه ويعصيه، ومن يطيعه ويرضى حكمه.
16. تجب الإشارة هنا إلى أمر بياني يقتضى تمام التفسير ذكره هو أن الله تعالى يقول ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ وهنا لم يبين في السؤال موضع الاستفتاء، ولكن الإجابة بينته فاستبان، ويلاحظ أنهم سألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولكن الله تولى الإجابة هو، فقال: ﴿قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ﴾ ونجد في مثل هذا المقام يقول الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ [البقرة]، ولم يسند الأمر إلى ذاته العلية كما أسنده هنا فما السر؟ السر في ذلك هو تأكيد أن شرع الميراث منسوب للذات العلية، وهو الذى يتولى الشرح، وإذا كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يتولى الشرح عنه في كثير، فهنا قد تولى هو توثيقا للحكم وتأكيدا له وتربية للمهابة، ويلاحظ أن أحكام الميراث كلها أسندها العلى الحكيم، العليم الخبير لنفسه، فابتدأ آياتها في أول السورة بقوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء] وختمها بأن الميراث كله وصية الله تعالى، فقال تعالت كلماته: ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء].
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/1996.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ ـ يا محمد ـ ﴿قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾، الكلالة في اللغة الاحاطة، ويراد بها في الميراث قرابة الإنسان، ما عدا الوالدين الأولاد، كالاخوة والأعمام، لأن الوالدين كالعمودين، وقد يوصف الميت المورّث بالكلالة على معنى انه قد ورّث غير أولاده ووالديه، وقد يوصف بها الحي الوارث، على معنى الوارث من غير صنف الآباء والأبناء، والنتيجة واحدة في الوصفين، وقد جاءت لفظة الكلالة في آيتين من القرآن الكريم، وفي سورة النساء بالذات، الأولى: في أول السورة، والمراد بالكلالة هناك اخوة الميت من أمه فقط، والآية الثانية: هي هذه التي نفسرها، والمراد بالكلالة فيها اخوة الميت وأخواته لأبيه وأمه، أو لأبيه فقط.
2. ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾، ذكر ولا أنثى، لأن الولد يطلق على كل مولود، قال سبحانه: ﴿مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ﴾ [المؤمنون: 91]، وأيضا ليس له أحد الوالدين، لأن لفظ كلالة يومئ إلى ذلك، بالإضافة إلى الإخبار، ﴿وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾، المراد بالأخت هنا الشقيقة، وهي الأخت من الأب والأم، ومع عدمها تقوم مقامها الأخت من الأب فقط، أما الأخت من الأم فقط فقد سبق بيان حكمها في أول السورة الآية 11، وإذا لم يكن مع الأخت الشقيقة أو من الأب فقط ولد ولا أحد الوالدين تأخذ النصف بالفرض، والنصف الثاني بالرد، وتنفرد وحدها بجميع التركة عند الشيعة سواء أكان للميت عصبة أو لم يكن، أما السنة فيعطون النصف الباقي للعصبة ان كان، وإلا أخذت الأخت جميع التركة، فالخلاف بينهم وبين الشيعة في حال وجود العصبة فقط.
3. ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾ ذكر ولا أنثى، ولا أحد الوالدين، ويحرز جميع التركة بالإرث بإجماع المذاهب، ﴿فإن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ﴾، أي كانت الوارثتان اثنتين من الأخوات الشقيقات، أو من الأب فقط، كما قدمنا في فقرة اللغة.. وأجمعت المذاهب الإسلامية على أن حكم البنات حكم البنتين، دون تفاوت، وعليه يكون المعنى فإن كانتا اثنتين فصاعدا، ﴿فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ الميت أخا كان أو أختا.
4. ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، بعد أن بيّن نصيب الأخت المنفردة، ونصيب الأختين وما فوق اللتين أو اللاتي لا أخ معهما أو معهن، بعد هذا بيّن حكم اجتماع الأخوة والأخوات بأنهم يقتسمون للذكر مثل حظ الأنثيين، وتقدم الكلام فصلا ومطولا عن ارث البنات والأخوات عند تفسير الآية 11 من هذه السورة مع أقوال السنة والشيعة وأدلتهم ومحاكمتها، وبيان الحق بالأرقام.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/507.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. آية تبين فرائض الكلالة من جهة الأبوين أو الأب على ما يفسرها به السنة، كما أن ما ذكر من سهام الكلالة في أول السورة سهام كلالة الأم بحسب البيان النبوي، ومن الدليل على ذلك أن الفرائض المذكورة هاهنا أكثر مما ذكر هناك، ومن المستفاد من الآيات أن سهام الذكور أكثر من سهام الإناث.
2. ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ قد تقدم الكلام في معنى الاستفتاء والإفتاء ومعنى الكلالة في الآيات السابقة من السورة.
3. ﴿لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ ظاهره الأعم من الذكر والأنثى على ما يفيده إطلاق الولد وحده، وقال في المجمع: (فمعناه: ليس له ولد ولا والد، وإنما أضمرنا فيه الوالد للإجماع)، ولو كان لأحد الأبوين وجود لم تخل الآية من ذكر سهمه فالمفروض عدمهما.
4. ﴿وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾ سهم الأخت من أخيها، والأخ من أخته، ومنه يظهر سهم الأخت من أختها والأخ من أخيه، ولو كان للفرضين الأخيرين فريضة أخرى لذكرت، على أن قوله: ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا﴾ في معنى قولنا لو انعكس الأمر ـ أي كان الأخ مكان الأخت ـ لذهب بالجميع، وعلى أن قوله: ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ وهو سهم الأختين، وسهم الإخوة لم يقيد فيهما الميت بكونه رجلا أو امرأة فلا دخل لذكور الميت وأنوثته في السهام.
5. والذي صرحت به الآية من السهام سهم الأخت الواحدة، والأخ الواحد، والأختين، والإخوة المختلطة من الرجال والنساء، ومن ذلك يعلم سهام باقي الفروض: منها: الأخوان يذهبان بجميع المال ويقتسمان بالسوية يعلم ذلك من ذهاب الأخ الواحد بالجميع، ومنها الأخ الواحد مع أخت واحدة، ويصدق عليهما الإخوة كما تقدم في أول السورة فيشمله ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً﴾ على أن السنة مبينة لجميع ذلك.
6. والسهام المذكورة تختص بما إذا كان هناك كلالة الأب وحده، أو كلالة الأبوين وحده، وأما إذا اجتمعا كالأخت لأبوين مع الأخت لأب، لم ترث الأخت لأب وقد تقدم ذكره في الكلام على آيات أول السورة.
7. ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ أي حذر أن تضلوا، أو لئلا تضلوا وهو شائع في الكلام، قال عمرو بن كلثوم: (فعجلنا القرى أن تشتمونا)
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/154.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ قال في (الصحاح): (والكل الذي لا وَلَد له ولا والد، يقال منه كَلّ الرجل يكلّ كلالةً)
2. ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾ هذا فيمن لا أب له؛ لأنه قد فهم من أول السورة أن الأب هو الوارث مع عدم الولد في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾، فتحصل أن الكلالة: مَن لا أب له ولا ولد، أعني: أن الحكم فيه، وأن الأم لا تبطل ميراث الإخوة.
3. ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا﴾ أي الكلّ، والمراد هنا: الأخ لأبوين، أو لأب، وكذلك الأخت؛ لأنه قد تقدم ذكر ميراث الأخوة من الأم، فأما من كان له ولد فإن كان ذكراً فلا إشكال؛ وإن كان أنثى فميراث الإخوة معها بدليل آخر ليس من هذه الآية؛ لأنها خاصة بمن لم يكن له ولد، ولم تفصل بين الذكر والأنثى.
4. ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ إذا كن أكثر فلهن الثلثان لا غير وهو يؤخذ من حكم البنات؛ لأنهن أقرب ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾
5. ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ وأخذ حكم الاثنين من أول الآية، حيث كان للواحدة النصف وللواحد الكل،، وكذلك الاثنان من الذكور مع الواحدة، والثنتان من الإناث مع الواحد قد أفادت الآية أن ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾
6. ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ أي لئلا تضلوا، أو كراهة أن تضلوا، ومعنى تضلوا تخالفوا الحق، فشبّه مخالف الحق بمن ضل الطريق، وهو هنا عبارة عن الخطأ بسبب خفاء الدليل لو لم يبينه، أو هو عام للخطأ والعمد.
7. ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فهو عليم بالحكمة في الميراث وعليم بحاجة العباد إلى بيان أدلة الأحكام لئلا يضلوا، وعالم بكل شيء ولعل الحكمة في النص على الجمع من الرجال والنساء بخلاف النص في الإخوة لأم، أن الإخوة إذا كانوا جماعة قد يطمعون في أخذ الميراث كله؛ لكثرتهم مع أن توريث النساء يسبب قلة ما يكون للواحد، فقطعت الآية الكريمة أطماع الجاهلية، أما الإخوة لأم فقد قطع طمعهم بالتسوية بين الذكر والأنثى.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/225.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لقد جاءت هذه الآية تكملة لما تقدم في بيان الفرائض في الأرض، انطلاقا من بعض الأسئلة الموجهة إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فقد سألوا عن الكلالة ـ التي قدمنا الحديث عنها في أول السورة ـ وهي اسم للإخوة أو الأخوات ـ كما في الحديث عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام ـ أو ما سوى الوالد والولد ـ كما عن بعض المفسرين ـ والظاهر أن موردها في السورة هو الإخوة والأخوات، فيلتقي التفسيران على مورد الآية، وإن اختلفا في غيرها، إذا لم يكن التفسير الوارد عن الأئمة عليهم السّلام من باب التطبيق لا التحديد.
2. وخلاصة السؤال، أن الميت إذا مات وليس له ولد، سواء كان ذكرا أو أنثى وله أخت، أو أخت ماتت وليس لها ولد، فكيف يكون الإرث؟ والجواب، أن لها نصف التركة؛ أما هو فيرث كامل التركة.. ويأتي السؤال ليطرح فرضا آخر: وهو إذا ما ترك الميت أختين؟ وجاء الجواب: إن لهما ثلثي التركة؛ وفي الفرض الثالث، وهو إذا ما ترك إخوة متعددين رجالا ونساء؟ كان الجواب: إن للذكر مثل حظ الأنثيين، وهناك بحث يجزي في مثل هذا المورد الذي حددت فيه حصة الأخت بالنصف، والأختين بالثلثين، كما كان الأمر في البنت الواحدة أو في البنتين.. ماذا يصنع بالنصف الآخر، والثلث الآخر، هل يعطى للطبقة الثانية، أو يرد على الطبقة الأولى؟ وقد تحدثنا عن ذلك وقلنا: إنه يرجع إلى الطبقة الأولى: بلحاظ القرابة لا الفريضة؛ والله العالم.
__________
(1) من وحى القرآن: 7/564.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. نقل الكثير من المفسرين عن جابر بن عبد الله الأنصاري قوله بأنّه كان يعاني من مرض شديد، فعاده النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتوضأ عنده ورشّ عليه من ماء وضوئه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذكر جابر ـ وهو يفكر في الموت ـ للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنّ ورثته هن أخواته فقط، واستفسر من النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن كيفية تقسيم الإرث بينهنّ، فنزلت هذه الآية والتي تسمّى ـ أيضا ـ بـ (آية الفرائض) وبيّنت طريقة تقسيم الإرث بينهنّ (وقد وردت الرّواية المذكورة أعلاه بفارق طفيف في تفاسير (مجمع البيان) و(التبيان) و(المنار) و(الدر المنثور) وغيرها من التفاسير، ويعتقد البعض أن هذه الآية هي آخر آية من آيات الأحكام نزولا على النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. تبيّن الآية الكريمة كمية الإرث للأخوة والأخوات، وقد بيّنا في أوائل سورة النساء ـ في تفسير الآية الثانية: عشر منها ـ إنّ القرآن اشتمل على آيتين توضحان مسألة الإرث للأخوة والأخوات وإن إحدى هاتين الآيتين هي الآية الثانية عشرة من سورة النساء، زالثانية: هي الآية الأخيرة موضوع بحثنا هذا وهي آخر آية من سورة النساء، وعلى الرغم ممّا ورد من اختلاف في الآيتين فيما يخص مقدار الإرث، إلّا أنّ كل آية من هاتين الآيتين تتناول نوعا من الأخوة والأخوات كما أوضحنا في بداية السورة.
أ. فالآية الأولى: تخصّ الأخوة والأخوات غير الأشقاء، أي الذين هم من أمّ واحدة وآباء متعددين.
ب. أمّا الآية الثانية: أي الأخيرة، فهي تتناول الإرث بالنسبة للأخوة الأشقاء، أي الذين هم من أمّ واحدة وأب واحد، أو من أمهات متعددات وأب واحد.
3. والدليل على قولنا هذا، أن من ينتسب إلى شخص المتوفى بالواسطة يتعين إرثه بمقدار ما يرثه الواسطة من شخص المتوفى، فالأخوة والأخوات غير الأشقاء ـ أي الذين هم من أمّ واحدة وآباء متعددين ـ يرثون بمقدار حصّة أمّهم من الإرث والتي هي الثلث، أمّا الأخوة والأخوات الأشقاء ـ أي الذين هم من أمّ واحدة وأب واحد، أو من أب واحد وأمهات متعددات ـ فهم يرثون بمقدار حصّة والدهم من الإرث التي هي الثلثان.
4. ولمّا كانت الآية الثانية عشرة من سورة النساء تتحدث عن حصّة الثلث من الإرث للأخوة والأخوات، وتتناول الآية الأخيرة حصّة الثلثين، لذلك يتّضح أنّ الآية السابقة تخص الأخوة والأخوات غير الأشقاء الذين يرتبطون بشخص المتوفى عن طريق أمهم، وأنّ الآية الأخيرة تخصّ الأخوة والأخوات الأشقاء الذين يرتبطون بشخص المتوفى عن طريق الأب أو عن طريق الأب والأمّ معا، والروايات الواردة عن الأئمّة عليهم السّلام في هذا المجال تؤكّد هذه الحقيقة أيضا.
5. على أي حال فإن كانت حصّة الأخ أو الأخت هي الثلث أو الثلثان، فإنّ الباقي من الإرث يوزع بناء على القانون الإسلامي بين الباقين من الورثة، وهكذا وبعد أن توضح لنا عدم وجود أي تناقض بين الآيتين، نتطرق الآن إلى تفسير الأحكام الواردة في الآية الأخيرة.
6. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الآية جاءت لتفصل إرث الكلالة أي إرث الأخوة والأخوات فتقول الآية: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ أي يسألونك فخبرهم بأنّ الله هو الذي يعين حكم (الكلالة) (أي الأخوة والأخوات)
7. بعد ذلك تشير الآية إلى عدد من الأحكام، وهي:
أ. إذا مات رجل ولم يكن له ولد وكانت له أخت واحدة، فإنّ هذه الأخت ترث نصف ميراثه: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾
ب. وإذا ماتت امرأة ولم يكن لها ولد، وكان لها أخ واحد ـ شقيق من أبيها وحده أو من أبيها وأمها معا ـ فإنّ أخاها الوحيد يرثها: ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾
ج. وإذا مات شخص وكانت له أختان فقط، فإنّهما ترثان ثلثي ما تركه من الميراث: ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾
د. وإذا كان ورثة الشخص المتوفى عددا من الأخوة والأخوات أكثر من اثنين، فإن ميراثه يقسم جميعه بينهم، بحيث تكون حصّة الأخ من الميراث ضعف حصّة الأخت الواحدة منه: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾
8. وفي الختام تؤكد الآية أنّ الله يبيّن للناس هذه الحقائق لكي يصونهم من الانحراف والضلالة، ويدلهم على طريق الصواب والسعادة (وحقيق أن يكون الطريق الذي يرسمه الله للناس ويهديهم إليه هو الطريق الصحيح) والله هو العالم العارف بكل شيء: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، وجملة (أن تضلوا) بمعنى(أن لا تضلوا) حيث تكون كلمة (لا) مقدرة، والقرآن وكلام العرب الفصحاء مليئان بمثل هذه التعابير البليغة.
9. الجدير بالذكر هنا أنّ الآية الكريمة إنّما تبيّن إرث الأخوة والأخوات في حالة عدم وجود ولد الشخص المتوفى، ولم تتطرق الآية إلى وجود الأب والأم للشخص المتوفى، ولكن بناء على الآيات الواردة في بداية سورة النساء ـ فإن الأب والأمّ يأتون في مصاف الأبناء في الطبقة الأولى من الوارثين، ولذلك يتوضح أن المقصود من الآية الأخيرة هي حالة عدم وجود أبناء وعدم وجود أبوين للشخص المتوفى.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/563.
سورة المائدة
ننبّه في مقدمة هذه السورة، كما في كل سورة إلى أنّنا قسّمنا السورة إلى مقاطع بحسب معناها، من غير مراعاة لطول المقطع أو قصره، وأنا لم نذكر ما يرتبط بتعريف السورة وفضلها ومواضيعها ونحو ذلك، لأنّا تحدثنا عنه في الكتاب الثاني من هذه السلسلة، وهو (المفسّرون والوحدة الموضوعية للقرآن)، ومثل ذلك حذفنا الإشارات واللطائف والمباحث التي لا علاقة لها مباشرة بالتفسير التحليلي، لأنّا أفردناها بالحديث في سائر كتب السلسلة.
وننبه إلى أننا نذكر ما ذكره المفسّرون بحسب التسلسل التاريخي ابتداء من الصحابة، فما بعدهم، ولم نذكر الأحاديث المرفوعة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ضمن الأحاديث التفسيرية، لصلتها في العادة بمواضيع القرآن الكريم، وقد ذكرناها في سلسلة (سنة بلا مذاهب)، بالإضافة إلى أن المفسّرين في العادة يذكرونها، ويذكرون مواقفهم منها(1).
__________
(1) كرّرنا هذه التنبيهات في كل سورة لأن هناك من لا يطلع على التنبيه الوارد في أول سورة.
1. الإيمان والوفاء بالعقود
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈1⌉ من سورة المائدة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: هي عهود الإيمان والقرآن(1).
__________
(1) تفسير البغوي ٢/٦.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ما في القرآن آية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلا إن عليا سيدها وشريفها وأميرها، وما من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أحد إلا قد عوتب في القرآن إلا علي، فإنه لم يعاتب في شيء منه(1).
2. روي أنّه قال: ما أنزلت آية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلا وعلي شريفها وأميرها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في غير مكان وما ذكر عليا إلا بخير(2).
3. روي أنّه قال: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، يعني: بالعهود؛ ما أحل الله، وما حرم، وما فرض، وما حد في القرآن كله؛ لا تغدروا، ولا تنكثوا(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم ـ كما في تفسير ابن كثير ٢/٦.
(2) تفسير العيّاشي 1/289، شواهد التنزيل 1/49 ـ 51/70 و74 و77، كفاية الطالب: 140، الرياض النضرة 3/180.
(3) ابن جرير ٨/٦.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾: ما عقد الله على العباد؛ مما أحل لهم، وحرم عليهم(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٩.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ما أنزل الله جل ذكره ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلا ورأسها الإمام علي(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/289، حلية الأولياء 1/64، شواهد التنزيل 1/51، كفاية الطالب: 139.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، أي: بعقد الجاهلية، ذكر لنا: أن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول: (أوفوا بعقد الجاهلية، ولا تحدثوا عقدا في الإسلام)، وذكر لنا: أن فرات بن حيان العجلي سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن حلف الجاهلية، فقال نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لعلك تسأل عن حلف لخم وتيم الله؟) فقال: نعم، يا نبي الله، قال: (لا يزيده الإسلام إلا شدة)(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٨.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ معناه في العهود وهي خمسة عقود: عقدة الإيمان، وعقدة النّكاح، وعقدة العهد وعقدة البيع، وعقدة الحلف)(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 125.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: إذا قال: الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ افعلوا، فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم منهم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ـ كما في تفسير ابن كثير ٢/٦.
ابن عبيد:
روي عن عبد الله بن عبيد (ت 131 هـ) أنّه قال: العقود خمس: عقدة الأيمان، وعقدة النكاح، وعقدة البيع، وعقدة العهد، وعقدة الحلف(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/١٠.
ابن أسلم:
روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: العقود خمس: عقدة النكاح، وعقدة الشركة، وعقدة اليمين، وعقدة العهد، وعقدة الحلف(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/١٠.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه سئل عن قول الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ فقال: العهود(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/289.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بما جاءهم(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/١١.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنّه قال: ليس في القرآن آية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلا في حقنا) (1).
__________
(1) مناقب ابن شهر آشوب 3/53 عن صحيفة الإمام الرضا عليه السلام.
العسكري:
روي عن الإمام العسكري (ت 260 هـ) أنّه قال في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ قال: (إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عقد عليهم للإمام علي بالخلافة في عشرة مواطن، ثم أنزل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ التي عقدت عليكم للإمام علي) (1).
__________
(1) تفسير القمّي 1/160.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ أجمع أهل التأويل على أن العقود ـ هاهنا ـ هي العهود، ثم العهود على قسمين:
أ. عهود فيما بين الخلق، أمر الله عز وجل بوفائها.
ب. وعهود فيما بينهم وبين ربهم، وهي المواثيق التي أخذ عليهم، من نحو: الفرائض التي فرض الله عليهم، والنذور التي يتولون هم إيجابها، وغير ذلك، أمر عز وجل بوفائها.
2. وأما العهود التي فيما بينهم من نحو: الأيمان وغيرها، أمر بوفاء ذلك إذَا لم يكن فيها معصيَة الرب؛ كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ الآية، أمر هاهنا بوفاء الأيمان، ونهى عن تركها ونقضها، ثم جاء في الخبر أنه قال: (من حلف على يمين، فرأي غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه)، أمر فيما فيه معصية بفسخها، وأمر بوفاء ما لم يكن فيه معصية، ونهي عن نقضها بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْقُضُوا﴾ الآية، وعن ابن عباس قال: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾: وهي العهود، وهو ما أحل وما حرم، وما فرض وما حد، في القرآن كله، وهو ما ذكرنا.
3. وقيل: إن العقود التي أمر الله تعالى بوفائها هي العهود التي أخذ الله تعالى على أهل الكتاب: أن يؤمنوا بمُحَمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويأخذوا بشرائعه، ويعملوا بما جاء به، وهو كقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾، وكقوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي﴾، فالخطاب لهم على هذا التأويل؛ لأنهم كانوا آمنوا به قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٣٥.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، أي أوفوا بالعهود، والعقود: هي العهود التي يعقدها الناس بينهم، وهي المواثيق، وهي الأذمة والذمة والحقوق واللوازم، كل ذلك معنى واحد، قال الشاعر:
çقوم إذا عقدوا عقدا لجارهم... شدوا العناج وشدوا فوقه الكرباé
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/214.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي)(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ وهي العقود التي أخذ الله بها الأيمان على خلقه فيما أحله لهم وحرمه عليهم، ويجوز أن تكون المعاقدات التي بين الناس في البيع والشراء والنكاح وسائر المعاملات وكذلك في النذور والأيمان والكفارات.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/202.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ خمسة أقاويل:
أ. أحدها: أنها عهود الله، التي أخذ بها الإِيمان، على عباده فيما أحله لهم، وحرمه عليهم، وهذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: أنها العهود التي أخذها الله تعالى على أهل الكتاب أن يعملوا بما في التوراة، والإِنجيل من تصديق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا قول ابن جريج.
ج. الثالث: أنها عهود الجاهلية وهي الحلف الذي كان بينهم، وهذا قول قتادة. (1)
د. الرابع: عهود الدين كلها، وهذا قول الحسن.
هـ. الخامس: أنها العقود التي يتعاقدها الناس بينهم من بيع، أو نكاح، أو يعقدها المرء على نفسه من نذر، أو يمين، وهذا قول ابن زيد.
__________
(1) تفسير الماوردي: ٢/٦.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين المعترفين بوحدانيته تعالى المقرين له بالعبودية المصدقين لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في نبوته، وفيما جاء به من عند الله من شريعة الإسلام، أمرهم الله بإيفاء العقود وهي العهود التي عاهدوها مع الله وأوجبوا على أنفسهم حقوقاً، والزموا نفوسهم بها فروضاً أمرهم الله تعالى بالإتمام بالوفاء والكمال لما لزمهم يقال: أو في بالعهد ووفي به وأوفى به لغة أهل الحجاز، وهي لغة القرآن.
2. اختلف أهل التأويل في العقود التي امر الله تعالى بالوفاء بها في هذه الآية بعد إجماعهم على أن المراد بالعقود العهود:
أ. فقال قوم: هي العقود التي كان أهل الجاهلية عاقد بعضهم بعضاً على النصرة والمؤازرة، والمظاهرة على من حاول ظلمهم أو بغاهم سوءً وذلك هو معنى الحلف، ذهب إليه ابن عباس ومجاهد، والربيع ابن أنس والضحاك وقتادة والسدي وسفيان الثوري، والعقود جمع عقد، وأصله عقد الشيء بغيره، وهو وصله به، كما يعقد الحبل إذا وصل به شيئاً، يقال منه: عقد فلان بينه وبين فلان عقداً فهو يعقده، قال الحطيئة:
çقوم إذا عقدوا عقداً لجارهم...شدوا العناج وشدوا فوقه الكرباé
وذلك إذا واثقه على امر عاهده علي عهد بالوفاء له بما عاقده عليه من أمان، أو ذمة أو نصرة، أو نكاح أو غيره ذلك، قال قتادة: هي عقود الجاهلية الحلف، ويقال: اعقدت العسل فهو عقيد ومعقد وروى بعضهم عقدت، العسل والكلام وأعقدت.
ب. وقال آخرون: هي العهود التي أخذ الله على عباده بالإيمان به، وطاعته فيما أحل لهم أو حرم عليهم، روي ذلك عن ابن عباس وقال: هو ما أحل وحرم وما فرض، وما حد في القرآن كله، فلا تعدوا أو لا تنكثوا، ثم سدد فقال: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ إلى قوله: ﴿سُوءُ الدَّارِ﴾، وبه قال أيضاً مجاهد.
ج. وقال قوم: بل العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ويعقدها المرء على نفسه كعقد الايمان، وعقد النكاح، وعقد العهد، وعقد البيع، وعقد الحلف، ذهب إليه عبد الله بن عبيدة وابن زيد، وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه.
د. وقال آخرون: ذلك امر من الله لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وما جاء به من عند الله، ذكر ذلك ابن جريج وأبو صالح.
هـ. وقال الجبائي: أراد به الوفاء بالإيمان فيما يجوز الوفاء به، فأما ما كان يميناً بالمعصية، فعليه حنثه وعليه الكفارة، وعندنا ان اليمين في معصية لا تنعقد، ولا كفارة في خلافها.
3. أقوى هذه الأقوال ما حكيناه عن ابن عباس أن معناه أوفوا بعقود الله التي أوجبها عليكم، وعقدها فيما أحل لكم وحرم، وألزمكم فرضه، وبين لكم حدوده، ويدخل في جميع ذلك ما قالوه إلا ما كان عقداً على المعاونة على أمر قبيح، فإن ذلك محظور بلا خلاف.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/415.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الوفاء والإيفاء يجريان مجرى واحدا، قاله أبو مسلم، والوفاء معروف، يقال: وَفَى بعهده وأوفى، وهو مُوفٍ، ووفَّى يفي وفاء، فهو وفِيٌّ، وهو إتمام ما أخذ عليه بالعقود، ونقيض الوفاء الغدر، ومنه استوفى حقه، ووفيته إياه.
ب. العقود: جمع عقد، وهي العهود، قال الزجاج: هي أوكد العهود، يقال: عقدت عليه وعاقدته أي ألزمته ذلك، وأصله عقد الشيء بغيره، وشده ووصله، كما يعقد الحبل بالحبل إذا وصل به شدًّا، ومنه عقد البيع، قال الشاعر:
çقَوْمٌ إذَا عَقْدُوا عَقْدًا لجارِهُمُ...شَدُّوا العِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الكَرَباé
ونقيض العقد: الحل، ونظيره: الربط والوصل.
2. روي أن فرات بن حيان العجلي سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن حلف الجاهلية، فقال: (لعلك تسأل عن حلف لخم وتيم)؟ قال: نعم، قال: (لا يزيده الإسلام إلا شدة)، وفي الوفاء بالعهود نزلت ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾
3. مما ذكر في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: لما ختم سورة النساء بذكر الأحكام افتتح سورة المائدة ببيان الأحكام أيضًا، وأجمل بقوله: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ ثم أتبعه بذكر التفصيل.
ب. وقال الأصم: افتتح السورة بكلمة جمع فيها وصايا عباده بجميع ما تعبدهم به، وبجميع ما يجب لبعضهم على بعض، وهو قوله: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾
4. ﴿يَا أَيُّهَا﴾ نداء، وتنبيه، وإشارة، ف﴿يَا﴾ نداء و﴿أَيِّ﴾ ـ تنبيه، و﴿هَا﴾ إشارة، و﴿الَّذِينَ﴾ اسم مبهم و﴿آمَنُوا﴾ صلة له، وتقديره: يا أيها المؤمنون، وهو اسم تكريم وتعظيم.
5. ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ قيل: بالعهود، عن ابن عباس ومجاهد والربيع والضحاك والسدي وقتادة وابن جريج والأصم وأبي علي وأبي مسلم وأكثر المفسرين، واختلفوا في هذه العهود:
أ. فقيل: هو خطاب لأهل الكتاب الَّذِينَ آمنوا بالكتب المتقدمة أن أوفوا بالعهود التي عهدها إليكم في شأن محمد، عن ابن جريج.
ب. وقيل: هو الحِلفُ الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية، عن قتادة.
ج. وقيل: عقود الله: ما أحل وحرم وما بين في القرآن وعهود الأيمان، عن ابن عباس.
د. وقال الحسن: عقود الدين.
هـ. وقال أبو مسلم: ما أمر الله به.
و. وقيل: هو العقود التي يتعاقدها الناس بينهم، عن ابن زيد.
ز. وقيل: هي الأيمان والنذور وما يعقده الإنسان على نفسه مما ليس بمعصية، عن أبي علي.
ح. وقيل: العقود التي يعقدها بعضكم مع بعض.
ط. وقيل: هو عام في جميع ذلك، وهو الصحيح.
6. تدل الآية الكريمة على أن الوفاء بالعقود تَعَبُّدٌ وقربة، والحاصل على اختلاف المفسرين فيه يعود إلى ثلاثة أشياء: إما أوامر الله ونواهيه، أو النذور والأيمان، أو العقود بين الناس، والظاهر أن جميع ما يُعقد له ويعقد هو لنفسه يدخل فيه، فالعبادات عقود يلزم الوفاء بها، وكذلك النذور إن كانت طاعة يلزم الوفاء بها، فأما إذا كان معصية أو مباحًا فلا يجب، والعقود كالبياعات والأنكحة والإجازات ونحوها فما كان عقدًا صحيحًا لزم الوفاء به، وهو إتمامه، وإتمامه إتمام موجباته.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/175.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَوْفُوا﴾: يقال: وفي بعهده، وفاء، وأوفى إيفاء بمعنى، وأوفى لغة أهل الحجاز وهي لغة القرآن والعقود: جمع عقد بمعنى معقود، وهو أوكد العهود، والفرق بين العقد والعهد أن العقد فيه معنى الاستيثاق والشد، ولا يكون إلا بين متعاقدين، والعهد قد ينفرد به الواحد، فكل عهد عقد، ولا يكون كل عقد عهدا، وأصله عقد الشيء بغيره: وهو وصله به، كما يعقد الحبل، ويقال: أعقدت العسل فهو معقد، وعقيد، قال عنترة:
وكأن ربا أو كحيلا معقدا... حش الوقود به جوانب قمقم
2. لما ختم الله سورة النساء بذكر أحكام الشريعة، افتتح سورة المائدة أيضا ببيان الاحكام، وأجمل ذلك بقوله: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، ثم أتبعه بذكر التفصيل.
3. خاطب الله سبحانه المؤمنين، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وتقديره: يا أيها المؤمنون، وهو اسم تكريم وتعظيم ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ أي: بالعهود، عن ابن عباس، وجماعة من المفسرين، ثم اختلف في هذه العهود على أقوال:
أ. أحدها: إن المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا فيها على النصرة، والمؤازرة، والمظاهرة، على من حاول ظلمهم، أو بغاهم سوءا، وذلك هو معنى الحلف، عن ابن عباس، ومجاهد، والربيع بن انس، والضحاك، وقتادة، والسدي.
ب. ثانيها: إنها العهود التي أخذ الله سبحانه على عباده بالإيمان به وطاعته، فيما أحل لهم، أو حرم عليهم، عن ابن عباس أيضا، وفي رواية أخرى قال هو ما أحل وحرم، وما فرض وما حد في القرآن كله أي: فلا تتعدوا فيه، ولا تنكثوا، ويؤيده قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ إلى قوله: ﴿سُوءُ الدَّارِ﴾
ج. ثالثها: إن المراد بها العقود التي يتعاقدها الناس بينهم، ويعقدها المرء على نفسه، كعقد الايمان، وعقد النكاح، وعقد العهد، وعقد البيع، وعقد الحلف، عن ابن زيد، وزيد بن أسلم
د. رابعها: إن ذلك أمر من الله لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما في التوراة والإنجيل، في تصديق نبينا، وما جاء به من عند الله، عن ابن جريج، وأبي صالح، وأقوى هذه الأقوال قول ابن عباس: إن المراد بها عقود الله التي أوجبها الله على العباد في الحلال، والحرام، والفرائض، والحدود، ويدخل في ذلك جميع الأقوال الأخر، فيجب الوفاء بجميع ذلك، إلا ما كان عقدا في المعاونة على أمر قبيح، فإن ذلك محظور بلا خلاف.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/231.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ اختلفوا في المخاطبين بهذا على قولين:
أ. أحدهما: أنهم المؤمنون من أمّتنا، وهذا قول الجمهور.
ب. الثاني: أنهم أهل الكتاب، قاله ابن جريج.
2. ﴿بِالْعُقُودِ﴾: العهود، قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والضّحّاك والسّدّي والجماعة وقال الزجّاج: (العقود): أوكد العهود، واختلفوا في المراد بالعهود هاهنا على خمسة أقوال:
أ. أحدها: أنها عهود الله التي أخذها على عباده فيما أحلّ وحرّم، وهذا قول ابن عباس ومجاهد.
ب. الثاني: أنها عهود الدّين كلّها، قاله الحسن.
ج. الثالث: أنها عهود الجاهليّة، وهي الحلف الذي كان بينهم، قاله قتادة.
د. الرابع: أنها العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب من الإيمان بالنبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله ابن جريج، وقد ذكرنا عنه أن الخطاب للكتابيين.
هـ. الخامس: أنها عقود الناس بينهم من بيع ونكاح، أو عقد الإنسان على نفسه من نذر أو يمين، وهذا قول ابن زيد.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/506.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ يقال: وفي بالعهد وأوفى به، ومنه ﴿الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ﴾ [البقرة: 177] والعقد هو وصل الشيء بالشيء على سبيل الاستيثاق والأحكام، والعهد إلزام، والعقد التزام على سبيل الأحكام.
2. لما كان الإيمان عبارة عن معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأحكامه وأفعاله وكان من جملة أحكامه أنه يجب على جميع الخلق إظهار الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه وأوامره ونواهيه فكان هذا العقد أحد الأمور المعتبرة في تحقق ماهية الإيمان فلهذا قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ يعني يا أيها الذين التزمتم بإيمانكم أنواع العقود والعهود في إظهار طاعة الله أوفوا بتلك العقود، وإنما سمى الله تعالى هذه التكاليف عقودا كما في هذه الآية لأنه تعالى ربطها بعباده كما يربط الشيء بالشيء بالحبل الموثق.
3. الله تعالى تارة يسمى هذه التكاليف عقودا كما في هذه الآية، وكما في قوله: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾ [المائدة: 89] وتارة عهودا، قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: 40]، وقال: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ﴾ [النحل: 91] وحاصل الكلام في هذه الآية أنه أمر بأداء التكاليف فعلا وتركا.
4. من الفروع الفقهية المرتبطة بالآية الكريمة:
أ. قال الشافعي: إذا نذر صوم يوم العيد أو نذر ذبح الولد لغا، وقال أبو حنيفة: بل يصح:
• حجة أبي حنيفة أنه نذر الصوم والذبح فيلزمه الصوم والذبح، بيان الأول أنه نذر صوم يوم العيد، ونذر ذبح الولد، وصوم يوم العيد ماهية مركبة من الصوم ومن وقوعه في يوم العيد، وكذلك ذبح الولد ماهية مركبة من الذبح ومن وقوعه في الولد، والآتي بالمركب يكون آتيا بكل واحد من مفرديه، فملتزم صوم يوم العيد وذبح الولد يكون لا محالة ملتزما للصوم والذبح، إذا ثبت هذا فنقول: وجب أن يجب عليه الصوم والذبح لقوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ ولقوله تعالى: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2] ولقوله: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ [الإنسان: 7] ولقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ف بنذرك)، أقصى ما في الباب أنه لغا هذا النذر في خصوص كون الصوم واقعا في يوم العيد، وفي خصوص كون الذبح واقعا في الولد، إلا أن العام بعد التخصيص حجة.
• وحجة الشافعي: أن هذا نذر في المعصية فيكون لغوا لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا نذر في معصية الله)
ب. قال أبو حنيفة: خيار المجلس غير ثابت، وقال الشافعي: ثابت:
• حجة أبي حنيفة أنه لما انعقد البيع والشراء وجب أن يحرم الفسخ، لقوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾
• وحجة الشافعي تخصيص هذا العموم بالخبر، وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المتبايعان بالخيار كل واحد منهما ما لم يتفرقا)
ج. قال أبو حنيفة رحمه الله: الجمع بين الطلقات حرام، وقال الشافعي: ليس بحرام:
• حجة أبي حنيفة أن النكاح عقد من العقود لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ [البقرة: 235] فوجب أن يحرم رفعه لقوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ ترك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع فيبقى فيما عداها على الأصل.
• والشافعي خصص هذا العموم بالقياس، وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ وقد نفذ فلا يحرم.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/277.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قال علقمة: كل ما في القرآن ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فهو مدني و﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فهو مكي، وهذا خرج على الأكثر، وقد تقدم.
2. هذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام، فإنها تضمنت خمسة أحكام:
أ. الأول: الأمر بالوفاء بالعقود.
ب. الثاني: تحليل بهيمة الأنعام.
ج. الثالث: استثناء ما يلي بعد ذلك.
د. الرابع: استثناء حال الإحرام فيما يصاد.
هـ. الخامس: ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.
3. حكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن فقال: نعم! أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهي عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد.
4. ﴿أَوْفُوا﴾ يقال: وفي وأوفى لغتان! قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ﴾ [التوبة]، وقال تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم]، وقال الشاعر:
çأما ابن طوق فقد أوفى بذمته...كما وفي بقلاص النجم حاديهاé
فجمع بين اللغتين.
5. ﴿بِالْعُقُودِ﴾ العقود الربوط، واحدها عقد، يقال: عقدت العهد والحبل، وعقدت العسل فهو يستعمل في المعاني والأجسام، قال الحطيئة:
çقوم إذا عقدوا عقدا لجارهم...شدوا العناج وشدوا فوقه الكرباé
6. أمر الله سبحانه بالوفاء بالعقود:
أ. قال الحسن: يعني بذلك عقود الدين وهي ما عقده المرء على نفسه، من بيع وشراء وإجارة وكراء ومناكحة وطلاق ومزارعة ومصالحة وتمليك وتخيير وعتق وتدبير وغير ذلك من الأمور، ما كان ذلك غير خارج عن الشريعة، وكذلك ما عقده على نفسه لله من الطاعات، كالحج والصيام والاعتكاف والقيام والنذر وما أشبه ذلك من طاعات ملة الإسلام، وأما نذر المباح فلا يلزم بإجماع من الامة.
ب. قال ابن العربي، ثم قيل: إن الآية نزلت في أهل الكتاب، لقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران]، قال ابن جريج: هو خاص بأهل الكتاب وفيهم نزلت، وقيل: هي عامة وهو الصحيح، فإن لفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب، لأن بينهم وبين الله عقدا في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنهم مأمورون بذلك في قوله: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ وغير موضع.
ج. قال ابن عباس: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ معناه بما أحل وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الأشياء، وكذلك قال مجاهد وغيره.
د. وقال ابن شهاب: قرأت كتاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره: هذا بيان للناس من الله ورسوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ فكتب الآيات فيها إلى قوله: ﴿إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [المائدة]، وقال الزجاج: المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض، وهذا كله راجع إلى القول بالعموم وهو الصحيح في الباب، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المؤمنون عند شروطهم) وقال: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) فبين أن الشرط أو العقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله أي دين الله، فإن ظهر فيها ما يخالف رد، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)
هـ. ذكر ابن إسحاق قال اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان ـ لشرفه ونسبه ـ فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وهو الذي قال فيه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو ادعي به في الإسلام لأجبت)
و. وهذا الحلف هو المعنى المراد في قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة) لأنه موافق للشرع إذ أمر بالانتصاف من الظالم، فأما ما كان من عهودهم الفاسدة وعقودهم الباطلة على الظلم والغارات فقد هدمه الإسلام والحمد لله، قال ابن إسحاق: تحامل الوليد بن عتبة على الحسين ابن علي في مال له ـ لسلطان الوليد، فإنه كان أميرا على المدينة ـ فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن بسيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم لأدعون بحلف الفضول، قال عبد الله بن الزبير: وأنا أحلف بالله لئن دعاني لآخذن بسيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعا، وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك، وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك، فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/31.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية التي افتتح الله بها هذه السورة إلى قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ فيها من البلاغة ما تتقاصر عنده القوى البشرية، مع شمولها لأحكام عدّة: منها الوفاء بالعقود، ومنها تحليل بهيمة الأنعام، ومنها استثناء ما سيتلى مما لا يحلّ، ومنها تحريم الصيد على المحرم، ومنها إباحة الصّيد لمن ليس بمحرم، وقد حكى النقاش أنّ أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحلّل تحليلا عاما، ثم استثنى بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذ.
2. ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، يقال: أوفى ووفى لغتان، وقد جمع بينهما الشاعر فقال: أمّا ابن طوق فقد أوفى بذمّته كما وفى بقلاص النّجم حاديها والعقود: العهود، وأصل العقود الربوط، واحدها عقد، يقال: عقدت الحبل والعهد، فهو يستعمل في الأجسام والمعاني، وإذا استعمل في المعاني كما هنا أفاد أنه شديد الإحكام، قويّ التوثيق؛ قيل: المراد بالعقود هي التي عقدها الله على عباده، وألزمهم بها من الأحكام؛ وقيل: هي العقود التي يعقدونها بينهم من عقود المعاملات، والأولى: شمول الآية للأمرين جميعا، ولا وجه لتخصيص بعضها دون بعض، قال الزجاج: المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض.
3. والعقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله وسنة رسول الله، فإن خالفهما فهو ردّ لا يجب الوفاء به ولا يحلّ.
__________
(1) فتح القدير: 2/6.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ ما بين الخلق والخالق وما بين الخلق، وسواء في ذلك ما وجب، وذلك كعقد النكاح والبيع والرهن والنذر والحلف، وما أمر الله تعالى بفعله أو تركه، والإحرام بالحجِّ والعمرة، وما يستحبُّ، واجتناب المكروه.
2. والأمر حقيقةٌ في الوجوب على الصحيح، فاستعماله في الوجوب والندب من عموم المجاز كذلك، وأصل العقد: الجمع بين منفصلين، عَسُرَ الانفصال أو لم يعسر، وقيل: أصله الربط، ثمَّ استعمل مجازًا في العهد الموثَّق، وقيل: العقد فيه معنى الاستيثاق والشدِّ ولا يكون إِلَّا بين اثنين، والعهد قد ينفرد به واحد، ويردُّه قوله تعالى: ﴿عَقَّدتُّمُ الَايْمَانَ﴾ [المائدة: 89]، فإنَّ الحلف لا يلزم أن يكون بين اثنين.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/372.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ روى ابن أبي حاتم؛ أن رجلا أتى عبد الله ابن مسعود فقال: اعهد إليّ! فقال: إذا سمعت الله يقول ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فأرعها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه و(الوفاء) ضد الغدر، كما في (القاموس) وقال غيره: هو ملازمة طريق المواساة ومحافظة عهود الخلطاء، يقال: وفي بالعهد وأوفى به.
2. قال ناصر الدين في (الانتصاف): ورد في الكتاب العزيز (وفّى) بالتضعيف في قوله تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم: 37]، وورد (أوفى) كثيرا، ومنه: أوفوا بالعقود، وأما (وفى) ثلاثيا، فلم يرد إلا في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ﴾ [التوبة: 111]، لأنه بنى أفعل التفضيل من (وفى) إذ لا يبنى إلا من ثلاثيّ.
3. (العقود) جمع عقد وهو العهد الموثق، شبه بعقد الحبل ونحوه، وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف، قال عليّ بن طلحة: قال ابن عباس: يعني بالعهود ما أحل الله وما حرم، وما فرض، وما حدّ في القرآن كلّه، ولا تغدروا ولا تنكثوا، وقال زيد بن أسلم: العقود ستة: عهد الله وعقد الحلف وعقد الشركة وعقد البيع وعقد النكاح وعقد اليمين، قال الزمخشريّ: والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينه، من تحليل حلاله وتحريم حرامه، وأنه كلام قديم مجملا.
__________
(1) تفسير القاسمي: 4/6.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ روي عن ابن عباس أن المراد بالعقود عهود الله التي عهد إلى عباده (ما أحل وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله لا تغدروا ولا تنكثوا) وعن قتادة هي عقود الجاهلية أي ما كان من الحلف فيها وعن عبد الله بن عبيدة العقود خمس: عقدة الإيمان وعقدة النكاح وعقدة البيع وعقدة العهد وعقدة الحلف، والظاهر المتبادر أن الله تعالى أمرنا بالوفاء بجميع العقود الصحيحة التي عقدها علينا والتي نتعاقد عليها فيما بيننا.
2. في روح المعاني عن الراغب قال: العقود باعتبار المعقود والعاقد ثلاثة أضرب: عقد بين الله تعالى وبين العبد، وعقد بين العبد ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر، وكل واحد باعتبار الموجب له ضربان: ضرب أوجبه العقل وهو ما ركز الله تعالى معرفته في الإنسان فيتوصل إليه وإما ببديهة العقل وإما بأدنى نظر، دل عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 172] الآية، وضرب أوجبه الشرع وهو ما دلنا عليه كتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم فذلك ستة أضرب، وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء أو يلزم بالتزام الإنسان إياه، والثاني: أربعة أضرب: فالأول واجب الوفاء كالنذور المتعلقة بالقرب نحو أن يقول: علي أن أصوم إن عافاني الله تعالى، زالثاني يستحب الوفاء به ويجوز تركه كمن حلف على ترك فعل مباح فإن له أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك، والثالث: يستحب ترك الوفاء به وهو ما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم (إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه) والرابع: واجب ترك الوفاء به نحو أن يقول: علي أن أقتل فلانا المسلم، فيحصل من ضرب ستة في أربعة أربعة وعشرون ضربا، وظاهر الآية يقتضي كل عقد سوى ما كان تركه قربة أو واجبا فافهم ولا تغفل.
3. هذا أجمع كلام رأيته للمفسرين في العقود، وقد تَجدَّدَ لأهل هذا العصر أنواع من المعاملات تبعها أنواع من العقود يذكرونها في كتب القوانين المستحدثة منها ما يجيزه فقهاء المذاهب الإسلامية المدونة ومنها ما لا يجيزونه لمخالفته شروطهم التي يشترطونها، كاشتراط بعضهم الإيجاب والقبول قولا حتى لو كتب اثنان عقدا بينهما على شيء قولا أو كتابة نحو (تعاقد فلان وفلان على أن يقوم الأول بكذا والثاني بكذا) من غير ذكر إيجاب وقبول بالقول وأمضيا ما كتباه بتوقيعه أو ختمه، لا يعدونه عقدا صحيحا نافذا وقد يصبغونه بصبغة الدين فيجعلون التزام المتعاقدين لمباح وإيفاءهما به محرما ومعصية لله تعالى لعدم صحة العقد، ويشترطون في بعض العقود شروطا منها ما يستند على حديث صحيح أو غير صحيح، صريح الدلالة أو خفيها، ومنها ما لا يستند إلا على اجتهاد مشترطه ورأيه، ويجيزون بعض الشروط التي يتعاقد عليها الناس ويمنعون بعضا حتى بالرأي.
4. أساس العقود الثابت في الإسلام هو هذه الجملة البليغة والمختصرة المفيدة ﴿أوفوا العقود﴾ وهي تفيد على أن يجب على كل مؤمن أن يفي بما عقد وارتبط به، وليس على أحد أن يقيد ما أطلقه الشارع إلا ببينة منه، فالتراضي من المتعاقدين شرط في صحة العقد لقوله تعالى: ﴿عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ وأما الإيجاب والقبول فلا نص فيه وإنما هو عبارة عن العقد نفسه إذ الغالب فيه أن يكون بالصيغة اللفظية قولا أو كتابة، والإشارة تقوم مقام العبارة عند الحاجة كإشارة الأخرس، والفعل أبلغ من القول في حصول المقصد من العقد كبيع المعاطاة الذي منعه بعضهم تعبدا بصيغة الإيحاب والقبول اللفظية، ومثل بيع المعاطاة إعطاء الثوب للغسال أو الصباغ أو الكواء فمتى أخذه منك كان ذلك عقد إجارة بينكما بأجرة المثل، ومن هذا القبيل إعطاء المال لمن بيده تذاكر السفر في سكك الحديد أو البواخر وأخذ التذكرة منه، ومثله دخول الحمام وركوب سفن الملاحين ومراكب الحوذية الذين يأخذون الأجرة بعد إيصال الراكب إلى المكان الذي يقصده.
5. فكل قول أو فعل يعده الناس عقدا فهو عقدا يجب أن يوفوا به كما أمر الله تعالى ما لم يتضمن تحريم حلال أو تحليل حرام مما ثبت في الشرع كالعقد بالإكراه أو على إحراق دار أحد أو قطع شجر بستانه أو على الفاحشة أو أكل شيء من أموال الناس بالباطل كالربا والميسر (القمار) والرشوة فهذا الثلاثة منصوصة في كتاب والسنة، ونهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن بيع الغرر كما في صحيح مسلم وغيره، لأنه من قبيل الميسر في كونه مجهول العاقبة وهو من الغش المحرم أيضا، وقد توسع بعض الفقهاء في تفسير الألفاظ القليلة التي وردت في كتاب والسنة فأدخلوا في معنى الربا والغرر ما لا تطيقه النصوص من التشدد ودعموا تشديداتهم بروايات لا تصح، وأشدهم تضييقا في العقود الشافعية والحنفية، وأكثرهم تسامحا وسعة: المالكية والحنابلة.
6. ومن الأصول التي بنوا عليها معظم تشديداتهم في ذلك ذهاب بعضهم إلى أن الأصل في العقود والشروط الحظر فلا يصح منها إلا ما دل الشرع على صحته، وأن كل شرط يخالف مقتضى العقد باطل، وعدوا من هذا ما يمكن أن يقال إنه ليس منه، وإطلاق الوفاء بالعقود والشروط في أمور الدنيا، والحظر لا يثبت إلا بدليل، ويؤيد إطلاق الآية حديث (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، والمسلمون على شروطهم) رواه أبو داوود والدارقطني من طريق كثير بن زيد، والترمذي والبزار بزيادة (إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما) وقال الترمذي حسن صحيح والصواب أنه ضعيف يعتضد كما قيل بحديث (الناس على شروطهم ما وافقت الحق) رواه البزار من حديث ابن عمر وهو أشد ضعفا من حديث الصلح الذي ذكره السيوطي في الجامع الصغير بدون زيادة الشروط وعلم عليه بالصحة.
7. وقد يعترض على هذا بحديث عائشة في قصة بريرة وهو (ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مئة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) رواه الشيخان وغيرهما، ويجاب بأن المراد بالشرط هنا حاصل المصدر أعني المشروط لا المصدر الذي هو الاشتراط، ولذلك قال: لو كان مئة شرط، وأذن باشتراط الولاء لمكاتبي بريرة وهو موضع الإنكار كما يأتي قريبا في بيان سبب هذا الحديث، والمراد بما ليس في كتاب الله ما خالفه كما من سبب الحديث، وإلا كان جميع المسلمين مخالفين لهذا الحديث حتى الظاهرية لأنهم يجيزون في العقود شروطا لا ذكر لها في كتاب الله تعالى، وليس في كتاب الله تعالى شروط لأنواع العقود فيكتفى بها ويقتصر عليها، وإنما الواجب أن لا يشترط أحد شرطا يحل ما حرمه كتاب الله أو يحرم ما أحله، فذلك هو الذي يصدق عليه أنه ليس في كتاب الله إذ في كتاب الله ما يخالفه، وأما اشتراط ما أباحه كتاب الله تعالى بالنص أو الاقتضاء فهو في كتاب الله تعالى.
8. وفي هذا الحديث بحث آخر، وهو أنه ورد في مسألة دينية من العبادات وهي المكاتبة والولاء، وسبب الحديث بينته رواية عائشة في الصحيحين قالت: (جاءتني بريرة فقالت كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني، فقلت إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت) فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جالس فقالت: إني قد عرضت عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء، فأخبرت عائشة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق) ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد فما بال رجال يشترطون) الخ فالواقعة في أمر ديني اشترط فيه شرط مخالف لحكم الله فكان لغوا والأمور الدينية موقوفة على النص، وأما الأمور الدنيوية كالبيع والإجارة والشركات وغيرها من المعاملات الدنيوية فالأصل فيها عرف الناس وتراضيهم ما لم يخالف حكم الشرع في تحليل حرام أو تحريم حلال كما تقدم، ومن أدلة هذا الأصل بعد الآية التي نفسرها وما أيدناها به حديث (أنتم أعلم بأمر دنياكم) رواه مسلم من حديث أنس وعائشة، وحديث (ما كان أمر دينكم فإلي وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به) رواه أحمد، لهذا تجد أحمد أكثر أئمة الفقه تصحيحا للعقود والشروط على أنه أوسعهم رواية للحديث وأشدهم استمساكا به، فأبو حنيفة يقدم القياس الجلي على حديث الآحاد الصحيح وأحمد يقدم الحديث الضعيف على القياس.
9. ومن العقود التي شدد بعض الفقهاء في إبطال شروطها عقد النكاح فترى الذين يجوزون الشروط في البيع وهو من المعاملات الدنيوية الموكولة إلى العرف لا يجوزون الشروط في عقد النكاح، وقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) رواه أحمد والشيخان في صحيحيهما وأصحاب السنن عن عقبة بن عامر، وقد جوز أحمد بهذا الحديث أن تشترط المرأة في عقد النكاح أن لا يتزوج عليها وأن لا تنتقل من بلدها أو من الدار، ويجوز لها فسخ النكاح إذا تزوج عليها وقد اشترطت عليه عدم التزوج عليها كما يجوز لها الفسخ بغير ذلك من العيوب والتدليس ـ وأجاز اشتراط التسري في شراء الجارية وحينئذ لا تجبر على الخدمة، واشتراط أن يأخذ البائع الجارية بثمنها إذا أراد المشتري بيعها، ولكن قال لا يقربها وله فيها شرط، ومذهبه هذا في الشروط هو الموفق لسهولة الحنيفة السمحة ورفع الحرج منها، ولم أر أحدا من العلماء وفى موضوع العقود حقه مؤيدا بدلائل الكتاب والسنة وآثار السلف ووجوه الاعتبار في مدارك القياس إلا ابن تيمية فليراجعه من أراد التوسع في هذه المسألة.
__________
(1) تفسير المنار: 6/99.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ روى عن ابن عباس: أن المراد بالعقود عهود الله التي عهد بها إلى عباده: أي ما أحلّ وما حرم، وما فرض وما حدّ في القرآن كله، لا غدر فيها ولا نكث، وقال الراغب: العقود ثلاثة أضرب: عقد بين الله وبين العبد، وعقد بين العبد ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر، وكل واحد منها إما أن يوجبه العقل الذي أودعه الله في الإنسان ويتوصل إليه بديهة العقل أو بأدنى نظر ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ وإما أن يوجبه الشرع وهو ما دلنا عليه كتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. وأساس العقود في الإسلام هو هذه الجملة ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ أي إنه يجب على كل مؤمن أن يفي بما عقده وارتبط به من قول أو فعل كما أمر الله ما لم يحرّم حلالا أو يحلل حراما كالعقد على أكل شيء من أموال الناس بالباطل كالربا والميسر (القمار) والرّشوة ونحو ذلك.
__________
(1) تفسير المراغي 6/42.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ إنه لا بد من ضوابط للحياة.. حياة المرء مع نفسه التي بين جنبيه؛ وحياته مع غيره من الناس ومن الأحياء والأشياء عامة.. الناس من الأقربين والأبعدين، من الأهل والعشيرة، ومن الجماعة والأمة؛ ومن الأصدقاء والأعداء.. والأحياء مما سخر الله للإنسان ومما لم يسخر.. والأشياء مما يحيط بالإنسان في هذا الكون العريض.. ثم.. حياته مع ربه ومولاه وعلاقته به وهي أساس كل حياة.
2. والإسلام يقيم هذه الضوابط في حياة الناس، يقيمها ويحددها بدقة ووضوح؛ ويربطها كلها بالله سبحانه؛ ويكفل لها الاحترام الواجب، فلا تنتهك، ولا يستهزأ بها؛ ولا يكون الأمر فيها للأهواء والشهوات المتقلبة؛ ولا للمصالح العارضة التي يراها فرد، أو تراها مجموعة أو تراها أمة، أو يراها جيل من الناس فيحطمون في سبيلها تلك الضوابط.. فهذه الضوابط التي أقامها الله وحددها هي (المصلحة) ما دام أن الله هو الذي أقامها للناس.. هي المصلحة ولو رأى فرد، أو رأت مجموعة أو رأت أمة من الناس أو جيل أن المصلحة غيرها! فالله يعلم والناس لا يعلمون! وما يقرره الله خير لهم مما يقررون! وأدنى مراتب الأدب مع الله سبحانه أن يتهم الإنسان تقديره الذاتي للمصلحة أمام تقدير الله، أما حقيقة الأدب فهي ألا يكون له تقدير إلا ما قدر الله، وألا يكون له مع تقدير الله، إلا الطاعة والقبول والاستسلام، مع الرضى والثقة والاطمئنان..
3. هذه الضوابط يسميها الله (العقود).. ويأمر الذين آمنوا به أن يوفوا بهذه العقود.. وافتتاح هذه السورة بالأمر بالوفاء بالعقود، ثم المضي بعد هذا الافتتاح في بيان الحلال والحرام من الذبائح والمطاعم والمشارب والمناكح، وفي بيان الكثير من الأحكام الشرعية والتعبدية، وفي بيان حقيقة العقيدة الصحيحة، وفي بيان حقيقة العبودية وحقيقة الألوهية، وفي بيان علاقات الأمة المؤمنة بشتى الأمم والملل والنحل، وفي بيان تكاليف الأمة المؤمنة في القيام لله والشهادة بالقسط والوصاية على البشرية بكتابها المهيمن على كل الكتب قبلها، والحكم فيها بما أنزل الله كله؛ والحذر من الفتنة عن بعض ما أنزل الله؛ والحذر من عدم العدل تأثرا بالمشاعر الشخصية والمودة والشنآن..
4. افتتاح السورة على هذا النحو، والمضي فيها على هذا النهج يعطي كلمة (العقود) معنى أوسع من المعنى الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، ويكشف عن أن المقصود بالعقود هو كل ضوابط الحياة التي قررها الله:
أ. وفي أولها: عقد الإيمان بالله؛ ومعرفة حقيقة ألوهيته سبحانه، ومقتضى العبودية لألوهيته.. هذا العقد الذي تنبثق منه، وتقوم عليه سائر العقود؛ وسائر الضوابط في الحياة، وعقد الإيمان بالله؛ والاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته؛ ومقتضيات هذا الاعتراف من العبودية الكاملة، والالتزام الشامل والطاعة المطلقة والاستسلام العميق.. هذا العقد أخذه الله ابتداء على آدم عليه السلام وهو يسلمه مقاليد الخلافة في الأرض، بشرط وعقد هذا نصه القرآني: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.. فهي خلافة مشروطة باتباع هدى الله الذي ينزله في كتبه على رسله؛ وإلا فهي المخالفة لعقد الخلافة والتمليك، المخالفة التي تجعل كل عمل مخالف لما أنزل الله، باطلا بطلانا أصليا، غير قابل للتصحيح المستأنف! وتحتم على كل مؤمن بالله، يريد الوفاء بعقد الله، أن يرد هذا الباطل، ولا يعترف به؛ ولا يقبل التعامل على أساسه، وإلا فما أوفى بعقد الله، ولقد تكرر هذا العقد ـ أو هذا العهد ـ مع ذرية آدم، وهم بعد في ظهور آبائهم، كما ورد في السورة الأخرى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾.. فهذا عقد آخر مع كل فرد؛ عقد يقرر الله سبحانه أنه أخذه على بني آدم كلهم وهم في ظهور آبائهم.. وليس لنا أن نسأل: كيف؟ لأن الله أعلم بخلقه؛ وأعلم كيف يخاطبهم في كل طور من أطوار حياتهم، بما يلزمهم الحجة، وهو يقول: إنه أخذ عليهم هذا العهد، على ربوبيته لهم.. فلا بد أن ذلك كان، كما قال الله سبحانه.. فإذا لم يفوا بتعاقدهم هذا مع ربهم لم يكونوا أوفياء! ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ـ كما سيجيء في السورة ـ يوم نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم.. وسنعلم ـ من السياق ـ كيف لم يفوا بالميثاق؛ وكيف نالهم من الله ما ينال كل من ينقض الميثاق، والذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قد تعاقدوا مع الله ـ على يديه ـ تعاقدا عاما على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله)، وبعضهم وقعت له بعد ذلك عقود خاصة قائمة على ذلك التعاقد العام.. ففي بيعة العقبة الثانية: التي ترتبت عليها هجرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة إلى المدينة، كان هناك عقد مع نقباء الأنصار.. وفي الحديبية كان هناك عقد الشجرة وهو (بيعة الرضوان)
ب. وعلى عقد الإيمان بالله، والعبودية للّه، تقوم سائر العقود.. سواء ما يختص منها بكل أمر وكل نهي في شريعة الله، وما يتعلق بكل المعاملات مع الناس والأحياء والأشياء في هذا الكون في حدود ما شرع الله ـ فكلها عقود ينادي الله الذين آمنوا، بصفتهم هذه، أن يوفوا بها، إذ أن صفة الإيمان ملزمة لهم بهذا الوفاء، مستحثة لهم كذلك على الوفاء.. ومن ثم كان هذا النداء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾..
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/826.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بدء السورة بهذه الآية الكريمة التي تدعو إلى الوفاء بالعقود هو مناسب للسورة التي قبلها (سورة النساء)، لما تضمنته من أحكام اليتامى، والمواريث، والزّواج، والتيمم، والجهاد، وغيرها، وكلها عقود ومواثيق بين الله وبين عباده الذين آمنوا به.. ثم إن هذا البدء مناسب لما سيجيء بعد هذا ـ في هذه السورة ـ من أحكام، بدئت بتلك التي تتصل ببهيمة الأنعام، وما أحلّ من لحومها.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1024.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تصدير السورة بالأمر بالإيفاء بالعقود مؤذن بأن سترد بعده أحكام وعقود كانت عقدت من الله على المؤمنين إجمالا وتفصيلا، ذكّرهم بها لأنّ عليهم الإيفاء بما عاقدوا الله عليه، وهذا كما تفتتح الظهائر السلطانية بعبارة: هذا ظهير كريم يتقبل بالطاعة والامتثال، وذلك براعة استهلال.
2. فالتعريف في العقود تعريف الجنس للاستغراق:
أ. فشمل العقود التي عاقد المسلمون عليها ربّهم وهو الامتثال لشريعته، وذلك كقوله: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ﴾ [المائدة: 7]، ومثل ما كان يبايع عليه الرسول المؤمنين أن لا يشركوا بالله شيئا ولا يسرقوا ولا يزنوا، ويقول لهم: فمن وفى منكم فأجره على الله.
ب. وشمل العقود التي عاقد المسلمون عليها المشركين، مثل قوله: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ [التوبة: 2]، وقوله: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ [المائدة: 2]، ويشمل العقود التي يتعاقدها المسلمون بينهم.
3. والإيفاء هو إعطاء الشيء وافيا، أي غير منقوص، ولمّا كان تحقّق ترك النقص لا يحصل في العرف إلّا بالزيادة على القدر الواجب، صار الإيفاء مرادا منه عرفا العدل، وتقدّم عند قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ في سورة النساء [173]
4. والعقود جمع عقد ـ بفتح العين ـ، وهو الالتزام الواقع بين جانبين في فعل ما، وحقيقته أنّ العقد هو ربط الحبل بالعروة ونحوها، وشدّ الحبل في نفسه أيضا عقد، ثم استعمل مجازا في الالتزام، فغلب استعماله حتّى صار حقيقة عرفية، قال الحطيئة:
çقوم إذا عقدوا عقدا لجارهم...شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكرباé
فذكر مع العقد العناج وهو حبل يشدّ القربة، وذكر الكرب وهو حبل آخر للقربة: فرجع بالعقد المجازيّ إلى لوازمه فتخيّل معه عناجا وكربا، وأراد بجميعها تخييل الاستعارة، فالعقد في الأصل مصدر سمّي به ما يعقد، وأطلق مجازا على التزام من جانبين لشيء ومقابله، والموضع المشدود من الحبل يسمّى عقدة، وأطلق العقد أيضا على الشيء المعقود إطلاقا للمصدر على المفعول، فالعهود عقود، والتحالف من العقود، والتبايع والمؤاجرة ونحوهما من العقود، وهي المراد هنا، ودخل في ذلك الأحكام التي شرعها الله لنا لأنّها كالعقود، إذ قد التزمها الداخل في الإسلام ضمنا، وفيها عهد الله الذي أخذه على الناس أن يعبدوه ولا يشركوا به.
5. ويقع العقد في اصطلاح الفقهاء على (إنشاء تسليم أو تحمّل من جانبين)؛ فقد يكون إنشاء تسليم كالبيع بثمن ناض؛ وقد يكون إنشاء تحمّل كالإجارة بأجر ناض، وكالسلم والقراض؛ وقد يكون إنشاء تحمّل من جانبين كالنكاح، إذ المهر لم يعتبر عوضا وإنّما العوض هو تحمّل كلّ من الزوجين حقوقا للآخر، والعقود كلّها تحتاج إلى إيجاب وقبول.
6. والأمر بالإيفاء بالعقود يدلّ على وجوب ذلك، فتعيّن أنّ إيفاء العاقد بعقده حقّ عليه، فلذلك يقضي به عليه، لأنّ العقود شرعت لسدّ حاجات الأمّة فهي من قسم المناسب الحاجيّ، فيكون إتمامها حاجيّا؛ لأنّ مكمّل كلّ قسم من أقسام المناسب الثلاثة يلحق بمكمّله: إن ضروريّا، أو حاجيا، أو تحسينا، وفي الحديث (المسلمون على شروطهم إلّا شرطا أحلّ حراما أو حرّم حلالا)، فالعقود التي اعتبر الشرع في انعقادها مجرّد الصيغة تلزم بإتمام الصيغة أو ما يقوم مقامها، كالنكاح والبيع، والمراد بما يقوم مقام الصيغة نحو الإشارة للأبكم، ونحو المعاطاة في البيوع، والعقود التي اعتبر الشرع في انعقادها الشروع فيها بعد الصيغة تلزم بالشروع، كالجعل والقراض، وتمييز جزئيّات أحد النوعين من جزئيات الآخر مجال للاجتهاد.
7. قال القرافيّ في الفرق التاسع والمائتين: إنّ أصل العقود من حيث هي اللزوم، وإنّ ما ثبت في الشرع أو عند المجتهدين أنّه مبنيّ على عدم اللزوم بالقول فإنّما ذلك لأنّ في بعض العقود خفاء الحقّ الملتزم به فيخشى تطرّق الغرر إليه، فوسّع فيها على المتعاقدين فلا تلزمهم إلّا بالشروع في العمل، لأنّ الشروع فرع التأمّل والتدبّر، ولذلك اختلف المالكيّة في عقود المغارسة والمزارعة والشركة هل تلحق بما مصلحته في لزومه بالقول، أو بما مصلحته في لزومه بالشروع، وقد احتجّ في الفرق السادس والتسعين والمائة على أنّ أصل العقود أن تلزم بالقول بقوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، وذكر أنّ المالكيّة احتجّوا بهذه الآية على إبطال حديث: خيار المجلس؛ يعني بناء على أنّ هذه الآية قرّرت أصلا من أصول الشريعة، وهو أنّ مقصد الشارع من العقود تمامها، وبذلك صار ما قرّرته مقدّما عند مالك على خبر الآحاد، فلذلك لم يأخذ مالك بحديث ابن عمر (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرّقا)، واعلم أنّ العقد قد ينعقد على اشتراط عدم اللزوم، كبيع الخيار، فضبطه الفقهاء بمدّة يحتاج إلى مثلها عادة في اختيار المبيع أو التشاور في شأنه، ومن العقود المأمور بالوفاء بها عقود المصالحات والمهادنات في الحروب، والتعاقد على نصر المظلوم، وكلّ تعاقد وقع على غير أمر حرام، وقد أغنت أحكام الإسلام عن التعاقد في مثل هذا إذ أصبح المسلمون كالجسد الواحد، فبقي الأمر متعلّقا بالإيفاء بالعقود المنعقدة في الجاهلية على نصر المظلوم ونحوه: كحلف الفضول، وفي الحديث: (أوفوا بعقود الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام)، وبقي أيضا ما تعاقد عليه المسلمون والمشركون كصلح الحديبية بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقريش، وقد روي أنّ فرات بن حيّان العجلي سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن حلف الجاهلية فقال: (لعلّك تسأل عن حلف لجيم وتيم، قال نعم، قال لا يزيده الإسلام إلّا شدّة)
8. هذا من أعظم ما عرف به الإسلام بينهم في الوفاء لغير من يعتدي عليه، وقد كانت خزاعة من قبائل العرب التي لم تناو المسلمين في الجاهلية، كما تقدّم في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ في سورة آل عمران [173]
__________
(1) التحرير والتنوير: 5/6.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه أول آية من السورة، وهي تأمر المؤمنين بأن يوفوا بالعهود التي أخذت عليهم بمقتضى الإيمان وهي الطاعة لله تعالى ولرسوله، والقيام بالتكليفات الشرعية، فالعقد هو كل ما يلتزمه المؤمنون، سواء أكان في الأحكام التكليفية أم من العهود التي يلتزم بها العباد، وبذلك تشمل ما يعقده الإنسان مع غيره من عقود واجبة الوفاء، وما يتبادلان فيه الالتزام، كالبيع والإجارة، وغيرهما، وتشمل ما يلتزمه المؤمن من صدقات، وما يلزمه الوفاء به بحكم الإيمان فإن الإيمان ميثاق يلتزم فيه العبد بالطاعة، فإذا عصى فقد نقض ذلك الميثاق، وذلك كما كان يفعل اليهود من نقض للمواثيق المؤكدة.
2. وإن الأصل اللغوي لمعنى كلمة عقد أنه ربط لطرفى شيء ومنه العقدة، وقد أطلق على الربط بين كلامين كالعقود القائمة، وأطلقه القرآن كما في هذا النص على كل الأحكام الواجبة الطاعة لها؛ لأنها تشمل معنى الربط؛ لأن المؤمن بمقتضى إيمانه قد عاهد الله تعالى على طاعته، والأخذ بكل ما يأمر به، وبكل ما ينهى عنه، وقد جمع الراغب الأصفهاني معنى كلمة عقد فقال: (العقد: الجمع بين أطراف الشيء ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل، وعقد البناء، ثم يستعار للمعاني فيقال نحو عقد البيع والعهد وغيرهما، يقال: عاقدته، وعقدته، وتعاقدنا، وعقدت يمينه)
3. والعقد على هذا: كل ارتباط يرتبط به المؤمن بموجب النقل أو بموجب العقل، وهو ما يدركه بالبديهة وأدنى نظر، سواء أكان بينه وبين نفسه بمقتضى إيمانه وخلقه وإنسانيته، أم كان بينه وبين غيره، وكل هذا واجب الوفاء بحكم الله تعالى، فأوامر الله تعالى ونواهيه واجبة الوفاء، وعقود الإنسان مع غيره واجبة الوفاء إلا أن يكون فيها مخالفة لأمر الله تعالى ونهيه، فكل اتفاق على خلاف ذلك رد على صاحبه، ولا وفاء فيه، لقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا) ولقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولو كان مائة شرط) ولأن تنفيذ العقود التي تتضمن خلاف ما جاء عليه الشرع يكون تنفيذها نقضا لعهد المؤمن الذى يجب تنفيذه، وهو طاعة الله تعالى ورسوله، وعهد الله تعالى أولى بالوفاء؛ ولأن عقود الناس تستمد قوة الوفاء من أمر الله، فلا يصح أن تكون على خلافه.
4. فالعقد: معناه في اللغة العربية ضم طرف إلى طرف، وربطهما ربطا محكما، يقال: عقد الرجل طرفي الحبل أو الحبلين إذا ربط أحدهما بالآخر، وضده الحل أي فك هذا الربط، وسمى الإيجاب والقبول عقدا لأنهما يضمان إرادتي المتعاقدين، ويربطان أحدهما بالآخر.
5. والعقد معناه في استعمال القرآن الارتباط، والعقود والعهود والمواثيق والمعاهدات والمحالفات والتعهدات والاتفاقات والالتزامات كلها في استعمال القرآن والاصطلاح الشرعي ألفاظ متقاربة المعنى المراد بها الارتباطات، سواء أكانت ارتباطات بين أفراد أو حكومات أو جماعات، وسواء أكانت ارتباطات على عمل أو على كف عن عمل، والفروق التي يقررها علماء القانون الدولى لهذه الألفاظ لا تعرف في الاصطلاح الشرعي والإيفاء بالعقد معناه تنفيذ ما يقتضيه والقيام بما يوجبه وافيا تاما غير منقوص، والإيفاء بالعقد والوفاء به والتوفية به ألفاظ مترادفة معناها واحد.
6. والمعنى بالإجمال: يا أيها المؤمنون نفذوا ارتباطاتكم، وقوموا بما تعاقدتم على القيام به وافيا تاما، وقد ذكر سبحانه العقود التي أمر بالإيفاء بها بصيغة العموم ولم يخصصها بنوع لتشمل كل ارتباط يرتبط به المؤمن، سواء أكان ارتباطه مع ربه أم ارتباطه مع نفسه أم ارتباطه مع فرد آخر، وسواء أكان ارتباط جماعتهم أو حكومتهم على عمل، أو كف عن عمل؛ ولهذا قال المحققون من المفسرين: العقود التي أمر الله المؤمنين أن يوفوا بها تشمل أربعة أنواع:
أ. الأول: العقود التي عقدها المؤمن مع ربه بسبب إيمانه، فكل من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد التزم لله بأن يطيعه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وإحلال ما أحله وتحريم ما حرمه، فهذا عقد بين المؤمن وربه، وسبب الالتزام فيه إيمانه، وإلى هذا أشار الله سبحانه بقوله: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾، وبقوله: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ [الرعد]
ب. الثاني: العقود التي عقدها المؤمن مع نفسه بسبب حلفه على أن يفعل فعلا أو يكف عن فعل، أو نذره أن يفعل فعلا أو يكف عن فعل؛ فكل من حلف على فعل أو كف عن فعل أو نذر فعلا أو كفا عن فعل فقد التزم أن يبر بيمينه، وأن يوفى بنذره، وسبب الالتزام يمينه أو نذره، وإلى هذا أشار الله سبحانه بقوله: ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ [الحج]
ج. الثالث: العقود التي يعقدها الأفراد بعضهم مع بعض من بيع وإجارة ورهن وشركة ومضاربة وزواج ونحوها؛ فكل من ارتبط مع غيره بعقد فعليه أن ينفذ موجب هذا العقد ولا يخل بشيء مما يقتضيه، وسبب الالتزام عقده بإرادته واختياره.
د. الرابع: العقود التي تعقدها الحكومة الإسلامية مع غيرها من الحكومات في السلم والحرب، فإذا تعاقدت دولة إسلامية مع أية دولة على أحكام عسكرية أو مدنية، دفاعية أو هجومية، إيجابية أو سلبية، فعلى الحكومة أن توفى بعقودها، وتنفذ التزاماتها، فالله سبحانه أمر المؤمنين بأن يوفوا بكل الارتباطات التي يرتبطون بها أفرادا أو جماعات أو حكومات، مع ربهم، أو مع أنفسهم، أو مع أبناء نوعهم.
7. قال أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص المتوفى سنة (370 ه) في كتابه في تفسير آيات الأحكام: العقد ما يعقده العاقد مع نفسه على أمر يفعله هو، أو ما يعقده مع غيره، ويسمى اليمين على المستقبل عقدا؛ لأن الحالف قد ألزم نفسه الوفاء بما حلف عليه من فعل أو ترك، وكذلك العهد والأمان، لأن معطيه قد ألزم نفسه الوفاء به، وكذلك كل شرط شرطه الإنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد، وكذلك النذر وإيجاب القرب وما جرى مجرى ذلك، وقد اشتمل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ على كل ذلك، وعلى إلزام الوفاء بالعهود والذمم التي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذمة والخوارج وغيرهم من سائر الناس؛ وعلى إلزام الوفاء بالنذور والأيمان، ثم قال ومتى اختلفنا في جواز عقد من العقود أو فساده أو في صحة نذر ولزومه صح الاحتجاج على جوازه ولزومه بعموم قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، وإذا تعارض الإيفاء بعقد من هذه الأنواع الأربعة مع الإيفاء بعقد آخر منها، وجب على المؤمن أن يوفى بعقده مع ربه، ولا يجب عليه أن يوفى بعقده مع نفسه أو مع غيره إذا كان إيفاؤه بعقد منهما يخل بإيفائه بعقد ربه، فإذا حلف على ما فيه مخالفة أمر ربه فليحنث في يمينه وليوف عقده مع ربه ولا يوف بما حلف عليه؛ ولهذا ورد في الحديث (من حلف على شيء ورأى غيره خيرا منه فليأت الذى هو خير منه وليكفر عن يمينه)، وإذا عقد عقدا أو شرط شرطا يقضى بتحليل محرم أو تحريم حلال أو التزام بباطل شرعا فعليه أن يوفى بعقده مع ربه ولا يوفى بما يخالفه من عقود وشروط؛ ولهذا ورد في الحديث: (المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا)
8. وقد خاطب الله المخاطبين في أمرهم بالإيفاء بالعقود بوصف الإيمان ليشير إلى أن الإيفاء بالعقود مما يقتضيه الإيمان وفى هذا حث على امتثال الأمر والإيفاء بالعقد، وهذا الذى أشار إليه القرآن صرح به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في سنته إذ عد الوفاء بالعهود من شعائر الإيمان وآيات المؤمن، ففي الحديث: (آية المؤمن ثلاث: إذا حدث صدق، وإذا اؤتمن أدى، وإذا وعد وفى) وكما ذكرهم بإيمانهم في بدء هذه السورة إذ أمرهم بالإيفاء بالعقود جملة، ذكرهم بإيمانهم في أمرهم بكل عقد فصله فيها، ففي تفصيل ما حرمه قال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾، وفى تفصيل التطهر لأداء الصلاة وهي عماد الدين قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾، وفى تفصيل عماد الدنيا وهو الشهادة بالقسط في إقامة حقوق الله قال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لله شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾، فالمقصود بهذا إشعار المؤمنين بأن إيفاءهم بالعقود جملة وتفصيلا هو من مقتضى الإيمان وأن نكث العهود والإخلال بما تقتضيه العقود لا يتفق والإيمان، فالمؤمن حقا يوفى بالتزاماته لربه ولنفسه ولغيره، ومن هنا نفهم معنى الحديث: (لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/2004.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تدور آيات القرآن حول العقيدة، والعبادة، والشريعة، والأخلاق، والرئاسة الدينية والدنيوية، والقضاء والجهاد، وتعرف الآيات الواردة في الشريعة بما فيها العبادة، تعرف بآيات الأحكام عند الفقهاء، وتبلغ حوالي خمسمائة آية، ومنها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾
2. هذه الجملة على ايجازها عظيمة النفع، فإنها الأصل والأساس لإجماع المذاهب على وجوب الوفاء بما يقع عليه التراضي بين اثنين، مع توافر الشروط التي اعتبرها الشرع من البلوغ والعقل في المتعاقدين وقابلية الشيء المعقود عليه للتملك، وعدم استلزامه تحليل الحرام، أو تحريم الحلال، وما إلى ذلك مما جاء في كتب الفقه.
__________
(1) التفسير الكاشف: 3/6.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ العقود جمع عقد وهو شد أحد شيئين بالآخر نوع شد يصعب معه انفصال أحدهما عن الآخر، كعقد الحبل والخيط بآخر من مثله، ولازمه التزام أحدهما الآخر، وعدم انفكاكه عنه، وقد كان معتبرا عندهم في الأمور المحسوسة أولا ثم أستعير فعمم للأمور المعنوية كعقود المعاملات الدائرة بينهم من بيع أو إجارة أو غير ذلك، وكجميع العهود والمواثيق فأطلقت عليها الكلمة لثبوت أثر المعنى الذي عرفت أنه اللزوم والالتزام فيها.
2. ولما كان العقد ـ وهو العهد ـ يقع على جميع المواثيق الدينية التي أخذها الله من عباده من أركان وأجزاء كالتوحيد وسائر المعارف الأصلية والأعمال العبادية والأحكام المشروعة تأسيسا أو إمضاء، ومنها عقود المعاملات وغير ذلك، وكان لفظ العقود أيضا جمعا محلى باللام لا جرم كان الأوجه حمل العقود في الآية على ما يعم كل ما يصدق عليه أنه عقد.
3. وبذلك يظهر ضعف ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالعقود العقود التي يتعاقدها الناس بينهم كعقد البيع والنكاح والعهد، أو يعقدها الإنسان على نفسه كعقد اليمين، وكذا ما ذكره بعض آخر: أن المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا فيها على النصرة والمؤازرة على من يقصدهم بسوء أو يبغي عليهم، وهذا هو الحلف الدائر بينهم، وكذا ما ذكره آخرون: أن المراد بها المواثيق المأخوذة من أهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل فهذه وجوه لا دليل على شيء منها من جهة اللفظ، على أن ظاهر الجمع المحلى باللام وإطلاق العقد عرفا بالنسبة إلى كل عقد وحكم لا يلائمها، فالحمل على العموم هو الأوجه.
4. يدل الكتاب كما ترى من ظاهر قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ على الأمر بالوفاء بالعقود، وهو بظاهره عام يشمل كل ما يصدق عليه العقد عرفا مما يلائم الوفاء، والعقد هو كل فعل أو قول يمثل معنى العقد اللغوي، وهو نوع ربط شيء بشيء آخر بحيث يلزمه ولا ينفك عنه كعقد البيع الذي هو ربط المبيع بالمشتري ملكا بحيث كان له أن يتصرف فيه ما شاء، وليس للبائع بعد العقد ملك ولا تصرف، وكعقد النكاح الذي يربط المرأة بالرجل بحيث له أن يتمتع منها تمتع النكاح، وليس للمرأة أن تمتع غيره من نفسها، وكالعهد الذي يمكن فيه العاهد المعهود له من نفسه فيما عهده وليس له أن ينقضه.
5. وقد أكد القرآن في الوفاء بالعقد والعهد جميع معانيه وفي جميع معانيه وفي جميع مصاديقه وشدد فيه كل التشديد، وذم الناقضين للمواثيق ذما بالغا، وأوعدهم إيعادا عنيفا ومدح الموفين بعهدهم إذا عاهدوا في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها، وقد أرسلت الآيات القول فيه إرسالا يدل على أن ذلك مما يناله الناس بعقولهم الفطرية، وهو كذلك.
6. وليس ذلك إلا لأن العهد والوفاء به مما لا غنى للإنسان في حياته عنه أبدا، والفرد والمجتمع في ذلك سيان، وإنا لو تأملنا الحياة الاجتماعية التي للإنسان وجدنا جميع المزايا التي نستفيد منها وجميع الحقوق الحيوية الاجتماعية التي نطمئن إليها مبنية على أساس العقد الاجتماعي العام والعقود والعهود الفرعية التي تترتب عليه، فلا نملك من أنفسنا للمجتمعين شيئا ولا نملك منهم شيئا إلا عن عقد عملي وإن لم نأت بقول فإنما القول لحاجة البيان، ولو صح للإنسان أن ينقض ما عقده وعهد به اختيارا لتمكنه منه بقوة أو سلطة أو بطش أو لعذر يعتذر به كان أول ما انتقض بنقضه هو العدل الاجتماعي، وهو الركن الذي يلوذ به ويأوي إليه الإنسان من إسارة الاستخدام والاستثمار.
7. ولذلك أكد الله سبحانه في حفظ العهد والوفاء به قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [إسراء: 34] والآية تشمل العهد الفردي الذي يعاهد به الفرد الفرد مثل غالب الآيات المادحة للوفاء بالعهد والذامة لنقضه كما تشمل العهد الاجتماعي الدائر بين قوم وقوم وأمة وأمة، بل الوفاء به في نظر الدين أهم منه بالعهد الفردي لأن العدل عنده أتم والبلية في نقضه أعم.
8. ولذلك أتى الكتاب العزيز في أدق موارده وأهونها نقضا بالمنع عن النقض بأصرح القول وأوضح البيان قال تعالى: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ [براءة: 5] والآيات كما يدل سياقها نزلت بعد فتح مكة وقد أذل الله رقاب المشركين، وأفنى قوتهم وأذهب شوكتهم، وهي تعزم على المسلمين أن يطهروا الأرض التي ملكوها وظهروا عليها من قذارة الشرك، وتهدر دماء المشركين من دون أي قيد وشرط إلا أن يؤمنوا، ومع ذلك تستثني قوما من المشركين بينهم وبين المسلمين عهد عدم التعرض، ولا تجيز للمسلمين أن يمسوهم بسوء حينما استضعفوا واستذلوا فلا مانع من ناحيتهم يمنع ولا دافع يدفع، كل ذلك احتراما للعهد ومراعاة لجانب التقوى.
9. نعم على ناقض العهد بعد عقده أن ينقض العهد الذي نقضه ويتلقى هباء باطلا، اعتداء عليه بمثل ما اعتدى به، قال تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ ـ إلى أن قال ـ ﴿لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾ [براءة: 12]، وقال تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ﴾ [البقرة: 194]، وقال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ﴾ [المائدة: 2]
10. وجملة الأمر أن الإسلام يرى حرمة العهد ووجوب الوفاء به على الإطلاق سواء انتفع به العاهد أو تضرر بعد ما أوثق الميثاق فإن رعاية جانب العدل الاجتماعي ألزم وأوجب من رعاية أي نفع خاص أو شخصي إلا أن ينقض أحد المتعاهدين عهده فللمتعاهد الآخر نقضه بمثل ما نقضه والاعتداء عليه بمثل ما اعتدى عليه، فإن في ذلك خروجا عن رقية الاستخدام والاستعلاء المذمومة التي ما نهض ناهض الدين إلا لإماطتها.
11. ولعمري إن ذلك أحد التعاليم العالية التي أتى بها دين الإسلام لهداية الناس إلى رعاية الفطرة الإنسانية في حكمها والتحفظ على العدل الاجتماعي الذي لا ينتظم سلك الاجتماع الإنساني إلا على أساسه وإماطة مظلمة الاستخدام والاستثمار، وقد صرح به الكتاب العزيز وسار به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في سيرته الشريفة، ولولا أن البحث بحث قرآني لذكرنا لك طرفا من قصصه عليه أفضل الصلاة والسلام في ذلك، وعليك بالرجوع إلى الكتب المؤلفة في سيرته وتاريخ حياته.
12. وإذا قايست بين ما جرت عليه سنة الإسلام من احترام العهد وما جرت عليه سنن الأمم المتمدنة وغير المتمدنة ولا سيما ما نسمعه ونشاهده كل يوم من معاملة الأمم القوية مع الضعيفة في معاهداتهم ومعاقداتهم وحفظها لها ما درت لهم أو استوجبته مصالح دولتهم ونقضها بما يسمى عذرا وجدت الفرق بين السنتين في رعاية الحق وخدمة الحقيقة.
13. ومن الحري بالدين ذاك وبسننهم ذلك فإنما هناك منطقان: منطق يقول: إن الحق تجب رعايته كيفما كان وفي رعايته منافع المجتمع، ومنطق يقول: إن منافع الأمة تجب رعايتها بأي وسيلة اتفقت وإن دحضت الحق، وأول المنطقين منطق الدين، وثانيهما منطق جميع السنن الاجتماعية الهمجية أو المتمدنة من السنن الاستبدادية والديموقراطية والشيوعية وغيرها.
14. وقد عرفت مع ذلك أن الإسلام في عزيمته في ذلك لا يقتصر على العهد المصطلح بل يعمم حكمه إلى كل ما بني عليه بناء ويوصي برعايته ولهذا البحث أذيال ستعثر عليها في مستقبل الكلام إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/158.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ تخصيص الذين آمنوا بالخطاب؛ لأنهم يبعثهم إيمانهم بالله ورسوله وكتابه واليوم الآخر وما فيه من الحساب والجزاء يبعثهم على امتثال أمر الله ونهيه، أو لأن إيمانهم حجة عليهم، من حيث أنهم قد وقع منهم الإيمان الذي يدلهم على وجوب الامتثال، ولعل هذا أقرب؛ لأنه أنسب لاختيار الموصول وصلته الفعلية ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ دون اسم الفاعل (أيها المؤمنون) في أكثر المواضع في القرآن الكريم.
2. ﴿أَوْفُوا﴾ أمرٌ من الوفاء وهو تطبيق ما سبق من العقود، العقود: جمع عَقدٍ ـ بفتح العين ـ وهو الكلام الموثق المستلزم لإلزام قائله حقاً، سواء كان عهداً أو عقداً من عقود المعاملات، أو قبولاً للتكليف من الله يفيد الالتزام بالطاعة، ومنه اليمين المعقودة، ولكنها خصت بالإذن بالكفارة، قال السيد عبد الله بن أحمد الشرفي في تفسيره (المصابيح): (قال إمامنا المنصور بالله القاسم بن محمد: دلت على انعقاد العقود كلها، وعلى وجوب الوفاء بها)، وقد جاء في بعضها الحث على الوفاء، نحو: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ﴾ [النحل:91] ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ﴾ [الإسراء:34] ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ [الإنسان:7] ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [المائدة:7] ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء:21]
3. لعل قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ مع عمومه لكل عقد جاء في أول السورة للحث على العمل بما فيها، من حيث أن الذين آمنوا قد التزموا بالطاعة.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/229.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تبدأ هذه السورة بتوجيه النداء إلى المؤمنين خاصة، لأنها تشتمل على الكثير من التشريعات التي تتوقف على صفة الإيمان التي تستلزم موقفا يتجاوز دائرة الالتزام الفكري المجرد، إلى دائرة العمل والممارسة والحركة.
2. وجاء النداء الأول أمرا بالوفاء بالعقود ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، إذا لا بدّ للمؤمن من تحمّل مسئولية التزاماته التعاقدية والتعاهدية التي لا يجوز له نقضها ولا الانحراف عنها، لأنّ المؤمن يرتكز في حياته الذاتية والاجتماعية على قاعدة ثابتة من العهود والمواثيق التي عاهد عليها الله من خلال ما ألزم به نفسه من السير على خط الإيمان وما يفرضه من احترام التعامل والتعاون مع الآخرين مما يعجل التزامه للآخرين امتدادا لالتزامه الإيماني أمام الله، وهذا ما يؤيدي إلى أن يكون الوفاء به طاعة لله بينما يكون الانحراف عنه معصية له، وذلك ما يجعل للمجتمع الإسلامي ميزته في تأكيد الثقة والاحترام والثبات والكلمة القوية التي تتحول إلى قانون يلزم صاحبها من موقع الطاعة لله، بعيدا عن كل قضايا الخوف والرجاء على مستوى الواقع المادي في حياة الناس.
3. وفي ضوء ذلك، يمكن أن يدخل هذا الالتزام في تكوين الشخصية الإسلامية، ليكون الالتزام بالكلمة والعهد هو المدلول الداخلي للإنسان المسلم، مما يجعل الآخرين الّذين يعيشون معه، في أمن وثقة على مصالحهم وقضاياهم وعلاقاتهم، وقد جاء عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله: (لا دين لمن لا عهد له) وفي نهج البلاغة عن الإمام علي عليه السّلام: (فإنّه ليس من فرائض الله شيء الناس أشدُّ عليه اجتماعا، مع تفرُّق أهوائهم وتشتت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم ـ دون المسلمين ـ لما استوبلوا(2) من عواقب الغدر)، وروي عنه أنّه قال: (إنّ الله تبارك وتعالى لا يقبل إلّا العمل الصالح، ولا يقبل الله إلّا الوفاء بالشروط والعهود)، وفي الرّواية عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام: (ثلاث لم يجعل الله عزّ وجلّ لأحد فيهنّ رخصة: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برّين كانا أو فاجرين)
4. وهذا من شأنه أن يركز العلاقات التعاقدية والتعاهديّة بين الناس على قاعدة العدل الاجتماعي، بدلا من معادلة موازين القوّة والضعف، بحيث يلتزم الإنسان بعقده وعهده إذا كان ضعيفا لا يملك التمرد على الطرف الآخر من العقد والعهد، ولا يلتزم إذا كان يملك قوّة المركز الاجتماعي والموقع السياسي والسلطة المالية، فالله سبحانه وتعالى يريد إخضاع مسألة العقود للإيمان والتقوى امتثالا لأمره بالوفاء، كما في هذه الآية، وبذلك يصبح العقد لا يقوم بطرفين فحسب هما العاقد والمعقود له، بل بثلاثة أطراف هما العاقد والمعقود له والله سبحانه وتعالى، باعتباره الطرف الممتثل لأمره من جهة، والمتحضر كشاهد ورقيب من جهة أخرى، مما يقوي أمر الوفاء، لأنّ المسؤوليّة مزدوجة: فمن جهة أمام المعقود له، ومن جهة ثانية أمام الله تعالى، وما يصح في العقود، يصح أيضا مع العهود لجهة حفظها ومراعاتها كما في قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 34]
5. وقد بلغ من درجة حضّ الله تعالى على حفظ العهود أنّه استثنى المعاهدين من المشركين من إعلان الحرب عليهم ما داموا ملتزمين بعهدهم، كما في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 4]، وذلك بالرغم من أنّ المسلمين كانوا ـ في ذلك الوقت ـ في موقع القوّة، بينما كان المشركون في موقع الضعف، من هنا يظهر لنا أنّه لا فرق بين المؤمن والكافر في الوفاء بالعهد، كما لا فرق في الوفاء بالعقد وضرورة الالتزام به في الخط الأخلاقي ضرر شخصي بفعل التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فلا يجوز نقض العهد، الأمر الذي يؤكد حرص الإسلام على قواعد الاستقرار الاجتماعي للنّاس كافة، واعتبارها من الأولويات الكبيرة في توجهاته الميدانيّة العامة.
6. هذا في الإطار العام، أمّا على صعيد الجانب التفسيري التطبيقي، فقد ذكر صاحب مجمع البيان أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنّ المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا فيها على النصرة والمؤازرة والمظاهرة على من حاول ظلمهم أو بغاهم سوءا، وذلك هو معنى الحلف وبذلك تكون الآية واردة لتحديد واقع عملي محدود في حياة الناس الّذين دخلوا الإسلام، وكانوا قد ارتبطوا بعهود أمنية مع الفئات الأخرى من قبائل وعوائل.. وربّما خيّل إليهم أن انفصالهم عن العقيدة الجاهلية يبرر لهم نقض تلك العهود فأراد الله أن يبين لهم أنّ الإسلام يؤكد الالتزام بالعقود حتى للكافرين، ما دامت سائرة على النهج الّذي لا يبتعد عن حدود الله.
ب. ثانيها: أنّها العهود الّتي أخذ الله، سبحانه، على عباده بالإيمان به وطاعته فيما أحل لهم أو حرّم عليهم ويؤيدون هذا القول، بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ إلى قوله: ﴿سُوءُ الدَّارِ﴾ [الرعد: 25] وعلى ضوء هذا القول تكون الآية دعوة تأكيدية للالتزام بخط الإيمان في علاقة الإنسان بالحياة وبالمفاهيم التشريعية في شؤونه العلمية، سواء تلك المتعلقة بنفسه أو تلك المتعلّقة بالآخرين.
ج. ثالثها: أنّ المراد بها العقود الّتي يتعاقدها النّاس بينهم ويعقدها المرء على نفسه كعقد الإيمان وعقد النكاح وعقد العهد وعقد البيع وعقد الحلف فتكون الآية واردة للأمر بالوفاء بالالتزامات العقدية، في العلاقات والمعاملات الحياتية فيما بين النّاس.
د. رابعها: أنّ ذلك أمر من الله لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق نبيّنا صلى الله عليه واله وسلم وما جاء به من عند الله، وبذلك يكون المراد بالّذين آمنوا أهل الكتاب في مقابل المشركين والملحدين، وهذا بعيد عن المصطلح القرآني وما نلاحظه على هذه الأقوال، أنّها عبارة عن اجتهاد ذاتي في استنطاق الآيات الّتي جاء فيها حضُّ على عدم نقض العهود بما جعلهم يفسرون الآية موضوع الحديث بالخصوصيات الموجودة في تلك الآيات.
7. وهذا التخصيص لعموم الآية الشامل لجميع العقود لا وجه له بمقتضى دلالة الجمع المعرف باللام على ذلك، لذا قد تكون واردة على سبيل القاعدة العامة الّتي تشمل كل عقد، ويبقى ـ بعد ذلك ـ التدقيق في المراد من لفظ العقد، هل يشمل العهود الّتي يلزم بها الإنسان نفسه كما في الأيمان والنذور والعهود الذاتية، أو الإيمان الّذي يمثل عهدا يعاهد به الإنسان ربه على العبودية والطاعة، أو يختص بالعهد القائم بين اثنين فيما يعبر عنه بالتعاقد؟ قد نستوحي من التفسير اللغوي للكلمة بأنّ العقد هو العهد المؤكّد، إذ إنّ خصوصيّة التبادل في العهد القائم على المقابلة في الالتزام، والربط بين الالتزامين الّذي يتمثل في التعاقد المتعارف، لا يمثّل إلّا نموذجا من نماذج التأكيد والاستيثاق لذا لا مانع من أن يكون لدينا نموذج آخر لا يقل عنه في التأكيد والتشديد، بل ربّما يزيد عليه من خلال إحساس الإنسان بنتائجه السلبيّة والإيجابيّة، وهو الالتزام الإيماني الّذي يواجه به ربه، ليمتد في جميع جوانب حياته من خلال امتداده في فكره وشعوره وعمله أو العهد الذاتي الّذي يعاهد به الله في قضية فرعية عامة أو خاصة فيما يمثله اليمين والنذر والعهد، وبذلك تكون الكلمة شاملة لذلك بمدلولها اللفظي.
8. وقد يثير البعض ـ في هذا المجال ـ مسألة اتخاذ الكلمة مدلولا خاصا يتمثل بالتعاقد المتعارف بين اثنين وابتعدت عن المعنى اللغوي الشامل في المفهوم العرفي، فلا يمكن الانطلاق منها في المعنى الشامل الّذى يشمل كل الموارد المذكورة، ولكننا لا نجد كبير فائدة في تحقيق ذلك، لأنّ الأمر بالوفاء بالعهد في غير موارد التعاقد، قد جاءت به الآيات الكثيرة الّتي يمكن الاعتماد عليها في هذا الحكم، فلا حاجة بنا إلى استفادته من هذه الآية، وقد نستطيع استفادة بطريقة الاستيحاء بالفحوى، لأنّ الله إذا اعتبر العهد الّذي يلزم به الإنسان نفسه في مقابل شخص عهدا مؤكدا يستلزم الوفاء، فلا مندوحة من أن العهد الذي يلزم به الإنسان نفسه اتجاه ربه يصبح أكثر تأكيدا من خلال نوعية المسؤولية المترتبة على ذلك، وقد يمكن لنا ـ من ناحية أخرى ـ اعتبار الإيمان بلحاظ التزاماته العامة والخاصة، أمرا تعاقديا بين العبد وربه فيما توحيه الآية الكريمة الّتي خاطب الله بها بني إسرائيل بقوله: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: 40]، بأنّ هناك عقدا بين الله والإنسان يتقابل فيه الإيمان بنتائجه، وبذلك يدخل الالتزام الإيماني في مدلول الكلمة، بطريقة أو بأخرى.
9. هناك نقطة أخرى في هذه الآية أثارها الفقهاء، وهي قضية حرية التعاقد في الشريعة الإسلامية، فهل للإسلام عقود محدّدة، وأساليب خاصة للتعامل، ولا يجوز بالتالي، العدول عنها إلى غيرها، كما لا يجوز استحداث أشياء جديدة بعيدا عنها، أم أنّ الإسلام أعطى الإنسان حرية التحرك مع ما ينسجم وحاجاته المتطورة بحيث يجوز له استحداث أساليب تعامل جديدة، سواء فيما يتعلق بخصوصيات المعاملات في ذاتها، أو في أسلوب ممارستها؟
أ. ذهب بعضهم إلى الرأي الأول انطلاقا من أنّ هذه الآية واردة في معرض الإمضاء للعقود المتعارفة في العهد الأول للإسلام، فلا بدّ للعقود المستحدثة من تشريع جديد، تماما كما هو الرأي في اعتبارها واردة للحديث عن عهود أهل الجاهلية، إذ كلا الرأيين ينطلقان من نظرة الآية إلى الواقع، لا إلى المبدأ.
ب. وذهب بعضهم إلى الرأي الثاني انطلاقا من أنّ العموم في الآية يدل على شمولها لكل عقد سواء كان من العقود المتعارفة لدى النّاس في العصور السابقة أو من العقود المستحدثة في المعاملات الحاضرة، أو كان من العقود التي يحتاج النّاس إلى استحداثها في المستقبل وليس هناك أي وجه لتخصيص ذلك بما ذكر، لأنّ الجانب الإمضائي الّذي يتحدّث عنه الرأي الأوّل، لا يملك دليلا مخصصا بل قد يذهب البعض إلى أبعد من ذلك، فيرى أنّ الله ترك للنّاس أمر التعامل، فلم يشرع لهم فيه شريعة خاصة من حيث الشكل والمضمون، بل كل ما هناك أنّه وضع قواعد عامّة للأسس الّتي ينبغي لهم أن يسيروا عليها في ممارستهم أو استحداثهم، فمن أخذ بهذه القواعد، كان له أن يمارس حريته في التعامل كيف شاء وبالطريقة الّتي تناسبه، ونحن نميل إلى هذا الرأي، وبذلك نجد أنّ ما يستحدثه من عقود جديدة اقتضتها التطورات الحياتية للعلاقات والحاجات الاقتصادية لا يحتاج في شرعيته إلى نصوص خاصة، أو إلى إدخاله تحت عناوين شرعية مما كان متعارفا من أساليب التعامل السابقة، فإنّ الآية كافية في إثبات ذلك، وعلى ضوء هذا، يمكن لنا أن نقرر أن حرية التعاقد في الشريعة الإسلامية مقيدة بالمبادئ العامة للإسلام الراسمة لحدود الحلال والحرام، في تشريعه وتطبيقه، والله العالم.
__________
(1) من وحى القرآن: 8/12.
(2) استوبلوا: ما نالهم من الوبال
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تدل الروايات الإسلامية وأقوال المفسّرين على أنّ هذه السورة هي آخر سورة أو من السور الأخيرة التي نزلت على النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد تمّ التأكيد في هذه السورة ـ لما تمتاز به من موقع خاص ـ على مجموعة من المفاهيم الإسلامية، وعلى آخر البرامج والمشاريع الدينية، وقضية قيادة الأمّة وخلافة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد يكون هذا هو السبب في استهلال سورة المائدة بقضية الإلزام بالوفاء بالعهد والميثاق، حيث تقول الآية في أوّل جملة لها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ وذلك لكي تلزم المؤمنين بالوفاء بعهودهم التي عقدوها في الماضي مع الله أو تلك التي أشارت إليها هذه السورة، ويأتي هذا التأكيد على غرار ما يفعله المسافر في اللحظات الأخيرة، من الوداع مع أهله وأقاربه وأنصاره حيث يؤكّد عليهم أن لا ينسوا وصاياه ونصائحه، وأن يوفوا بالعهود والمواثيق التي عقدوها معه.
2. يجب الالتفات إلى أنّ كلمة (عقود) هي صيغة جمع من (عقد) التي تعني في الأصل شد أطراف شيء معين ببعضها شدا محكما، ومن هنا يسمّى شد طرفي الحبل أو شد حبلين ببعضهما (عقدا)، بعد ذلك تنتقل الآية من هذا المعنى المحسوس إلى المفهوم المعنوي فتسمّي كلّ عهد أو ميثاق عقدا، لكن بعض المفسّرين ـ قالوا بأنّ كلمة (عقد) مفهوم أضيق من العهد، لأن كلمة العقد تطلق على العهود المحكمة إحكاما كافيا، ولا تطلق على كل العهود، وإذا وردت في بعض الروايات أو في عبارات المفسّرين كلمتا العقد والعهد للدلالة على معنى واحد فذلك لا ينافي ما قلناه، لأنّ المقصود في هذه الروايات أو العبارات هو التّفسير الإجمالي لهاتين الكلمتين لا بيان جزئياتهما.
3. ونظرا لأنّ كلمة العقود هي صيغة جمع دخلت عليها الألف واللام للدلالة على الاستغراق، والجملة التي وردت فيها هذه الكلمة جملة مطلقة أيضا إطلاقا تاما، لذلك فإن الآية الكريمة تعتبر دليلا على وجوب الوفاء بجميع العهود التي تعقد بين أفراد البشر بعضهم مع البعض الآخر، أو تلك العهود التي تعقد مع الله سبحانه وتعالى عقدا محكما، وبذلك تشمل هذه الآية جميع العهود والمواثيق الإلهية والإنسانية والاتفاقيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتجارية، وعقود الزواج، وأمثال ذلك، ولها مفهوم واسع يطوي بين جنبيه جميع جوانب حياة الإنسان العقائدية والعملية، ويشمل العهود الفطرية والتوحيدية وحتى العهود التي يعقدها الناس فيما بينهم على مختلف قضايا الحياة.
4. جاء في تفسير (روح المعاني) عن (الراغب الأصفهاني) أنّ العقد ـ نظرا لطرفيه ينقسم إلى ثلاثة أنواع، فأحيانا يكون عقدا بين العبد وربّه، وطورا بين الفرد ونفسه، وحينا بين الفرد ونظائره من سائر أفراد البشر، وطبيعي أن لكل من هذه الأنواع الثلاثة من العقود طرفين، وغاية الأمر أنّ الإنسان حين يتعاقد مع نفسه يفترض هذه النفس بمثابة الشخص الثّاني، أو الطرف الآخر من العقد، وعلى أي حال، فإنّ مفهوم هذه الآية ـ لسعته ـ يشمل حتى تلك العقود والعهود التي يقيمها المسلمون مع غير المسلمين.
5. هناك عدّة أمور في هذه الآية يجب الانتباه إليها وهي:
أ. تعتبر هذه الآية من الآيات التي تستدل بها جميع كتب الفقه، في البحوث الخاصّة بالحقوق الإسلامية وتستخلص منها قاعدة فقهية مهمة هي (أصالة اللزوم في العقود) أي أنّ كل عقد أو عهد يقام بين اثنين حول أشياء أو أعمال يكون لازم التنفيذ، ويعتقد جمع من الباحثين أنّ أنواع المعاملات والشركات والاتفاقيات الموجودة في عصرنا الحاضر، والتي لم يكن لها وجود في السابق، أو التي ستوجد بين العقلاء في المستقبل، والتي تقوم على أسس ومقاييس صحيحة ـ تدخل ضمن هذه القاعدة، حيث تؤكّد هذه الآية صحتها جميعا (وطبيعي أن الضوابط الكلية التي أقرّها الإسلام للعقود والعهود يجب أن تراعى في هذا المجال)، والاستدلال بهذه الآية كقاعدة فقهية ليس معناه أنّها لا تشمل العهود الإلهية المعقودة بين البشر وبين الله تعالى، أو القضايا الخاصّة بالقيادة والزعامة الإسلامية التي أخذ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم العهد والميثاق فيها من الأمّة، بل إنّ للآية مفهوما واسعا يشمل جميع هذه الأمور، وتجدر الإشارة هنا إلى أن حقيقة العهد والميثاق ذات طرفين، ولزوم الوفاء بالعهد يبقى ساريا ما دام لم يقم أحد من المتعاقدين بنقض العهد، ولو نقض أحد الطرفين العقد لم يكن الطرف الثّاني عند ذلك ملزما بالوفاء بالعهد إذ يخرج العهد بهذا النقض من حقيقة العهد والميثاق.
ب. إنّ قضية الوفاء بالعهد والميثاق التي تطرحها الآية الكريمة تعتبر واحدا من أهم مستلزمات الحياة الاجتماعية، إذ بدونها لا يتمّ أي نوع من التعاون والتكافل الاجتماعي، وإذا فقد نوع البشر هذه الخصلة فقدوا بذلك حياتهم الاجتماعية وآثارها أيضا، ولهذا تؤكد مصادر التشريع الإسلامي بشكل لا مثيل له ـ على قضية الوفاء بالعهود التي قد تكون من القضايا النوادر التي تمتاز بهذا النوع من السعة والشمولية، لأنّ الوفاء لو انعدم بين أبناء المجتمع الواحد لظهرت الفوضى وعم الاضطراب فيه وزالت الثقة العامّة، وزوال الثقة يعتبر من أكبر وأخطر الكوارث، قد ورد في نهج البلاغة من قول علي بن أبي طالب عليه السّلام لمالك الأشتر ما يلي: (فإنّه ليس من فرائض الله شيء للناس أشدّ عليه اجتماعا ـ مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم ـ من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم ـ دون المسلمين ـ لما استوبلوا من عواقب الغدر)، وجملة (لما استوبلوا من عواقب الغدر) معناها: لما نالهم من وبال من عواقب الغدر،و ينقل عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام أنّه قال: (إنّ الله لا يقبل إلّا العمل الصالح، ولا يقبل الله إلّا الوفاء بالشروط والعهود)، ونقل عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (لا دين لمن لا عهد له)، والتأكيدات الشديدة هذه كلها تدل على أنّ موضوع الوفاء بالعهد لا فرق في الالتزام به بين إنسان وإنسان آخر ـ سواء كان مسلما أو غير مسلم ـ وهو ـ كما يصطلح عليه ـ يعتبر من حقوق الإنسان بصورة عامّة، وليس ـ فقط ـ من حقوق أنصار الدين الواحد، وفي حديث عن الإمام الصّادق عليه السّلام أنّه قال: (ثلاث لم يجعل الله عزّ وجلّ لأحد فيهنّ رخصة: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين!)، نقل عن الإمام علي عليه السّلام بأن العهد حتى لو كان بالإشارة يجب الوفاء به، وذلك في قوله: (إذا أومى أحد من المسلمين أو أشار إلى أحد من المشركين، فنزل على ذلك فهو في أمان)
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/569.
2. الأنعام والحل والحرمة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈2⌉ من سورة المائدة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: 1]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّ نافع بن الأزرق قال: له: أخبرني عن قوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾، قال: يعني: الإبل والبقر والغنم، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الأعشى وهو يقول(1):
çأهل القباب الحمر والنـ … ـنعم المؤبل والقنابلé
2. روي أنّه أخذ بذنب الجنين، فقال: هذا من بهيمة الأنعام التي أحلت لكم(2).
3. روي أنّه قال في قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾، قال: ﴿الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ [المائدة: ٣] إلى آخر الآية، فهذا ما حرم الله من بهيمة الأنعام(3).
4. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾، قال: الخنزير(4).
__________
(1) الطستيُّ في مسائل نافع بن الأزرق ص ١٩٨.
(2) سفيان الثوري، ص ٩٩.
(3) ابن جرير ٨/١٦.
(4) ابن جرير ٨/١٧.
ابن عمر:
روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) أنّه قال: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ ما في بطونها، قيل له: إن خرج ميتا آكله؟ قال: نعم؛ هو بمنزلة رئتها، وكبدها(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/١٣.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال في قوله: ﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾: هي الأنعام(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/١٣.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: هي الأجنة التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت أو نحرت(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي ٤/٧.
مجاهد:
سئل مجاهد (ت 104 هـ) عن القرد: أيؤكل لحمه؟ فقال: ليس من بهيمة الأنعام(1).
__________
(1) عبد الرزاق (٨٧٤٥.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾، الإبل، والبقر، والغنم(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/١٢.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ فقال: الجنين في بطن امه، إذا أشعر وأوبر، فذكاته ذكاة امه، فذلك الذي عنى الله تعالى(1).
2. روي أنّه قال في قول الله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾: هو الذي في البطن تذبح امه فيكون في بطنها(2).
3. روي أنّه قال: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ هي الأجنة التي في بطون الأنعام، وقد كان الإمام علي يأمر ببيع الأجنة(2).
4. روي أنّه قال: إن الإمام علي سئل عن أكل لحم الفيل والدب والقرد، فقال: ليس هذا من بهيمة الأنعام التي تؤكل(3).
5. روي أنّه قال: المراد بذلك أجنة الأنعام التي تؤخذ من بطون أمهاتها إذا أشعرت، وقد ذكيت الأمهات ـ وهي حية ـ فذكاتها ذكاة أمهاتها(4).
__________
(1) التهذيب 9/58.
(2) تفسير العيّاشي 1/289.
(3) تفسير العيّاشي 1/290.
(4) مجمع البيان 3/234.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾، الأنعام كلها(1).
__________
(1) عبد الرزاق ١/١٨١.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ﴾ يريد به الإبل، والبقر، والغنم)(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 125.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾: وحشيها، وهي الظباء، وبقر الوحش(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي ٤/٧.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾: الجنين في بطن امه، إذا أشعر وأوبر، فذكاة امه ذكاته(1).
2. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ فقال: البهيمة ها هنا: الولي، والأنعام: المؤمنون) (1).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/290.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾، يعني: أحل لكم أكل لحوم الأنعام؛ الإبل، والبقر، والغنم، والصيد كله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾، يعني: غير ما نهى الله عز وجل عن أكله مما حرم الله عز وجل؛ من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٤٨.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾، هي البهائم التي أجاز الله أكلها، وأحل لخلقه لحومها، وأنعم على البرية بها، وهي: الإبل، والبقر، والغنم، وغير ذلك، مثل: الظباء، وبقر الوحش، والوعل، وما أشبه ذلك من بهيمة الأنعام.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/286.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾:
أ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هي الوحوش، وهو قول الفراء؛ ألا ترى أنه قال: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾!؟
ب. وقال الحسن: هي الإبل والبقر والغنم.
ج. وقال آخرون: البهيمة: كل مركوب.
د. لكن عندنا: كل مأكول من الغنم، والوحش، والصيد، وغيره، وإن لم يذكر، دليله، ما استثنى: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾؛ كأنه قال أحلت لكم بهيمة الأنعام والصيد إلا ما يتلى عليكم من ﴿الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ الآية، ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾
2. ويحتمل ﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ الثمانية الأزواج التي ذكرها في سورة الأنعام: ﴿مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ.. إلى آخر ما ذكر.
3. والآية تدل على أن الذي أحل من البهائم ـ الأنعام منها ـ ثمانية؛ دل عليه قوله: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ ثم قال: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾؛ ففصل بين الأنعام وبين الخيل والبغال والحمير؛ فالخيل والبغال والحمير، خلقها للركوب، والأنعام للأكل.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٣٧.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾، أي أبيحت وأطلقت لكم بهائم الأنعام، والعرب تسمي الجماعة بالواحد، قال الشاعر: (تمنيت والإنسان لا يترك المنى).. وإنما أراد: والناس لا يتركون المنى، وقول الله أصدق من قول الشاعر إذ يقول: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾، ويقول: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾، ويقول: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، ويقول: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ الآية، وهذا كثير في القرآن.
2. معنى قوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ يريد إلا ما يقص عليكم ويخبركم به من الحرام، فكل بهائم الأنعام يحل إلا ما قص تحريمه.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/214.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ أي الأنعام كلها وهي الإبل والبقر والغنم ويدخل فيها الظبى وبقر الوحش لا يدخل فيها الحافر لأنه مأخوذ من تعمد الوطي.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/202.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنها الأنعام كلها، وهي الإِبل، والبقر، الغنم، وهذا قول قتادة، والسدي.
ب. الثاني: أنها أجنة الأنعام التي توجد ميتة في بطون أمهاتها، إذا نحرت أو ذبحت، وهذا قول ابن عباس، وابن عمر.
ج. الثالث: أن بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء وبقر الوحش، ولا يدخل فيها الحافر، لأنه مأخوذ من نعمة الوطء.
__________
(1) تفسير الماوردي: ٢/٧.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ اختلفوا في تأويل بهيمة الانعام في هذه الآية:
أ. فقال قوم: هي الانعام كلها: الإبل والبقر، والغنم، ذهب إليه الحسن وقتادة والسدي والربيع والضحاك.
ب. وقال آخرون: أراد بذلك اجنة الأنعام التي توجد في بطون أمهاتها إذا ذكيت الأمهات، وهي ميتة، ذهب إليه ابن عمر وابن عباس، وهو المروي عن أبي عبد الله.
2. الأولى: حمل الآية على عمومها في الجميع.
3. والانعام جمع نعم، وهو اسم للإبل، والبقر والغنم خاصة عند العرب كما قال تعالى: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ ثم قال: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ ففضل جنس النعم من غيرها من أجناس الحيوان.
4. وأما بهائمها فإنها أولادها، وقال الفراء بهيمة الانعام: وحشها كالظباء، وبقر الوحش، والحمر الوحشية، وإنما سميت بهيمة الانعام، لأن كل حي لا يميز، فهو بهيمة الانعام، لأنه أبهم عن ان يميز.
5. اختلفوا في المراد بقوله: ﴿إلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾:
أ. فقال بعضهم: أراد بذلك أحلت لكم أولاد الإبل، والبقر والغنم إلا ما بين الله تعالى فيما يتلى عليكم بقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾ الآية) ذهب إليه مجاهد وقتادة وقال: الميتة، وما لم يذكر اسم الله عليه، وبه قال السدي وابن عباس.
ب. وقال آخرون: استثنى من ذلك الخنزير روي ذلك أيضاً عن ابن عباس، والضحاك.
6. الاول أقوى، لأن قوله: ﴿إلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ يجب حمله على عمومه في جميع ما حرم الله تعالى في كتابه، والذي حرمه هو ما ذكره في قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أهل لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ إلى آخر الآية، والخنزير وإن كان محرماً، فليس من بهيمة الانعام، فمتى حملناه عليه كان الاستثناء منقطعاً، ومتى خصصنا بالميتة والدم، كان الاستثناء متصلا، وإن حملناه على الكل تكون علينا حكم الميتة وما ذكر بعده، فيكون الاستثناء أيضاً حقيقة ومتصلا، واختار الطبري تخصيصه بالميتة والدم، وما أهل لغير الله به، قال الحسين ابن علي المغربي إلا ما يتلى معناه من البحيرة والسائبة والوصيلة فلا تكون المحرم، واستثنى ها هنا ما حرمه تعالى فلا يليق بذلك.
7. (ما) في قوله: ﴿إلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ في موضع نصب بالاستثناء، وقال الفراء يجوز أن يكون موضعها الرفع، كما تقول جاءني القوم، إلا زيداً وإلا زيد قال الزجاج: وهذا لا يجوز إلا أن تكون إلا بمعنى غير، فتكون صفة، فأما بمعنى الاستثناء، فلا يجوز.
8. قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ذكاة الجنين ذكاة امه عندنا)، معناه انه إذا ذكيت الام وخرج الولد ميتاً، قد اشعرا وأوبر، جاز أكله، وبه قال الشافعي وأهل المدينة وقال أبو حنيفة: معناه انه يذكى كما تذكى امه وهو اختيار البلخي.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/416.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. البهيمة والأنعام واحد، وإنما ذكر لاختلاف اللفظين، وسميت بهيمة؛ لأنها. (2).
أبهت عن أن تميز، من قولهم: هذا أمر مبهم لا مأتى له، والبَهْمُ: صغار الغنم.
وقيل: كل حي لا يميز، وهو بهيمة، وأبهمت الشيء والأنعام في الأصل جمع نَعَمٍ، وهو الإبل، ثم يستعمل في البقر والغنم.
ب. التلاوة: القراءة، وأصله من قوله: تلوت الرجل: إذا تبعته تلوًا، وتلوت القرآن تلاوة.
2. ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ﴾ قيل: أحل لكم أكلها وذبحها والانتفاع بها ﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾:
أ. قيل: الإبل والبقر والغنم، عن الحسن وقتادة والربيع والضحاك والسدي.
ب. وقيل: تدخل فيه الضباء وبقر الوحش لأنها بهيمة، وتقدير الكلام: أحلت لكم البهيمة التي هي الأنعام، كما يقال: نفس الإنسان ومسجد الجامع وصلاة الأولى.
ج. وقيل: هي أَجِنَّةُ الأنعام، عن الشعبي، وروي عن ابن عباس أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس جنينها وقال: هذا من بهيمة الأنعام، وعن ابن عمر أنها أجنة الأنعام، وذكاته ذكاة أمه.
3. ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾:
أ. يعني إلا ما يقرأ عليكم تحريمه في القرآن في قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ الآية، عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي وأبي مسلم.
ب. وقيل: إلا ما يتلى عليكم من أكل الصيد وأنتم حرم، عن أبي علي.
4. تدل الآية الكريمة على:
أ. يدل قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ على تحليل أكله؛ ولذلك استثنى منه المأكول، وقد اختلفوا فيما علق به التحريم والتحليل، هل هو من المجمل المحتاج إلى بيان، أو من المبين؟ وكان شيخنا أبو الحسن يقول: إنه مجمل لوجهين:
• أحدهما: أن ما علق به التحليل والتحريم غير مراد.
• ثانيها: أن معناه يختلف فقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ المراد منه غير المراد بقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ وغيره، يقول: إنه مبين لأنه بالعرف علم أن التحريم تعلق بهذا في كل موضع، فيمكن العمل بظاهره.
ب. أن في الأنعام حلالاً وحرامًا لذلك قال: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾، ولا شبهة أن التحليل مشروط بالذكاة بإجماع الأمة، وإذا أباح الذكاة لا بد أن يتضمن العوض للبهائم، وإلا كان ظلمًا فصارت الآية دالة على أنه يعوض البهيمة، وقد حكى الشيخ أبو علي عن قوم أنهم علقوا الإباحة بالوفاء بالعقود، وأجاب بأن تقدير الكلام: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، ويا أيها الَّذِينَ آمنوا أحلت لكم بهيمة الأنعام، فلا يصح جعل الأول شرطا في الثاني، وذكر أبو علي أن جميع ما أحل من ذلك، فهو حلال للمؤمنين، ولأهل الكتاب، وأنكره علي بن عيسى، والصحيح هو الأول.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/175.
(2) التهذيب في التفسير: 3/176.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. البهيمة: اسم لكل ذي أربع من دواب البر والبحر، وقال الزجاج: كل حي لا يميز فهو بهيمة، وإنما سميت بهيمة، لأنها أبهمت عن أن يميز.
2. ابتدأ سبحانه كلاما آخر فقال: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ واختلف في تأويله على أقوال:
أ. أحدها: إن المراد به الانعام، وإنما ذكر البهيمة للتأكيد كما يقال: نفس الإنسان، فمعناه أحلت لكم الانعام: الإبل، والبقر، والغنم، عن الحسن، وقتادة، والسدي، والربيع، والضحاك.
ب. ثانيها: إن المراد بذلك، أجنة الانعام التي توجد في بطون أمهاتها، إذا شعرت، وقد ذكيت الأمهات، وهي ميتة، فذكاتها ذكاة أمهاتها، عن ابن عباس، وابن عمر، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام.
ج. ثالثها: إن بهيمة الأنعام: وحشيها كالظباء، وبقر الوحش، وحمر الوحش، عن الكلبي، والفراء.
د. الأولى: حمل الآية على الجميع.
3. ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾، معناه: إلا ما يقرأ عليكم تحريمه في القرآن، وهو قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾ الآية، عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والسدي.
4. موضع ﴿مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾: نصب بالاستثناء، وقال الفراء: يجوز أن يكون ﴿مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ في موضع رفع، كما يقال: جاء اخوتك إلا زيد، وقال الزجاج: وهذا عند البصريين باطل، لان المعنى على هذا التأويل: جاء اخوتك وزيد، كأنه يعطف بإلا، كما يعطف بلا، ويجوز عند البصريين جاء الرجل إلا زيد، على معنى جاء الرجل غير زيد، فيكون إلا زيد صفة للنكرة، أو ما قارب النكرة من الأجناس.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/231.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ في بهيمة الأنعام ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنها أجنّة الأنعام التي توجد ميتة في بطون أمّهاتها إذا ذبحت الأمّهات، قاله ابن عمر، وابن عباس.
ب. الثاني: أنها الإبل، والبقر، والغنم، قاله الحسن، وقتادة، والسّدّي، وقال الرّبيع: هي الأنعام كلّها، وقال ابن قتيبة: هي الإبل، والبقر، والغنم، والوحوش كلّها.
ج. الثالث: أنها وحش الأنعام كالظّباء، وبقر الوحش، روي عن ابن عباس، وأبي صالح، وقال الفرّاء: بهيمة الأنعام: بقر الوحش، والظّباء، والحمر الوحشيّة، قال الزجّاج: وإنّما قيل لها بهيمة، لأنها أبهمت عن أن تميّز، وكلّ حيّ لا يميّز فهو بهيمة.
2. ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾، روي عن ابن عباس أنه قال هي الميتة وسائر ما في القرآن تحريمه، وقال ابن الأنباريّ: المتلو علينا من المحظور الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/507.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
لما قرر الله تعالى بالآية الأولى على جميع المكلفين أنه يلزمهم الانقياد لجميع تكاليف الله تعالى، وذلك كالأصل الكلي والقاعدة الجميلة، شرع بعد ذلك في ذكر التكاليف المفصلة، فبدأ بذكر ما يحل وما يحرم من المطعومات فقال: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾
1. كل حي لا عقل له فهو بهيمة، من قولهم: استبهم الأمر على فلان إذا أشكل، وهذا باب مبهم أي مسدود الطريق، ثم اختص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم، قال تعالى: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ إلى قوله: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ﴾ [النحل: 5ـ 8] ففرق تعالى بين الأنعام وبين الخيل والبغال والحمير، وقال تعالى: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾ [يس: 71، 72]، وقال: ﴿وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ﴾ إلى قوله: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ﴾ وإلى قوله: ﴿وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ﴾ [الأنعام: 142ـ 144] قال الواحدي: ولا يدخل في اسم الأنعام الحافر لأنه مأخوذ من نعومة الوطء.
2. سؤال وإشكال: في لفظ الآية سؤالات: الأول: أن البهيمة اسم الجنس، والأنعام اسم النوع فقوله بهيمة الأنعام يجري مجرى قول القائل: فقوله: ﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ يجري مجرى قول القائل: حيوان الإنسان وهو مستدرك، والثاني: أنه لو قال الله تعالى أحلت لكم الأنعام، لكان الكلام تاما بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى ﴿وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ [الحج: 30] فأي فائدة في زيادة لفظ البهيمة في هذه الآية؟ زالثالث: أنه ذكر لفظ البهيمة بلفظ الوحدان، ولفظ الأنعام بلفظ الجمع، فما الفائدة فيه؟ والجواب: من وجهين:
أ. الأول: أن المراد بالبهيمة وبالأنعام شيء واحد، وإضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان، وهذه الإضافة بمعنى من كخاتم فضة، ومعناه البهيمة من الأنعام أو للتأكيد كقولنا: نفس الشيء وذاته وعينه.
ب. الثاني: أن المراد بالبهيمة شيء، وبالأنعام شيء آخر وعلى هذا التقدير ففيه وجهان:
• الأول: أن المراد من بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها، كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب، فأضيفت إلى الأنعام لحصول المشابهة.
• الثاني: أن المراد ببهيمة الأنعام أجنة الأنعام، روي عن ابن عباس أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنبها وقال: هذا من بهيمة الأنعام، وعن ابن عمر أنها أجنة الأنعام، وذكاته ذكاة أمه، وهذا الوجه يدل على صحة مذهب الشافعي في أن الجنين مذكى بذكاة الأم.
3. سؤال وإشكال: قالت الثنوية: ذبح الحيوانات إيلام، والإيلام قبيح، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم، فيمتنع أن يكون الذبح حلالا مباحا بحكم الله، قالوا: والذي يحقق ذلك أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة عن الدفع عن أنفسها، ولا لها لسان تحتج على من قصد إيلامها، والإيلام قبيح إلا أن إيلام من بلغ في العجز والحيرة إلى هذا الحد أقبح، والجواب:
أ. إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقا بجناية ولا ملحقا بعوض، وهاهنا الله سبحانه يعوض هذه الحيوانات في الآخرة بأعواض شريفة، وحينئذ يخرج هذا الذبح عن أن يكون ظلما، قالوا: والذي يدل على صحة ما قلناه ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل ألم الفصد والحجامة لطلب الصحة، فإذا حسن تحمل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة، فكذلك القول في الذبح.
ب. وقال أصحابنا (2): إن الاذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه، والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه، والمسألة طويلة مذكورة في علم الأصول والله أعلم.
4. قوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ مجمل، لأن الإحلال إنما يضاف إلى الأفعال، وهاهنا أضيف إلى الذات فتعذر إجراؤه على ظاهره فلا بدّ من إضمار فعل، وليس إضمار بعض الأفعال أولى من بعض، فيحتمل أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو لحمها، أو المراد إحلال الانتفاع بالأكل، ولا شك أن اللفظ محتمل للكل فصارت الآية مجملة، إلا أن قوله تعالى: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [النحل: 5] دل على أن المراد بقوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ إباحة الانتفاع بها من كل هذه الوجوه.
5. لما ذكر الله تعالى قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ ألحق به نوعين من الاستثناء:
أ. الأول: قوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ وظاهر هذا الاستثناء مجمل، واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملا أيضا، إلا أن المفسرين أجمعوا على أن المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هذه الآية وهو قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ [المائدة: 3] ووجه هذا أن قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه فبيّن الله تعالى أنها إن كانت ميتة، أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو افترسها السبع أو ذبحت على غير اسم الله تعالى فهي محرمة.
ب. الثاني: من الاستثناء قوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾
__________
(1) التفسير الكبير: 11/278.
(2) يقصد أهل السنة، والأشاعرة خصوصا
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ الخطاب لكل من التزم الإيمان على وجهه وكماله، وكانت للعرب سنن في الأنعام من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، يأتي بيانها، فنزلت هذه الآية رافعة لتلك الأوهام الخيالية، والآراء الفاسدة الباطلية.
2. اختلف في معنى ﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ والبهيمة اسم لكل ذي أربع، سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها، ومنه باب مبهم أي مغلق، وليل بهيم، وبهمة للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له.
3. و﴿الْأَنْعَامُ﴾:
أ. الإبل والبقر والغنم، سميت بذلك للين مشيها، قال الله تعالى: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ﴾ [النحل] إلى قوله: ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ﴾ [النحل]، وقال تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا﴾ [الانعام] يعني كبارا وصغارا، ثم بينها فقال: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الانعام] إلى قوله: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ [البقرة]، وقال تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا﴾ [النحل] يعني الغنم ﴿وَأَوْبَارِهَا﴾ يعني الإبل ﴿وَأَشْعَارِهَا﴾ يعني المعز، فهذه ثلاثة أدلة تنبئ عن تضمن اسم الأنعام لهذه الأجناس، الإبل والبقر والغنم، وهو قول ابن عباس والحسن، قال الهروي: وإذا قيل النعم فهو الإبل خاصة.
ب. وقال الطبري: وقال قوم ﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر وغير ذلك، وذكره غير الطبري عن السدي والربيع وقتادة والضحاك، كأنه قال: أحلت لكم الأنعام، فأضيف الجنس إلى أخص منه، قال ابن عطية: (وهذا قول حسن، وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج، وما انضاف إليها من سائر الحيوان يقال له أنعام بمجموعه معها، وكأن المفترس كالأسد وكل ذي ناب خارج عن حد الأنعام، فبهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع)، فعلى هذا يدخل فيها ذوات الحوافر لأنها راعية غير مفترسة وليس كذلك، لأن الله تعالى قال: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ﴾ [النحل] ثم عطف عليها قوله: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ﴾ [النحل] فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام دل على أنها ليست منها، والله أعلم وقيل: ﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ ما لم يكن صيدا، لأن الصيد يسمى وحشا لا بهيمة، وهذا راجع إلى القول الأول.
ج. وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: ﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ الأجنة التي تخرج عند الذبح من بطون الأمهات، فهي تؤكل دون ذكاة، وقاله ابن عباس وفية بعد، لأن الله تعالى قال: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ وليس في الأجنة ما يستثنى، قال مالك: ذكاة الذبيحة ذكاة لجنينها إذا لم يدرك حيا وكان قد نبت شعره وتم خلقه، فإن لم يتم خلقه ولم ينبت شعره لم يؤكل إلا أن يدرك حيا فيذكى، وإن بادروا إلى تذكيته فمات بنفسه، فقيل: هو ذكي، وقيل: ليس بذكي، وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
4. ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ أي يقرأ عليكم في القرآن والسنة من قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة]، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وكل ذي ناب من السباع حرام)، سؤال وإشكال: الذي يتلى علينا الكتاب ليس السنة، والجواب: كل سنة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فهي من كتاب الله، والدليل عليه أمران:
أ. أحدهما: حديث العسيف (لأقضين بينكما بكتاب الله) والرجم ليس منصوصا في كتاب الله.
ب. الثاني: حديث ابن مسعود: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو في كتاب الله، الحديث، وسيأتي في سورة ﴿الْحَشْرِ﴾
5. ويحتمل ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ الآن أو ﴿مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ فيما بعد من مستقبل الزمان على لسان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيكون فيه دليل على جواز تأخير البيان عن وقت لا يفتقر فيه إلى تعجيل الحاجة.
6. اختلف النحاة في ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى﴾ هل هو استثناء أو لا؟
أ. فقال البصريون: هو استثناء من ﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ و﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ استثناء آخر أيضا منه، فالاستثناء ان جميعا من قوله: ﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ وهي المستثنى منها، التقدير: إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون، بخلاف قوله: ﴿إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ﴾ [الحجر] على ما يأتي.
ب. وقيل: هو مستثنى مما يليه من الاستثناء، فيصير بمنزلة قوله تعالى: ﴿إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾ ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام، لأنه مستثنى من المحظور إذ كان قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ مستثنى من الإباحة، وهذا وجه ساقط، فإذا معناه أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد، ويجوز أن يكون معناه أيضا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم.
7. أجاز الفراء أن يكون ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ في موضع رفع على البدل على أن يعطف بإلا كما يعطف بلا، ولا يجيزه البصريون إلا في النكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو جاء القوم إلا زيد، والنصب عنده بأن ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ نصب على الحال مما في ﴿أَوْفُوا﴾، قال الأخفش: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد، وقال غيره: حال من الكاف والميم في ﴿لَكُمْ﴾ والتقدير: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد، ثم قيل: يجوز أن يرجع الإحلال إلى الناس، أي لا تحلوا الصيد في حال الإحرام، ويجوز أن يرجع إلى الله تعالى أي أحللت لكم البهيمة إلا ما كان صيدا في وقت الإحرام، كما تقول: أحللت لك كذا غير مبيح لك يوم الجمعة، فإذا قلت يرجع إلى الناس فالمعنى: غير محلين الصيد، فحذفت النون تخفيفا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/33.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ الخطاب للذين آمنوا، والبهيمة: اسم لكل ذي أربع، سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعقلها، ومنه باب مبهم: أي مغلق، وليل بهيم، وبهمة للشجاع الذي لا يدري من أين يؤتى، وحلقة مبهمة: لا يدرى أين طرفاها، والأنعام: اسم للإبل والبقر والغنم، سمّيت بذلك لما في مشيها من اللين؛ وقيل: بهيمة الأنعام: وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر الوحشية وغير ذلك، حكاه ابن جرير الطبري عن قوم، وحكاه غيره عن السدّي والربيع وقتادة والضحاك، قال ابن عطية: وهذا قول حسن، وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج، وما انضاف إليها من سائر الحيوانات يقال له: أنعام مجموعة معها، وكأن المفترس كالأسد، وكلّ ذي ناب خارج عن حدّ الأنعام، فبهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع؛ وقيل: بهيمة الأنعام: ما لم تكن صيدا؛ لأنّ الصّيد يسمّى وحشا لا بهيمة؛ وقيل بهيمة الأنعام: الأجنّة التي تخرج عند الذبح من بطون الأنعام فهي تؤكل من دون ذكاة.
2. وعلى القول الأوّل أعني تخصيص الأنعام بالإبل والبقر والغنم تكون الإضافة بيانية، ويلحق بها ما يحلّ مما هو خارج عنها بالقياس، بل وبالنصوص التي في الكتاب والسنة كقوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً﴾ الآية، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يحرم كلّ ذي ناب من السّبع ومخلب من الطير) فإنه يدل بمفهومه على أن ما عداه حلال، وكذلك سائر النصوص الخاصة بنوع كما في كتب السنة المطهرة.
3. ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ استثناء من قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ أي إلا مدلول ما يتلى عليكم فإنه ليس بحلال، والمتلوّ: هو ما نصّ الله على تحريمه، نحو قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ الآية، ويلحق به ما صرّحت السّنّة بتحريمه، وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون المراد به إلا ما يتلى عليكم الآن، ويحتمل أن يكون المراد به في مستقبل الزمان، فيدل على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ويحتمل الأمرين جميعا.
__________
(1) فتح القدير: 2/7.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الَانْعَامِ﴾ تفصيل للعقود، والبهيمة: كلُّ حيٍّ لا يميِّز، وقيل: اسم لِكُلِّ ذي أربع من حيوان البحر والبرِّ، من قولهم: استَبْهَم الأمر إذا أشكل، وسمِّيت لأنَّ أمر كلامها وأحوالها أُبهِم على غالب الخلق، ولأنَّ الأمر أُبهم عليها ولا تُدرِكُ إلَّا بعضَ أمور بظاهرها، وإضافة البهيمة للبيان إضافة عامٍّ لخاصٍّ، والأنعام: الذكر والأنثى من الضأْن والماعز والبقر والإبل فهنَّ ثمانية، وألحق بهنَّ الظِّباءِ وبقر الوحش ونحوهما مِمَّا يماثل الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب، ومن الطيور التي لا مخلب لها، وذلك قياسٌ وسنَّة.
2. يجوز أن يراد بالبهيمة غير الأنعام من تلك الأشياء، وأضيفت إلى الأنعام للشَّبَه، ويؤيِّده أنَّه لو أريد بالبهيمة الأنعام لقيل: أُحلَّت لكم الأنعام، إلَّا أن يقال: إنَّه أُريد الأنعامُ وَذَكَرَ البهيمةَ لفائدة الإجمال ثمَّ التفصيل، وهي أنَّه أوقع في النفس، وإن قلنا: البهائم ذوات القوائم الأربع، خصَّت أيضًا بالثمانية، كما يدلُّ عليه إضافته للأنعام للبيان، وعن ابن عبَّاس وابن عمر وأبي جعفر وأبي عبد الله والشافعيِّ أنَّ بهيمة الأنعام هي الأجنَّة تخرج من بطون الأنعام وهي ميِّتة بعد ذكاة أمَّهاتها المغني عن ذكاتها.
3. ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ بعدُ في هذه السورة إذا نزل، وهو قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ إلخ [الآية: 3] نزل قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [الآية: 3] في عرفات عام حجَّة الوداع، وقرأها صلّى الله عليه وآله وسلّم في خطبته، وَقَالَ: (أيُّها الناس، إنَّ سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً، فأحلُّوا حلالها وحرِّموا حرامها)، وإنَّما خصَّها بتحليل حلالها وتحريم حرامها مع أنَّ القرآن كلَّه كذلك لمزيد الاعتناء بها، كذكر أربعة الأشهر الحُرُم مع ذكر اثني عشر شهرًا، ولاختصاصها بثمانية عشر حكمًا، هي قوله: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ إلى ﴿بِالَازْلَامِ﴾ [الآية: 3]، وقوله: ﴿وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ﴾ [الآية: 4]، ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [الآية: 5]، ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [الآية: 5]، وقوله: ﴿إِذَا قُمْتُمُ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ [الآية: 6]، ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾ [الآية: 38]، و﴿لَا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ﴾ [الآية: 95]، ﴿مَا جَعَلَ اللهُ مِنم بَحِيرَةٍ﴾ [الآية: 103]، ﴿شَهَادَةَ بَـيْـنِكُمُ إِذَا حَضَرَ﴾ [الآية: 106]، ومعنى ﴿مَا يُتْلَى﴾ الحيوانات التي تُذكر؛ فالاستثناء متَّصل.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/372.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. عقب الله تعالى بالتفصيل، وهو قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ البهيمة ما لا عقل له مطلقا، من ذوات الأرواح أو ذوات الأربع.
2. قال الراغب: خص في المتعارف بما عدا السباع والطير، وإضافتها للأنعام، للبيان كثوب الخز، وإفرادها لإرادة الجنس، أي: أحلّ لكم أكل البهيمة من الأنعام، جمع (نعم) محرّكة وقد تسكن عينه، وهي الإبل والبقر والشاء والمعز.
3. ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ يعني: رخصت لكم الأنعام كلها، إلّا ما حرم عليكم في هذه السورة، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك، وذلك أنهم كانوا يحرمون السائبة والبحيرة، فأخبر الله تعالى أنهما حلالان، إلّا ما بيّن في هذه السورة.
__________
(1) تفسير القاسمي: 4/6.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ أي أحل الله لكم أكل بهيمة الأنعام والانتفاع بها، قالوا: إن هذا من التفصيل بعد الإجمال بناء على أن العقود شاملة لجميع الأحكام التي شرعها الله تعالى وأمر المكلفين بالإيفاء بها فكانت كالعقد بارتباطهم وتقيدهم بها، فبدأ بعد وضع هذه القاعدة العامة ببيان ما يحل من الطعام بشرطه الذي يتضمن ما يحرم من الصيد في بعض الأحوال.
2. ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ أي في الآية الثالثة من هذه السورة كالميتة والدم الخ.
__________
(1) تفسير المنار: 6/103.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرع الله تعالى يفصل الأحكام التي أمر بالإيفاء بها وبدأ بما يتعلق بضروريات معايشهم فقال: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ أي أحل الله لكم أكل البهيمة من الأنعام وهي الأزواج الثمانية المذكورة في سورة الأنعام، وألحق بها الظباء وبقر الوحش ونحوهما، إلا ما حرم فيما سيتلى عليكم في الآية السالفة من هذه السورة ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾
__________
(1) تفسير المراغي 6/44.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إن هذا التحريم والتحليل في الذبائح، وفي الأنواع، وفي الأماكن، وفي الأوقات.. إن هذا كله من (العقود).. وهي عقود قائمة على عقد الإيمان ابتداء، فالذين آمنوا يقتضيهم عقد الإيمان أن يتلقوا التحريم والتحليل من الله وحده؛ ولا يتلقوا في هذا شيئا من غيره.. ومن ثم نودوا هذا النداء، في مطلع هذا البيان..
2. وأخذ بعده في بيان الحلال والحرام: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾.. وبمقتضي هذا الإحلال من الله؛ وبمقتضى إذنه هذا وشرعه ـ لا من أي مصدر آخر ولا استمدادا من أي أصل آخر ـ صار حلالا لكم ومباحا أن تأكلوا من كل ما يدخل تحت مدلول ﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ من الذبائح والصيد ـ إلا ما يتلى عليكم تحريمه منها ـ وهو الذي سيرد ذكره محرما.. إما حرمة وقتية أو مكانية؛ وإما حرمة مطلقة في أي مكان وفي أي زمان، وبهيمة الأنعام تشمل الإبل والبقر والغنم؛ ويضاف إليها الوحشي منها، كالبقر الوحشي، والحمر الوحشية والظباء.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/837.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ هو بيان لحلّ الأنعام، من بين البهائم.. ثم إن هذه الأنعام ليست كلها مما أحلت لحومها.. ولهذا جاء قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ استثناء مقيّدا لهذا الإطلاق الذي تضمنه قوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1025.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أشعر كلام بعض المفسّرين بالتّوقّف في توجيه اتّصال قوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ بقوله: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، ففي (تلخيص الكواشي)، عن ابن عباس: (المراد بالعقود ما بعد قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾)، ويتعيّن أن يكون مراد ابن عباس ما مبدؤه قوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ الآيات، وأمّا قول الزمخشري ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ تفصيل لمجمل قوله: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ فتأويله أنّ مجموع الكلام تفصيل لا خصوص جملة، ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾؛ فإنّ إباحة الأنعام ليست عقدا يجب الوفاء به إلّا باعتبار ما بعده من قوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾، وباعتبار إبطال ما حرّم أهل الجاهلية باطلا ممّا شمله قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ﴾ [المائدة: 103] الآيات.
2. والقول عندي أنّ جملة ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ تمهيد لما سيرد بعدها من المنهيات كقوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾، وقوله: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2] التي هي من عقود شريعة الإسلام فكان الابتداء بذكر بعض المباح امتنانا وتأنيسا للمسلمين، ليتلقّوا التكاليف بنفوس مطمئنّة؛ فالمعنى: إن حرّمنا عليكم أشياء فقد أبحنا لكم أكثر منها، وإن ألزمناكم أشياء فقد جعلناكم في سعة من أشياء أوفر منها، ليعلموا أنّ الله ما يريد منهم إلّا صلاحهم واستقامتهم، فجملة ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ مستأنفة استئنافا ابتدائيا لأنّها تصدير للكلام بعد عنوانه.
3. والبهيمة: الحيوان البرّي من ذوي الأربع إنسيّها ووحشيّها، عدا السباع، فتشمل بقر الوحش والظباء، وإضافة بهيمة إلى الأنعام من إضافة العامّ للخاصّ، وهي بيانية كقولهم: ذباب النحل ومدينة بغداد، فالمراد الأنعام خاصّة، لأنّها غالب طعام الناس، وأمّا الوحش فداخل في قوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾، وهي هنا لدفع توهّم أن يراد من الأنعام خصوص الإبل لغلبة إطلاق اسم الأنعام عليها، فذكرت (بهيمة) لشمول أصناف الأنعام الأربعة: الإبل، والبقر، والغنم، والمعز.
4. والإضافة البيانيّة على معنى (من) التي للبيان، كقوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ [الحج: 30]، والاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ من عموم الذوات والأحوال، وما يتلى هو ما سيفصّل عند قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة: 3]
__________
(1) التحرير والتنوير: 5/12.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. من أوائل الأحكام الشرعية ما أحله الله تعالى، وما أحله سبحانه قيده بقيود، ولذا قال تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ ابتدأ الحكم ببيان الحلال من الأطعمة، لسببين:
أ. أولهما ـ أن العرب كانوا يحرمون في الجاهلية على أنفسهم بعض الحيوان لأوهام ورثوها، لم يأت بها دين، ولم يتصورها عقل، وليس للتحريم سبب يدركه أهل العقول، ثانيهما ـ أن النص جاء للإباحة مع القيد، فهي حلال بشرط ألا تكون مما يتلى تحريمه، وسيبينه الله تعالى من بعد، والتحريم سببه أحد أمرين:
ب. أولهما ـ ذاتي في ذات الحيوان كالخنزير والميتة، وما يشبه الميتة من التي تردت في منخفض من الأرض فنفقت، أو نطحت فهلكت، والثاني ـ عرضي بحال معينة كتحريم الصيد، فالنص لإباحة مقيدة مع ذكر القيد بالإشارة إليه ثم بيانه.
2. والبهيمة: اسم لكل حيوان أعجم، لإبهامه من جهة نقص النطق، وعدم تمييزه، والنعم في أصل الإطلاق العربي يكون على الإبل والبقر والغنم، واشتقاقها من النعمة؛ لأنها من نعمه سبحانه وتعالى التي أنعم الله بها، كما قال تعالى: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [النحل]، ويصح أن يكون مثل الإبل والبقر والغنم كل حيوان أو طير يتغذى من النبات، ولم يرد نص بتحريمه فيدخل الظبى وحمار الوحش وغيرهما من آكلات الأعشاب، كما يدخل الطير غير سباعه، وغيرها.
3. ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ البهيمة في اللغة العربية: هي كل ذات أربع من الدواب، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم ذكورها وإناثها، وقد بينها الله سبحانه في سورة الأنعام بأنها ثمانية أزواج: من الضأن اثنين (الكبش والنعجة) ومن المعز اثنين (الجدى والعنز) ومن الإبل اثنين (الجمل والناقة) ومن البقر اثنين (الثور أو الفحل والبقرة أو الجاموسة)، فهذه هي الأنعام في لسان القرآن.
4. ولما أمر الله المؤمنين بأن يوفوا بالعقود أخذ يفصل لهم العقود التي أمرهم أن يوفوا بها، وبدأ بأولها: وأحقها بالإيفاء وهي عقودهم مع ربهم بمقتضى إيمانهم، وبدأ من هذه العقود ببيان ما أباح لهم أكله والانتفاع به من الحيوان، وما حرمه؛ لأن هذا الأكل والانتفاع أكثر ما يعرض للإنسان، وأكثر ما يحتاج إلى معرفة حكمه، ولأن أهل الجاهلية كانوا قد جاروا وظلموا في حكمهم في الأنعام، وبنوا تحريمهم لما حرموه منها، وتحليلهم ما أحلوه منها على نزعات وثنية، وأوهام لا يصح أن يبنى عليها تحريم ولا تحليل؛ فجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم، وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء، بزعمهم، وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه، وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء، وجعلوا من الأنعام بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميا.. وهكذا ساروا في تحريم الأنعام وإحلالها على ما تقتضيه وثنيتهم، لا على ما تقتضيه مصلحتهم.
5. فالله سبحانه بدأ عقوده مع المؤمنين ببيان أنه أباح لهم الأنعام كلها إلا ما يتلو عليهم تحريمه منها، فهو سبحانه بدأ ببيان ما فيه قضاء على وثنيات الجاهلية، وبما فيه إشعار المؤمنين بكمال النعمة عليهم، إذ أباح لهم الأنعام كلها والانتفاع بها بكل وجوه الانتفاع، ولم يقيد هذه الإباحة بما كانت تقيده به أهل الجاهلية من قيود وشروط لا تقوم على أساس من المصلحة، وإنما تقوم على أوهام وأباطيل لا يصح أن يبنى عليها تحريم ما رزق الله به عباده من الطيبات، بل قيدها باستثناء ما فيه ضرر بصحة الإنسان أو دينه، وعلى النفع والإضرار يبنى التحليل والتحريم، ومن هذا نفهم الحكمة في أن الله سبحانه قال: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ ولم يقل أحلت لكم الأنعام؛ لأنه أراد سبحانه التنبيه إلى أن الأنعام أحلت بوصف أنها بهيمة؛ وكل الأنعام ذكورها وإناثها متحقق فيها هذا الوصف، فكل الأنعام حلال لكم، وإضافة لفظ بهيمة للأنعام لتأكيد عموم الأنعام التي أحلت، وللإشارة إلى أن التفريق بين بعض الأنعام وبعضها ـ مع أنها كلها بهيمة ـ ظلم وحظر لما لا مبرر لحظره، وفى سورة الحج: ﴿وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ [الحج]
6. ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ هذان استثناءان من العموم الذى دلت عليه ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ لأن معناها أحلت الأنعام كلها لكم جميعا.
7. استثنى سبحانه من الأنعام التي أحلت الأنعام التي يتلو على المؤمنين آيات تحريمها في قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ [المائدة] وفى قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ [المائدة] وفى قوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام]
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/2014.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾، الانعام هي الإبل والبقر والغنم والمعز الأهلية والوحشية، وتقع البهيمة على الانعام وغيرها من الحيوانات التي لا نطق لها، وعلى هذا تكون اضافة البهيمة إلى الانعام من باب اضافة الشيء إلى ما هو أخص منه، وبعد أن أحلّ الله أكل الانعام جاء هذا الاستثناء ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾
وقد تلا علينا جل ثناؤه صنفين من الانعام:
أ. الأول ما أشار اليه بقوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾
ب. الثاني ما أشار اليه في الآية الثالثة ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾، ويأتي الكلام عن هذا الصنف قريبا.
__________
(1) التفسير الكاشف: 3/8.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ الإحلال هو الإباحة والبهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البر والبحر على ما في المجمع، وعلى هذا فإضافة البهيمة إلى الأنعام من قبيل إضافة النوع إلى أصنافه كقولنا: نوع الإنسان وجنس الحيوان، وقيل: البهيمة جنين الأنعام، وعليه فالإضافة لامية.
2. وكيف كان فقوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ أي الأزواج الثمانية أي أكل لحومها، وقوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ إشارة إلى ما سيأتي من قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾
3. العقائد في أكل اللحم (2):
أ. لا ريب أن الإنسان كسائر الحيوان والنبات مجهز بجهاز التغذي يجذب به إلى نفسه من الأجزاء المادية ما يمكنه أن يعمل فيه ما ينضم بذلك إلى بدنه وينحفظ به بقاؤه، فلا مانع له بحسب الطبع من أكل ما يقبل الازدراد والبلع إلا أن يمتنع منه لتضرر أو تنفر:
• أما التضرر فهو كأن يجد المأكول يضر ببدنه ضرا جسمانيا لمسمومية ونحوها فيمتنع عندئذ عن الأكل، أو يجد الأكل يضر ضرا معنويا كالمحرمات التي في الأديان والشرائع المختلفة، وهذا القسم امتناع عن الأكل فكري.
• وأما التنفر فهو الاستقذار الذي يمتنع معه الطبع عن القرب منه كما أن الإنسان لا يأكل مدفوع نفسه لاستقذاره إياه، وقد شوهد ذلك في بعض الأطفال والمجانين، ويلحق بذلك ما يستند إلى عوامل اعتقادية كالمذهب أو السنن المختلفة الرائجة في المجتمعات المتنوعة مثل أن المسلمين يستقذرون لحم الخنزير، والنصارى يستطيبونه، ويتغذى الغربيون من أنواع الحيوانات أجناسا كثيرة يستقذرها الشرقيون كالسرطان والضفدع والفأر وغيرها، وهذا النوع من الامتناع امتناع بالطبع الثاني والقريحة المكتسبة.
4. فتبين أن الإنسان في التغذي باللحوم على طرائق مختلفة ذات عرض عريض من الاسترسال المطلق إلى الامتناع، وأن استباحته ما استباح منها اتباع للطبع كما أن امتناعه عما يمتنع عنه أنما هو عن فكر أو طبع ثانوي:
أ. وقد حرمت سنة بوذا أكل لحوم الحيوانات عامة، وهذا تفريط يقابله في جانب الإفراط ما كان دائرا بين أقوام متوحشين من إفريقية وغيرها إنهم كانوا يأكلون أنواع اللحوم حتى لحم الإنسان.
ب. وقد كانت العرب تأكل لحوم الأنعام وغيرها من الحيوان حتى أمثال الفأر والوزغ، وتأكل من الأنعام ما قتلته بذبح ونحوه، وتأكل غير ذلك كالميتة بجميع أقسامها كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، وكان القائل منهم يقول: ما لكم تأكلون مما قتلتموه ولا تأكلون مما قتله الله!؟ كما ربما يتفوه بمثله اليوم كثيرون؟ يقول قائلهم: ما الفارق بين اللحم واللحم إذا لم يتضرر به بدن الإنسان ولو بعلاج طبي فنى فجهاز التغذي لا يفرق بين هذا وذاك.
ج. وكانت العرب أيضا تأكل الدم، كانوا يملئون المعى من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف، وكانوا إذا أجدبوا جرحوا إبلهم بالنصال وشربوا ما ينزل من الدم، وأكل الدم رائج اليوم بين كثير من الأمم غير المسلمة.
د. وأهل الصين من الوثنية أوسع منهم سنة، فهم ـ على ما ينقل ـ يأكلون أصناف الحيوان حتى الكلب والهر وحتى الديدان والأصداف وسائر الحشرات.
5. وقد أخذ الإسلام في ذلك طريقا وسطا فأباح من اللحوم ما تستطيعه الطباع المعتدلة من الإنسان، ثم فسره في ذوات الأربع بالبهائم كالضأن والمعز والبقر والإبل على كراهية في بعضها كالفرس والحمار، وفي الطير ـ بغير الجوارح ـ مما له حوصلة ودفيف ولا مخلب له، وفي حيوان البحر ببعض أنواع السمك على التفصيل المذكور في كتب الفقه، ثم حرم دماءها وكل ميتة منها وما لم يذك بالإهلال به لله عز اسمه، والغرض في ذلك أن تحيا سنة الفطرة، وهي إقبال الإنسان على أصل أكل اللحم، ويحترم الفكر الصحيح والطبع المستقيم اللذين يمتنعان من تجويز ما فيه الضرر نوعا، وتجويز ما يستقذر ويتنفر منه.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/162.
(2) تقسيم الفروع هنا ليس منهجيا، وإنما من باب التبسيط فقط
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ﴾ الإحلال للأنعام مقابل التحريم وهو: الأذن بأكلها، وبذبحها ونحرها ولم يقل: (أحلت لكم الأنعام) كما في غير هذه السورة، والأنعام ثلاثة أنواع من البهائم، واسم البهائم يعمها ويعم غيرها، قال الراغب في (المفردات): (والبهيمة: ما لا نطق لَه وذلك لما في صوته من الإبهام، لكن خص في التعارف بما عدا السباع والطير)، الأقرب: أنها سميت بهيمة لأنها لا تعرف ما يعرف الإنسان، فالمعارف مستبهمة عليها مجهولة لديها، ليس لها إلا ما ألهمها الله لمعاشها ونحوه والانتفاع بها، ولذلك قال الهادي بن إبراهيم:
çوما الناس إلا أنتم دون غيركم...وسائر أملاك الزمان بهائمé
2. فقوله تعالى: ﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ بمعنى الأنعام التي هي بهائم، قال في (الكشاف): (إضافته على معنى من)، ففي قوله تعالى: ﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ فائدة تتعلق بإحلال الأنعام، لعله الإشارة إلى رحمة الله بها؛ لأنه جعلها بهائم، فإحلالها مع كونها بهائم أهون عليها مما لو كانت تعرف ما يعرف الإنسان ـ والله أعلم.
3. ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ أي ما ذكر في الآيات القرآنية تحريمه من الميتة وأنواعها التي تأتي في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ الآية.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/230.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ هل لهذه الفقرة علاقة بالفقرة السابقة؟ يذكر بعض المفسرين وجود علاقة بينهما وذلك من خلال اعتبار الحكم بتحليل بهيمة الأنعام في حدوده المشروعة، من نتائج الإيمان الّذي هو أحد مظاهر التعاقد الّذي يجب الوفاء به، وبذلك يكون الأمر بالوفاء بالعقود أمرا بالالتزام بهذه الأحكام الشرعية.
2. ونحن لا نريد أن ندخل في تفاصيل الحديث في إثبات ذلك أو نفيه، بل نسجّل ملاحظة على هذا الاتجاه في الربط بين الآيات أو فقراتها بشكل دقيق، فقد يبدو لنا أنّ الآيات لم تنزل لتعالج موضوعا واحدا على طريقة الأبحاث العملية التي تخضع البحث لموضوع واحد تلتزم بإرجاع كل عناصره إليه، بل إنّها نزلت لتثير أمام الإنسان جوانب متعددة يتعلق بعضها بتصوراته وقناعاته الفكرية، وبعضها الآخر بأفعاله وعلاقاته ومعاملاته، منطلقا من العام إلى الخاص في الحديث، وقد يتحدّث عن الخاص ثمّ يعقبه بالعام، وقد لا يكون هناك رابط موضوعي بين الحديثين إلّا فيما يتصل ببناء الجوانب الإنسانية على الصورة الّتي يريدها الله للإنسان. ومن هنا كان الفرق بين البحث العلمي والحديث القرآني، فالأول يعالج موضوعا محددا ليصل إلى النتيجة المطلوبة، بينما يعالج الثاني الإنسان في مفاهيمه وأعماله ليصل به إلى درجة التكامل الفكري والعملي، وبذلك فإنّ الوحدة هناك هي وحدة الموضوع، بينما تمثل الوحدة هنا وحدة قضية الإنسان إنّها ملاحظة نضعها في متناول التفكير لنتخلص من تكلف بعض المفسرين في ربط الآيات ضمن السورة الواحدة حتى ولم يكن هناك من مبرر ظاهري لإيجاد مثل هذا الترابط، وذلك انطلاقا من فكرة لزوم أن يكون هناك ترابط فيها، كما هو الحال في النصوص العلميّة، الّتي يبدو الترابط المنهجي والمنطقي بين فقراتها وجملها ضروريا، وإلّا لوقع في التناقض، ولم ينته إلى النتائج الصحيحة أو المفروضة، كما لو كان القرآن كتابا منزلا بشكل كامل بينما نعرف من الوحي أنّ القرآن أنزل بشكل متقطع ومتفرق تبعا للحاجات الإنسانية الإسلامية لذلك، ثمّ جمع بإشراف الرسول صلى الله عليه واله وسلم وتوجيهه من خلال المناسبات الّتي تجمع الآيات والله العالم.
3. وقع خلاف في تفسير ﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ فقال بعض إنّ المراد بها الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، وذكرت كلمة البهيمة للتأكيد، كما يقال نفس الإنسان، وقال بعض آخر بأنّها أجنة الأنعام الّتي توجد في بطون أمهاتها إذا أشعرت وقد ذكيت الأمهات وهي ميتة فذكاتها ذكاة أمّاتها وذهب بعض ثالث إلى أنّ المراد بها الوحشي من الأنعام كالظباء وبقر الوحش ونحوها ولكننا نجد الآية عامة غير مخصصة، حيث تشمل كلمة البهيمة كل ذي أربع من دواب البر والبحر، وقد تكون التخصيصات الواردة في كلمات الأئمة، كما في القول الثاني المروي عن الإمامين الباقر والصادق عليه السّلام، واردة في مقام التطبيق لا التفسير، وذلك لأسلوبهم الخاص في توجيه النّاس إلى الأخذ بالقرآن والرجوع إليه فيما يشكل عليهم أمره من قضايا الحياة.
4. ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ ممّا حرّم عليكم من الحيوانات.
__________
(1) من وحى القرآن: 8/19.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن تطرقت الآية إلى حكم الوفاء بالعهد والميثاق ـ سواء كان إلهيا أو إنسانيا محضا ـ أردفت ببيان مجموعة أخرى من الأحكام الإسلامية، كان الأوّل منها حلية لحوم بعض الحيوانات، فبيّنت أن المواشي وأجنتها تحل لحومهما على المسلمين، حيث تقول الآية: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ وكلمة (الأنعام) صيغة جمع من (نعم) وتعني الإيل والبقر والأغنام ـ إذا جاءت كلمة(نعم) مفردة فهي تعني الإبل، وإذا جاءت جمعا فتعني الأنواع الثلاثة، مفردات الراغب مادة(نعم)
2. أمّا كلمة (بهيمة) فهي مشتقة من المصدر (بهمة) على وزن (تهمة) وتعني في الأصل الحجر الصلب، ويقال لكل ما يعسر دركه (مبهما) وجميع الحيوانات التي لا تمتلك القدرة على النطق تسمى (بهيمة) لأنّ أصواتها تكون مبهمة للبشر، وقد جرت العادة على إطلاق كلمة (بهيمة) على المواشي من الحيوانات فقط، فأصبحت لا تشمل الحيوانات الوحشية والطيور، ومن جانب آخر فإن جنين المواشي يطلق عليه اسم (بهيمة) لأنّه يكون مبهما نوعا ما.
3. وعلى الإساس المذكور فإنّ حكم حلية ﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ يشمل إمّا جميع المواشي ما عدا التي استثنتها الآية فيما بعد، أو تكون الجملة بمعنى أجنة الحيوانات من ذوات اللحم الحلال (تلك الأجنة التي اكتمل نموها وهي في بطن أمّها، وكسى جلدها بالشعر أو الصوف)، ولو قلنا: إنّ كلمة(بهيمة) تعني الحيوانات وحدها دون الأجنة، لكانت إضافة كلمة(بهيمة) إلى كلمة(أنعام) إضافة بيانية، أمّا إذا قلنا: إنها تعني الأجنة أيضا، تكون هذه الإضافة(لامية)
4. ولما كان حكم حلية حيوانات كالإبل والبقر والأغنام قد تبيّن للناس قبل هذه الآية، لذلك من المحتمل أن تكون الآية الكريمة إشارة إلى حلية أجنة هذه الحيوانات.
5. والظاهر من الآية أنّها تشمل معنى واسعا، أي تبيّن حلية هذه الحيوانات بالإضافة إلى حلية لحوم أجنتها أيضا، ومع أنّ هذا الحكم كان قد توضح في السابق إلّا أنّه جاء مكررا في هذه الآية كمقدمة للاستثناءات الواردة فيها.
6. ويتبيّن لنا ممّا تقدم أن علاقة الجملة الأخيرة وحكمها بالأصل الكلي ـ الذي هو لزوم الوفاء بالعهد ـ هي التأكيد على كون الأحكام الإلهية نوعا من العهد بين الله وعباده ـ حيث تعتبر حلية لحوم بعض الحيوانات وحرمة لحوم البعض الآخر منها قسما من تلك الأحكام.
7. وفي الختام تبيّن الآية موردين تستثنيهما من حكم حلية لحوم المواشي، وأحد هذين الموردين هو اللحوم التي سيتم بيان حرمتها فيما بعد، حيث تقول الآية: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ والمورد الثّاني هو أن يكون الإنسان في حالة إحرام للحج أو العمرة، حيث يحرم عليه الصيد في هذه الحالة، فتقول الآية: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/576.
3. تحريم الصيد للمحرم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈3⌉ من سورة المائدة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ [المائدة: 1]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ غير أن يحل الصيد أحد وهو حرام(1).
__________
(1) تفسير مجاهد ص ٢٩٨.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ إن الله يحكم ما أراد في خلقه، وبين ما أراد في عباده، وفرض فرائضه، وحد حدوده، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٢١.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾، يقول: من غير أن تستحلوا الصيد ﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ يقول: إذا كنت محرما بحج أو عمرة، فالصيد عليك حرام كله، غير صيد البحر، فإنه حلال لك(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾، فحكم أن جعل ما شاء من الحلال حراما، وجعل ما شاء مما حرم في الإحرام من الصيد حلالا(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٤٨.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم قال سبحانه: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾، فأخبرهم أن هذه البهائم التي من الأنعام، مثل: الظباء، وبقر الوحش، والوعل محرمة عند الإحرام؛ امتحانا من الله لخلقه، وتعبدا منه لعباده؛ فحظرها عليهم في حال إحرامهم، وأباحها لهم عند إحلالهم؛ اختبارا منه؛ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم:31]
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/286.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. دل قوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ على أن الصيد فيه كالمذكور، وإن لم يذكر؛ لأنه استثنى الصيد منه، وأبدًا: إنما يستثنى الشيء من الشيء إذا كان فيه ذلك، وأما إذا لم يكن؛ فلا معنى للاستثناء، فإذا استثنى الصيد دل الاستثناء على أن الصيد فيه، وإن لم يذكر.
2. ودل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾، على أن النهي كان عن الاصطياد في حال الإحرام لا عن أكله؛ لأن للمحرم أن يأكل صيدًا صاده حلالٌ.
3. ودل قوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ على أن الصيد قد دخل في قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ على ما ذكرنا فيما تقدم: أن البيان في الجواب يدل على كونه في السؤال، وإن لم يكن مذكورًا في السؤال؛ فعلى ذلك تدل الثنيا من الصيد على كونه فيه.
4. وقوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ كأنه قال أحلت لكم بهيمة الأنعام والصيد، ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾: يحتمل: يتلى على الوعد، أي: يتلى عليكم من بعد ما ذكر على أثره: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾ إلى آخره، ويحتمل: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ وهو ما ذكر، وفي حرف ابن مسعود: (إلا ما يتلى عليكم فيها)، في سورة الأنعام: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ إلى آخره.
5. ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ وهذا أي: إلى الله الحكم، يحكم بما شاء من التحريم والتحليل، فيما شاء، على ما شاء، ليس إليكم التحكم عليه، وهذا ينقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: يريد طاعة كل أحد، ولو أراد ذلك لحكم؛ لأنه أخبر أنه يحكم ما يريد، ولا جائز أن يريد ولا يحكم؛ فدل أنه: لم يرد؛ لأنه لو أراد لحكم، وبالله العصمة.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٣٨.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾، أي غير محلين الصيد، ولكن النون ذهبت عند الإضافة لها إلى الصيد، وأنتم حرم: أي وأنتم محرمون، قاصدون للحج إلى بيت الله تائبون، وإنما سمي المحرم حُرماً لأنه قد حرم عليه بالدخول في الحج ما كان يحل له، من النكاح واللباس والصيد وغير ذلك مما أحل الله لجميع الناس.. إن الله يحكم ما يريد: أي يحكم على عباده بما يريد.. ومعنى يريد: هو يقصد ويفعل)(1).
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/214.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾:
أ. قال بعضهم: معناه أوفوا بالعقود غير محلين الصيد وأنتم حرم أحلت لكم بهيمة الانعام، ويكون فيه التقديم والتأخير، فغير يكون منصوباً على هذا الحال مما في قوله: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ من ذكر الذين آمنوا، وتقدير الكلام أوفوا أيها الذين آمنوا بعقود الله التي عقدها عليكم في كتابه لا محلين الصيد، وأنتم حرم.
ب. وقال آخرون: معنى ذلك أحلت لكم بهيمة الانعام الوحشية من الظباء، والبقر والحمر غير محلي الصيد غير مستحلين اصطيادهم، وأنتم حرم، وإلا ما يتلى عليكم (فغير) على هذا منصوب علي الحال من الكاف، والميم اللين في قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ والتقدير أحلت لكم يا أيها الذين آمنوا بهيمة الانعام، لا مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم.
ج. وقال آخرون: معناه أحلت لكم بهيمة الانعام كلها إلا ما يتلى عليكم، بمعنى إلا ما كان منها وحشياً، فانه صيد، ولا يحل لكم وأنتم حرم، والتقدير على هذا أحلت لكم بهيمة الانعام كلها إلا ما بين لكم من وحشها غير مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم، فتكون (غير) منصوبة على الحال في الكاف والميم في قوله: إلا ما يتلى عليكم، ذهب إلى ذلك الربيع، والحرم جمع حرام، وهو المحرم قال الشاعر:
çفقلت لها حثي اليك فانني...حرام وإني بعد ذاك لبيبé
أي واني ملب.
2. ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ معناه إن الله يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما يريد تحليله، وتحريم ما يريد تحريمه، وإيجاب ما يريد إيجابه، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه، فافعلوا ما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم عنه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/417.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ أي لا تحلوا الصيد وأنتم مُحْرِمُون، واختلفوا في تقدير الكلام:
أ. قيل: أوفوا بالعقود غير محلي الصيد.
ب. وقيل: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير مستحلين الصيد وأنتم حرم.
ج. وقيل: إلا محلي الصيد وأنتم حرم وإِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ.
2. ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾:
أ. يعني يحكم في خلقه بما يريد من التحريم والتحليل على حسب ما يعلم من المصلحة.
ب. وقيل: يتعبد عباده بما يريد من مصالحهم.
3. تدل الآية الكريمة على تحريم الصيد على المحرِم.
4. قراءة العامة ﴿حُرُمٌ﴾ بضم الراء، وعن يحيى بن يعمر ﴿حُرُمٌ﴾ بجزم الراء سكنها لكثرة الحركات، وهما جميعًا جمع حرام يقال: رجل حرام، وقوم حُرُم، وحرم، وحرام من الإحرام، والحرم الحرام ضد الحلال، وهو أصل الباب، سُمِّيَ المحرم؛ لأنه يحرم من مس الطيب واللباس والصيد ما كان حلالاً، والحرم من ذلك، والحرم الإحرام.
5. ﴿الَّذِي﴾ اسم مبهم، لا يتبين فيه الإعراب، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ محله الرفع على البدل من ﴿يَا أَيُّهَا﴾
6. مسائل لغوية ونحوية:
أ. في نصب ﴿غَيْرُ﴾ ثلاثة أقوال:
• الأول: على الحال من: يا أيها الَّذِينَ آمنوا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد، عن الأخفش، وفيه معنى النفي.
• الثاني: حال من: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد وأنتم حرم، عن الكسائي.
• الثالث: على الاستثناء، كأنه قيل: إلا محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلي.
ب. ﴿مَا﴾ في موضع نصب على الاستثناء، كأنه قيل: إلا محلي الصيد وأنتم حرم إلا شيئًا يتلى عليكم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/175.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الحرم: جمع حرام، يقال رجل حرام، وقوم حرم، قال الشاعر:
çفقلت لها فيئي إليك فإنني... حرام وإني بعد ذاك لبيبé
أي ملبّ.
2. ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ من قال إنه حال من ﴿أَوْفُوا﴾ فمعناه: أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأنتم محرمون أي في حال الاحرام:
أ. ومن قال إنه حال من ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ﴾ فمعناه ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ أي: الوحشية من الظباء، والبقر، والحمر، غير مستحلين اصطيادها في حال الاحرام.
ب. ومن قال إنه حال من ﴿يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ فمعناه: أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها، إلا ما يتلى عليكم من الصيد في آخر السورة، غير مستحلين اصطيادها في حال إحرامكم.
3. ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ معناه: إن الله يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما يريد، وتحريم ما يريد تحريمه، وإيجاب ما يريد إيجابه، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه، فافعلوا ما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم عنه في قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ دلالة على تحليل أكلها وذبحها، والانتفاع بها.
4. المشهور في القراءة ﴿حُرُمٌ﴾ بضمتين، وفي الشواذ، عن الحسن، ويحيى بن وثاب ﴿حُرُمٌ﴾ ساكنة الراء، وهذا كما يقال في رسل وكتب: رسل وكتب، قال ابن جني: في إسكان ﴿حُرُمٌ﴾ مزية، وذلك أن الراء فيه تكرير، فكادت الراء الساكنة لما فيها من التكرير، تكون في حكم المتحرك، كزيادة الصوت بالتكرير نحوا من زيادته بالحركة.
5. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾: اختلف فيه:
• فقيل: انه منصوب على الحال مما في قوله: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ من ضمير ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ عن الأخفش.
• وقيل: إنه حال من الكاف والميم في قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ عن الكسائي.
• وقيل: إنه حال من الكاف والميم في قوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾، عن الربيع.
ب. ﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾: جملة في موضع الحال من ﴿مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾
ج. ﴿الصَّيْدَ﴾: مجرور في اللفظ، منصوب في المعنى.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/232.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ قال أبو الحسن الأخفش: أوفوا بالعقود غير محلّي الصّيد، فانتصب على الحال، وقال غيره: المعنى: أحلّت لكم بهيمة الأنعام غير مستحلّي اصطيادها، وأنتم حرم.
2. قال الزجّاج: الحرم: المحرمون، وواحد الحرم: حرام، يقال: رجل حرام، وقوم حرم، قال الشاعر:
çفقلت لها فيئي إليك فإنّني...حرام وإنّي بعد ذاك لبيبé
أي: ملبّ.
3. ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ أي: الخلق له يحلّ ما يشاء لمن يشاء، ويحرّم ما يريد على من يريد.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/507.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما أحل بهيمة الأنعام ذكر الفرق بين صيدها وغير صيدها، فعرفنا أن ما كان منها صيدا، فإنه حلال في الإحلال دون الإحرام، وما لم يكن صيدا فإنه حلال في الحالين جميعا.
2. ﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ أي محرمون أي داخلون في الإحرام بالحج والعمرة أو أحدهما، يقال: أحرم بالحج والعمرة فهو محرم وحرم، كما يقال: أجنب فهو مجنب وجنب، ويستوي فيه الواحد والجمع، يقال قوم حرم كما يقال قوم جنب، قال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة: 65]، وإذا قلنا: أحرم الرجل فله معنيان: الأول: هذا، والثاني: أنه دخل الحرم فقوله: ﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ يشتمل على الوجهين، فيحرم الصيد على من كان في الحرم كما يحرم على من كان محرما بالحج أو العمرة، وهو قول الفقهاء.
3. ظاهر الآية يقتضي أن الصيد حرام على المحرم، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ فإن إذا للشرط، والمعلق بكلمة الشرط على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء إلا أنه تعالى بيّن في آية أخرى أن المحرم على المحرم إنما هو صيد البر لا صيد البحر، قال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾ [المائدة: 96] فصارت هذه الآية بيانا لتلك الآيات المطلقة.
4. انتصب ﴿غَيْرُ﴾ على الحال من قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ﴾ كما تقول: أحل لكم الطعام غير معتدين فيه، قال الفرّاء: هو مثل قولك: أحل لك الشيء لا مفرطا فيه ولا متعديا، والمعنى أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا أن تحلوا الصيد في حال الإحرام فإنه لا يحل لكم ذلك إذا كنتم محرمين.
5. ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ المعنى أنه تعالى أباح الأنعام في جميع الأحوال، وأباح الصيد في بعض الأحوال دون بعض، فلو قال قائل: ما السبب في هذا التفصيل والتخصيص؟ كان جوابه أن يقال: أنه تعالى مالك الأشياء وخالقها فلم يكن على حكمه اعتراض بوجه من الوجوه، وهذا هو الذي يقوله أصحابنا (2) أن علة حسن التكليف هي الربوبية والعبودية لا ما يقوله المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ من رعاية المصالح.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/280.
(2) يقصد أهل السنة، والأشاعرة خصوصا
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ أي ما كان صيدا فهو حلال في الإحلال دون الإحرام، وما لم يكن صيدا فهو حلال في الحالين.
2. ﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ يعني الإحرام بالحج والعمرة، يقال: رجل حرام وقوم حرم إذا أحرموا بالحج، ومنه قول الشاعر:
çفقلت لها فيئي إليك فإنني...حرام وإني بعد ذاك لبيبé
أي ملب، وسمي ذلك إحراما لما يحرمه من دخل فيه على نفسه من النساء والطيب وغيرهما، ويقال: أحرم دخل في الحرم، فيحرم صيد الحرم أيضا، وقرأ الحسن وإبراهيم ويحيى بن وثاب ﴿حُرُمٌ﴾ بسكون الراء، وهي لغة تميمية يقولون في رسل: رسل وفي كتب كتب ونحوه.
3. ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب، أي فأنت يا محمد السامع لنسخ تلك التي عهدت من أحكامهم تنبه، فإن الذي هو مالك الكل ﴿يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ ﴿لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ [الرعد] يشرع ما يشاء كما يشاء.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/35.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ ذهب البصريون إلى أن قوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ استثناء من بهيمة الأنعام وقوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ استثناء آخر منه أيضا، فالاستثناءان جميعا من بهيمة الأنعام، والتقدير: أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون؛ وقيل: الاستثناء الأوّل من بهيمة الأنعام، والاستثناء الثاني هو من الاستثناء الأوّل، وردّ بأن هذا يستلزم إباحة الصيد في حال الإحرام، لأنه مستثنى من المحظور فيكون مباحا، وأجاز الفراء أن يكون ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى﴾ في موضع رفع على البدل، ولا يجيزه البصريون، إلا في النكرة وما قاربها من الأجناس، قال وانتصاب ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ على الحال من قوله: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ وكذا قال الأخفش، وقال غيرهما: حال من الكاف والميم في ﴿لَكُمْ﴾ والتقدير: أحلّت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد: أي الاصطياد في البرّ وأكل صيده، ومعنى عدم إحلالهم له تقرير حرمته عملا واعتقادا، وهم حرم: أي محرمون.
2. وجملة ﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ في محل نصب على الحال من الضمير في ﴿مُحِلِّي﴾ ومعنى هذا التقييد ظاهر عند من يخصّ بهيمة الأنعام بالحيوانات الوحشية البرية التي يحلّ أكلها؛ كأنه قال: أحلّ لكم صيد البرّ إلا في حال الإحرام؛ وأما على قول من يجعل الإضافة بيانية فالمعنى: أحلّت لكم بهيمة هي الأنعام حال تحريم الصيد عليكم بدخولكم في الإحرام لكونكم محتاجين إلى ذلك، فيكون المراد بهذا التقييد الامتنان عليهم بتحليل ما عدا ما هو محرّم عليهم في تلك الحال.
3. والمراد بالحرم من هو محرم بالحجّ أو العمرة أو بهما، وسمّي محرما لكونه يحرم عليه الصيد والطّيب والنّساء، وهكذا وجه تسمية الحرم حرما، والإحرام إحراما، وقرأ الحسن والنخعي ويحيى بن وثّاب (حرم) بسكون الراء، وهي لغة تميمية، يقولون في رسل: رسل، وفي كتب كتب، ونحو ذلك.
4. ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ من الأحكام المخالفة لما كانت العرب تعتاده، فهو مالك الكلّ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقّب لحكمه.
__________
(1) فتح القدير: 2/8.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿غَيْرَ﴾ حال من الكاف في (لَكُمْ) وهي مقدَّرة، والمراد: إنشاء نفي إحلال الصيد، فيكون من الإنشاء بغير الجملة، أو يقدَّر: كُلوها غير محلِّي الصيد، أي: غير معتقدين لحلِّه، وإمَّا أن يُجعل حالاً من كاف (لَكُمْ) بدون التأويل بالإنشاء السابق، فيُشكِلُ بأنَّه لا فائدة في تقييد إحلال بهيمة الأنعام بكونهم غير محلِّي الصيد وهم حُرُم؛ لأنَّها محلَّلة ولو أحلُّوا الصيد حال الإحرام، أو الغالب أنَّهم لا يحلُّون الصيد وهم حرم؛ فيجوز أن يكون حالا من كاف (لَكُمْ) بلا تأويل بإنشاء.
2. قَيْدُ عدم إحلال الصيد جرى على الغالب، لا مفهوم له، أو أُريد ببهيمة الأنعام الصيود الشبيهة بها، وهو ضعيف، أو المعنى: أحللنا لكم بعض الأنعام في حالة امتناعكم عن الصيد وأنتم حرم؛ لئلَّا يكون عليكم حرج، وإذا أُحلَّت في عدم الإحلال لغيرها وهم محرمون لدفع الحرج عنهم فكيف في غير هذه الحال، فيكون بيانًا لإنعام الله تعالى عليهم بما رخَّص لهم من ذلك، وبيانًا لأنَّهم في غنى عن الصيدِ وانتهاكِ حُرمة الحَرَم، ويجوز أن تكون حالاً من واو (أَوْفُوا) ولا يضرُّ الفصل.
3. ﴿مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ معنى إحلال الصيد: انتهاك حرمته باصطياده، فيشمل اعتقاد الحلِّ، وشملَ الفعلَ مع اعتقاد الحِرْمة، والصيد: الحيوان، ويجوز أن يكون بمعنى الاصطياد، وهو أصله، لأنَّه مصدر.
4. ﴿وَأَنتُمْ حُرُمٌ﴾ بالحجِّ أو العمرة أو كليهما، والواو للحال، والمفرد: حَرام بمعنى مُحْرِم، وصاحب الحال الضمير المستتر في (مُحِلِّي)
5. ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ يتقن ما يريد من تحليل وتحريم وغيرهما بحسب مشيئته، ولتضمين (يَحْكُمُ) معنى يتقن تعدَّى بنفسه لا بالباء، وهو أولى من تضمين معنى يَفعل.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/373.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ يعني: أحلت لكم هذه الأشياء، من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون، فـ (غير) نصب على الحالية من ضمير (لكم)، قال في (العناية): ولا يرد ما قيل: إنه يلزم تقيد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد وهم حرم، وهي قد أحلت لهم مطلقا، ولا يظهر له فائدة، إلّا إذا عنى بالبهيمة الظباء وحمر الوحش وبقره، لأنه ـ مع عدم اطراد اعتبار المفهوم ـ يعلم منه غيره بالطريق الأولى، لأنها إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها، وهم محرمون لدفع الحرج عنهم، فكيف في غير هذه الحال؟ فيكون بيانا لإنعام الله عليهم بما رخص لهم من ذلك، وبيانا لأنهم في غنية عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم.
2. وفي (الإكليل): في الآية تحريم الصيد في الإحرام والحرم، لأن (حرما) بمعنى محرمين، ويقال: أحرم أي: بحجّ وعمرة، وأحرم: دخل في الحرم.
3. قال بعض الزيدية: والمراد بالصيد المحرّم على المحرم، هو صيد البر، لقوله في هذه السورة: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾ [المائدة: 96]، هذا إذا جعل (حرم) جمع (محرم) وهو الفاعل للإحرام، وإن جعل للداخل في الحرم، استوى تحريم البحريّ والبرّي، وذلك حيث يكون في الحرم نهر فيه صيد فيحرم، لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: 97]، لأنه يقال لمن دخل الحرم، أنه محرم، كما يقال: أعرق وأنجد: إذا دخل العراق ونجدا، ويكون التحريم في مكة وحرم المدينة لما ورد من الأخبار في النهي عن صيد المدينة وأخذ شجرها، نحو: المدينة حرم من عير إلى ثور.
4. ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ من تحليل وتحريم، وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه.
__________
(1) تفسير القاسمي: 4/7.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ أي أحلت لكم بهيمة الأنعام حال كونكم غير محلي الصيد الذي حرمه الله عليكم بأن لا تجعلوه حلالا باصطياده أو الأكل منه ﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ أي أنتم محرمون بالحج أو العمرة أو كليهما أو داخلون في أرض الحرم، وهذه الجملة حال من محلي الصيد فلا يحل الصيد لمن كان في أرض الحرم ولو لم يكن محرما ولا للمحرم أي الداخل في الإحرام بالحج أو العمرة وإن كان في خارج حدود الحرم بأن نوى الدخول في هذا النسك وبدأ بأعماله كالتلبية ولبس غير المخيط، ولك أن تجعل هذا القيد لحل بهيمة الأنعام مرجحا لقول من قال إن المراد بها ما كان مشابها للأنعام من البهائم الوحشية التي من شأنها أن تصاد كالظباء وبقر الوحش وحمرها، وأما حل الأنعام الإنسية فيعلم من الآية بالطريق الأولى: ومن غيرها من النصوص بل كان معروفا عند نزول هذه الآية جاريا عليه العمل في الحل والحرم.
2. ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ أي يمنع ما أراد منعه، أو يجعله حكما وقضاء ـ والحكم بمعنى المنع وبمعنى القضاء معروف في اللغة ـ وإرادته إنما تكون على حسب علمه المحيط وحكمته البالغة ورحمته الواسعة، فلا عبث في أحكامه ولا جزاف ولا خلل ولا ظلم.
__________
(1) تفسير المنار: 6/103.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ أي أحلت لكم بهيمة الأنعام حال كونكم غير محلى الصيد الذي حرمه الله عليكم: أي لا تجعلوه حلالا باصطياده أو الأكل منه وأنتم محرمون بالحج أو العمرة أو كليهما أو داخلون في أرض الحرم، فلا يحل الصيد لمن كان في أرض الحرم ولو لم يكن محرما ولا للمحرم بالحج أو العمرة وإن كان في خارج حدود الحرم بأن نوى الدخول في هذا النسك وبدأ بأعماله كالتّلبية ولبس المخيط، والخلاصة ـ أحلّت لكم هذه الأشياء غير محلى الاصطياد ولا أكل الصيد في الإحرام.
2. ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ الحكم القضاء: أي إن الله جل ثناؤه يقضى في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله وتحريم ما أراد تحريمه كما شاء بحسب الحكم والمصالح التي يعلمها سبحانه، فأوفوا بعقوده وعهوده ولا تنكثوها ولا تنقضوها.
__________
(1) تفسير المراغي 6/44.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أخذ الله تعالى في الاستثناء من هذا العموم.. وأول المستثنيات الصيد في حال الإحرام: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾.. والتحريم هنا ينطبق ابتداء على عملية الصيد ذاتها، فالإحرام للحج أو للعمرة، تجرد عن أسباب الحياة العادية وأساليبها المألوفة وتوجه إلى الله في بيته الحرام، الذي جعله الله مثابة الأمان.. ومن ثم ينبغي عنده الكف عن بسط الأكف إلى أي حي من الأحياء.. وهي فترة نفيسة ضرورية للنفس البشرية؛ تستشعر فيها صلة الحياة بين جميع الأحياء في واهب الحياة؛ وتأمن فيها وتؤمن كذلك من كل اعتداء؛ وتتخفف من ضرورات المعاش التي أحل من أجلها صيد الطير والحيوان وأكله؛ لترتفع في هذه الفترة على مألوف الحياة وأساليبها، وتتطلع إلى هذا الأفق الرفاف الوضيء وقبل أن يمضي السياق في بيان المستثنيات من حكم الحل العام، يربط هذا العقد بالعقد الأكبر، ويذكر الذين آمنوا بمصدر ذلك الميثاق:
﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾.. طليقة مشيئته، حاكمة إرادته، متفردا سبحانه بالحكم وفق ما يريد، ليس هنالك من يريد معه؛ وليس هنالك من يحكم بعده؛ ولا راد لما يحكم به.. وهذا هو حكمه في حل ما يشاء وحرمة ما يشاء.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/838.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ هو قيد على هذا القيد وهو أن جميع الأنعام حرّم صيدها، على الحاج وهو محرم بالحج، ومن هذه الأنعام الظباء، وبقر الوحش، وغيرها مما يصاد للأكل، كالأرانب، والطيور..
2. فالمحرم لا يحلّ له صيد أي حيوان، سواء للأكل أو لغيره، وذلك صيانة لنفسه من العدوان، على إنسان أو حيوان، في تلك الحال التي دخل بها ـ محرما ـ إلى حمى الله، ملتمسا العافية لنفسه.. ولن تكمل له هذه العافية في نفسه، حتى يكون هو نفسه سلاما خالصا مع الناس والحيوان السارح في ملكوت الله!
3. ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ هو دفع لكل اعتراض يقوم في نفس لم تأخذ حظها كاملا من الإيمان.. فالله سبحانه له الخلق والأمر.. يحكم لا معقّب لحكمه.. ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ﴾ [الأنعام: 73]، فهذا هو حكم الله، والله يحكم ما يريد.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1025.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ من عموم الذوات والأحوال، وما يتلى هو ما سيفصّل عند قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة: 3]، وكذلك قوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾، الواقع حالا من ضمير الخطاب في قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ﴾، وهو حال مقيّد معنى الاستثناء من عموم أحوال وأمكنة، لأنّ الحرم جمع حرام مثل رداح على ردح، وسيأتي تفصيل هذا الوصف عند قوله تعالى: ﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ في هذه السورة [97]
2. والحرام وصف لمن أحرم بحجّ أو عمرة، أي نواهما، ووصف أيضا لمن كان حالا في الحرم، ومن إطلاق المحرم على الحالّ بالحرم قول الراعي: (قتلوا ابن عفّان الخليفة محرما) أي حالا بحرم المدينة، والحرم: هو المكان المحدود المحيط بمكة من جهاتها على حدود معروفة، وهو الذي لا يصاد صيده، ولا يعضد شجره ولا تحلّ لقطته، وهو المعروف الذي حدّده إبراهيم عليه السلام ونصب أنصابا تعرف بها حدوده، فاحترمه العرب، وكان قصّي قد جدّدها، واستمرّت إلى أن بدا لقريش أن ينزعوها، وذلك في مدّة إقامة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكة، واشتدّ ذلك على رسول الله، ثم إنّ قريشا لم يلبثوا أن أعادوها كما كانت، ولمّا كان عام فتح مكة بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تميما بن أسد الخزاعي فجدّدها، ثم أحياها وأوضحها عمر بن الخطاب في خلافته سنة سبع عشرة، فبعث التجديد حدود الحرم أربعة من قريش كانوا يتبدّون في بوادي مكة، وهم: مخرمة بن نوفل الزهري، وسعيد بن يربوع المخزومي، وحويطب بن عبد العزّى العامري، وأزهر بن عوف الزهري، فأقاموا أنصابا جعلت علامات على تخطيط الحرم على حسب الحدود التي حدّدها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتبتدئ من الكعبة فتذهب للماشي إلى المدينة نحو أربعة أميال إلى التنعيم، والتنعيم ليس من الحرم، وتمتدّ في طريق الذاهب إلى العراق ثمانية أميال فتنتهي إلى موضع يقال له: المقطع، وتذهب في طريق الطائف تسعة (بتقديم المثناة) أميال فتنتهي إلى الجعرانة، ومن جهة اليمن سبعة (بتقديم السين) فينتهي إلى أضاة لبن، ومن طريق جدّة عشرة أميال فينتهي إلى آخر الحديبية، والحديبية داخلة في الحرم، فهذا الحرم يحرم صيده، كما يحرم الصيد على المحرم بحجّ أو عمرة.
3. فقوله: ﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ يجوز أن يراد به محرمون، فيكون تحريما للصيد على المحرم: سواء كان في الحرم أم في غيره، ويكون تحريم صيد الحرم لغير المحرم ثابتا بالسنّة، ويجوز أن يكون المراد به: محرمون وحالّون في الحرم، ويكون من استعمال اللفظ في معنيين يجمعهما قدر مشترك بينهما وهو الحرمة، فلا يكون من استعمال المشترك في معنييه إن قلنا بعدم صحّة استعماله فيهما، أو يكون من استعماله فيهما، على رأي من يصحّح ذلك، وهو الصحيح، كما قدّمناه في المقدّمة التاسعة.
4. وقد تفنّن الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾، وقوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾، فجيء بالأول بأداة الاستثناء، وبالثاني بالحالين الدالّين على مغايرة الحالة المأذون فيها، والمعنى: إلّا الصيد في حالة كونكم محرمين، أو في حالة الإحرام، وإنّما تعرّض لحكم الصيد للمحرم هنا لمناسبة كونه مستثنى من بهيمة الأنعام في حال خاصّ، فذكر هنا لأنّه تحريم عارض غير ذاتيّ، ولولا ذلك لكان موضع ذكره مع الممنوعات المتعلّقة بحكم الحرم والإحرام عند قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ [المائدة: 2] الآية.
5. والصيد يجوز أن يكون هنا مصدرا على أصله، وأن يكون مطلقا على اسم المفعول: كالخلق على المخلوق، وهو إطلاق شائع أشهر من إطلاقه على معناه الأصليّ، وهو الأنسب هنا لتكون مواقعه في القرآن على وتيرة واحدة، فيكون التقدير: غير محلي إصابة لصيد، والصيد بمعنى المصدر: إمساك الحيوان الذي لا يألف، باليد أو بوسيلة ممسكة، أو جارحة: كالشباك، والحبائل، والرماح، والسهام، والكلاب، والبزاة؛ وبمعنى المفعول هو المصيد، وانتصب ﴿غَيْرُ﴾ على الحال من الضمير المجرور في قوله: ﴿لَكُمْ﴾، وجملة ﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ في موضع الحال من ضمير (محلّي)، وهذا نسج بديع في نظم الكلام استفيد منه إباحة وتحريم: فالإباحة في حال عدم الإحرام، والتحريم له في حال الإحرام.
6. وجملة ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ تعليل لقوله: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، أي لا يصرفكم عن الإيفاء بالعقود أن يكون فيما شرعه الله لكم شيء من ثقل عليكم، لأنّكم عاقدتم على عدم العصيان، وعلى السمع والطاعة للّه، والله يحكم ما يريد لا ما تريدون أنتم، والمعنى أنّ الله أعلم بصالحكم منكم، وذكر ابن عطية: أنّ النقّاش حكى: أنّ أصحاب الكندي قالوا له: (أيّها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، قال نعم أعمل لكم مثل بعضه، فاحتجب عنهم أيّاما ثمّ خرج فقال: والله ما أقدر عليه، ولا يطيق هذا أحد، إنّي فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد أمر بالوفاء ونهى عن النكث وحلّل تحليلا عامّا ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يستطيع أحد أن يأتي بهذا إلّا في أجلاد) ـ جمع جلد أي أسفار ـ.
__________
(1) التحرير والتنوير: 5/12.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. استثنى سبحانه ممن أحلت لهم بهيمة الأنعام المحرمين بالحج أو العمرة أو بالحج والعمرة، والموجودين بأرض الحرم سواء أكانوا محرمين أم غير محرمين بقوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾
2. والإحرام بأحد النسكين أو بهما معا معناه في الشرع نية النسكين أو أحدهما نية مقرونة بشعار من شعائر الحج كالتلبية أو سوق الهدى، فمن أحرم أي نوى أحد النسكين واتخذ شعاره لا يحل له ما دام محرما أن يصطاد الأنعام ولا غيرها من حيوان البر، سواء أكان الصيد من أرض الحل أم من أرض الحرم، ولا يحل له الأكل والانتفاع بما اصطاده وهو محرم، وأما صيد البحر والأكل منه فهو حلال للمحرم؛ قال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾، فالمحرم لا يحل له صيد البر؛ سواء أكان في أرض الحل أم في أرض الحرم، وأرض الحرم لا يحل الصيد فيها للمحرم وغير المحرم، الموجود بأرض الحرم مطلقا؛ لأنه أراد أن تكون أرض الحرم أمنا حتى للصيد ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا﴾ [العنكبوت]
3. استثنى سبحانه وتعالى من التحليل ما يتلى من بعد ذلك، وهو ما اشتمل عليه قوله تعالى من بعد: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾
4. ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ المعنى: إن الله يحكم الحكم الذى يريده، لا الحكم الذى تهواه النفوس، أو الحكم الذى توارثه الخلف عن السلف، فهو سبحانه إذا حكم بإيجاب الإيفاء بالعقود، وحكم بإحلال بهيمة الأنعام، وحكم باستثناء بعض الأنعام مما أحله، وحكم باستثناء الفريقين ممن أحل لهم، إنما يصدر في حكمه عن إرادته، وسنته في إرادته بينها سبحانه بقوله: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة] وبقوله: ﴿مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ فأحكامه التي ذكرها مصدرها إرادته، وهو ما يريد العسر ولا الحرج بحكمه، لا في تحريمه المحرمات، ولا إحلاله المباحات، وإيجابه الواجبات، وكل ما أمر به أو نهى عنه أو شرعه.
5. ونرى أن (يحكم) تعدت من غير الباء فلم يقل تعالت كلماته: (إن الله يحكم بما يريده) بل قال: ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ وذلك لتضمن الحكم معنى حد الحدود، والمنع عن الموبقات، فكان التعدي بغير الباء، وقد جاء في تفسير القرطبي أن (هذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام، فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأول: الأمر بالوفاء بالعقود، والثاني تحليل بهيمة الأنعام، والثالث: استثناء ما يتلى بعد ذلك، والرابع: استثناء حال الإحرام فيما يصاد، والخامس: ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم، وحكى النقاش: أن أصحاب الكندي قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما كثيرة، ثم خرج فقال: والله ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت، فإذا هو قد كلف بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن قدرته وحكمته ـ في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد) اللهم انفعنا بكتابك، واهدنا بهديه، واملأ قلبنا بنوره وعلمه إنك أنت العليم الحكيم.
6. ومن قرأ سورة الأنعام المكية ووقف على ما كان عليه أهل الجاهلية من تحريم وتحليل بناء على الأهواء والشهوات والتقاليد الوثنية، يفهم الحكمة البالغة فيما ختمت به هذه الآية من قوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ أي لا يحكم الحكم الذى تقتضيه الأهواء؛ وإنما يحكم الحكم الذى تقتضيه الحكمة والعدالة والمصلحة في الدين والدنيا؛ وهذا يوجب على المؤمن أن يتقبل أحكام الله بالإذعان والتسليم؛ لأن مصدرها إرادة الحكم العدل اللطيف الخبير.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/2017.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ ان الانعام التي أحل الله لنا أكلها هي الانعام الأهلية، أو الوحشية التي لم نتصيدها حال الإحرام، أما المصطادة في هذه الحال، فأكلها حرام، لأن كل ما يصطاده المحرم فلا يجوز أكله، سواء أكان من الانعام، أم من غيره، ويأتي التفصيل عند تفسير الآية 97 وما بعدها من هذه السورة.
__________
(1) التفسير الكاشف: 3/8.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ حال من ضمير الخطاب في قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ﴾ ومفاده حرمة هذا الذي أحل إذا كان اصطياده في حال الإحرام، كالوحشي من الظباء والبقرة والحمر إذا صيدت، وربما قيل: إنه حال من قوله: ﴿أَوْفُوا﴾ أو حال من ضمير الخطاب في قوله: ﴿يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾
2. والصيد مصدر بمعنى المفعول، كما أن الحرم بضمتين جمع الحرام بمعنى المحرم اسم فاعل.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/162.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ أي غير جاعليه حلالاً في حال إحرامكم، فقوله: ﴿غَيْرُ﴾ حال مما سبق، والمعنى: أن الله قد حرمه وأنتم قد آمنتم، فلا تحلوه وقد حرمه الله، أي لا يقع منكم إحلاله فيفيد أن من أحله فقد خرج من الإيمان ومعنى هذا تأكيد تحريمه وهو مذكور في أواخر السورة، ولعل ما يأتي نزل قبل هذا، أو أن هذا موجز قدم على التفصيل، و﴿حُرُمٌ﴾ جمع حرام، وهو المحرم.
2. ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ إشارة إلى أن له الملك، وإلى أن المخاطبين عباده له أن يتعبدهم كيف شاء، ودلالة على أن هذه الأحكام العظيمة، ومنها تعميم التكليف بالعقود وإباحة ذبح الأنعام وأكلها على ما فيه من الألم والشدة عليها، والتحريم للصيد في حال الإحرام كل ذلك لأن الله يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، هذا وهو سبحانه أحكم الحاكمين لا يحكم إلا بالحق، فالأنعام لها في الآخرة عوض ما نالها في الدنيا عوض عظيم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/231.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ تبدو هذه الجملة حالا من قوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ﴾ فكأنّ الله سبحانه وتعالى بعد أن أطلق للمؤمنين الحرية في اصطياد هذه الأنعام في جميع الحالات، أراد استثناء حالة الإحرام للعمرة أو الحج الّتي يحرم الصيد فيها لأنّه من تروكه الملزمة.
2. ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ فله أن يشرّع بما يشاء ويحكم بما يريد، وعلى العباد الخضوع له والطاعة.
__________
(1) من وحى القرآن: 8/21.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وفي الختام تبيّن الآية موردين تستثنيهما من حكم حلية لحوم المواشي، وأحد هذين الموردين هو اللحوم التي سيتم بيان حرمتها فيما بعد، حيث تقول الآية: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ والمورد الثّاني هو أن يكون الإنسان في حالة إحرام للحج أو العمرة، حيث يحرم عليه الصيد في هذه الحالة، فتقول الآية: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾
2. وفي آخر الآية يأتي التأكيد على أنّ الله إذا أراد شيئا أو حكما انجزه أو أصدره، لأنه عالم بكل شيء وهو مالك الأشياء كلها، وإذا رأى أن صدور حكم تكون فيه مصلحة عباده وتقتضي الحكمة صدوره، أصدر هذا الحكم وشرعه، حيث تقول الآية في هذا المجال: ﴿إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/578.
4. حرمة شعائر الله والآمّين لها
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈4⌉ من سورة المائدة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ [المائدة: 2]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ كان المشركون يحجون البيت الحرام، ويهدون الهدايا، ويعظمون حرمة المشاعر، وينحرون في حجهم، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فقال الله: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾(1).
2. روي أنّه قال: قدم الحطم بن هند البكري المدينة في عير له تحمل طعاما، فباعه، ثم دخل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فبايعه وأسلم، فلما ولى خارجا نظر إليه، فقال لمن عنده: (لقد دخل علي بوجه فاجر، ولى بقفا غادر)، فلما قدم اليمامة ارتد عن الإسلام، وخرج في عير له تحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة، فلما سمع به أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تهيأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار ليقتطعوه في عيره، فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ الآية، فانتهى القوم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾، يعني: من توجه قبل البيت، فكان المؤمنون والمشركون يحجون البيت جميعا، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا يحج البيت، أو يتعرضوا له من مؤمن أو كافر، ثم أنزل الله بعد هذا: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨](3).
4. روي أنّه قال: ﴿شَعَائِرِ اللهِ﴾ ما نهى الله عنه أن تصيبه وأنت محرم(4).
5. روي أنّه قال: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ مناسك الحج(5).
6. روي أنّه قال: ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾، يعني: لا تستحلوا قتالا فيه(6).
7. روي أنّه قال: ﴿الْقَلَائِدَ﴾: مقلدات الهدي(7).
8. روي أنّه قال: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾، يعني: من توجه قبل البيت، فكان المؤمنون والمشركون يحجون البيت جميعا، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا يحج البيت، أو يتعرضوا له من مؤمن أو كافر، ثم أنزل الله بعد هذا: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨](3).
9. روي أنّه قال: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾، يقول: من توجه حاجا(8).
10. روي أنّه قال: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا﴾، يعني: إنهم يترضون الله بحجهم(9).
__________
(1) النحاس في الناسخ والمنسوخ ص ٣٥٩.
(2) ابن جرير ٨/٣٣.
(3) ابن جرير ٨/٣٨.
(4) ابن جرير ٨/٢٣.
(5) ابن جرير ٨/٢٢.
(6) ابن جرير ٨/٢٥.
(7) ابن جرير ٨/٢٧.
(8) ابن جرير ٨/٣٤.
(9) ابن جرير ٨/٤١.
ا بن عمر:
روي عن عبد الله بن عمر (ت 73 هـ) أنّه قال في الرجل يحج ويحمل معه متاعا: لا بأس به، وتلا هذه الآية: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٤٢.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ الآية نسختها ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥](1).
2. روي أنّه قال: لم ينسخ منها إلا القلائد، كان الرجل يتقلد بشيء من لحا الحرم فلا يقرب، فنسخ ذلك(2).
3. روي أنّه قال: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ معالم الله في الحج(3).
4. روي أنّه قال: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ القلائد: اللحاء في رقاب الناس والبهائم أمانا لهم، والصفا والمروة والهدي والبدن كل هذا من شعائر الله، قال أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: هذا كله من عمل أهل الجاهلية؛ فعله وإقامته، فحرم الله ذلك كله بالإسلام إلا اللحاء القلائد ترك ذلك(4).
5. روي أنّه قال: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ قال أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: هذا كله من عمل الجاهلية؛ فعله، وإقامته، فحرم الله ذلك كله بالإسلام، إلا لحاء القلائد فترك ذلك(5).
6. روي أنّه قال: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ فحرم الله على كل أحد إخافتهم(5).
7. روي أنّه قال: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾، قال: يبتغون الأجر والتجارة، حرم الله على كل أحد إخافتهم(6).
__________
(1) ابن جرير ٨/٣٥.
(2) عَلَّقه النحاس في الناسخ والمنسوخ ٢/٢٣٧.
(3) عزاه السيوطي إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
(4) تفسير مجاهد ص ٢٩٨.
(5) ابن جرير ٨/٣٩.
(6) تفسير مجاهد ص ٢٩٩.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ هو ذو القعدة(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٢٥.
عطاء:
روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كانوا يتقلدون من لحاء(1)، شجر الحرم، يأمنون بذلك إذا خرجوا من الحرم، فنزلت: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾(2).
2. روي أنّه سئل عن شعائر الله، فقال: حرمات الله؛ اجتناب سخط الله، واتباع طاعته، فذلك شعائر الله(3).
__________
(1) اللحاء: ما على العصا من قشرها.
(2) ابن جرير ٨/٢٨.
(3) ابن جرير ٨/٢١.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة يقال له: (الحطم) (1).
2. روي أنّ زيد بن علي دخل على الإمام الباقر ومعه كتب من أهل الكوفة يدعونه فيها إلى أنفسهم، ويخبرونه باجتماعهم، ويأمرونه بالخروج إليهم، فقال: إن الله تبارك وتعالى أحل حلالا، وحرم حراما، وضرب أمثالا، وسن سننا، ولم يجعل الإمام العالم بأمره في شبهة مما فرض الله من الطاعة، أن يسبقه بأمر قبل محله، أو يجاهد قبل حلوله، وقد قال الله في الصيد: ﴿لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ فقتل الصيد أعظم، أم قتل النفس الحرام؟ وجعل لكل محلا، وقال: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ وقال: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ فجعل الشهور عدة معلومة، وجعل منها أربعة حرما، وقال: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾(2).
__________
(1) تفسير القمّي 1/160.
(2) مجمع البيان 3/239.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ منسوخ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من السمر فلم يعرض له أحد، وإذا تقلد بقلادة شعر لم يعرض له أحد، وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت، فأمر الله أن لا يقاتل المشركون في الشهر الحرام، ولا عند البيت، ثم نسخها قوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥](1).
2. روي أنّه قال: نسخ منها ﴿آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ نسختها الآية التي في براءة، قال: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، وقال: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ [التوبة: ١٧]، وقال: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨]، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر، ونادى علي بالأذان(2).
3. روي أنّه قال: كان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام، ولا عند البيت(1).
4. روي أنّه قال: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ هي للمشركين، يلتمسون فضل الله ورضوانا بما يصلح لهم دنياهم(1).
5. روي أنّه قال: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ والفضل والرضوان اللذان يبتغون أن يصلح معايشهم في الدنيا، وأن لا يعجل لهم العقوبة فيها(3).
__________
(1) عبد الرزاق ١/١٨٢.
(2) ابن جرير ٨/٣٦.
(3) ابن جرير ٨/٤١.
ابن أبي ثابت:
روي عن حبيب بن أبي ثابت (ت 119 هـ) أنّه قال: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ هذا شيء نهي عنه، فترك كما هو، وفي لفظ: شيء كان نهي عنه، فنزلت(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٣٦.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿شَعَائِرِ اللهِ﴾ معناه هداياه.. واحدها شعيرة، تشعر البدنة، ليعلم أنّها هدي.. والإشعار أن يطعن شق سنامها الأيمن بحديدة ليعلم أنّها بدنة.. والشّعائر: الصّفا والمروة وما أشبههما من المناسك)(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ ولا عامدين إليه(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 125.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: نزل في شأن الحطم: ﴿وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾، ثم نسخه الله، فقال: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ [البقرة: ١٩١](1).
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ أما شعائر الله: فحرم الله(2).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ إن العرب كانوا يتقلدون من لحاء شجر مكة، فيقيم الرجل بمكانه، حتى إذا انقضت الأشهر الحرم فأراد أن يرجع إلى أهله قلد نفسه وناقته من لحاء الشجر، فيأمن حتى يأتي أهله(3).
__________
(1) ابن جرير ٨/٣٨.
(2) ابن جرير ٨/٢٢.
(3) ابن جرير ٨/٢٨.
ابن أسلم:
روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق، يريدون العمرة، فقال أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابنا، فأنزل الله: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ الآية(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ـ كما في تفسير ابن كثير ٣/١٠.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ الذين يريدون الحج(1).
2. روي أنّه قال: جلسنا إلى مطرف بن الشخير، وعنده رجل، فحدثهم في قوله: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾، قال: التجارة في الحج، والرضوان في الحج(2).
__________
(1) عزاه السيوطي إلى عبد بن حميد.
(2) ابن جرير ٨/٤٢.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾، نزلت في الحُطَم، واسمه شريح بن ضبيعة بن شرحبيل ابن عمر بن جرثوم البكري من بني قيس بن ثعلبة وفي حجاج المشركين، وذلك أن شريح بن ضبيعة جاء إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا محمد، اعرض علي دينك، فعرض عليه، وأخبره بما له وبما عليه، فقال له شريح: إن في دينك هذا غلظا، فأرجع إلى قومي فأعرض عليهم ما قلت؛ فإن قبلوه كنت معهم، وإن لم يقبلوه كنت معهم، فخرج من عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لقد دخل بقلب كافر، وخرج بوجه غادر، وما أرى الرجل بمسلم)، ثم مر على سرح المدينة، فاستاقها، فطلبوه، فسبقهم إلى المدينة، وأنشأ يقول:
çقد لفها الليل بسواق حطم … ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم … خدلج الساق ولا رعش القدمé
قال أبو صالح الهذيل بن حبيب: قتله رجل من قومه على الكفر، وقدم الرجل الذي قتله مسلما ـ فلما سار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم معتمرا عام الحديبية في العام الذي صده المشركون، جاء شريح إلى مكة معتمرا، معه تجارة عظيمة، في حجاج بكر بن وائل، فلما سمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بقدوم شريح وأصحابه، وعرفوا بنبئهم، فأراد أهل السرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم من قبل شريح وأصحابه، فقالوا: نستأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فاستأمروه، فنزلت الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾، يعني: أمر المناسك، ولا تستحلوا في الشهر الحرام أخذ الهدي، ولا القلائد، يقول: ولا تخيفوا من قلد بعيره، ولا تستحلوا القتل، ﴿آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ يعني: متوجهين قبل البيت الحرام، من حجاج المشركين، يعني: شريح بن ضبيعة وأصحابه، ﴿يَبْتَغُونَ﴾ بتجاراتهم ﴿فَضْلًا مِنَ اللهِ﴾ يعني: الرزق والتجارة، ورضوانه بحجهم، فنهى الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم عن قتالهم(1).
2. روي أنّه قال: نهى الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم عن قتالهم، ثم لم يرض منهم حتى يسلموا، فنسخت هذه الآية آية السيف، فقال عز وجل: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥](2).
3. روي أنّه قال: نسخت آية السيف هذه الآية كلها(1).
4. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾، يعني: مناسك الحج والعمرة، وذلك أن الحمس ـ قريشا، وخزاعة، وكنانة، وعامر بن صعصعة ـ كانوا يستحلون أن يغير بعضهم على بعض في الأشهر الحرم وغيرها، وكانوا لا يسعون بين الصفا والمروة، وكانوا لا يرون الوقوف بعرفات من شعائر الله، فلما أسلموا أخبرهم الله عز وجل بأنها من شعائر الله، فقال عز وجل: ﴿الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ﴾ [البقرة: ١٥٨]، وأمر سبحانه أن يسعى بينهما، وأنزل الله عز وجل: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الهدي ولا القلائد﴾ (3).
5. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ يعني: أمر المناسك، ولا تستحلوا في الشهر الحرام أخذ الهدي، ولا القلائد، يقول: ولا تخيفوا من قلد بعيره، ولا تستحلوا القتل، ﴿آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ يعني: متوجهين قبل البيت الحرام من حجاج المشركين، يعنى: شريح بن ضبيعة وأصحابه، ﴿يَبْتَغُونَ﴾ بتجاراتهم فضلا من الله ـ يعني: الرزق والتجارة ـ، ورضوانه بحجهم(1).
6. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾، يقول: لا تستحلوا القتل في الشهر الحرام؛ وذلك أن أبا ثمامة جنادة بن عوف بن أمية من بني كنانة كان يقوم كل سنة في سوق عكاظ، فيقول: ألا إني قد أحللت المحرم، وحرمت صفرا، وأحللت كذا وحرمت كذا ما شاء، وكانت العرب تأخذ به، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [التوبة: ٣٧]، يعني: جنادة بن عوف ﴿يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ﴾، يعني: خلافا على الله ـ جل اسمه ـ وعلى ما حرم، ﴿فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ﴾ من الأشهر الحرم(3).
7. روي أنّه قال: ثم رجع إلى الآية الأولى في التقديم، فقال تعالى: ﴿وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ كفعل أهل الجاهلية؛ وذلك أنهم كانوا يصيبون من الطريق، قال: وكان في الجاهلية من أراد الحج من غير أهل الحرم يقلد نفسه من الشعر والوبر؛ فيأمن به إلى مكة، وإن كان من أهل الحرم قلد نفسه وبعيره من [لحاء](4)،شجر الحرم، فيأمن به حيث يذهب، فهذا في غير أشهر الحرم، فإذا كان أشهر الحرم لم يقلدوا أنفسهم ولا أباعرهم، وهم يأمنون حيث ما ذهبوا(1).
8. روي أنّه قال: قال عز وجل: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾، يعني: متوجهين نحو البيت، نزلت في الخطيم، يقول: لا تتعرضوا لحجاج بيت الله(1).
9. روي أنّه قال: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ﴾ يعني: الرزق في التجارة في مواسم الحج، ﴿وَرِضْوَانًا﴾ يعني: رضوان الله بحجهم، فلا يرضى الله عنهم حتى يسلموا(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٤٩.
(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٥٠١.
(3) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٤٨.
(4) في المطبوع: لحيا.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ ينهى عن الحجاج أن تقطع سبلهم، قال: وذلك أن الحطم قدم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليرتاد وينظر، فقال: إني داعية قومي، فاعرض علي ما تقول، قال: له: (أدعوك إلى الله أن تعبده ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت)، قال الحطم: في أمرك هذا غلظة، أرجع إلى قومي، فأذكر لهم ما ذكرت؛ فإن قبلوه أقبلت معهم، وإن أدبروا كنت معهم، قال له: (ارجع)، فلما خرج قال: (لقد دخل علي بوجه كافر، وخرج من عندي بعقبي غادر، وما الرجل بمسلم)، فمر على سرح لأهل المدينة، فانطلق به، فطلبه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ففاتهم، وقدم اليمامة، وحضر الحج، فجهز خارجا، وكان عظيم التجارة، فاستأذنوا أن يتلقوه ويأخذوا ما معه، فأنزل الله عز وجل: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾(1).
__________
(1) الفاكهي في أخبار مكة ٢/٢٥٨.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ هذا يوم الفتح، جاء ناس يؤمون البيت من المشركين، يهلون بعمرة، فقال المسلمون: يا رسول الله، إنما هؤلاء مشركون، فمثل هؤلاء فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم، فنزل القرآن: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ هذا كله منسوخ، نسخ هذا ما أمره بجهادهم كافة(2).
3. روي أنّه قال: هو النسيء، وذلك أنهم كانوا يحلونه في الجاهلية عاما، ويحرمونه عاما(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَلَا الْهَدْيَ﴾: وهو كل ما يهدى إلى بيت الله؛ من بعير، أو بقرة، أو شاة(3).
__________
(1) ابن جرير ٨/٣٤.
(2) ابن جرير ٨/٣٧.
(3) تفسير البغوي ٢/٨.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ [المائدة: 2]، هذا نهي من الله سبحانه للمؤمنين أن يحلوا شيئا مما حرم الله من هذه الأشياء، والشعائر فهي: الإبل التي تُشعر عند الإحرام، وإشعارها هو: شق أسنمتها، والهدي هو: ما أهداه المحرمون إلى مكة، والقلائد فهي: الإبل أيضا المقلدة التي يقلدها الحاج بعد إحرامهم.
2. ولا ﴿آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ هو: القاصدون له المتوجهون نحوه، من حاج كان أو معتمر، فنهى الله تبارك وتعالى عن إباحة ما ذكر، والشهر الحرام الذي حرم الله فيه عليهم القتال.
3. ومعنى ﴿الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ هو: الأشهر الحرام فقال: ﴿الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ وهو يريد الشهور، كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ﴾ [الانفطار: 6] وهو يريد الناس والأشهر الحرم التي نهوا عن الإحداث فيها، فهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، وهن اللواتي ذكر الله تبارك وتعالى حين يقول: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ [التوبة: 36] وهذا كان من قبل ظهور محمد، وحقُ هذه الشهور فواجب إلى يوم القيامة، ولكل محق أن يقاتل فيهن على الحق وبالحق، وإنما مُنعوا من القتال فيهن إذا كان قتال فتنة وعصبية وباطل، فأمروا بإجلال هذه الأشهر عن المكافاة بباطل على باطل.
__________
(1) تفسير الإمام الهادي: 1/188.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ الشعائر هي: ما تعبد الله به خلقه في الحج، مثل: الصفا، والمروة، والمواقف، والجمار، والبدن؛ فأمرهم الله ألا يبيحوا ذلك، ولا يتركوه، ولا يفرطوا فيه، وقد قيل: إنهم في سالف الدهر من بعد إبراهيم يتركون بعض هذه الأشياء، ولا يرون في تركها بأسا، وكان ذلك من فعلهم خطأ؛ فنهاهم الله سبحانه عنه، ومن إحلالها أيضا: الإفساد فيها، واستجازة الظلم، والصد عنها، والمعنى الأول هو تفسيرها، وقد يلحق في الكلام ما يفرع عليه وجوه المسألة، نريد بذلك إفهام المسترشد، وتبيين الحق، والله ولي التوفيق، والعون والتسديد.
2. والهدي والقلائد هن: الشعائر، والهدي هو: البدن، والقلائد هو: تقليدها، وإشعارها هو: شق سنامها، وهو من التعبد الذي أمر الله به فيها.. والشهر الحرام فهي: الأشهر الحرم التي ذكر الله عز وجل حين يقول: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾، فأخبر بقول: (الشهر الحرام) عن: ذكر جماعتها؛ إذ كان ذكرها قد تقدم، وشرحها كما قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ﴾ [الانشقاق: 6]، فإنما أراد: يا أيها الناس، وقال عز وجل: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة:194]؛ فأجاز لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ولأصحابه حين تعدي عليهم في الأشهر الحرم، وغزوا فيها: أن يغزوهم صلّى الله عليه وآله وسلّم فيها.. وإنما أراد عز وجل: الأشهر الحرم كلها، لا واحدا منها، واجتزى بقوله: ﴿الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ عن ذكر الأشهر، وعلم السامع أنه قد أجاز الانتصار في كلها ـ لأن هذا من لغة العرب فصحيح معروف في إيجاز الكلام.
3. والآمون البيت الحرام هو: من أمه وقصده من المؤمنين الطالبين لرضى الله؛ فحرم سبحانه صدهم عنه، ومنعهم منه، والاعتراض لهم دونه؛ تأديبا منه عز وجل لخلقه، ودلالة على أرشد طرقهم، وإن كانوا لم يفعلوا ذلك، كما قال عز وجل: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام:152]، فكان ذلك عظة منه وتعليما وتفهيما لما لهم فيه الصلاح، ونهيا عن أفعال الجاهلية الأولين، من إفسادهم لأموال اليتامى، وصدهم عن البيت الحرام، وإن كان المؤمنون لم يفعلوا ذلك في إيمانهم؛ ولكن كان ذلك من الله تعليما لهم، ودلالة على أرشد أمورهم، ثم قد أصبح أهل الظلم اليوم، وهم صادون عنه، مانعون لأهل الإسلام منه، مخيفون للمؤمنين دونه؛ فالله عز وجل على ذلك المستعان، وإليه المشتكى.
4. وقد قيل في الآمين البيت الحرام: إنه شريح بن ضبيعة، في مسيره من اليمامة إلى مكة؛ فأراد المؤمنون أن يعارضوه ويكافوه على ما كان من أخذه لسرح أهل المدينة، وذلك أنه وصل برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم خرج من عنده ولم يسلم، فأجاز بسرح أهل المدينة، فأخذه ومضى به.. وليس تفسير الآية بهذا المعنى، والقول الأول أصوب إن شاء الله؛ لأن شريحا كان كافرا معاندا؛ والله سبحانه أخبر أنهم يبتغون فضلا منه ورضوانا، والكافر فليس الله عنه براض، ولا له بمقرب.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/288.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾:
أ. عن ابن عباس قال كان المشركون يحجون البيت الحرام، ويهدون الهدايا، ويعظمون حرمة المشاعر، وينحرون في حجهم، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم؛ فأنزل الله تعالى: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾، يعني: لا تستحلوا قتالاً فيه، ﴿وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ الآية.
ب. وقال غيره: قوله: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾، يعني: المناسك، لا تستحلوا ترك شعائر الله، والشعائر هن المناسك؛ ألا ترى أن الله تعالى سمي كل منسك من الحج شعائر الله!؟ كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ﴾، وقال: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ﴾، كل هذا من شعائر الله، وهن معالم الله في الحج.
ج. وقيل: شعائر الله: فرائض الله؛ كأنه قال لا تستحلوا ترك ما فرض الله عليكم.
د. وقال الحسن: ﴿شَعَائِرِ اللهِ﴾: قال دين الله، وهو واحد.
هـ. وقيل في قوله: ﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ حتى بلغ ﴿وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ﴾، فقال: حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية؛ فكان الرجل لو جر جريرة وارتكب كبيرة، ثم لجأ إلى حرم الله تعالى لمْ يُتنَاول ولم يُطْلب، ولو لقي قاتلَ أبيه في الأشهر الحرم لم يَتَعَرَّضْ له، وكان الرجل لو لقي الهدى مقلدًا ـ وهو يأكل العصب من الجوع ـ لم يعرض له، ولم يقربه؛ فإذا أراد البيت يقلّد قلادة من شعر؛ فحرمته ومنعته من الناس حتى يأتي أهله.
و. ويحتمل قوله تعالى: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾، أي: لا تستحلوا ما أشعركم الله حرمته، وهو من الأعلام، ويحتمل أن يكون أراد به مشاعر الحرام الذي ذكرنا، وقال: لا تحلُّوا الحرام ولا الشهر الحرام، ولا الهدي ولا القلائد.
2. وهذه أمور كانت من قبل فَنُسِخَتْ بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ الآية، وعن الشعبي أنه قال لم ينسخ من المائدة غير هذه الآية؛ نسخها: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾، وقوله: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ الآية، وقالت عائشة: (إنها آخر ما أنزل؛ فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه)
3. ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ هو هو كقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾، وقد ذكرنا أن اللِّه عز وجل أطلق الحرم في الشهر الحرام بعد ما كان محظورًا بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾
4. ﴿وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ هو ما ذكرنا من صنيعهم في الجاهلية فيما ذكرنا، وفيه دليل لقول أصحابنا (2) حيث قالوا: إن الغنم لا تقلد، والإبل والبقر تقلد؛ لأنه ذكر الهدي والقلائد؛ فدل أن من الهدي ما يقلد، ومنه ما لا يقلد.
5. ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾، أي: قاصدين البيت الحرام.
6. ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾، قيل: إن المشركين كانوا يقصدون البيت الحرام يلتمسون فضل الله ورضوانه؛ بما يصلح لهم دنياهم؛ كقوله تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾، وقد يجوز أن يكونوا لما التمسوا عند أنفسهم رضوان الله ـ أمر الله المؤمنين بالكف عنهم، وإن كانوا قد غلطوا في توجيه العبادة؛ فجعلوها لغير الله؛ كقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا﴾
7. وفي حرف ابن مسعود في قوله: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾: (ولا تاموا)، وكذلك في حرفه (فأموا صعيدًا طيبًا)
8. وقيل في قوله تعالى: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾: حجهم؛ فلا يقبل عنهم حتى يسلموا؛ فنهى الله تعالى رسوله عن قتالهم.
9. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الآية نزلت في رجل من أهل اليمامة يقال له: شريح، وذلك أنه أتى المدينة، فدخل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: أنت مُحَمَّد النبي؟ فقال:) نَعَم)، فقال: إلام تدعو؟ قال) أَدْعُوا إِلَى أَنْ تَشهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأني مُحَمدٌ، رَسُولُ الله)، فقال شريح: يا مُحَمَّد، هذا شرط شديد، وإن لي أمراء خلفي أرجع إليهم؛ فأعرض عليهم ما اشترطت عليَّ، وأستأمرهم في ذلك، فإن أقبلوا أقبلت، وإن أدبروا أدبرت فكنت معهم، ثم انصرف خارجًا من عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما خرج، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:) لقَدْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِي بِعَقِبَي غَادِرٍ، وَلَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ بِوَجْهٍ كَافِرٍ، وَمَا الرجُلُ بِمُسلِمٍ) فمرَّ شريح بسرح لأهل المدينة فساقها منهم، فلما كان من العام الثاني قدم شريح إلى مكة، ومعه تجارة عظيمة في حجاج، وكانت العرب في الجاهلية يُغِير بعضهم على بعض، فإذا كان أشهر الحرم، أمن الناس كلهم بعضهم بعضًا، فمن أراد أن يسافر قلد بعيره من الشعر أو الوبر؛ فيأمن بذلك الهدي حيثما ذهب، فلما سمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بحج شريح، وقدومه إلى مكة، أرادوا أن يغيروا على شريح؛ فيأخذوا ما معه، ويقتلوهم؛ كما أغار شريح على سرح أهل المدينة قبل ذلك؛ فاستأمروا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك؛ فنزلت الآية فيهم: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ إلى آخره؛ فلا ندري كيف كانت القصة؟ وليس بنا إلى معرفة القصة حاجة، إلا القدر الذي ذكر الله في ذلك.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٣٩.
(2) يقصد الحنفية
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ أي لئلا يبيحوا شعائر الله وهي معالم الحج وحدوده، التي حظرها الله وحرمها.
2. أما قوله: ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾، فإنما يريد بذلك ولا تبيحوا الأشهر الحرام، التي حرم الله فيها ما أباح في غيرها من الأشهر.. وأما الهدي: فهو ما يهدى إلى بيت الله من الذبائح.. والقلائد: هي البدن التي تقلد وتهدى إلى بيت الله.
3. ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ﴾، أي ولا تبيحوا من قصد البيت الحرام وأمّ إليه، قال الشاعر:
çيؤم قصد الكعبة النجوما... ناهجة منهجها المأموما.. أي تقصدé
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/215.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ أي معالم الله وهو مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام وشعائر الله هي ما حرم الله تعالى في حال الإحرام وسائر حدوده فيما أباح وأحل وحرم وحظر، وقيل: إن الشعائر هي المناسك والدين وكل ذلك جائز.
2. ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ أي لا تستحلوا القتال فيه وهو رجب ﴿وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ والهدي هو ما لم يقلد من النعم وقد جعل على نفسه أن يهديه ويقلده، والقلائد ما قلد من الهدي لأن التقليد يتعقبه الإحرام، وقيل إن المشركين كانوا يأخذون لحا شجر الحرم إذا أرادوا الخروج منه فيتقلدونه ليأمنوا فنهوا أن ينزعوا شجر الحرم ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ يقال أممت كذا إذا قصدته ويقال: يممته، قال الشاعر:
çإني كذاك إذا ما سائني بلد... يممت صدر بعيري غيره بلداé
3. ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ يعني رضى الله عز وجل عنهم بنسكهم والفضل الأجر ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ وهذا وإن خرج مخرج الأمر فهو بعد الحظر فاقتضى إباحة الاصطياد بعد الإحلال دون الوجوب ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ فيه تأويلان:
أ. أحدهما: لا يحملنكم يقال: جرمني على بغضك أي حملني قال الشاعر:
çولقد طعنت أبا عيينة طعنة... جرمت فزارة كلها أن تغضباé
ب. الثاني معناه: لا يكسبنكم يقال: جرمت على أهلي أي كسبت لهم.
4. والشنآن: البغض والعداوة.. وهذه الآية نزلت في الخطم بن هند البكري أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وحده وخلف خيله خارجة من المدينة فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إلى ما تدعو فأخبره وقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لأصحابه: (يدخل عليكم اليوم رجل من ربيعة يتكلم بكلام شيطان) فلما أخبره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبى غادر فمن يسرح من شرح المدينة فاستاقه وانطلق وهو يرتجز ويقول:
çقد لفها الليل بسواق خطم... ليس براع إبل ولا غنم
ولا بجرار على ظهر وضم... باتوا نياماً وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالدلم... خدلج الساقين ممسوح القدمé
ثم أقبل من العام القابل حاجاً قد قلد الهدي فأراد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يبعث إليه فنزلت هذه الآية حتى بلغ: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ ولم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/202.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللهِ﴾ أي معالم الله، مأخوذ من الإِشعار وهو الإِعلام، وفي شعائر الله خمسة تأويلات:
أ. أحدها: أنها مناسك الحج، وهو قول ابن عباس، ومجاهد.
ب. الثاني: أنها ما حرمه الله في حال الإحرام، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً.
ج. الثالث: أنها حرم الله، وهو قول السدي.
د. الرابع: أنها حدود الله فيما أحل وحرَّم وأباح وحظَّر، وهو قول عطاء.
هـ. الخامس: هي دين الله كله، وهو قول الحسن، كقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 22] أي دين الله.
2. ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ أي لا تستحلوا القتال فيه، وفيه ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنه رَجَبُ مُضَر.
ب. الثاني: أنه ذو العقدة، وهو قول عكرمة.
ج. الثالث: أنها الأشهر الحرم، وهو قول قتادة.
3. ﴿وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ أما الهدي ففيه قولان:
أ. أحدهما: أنه كل ما أهداه من شيء إلى بيت الله تعالى.
ب. الثاني: أنه ما لم يقلّد من النعم، وقد جعل على نفسه، أن يُهديه ويقلده، وهو قول ابن عباس.
4. فأما القلائد ففيها ثلاثة أقاويل:
أ. أنها قلائد الهدْي، وهو قول ابن عباس، وكان يرى أنه إذا قلد هديه صار مُحرِماً.
ب. الثاني: أنها قلائد من لحاء الشجر، كان المشركون إذا أرادوا الحج قلدوها في ذهابهم إلى مكة، وعَوْدهم ليأمنوا، وهذا قول قتادة.
ج. الثالث: أن المشركين كانوا يأخذون لحاء الشجر من الحرم إذا أرادوا الخروج منه، فيتقلدونه ليأمنوا، فَنُهوا أن ينزعوا شجر الحرم فيتقلدوه، وهذا قول عطاء.
5. ﴿وَلَاءَامِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ﴾ يعنى ولا تحلوا قاصدين البيت الحرام، يقال أممت كذا إذا قصدته، وبعضهم يقول يممته، كقول الشاعر:
çإني لذاك إذا ما ساءني بلد … يممت صدر بعيري غيره بلداًé
6. في قوله تعالى: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ فيه قولان:
أ. أحدهما: الربح في التجارة، وهو قول ابن عمر.
ب. الثاني: الأجر، وهو قول مجاهد.
7. ﴿وَرِضْوَانًا﴾ يعني رضي الله عنهم بنسكهم.
8. قال السدي: نزلت هذه الآية في الحُطَم بن هند البكري أَتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، إِلَامَ تَدعو؟ فأخبره، وقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لأصحابه: (يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان) فلما أخبره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال أنظرني حتى أشاور، فخرج من عنده، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لقد دخل بوجه كافر، وخرج بقفا غادر) فمر بسرح من سرح المدينة، فاستقاه وانطلق وهو يرتجز ويقول:
çلقد لفها الليل بسواق حطم … ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم … باتوا نياماً وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم … خدلج الساقين ممسوح القدمé
ثم أقبل من عام قابل حاجاً قد قلد الهدي، فاستأذن أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقتلوه، فنزلت هذه الآية حتى بلغ ﴿ءَآمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ فقال له ناس من أصحابه: يا رسول الله خلّ بيننا وبينه، فإنه صاحبنا، فقال: (إنه قد قلد)
9. اختلفوا فيما نسخ من هذه الآية بعد إجماعهم على أن منها منسوخاً على ثلاثة أقاويل:
أ. أحدهما: ان جميعها منسوخ، وهذا قول الشعبي، قال لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية.
ب. الثاني: أن الذى نسخ منها ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَاءَآمِّينَ الْبَيتَ الْحَرَامَ﴾ وهذا قول ابن عباس، وقتادة.
ج. الثالث: أن الذي نسخ منها ما كانت الجاهلية تتقلده من لحاء الشجر، وهذا قول مجاهد.
__________
(1) تفسير الماوردي: ٢/٧.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ أبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر وإسماعيل المسيبي (شنآن) بسكون النون الأولى في الموضعين، الباقون بفتحها وقرأ ابن كثير وأبو عمر (وان صدوكم) بكسر الهمزة الباقون بفتحها.
2. هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين ينهاهم ان يحلوا شعائر الله، واختلفوا في معنى شعائر الله على سبعة أقوال:
أ. فقال بعضهم: معناه لا تحلوا حرمات الله، ولا تعدوا حدوده، وحملوا الشعائر على المعالم، وأرادوا بذلك معالم حدود الله وأمره ونهيه، وفرائضه ذهب إليه عطا وغيره.
ب. وقال قوم: معناه لا تحلوا حرم الله وحملوا شعائر الله على معالم حرم الله من البلاد، ذهب إليه السدي.
ج. وقال آخرون: معنى شعائر الله مناسك الحج، والمعنى لا تحلوا مناسك الحج، فتضيعوها، ذهب إليه ابن جريج، ورواه عن ابن عباس، وقال ابن عباس: كان المشركون يحجون البيت، ويهدون الهدايا، ويعظمون حرمة المشاعر، ويتجرون في حججهم، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فنهاهم الله عن ذلك.
د. وقال مجاهد: شعائر الله الصفا والمروة والهدي من البدن، وغيرها، كل هذا من شعائر الله. وقال الفراء: كانت عامة العرب لا ترى الصفا والمروة من الشعائر، ولا يطوفون بهما، فنهاهم الله عن ذلك وهو قول أبي جعفر عليه السلام.
هـ. وقال قوم: معناه لا تحلوا ما حرم الله عليكم في إحرامكم، روي ذلك عن ابن عباس في رواية اخرى.
و. وقال الجبائي الشعائر: العلامات المنصوبة للفرق بين الحل، والحرم نهاهم الله أن يتجاوزها إلى مكة بغير إحرام.
ز. وقال الحسين بن علي المغربي: المعنى لا تحلوا الهدايا المشعرة، وهو قول الزجاج واختاره البلخي.
3. أقوى الأقوال قول عطا من أن معناه، لا تحلوا حرمات الله، ولا تضيعوا فرائضه لأن الشعائر جمع شعيرة وهي، على وزن فعلية، واشتقاقها من قولهم: شعر فلان بهذا الامر: إذا علم به، فالشعائر المعالم من ذلك، وإذا كان كذلك، وجب حمل الآية على عمومها، فيدخل فيه مناسك الحج، وتحريم ما حرم في الإحرام، وتضييع ما نهى عن تضييعه واستحلال حرمات الله، وغير ذلك من حدوده وفرائضه وحلاله وحرامه، لأن كل ذلك من معالمه، فكان حمل الآية على العموم أولى.
4. ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ معناه ولا تستحلوا الشهر الحرام بقتالكم فيه أعداءكم من المشركين، كما قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ وهو قول ابن عباس وقتادة، والشهر الحرام الذي عناه الله ها هنا:
أ. قال قوم: هو رجب، وهو شهر كانت مضر تحرم فيه القتال.
ب. وقال قوم: هو ذو العقدة، ذكره عكرمة.
ج. وقال أبو علي الجبائي: هو أشهر الحرام كلها، نهاهم الله عن القتال فيها، وهو أليق بالعموم، وبه قال البلخي.
5. ﴿وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ فالهدي جمع واحدة هدية وأصله هدية وهو ما هداه الإنسان من بعير أو بقرة أو شاة أو غير ذلك إلى بيت الله تقربا به إلى الله تعالى وطلباً لثوابه بقول الله: لا تستحلوا ذلك فتغصبوه أهله عليه، ولا تحولوا بينهم وبين ما اهدوا من ذلك إلى بيت الله ان يبلغوه محله من الحرم، ولكن خلوهم حتى يبغوا به المحل الذي جعله عز وجعل له، وهو كعبته، قال ابن عباس: والهدي يكون هدياً قبل ان يقلد ما جعله على نفسه أن يهديه ويقلده.
6. ﴿وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ معناه ولا تحلوا القلائد، واختلفوا في معناه:
أ. فقال بعضهم: عنى بالقلائد الهدي، وإنما كرر، لأنه أراد المنع من حل الهدي الذي لم يقلد، والهدي الذي قلد، وهو قول ابن عباس.
ب. وقال آخرون: يعني بذلك القلائد التي كان المشركون يتقلدونها إذا أرادوا الحج مقبلين إلى مكة من لحاء السمر، وإذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين منها إلى المشعر، ذهب إليه قتادة،وقال كان في الجاهلية إذا خرج الرجل من أهله يريد الحج تقلد من السمر، فلا يعرض له أحد وإذا رجع تقلد قلادة شعر، فلا يعرض له أحد، وقال عطا: كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم يأمنون به إذا خرجوا من الحرم، وقال الفراء: كان أهل الحرم يتقلدون بلحاء الشجر، واهل غير الحرم يتقلدون بالصوف والشعر وغيرهما، فنزلت ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ وقال مجاهد: وهو اللحا في رقاب الناس، والبهائم أمن لهم، وهو قول السدي، وقال ابن زيد: إنما عنى بالمؤمنين نهاهم أن ينزعوا شيئاً من شجر الحرم يتقلدون به، كم كان المشركون يفعلونه في جاهليتهم، ذهب إليه عطا في رواية والربيع بن أنس.
ج. وقال أبو علي الجبائي: القلائد هو ما قلده الهدي، نهاهم عن حلها، لأنه كان يحب أن يتصدق بها، قال ويحتمل أن تكون عبارة عن الهدي المقلد، والأقوى أن يكون المراد بذلك النهي عن حل القلائد، فيدخل فيه الإنسان والبهيمة إذ هو نهي عن استحلال حرمة المقلد، وهو هدياً كان ذلك أو إنساناً.
7. ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ معناه، ولا تحلوا قاصدين البيت الحرام، يقال: أممت كذا: إذا قصدته وعمدته، وبعضهم يقول يممته قال الشاعر:
çإني كذلك إذا ما ساءني بلدٌ...يممت صدر بعيري غيره بلداé
والبيت الحرام بيت الله بمكة، وهو الكعبة.
8. ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ معناه يلتمسون أرباحاً في تجارتهم من الله ﴿وَرِضْوَانًا﴾ يعني وان ترضى عنهم منسكهم، نهي الله تعالى ان يحلّ ويمنع من هذه صورته، فأما من قصد البيت ظلماً لأهله، وجب منعه ودفعه عنهم.
9. قال أبو جعفر عليه السلام: نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة يقال له: الحطم، قال السدي: أقبل الحطم بن هند البكري حتى أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحده، وخلف خيله خارجة من المدينة، فدعاه فقال: إلام تدعو فأخبره وقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لأصحابه: يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان، فلما أخبره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال انظروا لعلي أسلم ولي من أشاوره، فخرج من عنده فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقب غادر، فمر بسرج من سرج المدينة فساده وانطلق به، وهو يرتجز ويقول:
çقد لفها الليل بسواق حطم...ليس براعي ابل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم...باتوا نياماً وابن هند لم يتم
بات يقاسيها غلام كالزلم...خدلج الساقين ممسوح القدمé
ثم اقبل من عام قبل حاجا قد قلد هدياً، فأراد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يبعث إليه، فنزلت هذه الآية ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ هذا قول ابن جريج، وعكرمة والسدي وقال ابن زيد: نزلت يوم الفتح في ناس يأمون البيت من المشركين يهلون بعمرة، فقال المسلمون: يا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما هؤلاء مشركون، مثل هؤلاء دعنا نغير عليهم، فأنزل الله تعالى الآية قال ابن عباس: ذلك في كل من توجه حاجا، وبه قال الضحاك والربيع بن انس.
10. اجمعوا على انه نسخ من حكم هذه الآية شيء إلا ابن جريج فانه قال: لم ينسخ منها شيء لأنه لا يجوز أن يبتدأ المشركون في أشهر الحرم بالقتال إلا إذا قاتلوا، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، وقال الشعبي: لم ينسخ من المائدة غير هذه الآية وقال أبو ميسرة: في المائدة ثمانية عشر فريضة ليس منها شيء منسوخ، واختلفوا فيما نسخ منه:
أ. فقال بعضهم: نسخ جميعها ذهب إليه الشعبي وقال: لم ينسخ من المائدة غير هذه الآية لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام، ولا الهدي، ولا القلائد، وبه قال مجاهد: قال نسخها قوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ وبه قال قتادة والضحاك وحبيب بن أبي ثابت وابن زيد.
ب. وقال آخرون: نسخ منها قوله: ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾، ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ ذكر ذلك عن ابن أبي عروبة عن قتادة وقال: نسخها قوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، وقوله: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ﴾، وقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ الآية) في السنة التي نادى علي عليه السلام فيها بالأذان، وبه قال ابن عباس.
ج. وقال قوم: لم ينسخ منه إلا القلائد، وروي ذلك عن ابن أبي بحيح عن مجاهد.
11. أقوى الأقوال قول من قال نسخ منها ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾، ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ لإجماع الامة على أنه تعالى أحل قتال أهل الشرك في أشهر الحرام وغيرها من شهور السنة، واجمعوا أيضاً على أن مشركا لو قلد لحا جميع أشجار الحرم عنقه أو ذراعه، لم يكن ذلك أماناً له من القتل إذا لم يتقدم له أمان.
12. ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ﴾:
أ. ظاهره يحتمل المسلم والمشرك لعموم اللفظ، لكن خصصنا المشركين بقوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ الآية.
ب. ويحتمل أيضاً أن يكون مخصوصاً بأهل الشرك، وعليه اكثر المفسرين، فإن كان مخصوصاً بهم، فلا شك أيضاً أنه، منسوخ بما قدمناه من الآية والإجماع.
13. ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ معناه يلتمسون ويطلبون الزيادة، والأرباح في التجارة ورضوان الله عنهم وإلا يحل بهم ما حل بغيرهم من الأمم بالعقوبة في غالب دنياهم، وهو قول قتادة وقال: هي للمشركين يلتمسون فضل الله، ورضوانه بما يصلح لهم دنياهم، وبه قال ابن عباس والربيع بن انس ومجاهد.
14. في الآية دلالة على جواز حمل المتاع للتجارة في الحج.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/418.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. ﴿شَعَائِرَ﴾ يقال: شعرت الشيء إذا فطنت له، وأصله العلم، ومنه ليت شعري، أي ليتني أعلم، ومنه سمي الشاعر لفطنته بما لا يفطن له غيره، والمشاعر مواضع النسك، وهي المعالم، والشعيرة واحدة الشعائر، وهي أعلام الحج وأعماله، قال القتبي: كل شيء يجعل علمًا من أعلام طاعته فهو شعيرة، والجمع شعائر، وقيل في واحده شعاره، قال ابن فارس: وهو أحسن، والإشعار الإعلام من طريق الإحساس، قال أبو مسلم: الشعيرة، والآية، والعلامة واحد.
ب. التحليل ضد التحريم، والحلال والمباح من النظائر، وهو ما لا مزية لفعله على تركه، وله أن يفعله.
ج. الحَرَام والحَرم واحد، وحريم البئر ما حولها، كأنها تحرم على غير حافرها، وحرم الله مكة لما حرم فيها، وأحرم الرجل صار محرمًا، والحِرْم: الإحرام، ومنه الحديث: كنت أطيبه لحِرْمِهِ) وأَحْرَمَ: دَخَلَ في الشهر الحرام، ورجل حَرَمِيّ منسوب إلى الحَرَم، والأشهر الحرم أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ورجب.
د. الهدْي: ما يُهْدَى إلى الحرم من النعم، وهو من الإهداء، ومنه الهدية: ما يُهدى من التحف، والمِهْدَى: الطبق مِهدَي فيه بكسر الميم، والمهداء المهدي الذي من شأنه أن يهدي، والهدي العروس تهدى إلى زوجها هديتها إلى بعلها هداء، والهدِيّ بكسر الدال وتشديد الياء الهدية، وفي الحديث: فخرج رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم يتهادى بين اثنين؛ أي يمشي معتمدًا عليهما، والهدى خلاف الضلال.
هـ. القلائد: واحدها قلادة، وهي ما يقلد بها الهدي، وأصله القلادة، وهي معروفة، وتقليد البُدْن أن يعلق في عنقها شيء ليعلم أنها هدي، والقِلْد: بكسر القاف: السوار من الفضة؛ لأنه كالقلادة لليد، والقَلْدُ بفتح القاف: الفتل، يقال: قَلَدْتُ الحبل قلدًا إذا فتلته، والإقليد: المفتاح، وتقلدت السيف.
و. ﴿آمِّينَ﴾ الأَمَمُ القريب، يقال: أحدث ذلك من أمَمٍ: قُرْب، ورئيس القوم أمهم، والأم الأصل، ومنه: أم القرى، ومنه: أم الإنسان، والأَم بالفتح القصد، يقال: أممت البيت وحججت واحد، عن أبي مسلم، وتأممت فلانًا قصدته، وهو الأصل، وأم الإنسان؛ لأنه يقصد، وأم القرى لقصد الناس إليه، والأم الرئيس لأنه يقصد، والأمة الدين لأنه يقصد، والإمَّةُ بكسر الهمزة النعمة؛ لأنها تقصد، وأم الطريق معظمه؛ لأنه يقصد بالمشي، ومنه الإمام الذي يقتدى به.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. عن ابن عباس أن المشركين كانوا يحجون البيت، ويهدون الهدايا، ويعظمون المشاعر، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ب. وقيل: كان الحُمْسُ من قريش، وخزاعة وكنانة، وعامر بن صعصة يستحلون الغارة في الأشهر الحرم، ولا يسعون بين الصفا والمروة، ولا يقفون بعرفات، ولا يرون الوقوف من المشاعر، فلما أسلموا أمروا بالسعي والوقوف ونهوا عن الغارة في الأشهر الحرم، فنزلت الآية، وقال الأصم: نزلت الآية في رجل من بني بكر دخل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: إني داعية قوم، فاعرض علي ما تدعو إليه، فعرض عليه الإسلام، فقال: في أمرك غلظة، فأرجع إلى قومي فأعرض عليهم ما عرضت فلما انصرف قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر، وما الرجل بمسلم)، ثم مر على سرح المدينة فاستاقها، فطلبه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ففاتهم وحضر الحج، فأقبل البكري حاجًّا، وقد قلد وأهدى، فأراد المسلمون أن يبعثوا إليه، ويأخذوا ما معه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، واختلفوا في اسمه فقيل: الحكم بن هند البكري، وقيل شريح بن ضبيعة البكري.
ج. وقيل: جاء ناس من المشركين يوم الفتح يؤمون البيت، فقال المسلمون: يا رسول الله، إنما هَؤُلَاءِ مشركون، فدعنا نُغِرْ عليهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾
د. وقيل: نزلت في النهي عن الطلب بدخول الجاهلية.
3. مما ذكر في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: لما ذكر أنه يحكم ما يريد بين الأحكام، عن الأصم.
ب. وقيل: لما قال: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ بين تفصيل ذلك فقال: ﴿لَا تُحِلُّوا﴾ إلى آخر الآية.
4. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي صدقوا الله ورسوله فيما أوجب عليهم ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾:
أ. أي تستحلوا ماحرم الله عليكم مجاوزة حده.
ب. وقيل: لا تحولوا عن تعظيم المشاعر والأشهر.
ج. وقيل: لا تمنعوا الكفار من التمسك بشعار الحرم.
5. ﴿شَعَائِرِ اللهِ﴾:
أ. قيل: مناسك الحج، عن ابن عباس ومجاهد وأبي مسلم.
ب. وقيل: فرائض الله التي حدها لعباده، عن عطاء والأصم، واختاره القاضي.
ج. وقيل: دين الله، عن الحسن.
د. وقيل: لا تحلوا ما حرم الله في حال إحرامكم من الصيد ونحوه.
هـ. وقيل: هي العلامات المنصوبة في أوائل الحرم للفرق بين الحل والحرم، فنهوا أنْ يجاوزوها بغير إحرام، عنن أبي علي.
و. وقيل: شعائر الله جميع متعبداته.
ز. وقيل: هي الهدايا تطعن في سنامها، وتقلد ليعلم أنها هدْي، عن أبي عبيدة، ومنه ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ﴾
6. ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ أي لا تستحلوا الشهر الحرام بالقتال فيه، عن ابن عباس وقتادة، واختلفوا في الشهر الحرام:
أ. فقيل: الأشهر الحرم، عن قتادة.
ب. وقيل: هو ذو القعدة، عن عكرمة، وقيل رجب.
ج. وقيل: أراد به النسيء لقوله: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ عن [القتبي] والأصم.
7. ﴿وَلَا الْهَدْيَ﴾ يعني لا تستحلوا الهدي، وهو ما يهدى إلى البيت من الأنعام، وينحر ويتصدق به.
8. ﴿وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ أي ولا تحلوا، وفيه أربعة أقوال:
أ. الأول: معناه الهدي المقلد، كأنه نهى عن المقلد فعبر بالقلائد عنه، عن ابن عباس وأبي علي.
ب. الثاني: المقلد من الناس ليأمن، عن قتادة.
ج. الثالث: القلائد من شجر الحرم بأن يستبيحوه، عن عطاء.
د. الرابع: قلائد الهدي وهو صوف يقلد به واستحلاله ألا يتصدق به معه، بل يمسكه لنفسه، عن أبي علي، وهو الظاهر؛ لأنه عطف على الهدْي فالظاهر أنه غيره، وكأنه صار بمنزلته في وجوب التصدق به.
9. واختلفوا في قلائد الهدي:
أ. قيل: يقلده بالنعال ثم يتصدق بها معها، عن الحسن، وقيل صوف يفتل ويجعل في أعناق الهدْي، عن أبي علي، فعنى هذا النهي ينصرف إلى إمساك القلائد.
ب. الثاني: أنهم كانوا يقلدون إبلهم من لحاء شجرة الحرم، فلا يتعرض لهم فنهوا عن ذلك تحريمًا لقطع شجر الحرم، عن عطاء.
10. ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ أي قاصدين الكعبة سمي حرامًا لحرمته، وقيل: لأنه يحرم فيه ما يحل في غيره، واختلفوا:
أ. فمنهم من حمله على الكفار واستدل بقوله: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْيم)
ب. ومنهم من حمله على من أسلم فكأنه نهى أن يوجد بعد الإسلام ذحْلُ الجاهلية؛ لأن الإسلام يجب ما قبله.
11. ﴿يَبْتَغُونَ﴾ أي يطلبون يعني الَّذِينَ يؤمون البيت الحرام ﴿فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ اختلفوا في المراد بالآية:
أ. فقيل: الكفار.
ب. وقيل: المؤمنون.
12. واختلفوا في معنى ﴿فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ﴾:
أ. قيل: فضلا في الآخرة أي نعمًا ورضوانًا في الدنيا، عن الأصم؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون بالآخرة.
ب. وقيل: فضلا في دنياهم ورضوانًا في دينهم.
ج. وقيل: فضلا في الدنيا ورضوانًا في الآخرة.
د. وقيل: يبتغون الآخرة والتجارة، عن مجاهد.
هـ. وقيل: المؤمن يبتغي رضوان الله، والكافر يبتغي الرزق وصلاح الدنيا.
و. وقيل: رضوانا على زعمهم؛ لأنه لا نصيب للكافر في الرضوان، وحملوا الآية على الكفار.
ز. وقيل: أن يصلح معايشهم ولا يعاقبهم في الدنيا، عن قتادة.
13. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن تحليل ما ذكره لا يجوز، وما لا يجوز تحليله إما أن يكون فرضا أو حراما، وكلا الأمرين لا يجوز أن يحله.
ب. المنع من القتال في الأشهر الحرم، ومن المنع من المسجد الحرام، واختلفوا:
• فقيل: إنها منسوخة بقوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾، وبقوله: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾
• وقيل: إنها مُحْكَمَة والمراد بها المؤمنون، وألّا يزولوا عن وجوبها، والتمسك بها، وروي نحوه عن الحسن.
• وذكر أبو مسلم أن المراد بها الكفار الَّذِينَ كانوا في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فلما زال العهد بسورة براءة زال ذلك الحظر ووجب ما قال الله تعالى: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ ولهذا اختلفوا فقال بعضهم: لا نسخ في سورة المائدة، وقال بعضهم لا نسخ إلا هذه الآية.
ج. المنع من استحلال الهدي والقلائد، وقد بينا ما قيل فيه.
د. أن التقليد في الشرع مستحب؛ فلذلك صار بمنزلة المقلد في وجوب التصديق بها.
هـ. أن من قصد البيت يجب أن ينوي التقرب إلى الله تعالى، لذلك قال: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ﴾
14. القراءة الظاهرة ﴿آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾، وقرأ الأعمش: آمي البيت الحرام) على الإضافة.
15. نصب ﴿الْهَدْيَ﴾ و﴿الْقَلَائِدَ﴾ بوقوع الفعل، كأنه قيل: ولا تحلوا الشهر الحرام، ولا تحلوا القلائد.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/180.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الشعائر: جمع شعيرة، وهي أعلام الحج وأعماله، واشتقاقها من قولهم شعر فلان بهذا الامر: إذا علم به، والمشاعر: المعالم، من ذلك الاشعار: الاعلام من جهة الحس، وقيل: الشعيرة، والعلامة، والآية واحدة.
ب. الحلال، والحل: المباح، وهو ما لا مزية لفعله على تركه.
ج. الحرام، والحرم ضده، وحريم البئر: ما حولها، لأنها تحرم على غير حافرها، والحرم: الإحرام، وأحرم الرجل صار محرما، وأحرم: دخل في الشهر الحرام، ورجل حرمي: منسوب إلى الحرم.
د. الهدي: ما يهدى إلى الحرم من النعم.
هـ. قلائد: جمع قلادة، وهي ما يقلد به الهدي، والتقليد في البدن أن يعلق في عنقها شيء ليعلم أنها هدي، والقلد: السوار، لأنها كالقلادة لليد.
و. الأم: القصد، يقال أممت كذا إذا قصدته، ويممت بمعناه، قال الشاعر:
çإني كذاك إذا ما ساءني بلد... يممت صدر بعيري غيره بلداé
ومنه الإمام الذي يقتدى به، والأمة: الدين لأنه يقصد والإمة بالكسر: النعمة لأنها تقصد.
2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة يقال له الحطم، وقال السدي: أقبل الحطم بن هند البكري، حتى أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحده، وخلف خيله خارج المدينة، فقال: إلى ما تدعو؟ وقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لأصحابه: يدخل عليكم اليوم رجل من بني ربيعة، يتكلم بلسان شيطان، فلما أجابه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال أنظرني لعلي أسلم، ولي من أشاوره، فخرج من عنده، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقب غادر، فمر بسرح من سروح المدينة، فساقه وانطلق به، وهو يرتجز، ويقول:
çقد لفها الليل بسواق حطم... ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم... باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم... خدلج الساقين ممسوح القدمé
ثم أقبل من عام قابل حاجا، قد قلد هديا، فأراد رسول الله أن يبعث إليه، فنزلت هذه الآية ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾، وهو قول عكرمة، وابن جريج.
ب. وقال ابن زيد: نزلت يوم الفتح في ناس يأمون البيت من المشركين، يهلون بعمرة، فقال المسلمون: يا رسول الله! إن هؤلاء مشركون مثل هؤلاء، دعنا نغير عليهم، فأنزل الله تعالى الآية.
3. ابتدأ سبحانه بتفصيل الاحكام فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: صدقوا الله ورسوله، فيما أوجب عليهم ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ اختلف في معنى شعائر الله على أقوال:
أ. أحدها: إن معناه لا تحلوا حرمات الله، ولا تتعدوا حدود الله، وحملوا الشعائر على المعالم أي: معالم حدود الله، وأمره ونهيه، وفرائضه، عن عطاء، وغيره.. وهو أقوى الأقوال، لأنه يدخل فيه جميع الأقوال من مناسك الحج وغيرها، وحمل الآية على ما هو الأعم أولى.
ب. ثانيها: إن معناه لا تحلوا حرم الله، وحملوا الشعائر على المعالم أي: معالم حرم الله من البلاد، عن السدي
ج. ثالثها: إن معنى شعائر الله: مناسك الحج، أي: لا تحلوا مناسك الحج فتضيعوها، عن ابن جريج، وابن عباس.
د. رابعها: ما روي عن ابن عباس أن المشركين كانوا يحجون البيت، ويهدون الهدايا، ويعظمون حرمة المشاعر، وينحرون في حجهم، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فنهاهم الله عن ذلك.
هـ. خامسها: إن شعائر الله هي: الصفا، والمروة، والهدي من البدن، وغيرها، عن مجاهد، وقال الفراء: كانت عامة العرب لا ترى الصفا والمروة من شعائر الله، ولا يطوفون بينهما، فنهاهم الله عن ذلك، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
و. سادسها: إن المراد لا تحلوا ما حرم الله عليكم في إحرامكم، عن ابن عباس، في رواية أخرى.
ز. سابعها: إن الشعائر هي العلامات المنصوبة للفرق بين الحل والحرم، نهاهم الله سبحانه أن يتجاوزوها إلى مكة بغير إحرام، عن أبي علي الجبائي.
ح. ثامنها: إن المعنى لا تحلوا الهدايا المشعرة أي: المعلمة، لتهدى إلى بيت الله الحرام، عن الزجاج، والحسين بن علي المغربي، واختاره البلخي.
4. ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ معناه: ولا تستحلوا الشهر الحرام بأن تقاتلوا فيه أعداءكم من المشركين، كما قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ عن ابن عباس، وقتادة، واختلف في معنى الشهر الحرام هنا:
أ. فقيل: هو رجب، وكانت مضر تحرم فيه القتال.
ب. وقيل: هو ذو القعدة، عن عكرمة.
ج. وقيل: هي الأشهر الحرم كلها، نهاهم الله عن القتال فيها، عن الجبائي، والبلخي، وهذا أليق بالعموم.
د. وقيل: أراد به النسيء كقوله: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: 37] عن القتيبي.
5. ﴿وَلَا الْهَدْيَ﴾ أي: ولا تستحلوا الهدي: وهو ما يهديه الإنسان من بعير، أو بقرة، أو شاة، إلى بيت الله، تقربا إليه، وطلبا لثوابه، فيكون المعنى: ولا تستحلوا ذلك، فتغصبوه أهله، ولا تحولوا بينهم وبين أن تبلغوه محله من الحرم، ولكن خلوهم حتى يبلغوا به المحل الذي جعله الله له.
6. ﴿وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ معناه: ولا تحلوا القلائد، وفيه أقوال:
أ. أحدها: إنه عنى بالقلائد الهدي المقلد، وإنما كرر لأنه أراد المنع من حل الهدي الذي لم يقلد، والهدي الذي قلد، عن ابن عباس، واختاره الجبائي.
ب. ثانيها: إن المراد بذلك القلائد التي كان المشركون يتقلدونها إذا أرادوا الحج، مقبلين إلى مكة، من لحاء السمر، فإذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين منها إلى المشعر، عن قتادة قال كان في الجاهلية، إذا خرج الرجل من أهله، يريد الحج، يقلد من السمر، فلا يتعرض له أحد، وإذا رجع يقلد قلادة شعر، فلا يتعرض له أحد، وقال عطا: إنهم كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم، يأمنون به إذا خرجوا من الحرم، وقال الفراء: أهل الحرم كانوا يتقلدون بلحاء الشجر، وأهل غير الحرم كانوا يتقلدون بالصوف، والشعر، وغيرهما.
ج. ثالثها: إنه عنى به المؤمنين، نهاهم أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم، يتقلدون به، كما كان المشركون يفعلونه في جاهليتهم، عن عطا في رواية أخرى، والربيع بن أنس.
د. رابعها: إن القلائد ما يقلد به الهدي، نهاهم عن حلها، لأنه كان يجب أن يتصدق بها، عن أبي علي الجبائي، قال هو صوف يفتل ويعلق به على عنق الهدي، وقال الحسن: هو نعل يقلد بها الإبل، والبقر، ويجب التصدق بها إن كانت لها قيمة.
هـ. والأولى: أن يكون نهيا عن استحلال القلائد، فيدخل الإنسان والبهيمة، أو يكون نهيا عن استحلال حرمة المقلد، هديا كان ذلك، أو إنسانا.
7. ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ﴾ أي: ولا تحلوا قاصدين البيت ﴿الْحَرَامَ﴾ أي: لا تقاتلوهم لأنه من قاتل في الأشهر الحرم، فقد أحل، فقال: لا تحلوا قتال الآمين البيت الحرام: أي القاصدين، والبيت الحرام: بيت الله بمكة، وهو الكعبة، سمي حراما لحرمته، وقيل: لأنه يحرم فيه ما يحل في غيره، واختلف في المعني بذلك:
أ. فمنهم من حمله على الكفار، واستدل بقوله فيما بعد ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ الآية.
ب. ومنهم من حمله على من أسلم، فكأنه نهى أن يؤخذ بعد الاسلام بذحل الجاهلية، لان الاسلام يجب ما قبله.
8. ﴿يَبْتَغُونَ﴾ أي: يطلبون يعني الذين يأمون البيت ﴿فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾:
أ. أي: أرباحا في تجاراتهم من الله، وأن يرضى عنهم بنسكهم على زعمهم، فلا يرضى الله عنهم وهم مشركون.
ب. وقيل: يلتمسون رضوان الله عنهم، بأن لا يحل بهم ما حل بغيرهم من الأمم من العقوبة، في عاجل دنياهم، عن قتادة، ومجاهد.
ج. وقيل: فضلا من الله في الآخرة، ورضوانا منه فيها.
د. وقيل: فضلا في الدنيا، ورضوانا في الآخرة، وقال ابن عباس: إن ذلك في كل من توجه حاجا، وبه قال الضحاك، والربيع.
9. اختلف في نسخ قوله تعالى: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾:
أ. فقيل هو منسوخ بقوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ عن أكثر المفسرين.
ب. وقيل: لم ينسخ في هذه السورة شيء ولا من هذه الآية، لأنه لا يجوز أن يبتدئ المشركون في الأشهر الحرم بالقتال، إلا إذا قاتلوا، عن ابن جريج، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، وروي نحوه عن الحسن.
ج. وذكر أبو مسلم: إن المراد به الكفار الذين كانوا في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما زال العهد بسورة براءة، زال ذلك الحظر، ودخلوا في حكم قوله تعالى: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾
د. وقيل: لم ينسخ من المائدة غير هذه الآية ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ عن الشعبي، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد.
هـ. وقيل: إنما نسخ منها قوله: ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ إلى ﴿آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ ذكر ذلك ابن أبي عروبة، عن قتادة قال نسخها قوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ وقوله: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ﴾، وقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ في السنة التي نادى فيها بالأذان، وهو قول ابن عباس.
و. وقيل: لم ينسخ من هذه الآية إلا القلائد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/235.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن شريح بن ضبيعة أتى المدينة، فدخل على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: إلام تدعو؟ فقال: (إلى شهادة أن لا إله إلّا الله، وأنّي رسول الله)، فقال: إنّ لي أمراء خلفي أرجع إليهم أشاورهم، ثم خرج، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر، وما الرّجل بمسلم)، فمرّ شريح بسرح لأهل المدينة، فاستاقه، فلمّا كان عام الحديبية، خرج شريح إلى مكّة معتمرا، ومعه تجارة، فأراد أهل السّرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم، فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وقال السّدّي: اسمه الحطم بن هند البكريّ، قال ولمّا ساق السّرح جعل يرتجز:
çقد لفّها الليل بسوّاق حطم...ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزّار على ظهر وضم...باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزّلم...خدلّج السّاقين ممسوح القدمé
ب. الثاني: أنّ ناسا من المشركين جاءوا يؤمّون البيت يوم الفتح مهلّين بعمرة، فقال المسلمون: لا ندع هؤلاء بل نغير عليهم، فنزل قوله تعالى: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾
شعائر الله: قال ابن قتيبة: هي ما جعله الله علما لطاعته، وفي المراد بها هنا سبعة أقوال:
أ. أحدها: أنها مناسك الحجّ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس، وقال الفرّاء: كان عامّة العرب لا يرون الصّفا والمروة من الشّعائر، ولا يطوفون بينهما، فقال الله تعالى: لا تستحلّوا ترك ذلك.
ب. الثاني: أنها ما حرّم الله تعالى في حال الإحرام، رواه العوفيّ عن ابن عباس.
ج. الثالث: دين الله كلّه، قاله الحسن.
د. الرابع: حدود الله، قاله عكرمة وعطاء.
هـ. الخامس: حرم الله، قاله السّدّي.
و. السادس: الهدايا المشعرة لبيت الله الحرام، قاله أبو عبيدة والزجّاج.
ز. السابع: أنها أعلام الحرم، نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكّة، ذكره الماورديّ، والقاضي أبو يعلى.
2. ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ قال ابن عباس: لا تحلّوا القتال فيه، وفي المراد بالشّهر الحرام ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه ذو القعدة، قاله عكرمة، وقتادة.
ب. الثاني: أن المراد به الأشهر الحرم، قال مقاتل: كان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كلّ سنة فيقول: ألا إني قد أحللت كذا، وحرّمت كذا.
ج. الثالث: أنه رجب، ذكره ابن جرير الطّبريّ، والهدي: كلّ ما أهدي إلى بيت الله تعالى من شيء.
3. وفي ﴿الْقَلَائِدَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها المقلّدات من الهدي، رواه العوفيّ عن ابن عباس.
ب. الثاني: أنها ما كان المشركون يقلّدون به إبلهم وأنفسهم في الجاهليّة، ليأمنوا به عدوّهم، لأن الحرب كانت قائمة بين العرب إلّا في الأشهر الحرم، فمن لقوه مقلّدا نفسه، أو بعيره، أو مشعرا بدنه أو سائقا هديا لم يتعرّض له، قال ابن عباس: كان من أراد أن يسافر في غير الأشهر الحرم، قلّد بعيره من الشّعر والوبر، فيأمن حيث ذهب، وروى مالك بن مغول عن عطاء قال كانوا يتقلّدون من لحاء شجر الحرم، فيأمنون به إذا خرجوا من الحرم، فنزلت هذه الآية، وقال قتادة: كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحجّ تقلّد من السّمر، فلم يعرض له أحد، وإذا رجع تقلّد قلادة شعر، فلم يعرض له أحد، وقال الفرّاء: كان أهل مكّة يقلّدون بلحاء الشّجر، وسائر العرب يقلّدون بالوبر والشّعر.
4. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: لا تستحلّوا المقلّدات من الهدي.
ب. الثاني: لا تستحلّوا أصحاب القلائد.
ج. الثالث: أن هذا نهي للمؤمنين أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم، فيتقلّدوه كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم، رواه عبد الملك عن عطاء، وبه قال مطرّف، والرّبيع بن أنس.
5. ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ (الآمّ): القاصد، و(البيت الحرام): الكعبة، والفضل:
أ. الرّبح في التّجارة، والرّضوان من الله يطلبونه في حجّهم على زعمهم، ومثله قوله تعالى: ﴿وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي﴾
ب. وقيل: ابتغاء الفضل عامّ، وابتغاء الرّضوان للمؤمنين خاصّة.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/508.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما حرم الله تعالى الصيد على المحرم في الآية الأولى: أكد ذلك بالنهي في هذه الآية عن مخالفة تكاليف الله تعالى فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾، والشعائر جمع، والأكثرون على أنها جمع شعيرة، وقال ابن فارس: واحدها شعارة، والشعيرة فعيلة بمعنى مفعلة، والمشعرة المعلمة، والأشعار الأعلام، وكل شيء أشعر فقد أعلم، وكل شيء جعل علما على شيء أو علم بعلامة جاز أن يسمى شعيرة، فالهدي الذي يهدى إلى مكة يسمى شعائر لأنها معلمة بعلامات دالة على كونها هديا.
2. اختلف المفسرون في المراد بشعائر الله، وفيه قولان:
أ. الأول: قوله: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ أي لا تخلوا بشيء من شعائر الله وفرائضه التي حدها لعباده وأوجبها عليهم، وعلى هذا القول فشعائر الله عام في جميع تكاليفه غير مخصوص بشيء معين، ويقرب منه قول الحسن: شعائر الله دين الله.
ب. الثاني: أن المراد منه شيء خاص من التكاليف، وعلى هذا القول فذكروا وجوها:
• الأول: المراد لا تحلوا ما حرّم الله عليكم في حال إحرامكم من الصيد.
• الثاني: قال ابن عباس: إن المشركين كانوا يحجون البيت ويهدون الهدايا ويعظمون المشاعر وينحرون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فأنزل الله تعالى: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾
• الثالث: قال الفرّاء: كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من شعائر الحج ولا يطوفون بهما، فأنزل الله تعالى: لا تستحلوا ترك شيء من مناسك الحج وائتوا بجميعها على سبيل الكمال والتمام.
• الرابع: قال بعضهم: الشعائر هي الهدايا تطعن في أسنامها وتقلد ليعلم أنها هدى، وهو قول أبي عبيدة قال ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ﴾ [الحج: 36] وهذا عندي ضعيف لأنه تعالى ذكر شعائر الله ثم عطف عليها الهدى، والمعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه.
3. ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ أي لا تحلوا الشهر الحرام بالقتال فيه، والشهر الحرام هو الشهر الذي كانت العرب تعظمه وتحرم القتال فيه، قال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ [التوبة: 36] فقيل: هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، فقوله: ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ يجوز أن يكون إشارة إلى جميع هذه الأشهر كما يطلق اسم الواحد على الجنس، ويجوز أن يكون المراد هو رجب لأنه أكمل الأشهر الأربعة في هذه الصفة.
4. ﴿وَلَا الْهَدْيَ﴾ قال الواحدي: الهدي ما أهدي إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة، واحدها هدية بتسكين الدال، ويقال أيضا هدية، وجمعها هدى، قال الشاعر:
çحلفت برب مكة والمصلى...وأعناق الهدى مقلداتé
ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ [المائدة: 95]، وقوله: ﴿وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ [الفتح: 25]
5. ﴿وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ والقلائد جمع قلادة وهي التي تشد على عنق البعير وغيره وهي مشهورة، وفي التفسير وجوه:
أ. الأول: المراد منه الهدي ذوات القلائد، وعطفت على الهدي مبالغة في التوصية بها لأنها أشرف الهدي كقوله: ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: 98] كأنه قيل: والقلائد منها خصوصا
ب. الثاني: أنه نهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي على معنى: ولا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها، كما قال: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ [النور: 31] فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواضعها.
ج. الثالث: قال بعضهم: كانت العرب في الجاهلية مواظبين على المحاربة إلا في الأشهر الحرم، فمن وجد في غير هذه الأشهر الحرم أصيب منه، إلا أن يكون مشعرا بدنة أو بقرة من لحاء شجر الحرم، أو محرما بعمرة إلى البيت، فحينئذ لا يتعرض له، فأمر الله المسلمين بتقرير هذا المعنى.
6. ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ أي قوما قاصدين المسجد الحرام، وقرأ عبد الله: ولا آمي البيت الحرام على الإضافة، ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ قرأ حميد بن قيس الأعرج ﴿تَبْتَغُونَ﴾ بالتاء على خطاب المؤمنين، وفي تفسير الفضل والرضوان وجهان:
أ. الأول: يبتغون فضلا من ربهم بالتجارة المباحة لهم في حجهم، كقوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: 198] قالوا: نزلت في تجاراتهم أيام الموسم، والمعنى: لا تمنعوهم فإنما قصدوا البيت لإصلاح معاشهم ومعادهم، فابتغاء الفضل للدنيا، وابتغاء الرضوان للآخرة، قال أهل العلم: إن المشركين كانوا يقصدون بحجهم ابتغاء رضوان الله وإن كانوا لا ينالون ذلك، فلا يبعد أن يحصل لهم بسبب هذا القصد نوع من الحرمة.
ب. الثاني: أن المراد بفضل الله الثواب، وبالرضوان أن يرضى عنهم، وذلك لأن الكافر وإن كان لا ينال الفضل والرضوان لكنه يظن أن بفعله طالب لهما، فيجوز أن يوصف بذلك بناء على ظنه، قال تعالى: ﴿وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ﴾ [طه: 97]، وقال: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان: 49]
7. اختلف في نسخ الآية الكريمة:
أ. قال بعضهم: هذه الآية منسوخة، لأن قوله: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ يقتضي حرمة القتال في الشهر الحرام، وذلك منسوخ بقوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: 5] قوله: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ يقتضي حرمة منع المشركين عن المسجد الحرام وذلك منسوخ بقوله: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [البقرة: 28] وهذا قول كثير من المفسرين كابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة، وقال الشعبي: لم ينسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية.
ب. وقال قوم آخرون من المفسرين: هذه الآية غير منسوخة، وهؤلاء لهم طريقان:
• الأول: أن الله تعالى أمرنا في هذه الآية أن لا نخيف من يقصد بيته من المسلمين، وحرم علينا أخذ الهدى من المهدين إذا كانوا مسلمين، والدليل عليه أول الآية وآخرها، أما أول الآية فهو قوله: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ وشعائر الله إنما تليق بنسك المسلمين وطاعاتهم لا بنسك الكفار، وأما آخر الآية فهو قوله: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر.
• الثاني: قال أبو مسلم الأصفهاني: المراد بالآية الكفار الذين كانوا في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما زال العهد بسورة براءة زال ذلك الحظر ولزم المراد بقوله تعالى: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾
__________
(1) التفسير الكبير: 11/280.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ خطاب للمؤمنين حقا، أي لا تتعدوا حدود الله في أمر من الأمور، والشعائر جمع شعيرة على وزن فعيلة، وقال ابن فارس: ويقال للواحدة شعارة، وهو أحسن، والشعيرة البدنة تهدى، وإشعارها أن يجز سنامها حتى يسيل منه الدم فيعلم أنها هدي، والإشعار الإعلام من طريق الإحساس، يقال: أشعر هديه أي جعل له علامة ليعرف أنه هدي، ومنه المشاعر المعالم، واحدها مشعر وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات، ومنه الشعر، لأنه يكون بحيث يقع الشعور، ومنه الشاعر، لأنه يشعر بفطنته لما لا يفطن له غيره، ومنه الشعير لشعرته التي في رأسه:
أ. فالشعائر على قول ما أشعر من الحيوانات لتهدى إلى بيت الله، وعلى قول جميع مناسك الحج، قال ابن عباس، وقال مجاهد: الصفا والمروة والهدي والبدن كل ذلك من الشعائر، وقال الشاعر:
çنقتلهم جيلا فجيلا تراهم...شعائر قربان بها يتقربé
وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فأنزل الله تعالى: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾
ب. وقال عطاء بن أبي رباح: شعائر الله جميع ما أمر الله به ونهى عنه، وقال الحسن: دين الله كله، كقوله: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج] أي دين الله، وهذا القول هو الراجح الذي يقدم على غيره لعمومه.
2. وقد اختلف العلماء في إشعار الهدي:
أ. فأجازه الجمهور، ثم اختلفوا في أي جهة يشعر، فقال الشافعي وأحمد وأبو ثور: يكون في الجانب الأيمن، وروي عن ابن عمر، وثبت عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أشعر ناقته في صفحة سنامها الأيمن، أخرجه مسلم وغيره وهو الصحيح، وروي أنه أشعر بدنة من الجانب الأيسر، قال أبو عمر بن عبد البر: هذا عندي حديث منكر من حديث ابن عباس، والصحيح حديث مسلم عن ابن عباس، قال ولا يصح عنه غيره، وصفحة السنام جانبه، والسنام أعلى الظهر، وقالت طائفة: يكون في الجانب الأيسر، وهو قول مالك، وقال: لا بأس به في الجانب الأيمن، وقال مجاهد: من أي الجانبين شاء، وبه قال أحمد في أحد قوليه.
ب. ومنع من هذا كله أبو حنيفة وقال: إنه تعذيب للحيوان، والحديث يرد عليه، وأيضا فذلك يجري مجرى الوسم الذي يعرف به الملك كما تقدم، وقد أوغل ابن العربي على أبي حنيفة في الرد والإنكار حين لم ير الإشعار فقال: (كأنه لم يسمع بهذه الشعيرة في الشريعة! لهي أشهر منه في العلماء)، والذي رأيته منصوصا في كتب علماء الحنفية الإشعار مكروه من قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد ليس بمكروه ولا سنة بل هو مباح، لأن الإشعار لما كان إعلاما كان سنة بمنزلة التقليد، ومن حيث أنه جرح ومثلة كان حراما، فكان مشتملا على السنة والبدعة فجعل مباحا، ولأبي حنيفة أن الإشعار مثلة وأنه حرام من حيث إنه تعذيب الحيوان فكان مكروها، وما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما كان في أول الابتداء حين كانت العرب تنتهب كل مال إلا ما جعل هديا، وكانوا لا يعرفون الهدي إلا بالإشعار ثم زال لزوال العذر، هكذا روي عن ابن عباس، وحكي عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي أنه قال: يحتمل أن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه وهو المبالغة في البضع على وجه يخاف منه السراية، أما ما لم يجاوز الحد فعل كما كان يفعل في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فهو حسن، وهكذا ذكر أبو جعفر الطحاوي، فهذا اعتذار علماء الحنفية لأبي حنيفة عن الحديث الذي ورد في الإشعار، فقد سمعوه ووصل إليهم وعلموه، قالوا: وعلى القول بأنه مكروه لا يصير به أحد محرما، لأن مباشرة المكروه لا تعد من المناسك.
3. ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي أربعة: واحد فرد وثلاثة سرد، يأتي بيانها في براءة، والمعنى: لا تستحلوها للقتال ولا للغارة ولا تبدلوها، فإن استبدالها استحلال، وذلك ما كانوا يفعلونه من النسي، وكذلك قوله: ﴿وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ أي لا تستحلوه، وهو على حذف مضاف أي ولا ذوات القلائد جمع قلادة، فنهى سبحانه عن استحلال الهدي جملة، ثم ذكر المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد.
4. ﴿وَلَا الْهَدْيَ﴾ الهدي ما أهدي إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة أو شاة، الواحدة هدية وهدية وهدي، فمن قال أراد بالشعائر المناسك قال ذكر الهدي تنبيها على تخصيصها، ومن قال الشعائر الهدي قال إن الشعائر ما كان مشعرا أي معلما بإسالة الدم من سنامه، والهدي ما لم يشعر، اكتفي فيه بالتقليد، وقيل: الفرق أن الشعائر هي البدن من الأنعام، والهدي البقر والغنم والثياب وكل ما يهدى، وقال الجمهور: الهدي عاما في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المبكر إلى الجمعة كالمهدي بدنة) إلى أن قال: (كالمهدي بيضة) فسماها هديا، وتسمية البيضة هديا لا محمل له إلا أنه أراد به الصدقة، وكذلك قال العلماء: إذا قال جعلت ثوبي هديا فعليه أن يتصدق به، إلا أن الإطلاق إنما ينصرف إلى أحد الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم، وسوقها إلى الحرم وذبحها فيه، وهذا إنما تلقي من عرف الشرع في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة] وأراد به الشاة، وقال تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ [المائدة]، وقال تعالى: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة] وأقله شاة عند الفقهاء، وقال مالك: إذا قال ثوبي هدي يجعل ثمنه في هد.
5. ﴿وَالْقَلَائِدَ﴾:
أ. ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم، فهو على حذف مضاف، أي ولا أصحاب القلائد ثم نسخ، قال ابن عباس: آيتان نسختا من المائدة آية القلائد وقوله: ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [المائدة] فأما القلائد فنسخها الأمر بقتل المشركين حيث كانوا وفي أي شهر كانوا، وأما الأخرى فنسخها قوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ﴾ [المائدة] على ما يأتي.
ب. وقيل: أراد بالقلائد نفس القلائد، فهو نهي عن أخذ لحاء شجر الحرم حتى يتقلد به طلبا للأمن، قاله مجاهد وعطاء ومطرف بن الشخير.
6. وحقيقة الهدي كل معطى لم يذكر معه عوض، واتفق الفقهاء على أن من قال لله علي هدي أنه يبعث بثمنه إلى مكة، وأما القلائد فهي كل ما علق على أسنمة الهدايا وأعناقها علامة أنه لله سبحانه، من نعل أو غيره، وهي سنة إبراهيمية بقيت في الجاهلية وأقرها الإسلام، وهي سنة البقر والغنم، قالت عائشة: أهدى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مرة إلى البيت غنما فقلدها، أخرجه البخاري ومسلم، وإلى هذا صار جماعة من العلماء: الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن حبيب، وأنكره مالك وأصحاب الرأي وكأنهم لم يبلغهم هذا الحديث في تقليد الغنم، أو بلغ لكنهم ردوه لانفراد الأسود به عن عائشة، فالقول به أولى.. وأما البقر فإن كانت لها أسنمة أشعرت كالبدن، قاله ابن عمر، وبه قال مالك، وقال الشافعي: تقلد وتشعر مطلقا ولم يفرقوا، وقال سعيد بن جبير: تقلد ولا تشعر، وهذا القول أصح إذ ليس لها سنام، وهي أشبه بالغنم منها بالإبل.
7. اتفقوا فيمن قلد بدنة على نية الإحرام وساقها أنه يصير محرما، قال الله تعالى: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ إلى أن قال: ﴿فَاصْطَادُوا﴾ ولم يذكر الإحرام لكن لما ذكر التقليد عرف أنه بمنزلة الإحرام، فإن بعث بالهدي ولم يسق بنفسه لم يكن محرما، لحديث عائشة قالت: أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيدي، ثم قلدها بيديه، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شي أحله الله له حتى نحر الهدي، أخرجه البخاري، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور العلماء، وروي عن ابن عباس أنه قال يصير محرما، قال ابن عباس: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي، رواه البخاري، وهذا مذهب ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير، وحكاه الخطابي عن أصحاب الرأي، واحتجوا بحديث جابر بن عبد الله قال كنت عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جالسا فقد قميصه من جيبه ثم أخرجه من رجليه، فنظر القوم إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد وتشعر على مكان كذا وكذا فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي) وكان بعث ببدنه وأقام بالمدينة، في إسناده عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة وهو ضعيف، فإن قلد شاة وتوجه معها فقال الكوفيون: لا يصير محرما، لأن تقليد الشاة ليس بمسنون ولا من الشعائر، لأنه يخاف عليها الذئب فلا تصل إلى الحرم بخلاف البدن، فإنها تترك حتى ترد الماء وترعى الشجر وتصل إلى الحرم، وفي صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين قالت: فتلت قلائدها من عهن كان عندي، العهن الصوف المصبوغ، ومنه قوله تعالى: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾ [القارعة]
8. لا يجوز بيع الهدي ولا هبته إذا قلد أو أشعر، لأنه قد وجب، وإن مات موجبه لم يورث عنه ونفذ لوجهه، بخلاف الأضحية فإنها لا تجب إلا بالذبح خاصة عند مالك إلا أن يوجبها بالقول، فإن أوجبها بالقول قبل الذبح فقال: جعلت هذه الشاة أضحية تعينت، وعليه، إن تلفت ثم وجدها أيام الذبح أو بعدها ذبحها ولم يجز له بيعها، فإن كان اشترى أضحية غيرها ذبحهما جميعا في قول أحمد وإسحاق، وقال الشافعي: لا بدل عليه إذا ضلت أو سرقت، إنما الإبدال في الواجب، وروي عن ابن عباس أنه قال إذا ضلت فقد أجزأت، ومن مات يوم النحر قبل أن يضحي كانت ضحيته موروثة عنه كسائر ماله بخلاف الهدي، وقال أحمد وأبو ثور: تذبح بكل حال، وقال الأوزاعي: تذبح إلا أن يكون عليه دين لا وفاء له إلا من تلك الأضحية فتباع في دينه، ولو مات بعد ذبحها لم يرثها عنه ورثته، وصنعوا بها من الأكل والصدقة ما كان له أن يصنع بها، ولا يقتسمون لحمها على سبيل الميراث، وما أصاب الأضحية قبل الذبح من العيوب كان على صاحبها بدلها بخلاف الهدي، هذا تحصيل مذهب مالك، وقد قيل في الهدي على صاحبه البدل، والأول أصوب.
9. ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ يعني القاصدين له، من قولهم أممت كذا أي قصدته، وقرأ الأعمش: (ولا آمي البيت الحرام) بالإضافة كقوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ والمعنى: لا تمنعوا الكفار القاصدين البيت الحرام على جهة التعبد والقربة:
أ. وعليه فقيل: ما في هذه الآيات من نهي عن مشرك، أو مراعاة حرمة له بقلادة، أو أم البيت فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة]، وقوله: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة] فلا يمكن المشرك من الحج، ولا يؤمن في الأشهر الحرم وإن أهدى وقلد وحج، روي عن ابن عباس وقاله ابن زيد على ما يأتي ذكر.
ب. وقال قوم: الآية محكمة لم تنسخ وهي في المسلمين، وقد نهى الله عن إخافة من يقصد بيته من المسلمين، والنهي عام في الشهر الحرام وغيره، ولكنه خص الشهر الحرام بالذكر تعظيما وتفضيلا، وهذا يتمشى على قول عطاء، فإن المعنى لا تحلوا معالم الله، وهي أمره ونهيه وما أعلمه الناس فلا تحلوه، ولذلك قال أبو ميسرة: هي محكمة، وقال مجاهد: لم ينسخ منها إلا ﴿الْقَلَائِدَ﴾ وكان الرجل يتقلد بشيء من لحاء الحرم فلا يقرب فنسخ ذلك، وقال ابن جريج: هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم، وقال ابن زيد: نزلت الآية عام الفتح ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكة، جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون فقال المسلمون: يا رسول الله إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم، فنزل القرآن ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾، وقيل: كان هذا لأمر شريح بن ضبيعة البكري ـ ويلقب بالحطم ـ أخذته جند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو في عمرته فنزلت هذه الآية، ثم نسخ هذا الحكم كما ذكرنا، وأدرك الحطم هذا ردة اليمامة فقتل مرتدا وقد روي من خبره أنه أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمدينة، وخلف خيله خارج المدينة فقال: إلام تدعو الناس؟ فقال: (إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) فقال: حسن، إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ولعلي أسلم وآتي بهم، وقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لأصحابه: (يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان) ثم خرج من عنده فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم)، فمر بسرح المدينة فاستاقه، فطلبوه فعجزوا عنه، فانطلق وهو يقول:
çقد لفها الليل بسواق حطم...ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم...باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم...خذلج الساقين خفاق القدمé
فلما خرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عام القضية سمع تلبية حجاج اليمامة فقال: (هذا الحطم وأصحابه)، وكان قد قلد ما نهب من سرح المدينة وأهداه إلى مكة، فتوجهوا في طلبه، فنزلت الآية، أي لا تحلوا ما أشعر لله وإن كانوا مشركين، ذكره ابن عباس.
10. على أن الآية محكمة قوله تعالى: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ يوجب إتمام أمور المناسك، ولهذا قال العلماء: إن الرجل إذا دخل في الحج ثم أفسده فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج، ولا يجوز أن يترك شيئا منها وإن فسد حجه، ثم عليه القضاء في السنة الثانية.
11. قال أبو الليث السمرقندي: وقوله تعالى: ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ منسوخ بقوله: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾، وقوله: ﴿وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ محكم لم ينسخ فكل من قلد الهدي ونوى الإحرام صار محرما لا يجوز له أن يحل بدليل هذه الآية فهذه الأحكام معطوف بعضها على بعض بعضها منسوخ وبعضها غير منسوخ.
12. ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾:
أ. قال فيه جمهور المفسرين: معناه يبتغون الفضل والأرباح في التجارة، ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم.
ب. وقيل: كان منهم من يبتغي التجارة، ومنهم من يطلب بالحج رضوان الله وإن كان لا يناله، وكان من العرب من يعتقد جزاء بعد الموت، وأنه يبعث، ولا يبعد أن يحصل له نوع تخفيف في النار.
ج. قال ابن عطية: هذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم، لتنبسط النفوس، وتتداخل الناس، ويردون الموسم فيستمعون القرآن، ويدخل الإيمان في قلوبهم وتقوم عندهم الحجة كالذي كان، وهذه الآية نزلت عام الفتح فنسخ الله ذلك كله بعد عام سنة تسع، إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة براءة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/35.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ الشعائر: جمع شعيرة على وزن فعيلة، قال ابن فارس: ويقال للواحدة شعارة؛ وهو أحسن، ومنه الإشعار للهدي، والمشاعر: المعالم، واحدها مشعر، وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات؛ قيل: المراد بها هنا جميع مناسك الحج: وقيل: الصفا والمروة، والهدي والبدن، والمعنى على هذين القولين: لا تحلّوا هذه الأمور بأن يقع منكم الإخلال بشيء منها أو بأن تحولوا بينها وبين من أراد فعلها، ذكر سبحانه النهي عن أن يحلّوا شعائر الله عقب ذكره تحريم صيد المحرم؛ وقيل: المراد بالشعائر هنا فرائض الله، ومنه ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ﴾؛ وقيل: هي حرمات الله، ولا مانع من حمل ذلك على الجميع اعتبارا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولا بما يدلّ عليه السياق.
2. ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ المراد به الجنس، فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم وهي أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرّم، ورجب؛ أي لا تحلّوها بالقتال فيها؛ وقيل: المراد به هنا شهر الحج فقط.
3. ﴿وَلَا الْهَدْيَ﴾ هو ما يهدى إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة، الواحدة هدية، نهاهم سبحانه عن أن يحلّوا حرمة الهدي بأن يأخذوه على صاحبه، أو يحولوا بينه وبين المكان الذي يهدى إليه، وعطف الهدي على الشعائر مع دخوله تحتها لقصد التنبيه على مزيد خصوصيته والتشديد في شأنه.
4. ﴿وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ جمع قلادة، وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو نحوه، وإحلالها بأن تؤخذ غصبا، وفي النهي عن إحلال القلائد تأكيد للنهي عن إحلال الهدي؛ وقيل: المراد بالقلائد المقلدات بها، ويكون عطفه على الهدي لزيادة التوصية بالهدي، والأوّل أولى؛ وقيل: المراد بالقلائد ما كان الناس يتقلّدونه أمنة لهم، فهو على حذف مضاف: أي ولا أصحاب القلائد.
5. ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ أي قاصديه؛ من قولهم أممت كذا: أي قصدته، وقرأ الأعمش: (ولا امّي البيت الحرام) بالإضافة، والمعنى: لا تمنعوا من قصد البيت الحرام لحجّ أو عمرة أو ليسكن فيه؛ وقيل: إنّ سبب نزول هذه الآية أن المشركين كانوا يحجّون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فنزل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ إلى آخر الآية، فيكون ذلك منسوخا بقوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، وقوله: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يحجنّ بعد العام مشرك)، وقال قوم: الآية محكمة وهي في المسلمين.
6. ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ جملة حالية من الضمير المستتر في (آمين)، قال جمهور المفسرين: معناه يبتغون الفضل والأرباح في التجارة، ويبتغون مع ذلك رضوان الله؛ وقيل: كان منهم من يطلب التجارة، ومنهم من يبتغي بالحج رضوان الله، ويكون هذا الابتغاء للرضوان بحسب اعتقادهم وفي ظنهم عند من جعل الآية في المشركين؛ وقيل: المراد بالفضل هنا الثواب لا الأرباح في التجارة.
__________
(1) فتح القدير: 2/8.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللهِ﴾ مناسكَ الحجِّ ودينَه الذي حدَّ لعباده وفَرَضَه، وأمَّا الذي لم يفرضه ـ وهو النفل ـ فلا يَحْرُم إحلاله؛ لأنَّه يَحِلُّ تركه، إلَّا أن يقال: إحلاله اعتقاد أنَّه ليس من الدِّين، كما أنَّ تحريم المحرَّمات من الدِّين، وفِعْلُها إحلال، واعتقادُ حلِّها إحلالٌ لها، ويجب إتمام النفل بعد الدخول فيه، وعن ابن عبَّاس: (الشعائر: المناسك، كان المشركون يحجُّون ويُهدون، فأراد المسلمون أن يغيِّروا عليهم فنهاهم الله عن ذلك)، وعنه: (إحلال الشعائر: أن تصيد وأنت محرم)
2. ويقال: الشعائر الهدايا المشعَرَةُ بالطعن في أسنمتها، قال الله تعالى: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَآئِرِ اللهِ﴾ [الحجِّ: 36]، وقال: ﴿وَمَنْ يُّعَظِّمْ شَعَآئِرَ اللهِ﴾ [الحجِّ: 32]، أي: دينه، والمُفرد: شعيرة بمعنى مُشعَرة، فعيلة بمعنى مُفْعَلة، أي: معلَمة، كما يستعمل سميع بمعنى مُسْمَع، أو الشعيرة: اسم لِمَا جُعل علامة، وأعمال الحجِّ ومواقفه وعلاماته، ودين الله أعلام قدرته وألوهيَّته.
3. وإحلال دين الله: مخالفته، وإحلال الهدي: صدُّه وسلبه عن مشرك جاء به، والصيد في الإحرام، ويقال: شعائر الله: الإحرام، والطواف، والسعي، والحلق، والنحر، وإضافتها لله تعالى تعظيمٌ لها، وتهويلٌ للخطب في إحلالها، وقيل: ما نُصب فرقًا بين الحِلِّ والحَرَم، وحلُّها: نزعها أو مجاوزتها بلا إحرام إلى مكَّة، وقيل: الصفا والمروة والهدي، فالشعور يوقع على تلك المواضع يُعلم أنَّها مواضع الحجِّ، وعلى الحاجِّ يَعلَم الناس بها أنَّه حاجٌّ، وإحلاله: سرقته أو غصبه أو منعه عن أن يصل مَحِلَّه، كلُّ ذلك حرام.
4. ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ بالقتال فيه والسبي، ذا القعدة وذا الحجَّة والمحرَّم ورجبًا، وهو أكمل الأشهر الحرم في هذه الصِّفة، و(ال) للجنس، وقيل: المراد رجب لِمَا مَرَّ أنَّه أكمل، وقيل: ذو القعدة، وعليه عكرمة، وقيل: الإحلال في ذلك النسيءُ، والأنسبُ للمؤمنين غيرُه، ﴿وَلَا الْهَدْيَ﴾ ما أهدي إلى الكعبة من بعير أو بقرة أو شاة، وغير ذلك مِمَّا يُتقرب به إلى الله تعالى ، لا تتعرَّضوا لذلك، والمفرد هَدْيَةٌ بإسكان الدال.
5. ﴿وَلَا الْقَلَآئِدَ﴾ الأنعام ذوات القلائد المهداة، خصَّها بالذكر بعد العموم لمزيَّتها، أو نفس القلادات من لحاءِ شجر ونعال، فإذا كان لا يُتعرَّض لِمَا قُلِّدت به الأنعام بالأخذ أو بالإلقاء أو بالإفساد، فأولى أن لا يُتعرَّض لهذه الأنعام التي قلِّدت، كقوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ [النور: 31]، فأَوْلى مواضع الزينة من أبدانهنَّ، وتعليق القلادة يكون بالعنق، ويكون أيضًا بغير لِحَاءِ الشجر والنعال، وذلك ليُعلم أنَّه هدي فلا يتعرَّض له، واللِّحاء (بالكسر والمدِّ): قشر الشجر، فيجب التصدُّق به إن كانت له قيمة، كما يجب التصدُّق بما جُعل على الهدي من نحو ثوب أو وطاء، ويجوز أن يكون القلائد ما يقلِّده الجاهليَّة على أنفسهم وإبلهم من لحاء الشجر من الحَرَم ليأمنوا على أنفسهم وإبلهم، وقيل: كان أهلُ الحرم يقلِّدون أنفسهم بلحاء شجر الحرم، وغيرُهُم بالصوف والشَّعَر وغيرهما، فنهاهم الله عن قطع ذلك من شجر الحرم، أو نهى عن التعرض لمن تقلَّد بذلك، وهذا ضعيف؛ لأنَّه يوهم إبقاءهم على جواز قطع ذلك وجعله قلادة لهم ولإبلهم.
6. ﴿وَلَآ ءَآمِّينَ﴾ قاصدين ﴿الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ زيارة البيت الحرام، مسلمين أو مشركين، روي أنَّ (الحُطَيم) خلَّف خيلَه خارج المدينة فقال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إلَامَ تدعو؟) فقال: (شهادة أن لا إله إِلَّا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة)، فقال: (حسن، ألا إنَّ لي أمراء لا أقطع أمرًا دونهم)، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (يدخل عليكم رجل يتكلَّم بلسان شيطان)، ولَمَّا خرج قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (دخل بوجه كافر وخرج بقَفَيْ غادر، وما هو بمسلم)، فأغار على سرح المدينة فأسرع ولم يلحقوه، فجاء به هديًا مِن قابِلٍ عامَ عمرة القضاء من اليمامة، فأرادوا الإغارة عليه فنزلت الآية، لا تتعرضوا لهم بمنعهم عن الزيارة، أو بأذاهم، أو بما يفسد إحرامهم، أو بقتلهم.
7. قدَّر بعضٌ: قتال آمِّين، أو أذى آمِّين، ونصب (ءَآمِّينَ) المفعول به لأنَّه للحال، ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ حال من الضمير المستتر في (ءَآمِّينَ)، والفضل: الرزق، والرضوان: ثواب الآخرة.
8. روي أنَّ الآية نزلت عام القضيَّة في حُجَّاج اليمامة لما همَّ المسلمون أن يتعرضوا لهم بسبب أنَّه كان فِيهِم الحُطَيم واسمه: شريح بن ضُبَيْعة، وكان قد استاق سَرْح المدينة؛ فالآية منسوخة، والمراد: عام عمرة القضاء، ويروى أنَّ الحطيم بن ضبيعة أتى النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من اليمامة إلى المدينة فعرض عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم الإسلام فلم يسلم، فلمَّا خرج من عنده مَرَّ بسرح أهل المدينة فساقها وانتهى إلى اليمامة، ثمَّ خرج من هناك نحو مكَّة وقد قلَّد ما نَهَب من سرح المدينة وأهداه إلى الكعبة، ومعه تجارة عظيمة، فهمَّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يُغِيروا على أمواله، فنزل قوله تعالى: ﴿وَلآ ءَآمِّينَ﴾ إلخ، أي: لا تُحلُّوها بالإغارة عليها.
9. وقيل: المراد بالآمِّين: المشركون، والفضل: ربح التَّجْر، والرضوان: ما في زعمهم، ويناسبه ما قيل من نزول الآية في الحطيم المذكور، وهو من بني ربيعة، ويقال: الحُطَم بن هند، وما قيل: إنَّها نزلت في فوارس مشركين يهلُّون بعمرة، فقال المسلمون: هؤلاء مشركون نُغِير عليهم كما أغار الحُطَم علينا، وهذا يوم فتح مكَّة، ونسخ بقوله تعالى: ﴿اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: 5]، وقوله تعالى: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: 28]، وعن ابن جريج: لا نسخ، لجواز أن يبتدئ المشركون في الأشهر الحُرُم بالقتال، وقيل: لم يُنسخ من الآية إِلَّا القلائد.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/374.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ أي: معالم دينه، وهي المناسك، وإحلالها أن يتهاون بحرمتها، وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها، وقد روى ابن جرير عن عكرمة والسّديّ قالا: نزلت في الحطم، واسمه شريح بن هند البكريّ، أتى المدينة وحده، وخلّف خيله خارج المدينة، ودخل على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال له: إلام تدعو الناس؟ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فقال: حسن، إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم، ولعلي أسلم وآتي بهم، فخرج من عنده، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان، فلما خرج شريح قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: لقد دخل بوجه كافر، وخرج بقفا غادر، وما الرجل بمسلم، فمر بسرح من سراح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول:
çقد لفّها الليل بسوّاق حطم...ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزّار على ظهر الوضم...باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزّلم...خدلّج السّاقين ممسوح القدمé
فتبعوه فلم يدركوه، فلما كان العام القابل، خرج شريح حاجا مع حجاج بكر ابن وائل، من اليمامة، ومعه تجارة عظيمة، وقد قلّد الهدي، فقال المسلمون: يا رسول الله! هذا الحطم قد خرج حاجّا فخلّ بيننا وبينه، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنه قد قلّد الهدي، فقالوا: يا رسول الله! هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية، فأبى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾، قال ابن عباس: هي المناسك، كان المشركون يحجون ويهدون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فنهاهم الله عن ذلك، وعن ابن عباس أيضا: لا تحلوا شعائر الله: هي أن تصيد وأنت محرم، ويقال: شعائر الله، شرائع دينه التي حدها لعباده، وإحلالها الإخلال بها، وظاهر أن عموم اللفظ يشمل الجميع.
2. ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ المراد به الجنس، فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم، وهي أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، أي لا تحلوها بالقتال فيها، وقد كانت العرب تحرم القتال فيها في الجاهلية، فلما جاء الإسلام لم ينقض هذا الحكم، بل أكده، كذا في (لباب التأويل)
3. قال ابن كثير: يعني بقوله: ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾، تحريمه والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه، من الابتداء بالقتال، كما قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: 217]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾ [التوبة: 36]، وفي صحيح البخاريّ عن أبي بكرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال في حجة الوداع: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم..) الحديث، وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت، كما هو مذهب طائفة من السلف، وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله تعالى: ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾: يعني لا تستحلوا القتال فيه، وكذا قال مقاتل وعبد الكريم بن مالك الجزريّ، واختاره ابن جرير أيضا، وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ، وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم، واحتجوا بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: 5]، والمراد أشهر التسيير الأربعة، قالوا: فلم يستثن شهرا حراما من غيره، انتهى، وفي كتاب (الناسخ والمنسوخ) لابن حزم: إن الآية نسخت بآية السيف.
4. ونقل بعض الزيدية في (تفسيره) عن الحسن أنه ليس في هذه السورة منسوخ، وعن أبي ميسرة: فيها ثماني عشرة فريضة، وليس فيها منسوخ، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عوف قال قلت للحسن: نسخ من المائدة شيء قال لا.
5. وقال ابن القيّم في (زاد المعاد) في (فصل سرية الخبط) كان أميرها أبا عبيدة بن الجراح، وكانت في رجب، فيما ذكره الحافظ بن سيد الناس في (عيون الأثر)، ثم قال في فقه هذه القصة: إن فيها جواز القتال في الشهر الحرام، إن كان ذكر التاريخ فيها برجب، محفوظا، والظاهر، والله أعلم، أنه وهم غير محفوظ، إذ لم يحفظ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه غزا في الشهر الحرام، ولا أغار فيه، ولا بعث فيه سرية، وقد عيّر المشركون المسلمين لقتالهم فيه في أول رجب، في قصة العلاء بن الحضرميّ، فقالوا: استحل محمد الشهر الحرام، وأنزل الله في ذلك: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: 217]، ولم يثبت ما ينسخ هذا بنص يجب المصير إليه، ولا اجتمعت الأمة على نسخه، وقد استدلّ على تحريم القتال في الأشهر الحرام بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: 5]، ولا حجة في هذا، لأن الأشهر الحرم هاهنا هي أشهر التسيير التي سيّر الله فيها المشركون في الأرض يأمنون فيها، وكان أولها: يوم الحج الأكبر، عاشر ذي الحجة، وآخرها عاشر ربيع الآخر، هذا هو الصحيح في الآية لوجوه عديدة، ليس هذا موضعها، انتهى، وقوله تعالى: ﴿وَلَا الْهَدْيَ﴾ أي: لا تحلوه بأن يتعرض له بالغصب أو بالمنع عن بلوغ محله، والهدي: ما أهدي إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاء.
6. وفي (الإكليل): هذا أصل في مشروعية الإهداء إلى البيت، وتحريم الإغارة عليه، وذبحه قبل بلوغ محله، واستدل بالآية أيضا على منع الأكل منه.
7. ﴿وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ جمع قلادة، وهي ما يقلد به الهدي، من نعل أو لحاء شجر، ليعلم أنه هدي، فلا يتعرض له، والمراد النهي عن التعرض لذوات القلائد من الهدي، وهي البدن، وعطفها على (الهدي) مع دخولها فيه، لمزيد التوصية بها، لمزيتها على ما عداها، إذ هي أشرف الهدي، كقوله تعالى: ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: 98]، عطفا على الملائكة، كأنه قيل: والقلائد منه، خصوصا، أو النهي عن التعرض لنفس القلائد، مبالغة في النهي عن التعرض لأصحابها، على معنى: لا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها، كما نهى عن إبداء الزينة بقوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ [النور: 31]، مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها، كذا لأبي السعود.
8. وقال الحافظ ابن كثير: يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام، فإن فيه تعظيم شعائر الله، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام، وليعلم أنه هدي إلى الكعبة، فيجتنبها من يريدها بسوء، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها، فإن من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء ولهذا لما حج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بات بذي الحليفة، وهو وادي العقيق، فلما أصبح طاف على نسائه، وكن تسعا، ثم اغتسل وتطيّب وصلى ركعتين، ثم أشعر هديه وقلّده، وأهلّ للحج والعمرة، وكان هديه إبلا كثيرة تنيف على الستين، من أحسن الأشكال والألوان كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، قال بعض السلف: إعظامها استحسانها واستسمانها، قال عليّ بن أبي طالب: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن نستشرف العين والأذن، رواه أهل السنن، وقال مقاتل: ولا القلائد، فلا تستحلوه، وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم، قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر، وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره، فيأمنون به، رواه ابن أبي حاتم، وقال عطاء: كانوا يتقلدون من شجر الحرم فيأمنون، فنهى الله عن قطع شجره وكذا قال مطرف بن عبد الله، وأمانهم بذلك منسوخ، كما روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نسخ من هذه السورة آيتان: آية القلائد وقوله: ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [المائدة: 42] وبسنده إلى ابن عوف قال قلت للحسن: نسخ من المائدة شيء قال لا، ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ أي: لا تحلوا قوما قاصدين زيارة المسجد الحرام بأن تصدوهم أو تقاتلوهم أو تؤذوهم، لأنه من دخله كان آمنا.
9. ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ حال من المستكن في (ءامّين) أي: قاصدين زيارته حال كونهم طالبين التجارة ورضوان الله بحجهم، ونقل ابن كثير عن ثمانية من سلف المفسرين أنه عنى بالفضل طلب الرزق بالتجارة، قال كما تقدم في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: 198]، وقد ذكر عكرمة والسدّيّ وابن جرير أن الآية نزلت في الحطم بن هند البكريّ، وتقدمت قصته، وقال ابن طلحة عن ابن عباس: كان المؤمنون والمشركون يحجون، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا من مؤمن أو كافر، ثم أنزل الله بعده: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: 28] الآية، وقال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ﴾ [التوبة: 17]، وقال: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التوبة: 18]، فنفى المشركين من المسجد الحرام، وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن قتادة في قوله: ﴿وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ قال منسوخ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج، تقلد من الشجر، فلم يعرض له أحد، فإذا رجع تقلد قلادة من شعر، فلم يعرض له أحد، وكان المشرك يومئذ لا يصدّ عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت، فنسخها قوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: 5]، وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله: ﴿وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ يعني أن من تقلد قلادة من الحرم، فأمنوه، قال ولم تزل العرب تعيّر من أخفر ذلك، قال الشاعر:
çألم تقتلا الحرجين إذ أعورا كما...يمرّان بالأيدي اللّحاء المضفّراé
أفاده ابن كثير، وهذه الروايات توضح أنه عنى: (الآمين): المشركين خاصة، إذ هم المحتاجون إلى نهي المؤمنين عن إحلالهم وما يفيده التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم، وكذا الرضوان من تشريفهم، والإشعار بحصول مبتغاهم، فالسرّ فيه تأكيد النهي والمبالغة في استنكار المنهيّ عنه، قال الزمخشريّ وأبو السعود: قد كانوا يزعمون أنهم على سداد من دينهم، وأن الحج يقربهم إلى الله تعالى، فوصفهم الله تعالى بظنهم، وذلك الظن الفاسد، وإن كان بمعزل من استتباع رضوانه تعالى، لكن لا بعد في كونه مدارا لحصول بعض مقاصدهم الدنيوية، وخلاصهم عن المكاره العاجلة، لا سيما في ضمن مراعاة حقوق الله تعالى وتعظيم شعائره، ونقل الرازيّ عن أبي مسلم الأصفهاني، أن المراد بالآية، الكفار الذين كانوا في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما زال العهد بسورة براءة، زال ذلك الخطر، ولزم المراد بقوله تعالى: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾
__________
(1) تفسير القاسمي: 4/8.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ أي لا تجعلوا شعائر دين الله حلالا تتصرفون بها كما تشاءون، وهي معالمه التي جعلها أمارات تعلمون بها الهدى من الضلال، كمناسك الحج وسائر فرائضه وحدوده وحلاله وحرامه، بل اعملوا فيها بما بينه لكم.
2. ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾: ولا تحلوا الشهر الحرام باستئنافكم قتال المشركين فيه، قيل المراد به هنا ذو القعدة وقيل رجب، والمتبادر أن المراد به جنس الشهر الحرام فيدخل فيه بقية الأربعة الحرم وهي ذو الحجة والمحرم.
3. ﴿وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ ولا تحلوا الهدي الذي يهدى إلى بيت الله من الأنعام للتوسعة على من هناك من عاكف وباد تقربا إليه تعالى، وإحلاله يكون بمنع بلوغه إلى محله من بيت الله كأخذه لذبحه غضبا أو سرقة أو حبسه عند من أخذه، ولا تحلوا القلائد التي يقلد بها هذا الهدي بنزع القلادة من عنق البعير لئلا يتعرض لها أحد بجهله، وقيل المراد بالقلائد ذوات القلائد من الهدي كأنه قال لا تحلوا الهدي مقلدا ولا غير مقلد، وخص المقلد بالذكر لأنه أكرم الهدي وأشرفه، ويؤخذ من الكشاف أنهم ما كانوا يقلدون إلا البدن (الإبل) وقيل الهدي هو ما يقلد، وهذا كما قالوا في ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ [النور: 31] لا يبدين مواضع زينتهن، وقد يدخل في عمومه من يتقلد من الناس ليعرف أنه محرم، وكان من يريد الحج في الجاهلية من يرجع منه يتقلد من لحاء شجره ليأمن على نفسه فلا يعرض له أحد، فأقر الله تأمين المقلد لتعلم العرب أن المتقلد لأجل النسك كان في جوار المسلمين وحمايتهم وبهذا فسر بعضهم الآية.
4. وقيل إن المراد هنا المنع من أخذ شيء من شجر الحرم لأجل التقلد به عند العودة من أرض الحرم لأن هذا من استحلال قطع شجر الحرم أو التحائه أي أخذ قشر شجره، والظاهر أن المراد بالنهي تحريم التعرض للقلائد نفسها بإزالتها والتعرض للمقلد بها من الهدي لأن كل ذلك يعد من إحلال القلائد حقيقة، فلا حاجة إلى القول بأن النهي عن إحلال القلائد يدل على النهي عن إحلال ذوات القلائد بالأولى، وهذا هو المتبادر عندي.
5. وأما من يقصد الحرم للنسك أو غير النسك فقد حرم التعرض لهم بقوله: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ أي ولا تحلوا، قال آمين البيت الحرام أي قاصديه المتوجهين إليه، يقال أمه ويممه وتيممه إذا توجه إليه وعمده وقصد إليه مستقيما لا يلوي إلى غيره، والبيت الحرام هو بيت الله المعروف بمكة المكرمة الذي حرمه وما حوله أي منع أن يصاد صيده وأن يقطع شجره وأن يختلى خلاه ـ أي يؤخذ نباته وحشيشه ـ وجعله آمنا لا يروع من دخله.
6. ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ أي يطلبون بأمهم البيت وقصده التجارة والحج معا، أو ربحا في التجارة ورضاء من الله يحول بينهم وبين عقوبته في الدنيا فلا يحل بهم ما حل بغيرهم في عاجل دنياهم، وبهذا فسره ابن جرير ورواه عن أهل الأثر بناء على أن المراد بالكلام هنا المشركون، فروي عن قتادة أنه قال هم المشركون يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دنياهم، وفي رواية أخرى عنه: والفضل والرضوان الذي يبتغون: أن يصلح لهم معايشهم في الدنيا وأن لا يعجل لهم العقوبة فيها، وروي عن مجاهد أنه قال يبتغون الأجر والتجارة، وعن ابن عمر أنه قال في الرجل يحج ويحمل معه متاعا (لا بأس به) وتلا الآية، ولم يرو فيها عن ابن عباس إلا أنه قال: (يترضون ربهم بحجهم) وروى عبد بن حميد عن الربيع بن أنس أنه فسر الفضل من ربهم بالتجارة والرضوان بالحج نفسه، ولهذا قال قتادة ومجاهد وغيرهما أن هذه العبارة من الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة براءة: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: 5]، وقال بعضهم إنها نسخت بقوله تعالى في المشركين ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: 28]، وقال أبو مسلم المراد بالآية الكفار الذين كانوا في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلما زال العهد بسورة براءة زال ذلك الحظر) أي لم ينسخ الحكم ولكن زال الوصف الذي نيط به، وقال بعض المفسرين: إن الآية في المسلمين، فهي محكمة وحكمها باق فلم تنسخ ولم ينته حكمها، ومن فسر القلائد بمن كان يتقلد من المشركين قال إن النهي عن إحلالها منسوخ أيضا، وقد روي أن هذه السورة من آخر القرآن نزولا وإنه ليس فيها شيء منسوخ.
7. أما ما رواه أهل المأثور في سبب نزول الآية وكونها في المشركين فهو ـ كما روى جرير عن السدي أن الحطم بن هند البكري أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحده وخلف خيله خارجة من المدينة فدعاه فقال إلى من تدعو؟ فأخبره، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لأصحابه (يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان، فلما أخبره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال انظر ولعلي أسلم ولي من أشاوره، فخرج من عنده فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر) فمر بسرح من سرح المدينة فساقه.. ثم أقبل من عام قابل حاجا قد قلد وأهدى فأراد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يبعث إليه فنزلت الآية حتى بلغ (لا آمين البيت الحرام) فقال له ناس من أصحابه يا رسول الله خل بيننا وبينه فإنه صاحبنا، قال: (إنه قد قلد) قالوا: إنما هو شيء كنا نصنعه في الجاهلية فأبي عليهم فنزلت هذه الآية، وروي عن ابن جريج عن عكرمة أن الحطم قدم المدينة في عير له يحمل طعاما فباعه ثم دخل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فبايعه وأسلم، فلما ولى خارجا نظر إليه فقال لمن عنده (لقد دخل علي بوجه فاجر وولى بقفا غادر) فلما قدم اليمامة ارتد عن الإسلام وخرج في عير له تحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة، فلما سمع به أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تهيأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار ليقطعوه في عيره فأنزل الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾ فانتهى القوم، ثم قال ابن جرير: قال ابن جريج: قوله: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ قال ينهى عن الحجاج أن تقطع سبلهم (قال) وذلك أن الحطم قدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليرتاد وينظر فقال إني داعية قوم فاعرض علي ما تقول، قال له (أدعوك إلى الله أن تعبده ولا تشكرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج البيت) قال الحطم: إن في أمرك هذا غلظة، فأرجع إلى قومي فأذكر لهم ما ذكرت فإن قبلوا أقبلت معهم وإن أدبروا كنت معهم، قال له (ارجع) فلما خرج قال: (لقد دخل علي بوجه كافر، وخرج من عندي بعقبى غادر، وما الرجل بمسلم) ففاتهم وقدم اليمامة وحضر الحج فجهز خارجا وكان عظيم التجارة، فاستأذنوا أن يتلقوه ويأخذوا ما معه، فأنزل الله عز وجل ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾ الخ وأنت ترى هذه الروايات متعارضة وسواء صحت أو لم تصح فالآية على إطلاقها وعمومها، والمفيد من مثل هذه الروايات معرفة أحوال أهل ذلك العصر، فإنها تعين على الفهم.
__________
(1) تفسير المنار: 6/103.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ شعائر الله ما أراد جعله أمارات تعلمون بها الهدى من الضلال كمناسك الحج وسائر فرائض دينه من حلال وحرام وحدود حدّها لكم، والمعنى ـ يا أيها الذين آمنوا لا تجعلوا شعائر دين الله حلالا لكم تتصرفون فيها كما تشاءون بل اعملوا بما بيّنه لكم، ولا تتهاونوا بحرمتها وتحولوا بينها وبين المتنسكين بها وتصدوا الناس عن الحج في أشهر الحج.
2. ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ المراد به هنا ذو القعدة وذو الحجة والمحرم: أي ولا تحلوا الشهر الحرام بأن تقاتلوا فيه أعداءكم من المشركين كما روى عن ابن عباس وقتادة.
3. ﴿وَلَا الْهَدْيَ﴾ أي ولا تحلوا الهدى الذي يهدى إلى البيت الحرام من الأنعام للتوسعة على من هناك من عاكف وباد تقربا إلى الله، وذلك بأن تمنعوا بلوغه محله من بيت الله بأخذه غصبا وذبحه أو سرقته أو حبسه عند من أخذه.
4. ﴿وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ ولا تحلوا ذوات القلائد من الهدى وهي البدن، وكأنه قال لا تحلوا الهدى مقلّدا ولا غير مقلد، وخص المقلد بالذكر لأنه أكرم الهدى وأشرفه.
5. ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ أي ولا تحلوا قتال قاصدى البيت الحرام لزيارته، فتصدوهم عن ذلك بأيّ وجه كان.
6. ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ أي يطلبون ربحا في التجارة ورضا من الله يحول بينهم وبين عقوبته في الدنيا، لئلا يحل بهم ما حل بغيرهم في عاجل دنياهم، وهذا كلام مع المشركين، كما روى عن قتادة أنه قال هم المشركون يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دنياهم، وفى رواية أخرى عنه: والرضوان الذي يبتغون أن يصلح لهم معايشهم في الدنيا وألا يعجّل لهم العقوبة.
__________
(1) تفسير المراغي 6/45.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يستأنف نداء الذين آمنوا لينهاهم عن استحلال حرمات الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾
2. وأقرب ما يتجه إليه الذهن في معنى (شعائر الله) في هذا المقام أنها شعائر الحج والعمرة وما تتضمنه من محرمات على المحرم للحج أو العمرة حتى ينتهي حجه بنحر الهدي الذي ساقه إلى البيت الحرام؛ فلا يستحلها المحرم في فترة إحرامه؛ لأن استحلالها فيه استهانة بحرمة الله الذي شرع هذه الشعائر، وقد نسبها السياق القرآني إلى الله تعظيما لها، وتحذيرا من استحلالها.
3. والشهر الحرام يعني الأشهر الحرم؛ وهي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة والمحرم، وقد حرم الله فيها القتال ـ وكانت العرب قبل الإسلام تحرمها ـ ولكنها تتلاعب فيها وفق الأهواء؛ فينسئونها ـ أي يؤجلونها ـ بفتوى بعض الكهان، أو بعض زعماء القبائل القوية! من عام إلى عام، فلما جاء الإسلام شرع الله حرمتها، وأقام هذه الحرمة على أمر الله، يوم خلق الله السماوات والأرض كما قال في آية التوبة: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ وقرر أن النسيء زيادة في الكفر، واستقام الأمر فيها على أمر الله.. ما لم يقع الاعتداء فيها على المسلمين، فإن لهم حينئذ أن يردوا الاعتداء؛ وألا يدعو المعتدين يحتمون بالأشهر الحرم ـ وهم لا يرعون حرمتها ـ ويتترسون خلفها للنيل من المسلمين، ثم يذهبون ناجين! وبين الله حكم القتال في الأشهر الحرم كما مر بنا في سورة البقرة.
4. والهدي وهو الذبيحة التي يسوقها الحاج أو المعتمر؛ وينحرها في آخر أيام الحج أو العمرة، فينهي بها شعائر حجه أو عمرته، وهي ناقة أو بقرة أو شاة.. وعدم حلها معناه ألا ينحرها لأي غرض آخر غير ما سيقت له؛ ولا ينحرها إلا يوم النحر في الحج وعند انتهاء العمرة في العمرة، ولا ينتفع من لحومها وجلودها وأشعارها وأوبارها بشيء بل يجعلها كلها للفقراء.
5. والقلائد، وهي الأنعام المقلدة التي يقلدها أصحابها ـ أي يضعون في رقبتها قلادة ـ علامة على نذرها للّه؛ ويطلقونها ترعى حتى تنحر في موعد النذر ومكانه ـ ومنها الهدي الذي يشعر: أي يعلم بعلامة الهدي ويطلق إلى موعد النحر ـ فهذه القلائد يحرم إحلالها بعد تقليدها؛ فلا تنحر إلا لما جعلت له.. وكذلك قيل: إن القلائد هي ما كان يتقلد به من يريدون الأمان من ثأر أو عدو أو غيره؛ فيتخذون من شجر الحرم ما يتقلدون به، وينطلقون في الأرض لا يبسط أحد يده إليهم بعدوان ـ وأصحاب هذا القول قالوا: إن ذلك قد نسخ بقول الله فيما بعد: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾.. وقوله: ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾.. والأظهر القول الأول؛ وهو أن القلائد هي الأنعام المقلدة للنذور للّه؛ وقد جاء ذكرها بعد ذكر الهدي المقلد للنحر للحج أو العمرة، للمناسبة بين هذا وذاك.
6. كذلك حرم الله آمّين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا.. وهم الذين يقصدون البيت الحرام للتجارة الحلال وطلب الرضوان من الله.. حجاجا أو غير حجاج.. وأعطاهم الأمان في حرمة بيته الحرام.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/838.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إذ ذكرت الآية السابقة المحرم للحجّ، وحرمة الصيد عليه، وهو في فترة الإحرام، ناسب أن يذكر مع هذا ما ينبغي على المحرم أن يلتزمه من حدود الله، والوفاء بالعقود والمواثيق التي أوجبها عليه إيمانه بالله..
2. ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ هو بيان لهذه الحدود التي ينبغي للمحرم أن يلتزمها، ويقف عندها.. ومنها ألا يتحلل من شعائر الله.. والشعائر جمع شعيرة، وهي ما جعل شعارا، ومعلما من معالم الحج، من مواقف الحج، ومرامى الجمار، والمطاف، والمسعى وكذلك ما كان منها فعلا من أفعال الحج كالإحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفة، ورمى الجمار، والحلق، والنحر..
3. فهذه حدود يجب أن يلتزمها الحاجّ، ويؤديها على وجهها، ولا يغيّر من مكانها، أو صفتها.. وإلا كان محلّا لشعائر الله، مخالفا حكمه فيها.. ومنها: الشهر الحرام، ورعاية حرمته.. ومنها الهدى، وهو ما يساق إلى البيت، ويهدى إليه من شاء، أو بقر، أو إبل.. تقربا إلى الله.. فهذا الهدى له حرمته، وعلى الحاج أن يرعى له هذه الحرمة، وألا يمدّ إليه يدا بأذى، أو عدوان.. لأنه موجّه إلى الله، ومساق إلى بيت الله، والعدوان عليه عدوان على الله!
4. ومنها: القلائد: جمع قلادة، وهي ما يقلّد به الهدى، كعلامة له، تدل على أنه مهدى إلى الله.. وفي تحريم العدوان على قلادة الهدى، مبالغة في تأثيم العدوان على الهدى نفسه! ومنها: الذين يؤمّون البيت الحرام، ويقصدونه، فهم ضيوف الله، وعمّار بيته، والعدوان عليهم اجتراء على الله، وعدوان على حماه، ومن هم في حماه.
5. فهذه حرمات، هي مواثيق موثّقة مع الله، والعدوان عليها نقض لتلك المواثيق، وتحلّل منها.. وليس لأحد حرمة إذا تحلل من مواثيق الله، وعمل على نقضها، فلينتظر انتقام الله لحرماته.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1026.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ اعتراض بين الجمل التي قبله وبين جملة ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾، ولذلك أعيد الخطاب بالنداء بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا مع أنّهم لا يظنّ بهم إحلال المحرّمات، يدلّ على أنّ المقصود النهي عن الاعتداء على الشعائر الإلهية التي يأتيها المشركون كما يأتيها المسلمون.
2. ومعنى ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ لا تحلّوا المحرّم منها بين الناس، بقرينة قوله: ﴿لَا تُحِلُّوا﴾، فالتقدير: لا تحلّوا محرّم شعائر الله، كما قال تعالى: في إحلال الشهر الحرام بعمل النسيء ﴿فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ﴾ [التوبة: 37]؛ وإلّا فمن شعائر الله ما هو حلال كالحلق، ومنها ما هو واجب، والمحرّمات معلومة.
3. والشعائر: جمع شعيرة، وقد تقدّم تفسيرها عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ﴾ [البقرة: 158]، وقد كانت الشعائر كلّها معروفة لديهم، فلذلك عدل عن عدّها هنا، وهي أمكنة، وأزمنة، وذوات؛ فالصفا، والمروة، والمشعر الحرام، من الأمكنة، وقد مضت في سورة البقرة.
4. والشهر الحرام من الشعائر الزمانية، والهدي والقلائد من الشعائر الذوات، فعطف الشهر الحرام والهدي وما بعدهما من شعائر الله عطف الجزئيّ على كلّيّة للاهتمام به، والمراد به جنس الشهر الحرام، لأنّه في سياق النفي، أي الأشهر الحرم الأربعة التي في قوله تعالى: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾.. ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36]، فالتعريف تعريف الجنس، وهو كالنكرة يستوي فيه المفرد والجمع، وقال ابن عطيّة: الأظهر أنّه أريد رجب خاصّة ليشتدّ أمر تحريمه إذ كانت العرب غير مجمعة عليه، فإنّما خصّ بالنهي عن إحلاله إذ لم يكن جميع العرب يحرّمونه، فلذلك كان يعرف برجب مضر؛ فلم تكن ربيعة ولا إياد ولا أنمار يحرّمونه، وكان يقال له: شهر بني أميّة أيضا، لأنّ قريشا حرّموه قبل جميع العرب فتبعتهم مضر كلّها لقول عوف بن الأحوص:
çوشهر بني أميّة والهدايا...إذا حبست مضرّجها الدقاءé
وعلى هذا يكون التعريف للعهد فلا يعمّ، والأظهر أنّ التعريف للجنس، كما قدّمناه.
5. والهدي: هو ما يهدي إلى مناسك الحجّ لينحر في المنحر من منى، أو بالمروة، من الأنعام.
6. والقلائد: جمع قلادة وهي ظفائر من صوف أو وبر، يربط فيها نعلان أو قطعة من لحاء الشجر، أي قشره، وتوضع في أعناق الهدايا مشبّهة بقلائد النساء، والمقصود منها أن يعرف الهدي فلا يتعرّض له بغارة أو نحوها، وقد كان بعض العرب إذا تأخّر في مكة حتّى خرجت الأشهر الحرم، وأراد أن يرجع إلى وطنه، وضع في عنقه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يتعرّض له بسوء.
7. ووجه عطف القلائد على الهدي المبالغة في احترامه بحيث يحرم الاعتداء على قلادته بله ذاته، وهذا كقول أبي بكر: (والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدّونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه)، على أنّ القلائد ممّا ينتفع به، إذ كان أهل مكة يتّخذون من القلائد نعالا لفقرائهم، كما كانوا ينتفعون بجلال البدن، وهي شقق من ثياب توضع على كفل البدنة؛ فيتّخذون منها قمصا لهم وأزرا، فلذلك كان النهي عن إحلالها كالنهي عن إحلال الهدي لأنّ في ذلك تعطيل مصالح سكان الحرم الذين استجاب الله فيهم دعوة إبراهيم إذ قال: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ [إبراهيم: 37] قال تعالى: ﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ﴾ [المائدة: 97]
8. ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ عطف على ﴿شَعَائِرِ اللهِ﴾: أي ولا تحلّوا قاصدي البيت الحرام وهم الحجّاج، فالمراد قاصدوه لحجّه، لأنّ البيت لا يقصد إلّا للحجّ، ولذلك لم يقل: ولا آمّين مكة، لأنّ من قصد مكة قد يقصدها لتجر ونحوه، لأنّ من جملة حرمة البيت حرمة قاصده، ولا شك أنّ المراد آمّين البيت من المشركين؛ لأنّ آمّين البيت من المؤمنين محرّم أذاهم في حالة قصد البيت وغيرها من الأحوال، وقد روي ما يؤيّد هذا في أسباب النزول: وهو أن خيلا من بكر بن وائل وردوا المدينة وقائدهم شريح بن ضبيعة الملقّب بالحطم (بوزن زفر)، والمكنّى أيضا بابن هند، نسبة إلى أمّه هند بنت حسّان بن عمرو بن مرثد، وكان الحطم هذا من بكر بن وائل، من نزلاء اليمامة، فترك خيله خارج المدينة ودخل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (إلام تدعو) فقال رسول الله: (إلى شهاد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة)، فقال: (حسن ما تدعو إليه وسأنظر ولعلّي أن أسلم وأرى في أمرك غلظة ولي من ورائي من لا أقطع أمرا دونهم) وخرج فمرّ بسرح المدينة فاستاق إبلا كثيرة ولحقه المسلمون لمّا أعلموا به فلم يلحقوه، وقال في ذلك رجزا، وقيل: الرجز لأحد أصحابه، وهو رشيد بن رميض العنزي.. ثم أقبل الحطم في العام القابل وهو عام القضية فسمعوا تلبية حجّاج اليمامة فقالوا: هذا الحطم وأصحابه ومعهم هدي هو ممّا نهبه من إبل المسلمين، فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في نهيهم، فنزلت الآية في النهي عن ذلك، فهي حكم عامّ نزل بعد تلك القضية، وكان النهي عن التعرّض لبدن الحطم مشمولا لما اشتملت عليه هذه الآية.
9. والبيت الحرام هو الكعبة، وسيأتي بيان وصفه بهذا الوصف عند قوله: ﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ [المائدة: 97] في هذه السورة.
10. وجملة ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ﴾ صفة لـ ﴿أَمِينٍ﴾ من قصدهم ابتغاء فضل الله ورضوانه وهم الذين جاءوا لأجل الحجّ إيماء إلى سبب حرمة آمّي البيت الحرام.
11. وقد نهى الله عن التعرّض للحجيج بسوء لأنّ الحجّ ابتغاء فضل الله ورضوانه، وقد كان أهل الجاهلية يقصدون منه ذلك، قال النابغة:
çحيّاك ربّي فإنّا لا يحلّ لنا...لهو النساء وإنّ الدّين قد عزما
مشمّرين على خوص مزمّمة...نرجو الإله ونرجو البرّ والطعماé
ويتنزّهون عن فحش الكلام، قال العجّاج:
çوربّ أسراب حجيج كظّم...عن اللّغا ورفث التكلّمé
ويظهرون الزهد والخشوع، قال النابغة:
çبمصطحبات من لصاف وثبرة...يزرن إلالا سيرهنّ التّدافع
عليهنّ شعث عامدون لربّهم...فهنّ كأطراف الحنيّ خواشعé
12. ووجه النّهي عن التعرّض للحجيج بسوء وإن كانوا مشركين: أنّ الحالة التي قصدوا فيها الحجّ وتلبّسوا عندها بالإحرام، حالة خير وقرب من الإيمان بالله وتذكّر نعمه، فيجب أن يعانوا على الاستكثار منها لأنّ الخير يتسرّب إلى النفس رويدا، كما أن الشرّ يتسرّب إليها كذلك، ولذلك سيجيء عقب هذه الآية قوله: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾
13. والفضل: خير الدنيا، وهو صلاح العمل، والرضوان: م، وهو ثواب الآخرة، وقيل: أراد بالفضل الربح في التجارة، وهذا بعيد أن يكون هو سبب النهي إلّا إذا أريد تمكينهم من إبلاغ السلع إلى مكّة.
__________
(1) التحرير والتنوير: 5/15.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآية السابقة أشار سبحانه وتعالى إلى ما أحل من طيبات، وأشار إلى مكان البيت الحرام وحرمته، وأنه لا يحل صيده والإحرام قائم، وأن الله تعالى يحكم بما يريد، وهذا حكمه وأمره، وما على المؤمن إلا الطاعة فيما أمر به، وفى هذه الآية يبين سبحانه وتعالى ما يجب، وقد بين الحرمات التي تجب صيانتها ومن تتعلق بهم، وقد ذكر أمورا لا يصح إحلالها، وهي شعائر الله تعالى، والشهر الحرام والهدى والقلائد، والذين يقصدون البيت، وقد ابتدأ بأولها، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾
2. النداء لأهل الإيمان الصادقين في إيمانهم الذين يعملون بما يأمر، وينتهون عما ينهى، وتصدير الكلام بهذا النداء لبيان ما كان محرما في الحج وما يدعو الإسلام إلى الاستجابة إليه من مقتضيات، والإحلال معناه أن يخالف أمر الله تعالى فما يكون حراما منهيا عنه في الحج يفعله ويستحله، وما يكون مأمورا به لا يستجيب له، وشعائر الله تعالى في هذا المقام المراد بها مناسك الحج، وما حرمه فيه من ثياب في أثناء الإحرام، وما أمر به من أمور فيه من السعي بين الصفا والمروة والطواف بالبيت الحرام، والوقوف بعرفة، ورمى الجمار وسائر الأفعال، فإن هذه كلها شعائر لله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج]، وكما قال تعالى في بعض هذه المناسك: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ﴾ [البقرة]
3. سميت أعمال الحج شعائر، وهي جمع شعيرة، كما سميت مشاعر جمع مشعر، وهي أمور معلمة محسوسة مرئية، تدل على اتجاه القلوب إليه سبحانه وتعالى، فكان الإحرام مقترنا بمظهر حسى وهو ألا يلبس مخيطا، وأن يجهر بالتلبية، وكان الطواف وهو عمل حسى يدل على الاتجاه إلى ضيافة الرحمن، والإقامة بجوار بيته العتيق ـ أول بيت وضع ـ وفى ذلك اتصال دائم بين الرسالة الإلهية؛ إذ إن الذى بناه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فكان الطواف به رمز الوحدة في الرسالة الإلهية، وأن آخرها متصل بأولها، وأنها سلسلة متصلة الحلقات تتم كل واحدة جزءا حتى أوفت على الغاية برسالة نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكذلك السعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة في المشهد الإسلامي الأكبر، ورمى الجمار، كما فعل إبراهيم عليه السلام من قبل، وذلك مظهر للتطهر التام، والخروج من وسوسة الشيطان، ورميه والإعراض عنه.
4. والأمر الثاني الذى لا يحل، ونهى المسلمون عن إحلاله، هو الشهر الحرام، والمراد النهى عن القتال فيه، والشهر مفرد أريد به الجمع، وذلك أنه أشهر أربعة كما قال تعالى في سورة براءة: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة]
5. وهذه الأشهر لا يحل القتال فيها، فلا يبدأ المسلمون القتال فيها، ولكن يدافعون إن اعتدى عليهم فيها، ولهم أن يطلبوا الهدنة إن جاءت في أثناء القتال فيها، فإن كان الذين يقاتلونهم لا يؤمنون بها استمر القتال، إذ لا مناص منه، وقد ادعى كثيرون أن منع القتال في هذه الأشهر نسخ، ولا نجد دليلا يدل على النسخ، بل الأدلة تدل على دوام التحريم بل الأدلة متضافرة على استمرار تحريمها؛ لأن ذلك جاء في سورة المائدة، وهي من أواخر القرآن نزولا، ولأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ذكر التحريم في خطبة الوداع ولعل الذين ادعوا النسخ أخذوه من الحروب الإسلامية، والواقع أن المسلمين كانوا مضطرين للاستمرار.
6. والأشهر الحرم هي: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب ـ الذى بين جمادى وشعبان ـ والأشهر الثلاثة الأولى: فيها الحج والذهاب إليه والعودة منه، ورجب فيه العمرة، والتحريم ليكون الطريق آمنا في مدة الحج.
7. ﴿وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ الهدى جمع هدية، وهو ما يهدى، ويراد به هنا ما يهدى إلى البيت الحرام ليذبح في الحج، وإحلاله المنهى عنه ذبحه في غير موضع الحج، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ [البقرة] كما أن من إحلاله اغتصابه أو منعه من أن يصل إلى البيت الحرام، والقلائد جمع قلادة، وهي ما تقلد به الهدى، ومن الفقهاء من خصها بالبدن (الإبل والبقر) فلا يقلد سواها، والنهى عن إحلال القلائد قد اختلف المفسرون في معناه، وأحسن ما قيل هو ما قرره الزمخشري وهو: أن النهى عن إحلال القلائد هو النهى عن إحلال الهدى الذى حمل القلادة، وكان ذكرها بعد ذكر الهدى عامة من قبيل ذكر الخاص بعد العام، وكان المعنى لا تحلوا الهدى، ولا تحلوا القلائد بشكل خاص، وذلك لأن إحلال الهدى الذى أشعر وأعلم بالقلادة يكون أشد نهيا، إذ إنه اعتداء على ما أعلن بالحس أنه خصص للبيت الحرام، ولم يكتف بالنية وحدها، فما خصص بالنية قد يخفى، وما خصص بالحس لا يخفى، وذكر الزمخشري وجها آخر، وهو أن النهى عن إحلال ذات القلائد، وإذا كانت القلائد لا يحل الاعتداء عليها فأولى بذلك الحيوان الذى يحمل شعارها، ومهما يكن من التخريجين فالنهى ثابت عن إحلال الهدى وشعاره.
8. وإن سوق الهدى وذبحه من مناسك الحج وفيه توسعة على سكان البيت الحرام، وإجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم]
9. سؤال وإشكال: لكن هل يغنى عن الهدى وذبحه في منى ما يقوم به من نقود؟ لقد أجمع الفقهاء على أنه لا تغنى قيمته عنه، ما دام يستطيع الرجل أن يهدى، وقد جعل الله تعالى الصيام بدل الهدى لمن لا يجد، فقال تعالى: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ [البقرة]، ولقد ثارت مناقشات حول استبدال الذبح بقيمة الهدى، لأن الناس لا يأكلون كل ما يذبح فيتلف، ووراء ذلك فشو الأوبئة ونحوها، وهذا فوق ما تنشره الدماء من أدواء، والجواب: نقول في الجواب عن ذلك: إن هذا من ضيق عقل الإنسان، لا من شريعة الديان، والقرآن أمر بالذبح، ولم يقل أحد من الصحابة أو من جاء بعدهم: إن قيمة الهدى تغنى عنه، وكان يجب أن يفكر المفكرون في الانتفاع باللحم والدم من غير أن يتعرضا للفساد والإفساد، وذلك بادخار اللحم، بالتثليج أو نحوه ليمد سكان الحرم الشريف باللحم أكثر العام، لا في موسم الحج وحده، وأن تقام المدابغ لدبغ الجلود، فتكون مصدر ثروة، والدم يصنع منه أحسن الأواني والنار تطهره، ولكن العقول تتسع في كل شئون الحياة، فإذا جاءت إلى أوامر الإسلام ضاقت، وذلك من ضعف الإيمان.
10. ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ المراد الذين يقصدون البيت الحرام لأداء الحج، وقد قال بعض العلماء: إن هؤلاء الذين ينهى عن إحلالهم (بمعنى منعهم) هم من كانوا من المشركين يقصدون البيت الحرام يبتغون التجارة ورضا الله تعالى بزعمهم، وقد نسخ هذا بقوله تعالى بعد ذلك: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة]، ولكن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا، وقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المائدة من آخر القرآن نزولا، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها) وقال الحسن البصرى: ليس فيها منسوخ، وعلى ذلك نقول: إن آمين البيت (أى القاصدين له حجا) هم من المؤمنين، ومعنى إحلال هؤلاء منعهم من الحج لحرب أو نزاع أو بغى، بل يجب أن يكون مفتوحا للجميع، وإذا كان الله تعالى قد جعله آمنا فقد فتحه لكل المؤمنين يقصدونه، وليس لأحد أن يمنعهم، فلا يحل لأحد أن يمنع أو يصعب على الناس دخول البيت الحرام.
11. وقد بين سبحانه مقصد هؤلاء الذين يؤمون البيت، وهو أنهم يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا، وفسر بعض العلماء الفضل بأنه التجارة، أي أنهم يبتغون من رضوان الله تعالى غرضا من أغراض الدنيا، وهو التجارة، وقد يكون في التجارة جلب أرزاق لسكان الحرم، فالتجارة غير ممنوعة، ولكن القصد الاسمى هو رضوان الله تبارك وتعالى، فهو العبادة التي يكون لها القصد الأول في البيت، وفسر آخرون الفضل بالثواب، فالذين يقصدون البيت حاجين أو معتمرين يطلبون الثواب من الله تعالى، وهو النعيم المقيم، ويطلبون ما هو أكبر منه وهو رضوان الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ﴾ [التوبة]، وهذا هو الذى نختاره، فإن المقام مقام طلب الثواب، لا مقام طلب المال، ولكل مقام ما يناسبه.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/2019.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾، وشعائره جل وعز هي أحكام دينه، ومن أظهرها مناسك الحج والعمرة، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، ومعنى النهي عن تحليل أحكام دين الله ان لا نحرفها، ونتصرف فيها كما نشاء.
2. ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ أي لا تحلوا القتال في الشهر الحرام، والمراد به الأشهر الأربعة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، لأن الألف واللام في الشهر للاستغراق، ﴿وَلَا الْهَدْيَ﴾ وهو ما يهدى إلى بيت الله من الإبل والبقر والغنم، والمراد ان لا يتعرض أحد لها بغصب أو منع من بلوغها البيت الحرام، ﴿وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ أي ولا ذوات القلائد فقد كانوا يقلدون الهدي بنعل أو حبل وما اليه، ليعرف فلا يتعرض له أحد، وانما ذكر ذوات القلائد بعد الهدي، مع ان الهدي يقع عليها وعلى غيرها ـ للاهتمام بها، تماما كقوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾
3. ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾، أي لا تقاتلوا أحدا قصد بيت الله، سواء أقصده للعبادة أم التجارة.
__________
(1) التفسير الكاشف: 3/8.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ خطاب مجدد للمؤمنين يفيد شدة العناية بحرمات الله تعالى.
2. والإحلال هو الإباحة الملازمة لعدم المبالاة بالحرمة والمنزلة، ويتعين معناه بحسب ما أضيف إليه: فإحلال شعائر الله عدم احترامها وتركها، وإحلال الشهر الحرام عدم حفظ حرمته والقتال فيه، وهكذا.
3. والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة، وكان المراد بها أعلام الحج ومناسكه، والشهر الحرام ما حرمه الله من شهور السنة القمرية وهي: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة.
4. والهدي ما يساق للحج من الغنم والبقر والإبل، والقلائد جمع قلادة، وهي ما يقلد به الهدي في عنقه من نعل ونحوه ليعلم أنه هدي للحج فلا يتعرض له، والآمين جمع آم اسم فاعل من أم إذا قصد، والمراد به القاصدون لزيارة البيت الحرام.
5. ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا﴾ حال من ﴿آمِّينَ﴾ والفضل هو المال، أو الربح المالي فقد أطلق عليه في قوله تعالى: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ﴾ ﴿اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ [آل عمران: 174] وغير ذلك أو هو الأجر الأخروي أو الأعم من المال والأجر.
6. وقد اختلفوا في تفسير الشعائر والقلائد وغيرهما من مفردات الآية على أقوال شتى، والذي آثرنا ذكره هو الأنسب لسياق الآية، ولا جدوى في التعرض لتفاصيل الأقوال.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/163.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ قال الشرفي في (المصابيح): (وفي تفسير هذه الآية يقول الهادي عليه السلام: هذا نهي من الله سبحانه للمؤمنين أن يحلوا شيئاً حرم الله عز وجل من هذه الأشياء، والشعائر: فهي الإبل التي تشعر عند الإحرام، وإشعارها فهو شق أسنمتها، والهدي: فهو ما أهداه المحرم إلى مكة، والقلائد: فهي الإبل ـ أيضاً ـ المقلدة التي يقلدها الحاج بعد إحرامه.
2. ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ فهم القاصدون للبيت الحرام المتوجهون نحوه من حاج كان أو معتمر، فنهى الله ـ تبارك وتعالى ـ عن إباحة ما ذكر، ومعنى الشهر الحرام فهو الأشهر الحرم، فقال: ﴿الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ وهو يريد الشهور، كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ [الإنفطار:6] وهو يريد الناس، والأشهر الحرم التي نهوا عن الإحداث فيها، فهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، وهن اللواتي ذكر الله تبارك وتعالى حين يقول: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ [التوبة:36]
3. حكى الشرفي في (المصابيح) عن المرتضى عليه السلام أنه قال: (والشعائر: فهي ما تعبد الله به خلقه في الحج مثل الصفا والمروة والمواقف والجمار والبُدْنَ، فأمر الله أن لا يبيحوا ذلك ولا يتركوه ولا يفرطوا فيه)، هذا صحيح؛ لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ﴾ [البقرة:158]، وقوله تعالى: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ﴾ [الحج:36] و(من) للتبعيض، ولعل الإمام الهادي عليه السلام أراد تفسير قوله تعالى: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ يعني: أن المراد بالشعائر: البدن المُشْعِرَة، لا أن الاسم خاص بها، يعنى: أن النهي عن إحلال اعتراضها كما فعلت قريش حين صدوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وصدوا الهدي الذي كان معه، ولكن ليس مستحيلاً أن يقع من بعض الجبابرة إحلال المناسك بالبناء فيها لنفسه وأصحابه وخدمه وجعل بعضها بساتين ونحوها، فالأولى: إبقاء الآية على عمومها.
4. ﴿الْقَلَائِدَ﴾ جمع قلادة، وتفسيرها بالإبل المقلدة من التطبيق، وأما المفهوم فالظاهر: أن المراد احترام القلائد التي هي علامة أنها لله فيترك التعرض للإبل المقلدة احتراماً للقلائد، وقوله في الهدي: ما أهداه المحرم المراد إلى الحرم، أي أهداها لله.
5. ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ الفضل هنا ثواب الحج والعمرة وما فيهما من القرب، والرضوان غفران الذنوب وما يترتب عليه من التوفيق وتيسير سبل الخير؛ لأن من رضي عن عبده أراد له الخير ولذلك كان الرضوان في الآخرة أكبر، قال الله تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة:72] وابتغاء ذلك إرادته والتوصل إليه بأمّ البيت الذي هو الكعبة من حيث هو توصل إلى الحج والعمرة وما فيهما.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/231.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إن ما ورود في أسباب النزول(2) يعني ضمنا، أنَّ الآية واردة في مقام حض المسلمين على حفظ واحترام الشعائر والمواقف والأشخاص الّتي ترتبط ببعض العبادات أو الأوضاع العامة المتعلقة بالتخطيط للسلام في الحياة أو الأماكن المقدسة، ولذا بدأ بشعائر الله الّتي اختلف الرأي في تطبيقها على عدّة مواطن ومعالم ومناسك، باعتبار صدق هذا العنوان عليها، كما جاء في الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ﴾ [البقرة: 158]، ولكن لا مانع من القول بأنَّها شاملة لكل حرمات الله ومعالم أمره ونهيه، باعتبارها علامات على طاعة الله، وربّما يومئ إلى ذلك في الآية المتقدمة في جعل الصفا والمروة من شعائر الله، مما يعني أنَّ هناك غيرها من الأشياء الّتي يطلق عليها الشعائر.
2. من الواضح أنَّ إطلاق كلمة الشعائر على الأمكنة والأشياء ليس بلحاظ ذاتها، بل باعتبار المعاني الّتي ترمز إليها والأعمال الّتي تؤدى فيها، وبذلك يكون النهي عن استحلالها، نهيا عن تجاوز الحدود والفرائض الّتي أوجبها الله فيها مما يدخل في طاعته والانقياد له، وأمّا النهي عن استحلال الشهر الحرام، الّذي جعله الله عنوانا للشهور الأربعة: رجب وذي القعدة وذي الحجة ومحرم، فلكي يكون للنّاس في حياتهم زمن سلام يسترحون فيه إلى أمنه وطمأنينته، ويعلمون فيه على الدعوة إلى تقوية أواصر السلام والمحبة فيما بينهم من خلال ما يعيشون فيه من أجواء الخير والسعادة.. ولذلك أراد منهم ترك القتال فيه، مهما كانت الدوافع والأوضاع، إلَّا في الحالات الصعبة الّتي لا مجال فيها إلَّا للمواجهة القتالية الّتي تمثل خط الدفاع عن القضايا، أمّا الهدي، فقد أراد الله للنّاس احترامه وعدم التعرض له بسلب، أو باعتراض طريقه ومنع وصوله إلى محله، وكذلك الأمر بالنسبة للقلائد.
3. وفي ختام ذلك نهى عن الاعتداء على الَّذين يؤمون البيت الحرام ويقصدونه ابتغاء رزق الله عن طريق التجارة، أو الحصول على رضى الله وفق أساليبهم العباديّة الخاصة لله وإن كانت غير خالصة له.
__________
(1) من وحى القرآن: 8/22.
(2) ذكر ما ورد في سبب النزول الذي سبق ذكره.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بيّنت هذه الآية عددا من الأحكام الإلهية الإسلامية المهمة، وهي من الأحكام الأواخر التي نزلت على النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وكلها أو أغلبها تتعلق بحج بيت الله، وهي على الوجه التالي:
أ. الطلب من المؤمنين بعدم انتهاك شعائر الله، ونهيهم عن المساس بحرمة هذه الشعائر المقدسة، كما تقول الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ واختلف المفسّرون حول المراد بكلمة (الشعائر) الواردة هنا، وبالنظر إلى الأجزاء الأخرى من هذه الآية، وإلى السنة التي نزلت فيها وهي السنة العاشرة للهجرة التي أدى فيها النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم آخر حجّة إلى مكّة المكرمة هي حجّة الوداع، يتّضح أنّ المراد بهذه الكلمة مناسك الحج التي كلف المسلمون باحترامها كلّها، ويؤكّد هذا الرأي مجيء كلمة (الشّعائر) في القرآن الكريم مقترنة بالحديث عن مناسك الحج دائما.
ب. دعت الآية إلى احترام الأشهر الحرم وهي شهور من السنة القمرية، كما نهت عن الدخول في حرب في هذه الشهور، حيث قالت: ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾، وتذبح فيه، فقالت الآية: ﴿وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾
ج. أوجبت الآية توفير الحرية التامّة لحجاج بيت الله الحرام أثناء موسم الحج، الذي تزول خلاله كل الفوارق القبلية والعرقية واللغوية والطبقية، ونهت عن مضايقة المتوجهين إلى زيارة بيت الله الحرام ابتغاء لمرضاته، أو حتى الذين توجهوا إلى هذه الزيارة وهم يحملون معهم أهدافا أخرى كالتجارة والكسب الحلال لا فرق فيهم بين صديق أو غريم، فما داموا كلهم مسلمين وقصدهم زيارة بيت الله، فهم يتمتعون بالحصانة كما تقول الآية الكريمة: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾، ويعتقد بعض المفسّرين والفقهاء أنّ الجملة القرآنية المذكورة أعلاه ذات معنى عام وتشمل غير المسلمين، أي المشركين أيضا إن هم جاءوا لزيارة بيت الله الحرام يجب أن يتعرضوا للمضايقة من قبل المسلمين، ولكن نظرا لنزول آية تحريم دخول المشركين إلى المسجد الحرام في سورة التوبة التي نزلت في العام التاسع للهجرة، ونزول سورة المائدة في أواخر عمر النّبي الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم أي في العام العاشر للهجرة وهي سورة لم يطرأ النسخ على أيّ من الأحكام الواردة فيها ـ بحسب روايات الطائفتين الشيعة والسنة ـ لذلك يستبعد أن يكون هذا التّفسير صحيحا، والحق أن الحكم المذكور خاص بالمسلمين وحدهم.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/578.
5. حل الصيد لغير المحرم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈5⌉ من سورة المائدة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ [المائدة: 2]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: خمس آيات في كتاب الله رخصة، وليست بعزمة: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ إن شاء اصطاد وان شاء لم يصطد، ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا﴾ [الجمعة: ١٠]، ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤]، ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا﴾ [الحج: ٢٨](1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٤٣ مختصرًا، وعزاه السيوطي إلى ابن أبي حاتم.
عطاء:
روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) أنّه قال: خمس آيات من كتاب الله رخصة، وليست بعزيمة: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا﴾ [الحج: ٢٨] فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل، ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ من شاء فعل ومن شاء لم يفعل، ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] فمن شاء صام ومن شاء أفطر، ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ﴾ [النور: ٣٣] إن شاء كاتب وإن شاء لم يفعل، ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا﴾ [الجمعة: ١٠] إن شاء انتشر وإن شاء لم ينتشر(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٤٣.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: قوله سبحانه: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ﴾ من الإحرام ﴿فَاصْطَادُوا﴾، يقول: إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٤٩.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾، دل هذا على أن النهي في قوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ أي: أخذ الصيد واصطياده في الإحرام، لا أكله، وهو إباحة ما حُظر عليهم بالإحرام، وإن كان ظاهره أمرًا، ومعناه: فإذا حللتم لكم أن تصطادوا.
2. وأصله: أن كل أمر خرج على أثر محظور فهو أمر إباحة وإطلاق ذلك المحظور المحرم، لا أمر إلزام وإيجاب؛ من نحو قوله تعالى: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾، ثم قال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾، وهو المحظور المتقدم، وقوله تعالى: ﴿لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ﴾، ثم قال عز وجل: ﴿وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا﴾، أمر إطلاق وإباحة ما حُظر عليهم، ومثله كثير في القرآن مما يكثر ذكره.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٤٢.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ يريد إذا حللتم عقد الإحرام فاصطادوا.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/215.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ وهذا وإن خرج مخرج الأمر، فهو بعد حظر، فاقتضى إباحة الاصطياد بعد الإِحلال دون الوجوب.
__________
(1) تفسير الماوردي: ٢/٨.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ أهل الحجاز يقولون: حللت من الإحرام أحل، والرجل حلال، وكذلك سعد بن بكر وكذا يقولون: حرم الرجل فهو حرام: إذا صار محرماً، وقوم حرمٌ واسد وقيس وتميم يقولون: أحلّ من إحرامه، فهو مُحلّ وأحرم فهو محرمٌ، معناه إذا حللتم من إحرامكم، فاصطادوا الصيد الذي نهيتكم أن تحلوه، وأنتم حرم، وهو بصورة الامر، ومعناه الاباحة، وتقديره لا حرج عليكم في اصطياده فاصطادوه ان شئتم حينئذ لأن السبب المحرم قد زال، وهو قول جميع المفسرين: مجاهد وعطاء، وابن جريج وغيرهم.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/424.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾:
أ. يعني إذا خرجتم من الإحرام فقد حل لكم الصيد فهو إباحة، وليس بأمر ولا إيجاب كقوله: ﴿فَانْتَشِرُوا﴾ وكقوله: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا﴾
ب. وقيل: إذا خرجتم من الحرم والإحرام فاصطادوا.
2. سؤال وإشكال: هل يجب الاصطياد؟ والجواب: قد يجب لدفع الضرر عن نفسه وغيره.
3. سؤال وإشكال: فهلا قلتم إن قوله: ﴿فَاصْطَادُوا﴾ أمر وإيجاب؟ والجواب: لأنه مطلق لا يختص بحال الضرورة.
4. سؤال وإشكال: هل يشترط في تحليل الصيد شرط؟ والجواب: نعم، فإن الصيد على ضربين: صيد البر، وصيد البحر، صيد البحر إذا أخذ يكفي، ولا يشترط الذبح ولا التسمية، ولا يحل من صيد البحر إلا السمك عند أبي حنيفة، وجميعها حل عند الشافعي، وأما صيد البر فعلى ثلاثة أوجه:
أ. صيد جوارح الطير كالبازي إذا كان مُعَلَّمًا، وعلامة تعليمه أن يجيب إذا دعي.
ب. الثاني: صيد الكلب المعلَّم وتعليمه ألا يأكل من الصي.
ج. والصيد بالرمي، ويشترط التسمية عند إرسال الكلب والرمي والذبح إن قدر عليه، وإن لم يقدر عليه جاز أكله، وموضع تفصيل ذلك كتب الفقه.
5. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن الاصطياد يحل لأن قوله: ﴿فَاصْطَادُوا﴾ إباحة.
ب. أن لحم الصيد حلال؛ لأنه المبتغى بالصيد.
ج. أنه حل بعدما حرم الإحرام، ولا شبهة أن الاصطياد حرام على المحرم، فكذلك الإشارة والدلالة والإعانة على الصيد، فأما ذبيحته فعند الأكثر أنه ميتة لا يحل أكله، وقال بعضهم: يحل.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/180.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حَلَلْتُمْ﴾ يقال حللت من الإحرام تحل، والرجل حلال، وقالوا: أحرم الرجل فهو حرام، وقيس وتميم يقولون: أحل من إحرامه فهو محل، وأحرم فهو محرم.
2. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ معناه: إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا فيها الصيد الذي نهيتم أن تحلوا، فاصطادوه إن شئتم حينئذ، لان السبب المحرم قد زال، عند جميع المفسرين.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/238.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ لفظه لفظ الأمر، ومعناه الإباحة، نظيره ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ وهو يدلّ على إحرام متقدّم.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/510.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ قرئ وإذا أحللتم يقال حل المحرم وأحل، وقرئ بكسر الفاء وقيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء، وهذه الآية متعلقة بقوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: 1] يعني لما كان المانع من حل الاصطياد هو الإحرام، فإذا زال الإحرام وجب أن يزول المنع.
2. ظاهر الأمر وإن كان للوجوب إلا أنه لا يفيد هاهنا إلا الإباحة، وكذا في قوله: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [الجمعة: 10] ونظيره قول القائل: لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها، فإذا أديت فادخلها، أي فإذا أديت فقد أبيح لك دخولها، وحاصل الكلام أنا إنما عرفنا أن الأمر هاهنا لم يفد الوجوب بدليل منفصل.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/282.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ أمر إباحة ـ بإجماع الناس ـ رفع ما كان محظورا بالإحرام، حكاه كثير من العلماء وليس بصحيح، بل صيغة (افْعَلْ) الواردة بعد الحظر على أصلها من الوجوب، وهو مذهب القاضي أبي الطيب وغيره، لأن المقتضي للوجوب قائم وتقدم الحظر لا يصلح مانعا، دليله قوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة] فهذه (افْعَلْ) على الوجوب، لأن المراد بها الجهاد، وإنما فهمت الإباحة هناك وما كان مثله من قوله: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا﴾ [الجمعة] ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ﴾ من النظر إلى المعنى والإجماع، لا من صيغة الأمر.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/44.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ هذا تصريح بما أفاده مفهوم ﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ أباح لهم الصيد بعد أن حظره عليهم لزوال السبب الذي حرّم لأجله، وهو الإحرام.
__________
(1) فتح القدير: 2/9.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ﴾ من الإحرام المذكور بقوله: ﴿وَأَنتُمْ حُرُمٌ﴾، ﴿فَاصْطَادُواْ﴾ إن شئتم، فالأمر للإباحة بعد الحظر كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الَارْضِ﴾ [الجمعة: 10]، فإنَّ علَّة حرمة الاصطياد وترك البيع معلَّلة بالإحرام والاشتغال بأمور الصلاة وبالصلاة، فوجب أن تنتهي الحرمة بانتهاء علَّتها، فيرجع الحكم إلى أصله من الإباحة، كأنَّه قيل: فقد أبحت لكم الصيد، وهذا مذهبنا (2) ومذهب أكثر الفقهاء وأكثر المتكلِّمين لقرينة سبق الحظر.
2. وقيل: للوجوب، ونسبه الإسفراييني إلى الفقهاء كلِّهم وأكثر الشافعيَّة وأكثر المتكلِّمين، وهو غلط، إذ لم يتَّفق عليه الفقهاء، ووجه الوجوب في هذا القول إمَّا المبالغة في صحَّة المباح حتَّى كأنَّه واجب، وإمَّا وجوب اعتقاد الحلِّ فيكون التجوُّز في مادَّة الاصطياد، كأنَّه قيل: اعتقدوا حلَّ الصيد، وهو ضعيف، إلَّا أن يئول إلى معنى وجوب اعتقاد تمام الواجب والفراغ منه، ووقف إمام الحرمين في ذلك.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/378.
(2) يقصد الإباضية
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ﴾ أي خرجتم من الإحرام، أو خرجتم من الحرم إلى الحل ﴿فَاصْطَادُوا﴾ أي: فلا جناح عليكم في الاصطياد.
__________
(1) تفسير القاسمي: 4/13.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ أي وإذا خرجتم من إحرامكم بالحج أو العمرة ومن أرض الحرم فاصطادوا إن شئتم فإنما حرم عليكم الصيد في أرض الحرم وفي حال الإحرام فقط، فهذا تصريح بمفهوم قوله في الآية السابقة (غير محلي الصيد وأنتم حرم)
2. والأصل في الأمر بالشيء يجيء بعد حظره أن يكون للإباحة أي رفع ذلك الحظر كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾ [الجمعة: 10] ـ أي بالبيع والكسب ـ الذي جاء بقوله: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة: 9] ومنه حديث (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة) رواه ابن ماجه، وله شاهد في صحيح مسلم من غير تعليل، وما كان الأصل فيه الإباحة قد يجب أو يندب أو يحظر لعارض يقتضي ذلك.
__________
(1) تفسير المنار: 6/106.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. صرح الله تعالى بما فهم من قوله: ﴿غير محلى الصيد وأنتم حرم﴾ فقال: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ أي وإذا خرجتم من إحرامكم بالحج أو العمرة أو من أرض الحرم فاصطادوا إن شئتم، فإنما حرم عليكم الصيد في أرض الحرم وفى حال الإحرام فقط.
__________
(1) تفسير المراغي 6/46.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أحل الله تعالى الصيد متى انتهت فترة الإحرام، في غير البيت الحرام، فلا صيد في البيت الحرام: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾..
2. إنها منطقة الأمان يقيمها الله في بيته الحرام؛ كما يقيم فترة الأمان في الأشهر الحرم.. منطقة يأمن فيها الناس والحيوان والطير والشجر أن ينالها الأذى، وأن يروعها العدوان.. إنه السلام المطلق يرفرف على هذا البيت؛ استجابة لدعوة إبراهيم ـ أبي هذه الأمة الكريم ـ ويرفرف على الأرض كلها أربعة أشهر كاملة في العام ـ في ظل الإسلام ـ وهو سلام يتذوق القلب البشري حلاوته وطمأنينته وأمنه؛ ليحرص عليه ـ بشروطه ـ وليحفظ عقد الله وميثاقه، وليحاول أن يطبقه في الحياة كلها على مدار العام، وفي كل مكان.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/839.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ هو إطلاق لهذا القيد الذي قيّد به الحاج وهو في إحرام الحج.. فإذا أتم الحجّ، وتحلل من إحرامه أبيح له ما كان مباحا من قبل، وهو إطلاق يده في صيد ما يشاء من حيوان أو طير!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1028.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ تصريح بمفهوم قوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: 1] لقصد تأكيد الإباحة، فالأمر فيه للإباحة، وليس هذا من الأمر الوارد بعد النهي، لأنّ تلك المسألة مفروضة في النهي عن شيء نهيا مستمرّا، ثم الأمر به كذلك، وما هنا: إنّما هو نهي موقّت وأمر في بقيّة الأوقات، فلا يجري هنا ما ذكر في أصول الفقه من الخلاف في مدلول صيغة الأمر الوارد بعد حظر: أهو الإباحة أو الندب أو الوجوب، فالصيد مباح بالإباحة الأصليّة، وقد حرّم في حالة الإحرام، فإذا انتهت تلك الحالة رجع إلى إباحته.
2. ﴿فَاصْطَادُوا﴾ صيغة افتعال، استعملت في الكلام لغير معنى المطاوعة التي هي مدلول صيغة الافتعال في الأصل، فاصطاد في كلامهم مبالغة في صاد، ونظيره: اضطرّه إلى كذا، وقد نزّل ﴿فَاصْطَادُوا﴾ منزلة فعل لازم فلم يذكر له مفعول.
__________
(1) التحرير والتنوير: 5/19.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآية تومئ إلى مناسك الحج والقيام بها، وقد ذكرت الآية السابقة أنه لا يحل الصيد مع الإحرام، وهذه الآية بينت ما يجب على المؤمن من القيام بشعائر الحج، وفتح أبواب مكة لمن يريدها من المؤمنين، وذكرت الآية الكريمة متى يباح الصيد، فقال سبحانه: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾
2. معنى الإحلال الخروج من الإحرام بالحج أو العمرة أو هما معا بأن يلبس الملابس كاملة، ويقص شعره وأظافره وغير ذلك مما كان يحرمه عليه الذى هو فيه من الحج مع لبس لباسه، والقيام بمظاهر النسك، والاتجاه إلى الله تعالى، والشعور بأنه في ضيافته عند بيته الحرام.
3. وإذا تحلل ذلك التحلل أبيح له ما حرمه الإحرام عليه، ومن ذلك الصيد، والأمر بالإحلال هنا ليس للطلب، فليس الصيد بمطلوب، ولكنه مباح، وقد جاءت صيغة الأمر بعد النهى، فكانت للإباحة، وهي كذلك في كل صيغة (افعل) بعد النهى غالبا، مثل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾ [الجمعة]، وذلك بعد أن نهى عن البيع عند النداء للصلاة من يوم الجمعة في قوله تعالت كلماته: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة]، وقد روى في ذلك قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها)
4. والخلاصة أن هذا النص الكريم فيه إباحة الصيد بعد الخروج من الإحرام بعد أن كان محرما في أثناء الإحرام.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/2024.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾، لأن الصيد يحرم في حال الإحرام، وفي ارض الحرم مطلقا، فإذا لم يكن الإنسان محرما ولا في أرض الحرم فالصيد وأكل المصيد حلال، لزوال المانع.
2. والأمر في قوله: ﴿فَاصْطَادُوا﴾ للإباحة لأنه ورد بعد النهي.
__________
(1) التفسير الكاشف: 3/9.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ أمر واقع بعد الحظر لا يدل على أزيد من الإباحة بمعنى عدم المنع، والحل والإحلال ـ مجردا ومزيدا فيه ـ بمعنى وهو الخروج من الإحرام.
2. سؤال وإشكال: ربما يسأل السائل فيقول إن الحيوان ذو روح شاعرة بما يشعر به الإنسان من ألم العذاب ومرارة الفناء والموت وغريزة حب الذات التي تبعثنا إلى الحذر من كل مكروه والفرار من ألم العذاب والموت تستدعي الرحمة لغيرنا من أفراد النوع لأنه يؤلمهم ما يؤلمنا، ويشق عليهم ما يشق علينا، والنفوس سواء، وهذا القياس جار بعينه في سائر أنواع الحيوان، فكيف يسوغ لنا أن نعذبهم بما نتعذب به، ونبدل لهم حلاوة الحياة من مرارة الموت، ونحرمهم نعمة البقاء التي هي أشرف نعمة؟ والله سبحانه أرحم الراحمين فكيف يسع رحمته أن يأمر بقتل حيوان ليلتذ به إنسان وهما جميعا في أنهما خلقه سواء؟ والجواب: أنه من تحكيم العواطف على الحقائق والتشريع إنما يتبع المصالح الحقيقية دون العواطف الوهمية، توضيح ذلك:
أ. أنك إذا تتبعت الموجودات التي تحت مشاهدتك بالميسور مما عندك وجدتها في تكونها وبقائها تابعة لناموس التحول، فما من شيء إلا وفي إمكانه أن يتحول إلى آخر، وأن يتحول الآخر إليه بغير واسطة أو بواسطة، لا يوجد واحد إلا ويعدم آخر، ولا يبقى هذا إلا ويفني ذاك، فعالم المادة عالم التبديل، والتبدل وإن شئت فقل: عالم الآكل والمأكول، فالمركبات الأرضية تأكل الأرض بضمها إلى أنفسها وتصويرها بصورة تناسبها أو تختص بها ثم الأرض تأكلها وتفنيها، ثم النبات يتغذى بالأرض ويستنشق الهواء ثم الأرض تأكله وتجزئه إلى أجزائه الأصلية وعناصره الأولية، ولا يزال أحدهما يراجع الآخر، ثم الحيوان يتغذى بالنبات والماء ويستنشق الهواء، وبعض أنواعه يتغذى ببعض كالسباع تأكل لحوم غيرها بالاصطياد، وجوارح الطير تأكل أمثال الحمام والعصافير لا يسعها بحسب جهاز التغذي الذي يخصها إلا ذلك، وهي تتغذى بالحبوب وأمثال الذباب والبق والبعوض وهي تتغذى بدم الإنسان وسائر الحيوان ونحوه، ثم الأرض تأكل الجميع.
ب. فنظام التكوين وناموس الخلقة الذي له الحكومة المطلقة المتبعة على الموجودات هو الذي وضع حكم التغذي باللحوم ونحوها، ثم هدى أجزاء الوجود إلى ذلك، وهو الذي سوى الإنسان تسوية صالحة للتغذي بالحيوان والنبات جميعا، وفي مقدم جهازه الغذائي أسنانه المنضودة نضدا صالحا للقطع والكسر والنهش والطحن من ثنايا ورباعيات وأنياب وطواحن، فلا هو مثل الغنم والبقر من الأنعام لا تستطيع قطعا ونهشا، ولا هو كالسباع لا تستطيع طحنا ومضغا، ثم القوة الذائقة المعدة في فمه التي تستلذ طعم اللحوم ثم الشهوة المودعة في سائر أعضاء هضمه جميع هذه تستطيب اللحوم وتشتهيها، كل ذلك هداية تكوينية وإباحة من مؤتمن الخلقة، وهل يمكن الفرق بين الهداية التكوينية، وإباحة العمل المهدي إليه بتسليم أحدهما وإنكار الآخر؟
ج. والإسلام دين فطري لا هم له إلا إحياء آثار الفطرة التي أعفتها الجهالة الإنسانية، فلا مناص من أن يستباح به ما تهدي إليه الخلقة وتقضي به الفطرة، وهو كما يحيي بالتشريع هذا الحكم الفطري يحيي أحكاما أخرى وضعها واضع التكوين، وهو ما تقدم ذكره من الموانع من الاسترسال في حكم التغذي أعني حكم العقل بوجوب اجتناب ما فيه ضرر جسماني أو معنوي من اللحوم، وحكم الإحساسات والعواطف الباطنية بالتحذر والامتناع عما يستقذره ويتنفر منه الطباع المستقيمة، وهذان الحكمان أيضا ينتهي أصولهما إلى تصرف من التكوين، وقد اعتبرهما الإسلام فحرم ما يضر نماء الجسم، وحرم ما يضر بمصالح المجتمع الإنساني، مثل ما أهل به لغير الله، وما اكتسب من طريق الميسر والاستقسام بالأزلام ونحو ذلك، وحرم الخبائث التي تستقذرها الطباع.
د. وأما حديث الرحمة المانعة من التعذيب والقتل فلا شك أن الرحمة موهبة لطيفة تكوينية أودعت في فطرة الإنسان وكثير مما اعتبرنا حاله من الحيوان، إلا أن التكوين لم يوجدها لتحكم في الأمور حكومة مطلقة وتطاع طاعة مطلقة، فالتكوين نفسه لا يستعمل الرحمة استعمالا مطلقا، ولو كان ذلك لم يوجد في دار الوجود أثر من الآلام والأسقام والمصائب وأنواع العذاب، ثم الرحمة الإنسانية في نفسها ليست خلقا فاضلا على الإطلاق كالعدل، ولو كان كذلك لم يحسن أن نؤاخذ ظالما على ظلمه أو نجازي مجرما على جرمه ولا أن نقابل عدوانا بعدوان وفيه هلاك الأرض ومن عليها.
هـ. ومع ذلك لم يهمل الإسلام أمر الرحمة بما أنها من مواهب التكوين، فأمر بنشر الرحمة عموما، ونهى عن زجر الحيوان في القتل، ونهى عن قطع أعضاء الحيوان المذبوح وسلخه قبل زهاق روحه ـ ومن هذا الباب تحريم المنخنقة والموقوذة ـ ونهى عن قتل الحيوان وآخر ينظر إليه، ووضع للتذكية أرفق الأحكام بالحيوان المذبوح وأمر بعرض الماء عليه ونحو ذلك مما يوجد تفصيله في كتب الفقه.
و. ومع ذلك كله الإسلام دين التعقل لا دين العاطفة فلا يقدم حكم العاطفة على الأحكام المصلحة لنظام المجتمع الإنساني ولا يعتبر منه إلا ما اعتبره العقل، ومرجع ذلك إلى اتباع حكم العقل.
ز. وأما حديث الرحمة الإلهية وأنه تعالى أرحم الراحمين، فهو تعالى غير متصف بالرحمة بمعنى رقة القلب أو التأثر الشعوري الخاص الباعث للراحم على التلطف بالمرحوم، فإن ذلك صفة جسمانية مادية تعالى عن ذلك علوا كبيرا، بل معناها إفاضته تعالى الخير على مستحقه بمقدار ما يستحقه، ولذلك ربما كان ما نعده عذابا رحمة منه تعالى وبالعكس، فليس من الجائز في الحكمة أن يبطل مصلحة من مصالح التدبير في التشريع اتباعا لما تقترحه عاطفة الرحمة الكاذبة التي فينا، أو يساهل في جعل الشرائع محاذية للواقعيات.
ح. فتبين من جميع ما مر أن الإسلام يحاكي في تجويز أكل اللحوم وفي القيود التي قيد بها الإباحة والشرائط التي اشترطها جميعا أمر الفطرة: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم!
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/163.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ فالواجب إنما هو اجتناب الصيد حال الإحرام وليس من الدين اجتنابه بعد الإحلال تورعاً.
2. والإصطياد: أخذ الصيد وما يجري مجرى الأخذ من الاستيلاء عليه والسيطرة بكونه قد صار في الشبكة أو نحو ذلك.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/233.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ لأنَّ التحريم كان بسبب حالة الإحرام، فجاز للإنسان بعد زوالها العودة إلى حالة الحل الّتي يمارس فيها حريته في كل ما أحلّه الله له في الأصل من صيد أو غيره.
__________
(1) من وحى القرآن: 8/25.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. خصصت هذه الآية حكم حرمة الصيد بوقت الإحرام فقط، وأعلنت أنّ الخروج من حالة الإحرام إيذان بجواز الصيد للمسلمين ـ حيث تقول الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/580.
6. الصد عن المسجد الحرام وحرمة الاعتداء
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈6⌉ من سورة المائدة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾ [المائدة: 2]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾، يقول: لا يحملنكم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾، يقول: عداوة قوم(2).
__________
(1) ابن جرير ٨/٤٤.
(2) ابن جرير ٨/٤٩.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي في قول الله: ﴿أَنْ تَعْتَدُوا﴾ رجل مؤمن من حلفاء محمد قتل حليفا لأبي سفيان من هذيل يوم الفتح بعرفة؛ لأنه كان يقتل حلفاء محمد، فقال محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لعن الله من قتل بذحل الجاهلية)(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾ ليست منسوخة، واحتج بقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لعن الله من قتل بذحل(2)، في الجاهلية)(3).
__________
(1) ابن جرير ٨/٥١.
(2) القتل بالذحل: هو القتل بالثأر أو بالعداوة.
(3) عَلَّقه النحاس في الناسخ والمنسوخ ٢/٢٤٠.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: كان هذا حين صدوه يوم الحديبية عن المسجد الحرام(1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين ٢/٧.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ لا يحملنكم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ لا يحملنكم بغض قوم(2).
__________
(1) ابن جرير ٨/٤٤.
(2) ابن جرير ٨/٤٩.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ معناه لا يحملنكم.. والشّنآن: العداوة والبغضاء)(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 125.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ يقول: ولا يحملنكم عداوة المشركين من أهل مكة ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ يعنى: منعوكم من دخول البيت الحرام أن تطوفوا به عام الحديبية ﴿أَنْ تَعْتَدُوا﴾ يعني: أن ترتكبوا معاصيه؛ فتستحلوا أخذ الهدي والقلائد والقتل في الشهر الحرام من حجاج بكر بن وائل من أهل اليمامة(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٤٩.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾ بغضاؤهم حتى تأتوا ما لا يحل لكم، وقرأ: ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا﴾ وقال: هذا كله قد نسخ، نسخه الجهاد(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٤٩.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾، هذا أمر من الله عز وجل للمؤمنين، وتأديب لهم، ودلالة على ما فيه نجاتهم، والسلامة في آخرتهم، فقال: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾
2. الشنآن هو: البغض والقلاء، يريد: لا يحملنكم بغض قوم على أن تعتدوا، وتميلوا عن الحق فتهلكوا، والتعدي هو: الظلم والحيف؛ فنهاهم الله سبحانه عن ذلك، وحذرهم منه، وأمرهم أن يكونوا منصفين، وبالحق حاكمين، لا يزيلهم عنه بغض لمن شنوا، ولا إيثار لمحبة فيظلموا، ولا يخرجهم ذلك إلى الميل والهوى، وأن ينفذوا أحكامه سبحانه فيهم على السواء؛ لأن الله عز وجل لم يجعل في حكمه تناقضا ولا فسادا، ولا زلفة لأحد ولا إيثارا؛ بل جعلهم في ذلك معا، وحكم عليهم ولهم فيه بالسواء؛ إنصافا لخلقه، وتسوية بين بريته، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: 135]؛ فأمرهم أن يقوموا بالقسط، وهو: العدل في من ولدهم، وقرب نسبه إليهم بالسواء، فلا يحل لمؤمن عرف ربه، وأيقن بيوم بعثه: أن يعدل عن القسط والحق: بالحكم في عدوه وقريبه على ما أمر الله سواء سواء، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة:47]، والحق فيه الناس جميعا مشتركون.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/289.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾، وقال تعالى في موضع آخر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لله شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ الآية، وقال في آية أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾ الآية.
2. ذكر في بعضها الاعتداء ونهى عنه، وهو المجاوزة عن الحد الذي حُد لهم، وذكر في بعضها العدل، وأمر به، ونهى عن الظلم والجور، ثم الأسبابُ التي تحملهم وتبعثهم على الاعتداء والظلم، وتمنع القيام بالشهادة والعدل ـ ثلاثة: أحدها: ما ذكر عز وجل البغض والعداوة، بقوله: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾، وقال: ﴿عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾، وقال: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾، أمرهم بالقيام بالشهادة، وأخبر ألا يمنعكم الولاية والقرب القيام بالشهادة، أو طمع غنى أو خوف فقر.
3. هذه الوجوه التي ذكرنا تمنع الناس القيام بالشهادة، وتبعثهم على الجور والاعتداء؛ فنهاهم الله عز وجل أن يحملهم بغض قوم، أو عداوة أحد على الجور والاعتداء، أو تمنعهم الشفقة، أو القرب، أو طمع غنى أحد، أو خوف فقر ـ القيامَ بالشهادة وما عليهم من الحق، وأمر أن يجعلوه كله لله بقوله: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾، فإذا كان كله للهِ، قدر أن يعدل في الحكم، وترك مجاوزة الحد الذي حد له، وقدر على القيام بالشهادة، وما ذكر، وما يمنع شيء من ذلك القيام به، من نحو ما ذكر: من البغض والعداوة، والقرب والشفقة، أو طمع الغنى وخوف الفقر؛ إذا جعل الحكم لله عدل فيه، ومنعه عن الجور فيه والاعتداء، وكذلك الشهادة إذا جعلها لله قام بأدائها، ولو على نفسه، أو ما ذكر لم يمنعه شيء عن القيام بها.
4. قال ابن عباس في قوله: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾: أي: لا يحملنكم بغض قوم؛ لصدهم إياكم عن البيت الحرام؛ فتأثموا فيهم: أن تعتدوا؛ فتقتلوهم، وتأخذوا أموالهم.
وقوله: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾: قال بعضهم: لا يؤثمنكم بغض قوم أن تعتدوا، وقال آخرون: لا يحملنكم، وفيه لغتان: ﴿يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ برفع الياء، وبنصبها: ﴿يَجْرِمَنَّكُمْ﴾، وهو ما ذكرنا.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٤٣.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾، أي لا يحملنكم بغض قوم ومقتهم وصدهم لكم عن المسجد الحرام، فلا يحملنكم ذلك على ظلمهم، والعدوان بغير حكم الله عليهم، ولكن اعدلوا بحكم الله عليهم وعلى غيرهم.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/215.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَان قَوْمٍ﴾ في يجرمنكم تأويلان.
أ. أحدهما: لا يحملنكم، وهو قول ابن عباس، والكسائي، وأبي العباس المبرد يقال: جرمني فلان على بغضك، أي حملني، قال الشاعر:
çولقد طعنت أبا عيينة طعنة … جرمت فزارة بعدها أن يغضبواé
ب. الثاني: معناه ولا يكسبنكم، يقال جرمت على أهلي، أي كسبت لهم، وهذا قول الفراء.
2. في ﴿شَنَئَانُ قَوُمٍ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: معناه بغض قوم، وهذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: عداوة قوم، وهو قول قتادة.
__________
(1) تفسير الماوردي: ٢/٩.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ قال ابن عباس: ولا يحملنكم شنآن قوم، وهو قول قتادة، واختلف أهل اللغة في تأويلها:
أ. فقال الأخفش، وجماعة من البصريين، لا يحقن لكم، مثل قوله: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ﴾ ومعناه حق ان لهم النار.
ب. وقال الكسائي والزجاج معناه: لا يحملنكم، وقال بعض: الكوفيين معناه لا يحملنكم، قال يقال: جرمني فلان على أن صنعت كذا أي حملني عليه.
ج. وقال الفراء: معناه لا يكسبنكم شنآن قوم، واستشهد الجميع بقول الشاعر:
çولقد طعنت أبا عيينة طعنة...جرمت فزارة بعدها ان يغضبواé
2. فمنهم من حمل قوله: جرمت على أن معناه حملت، ومنهم من حمله على أن معناه أحقت الطعنة، لفزارة الغضب، ومنهم من قال معناه كسبت فزارة أن يغضبوا وقال المغربي: معناه قطعت فزارة وليس من هذا في شيء وسمع الفراء من العرب من يقول: فلان جريمة أهله أي كاسبهم، وخرج يجرمهم أي يكسبهم، والأقاويل متقاربة المعاني.
3. قراءة القراءة المعروفين ﴿لَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ ـ بفتح الياء من جرمته، وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش (يجرمنكم) بضم الياء من أجرمته فهو يجرمني، وقيل: هما لغتان، والاولى أفصح، وأعرف، وأجاز أبو علي الفارسي معنى جرم كسب، قال وهو فعل يتعدى إلى مفعولين مثل كسب يدل على ذلك قول الشاعر في صفة عقاب:
çجريمة ناهض في رأسه نيق...يرى لعظام ما جمعت صليباًé
معناه تكسب لفرخها، جريمة ناهض يحتمل تقريرين: أحدهما: جريمه قوت ناهض أي كاسب قوته، كما قالوا ضارب قداح، وضريب قداح وعريف وعارف، والآخر ـ أن تقدر حذف المضاف، وتضيف جريمة إلى ناهض، والمعنى كاسب ناهض، فجرم يستعمل في الكسب وما يريد من سعي الإنسان عليه، وأما جرم فمعناه اكتسب الإثم قال الله تعالى: ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ وقال: ﴿فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾ ومعناه فعلي عقوبة إجرامي أو اثم أجرامي.
4. معنى ﴿لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ لا تكتسبوا لبغض قوم عدواناً، ولا تفتنوه، فمن فتح أن أوقع النهي في اللفظ على الشنآن، والمعنى بالنهي المخاطبون، كما قالوا: لا أريتك ها هنا ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وكذلك قوله: ﴿لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ﴾ المفعول الثاني واسماء المخاطبين المفعول الاول، كما أن المفعول الاول في الآية الأخرى المخاطبون ﴿أَنْ تَعْتَدُوا﴾ ولفظ النهي واقع على الشقاق، والمعني بالنهي المخاطبون، قال الزجاج: موضع (ان) الأولى: نصب بانه مفعول له، وتقديره لا يحملنكم بغض قوم لأن صدودكم عن المسجد يعني النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، لما صدوهم عن مكة، وموضع ان الثانية: مفعول به ومعناه لا يكسبنكم بغض قوم أي بغضكم قوماً الاعتداء عليهم، لصدهم عن المسجد الحرام.
5. ﴿شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ معناه بغض قوم في قول ابن عباس، وقتادة وابن زيد، وغيرهم يقول: شنئت الرجل اشناه شنئاً وشنآنا وشناً ومنشأةً: إذا أبغضته وذهب سيبويه إلى أن ما كان من المصادر على فعلان لم يتعد فعله إلا أن يشدّ شيء نحو شنيته شنآنا ولا يجوز أن يكون شنيته يراد به حذف الجر، كقول سيبويه في فرقته وحذرته أن أصله حذرت منه لأن اسم الفاعل منه على فاعل، نحو شاني و﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ وقال الشاعر: (بشانيك الضراعة والكلول)، قال أبو علي: هذا يقوي أنه مثل علم يعلم، فهو عالم، ونحوه من المتعدي وأيضاً، فإن شنيت في المعنى بمنزلة أبغضت، فلما كان معناه عدي كما عدي أبغضت كما أن الرفث لما كان بمعنى الإفضاء عدي بالجار، كما عدى الإفضاء به، وقال سيبويه: قالوا: لويته حقه لياناً على فعلان، فيجوز أن يكون شنان فيمن أسكن النون مصدراً كالليان فيكون المعنى لا يحملنكم بغض قوم، لو فتح النون، قال أبو عبيدة: ﴿شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ بغضاء وهي متحركة الحروف مصدر شنيت، وبعضهم يسكنون النون الأولى وانشد للاحوص:
çوما العيش إلا ما تلذ وتشتهي...وان عاب فيه ذو الشنان وفنداé
فحذف الهمزة قال أبو علي: ويجوز أن يكون خففها، وقال أبو عبيدة:
وشنيت أيضاً بمعنى أقررت به، وبؤت به وانشد للعجاج.
çزلّ بنو العوام عن آل الحكم...وشنئوا الملك لملك ذو قدمé
وقال الفرزدق:
çولو كان هذا الامر في جاهلية...شنئت به أو غصّ بالماء شاربهé
قال أبو علي: وقد جاء فعلان مصدراً ووصفاً وهما جميعاً قليلا، فمما حل مصدراً ما حكاه سيبويه من قولهم: خمصان وندمان، وانشد أبو زيد ما ظاهره أن يكون فعلان منه صفة وهو:
çلما استمر بها شيحان منبجح...بالبين عنك بها مولاك شنآنا
حكى أبو زيد في مؤنث شنآن شنآني، ويقرب أن يكون شيحان فعلان، وفي الحديث (ثم اعرض وأشاح) قال أبو علي: وترك صرف شيحان في البيت مع أنه لا فعلى له، ويجوز أن يكون، لأنه اسم علم، ويجوز أن يكون على قول من يجوز ترك صرف ما يتصرف في الشعر، فأما الشنان قال أبو علي: فعلان يجيء على ضربين: أحدهما: اسم، والاخر ـ صفة فالاسم على ضربين: أحدهما ان يكون مصدراً، كالنقران والغليان، والطوفان والغثيان، وعامة ذلك يكون معناه التحرك والتقلب، والاسم الذي ليس بمصدر نحو الورشان والعلجان، وأما مجيئه فنحو الزفيان والقطوان والصميان، وكبش اليان ونعجة اليانة، وكباش إلي، ومثله حمار قطوان واتان قطوانة من قطا يقطو قطواً وقطواً: إذا قارب بين خطوه، ومن خفف النون ذهب إلى انه مصدر، مثل ليان، ومعنى الآية لا يحملنكم بغض قوم أي بغضكم قوماً لصدهم إياكم ومن اجل صدهم إياكم ان تعتدوا فأضيف المصدر إلى المفعول وحذف الفاعل كقوله: من دعاء الخير وسؤال نعجتك.
6. ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ من كسر الهمزة ذهب إلى أن (إن) للجزاء يقوي ذلك ان في قراءة ابن مسعود ان يصدوكم فمتى؟ قيل كيف تكون للجزاء والصد ماض، لأنه كان سنة الحديبية من المشركين للمسلمين، وما يكون ماضياً لا يكون شرطاً؟ قيل: ذكر أبو علي ان الماضي قد يقع في الجزاء لا ان المراد بالماضي الجزاء، لكن على انه إن كان مثل هذا الفعل، فيكون اللفظ على ما مضى والمعنى على مثله، كأنه يقول: إن وقع مثل هذا الفعل يقع منكم كذا، وعلى ذلك حمل قول الشاعر:
çإذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة...ولم تجدي من أن تقوي به بداًé
إن قد أغنى عنه ما تقدم من قوله: ﴿لَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ والمعنى إن صدوكم قوم عن المسجد الحرام، فلا تكسبوا عدواناً، ومن فتح الهمزة، فلانه مفعول له والتقدير لا يجرمنكم شنآن قوم، لأن صدوركم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، فإن الثانية: في موضع نصب بانه المفعول الثاني، والأولى: منصوبة، لأنه مفعول له.
7. ﴿أَنْ تَعْتَدُوا﴾ معناه إن تجاوزوا حكم الله فيهم إلى ما نهاكم عنه، وذكر انها نزلت في النهي عن الطلب بدخول الجاهلية، ذهب إليه مجاهد وقال: هذا غير منسوخ، وهو الأولى، وقال غيره هو منسوخ ذهب إليه ابن زيد، وإنما قلنا: إنه غير منسوخ، لأن معناه لا تتعدوا الحق فيما أمرتكم به، وإذا احتمل ذلك، لم يخبر أن يقال هو منسوخ إلا بحجة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/424.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. ﴿يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ الجُرْم قيل: أصله القطع، وقيل: أصله الكسب، ويقال: دان من الجرام؛ أي صرام النخل لقطعها، يقال: جرم يجرم جرمًا: إذا قطع، والجُرْم: الكسب، ويقال: فلان جريمة أهله؛ أي كاسبهم؛ سُمِّي بذلك لانقطاعه إلى الكسب، ولا جَرَم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه، ومنه: لا جرم ـ أي حق ـ أن لهم النار)، عن الخليل، وقيل: معناه لا بد، والجريمة والجرم الذنب؛ لأنه يقطع عنه، وقيل: لأنه كسبه، وقال الفراء: جرم عليه بمعنى حمل لقطعه عن غيره.
ب. الصد: المنع.
ج. الاعتداء: مجاوزة الحد في الظلم، والعدوان: الظلم، والعدو خلاف الصديق، وهو من عدا: إذا ظلم، وذئب عدوان: يعدو على الناس، والعدوى: طلبك إلى والٍ ليُعديك على من ظلمك؛ أي تنقم منه باعتدائه عليك، والتعدي:مجاوزة الشيء إلى غيره، والمعاونة المظاهرة من العون، وهو الظهير على الأمور.
2. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾:
أ. قيل: لا يحملنكم، عن ابن عباس، وقتادة والكسائي وأبي عبيدة، والمبرد.
ب. وقيل: لا يكسبنكم عن الفراء.
ج. وقيل: لا يدعونكم، عن المؤرج.
3. ﴿شَنَآنُ قَوْمٍ﴾:
أ. قيل: بُغْضُ قوم وعدوانهم، عن ابن عباس، وقتادة وابن زيد، ومن قرأ بسكون النون فمعناه: بغض قوم كسكران من سَكِرَ.
ب. وقيل: هما بمعنى ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ بفتح الألف معناه لأجل أنهم صدوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية، ومن قرأ بكسر الألف فهو بتقدير المستقبل على معنى الماضي.
ج. وقيل: هو على المستقبل.
4. ﴿عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ يعني مسجد مكة ﴿أَنْ تَعْتَدُوا﴾ أي تظلموا عليهم بالقتل وأخذ المال.
5. قراءات ووجوه:
أ. القراءة الظاهرة ﴿يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ بفتح الياء، وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر بضم الياء، وهما لغتان غير أن الفتح اللغة العالية.
ب. قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وإسماعيل عن نافع ﴿شَنَآنُ﴾ بجزم النون الأولى، وكذلك ما بعده، وقرأ الآخرون بالفتح، وهو مصدر شنأته شنآنا، والفتح أجود لكثرة تظاهرها في المصادر كالضربان والسيلان، والشَّنْآنَ ـ بسكون النون ـ نحو السَّكْرَان بالهمز وغير الهمز، وهو البغض، قال الشاعر:
çفما العيش إلا ما تلذ وتشتهي...وإن لام فيه ذوالشنان وفنداé
ج. قرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ بكسر الألف على الاستئناف والجزاء، والباقون بفتح الألف يعني لأن صدوكم، قال ابن جرير: وهو الاختيار، لأنه لا خلاف بين أهل العلم أن هذه السورة نزلت بعد الحديبية، فالصدود تقدم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/180.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الجرم: القطع والكسب، ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ أي: لا يكسبنكم، وهو فعل يتعدى إلى مفعولين، وقيل: معناه لا يحملنكم، عن الكسائي، قال بعضهم: يقال جرمني فلان على أن صنعت كذا: أي حملني عليه، واستشهدوا بقول الشاعر:
çولقد طعنت أبا عيينة طعنة... جرمت فزارة بعدها أن يغضبواé
أي حملت، وقيل: معناه أحقت الطعنة لفزارة الغضب، وقيل: معناه كسبت فزارة الغضب.
ب. ﴿شَنَآنُ﴾ شنئت الرجل أشنأه، شنأ، وشنأ، وشنآنا، ومشنأ: أبغضته، وذهب سيبويه إلى أن ما كان من المصادر على فعلان بالفتح، لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء نحو: شنئته شنآنا، قال سيبويه: وقالوا لويته حقه، ليانا، على فعلان، فعلى هذا يجوز أن يكون الشنان مصدرا مثله، وقال أبو زيد: رجل شنأن، وامرأة شنأنة، مصروفان، ويقال أيضا: رجل شنآن غير منصرف، وامرأة شنآء، فقد جاء الشنآن مصدرا ووصفا، وهما جميعا قليلان.
2. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾:
أ. أي: ولا يحملنكم.
ب. وقيل: لا يكسبنكم.
3. ﴿شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ أي: بغضاء قوم ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ أي: لأن صدوكم أي: لأجل أنهم صدوكم ﴿عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ يعني النبي وأصحابه، لما صدوهم عام الحديبية ﴿أَنْ تَعْتَدُوا﴾:
أ. ومعناه: لا يكسبنكم بغضكم قوما الاعتداء عليهم، بصدهم إياكم عن المسجد الحرام، قال أبو علي الفارسي: معناه لا تكتسبوا لبغض قوم عدوانا، ولا تقترفوه، هذا فيمن فتح أن، ويوقع النهي في اللفظ على الشنآن، والمعني بالنهي المخاطبون كما قالوا: لا أرينك ههنا ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
ب. ومن جعل ﴿شَنَآنُ﴾ صفة، فقد أقام الصفة مقام الموصوف، ويكون تقديره: ولا يحملنكم بغض قوم والمعنى على الأولى.
ج. ومن قرأ ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ بكسر الألف، فقد مر ذكر معناه.
4. ﴿أَنْ تَعْتَدُوا﴾ معناه: أن تتجاوزوا حكم الله فيهم إلى ما نهاكم عنه، نهى الله المسلمين عن الطلب بذحول الجاهلية، عن مجاهد، وقال: هذا غير منسوخ، وهو الأولى، وقال ابن زيد: وهو منسوخ.
5. قراءات ووجوه:
أ. قرأ ابن عامر، وأبو بكر، عن عاصم، وإسماعيل، عن نافع (شنآن) بسكون النون الأولى: في موضعين، والباقون ﴿شَنَآنُ﴾ بفتحها.. من قرأ ﴿شَنَآنُ﴾ بالفتح، فحجته أنه مصدر، والمصدر يكثر على فعلان، نحو: الضربان، والغليان، ومن قرأ ﴿شَنَآنُ﴾ فحجته أن المصدر يجئ على فعلان أيضا نحو: الليان كقول الشاعر: وما العيش إلا ما تلذ وتشتهي... وإن لام فيه ذو الشنان وفندا يدل على أن الشنان بالسكون أيضا، فخفف الهمزة، وألقى حركتها على الساكن قبلها على القياس، فيكون المعنى في القراءتين واحدا.
ب. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ بكسر الهمزة، والباقون بفتحها.. وقوله: ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ وإن كان ماضيا، فإن الماضي قد يقع في الجزاء، وليس المراد على أن الجزاء يكون بالماضي، ولكن المراد أن ما كان مثل هذا الفعل، فيكون اللفظ على الماضي، والمعنى على مثله، كأنه يقول: إن وقع مثل هذا الفعل، يقع منكم كذا، وعلى هذا حمل الخليل وسيبويه قول الفرزدق:
çأتغضب أن أذنا قتيبة حزتا... جهارا ولم تغضب لقتل ابن حازمé
وعلى ذلك قول الشاعر:
çإذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة... ولم تجدي من أن تقري به بداé
فانتفاء الولادة أمر ماض، وقد جعله جزاء، والجزاء إنما يكون بالمستقبل، فيكون المعنى إن تنتسب لا تجدني مولود لئيمة، وجواب أن قد أغنى عنه ما تقدم من قوله: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾، المعنى: إن صدوكم عن المسجد الحرام، فلا تكتسبوا عدوانا، ومن فتح ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ فقوله بين، لأنه مفعول له، والتقدير: ولا يجرمنكم شنآن قوم لأن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، فأن الثانية: في موضع نصب بأنه المفعول الثاني، وأن الأولى: منصوبة لأنه مفعول له.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/239.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ وروى الوليد عن يعقوب (يجرمنكم) بسكون النون، وتخفيفها، قال ابن عباس: لا يحملنّكم، قال غيره: لا يدخلنّكم في الجرم، كما تقول: آثمته؛ أي: أدخلته في الإثم، وقال ابن قتيبة: لا يكسبنّكم يقال: فلان جارم أهله، أي: كاسبهم، وكذلك جريمتهم، وقال الهذليّ، ووصف عقابا:
çجريمة ناهض في رأس نيق...ترى لعظام ما جمعت صليباé
2. (الشّنآن) البغض، يقال: شنئته أشنؤه: إذا أبغضته، وقال ابن الأنباريّ: (الشّنآن): البغض، و(الشّنآن) بتسكين النون: البغيض، واختلف القرّاء في نون الشّنآن، فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائيّ: بتحريكها، وأسكنها ابن عامر، وروى حفص عن عاصم تحريكها، وأبو بكر عنه تسكينها، وكذلك اختلف عن نافع، قال أبو عليّ: (الشّنآن)، قد جاء وصفا، وقد جاء اسما، فمن حرّك، فلأنّه مصدر، والمصدر يكثر على فعلان، نحو النّزوان، ومن سكّن، قال هو مصدر، وقد جاء المصدر على فعلان، تقول: لويته دينه ليّانا، فالمعنى في القراءتين واحد، وإن اختلف اللفظان.
3. اختلفوا في قوله تعالى: ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالكسر، وقرأ الباقون بالفتح، فمن فتح جعل الصّدّ ماضيا، فيكون المعنى من أجل أن صدّوكم، ومن كسرها، جعلها للشّرط، فيكون الصّدّ مترقّبا، قال أبو الحسن الأخفش: وقد يكون الفعل ماضيا مع الكسر، كقوله تعالى: ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾، وقد كانت السّرقة عندهم قد وقعت، وأنشد أبو عليّ الفارسيّ:
çإذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة...ولم تجدي من أن تقرّي بها بدّاé
فانتفاء الولادة أمر ماض وقد جعله جزاء، والجزاء إنما يكون بالمستقبل فيكون المعنى إن ننتسب لا تجدني مولود لئيمة، قال ابن جرير: وقراءة من فتح الألف أبين، لأنّ هذه السّورة نزلت بعد الحديبية، وقد كان الصدّ تقدّم، فعلى هذا في معنى الكلام قولان:
أ. أحدهما: ولا يحملنّكم بغض أهل مكّة أن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا فيه، فتقاتلوهم، وتأخذوا أموالهم إذا دخلتموه، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ب. الثاني: لا يحملنّكم بغض أهل مكّة، وصدّهم إيّاكم أن تعتدوا بإتيان ما لا يحلّ لكم من الغارة على المعتمرين من المشركين، على ما سبق في نزول الآية.
4. اختلف علماء النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين:
أ. أحدهما: أنها محكمة، روي عن الحسن أنه قال: ما نسخ من المائدة شيء وكذلك قال أبو ميسرة في آخرين قالوا: ولا يجوز استحلال الشّعائر، ولا الهدي قبل أوان ذبحه، واختلفوا في (القلائد):
• فقال قوم: يحرم رفع القلادة عن الهدي حتى ينحر.
• وقال آخرون: كانت الجاهلية تقلّد من شجر الحرم، فقيل لهم: لا تستحلّوا أخذ القلائد من الحرم، ولا تصدّوا القاصدين إلى البيت.
ب. الثاني: أنها منسوخة، وفي المنسوخ منها أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنّ جميعها منسوخ، وهو قول الشّعبيّ.
ب. الثاني: أنها وردت في حقّ المشركين كانوا يقلّدون هداياهم، ويظهرون شعائر الحجّ من الإحرام والتّلبية، فنهي المسلمون بهذه الآية عن التّعرّض لهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ وهذا قول الأكثرين.
ج. الثالث: أن الذي نسخ قوله تعالى: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ نسخه قوله تعالى: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ روي عن ابن عباس، وقتادة.
د. الرابع: أن المنسوخ منها: تحريم الشّهر الحرام، وآمّون البيت الحرام: إذا كانوا مشركين، وهدي المشركين، إذا لم يكن لهم من المسلمين أمان، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/510.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾ قال القفال: هذا معطوف على قوله: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ يعني ولا تحملنكم عداوتكم لقوم من أجل أنهم صدوكم عن المسجد الحرام على أن تعتدوا فتمنعوهم عن المسجد الحرام، فإن الباطل لا يجوز أن يعتدى به، وليس للناس أن يعين بعضهم بعضا على العدوان حتى إذا تعدى واحد منهم على الآخر تعدى ذلك الآخر عليه، لكن الجواب أن يعين بعضهم بعضا على ما فيه البر والتقوى، فهذا هو المقصود من الآية.
2. ﴿يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ قال صاحب (الكشاف) جرم يجري مجرى كسب في تعديه تارة إلى مفعول واحد، وتارة إلى اثنين، تقول: جرم ذنبا نحو كسبه، وجرمته ذنبا نحو كسبته إياه، ويقال: أجرمته ذنبا على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين، كقولهم: أكسبته ذنبا، وعليه قراءة عبد الله ولا يجرمنكم بضم الياء، وأول المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين، والثاني: أن تعتدوا، والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه.
3. ﴿شَنَآنُ﴾ الشنآن البغض، يقال: شنأت الرجل أشنؤه شنأ ومشنأ ومشنأة وشنآنا بفتح الشين وكسرها، ويقال: رجل شنآن وامرأة شنآنة مصروفان، ويقال شنآن بغير صرف، وفعلان قد جاء وصفا وقد جاء مصدرا، قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وإسماعيل عن نافع بجزم النون الأولى، والباقون بالفتح، قالوا: والفتح أجود لكثرة نظائرها في المصادر كالضربان والسيلان والغليان والغشيان، وأما بالسكون فقد جاء في الأكثر وصفا، قال الواحدي: ومما جاء مصدرا قولهم: لويته حقه ليانا، وشنان في قول أبي عبيدة، وأنشد للأحوص: (وإن عاب فيه ذو الشنان وفندا) فقوله: ذو الشنان على التخفيف كقولهم: إني ظمآن، وفلان ظمآن، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على ما قبلها.
4. ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ بكسر الألف على الشرط والجزاء والباقون بفتح الألف، يعني لأن صدوكم، قال محمد بن جرير الطبري: وهذه القراءة هي الاختيار لأن معنى صدهم إياهم عن المسجد الحرام منع أهل مكة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة، وهذه السورة نزلت بعد الحديبية، وكان هذا الصد متقدما لا محالة على نزول هذه الآية.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/283.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾:
أ. معنى ﴿لَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ أي لا يحملنكم، عن ابن عباس وقتادة، وهو قول الكسائي وأبي العباس، وهو يتعدى إلى مفعولين، يقال: جرمني كذا على بغضك أي حملني عليه، قال الشاعر:
çولقد طعنت أبا عيينة طعنة...جرمت فزارة بعدها أن يغضبواé
ب. وقال الأخفش: أي ولا يحقنكم.
ج. وقال أبو عبيدة والفراء: معنى ﴿لَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ أي لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)، وقد مضى القول في هذا، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة] وقد تقدم مستوفى، ويقال: فلان جريمة أهله أي كاسبهم، فالجريمة والجارم بمعنى الكاسب، وأجرم فلان أي اكتسب الإثم، ومنه قول الشاعر:
çجريمة ناهض في رأس نيق...ترى لعظام ما جمعت صليباé
معناه كاسب قوت، والصليب الودك، وهذا هو الأصل في بناء ج ر م، قال ابن فارس: يقال جرم وأجرم، ولا جرم بمنزلة قولك: لا بد ولا محالة، وأصلها من جرم أي اكتسب، قال جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا وقال آخر:
çيا أيها المشتكي عكلا وما جرمت...إلى القبائل من قتل وإبآسé
ويقال: جرم يجرم جرما إذا قطع، قال الرماني علي بن عيسى: وهو الأصل، فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره، وجرم بمعنى كسب لانقطاعه إلى الكسب، وجرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه،
د. وقال الخليل: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ﴾ [النحل] لقد حق أن لهم العذاب، وقال الكسائي: جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد، أي اكتسب، وقرأ ابن مسعود ﴿يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ بضم الياء، والمعنى أيضا لا يكسبنكم، ولا يعرف البصريون الضم، وإنما يقولون: جرم لا غير.
2. الشنآن البغض، وقرى بفتح النون وإسكانها، يقال: شنئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنآنا وشنآنا بجزم النون، كل ذلك إذا أبغضته، أي لا يكسبنكم بغض قوم بصدهم إياكم أن تعتدوا، والمراد بغضكم قوما، فأضاف المصدر إلى المفعول، قال ابن زيد: لما صد المسلمون عن البيت عام الحديبية مر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة، فقال المسلمون: نصدهم كما صدنا أصحابهم، فنزلت هذه الآية، أي لا تعتدوا على هؤلاء، ولا تصدوهم.
3. ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ أصحابهم، بفتح الهمزة مفعول من أجله، أي لأن صدوكم، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ وهو اختيار أبي عبيد، وروي عن الأعمش (إن يصدوكم)، قال ابن عطية: فإن للجزاء، أي إن وقع مثل هذا الفعل في المستقبل، والقراءة الأولى: أمكن في المعنى، وقال النحاس: وأما ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ بكسر ﴿أَنْ﴾ فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء: منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، وكان المشركون صدوا المسلمين عام الحديبية سنة ست، فالصد كان قبل الآية، وإذا قرئ بالكسر لم يجز أن يكون إلا بعده، كما تقول: لا تعط فلانا شيئا إن قاتلك، فهذا لا يكون إلا للمستقبل، وإن فتحت كان للماضي، فوجب على هذا ألا يجوز إلا ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾، وأيضا فلو لم يصح هذا الحديث لكان الفتح واجبا، لأن قوله: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ إلى آخر الآية يدل على أن مكة كانت في أيديهم، وأنهم لا ينهون عن هذا إلا وهم قادرون على الصد عن البيت الحرام، فوجب من هذا فتح ﴿أَنْ﴾ لأنه لما مضى، ﴿أَنْ تَعْتَدُوا﴾ في موضع نصب، لأنه مفعول به، أي لا يجر منكم شنآن قوم الاعتداء.
4. وأنكر أبو حاتم وأبو عبيد ﴿شَنَآنُ﴾ بإسكان النون، لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة، وخالفهما غيرهما وقال: ليس هذا مصدرا ولكنه اسم الفاعل على وزن كسلان وغضبان.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/45.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ قال ابن فارس: جرم وأجرم ولا جرم بمعنى قولك لا بدّ ولا محالة، وأصلها من جرم أي كسب، وقيل المعنى: لا يحملنكم، قاله الكسائي وثعلب، وهو يتعدّى إلى مفعولين، يقال: جرمني كذا على بغضك: أي حملني عليه، ومنه قول الشاعر:
çولقد طعنت أبا عيينة طعنة...جرمت فزارة بعدها أن يغضبواé
أي حملتهم على الغضب، وقال أبو عبيدة والفراء: معنى ﴿لَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ لا يكسبنّكم بغض قوم أن تعتدوا الحقّ إلى الباطل، والعدل إلى الجور والجريمة، والجارم بمعنى الكاسب، ومنه قول الشاعر:
çجريمة ناهض في رأس نيق...ترى لعظام ما جمعت صليباé
معناه كاسب قوت، والصليب: الودك، ومنه قول الآخر:
çأيا أيّها المشتكي عكلا وما جرمت...إلى القبائل من قتل وإبآسé
أي كسبت، والمعنى في الآية: لا يحملنكم بغض قوم على الاعتداء عليهم، أو لا يكسبنكم بغضهم اعتداءكم للحق إلى الباطل، ويقال: جرم يجرم جرما: إذا قطع، قال عليّ بن عيسى الرماني: وهو الأصل، فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره، وجرم بمعنى كسب لانقطاعه إلى الكسب، ولا جرم بمعنى حقّ لأنّ الحق يقطع عليه، قال الخليل: معنى ﴿لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ﴾ لقد حقّ أن لهم النار، وقال الكسائي: جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد: أي اكتسب، وقرأ ابن مسعود: (لا يجرمنكم) بضم الياء، والمعنى: لا يكسبنكم ولا يعرف البصريون أجرم، وإنما يقولون: جرم لا غير، والشنآن: البغض، وقرئ بفتح النون وإسكانها، يقال: شنئت أشنؤه شنأ وشنأة وشنآنا كل ذلك: إذا أبغضته، وشنآن هنا مضاف إلى المفعول: أي بغض قوم منكم لا بغض قوم لكم.
2. ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ بفتح الهمزة مفعول لأجله، أي لأن صدّوكم، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة على الشرطية، وهو اختيار أبي عبيد، وقرأ الأعمش: (إن يصدوكم) والمعنى على قراءة الشرطية: لا يحملنكم بغضهم إن وقع منهم الصدّ لكم عن المسجد الحرام على الاعتداء عليهم، قال النحاس: وأما إن صدّوكم بكسر إن، فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء: منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، وكان المشركون صدّوا المؤمنين عام الحديبية سنة ست، فالصد كان قبل الآية؛ وإذا قرئ بالكسر لم يجز أن يكون إلّا بعده كما تقول: لا تعط فلانا شيئا إن قاتلك، فهذا لا يكون إلّا للمستقبل وإن فتحت كان للماضي، وما أحسن هذا الكلام، وقد أنكر أبو حاتم وأبو عبيدة شنآن بسكون النون، لأنّ المصادر إنّما تأتي في مثل هذا متحركة وخالفهما غيرهما فقال: ليس هذا مصدرا، ولكنه اسم فاعل على وزن كسلان وغضبان.
__________
(1) فتح القدير: 2/9.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ لا يحملنَّكم، فيقدر (عَلَى) في قوله: ﴿أَن تَعْتَدُوا﴾، أو لا يكسبنَّكم، فيكون (أَن تَعْتَدُوا) مفعولاً ثانيًا، كما أنَّ (كسب) الثلاثي يجوز أن يتعدَّى لاثنين، ﴿﴾ بغض ﴿قَوْمٍ﴾ مشركين، أي: إبغاضكم قومًا، وهذا أولى من تفسيره بإبغاض قوم لكم، وهو فَعَلان (بالفتح) مصدر، أو قل في المصدر: (فعْلان) (بالإسكان)، وقلَّ الفتح في الصِّفة كـ (عدَوان) (بفتح الدال) بمعنى: شديد العداوة، وتيس عدوان، أي: كثير السير، وحمار قطوان عسير السير، والمراد هنا المصدر، وقرئ بالإسكان، وأجازوا في كلٍّ من الإسكان والفتح الوصف والمصدر.
2. ﴿اَن صَدُّوكُمْ﴾ أي: لأن صدُّوكم، أي: لأجل صدِّهم إيَّاكم عام الحديبيَّة، وهذا مِمَّا يقوِّي أنَّ المعنى شنآنكم قومًا لأنَّه يصحُّ أنَّكم أبغضتم القوم لأنَّ القوم صدوكم، لا أبغضكم القوم لأنَّهم صدوكم، إِلَّا تكلُّفُ أنَّ المعنى أنَّه ظهر إبغاضهم إيَّاكم بصدِّهم، والمنهيُّ لفظ الشنآن، وفي الحقيقة المخاطبون، ووجهه أنَّه نهى عن أن يؤثِّر فيهم الشنآن الموصل إلى الاعتداء، وهو أبلغ من النهي عن الاعتداء.
3. ﴿عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ عن أن تدخلوا الحَرَم فتطوفوا بالكعبة وتسعوا بين الصفا والمروة للعمرة، ﴿أَن تَعْتَدُواْ﴾ عليهم بالقتل وغيره انتقامًا، وهذا غير منسوخ، ولو كان في قوم مشركين حربيِّين؛ لأنَّ المعنى: لا تقتلوهم وتضرُّوهم لحظوظ أنفسكم، فافعلوا ذلك لله 8 ، أو نُهُوا عن التعرُّض لهم من حيث عقد الصلح الذي وقع في الحديبيَّة، والآية نزلت قبل الفتح؛ لأنَّ مكَّة بعد الفتح في أيدي المسلمين لا يصدُّهم المشركون عنها، وإن نزلت بعد الفتح فالمعنى لصدِّهم إيَّاكم أن صدُّوكم.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/378.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ أي: لا يحملنكم على الجريمة، شدة بغض قوم ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، أي لأن صدوكم عن زيارته والطواف به للعمرة، وقرئ بكسر الهمزة من (إن) على أنها شرطية.
2. ﴿أَنْ تَعْتَدُوا﴾ أي: عليهم، قال أبو السعود: وإنما حذف، تعويلا على ظهوره، وإيماء إلى أن المقصد الأصلي من النهي، منع صدور الاعتداء عن المخاطبين، محافظة على تعظيم الشعائر، لا منع وقوعه على القوم، مراعاة لجانبهم، وهو ثاني مفعولي ﴿يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ أي: لا يكسبنكم شدة بغضكم لهم، لصدهم إياكم عن المسجد الحرام، اعتداءكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفّي.
3. قال ابن كثير: أي: لا يحملنكم بغض قوم، قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام، وذلك عام الحديبية، على أن تعتدوا حكم الله فيهم، فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد، وهذه الآية كما سيأتي من قوله: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]، أي: لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل، فإن العدل واجب على كل أحد، في كل أحد، في كل حال، وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك، بمثل أن تطيع الله فيه، والعدل، به قامت السموات والأرض، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سهل بن عفان، حدثنا عبد الله بن جعفر عن زيد بن أسلم، قال كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالحديبية وأصحابه، حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم ناس من المشركين من أهل المشرق، يريدون العمرة، فقال أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم، فأنزل إليه هذه الآية.
4. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ نهي عن إحلال قوم من الآمين، خصوا به مع اندراجهم في النهي عن إحلال الكل كافة، لاستقلالهم بأمور ربما يتوهم كونها مصححة لإحلالهم، داعية إليه.
5. لعل تأخير هذا النهي عن قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾، مع ظهور تعلقه بما قبله، للإيذان بأن حرمة الاعتداد لا تنتهي بالخروج عن الإحرام، كانتهاء حرمة الاصطياد به، بل هي باقية ما لم تنقطع علامتهم عن الشعائر بالكلية، وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض بسائر الآمين، بالطريق الأولى، أفاده أبو السعود.
__________
(1) تفسير القاسمي: 4/13.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ ابن عامر وأبو بكر بن عاصم وإسماعيل عن نافع (شنآن) بسكون الأولى والباقون بفتحها وهما لغتان، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (إن صدوكم) بكسر إن على أنها شرطية والباقون بفتحها على أنها للتعليل، وهذه القراءة تشير إلى صد المشركين المؤمنين عن العمرة عام الحديبية وتنهاهم أن يعتدوا عليهم عام حجة الوداع الذي نزلت فيه السورة لأجل اعتدائهم السابق، والمعنى عليه ولا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم على أن تعتدوا عليهم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام، ومعنى القراءة الأخرى أنه لا يباح للمسلمين أن يعتدوا على أعدائهم إن صدوكم عن المسجد الحرام أي النسك فيه وزيارته ولو للتجارة، واستشكل بأن هذا قد نزل بعد فتح مكة ولم يكن يتوقع صد أحد وبأنه معارض لقوله: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة: 191] وأجيب بأن الشرط على معنى الماضي بتقدير الكون أي إن كانوا صدوكم عن المسجد الحرام، ويمكن أن يقال إن ورود هذا بعد فتح مكة وظهور الإسلام على الشرك وأهله لا إشكال فيه لأن الأحكام قد تبنى على الفرض، ولأن هذا الصد قد يقع من المسلمين بعضهم لبعض كما يفعله بعض أمراء مكة في عصرنا من منع بعض العرب ـ كأهل نجد ـ من الحج لأسباب دنيوية ـ كأخذ بعض أمراء نجد الزكاة من بعض القبائل الذين يعدهم أمراء مكة تابعين لهم.
2. ويحتمل أن تكون هذه الجملة معطوفة على قوله تعالى: ﴿فَاصْطَادُوا﴾ داخلة في حيز شرطه ويكون المعنى: أن الصيد الذي كان محرما عليكم حال كونكم حرما يحل لكم إذا حللتم وأما الاعتداء على من تبغضونهم فلا يباح لكم وأنتم حل، كما أنه لا يباح لكم وأنتم حرم، وإن كانوا صدوكم عن المسجد الحرام من قبل، وهذا لا يمنع من الجزاء على الاعتداء بالمثل لأنه نهى عن استئناف الاعتداء على سبيل الانتقام، فإن من يحمله البغض والعداوة على الاعتداء على من يبغضه يكون منتصرا لنفسه لا للحق، وحينئذ لا يراعي المماثلة ولا يقف عنه حدود العدل، ولم أر من نبه على هذا ولا من حرر هذا المبحث، ولكن أجاز بعضهم أن يكون هذا من توجيه النهي إلى المسبب وإرادة السبب، كقوله: (لا أرينك ها هنا) فالمراد النهي عن البغض والعداوة وجعلها حاكمة على النفس، حاملة لها على الاعتداء والبغي، ولا ينفي هذا أن يكون لكل نوع من أنواع الاعتداء كالصد عن المسجد الحرام جزاء خاص يعرف بدليله.
__________
(1) تفسير المنار: 6/106.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾ أي ولا يحملنّكم بغض قوم وعداوتهم على أن تعتدوا عليهم، لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام، وقد كان المشركون صدّوا المؤمنين عن العمرة عام الحديبية، فنهى المؤمنون أن يعتدوا عليهم عام حجة الوداع وهو العام الذي نزلت فيه هذه السورة لأجل اعتدائهم السابق.
__________
(1) تفسير المراغي 6/46.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في جو الحرمات وفي منطقة الأمان، يدعو الله الذين آمنوا به، وتعاقدوا معه، أن يفوا بعقدهم؛ وأن يرتفعوا إلى مستوى الدور الذي ناطه بهم.. دور القوامة على البشرية؛ بلا تأثر بالمشاعر الشخصية، والعواطف الذاتية، والملابسات العارضة في الحياة.. يدعوهم ألا يعتدوا حتى على الذين صدوهم عن المسجد الحرام في عام الحديبية؛ وقبله كذلك؛ وتركوا في نفوس المسلمين جروحا وندوبا من هذا الصد؛ وخلفوا في قلوبهم الكره والبغض، فهذا كله شيء وواجب الأمة المسلمة شيء آخر، شيء يناسب دورها العظيم: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾..
2. إنها قمة في ضبط النفس؛ وفي سماحة القلب.. ولكنها هي القمة التي لا بد أن ترقى إليها الأمة المكلفة من ربها أن تقوم على البشرية لتهديها وترتفع بها إلى هذا الأفق الكريم الوضيء إنها تبعة القيادة والقوامة والشهادة على الناس.. التبعة التي لا بد أن ينسى فيها المؤمنون ما يقع على أشخاصهم من الأذى ليقدموا للناس نموذجا من السلوك الذي يحققه الإسلام، ومن التسامي الذي يصنعه الإسلام، وبهذا يؤدون للإسلام شهادة طيبة؛ تجذب الناس إليه وتحببهم فيه.
3. وهو تكليف ضخم؛ ولكنه ـ في صورته هذه ـ لا يعنت النفس البشرية، ولا يحملها فوق طاقتها، فهو يعترف لها بأن من حقها أن تغضب، ومن حقها أن تكره، ولكن ليس من حقها أن تعتدي في فورة الغضب ودفعة الشنآن..
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/839.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾ هو تذكير للمسلمين.. وهم في تلك الحال التي راضوا فيها أنفسهم على التزام حدود الله والوفاء بمواثيقه ـ تذكير لهم بالاستقامة على هذا الطريق القويم الذي ساروا عليه، وهو أن يلتزموا العدل مع من كان إليهم عدوان منهم.. فالتزام العدل هو ميثاق أخذه الله على المؤمنين، يلتزمونه مع أوليائهم وأعدائهم جميعا..
2. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ أي ولا يحملنكم على ارتكاب الجرم، وهو الظلم.. والشنآن: البغض والعداوة.. والمعنى: ولا يدعوكم ما بينكم وبين غيركم من عداوة وبغضاء، إذ صدوكم عن المسجد الحرام، وحالوا بينكم وبينه ـ لا يدعوكم هذا إلى أن تركبوا ما ركبوا من ظلم وعدوان، بل خذوهم بالعدل، وخذوا حقكم منهم دون ظلم أو بغى، ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ أي العدل هو الذي ينبغي أن يكون سبيلكم مع هذا الذي حملكم بفعله على بغضكم له، لأنكم بهذا إنما تقيمون ميزان الحق، وتحفظون ميثاق الله معكم، وذلك هو الذي يدخلكم مداخل التقوى ويقيمكم مقام المتقين.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1028.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾ عطف على قوله: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ لزيادة تقرير مضمونه، أي لا تحلّوا شعائر الله ولو مع عدوّكم إذا لم يبدؤوكم بحرب.
2. ومعنى ﴿يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ يكسبنّكم، يقال: جرمه يجرمه، مثل ضرب، وأصله كسب، من جرم النخلة إذا جذّ عراجينها، فلمّا كان الجرم لأجل الكسب شاع إطلاق جرم بمعنى كسب، قالوا: جرم فلان لنفسه كذا، أي كسب، وعدّي إلى مفعول ثان وهو ﴿أَنْ تَعْتَدُوا﴾، والتقدير: يكسبكم الشنآن الاعتداء، وأمّا تعديته بعلى في قوله: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ [المائدة: 8] فلتضمينه معنى يحملنّكم.
3. والشنآن ـ بفتح الشين المعجمة وفتح النون في الأكثر، وقد تسكّن النون إمّا أصالة وإمّا تخفيفا ـ هو البغض، وقيل: شدّة البغض، وهو المناسب، لعطفه على البغضاء في قول الأحوص: (أنمي على البغضاء والشنآن) وهو من المصادر الدالّة على الاضطراب والتقلّب، لأنّ الشنآن فيه اضطراب النفس، فهو مثل الغليان والنزوان، وقرأ الجمهور: ﴿شَنَآنُ﴾ ـ بفتح النون ـ، وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر ـ بسكون النون ـ، وقد قيل: إنّ ساكن النون وصف مثل غضبان، أي عدوّ، فالمعنى: لا يجرمنّكم عدوّ قوم، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، وإضافة شنآن إذا كان مصدرا من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي بغضكم قوما، بقرينة قوله: ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾، لأنّ المبغض في الغالب هو المعتدى عليه، وقرأ الجمهور: ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ ـ بفتح همزة (أن) ـ، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: ـ بكسر الهمزة ـ على أنّها (إن) الشرطية، فجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبل الشرط.
4. والمسجد الحرام اسم جعل علما بالغلبة على المكان المحيط بالكعبة المحصور ذي الأبواب، وهو اسم إسلاميّ لم يكن يدعى بذلك في الجاهليّة، لأنّ المسجد مكان السجود ولم يكن لأهل الجاهليّة سجود عند الكعبة، وقد تقدّم عند قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ في سورة البقرة [144]، وسيأتي عند قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [الإسراء: 1]
__________
(1) التحرير والتنوير: 5/19.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ساد الإسلام أرض العرب بعد أن كانت حجة الوداع، ولكن قد بقيت بعض الإحن في النفوس، ونفس المؤمن يجب أن تكون طهورا لا يعيش فيها الحقد، ولا حب الانتقام؛ ولذا نهى الله تعالى عباده المؤمنين عن أن يدفعهم البغض السابق لقوم لأنهم صدوهم عن المسجد الحرام، أن يمنعوهم كما منعوهم، فإن ذلك يكون اعتداء من أهل الإيمان ولذا قال سبحانه: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾ يجرمنكم معناها يحملنكم؛ لأن (جرم) في هذا المقام وما يشبهه معناها حمل حملا قاطعا، يقال جرمنى كذا على بغضه، أي حملنى عليه حملا قاطعا، ومن ذلك قول الشاعر:
çولقد طعنت أبا عيينة طعنة...جرمت فزارة بعدها أن يغضبواé
أي حملت فزارة على أن تغضب.
2. والشنآن: البغض الشديد، يقال شنئت الرجل أشنأ شنآنا وشنأ أبغضه، والمعنى، لا يحملنكم البغض الشديد لقوم بسبب أنهم صدوكم، أي منعوكم من دخول المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم بأن تصدوهم، فالجاهلية والشرك يبرران ذلك الصد، والإسلام لا يبرره، لأنه اعتداء على البيت الحرام، واعتداء على شعائر الله سبحانه وتعالى.
3. سؤال وإشكال: قد يقال: إن الاعتداء كان وهم في الجاهلية، وقد أسلموا، فكيف يتصور أن يعاملهم المؤمنون بما كان منهم في الجاهلية مع أن الإسلام يجب ما قبله؟ والجواب: أن جرح النفس قد يستمر أثره، فنهى الله تعالى المؤمنين عن أن يكون منهم ما يكون مجاوبة لما كان من آلام نالتهم بسبب صد المشركين لهم في الجاهلية، وخصوصا أن في بيان ذلك بيانا لأن كل صد عن المسجد الحرام اعتداء على شعائر الله، سواء كان ذلك قبل الإسلام أم كان سببه هوى النفس والشيطان، ومشاحة بين المسلمين أنفسهم كما حدث في عصور سابقة، وكما يحدث الآن مهما تكن الأسباب.
4. هنا قراءتان لا بد من ذكرهما: أولهما، قراءة ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ بفتح الهمزة، وهذه تشير إلى أن الصد كان في الماضي والاعتداء مجارمة لما كان في الماضي والقراءة، والثانية: (إن صدوكم) بكسر الهمزة، ومؤداها أنه إذا كان في المستقبل من يصدكم عن المسجد الحرام، فلا تعاملوه بالمثل وتصدوه؛ لأن ذلك اعتداء، والنص الكريم يدل على أن كل اعتداء حرام سواء أكان بالصد عن المسجد، أو كان بغيره فما حرم الصد إلا لأنه شعبة من الاعتداء.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/2025.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾، في سنة ست للهجرة كان المشركون هم المسيطرين على مكة والبيت الحرام، وأراد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والصحابة أن يزوروا البيت في هذه السنة فصدهم عنه المشركون، وفي حجة الوداع كانت السيطرة على مكة والبيت للمسلمين، فنزلت هذه الآية، ومعناها لا ينبغي لكم أيها المسلمون أن يحملكم بغض المشركين لكم، أو بغضكم لهم على أن تمنعوهم عن البيت الحرام بعد أن أظهركم الله عليهم، لأنهم منعوكم من قبل، وقد كان هذا قبل أن تنزل الآية 29 من سورة التوبة: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾
2. سؤال وإشكال: ألم يقل الله سبحانه: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾؟ والجواب: إن هذه الآية نزلت في القصاص، والمعاملة بالمثل في موارد خاصة، كالحرب وقطع الأعضاء، أي من قاتلكم فقاتلوه، ومن قطع يد غيره تقطع يده، وما إلى ذلك.. أما من منع وصد عن عبادة الله والتجارة والزراعة فلا يجوز أن يمنع هو عن ذلك، بل يجازى بعقوبة أخرى.
3. والخلاصة ان جزاء المعتدي قد يكون بالمثل، وقد يكون بغيره، وفي سائر الأحوال ينبغي أن يكون الجزاء انتصارا للحق، لا تشفيا وانتقاما.
__________
(1) التفسير الكاشف: 3/9.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾ يقال: جرمه يجرمه أي حمله، ومنه الجريمة للمعصية لأنها محمولة من حيث وبالها، وللعقوبة المالية وغيرها لأنها محمولة على المجرم، وذكر الراغب أن الأصل في معناها القطع، والشنآن العداوة والبغض.
2. ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ أي منعوكم بدل أو عطف بيان من الشنآن، ومحصل معنى الآية: ولا يحملنكم عداوة قوم وهو أن منعوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم بعد ما أظهركم الله عليهم.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/163.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾ ولا يكسبنكم بغض قوم لأن ﴿صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾ أي لا يسبب البغض للعدوان عليهم وإن كان سبب البغض أنهم صدوكم عن المسجد الحرام.
2. قال الشرفي في (المصابيح): (معناه: لا يحملكم بغض أهل مكة وعداوتهم بأن صدوكم عن المسجد الحرام على أن تعاملوهم معاملة تتجاوزون فيها حَدَّ الحق إلى الباطل) ويحتمل أنه نهى عن قتالهم في الشهر الحرام لتقدم قوله تعالى: ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ فخص هذه الحالة لئلا يتوهموا أن صدهم عن المسجد الحرام يحل قتالهم في الشهر الحرام، لقوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة:194] وهذا أقرب عندي.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/233.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ أي لا يحملنكم ﴿شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ أي بغض قوم ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ منعوكم ﴿عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، فلم يمكنوكم من الدخول إليه أو البقاء فيه.
2. ﴿أَنْ تَعْتَدُوا﴾ بأن تبادلوهم المثل في وقت سلطتكم عليهم، لأنَّ الله لا يريد لكم أن تكونوا معتدين مثلهم على حرية النّاس في الدخول إليه في حال كان منهم ذلك، إذ إنَّ المعاملة بالمثل تمثل اعتداء على المعتدي، وذلك لو كان الموضوع واردا في النطاق الشخصي، أمّا إذا كان الموضوع قضية تتعلقّ بالخط التشريعي الَّذي لا يملك فيه الإنسان أمر الرد من خلالها، فيكون ردّه اعتداء صارخا على حدود الله من خلال الاعتداء على حرمة بيته وعباده، وهذا من الأمور الّتي يمكن للمؤمنين أن يلتزموها كخطّ ممتدّ للحياة، في أجواء الاعتداء الَّذي يتعرضون له، فقد يكون من الواجب عليهم التفريق بين الموارد الشخصية الّتي يملكون فيها حقّ الرد على المعتدي، وبين الموارد العامة الّتي وضع الله فيها للنّاس حدودا، فإنَّه لا يجوز رد الاعتداء بمثله، كأن يضرب إنسانا قريبا لإنسان، فيرد بضرب قريب الضارب، لأنَّ الله يقول: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164] إذ لا ذنب له، فهو بريء ولا مبرّر لضربه لمجرد صلته بالمعتدي، وهكذا يجب الوقوف عند حدود الله في حلاله وحرامه، بعيدا عن الانفعالات العاطفى الّتي تدفع إلى انتهاك الحرمات الّتي لا يجيز الله للنّاس أن ينتهكوها، حتّى إذا انتهك الآخرون حرمة مماثلة، فلا يمثل ذلك حالة شخصية بل هي ملك لله، وهذا ما يجعل للأسلوب الإسلامي في الممارسة شخصيته المستقلة الّتي لا تتأثر بردود الفعل ولا بأساليب الآخرين.
__________
(1) من وحى القرآن: 8/25.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. منعت هذه الآية الكريمة المسلمين من مضايقة أولئك النفر من المسلمين الذين كانوا قبل إسلامهم يضايقون المسلمين الأوائل في زيارة بيت الله الحرام ويمنعونهم من أداء مناسك الحج، وكان هذا في واقعة الحديبية، فمنع المسلمون من تجديد الأحقاد ومضايقة أولئك النفر في زمن الحج بعد أن أسلموا وقبلوا الإسلام لهم دينا، تقول الآية الكريمة: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾
2. تفيد أقوال أهل اللغة والتّفسير أنّ كلمة(جرم) تعني في الأصل قطع الثمار أو قطفها من الأغصان قبل الأوان، وتطلق أيضا على كل عمل مكروه، كما تطلق على الآخرين بالقيام بعمل غير محبوب، وهنا فإن عبارة ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ تعني لا يحملنكم على القيام بعمل غير صائب.
3. مع أنّ هذا الحكم قد نزل في مجال زيارة بيت الله الحرام، لكنه ـ في الحقيقة ـ يعد حكما عاما، وقانونا كليا يدعو المسلمين إلى نبذ (الحقد) وعدم إحياء الأحداث السابقة في أذهانهم بهدف الانتقام من مسببيها.
4. ولمّا كانت خصلة الحقد إحدى عناصر ظهور وبروز النفاق والفرقة لدى المجتمعات يتّضح لنا ـ منذ ذلك ـ جليا أهمية هذا الحكم الإسلامي في التصدي والوقوف بوجه استعار نار النفاق بين المسلمين وبالأخص في زمن كان نبي الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم يوشك على وداع المسلمين والرحيل عنهم.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/580.
7. التعاون وضوابطه ومجالاته
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈7⌉ من سورة المائدة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: الإثم حواز القلوب(1).
2. روي أنّه قال: الإثم حواز القلوب، فإذا حز في قلب أحدكم شيء فليدعه(2).
__________
(1) عزاه السيوطي إلى عبد بن حميد.
(2) البيهقي (٧٢٧٧.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ البر: ما أمرت به، والتقوى: ما نهيت عنه(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٥٢.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ البر: ما أمرت به، والتقوى: ما نهيت عنه(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٥٣.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ فالبرّ: ما أمر به.. والتّقوى: ما نهى عنه)(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 126.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾: كان البر هو اسم كل خير، والتقوى: هي ترك كل شر، ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾، ألا ترى أنه ذكر بإزاء البر: الإثمَ، وبإزاء التقوى العدوانَ؛ فهذا يبين أن البرَّ: اسم لكل خير، والتقوى: هي الانتهاء عن كل شر.
2. ويجوز أن يكون ما ذكر في الآية الأولى: وأمر به، وهو قوله: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ إلى قوله: ﴿الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ يقول: عاونوهم على ما يأتون به من ذلك؛ فإنهم إلى البر يقصدون عند أنفسهم، وإن لم يكن فعلهم برًّا؛ لعبادتهم غير الله تعالى.
3. وإنما أمروا بمعاونتهم، وترك التعرض لهم ـ إن ثبت ما ذكر في القصة ـ: إذا أحرموا، أو قلدوا، أو قصدوا البيت الحرام في الوقت الذي جاز أن يعاهدوا فيه؛ كما يجوز لنا معاهدة أهل الكتاب على ألا نعرض لكنائسهم وبِيَعِهِم، وإن كانوا يعصون الله فيها؛ لأنهم يدينون بذلك، ويقصدون به البر عند أنفسهم، فلما أمر بنقض عهود مشركي العرب، أمر بمنعهم من دخول المسجد، وأن يقتلوا حيث وجدوا، وإلى هذا المعنى ذهب أصحابنا (2) في فَرقهم بين شهادة أهل الذمة على أمثالهم، وشهادة فُساق المسلمين؛ لأن أهل الذمة متدينون بكفرهم، والفساق غير متدينين بفسقهم، وكذلك فرقهم بين ما يغلب عليه المشركون من أموال المسلمين، وبين ما يغلب عليه الفساق من أموال المسلمين، وكذلك سبيل الدماء التي يصيبها المحاربون من أهل البغي من أهل العدل، لا تشبه ما يصيبه الفساق منها؛ لأن أمر المتدين بدين خطأ مخالف في الحكم أمر المقر بالذنب فيه؛ ألا ترى أنه يجوز أن يُطْلَقَ لمن يعاقدونه من أهل الكتاب الصلاة في كنائسهم، وإن كان ذلك عندنا معصية حراما، ولا يجوز أن يُطْلَقَ المعصية لفساق المسلمين بحال.
4. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾: أي: نقمة الله وعذابه: في ترك ما أمركم به، وارتكاب ما نهاكم عنه، ﴿إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٤٤.
(2) يقصد الحنفية
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ وهذا كلام بين من أبين البيان، ودلالة وفرض لازم بحكم الواحد الرحمن.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/215.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ ليس بعطف على أن تعتدوا، فيكون في موضع نصب، بل هو استئناف كلام أمر الله تعالى الخلق بان يعين بعضهم بعضاً على البر وهو العمل بما أمرهم الله به، واتقاء ما نهاهم عنه، ونهاهم ان يعين بعضهم بعضاً على الإثم، وهو ترك ما أمرهم به، وارتكاب ما نهاهم عنه من العدوان، ونهاهم ان يجاوزوا ما حد الله لهم في دينهم، وفرض لهم في أنفسهم وبه قال ابن عباس وأبو العالية وغيرهما من المفسرين.
2. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ أمر من الله، ووعيد وتهديد لمن اعتدى حدوده، وتجاوز أمره بقول الله: اتقوا الله، ومعناه احذروا معاصيه وتعدي حدوده فيما أمركم به ونهاكم عنه، فتستوجبوا عقابه متى خالفتم وتستحقوا اليم عقابه، ثم وصف عقابه بالشدة فقال: ﴿إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لمن يعاقبه من خلقه، لأنه نار لا يطفى حرها، ولا يخمد جمرها، ولا يسكن لهيبها (نعوذ بالله منها)
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/428.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. البر: الصدق، والبر الطاعة، والبرُّ: الخير، يقال: رجل بار، وبر، وبررت أبر، والبَرُّ خلاف البحر، والبُرُّ معروف.
2. ﴿وَتَعَاوَنُوا﴾ أي ليعن بعضكم بعضا ﴿عَلَى الْبِرِّ﴾ على متابعة الأمر ومجانبة الهوى.
3. ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ أي المعصية والظلم.
4. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ أي: عذابه باتقاء معاصيه ﴿إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لمن عصاه.
5. تدل الآية الكريمة على:
أ. حسن المعاونة على الخير، وقبح المعاونة على الشر، فتدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه من المعاونة.
ب. وعيد أهل الصلاة؛ لأن الخطاب من أول السورة إلى ههنا لهم، عن الأصم.
ج. أن أفعال العباد فعلهم؛ إذ لو كانت خلقا له لما كان للمعاونة معنى، وكذلك لو كانت بقدرة موجبة، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق والاستطاعة.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/180.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ وهو استئناف كلام، وليس بعطف على ﴿تَعْتَدُوا﴾ فيكون في موضع نصب.
2. أمر الله عباده بأن يعين بعضهم بعضا على البر والتقوى، وهو العمل بما أمرهم الله تعالى به، واتقاء ما نهاهم عنه، ونهاهم أن يعين بعضهم بعضا على الاثم، وهو ترك ما أمرهم به، وارتكاب ما نهاهم عنه، من العدوان، وهو مجاوزة ما حد الله لعباده في دينهم، وفرض لهم في أنفسهم، عن ابن عباس، وأبي العالية، وغيرهما من المفسرين.
3. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾: هذا أمر منه تعالى بالتقوى، ووعيد، وتهديد لمن تعدى حدوده، وتجاوز أمره يقول: احذروا معصية الله فيما أمركم به، ونهاكم عنه، فتستوجبوا عقابه، وتستحقوا عذابه، ثم وصف تعالى عقابه بالشدة، لأنه نار لا يطفأ حرها، ولا يخمد جمرها، نعوذ بالله منها!
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/239.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ قال الفرّاء: ليعن بعضكم بعضا، قال ابن عباس: البرّ ما أمرت به، و(التّقوى): ترك ما نهيت عنه، فأمّا (الإثم) فالمعاصي، والعدوان: التّعدّي في حدود الله، قاله عطاء.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/510.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ قال القفال: هذا معطوف على قوله: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ يعني ولا تحملنكم عداوتكم لقوم من أجل أنهم صدوكم عن المسجد الحرام على أن تعتدوا فتمنعوهم عن المسجد الحرام، فإن الباطل لا يجوز أن يعتدى به، وليس للناس أن يعين بعضهم بعضا على العدوان حتى إذا تعدى واحد منهم على الآخر تعدى ذلك الآخر عليه، لكن الجواب أن يعين بعضهم بعضا على ما فيه البر والتقوى، فهذا هو المقصود من الآية.
2. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ والمراد منه التهديد والوعيد، يعني اتقوا الله ولا تستحلوا شيئا من محارمه إن الله شديد العقاب، لا يطيق أحد عقابه.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/284.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ قال الأخفش: هو مقطوع من أول الكلام، وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى، أي ليعن بعضكم بعضا، وتحاثوا على ما أمر الله تعالى واعملوا به، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه، وهذا موافق لما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (الدال على الخير كفاعله)، وقد قيل: الدال على الشر كصانعه.
2. ثم قيل: البر والتقوى لفظان بمعنى واحد، وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا ومبالغة، إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر، قال ابن عطية: وفي هذا تسامح ما، والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه، والتقوى رعاية الواجب، فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز.
3. وقال الماوردي: ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له، لأن في التقوى رضا الله تعالى، وفي البر رضا الناس، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته.
4. وقال ابن خويز منداد في أحكامه: والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه، فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم، ويعينهم الغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة المؤمنون تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، ويجب الإعراض عن المتعدي وترك النصرة له ورده عما هو عليه.
5. ثم نهى فقال، ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ وهو الحكم اللاحق عن الجرائم، وعن العدوان، وهو ظلم الناس، ثم أمر بالتقوى وتوعد توعدا مجملا فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/46.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما نهى الله تعالى عن الاعتداء أمر بالتعاون على البرّ والتقوى: أي ليعن بعضكم بعضا على ذلك، وهو يشمل كلّ أمر يصدق عليه أنه من البرّ والتقوى كائنا ما كان؛ قيل: إن البرّ والتقوى لفظان لمعنى واحد، وكرر للتأكيد، وقال ابن عطية: إن البرّ يتناول الواجب والمندوب، والتقوى تختصّ بالواجب، وقال الماوردي: إن في البرّ رضا الناس وفي التقوى رضا الله، فمن جمع بينهما فقد تمت سعادته.
2. ثم نهاهم سبحانه عن التعاون على الإثم والعدوان، فالإثم: كل فعل أو قول يوجب إثم فاعله أو قائله، والعدوان: التعدّي على الناس بما فيه ظلم، فلا يبقى نوع من أنواع الموجبات للإثم ولا نوع من أنواع الظلم للناس الذين من جملتهم النفس إلا وهو داخل تحت هذا النهي لصدق هذين النوعين على كل ما يوجد فيه معناهما.
3. ثم أمر عباده بالتقوى وتوعّد من خالف ما أمر به فتركه أو خالف ما نهى عنه ففعله بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾
__________
(1) فتح القدير: 2/10.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَتَعَاوَنُواْ﴾ فعل أمر وفاعل، ﴿عَلَى الْبِرِّ﴾ فعل ما أُمرتم به، والعفو والإغضاء، ﴿وَالتَّقْوَىٰ﴾ ترك ما نُهيتم عنه ومجانبة الهوى، ودخل فيها مناسك الحجِّ، كما قال الله تعالى : ﴿فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]
2. ﴿وَلَا تَعَاوَنُواْ﴾ لا تتعاونوا، ﴿عَلَى الاِثْمِ﴾ المعاصي بينكم وبين الله، ﴿وَالعُدْوَانِ﴾ المعاصي بينكم وبين الخلق، ابتداء أو انتقامًا حيث لا يجوز، ودخل في ذلك: النهيُ عن التعاون على الاعتداء والانتقام، وعن ابن عبَّاس وأبي العالية: (الإثم: ترك ما أمرهم به وارتكاب ما نهاهم عنه، والعدوان: مجاوزة ما حدَّه الله تعالى لعباده في دينهم وفرضه عليهم في أنفسهم)، قدَّم التحلية وهي المعاونة على البرِّ والتقوى، على التخلية وهي الإثم والعدوان مسارعةً إلى ذكر ما هو المقصود بالذَّات، ﴿وَاتَّقُواْ اللهَ﴾ خافوه إجلالاً وللعقاب على المعاصي، ﴿إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ على العصاة.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/379.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. دلت الآية الكريمة على أن المضارّة ممنوعة، ومثله:
أ. قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)
ب. وعن أبي هريرة: قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا)، رواه مسلم.
ج. وعن سهل بن سعد؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لعليّ عليه السلام، يوم خيبر: (فو الله! لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم)، متفق عليه.
د. وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قيل: يا رسول الله هذا! نصرته مظلوما، فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ قال تحجزه وتمنعه من الظلم، فذاك نصرك إياه) رواه أحمد والشيخان.
هـ. عن يحيى بن وثاب عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)، رواه أحمد.
و. روى الطبرانيّ والضياء المقدسيّ عن أوس بن شرحبيل أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من مشى مع ظالم ليعينه، وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج من الإسلام)
ز. وعن النوّاسبن سمعان قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن البر والإثم؟ فقال: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)، رواه مسلم.
2. قال بعض الزيدية: من ثمرات الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه لا يجوز إعانة متعدّ ولا عاص، فيدخل في ذلك تكثير سواد الظلمة بوجه، من قول أو فعل أو أخذ ولاية أو مساكنة.
3. وفي (الإكليل): (استدلّ المالكية بالآية على بطلان إجارة الإنسان نفسه، لحمل خمر ونحوه، وبيع العنب لعاصره خمرا والسلاح لمن يعصي به، وأشباه ذلك)، وهو متّجه.
4. وقال تقيّ الدين بن تيمية في كتابه (السياسة الشرعية): ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم، فإن التعاون نوعان: نوع على البر والتقوى، من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين، فهذا ما أمر الله به ورسوله، ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة، فقد ترك فرضا على الأعيان أو على الكفاية، متوهما أنه متورع، وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع، إذ كان كل منهما كف وإمساك، والثاني: تعاون على الإثم والعدوان، كالإعانة على دم معصوم، أو أخذ مال معصوم، وضرب من لا يستحق الضرب، ونحو ذلك، فهذا الذي حرمه الله ورسوله، نعم، إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق، وتعذر ردها إلى أصحابها، ككثير من الأموال السلطانية، فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين، كسداد الثغور ونفقة المقاتلة، ونحو ذلك، من الإعانة على البر والتقوى، إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال، إذا لم يمكن معرفة أصحابها وردها عليهم ولا على ورثتهم ـ أن يصرفها مع التوبة، إن كان هو الظالم، إلى مصالح المسلمين، وإن كان غيره قد أخذها فعليه أن يفعل بها ذلك، وكذلك لو امتنع السلطان من ردها، كان الإعانة على إنفاقها في مصالح أصحابها، أولى من تركها بيد من يضيعها على أصحابها وعلى المسلمين، فإن مدار الشريعة على قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، المفسر لقوله: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: 102]، وعلى قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، أخرجاه في الصحيحين، وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتبطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت، كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما ـ هو المشروع، والمعين على الإثم والعدوان من أعان ظالما على ظلمه، أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه، أو على أداء المظلمة، فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم، بمنزلة الذي يقرضه أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم، مثال ذلك: وليّ اليتيم والوقف، إذا طلب ظالم منه مالا، فاجتهد في دفع ذلك، بدفع ما هو أقل منه إليه أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع ـ فهو محسن، وما على المحسنين من سبيل، وكذلك، وكيل المالك من المتأديين والكتّاب وغيرهم، الذي يتوكل لهم في العقد والقبض ودفع ما يطلب منهم، لا يتوكل للظالمين في الأخذ، وكذلك لو وضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة، فتوسط رجل محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان، وقسّطها بينهم على قدر طاقتهم، من غير محاباة لنفسه ولا لغيره، ولا ارتشاء، بل توكل لهم في الدفع عنهم والإعطاء ـ كان محسنا، لكن الغالب أن من يدخل في ذلك يكون وكيل الظالمين محابيا مرتشيا مخفرا لمن يريد، وآخذا ممن يريد وهذا من أكبر الظلمة الذين يحشرون في توابيت من نار هم وأعوانهم وأشباههم، ثم يقذفون في النار.
5. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ أي: اخشوه فيما أمركم ونهاكم ﴿إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، يعني لمن خالف أمره، ففيه وعيد وتهديد عظيم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 4/16.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما كان اعتداء قوم على قوم لا يحصل إلا بالتعاون قفى على النهي عن الاعتداء بقوله: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (البر) التوسع في فعل الخير، قاله الراغب، وسيأتي تحقيقه (والتقوى) اتقاء كل ما يضر صاحبه في دينه أو دنياه فعلا أو تركا، (والإثم) فسره الراغب بأنه كالآثام اسم للأفعال المبطئة عن الثواب (العدوان) تجاوز حدود الشرع والعرف في المعاملة والخروج عن العدل فيها.
2. وفي الحديث (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس) رواه مسلم وأصحاب السنن عن النواس بن سمعان أنه قال أتيت رسول الله صلى عليه وسلم فقال: (جئت تسأل عن البر) وفي رواية (جئت تسأل عن البر والإثم) قيل: نعم ـ وكان قد جاء لأجل ذلك فأخبره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بما في نفسه وأجابه عنه ـ فقال: (استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) وليس هذا التفسير للبر والإثم بالمعنى الشرعي ولا اللغوي وإنما هو بيان لما يطلبه السائل من الفرقان بين ما يشتبه من البر والإثم فيشك الإنسان هل هو منهما أم لا، فأحاله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك على ضميره ووجدانه وأشده إلى الأخذ بالاحتياط الذي تسكن إليه النفس، ويطمئن به القلب، وإن خالف فتوى الذين يراعون الظاهر دون دقائق الاحتياط الخفية، كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يجيب كل سائل بحسب حالته.
3. كان الصحابة وسائر العرب يفهمون معنى البر وإنما كان القرآن والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يبينان لهم خصال البر وأعماله وآياته، وما قد يغلطون في عده منه، ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة: 189] وكانوا في الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها إذا كانوا محرمين بالحج ويعدون هذا من النسك والبر، وقال تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]، فهذه بيان لأهم أركان البر من الدين: الإيمان والعبادات البدنية والمالية والأخلاق، وقال تعالى: ﴿وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المجادلة: 9]
4. فمجموع ما ورد في البر مصداق لما فسره به الراغب من أنه التوسع في فعل الخير إذا أريد به ما يشمل الأفعال النفسية والأخلاق الحسنة باعتبار ما ينشأ عنها من الأعمال، وقد قال إنه مشتق من البر بالفتح ـ الذي هو مقابل البحر ـ بتصور سعته، وإلا قلنا إن البر اسم لمجموع ما يتقرب به إلى الله تعالى من الإيمان والأخلاق والآداب والأعمال، وكل واحد منها يعد خصلة أو شعبة من البر.
5. أما الأمر بالتعاون على البر والتقوى فهو من أركان الهداية الاجتماعية في القرآن لأنه يوجب على الناس إيجابا دينيا أن يعين بعضهم بعضا على كل عمل من أعمال البر التي تنفع الناس أفرادا أقواما في دينهم ودنياهم، وكل عمل من أعمال التقوى التي يدفعون بها المفاسد والمضار عن أنفسهم، فجمع بذلك بين التحلية والتخلية، ولكنه قدم التحلية بالبر وأكد هذا الأمر بالنهي عن ضده وهو التعاون على الإثم بالمعاصي وكل ما يعوق عن البر والخير، وعلى العدوان الذي يغري الناس بعضهم ببعض، ويجعلهم أعداء متباغضين يتربص بعضهم الدوائر ببعض.
6. كان المسلمون في الصدر الأول جماعة واحدة يتعاونون على البر والتقوى عن غير ارتباط بعهد ونظام بشري كما هو شأن الجمعيات اليوم، فإن عهد الله وميثاقه كان مغنيا لهم عن غيره، وقد شهد الله تعالى لهم بقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ [آل عمران: 110] ولما انتثر بأيدي الخلف ذلك العقد، ونكث ذلك العهد، صرنا محتاجين إلى تأليف جمعيات خاصة بنظام خاص لأجل جمع طوائف من المسلمين وحملهم على إقامة هذا الواجب (التعاون على البر والتقوى) في أي ركن من أركانه أو عمل من أعماله، وقلما ترى أحدا في هذا العصر، يعينك على عمل من البر، ما لم يكن مرتبطا معك في جمعية ألفت لعمل معين، بل لا يفي لك بهذا كل من يعاهدك على الوفاء، فهل ترجو أن يعينك على غير ما عاهدك عليه؟ فالذي يظهر أن تأليف الجمعيات في هذا العصر، مما يتوقف عليه امتثال هذا الأمر وإقامة هذا الواجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كما قال العلماء، فلا بد لنا من تأليف الجمعيات الدينية والخيرية والعلمية، إذا كنا نريد أن نحيى حياة عزيزة، فعلى آل الغيرة والنجدة من المسلمين أن يعنوا بها كل العناية، وإن رأوا كتب التفسير لم تعن بتفسير هذه الآية، ولم تبين لهم أنها داعية لهم إلى أقوم الطرق وأقصدها لإصلاح شأنهم في أمر دينهم ودنياهم، اللهم إنك تعلم أننا عانينا بتأليف جماعة يراد بها إقامة جميع ما تحب من البر والتقوى، وإصلاح أمر المسلمين في الدين والدنيا، (وهي جماعة الدعوة والإرشاد) اللهم أيد من أيدها، وأعن المعاونين على عملهم، واخذ من ثبط عنها، إنك انت العزيز القدير، القوي القاهر، العليم بما في السرائر.
7. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ أي اتقوا الله أيها المؤمنين بالسير على سننه التي بيناها لكم في كتابه وفي نظام خلقه، لئلا تستحقوا عقابه الذي يصيب من أعرض عن هدايته، إن الله شديد العقاب لمن لم يثق باتباع شرعه، ومراعاة سننه في خلقه، لا هوادة ولا محاباة في عقابه، لأنه لم يأمر بشيء إلا وفعله نافع وتركه ضار، ولم ينه عن شيء إلا وفعله ضار وتركه نافع، وفي معنى المأمور به كل ما رغب فيه، وفي معنى المنهي عنه كل ما رغب عنه، فلهذا كان ترك هدايته مفضيا بطبعه إلى الحرمان من المنافع والوقوع في المضار، التي منها فساد الفطرة وعمى البصيرة، وذلك إبسال للنفس يظهر أثره في الدنيا وسوء عاقبته في الآخرة، وكذلك عدم مراعاة سنن الله تعالى في خلق الإنسان وسجاياه وتأثير عقائده وأخلاقه في أعماله، وسننه في ارتقاء الإنسان في أفراده وشعوبه، كل ذلك يوقع الإنسان في الغاوية، وينتهي به إلى شر عاقبة وغاية، وإنما يظلم الإنسان نفسه ولا عتب له إلا عليها.
8. والعقاب هنا يشمل عقاب الدنيا والآخرة كما أشرنا إليه، وقد ورد في بعض الآيات تصريح بالجمع بينهما، وفي بعضها التصريح بأحدهما كقوله في عذاب الأمم في الدنيا ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102]
9. ووضع اسم الجلالة المظهر في قوله: ﴿إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ـ والمقام مقام إضمار ـ لما لذكر الاسم الكريم من روعة وتأثير، وذلك أدعى إلى حصول المقصود من الوعظ والتذكير.
__________
(1) تفسير المنار: 6/107.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما كان اعتداء قوم على قوم لا يحصل إلا بالتعاون قفّى على النهى عن الاعتداء بقوله: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ البر: التوسع في فعل الخير، والتقوى: اتقاء ما يضر صاحبه في دينه أو دنياه، والإثم كل ذنب ومعصية، والعدوان: تجاوز حدود الشرع والعرف في المعاملة والخروج عن العدل فيها، وفي الحديث (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطّلع عليه الناس) رواه مسلم وأصحاب السنن، وروى أحمد والدارمي عن وابصة بن معبد الجهني أنه قال: (أتيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: جئت تسأل عن البر والإثم؟ قلت نعم) وكان قد جاء لأجل ذلك، فأخبره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بما في نفسه وأجابه فقال: (استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأنّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردّد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك)
2. والأمر بالتعاون على البر والتقوى من أركان الهداية الاجتماعية في القرآن، إذ يوجب على الناس أن يعين بعضهم بعضا على كل ما ينفع الناس أفرادا وجماعات في دينهم ودنياهم وعلى كل عمل من أعمال التقوى التي يدفعون بها المفاسد والمضار عن أنفسهم.
3. وقد كان المسلمون في الصدر الأول يتعاونون على البر والتقوى بدون حاجة إلى ارتباط بعهد كما تفعله الجماعات اليوم، فإن عهد الله وميثاقه كان مغنيا لهم عن غيره، ولكن لما نكثوا ذلك العهد صاروا في حاجة إلى تأليف هذه الجماعات لجمع طوائف المسلمين وحملهم على إقامة هذا الواجب (التعاون على البر والتقوى)، وقلما ترى أحدا الآن يعينك على عمل من أعمال البر إلا إذا كان مرتبطا بعهد معك لغرض معين ومن ثم كان تأليف الجماعات مما يتوقف عليه أداء هذا الواجب غالبا.
4. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ أي واتقوا الله بالسير على سننه التي بينها لكم في كتابه وفى نظم خلقه، حتى لا يصيبكم عقابه بالإعراض عن هدايته، فهو شديد العقاب لمن لم يتقه باتباع شرعه ومراعاة سننه في خلقه، إذ لا محاباة ولا هوادة في عقابه، فهو لم يأمر بشيء إلا إذا كان نافعا ولم ينه عن شيء إلا إذا كان ضارا، وكذلك بعدم مراعاة السنن، لأن لذلك تأثيرا في خلق الإنسان وعقائده وأعماله وكل ذلك مما يوقعه في الغواية وينتهى به إلى سوء العاقبة، وهذا العقاب يشمل عقاب الدنيا والآخرة كما جاء في بعض الآيات التصريح بذلك، وفى بعضها التصريح بأحدهما كقوله في عذاب الأمم في الدنيا ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.
__________
(1) تفسير المراغي 6/46.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هو تكليف ضخم؛ ولكنه ـ في صورته هذه ـ لا يعنت النفس البشرية، ولا يحملها فوق طاقتها، فهو يعترف لها بأن من حقها أن تغضب، ومن حقها أن تكره، ولكن ليس من حقها أن تعتدي في فورة الغضب ودفعة الشنآن.. ثم يجعل تعاون الأمة المؤمنة في البر والتقوى؛ لا في الإثم والعدوان؛ ويخوفها عقاب الله، ويأمرها بتقواه، لتستعين بهذه المشاعر على الكبت والضبط، وعلى التسامي والتسامح، تقوى للّه، وطلبا لرضاه.
2. ولقد استطاعت التربية الإسلامية، بالمنهج الرباني، أن تروض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القوية، والاعتياد لهذا السلوك الكريم.. وكانت أبعد ما تكون عن هذا المستوي وعن هذا الاتجاه.. كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما).. كانت حمية الجاهلية، ونعرة العصبية، كان التعاون على الإثم والعدوان أقرب وأرجح من التعاون على البر والتقوى؛ وكان الحلف على النصرة، في الباطل قبل الحق، وندر أن قام في الجاهلية حلف للحق، وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط بالله؛ ولا تستمد تقاليدها ولا أخلاقها من منهج الله وميزان الله.. يمثل ذلك كله ذلك المبدأ الجاهلي المشهور: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما).. وهو المبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي في صورة أخرى، وهو يقول:
çوهل أنا إلا من غزية إن غوت...غويت، وإن ترشد غزية أرشد!é
3. ثم جاء الإسلام.. جاء المنهج الرباني للتربية.. جاء ليقول للذين آمنوا: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.. جاء ليربط القلوب بالله؛ وليربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله، جاء ليخرج العرب ـ ويخرج البشرية كلها ـ من حمية الجاهلية، ونعرة العصبية، وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية والعائلية والعشائرية في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء..
4. وولد (الإنسان) من جديد في الجزيرة العربية.. ولد الإنسان الذي يتخلق بأخلاق الله.. وكان هذا هو المولد الجديد للعرب؛ كما كان هو المولد الجديد للإنسان في سائر الأرض.. ولم يكن قبل الإسلام في الجزيرة إلا الجاهلية المتعصبة العمياء: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)، كذلك لم يكن في الأرض كلها إلا هذه الجاهلية المتعصبة العمياء!
5. والمسافة الشاسعة بين درك الجاهلية، وأفق الإسلام؛ هي المسافة بين قول الجاهلية المأثور: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)، وقول الله العظيم: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾، وشتان شتان!
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/841.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ هو تأكيد للاستقامة على العدل الذي أمر الله به، وتحذير من انتقامه ممن تعدّى حدوده، ونقض مواثيقه.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1029.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، تعليل للنهي الذي في قوله: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾، وكان مقتضى الظاهر أن تكون الجملة مفصولة، ولكنّها عطفت: ترجيحا لما تضمّنته من التشريع على ما اقتضته من التعليل، يعني: أنّ واجبكم أن تتعاونوا بينكم على فعل البرّ والتقوى، وإذا كان هذا واجبهم فيما بينهم، كان الشأن أن يعينوا على البرّ والتقوى، لأنّ التعاون عليها يكسب محبّة تحصيلها، فيصير تحصيلها رغبة لهم، فلا جرم أن يعينوا عليها كلّ ساع إليها، ولو كان عدوّا، والحجّ برّ فأعينوا عليه وعلى التقوى فهم وإن كانوا كفّارا يعاونون على ما هو برّ: لأنّ البرّ يهدي للتقوى، فلعلّ تكرّر فعله يقرّبهم من الإسلام.
2. ولمّا كان الاعتداء على العدوّ إنّما يكون بتعاونهم عليه نبّهوا على أنّ التعاون لا ينبغي أن يكون صدّا عن المسجد الحرام، وقد أشرنا إلى ذلك آنفا؛ فالضمير والمفاعلة في ﴿تَعَاوَنُوا﴾ للمسلمين، أي ليعن بعضكم بعضا على البرّ والتقوى، وفائدة التعاون تيسير العمل، وتوفير المصالح، وإظهار الاتّحاد والتناصر، حتّى يصبح ذلك خلقا للأمّة، وهذا قبل نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: 28]
3. ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ تأكيد لمضمون ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ لأنّ الأمر بالشيء وإن كان يتضمّن النهي عن ضدّه، فالاهتمام بحكم الضدّ يقتضي النهي عنه بخصوصه، والمقصود أنّه يجب أن يصدّ بعضكم بعضا عن ظلم قوم لكم نحوهم شنآن.
4. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ الآية تذييل، وقوله: ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ تعريض بالتهديد.
__________
(1) التحرير والتنوير: 5/20.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ إن الاعتداء والتعاون على البر والتقوى ضدان، وعند ما يذكر أمر يرد على الخاطر ضده؛ ولذا أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى بعد النهى عن الاعتداء، والبر: التوسع في فعل الخير للناس والطاعة لله تعالى وتطهير النفس من أدرانها، وهذا إذا لم تذكر التقوى فإذا ذكرت التقوى معه، كما في هذا النص الكريم، كان البر هو الطاعة الظاهرة ونفع الناس، وإسداء المعروف لهم، وكانت التقوى تصفية النفس وتطهيرها وإخلاصها لله تعالى، وقد قال في ذلك أبو الحسن الماوردى: (ندب الله تعالى إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له؛ لأن في التقوى رضا الله تعالى، وفى البر رضا الناس، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته، وعمت نعمته)
2. والإثم: أصله اللغوي الأفعال المبطئة عن الخير المانعة له، ثم أطلق على كل ما يفسد النفس ويفسد العمل، ويكون فيه العصيان، ومجافاة الخير، وقرب الشر، وإن الإثم إذا لم يتعد إلى غيره كان على نفسه، وإن تعدى على غيره كان عدوانا، وقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [النساء]، وقد نهى سبحانه عن التعاون على الإثم والعدوان، فنهى عن الإثم الذى تكون مغبته على صاحبه أو تفسد قلبه، وعن العدوان على غيره.
3. والتعاون: معناه تبادل المعونة، ويكون في الخير بمد يد المعونة في الشدائد، وكل يجود بما عنده لأخيه، فالعالم بعلمه، والشجاع القوى بدفاعه عن الضعيف، وأن يكون المؤمنون يدا على من سواهم، ومنع الظالم من ظلمه، وإرشاد الضال، ومنع الآثام، وهذا تعاون أفرادى عام، وله أشكال كثيرة، والتعاون الجماعي بتعاون الأسرة، وتعاون الحى، وتعاون الأمة، وتعاون الجماعة الإنسانية، وكل ذلك حث عليه الإسلام، ومن التعاون تأليف جماعات له، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أوجد أعظم تعاون جماعى وذلك بالإخاء في الإسلام.
4. وقد ذيل الله سبحانه النص الكريم بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، وهذا إنذار لمن يتعاونون على الإثم والعدوان وترهيب لغيرهم (وقد أكد الله ـ تعالى ـ هذا المعنى بثلاث مؤكدات (إن) الدالة على التوكيد)، وبذكر لفظ الجلالة، والوصف بالشدة.. اللهم قنا غضبك، وامنحنا رضاك، إنك أنت الغفور الرحيم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/2026.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾، من الألفاظ التي كثر تداولها اليوم على ألسنة المتكلمين، وأقلام الكتّاب لفظ الثورة والثورة المضادة.. ويعنون بالثورة تعاون المخلصين ونضالهم ضد التخلف والأوضاع الفاسدة، ويعنون بالثورة المضادة تكتل الرجعيين والخائنين وتعاونهم على مقاومة كل محاولة لتغيير التقاليد الضارة الفاسدة.
2. وظاهر الآية الكريمة يخوّل لنا ان نطبق قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ على الثورة المضادة لكل خير وتقدم.
__________
(1) التفسير الكاشف: 3/9.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ المعنى واضح، وهذا أساس السنة الإسلامية، وقد فسر الله سبحانه البر في كلامه بالإيمان والإحسان في العبادات والمعاملات، كما مر في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: 177] وقد تقدم الكلام فيه، والتقوى مراقبة أمر الله ونهيه، فيعود معنى التعاون على البر والتقوى إلى الاجتماع على الإيمان والعمل الصالح على أساس تقوى الله، وهو الصلاح والتقوى الاجتماعيان، ويقابله التعاون على الإثم الذي هو العمل السيئ المستتبع للتأخر في أمور الحياة السعيدة، وعلى العدوان وهو التعدي على حقوق الناس الحقة بسلب الأمن من نفوسهم أو أعراضهم أو أموالهم وقد مر شطر من الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾ الآية: [آل عمران: 200]
2. ثم أكد سبحانه نهيه عن الاجتماع على الإثم والعدوان بقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ وهو في الحقيقة تأكيد على تأكيد.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/164.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ التعاون: تفاعل من العون أن يجعل كل من المتعاونين قوّته مع قوة أصحابه لتحصيل شيء باجتماع القوى عليه، و﴿الْبَرُّ﴾ اسم جامع، وقد بينه الله تعالى في قوله: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ﴾ إلى آخر الآية، وهي في (سورة البقرة) [آية:177] ﴿وَالتَّقْوَى﴾ اجتناب المعاصي لطلب السلامة من العذاب، وأصل التقوى استعمال الوقاية لدفع المكروه.
2. ﴿الْإِثْمِ﴾ الذنب المسبب للعذاب، قال في (الصحاح): (الإثم: الذنب) ﴿وَالْعُدْوَانِ﴾ الظلم والجور، ومنه القتال في الشهر الحرام، ولا يشترط في مفهوم المعاونة القصد لها، كما حققه الإمام القاسم بن محمد عليه السلام في (رسالة التحذير) وقد طبعت، وهذه الآية جامعة لفوائد كثيرة.
3. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ تقوى الله: طاعته في كل أمره ونهيه؛ وختمت هذه الآية بهذه الجملة ليحافظ الذين آمنوا على ما في هذه الآية وإن شقت على الأنفس، كترك العدوان على الذين صدوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه عن المسجد الحرام، وفي ذلك دلالة على الوعيد على أهل الصلاة.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/234.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ وهذا هو الشعار الإسلامي للحياة والنّاس، المرتكز على البر الذي يمثل الخير في العقيدة والعمل، وذلك فيما توحيه الآية الكريمة: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177] فإنَّها اعتبرت القاعدة الفكرية العقيدية مظهرا من مظاهر البر، لأنَّ الانحراف عن الخط الصحيح، والابتعاد عن القاعدة الصلبة للفكر، يؤديان إلى اهتزاز الحياة وتحولها عن أهدافها السليمة، وينتهي بها ـ بالتالي ـ إلى الوقوع في قبضة الباطل والشرّ، لأنَّ بداية الشر فكرةٌ شريرة، كما أنَّ منطلق الباطل خاطرة فاسدة، وبهذا كان الإيمان بالله واليوم الآخر والكتاب والنبيين منطلق خير للحياة بما يمثله من تخطيط للمشاريع الخيّرة المنفتحة على الله في دوافعها وخطواتها وآفاقها الواسعة، ومن تشريع يستهدف بناء الشخصية الإسلامية الإنسانية على الصورة الّتي يحبها الله للإنسان، ويوحي بالتالي بالاطمئنان الروحي والنفسي والثقة بالحاضر والمستقبل في حركة الحياة.
2. ولم يقف البر عند حدود الفكر، بل، انطلق في خط العمل فيما تحدّثت عنه الآية من إيتاء المال على حبه لكل من يحتاج إليه من الفئات المحرومة، ومن إقامة الصلاة الّتي توصي بطهارة الروح والقلب والجسد، وإيتاء الزكاة الّتي تمثل روحية العطاء في شخصية الإنسان، والوفاء بالعهد بما يمثله من الالتزام بالكلمة والموقف، والصبر في جميع الحالات الَّذي يرتكز على صلابة الإرادة وقوة العزيمة وثبات الموقف، والصدق الَّذي ينطلق من قاعدة الإخلاص للحقيقة، والتقوى الّتي تنفتح آفاقها على المراقبة الدقيقة لله، وبذلك ينفتح البر على آفاق حياة الإنسان الداخلية والخارجية.
3. أمّا التقوى فإنَّها الروح الّتي تمد الإنسان بالقلق الروحي الَّذي يدفعه إلى متابعة العمل بدقة، لئلا يخطئ هنا، وينحرف هناك، وينقلب على وجهه في نهاية المطاف، وبذلك يتحول القلق إلى عنصر إيجابي يعطي للعمل إشراقة الروح والفكر، بدلا من أن يسلمه إلى أجواء الضياع والشلل في الاتجاه السلبي، إنَّها الالتفاتة الإيمانية الّتي تقود الإنسان إلى الشعور بحضور الله في سره وعلانيته، في يقظته ونومه، حتّى ليشعر ـ معه ـ بالإحساس الحقيقي بوجوده معه، كما لو كان يراه عيانا، فيدفعه ذلك إلى الالتزام بكل صغيرة وكبيرة يعلم بأنَّ الله يحبها ويرضاها، وإلى الابتعاد عن كل صغيرة وكبيرة يعلم بأنَّ الله يكرهها ويبغضها، فلا يفقده الله حيث يريد أن يجده، ولا يجده حيث يريد أن يفقده، ويتسامى هذا الإحساس في روحه حتّى لينفذ إلى دوافعه ونواياه، فيحاول أن ينظفها ويطهرها ويدفع بها إلى حيث الطهر في النيّة والتسامي في الفكرة.
4. وقد طرح الإسلام التعاون كأساس لتحقيق البر والتقوى في حياة النّاس، لأنَّ كثيرا من حالاتهما لا يمكن، من حيث المبدأ، تأديته بجهد فردي، بل لا بدَّ من تضافر الجهود المختلفة لإنجازه، لا سيما في المجالات الّتي يراد منها بلوغ نتائج كبيرة، كما هو الحال مثلا في المجالات الفكرية من التفاصيل والتعقيدات والانطلاقات، ممّا يمكن لبعض الأفكار أن يكتشف جانبا هنا، ولبعضها الآخر أن يكتشف جانبا هناك، ليتم البناء الفكري على قاعدة صلبة ثابتة، وقد نحتاج أن نسجّل في هذا المجال أنَّ الإنسانية لم تبلغ رقيّها الفكري إلَّا بفضل الجهود المتنوعة الّتي تعاونت فيها البشرية في مختلف حقول المعرفة والعلوم، متفاعلة فيما بينها أو متبادلة، متوافقة أو مختلفة، وفي ضوء ذلك، لا بدَّ من أن تكون الروحية المهيمنة على ذلك هي روح الوصول إلى الحقيقة، لا روح الصراعات على المصالح الخاصة ومراكز النفوذ والقوّة والهيمنة باسم الحقيقة.
5. أمّا في المجال الاجتماعي، فثمة مشاريع كثيرة لحل مشكلة البؤس والفقر للفئات المحرومة، تحتاج إلى تعاون عام، وإلى جهود متنوعة لا تحتملها طاقة فرد، مهما كان دوره، ولذلك، فإنَّها لن تتكامل بدون التعاون والتعاضد والتكامل، وإذا ما انطلقنا إلى دائرة المبادئ والأخلاق، فإنَّنا سنلتقي بحالات الضعف الّتي قد تسيطر على الإنسان فتفقده التزامه بالحق، وانسجامه مع الصفات الطيبة، فإذا تعاون معه إخوانه على المسيرة المشتركة، أمكن له أن يأخذ قوة من قوتهم، وروحا من روحهم، ليستقيم له المبدأ، وليتقوَّم لديه الخلق.
6. وهذا ما أوحى به الله في قوله تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 3] ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ [البلد: 17]، وهكذا نجد التقوى كإحساس في داخل النفس، وكموقف في ساحة العمل، تحتاج إلى مزيد من التعاون في خط التنمية الروحيّة الّتي تعمق الإحساس بالله في الأعماق، ليلتقي هناك الخوف من الله بحبه، فيتحول إلى انضباط على مستوى الفكر والموقف، ولأنَّ الإنسان قد ينهار أمام الإغراء أو الخوف، أو يضعف ويغيب في مجالات الضياع، فهو يحتاج لمن يأخذ بيده فيشد عليها، أو يمد له يده لينتشله من براثن السقوط أو يذكره فلا ينسى، أو يرشده فلا يتيه أو يضيع، أو يقيل من أمامه العثرات فلا يسقط أو يهوي، وبذلك يلتقي الجميع على خط الله متآلفين متراحمين متكافلين بالصبر والحق.
7. وخلاصة الفكرة، أنَّ الإسلام يدعو إلى إقامة الحياة على التعاون، الَّذي تتجمّع فيه الطاقات وتتنامى فيه المواقف، وتتضافر فيه الجهود، لتتكامل للقضايا الكبيرة عناصرها، ولتتحقق للبرّ والتقوى مصداقيتهما في حياة النّاس، وليبتعد الإنسان عن روح الفردية الّتي تغذي في داخله الشعور بالزهو الذاتي، فتضخم له شخصيته على حساب القيم والمبادئ العامة، وبذلك يتحول إلى شخص جديد يرى الحياة ساحة للجميع على أساس مسئوليتهم المشتركة الكبيرة بين يدي الله.
8. ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ إذ يتمثّل الإثم بالعمل الَّذي يسير في غير خط الله، انطلاقا من كل القيم الشريرة الفاسدة، والنوازع النفسية الهابطة، كالكذب والجزع والبخل والكبر والتجبر والتمرّد الروحي والفكري والعملي على الله سبحانه وتعالى.. كما يتمثل العدوان بالاعتداء على أموال النّاس وأعراضهم ونفوسهم، وبالتنكر لكل القيم الروحية الّتي تحمي الإنسان من أخيه، لذا ينهانا تعالى عن التعاون ﴿عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ لأنَّهما يهدمان الحياة ويضعانها في أجواء الضياع والقلق والضلال، ويحولانها إلى غابة لا تحكمها القوانين والشرائع، بل تتحكم فيها القوّة الغاشمة العمياء، ليكون الحق للأقوى بعيدا عن ميزان العدل الَّذي يجعل القوّة للحق، والضعف للباطل، وعلى هذا الأساس، ألغى الإسلام كل العصبيات العائلية والعشائرية والإقليمية والقومية والعنصرية الّتي أكدتها قيم الجاهلية، لأنَّها لا تمثل التعاون على أساس الحق والعدل والتقوى، وتعتبر الإطار الَّذي تتحرك فيه العصبية أساسا لشرعية كل عمل تعاوني في مصلحتها، أيّا كان موقعه من قضية الحق والباطل، كما عبّر عنه القول الجاهلي المأثور: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)، وفي ضوء هذا الرفض الإسلامي.
9. جاءت الكلمة المأثورة عن الإمام علي بن الحسين عليه السّلام فيما رواه الزهري عنه: (العصبية الّتي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرّجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرّجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم)، فالله سبحانه وتعالى، يريد للنَّاس ألَّا يتعاونوا على الإثم والعدوان، بحيث يصرفون كل طاقاتهم في هذا الاتجاه، واستلزاما لهذا الغرض يريد منهم أن يبتعدوا عن الجو المحموم الَّذي تخلقه مجتمعات الإثم والعدوان في نفوس الأفراد، وذلك لإضعاف الدوافع الّتي تقود إلى الإثم، ولكي تتلاشى النوازع الّتي تعمل على إثارة روح العدوان على الآخرين في النفس، ولتتحول، بالتالي، الحياة إلى ساحة خير وإيمان وسلام.
10. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ وجاءت الدعوة إلى التقوى مقرونة بالتذكير بالصفة الإلهية الّتي تؤكد على أنَّه شديد العقاب في موضع النكال والنقمة، لتخفّف من اندفاعات النفس الذّاتية في خط الانحراف، فيواجه الإنسان الموقف بكثير من الشعور العميق بالنتائج المرعبة الّتي تنتظر السائرين على طريق الضلال بعيدا عن الله، ويتعرف كيف يتفاداها بالطاعة والسير على خط العبودية المستقيم في أفكاره ومواقفه له تعالى، وذلك هو سرّ الأسلوب القرآني الَّذي لا يريد للتشريع التحليلي والتحريمي أن يتعلق بالفراغ بعيدا عن حركة المسؤولية بل يعمل على إثارة المسؤولية الثقلية في وعي الجميع من خلال التلويح بالعقاب الشديد.
__________
(1) من وحى القرآن: 8/26.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تؤكّد الآية ـ جريا على سياق البحث الذي تناولته وبهدف إكماله ـ على أنّ المسلمين بدلا من أن يتحدوا للانتقام من خصومهم السابقين الذين أسلموا ـ وأصبحوا بحكم إسلامهم أصدقاء ـ عليهم جميعا أن يتحدوا في سبيل فعل الخيرات والتزام التقوى وأن لا يتعاونوا ـ في سبيل الشر والعدوان تقول الآية: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾
2. لكي تعزز الآية الأحكام السابقة وتؤكّدها تدعو المسلمين في الختام إلى اتّباع التقوى وتجنّب معصية الله، محذره من عذاب الله الشديد، فتقول: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾
3. إنّ الدعوة إلى التعاون التي تؤكّد عليها الآية الكريمة تعتبر مبدأ إسلاميا عاما، تدخل في إطاره جميع المجالات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والحقوقية وغيرها وقد أوجبت هذه الدعوة على المسلمين التعاون في أعمال الخير، كما منعتهم ونهتهم عن التعاون في أعمال الشرّ والإثم اللّذين يدخل إطارهما الظلم والاستبداد والجور بكل أصنافها.
4. ويأتي هذا المبدأ الإسلامي تماما على نقيض مبدأ ساد في العصر الجاهلي، وما زال يطبق حتى في عصرنا الحاضر، وهو المبدأ القائل: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)، وكان في العصر الجاهلي إذا غزت جماعة من إحدى القبائل جماعة من قبيلة أخرى، هب أفراد القبيلة الغازية لموازرة الغازين بغض النظر عمّا إذا كان الغزو لغرض عادل أو ظالم، ونرى في وقتنا الحاضر ـ أيضا ـ آثار هذا المبدأ الجاهلي في العلاقات الدولية، وبالذات لدى الدول المتحالفة حين تهب في الغالب لحماية بعضها البعض، والتضامن والتعاون معا حيال القضايا الدولية دون رعاية لمبدأ العدالة ودون تمييز بين الظالم والمظلوم: لقد ألغى الإسلام هذا المبدأ الجاهلي، ودعى المسلمين إلى التعاون في أعمال الخير والمشاريع النافعة والبناءة فقط، ونهى عن التعاون في الظلم والعدوان.
5. والطريق في هذا المجال هو مجيء كلمتي (البر) و(التقوى) معا وعلى التوالي في الآية، حيث أنّ الكلمة الأولى: تحمل طابعا إيجابيا وتشير إلى الأعمال النافعة، والثانية: لها طابع النهي والمنع وتشير إلى الامتناع عن الأعمال المنكرة ـ وعلى هذا الأساس ـ أيضا ـ فإن التعاون والتآزر يجب أن يتمّ سواء في الدّعوة إلى عمل الخير، أو في مكافحة الأعمال المنكرة.
6. وقد استخدم الفقه الإسلامي هذا القانون في القضايا الحقوقية، حيث حرّم قسما من المعاملات والعقود التجارية التي فيها طابع الإعانة على المعاصي أو المنكرات، كبيع الأعناب إلى مصانع الخمور أو بيع السلاح إلى أعداء الإسلام وأعداء الحق والعدالة، أو تأجير محل للاكتساب لتمارس فيه المعاملات غير الشرعية والأعمال المنكرة (وبديهي أن لهذه الأحكام شروطا تناولتها كتب الفقه الإسلامي بالتوضيح)
7. إنّ إحياء هذا المبدأ لدى المجتمعات الإسلامية، وتعاون المسلمين في أعمال الخير والمشاريع النافعة البناءة دون الاهتمام بالعلاقات الشخصية والعرقية والنسبية، والامتناع عن تقديم أي نوع من التعاون إلى الأفراد الذين يمارسون الظلم والعدوان، بغض النظر عن تبعية أو انتمائية الفئة الظالمة، كل ذلك من شأنه أن يزيل الكثير من النواقص الاجتماعية.
8. أمّا في العلاقات الدولية، فلو امتنعت دول العالم عن التعاون مع كل دولة معتدية ـ أيّا كانت ـ لقضي بذلك على جذور العدوان والاستعمار والاستغلال في العالم، ولكن حين ينقلب الوضع فتتعاون الدول مع المعتدين والظالمين بحجّة أنّ مصالحهم الدولية تقتضي ذلك، فلا يمكن توقع الخير أبدا من وضع كالذي يسود العالم اليوم.
9. لقد تناولت الأحاديث والروايات الإسلامية هذه القضية بتأكيد كبير، ونورد ـ هنا ـ بعضا منها على سبيل المثال لا الحصر.
أ. نقل عن النّبي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذا المجال قوله: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الظلمة وأعوان الظلمة وأشباه الظلمة حتى من بريء لهم قلما ولاق لهم دواة؟ قال فيجتمعون في تابوت من حديد ثمّ يرمى بهم في جهنّم)
ب. نقل عن صفوان الجمال، وهو أحد أنصار الإمام السابع موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام، بأنّه تشرف بلقاء الإمام عليه السّلام فقال له الكاظم عليه السّلام: يا صفوان كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا، قلت: جعلت فداك، أي شيء قال اكراؤك جمالك من هذا الرجل، يعني هارون، قال والله ما أكريته أشرا ولا بطرا ولا للصيد ولا للهو ولكنّي أكريته لهذا الطريق ـ يعني طريق مكّة ـ ولا أتولّاه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني، فقال لي: يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟ قلت: نعم، قال من أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النار.. إلى آخر الحديث.
ج. في حديث عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خاطب به عليّا عليه السّلام قائلا: (يا علي كفر بالله العلي العظيم من هذه الأمّة عشرة.. وبائع السلاح لأهل الحرب).
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/581.
8. المحرمات من الأطعمة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈8⌉ من سورة المائدة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ [المائدة: 3]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
أبو الطفيل:
روي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة (ت 014 هـ) قال: نزل آدم بتحريم أربع: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وإن هذه الأربعة الأشياء لم تحل قط، ولم تزل حراما منذ خلق الله السماوات والأرض، فلما كانت بنو إسرائيل حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم بذنوبهم، فلما بعث الله عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ، نزل بالأمر الأول الذي جاء به آدم، وأحل لهم ما سوى ذلك، فكذبوه وعصوه(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ـ كما في تفسير ابن كثير ٣/١٧.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ ما أهل للطواغيت به(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ التي تخنق فتموت(2).
3. روي أنّ نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾، قال: كانت العرب تخنق الشاة، فإذا ماتت أكلوا لحمها، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت امرأ القيس وهو يقول(3).:
çيغط غطيط البكر شد خناقه … ليقتلني والمرء ليس بقتالé
4. روي أنّه قال: ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ التي تضرب بالخشبة فتموت(4).
5. روي أنّ نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله: ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾، قال: التي تضرب بالخشب حتى تموت، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول(5).:
çيلوينني دين النهار وأقتضي … ديني إذا وقذ النعاس الرقداé
6. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ التي تتردى من الجبل فتموت(6).
7. روي أنّه قال: ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ الشاة التي تنطح الشاة(7).
8. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾، يقول: ما أخذ السبع(8).
9. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾، يقول: ما ذبحتم من ذلك وبه روح فكلوه(9).
10. روي أنّه قال: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ النصب: أنصاب كانوا يذبحون ويهلون عليها(10).
11. روي أنّ نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله: ﴿وَالْأَنْصَابُ﴾، قال: الأنصاب: الحجارة التي كانت العرب تعبدها من دون الله، وتذبح لها، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت نابغة بني ذبيان وهو يقول(11).:
çفلا لعمر الذي مسحت كعبته … وما هريق على الأنصاب من جسدé
12. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تأكل الشريطة)؛ فإنها ذبيحة الشيطان)، قال: ابن المبارك: هي أن تخرج الروح منه بشرط، من غير قطع حلقوم(12).
__________
(1) ابن جرير ٣/٥٧.
(2) ابن جرير ٨/٥٦.
(3) الطستيُّ في مسائل نافع بن الأزرق ص ٥٧.
(4) ابن جرير ٨/٥٧.
(5) الطستيُّ في مسائل نافع بن الأزرق ص ١٧٣.
(6) ابن جرير ٨/٥٨.
(7) ابن جرير ٨/٦٢.
(8) ابن جرير ٨/٦١.
(9) ابن جرير ٨/٦٣.
(10) ابن جرير ٨/٧١.
(11) الطستيُّ في مسائل نافع بن الأزرق ص ١٧٧.
(12) أحمد ٤/٣٧٦.
ابن عمير:
روي عن عبيد بن عمير (ت 73 هـ) أنّه قال: إذا طرفت بعينها، أو مصعت(1)، بذنبها، أو تحركت؛ فقد حلت لك(2).
__________
(1) مصعت الدابة بذنبها: إذا حركته وضربت به.
(2) ابن جرير ٨/٦٥.
الباهلي:
روي عن أبو أمامة الباهلي (ت 86 هـ) قال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله، وأعرض عليهم شعائر الإسلام، فأتيتهم، فبينما نحن كذلك إذ جاءوا بقصعة دم، واجتمعوا عليها يأكلونها، قالوا: هلم، يا صدي، فكل، قلت: ويحكم، إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم، وأنزل الله عليه، قالوا: وما ذاك؟ قال: فتلوت عليهم هذه الآية: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾ الآية(1).
__________
(1) الطبراني (٨٠٧٤.
النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنّه قال: إذا أكل السبع من الصيد، أو الوقيذة، أو النطيحة، أو المتردية فأدركت ذكاته، فكل(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٦٤.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ الشاة توثق، فيقتلها خناقها، فهي حرام(1).
2. روي يقول في قوله: ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾: كانت الشاة أو غيرها من الأنعام تضرب بالخشب لآلهتهم؛ حتى يقتلوها فيأكلوها(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ التي تخر في ركي(3)، أو من رأس جبل فتموت(4).
4. روي أنّه قال: كان أهل الجاهلية يأكلون هذا، فحرم الله في الإسلام إلا ما ذكي منه، فما أدرك فتحرك منه رجل أو ذنب أو طرف فذكي، فهو حلال(5).
__________
(1) ابن جرير ٨/٥٥.
(2) ابن جرير ٨/٥٨.
(3) ركي: اسم جنس للركية، وهي البئر.
(4) ابن جرير ٨/٥٩.
(5) ابن جرير ٨/٦٥.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ كانت حجارة حول الكعبة يذبح عليها أهل الجاهلية، ويبدلونها إذا شاءوا بحجارة أعجب إليهم منها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾: كانت حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا منصوبة، كان أهل الجاهلية يعبدونها، ويعظمونها، ويذبحون لها، وليست هي بأصنام، إنما الأصنام هي المصورة المنقوشة(2).
__________
(1) تفسير مجاهد ص ٣٠٠.
(2) تفسير الثعلبي ٤/١٤.
طاووس:
روي عن طاووس بن كيسان (ت 106 هـ) أنّه قال: إذا ذبحت، فمصعت بذنبها أو تحركت؛ فقد حلت لك، أو قال: فحسبه(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٦٥.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾: هي التي تختنق في حبلها فتموت، وكانوا يأكلونها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ أي هذا أدركت ذكاته فذكه، وكل، قيل له: يا أبا سعيد، كيف أعرف؟ قال: إذا طرفت بعينها، أو ضربت بذنبها(2).
__________
(1) ذكره يحيى ين سلام ـ كما في تفسير ابن أبي زمنين ٢/٧.
(2) ابن جرير ٨/٦٣.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ معروف ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ يعني ما ذبح للأصنام، وأما ﴿الْمُنْخَنِقَةُ﴾ فان المجوس كانوا لا يأكلون الذبائح ويأكلون الميتة، وكانوا يخنقون البقر والغنم، فإذا اختنقت وماتت أكلوها، ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ كانوا يشدون عينها ويلقونها من السطح، فإذا ماتت أكلوها، ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ كانوا يناطحون بالكباش، فإذا مات أحدها أكلوه، ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ فكانوا يأكلون ما يقتله الذئب والأسد، فحرم الله عز وجل ذلك ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ كانوا يذبحون لبيوت النيران، وقريش كانوا يعبدون الشجر والصخر فيذبحون لهما(1).
2. روي أنّه قال: كل شيء من الحيوان غير الخنزير، والنطيحة، والمتردية، وما أكل السبع، وهو قول الله: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ فإن أدركت شيئا منها وعين تطرف، أو قائمة تركض، أو ذنب يمصع فقد أدركت ذكاته فكله(2).
__________
(1) الخصال: 451/57.
(2) التهذيب 9/58.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة، حتى إذا ماتت أكلوها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصا، حتى إذا ماتت أكلوها(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ كانت تتردى في البئر فتموت، فيأكلونها(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ كان الكبشان ينتطحان، فيموت أحدهما، فيأكلونه(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ كان أهل الجاهلية إذا قتل السبع شيئا من هذا، أو أكل منه؛ أكلوا ما بقي(5).
6. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ فكل هذا الذي سماه الله عز وجل ههنا ـ ما خلا لحم الخنزير ـ، إذا أدركت منه عينا تطرف، أو ذنبا يتحرك، أو قائمة تركض، فذكيته؛ فقد أحل الله لك ذلك(6).
7. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ من هذا كله فإذا وجدتها تطرف عينها، أو تحرك أذنها من هذا كله؛ منخنقة، أو موقوذة، أو نطيحة، أو ما أكل السبع، فهي لك حلال(7).
__________
(1) ابن جرير ٨/٥٦.
(2) ابن جرير ٨/٥٧.
(3) ابن جرير ٨/٥٩.
(4) ابن جرير ٨/٦١.
(5) ابن جرير ٨/٦٢.
(6) ابن جرير ٨/٦٤.
(7) عبد الرزاق ١/١٨٣.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ معناه التي اختنقت في خناقها حتّى ماتت ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ هي التي توقذ فتموت منه.. ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ هي التي تردّى من جبل، أو حائط، أو نحو ذلك.. ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ المنطوحة)(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ معناه ما ذبحتم(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ معناه ما ذبح على الأنصاب.. واحدها نصب(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 126.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة، فتختنق فتموت(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ هي التي تردى من الجبل أو في البئر، فتموت(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾: هي التي تنطحها الغنم والبقر فتموت، يقول: هذا حرام؛ لأن ناسا من العرب كانوا يأكلونه(3).
__________
(1) ابن جرير ٨/٥٥.
(2) ابن جرير ٨/٥٩..
(3) ابن جرير ٨/٦١.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن محمد بن عبد الله، عن بعض أصحابه قال: قلت للإمام الصادق: جعلت فداك، لم حرم الله الميتة والدم ولحم الخنزير؟فقال: إن الله تبارك وتعالى لم يحرم ذلك على عباده وأحل لهم ما سواه من رغبة منه تبارك وتعالى فيما حرم عليهم، ولا زهد فيما أحل لهم، ولكنه خلق الخلق وعلم ما يقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحله وأباحه تفضلا منه عليهم لمصلحتهم، وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه وحرمه عليهم، ثم أباحه للمضطر وأحله لهم في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلا به، فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك)، ثم قال: (أما الميتة فإنه لا يدنو منها أحد ولا يأكلها إلا ضعف بدنه، ونحل جسمه، ووهنت قوته، وانقطع نسله، ولا يموت آكل الميتة إلا فجأة، وأما الدم فانه يورث الكلب، وقسوة القلب، وقلة الرأفة والرحمة، لا يؤمن أن يقتل ولده ووالديه، ولا يؤمن على حميمه، ولا يؤمن على من صحبه، وأما لحم الخنزير فإن الله مسخ قوما في صورة شيء شبه الخنزير والقرد والدب، وما كان من الأمساخ، ثم نهى عن أكل مثله لكي لا ينتفع بها ولا يستخف بعقوبته، وأما الخمر فانه حرمها لفعلها وفسادها)، وقال: (إن مدمن الخمر كعابد وثن، ويورثه ارتعاشا، ويذهب بنوره، ويهدم مروءته، ويحمله على أن يجسر على المحارم من سفك الدماء، وركوب الزنا، ولا يؤمن إذا سكر أن يثب على حرمه وهو لا يعقل ذلك، والخمر لم يرد شاربها إلا إلى كل شر)(1).
2. روي أنّه قال: ﴿الْمُنْخَنِقَةُ﴾ التي تختنق في رباطها ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ المريضة التي لا تجد ألم الذبح، ولا تضطرب، ولا يخرج لها دم ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ التي تردى من فوق بيت أو نحوه ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ التي تنطح صاحبها (2).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/291.
(2) تفسير العيّاشي 1/292.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، يعني: يوم عرفة، فلم ينزل بعدها حلال، ولا حرام، ولا حكم، ولا حد، ولا فريضة، غير آيتين من آخر سورة النساء: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ [النساء: ١٧٦]، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ يعني: شرائع دينكم، أمر الحلال والحرام؛ وذلك أن الله ـ جل ذكره ـ كان فرض على المؤمنين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والإيمان بالبعث، والجنة، والنار، والصلاة ركعتين غدوة، وركعتين بالعشي، شيئا غير مؤقت، والكف عن القتال قبل أن يهاجر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفرضت الصلوات الخمس ليلة المعراج وهو بعد بمكة، والزكاة المفروضة بالمدينة، ورمضان، والغسل من الجنابة، وحج البيت، وكل فريضة، فلما حج حجة الوداع نزلت هذه الآية يوم عرفة، فبركت ناقة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لنزول الوحي بجمع، وعاش النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعدها إحدى وثمانين ليلة، ثم مات يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، وهي آخر آية نزلت في الحلال والحرام(1).
2. روي أنّه قال: قوله سبحانه: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ يعني: أكل الميتة، ﴿وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ يعني: الذي ذبح لأصنام المشركين ولغيرهم، هذا حرام ألبتة، إن أدركت ذكاته أو لم تدرك ذكاته، فإنه حرام ألبتة؛ لأنهم جعلوه لغير الله عز وجل(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾، يعني: التي تردى من الجبل فتقع منه أو تقع في بئر فتموت(2).
4. روي أنّه قال: ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾، يعني: الشاة تنطح صاحبتها فتموت(2).
5. روي أنّه قال: ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ من الأنعام والصيد، يعني: فريسة السبع(2).
6. روي أنّه قال: ثم استثنى، فقال سبحانه: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾، يعني: إلا ما أدركتم ذكاته من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، فما أدركتم ذكاته من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع مما أدركتم ذكاته، يعني: بطرف، أو بعرق يضرب، أو بذنب يتحرك، ويذكى؛ فهو حلال(2).
7. روي أنّه قال: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾، يعني: وحرم ما ذبح على النصب، وهي الحجارة التي كانوا ينصبونها في الجاهلية فيعبدونها، فهو حرام ألبتة، وكان خزان الكعبة يذبحون لها، وإن شاءوا بدلوا تلك الحجارة بحجارة أخرى، وألقوا الأولى(2).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٥٢.
(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٥١.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: النصب ليست بأصنام، الصنم يصور وينقش، وهذه حجارة تنصب، ثلاثمائة وستون حجرا، منهم من يقول: ثلاثمائة منها لخزاعة، فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت، وشرحوا اللحم، وجعلوه على الحجارة، فقال المسلمون: يا رسول الله، كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحق أن نعظمه، فكأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكره ذلك؛ فأنزل الله: ﴿لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا﴾ [الحج: ٣٧](1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٧١.
مالك:
روي عن مالك بن أنس (ت 179 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن الشاة التي يخرق جوفها السبع حتى تخرج أمعاؤها، فقال مالك: لا أرى أن تذكى، ولا يؤكل، أي شيء يذكى منها!؟(1).
2. روي أنّه سئل عن السبع، يعدو على الكبش، فيدق ظهره، أترى أن يذكى قبل أن يموت فيؤكل؟ قال: إن كان بلغ السحر(2)، فلا أرى أن يؤكل، وإن كان إنما أصاب أطرافه فلا أرى بذلك بأسا، قيل له: وثب عليه، فدق ظهره؟ قال: لا يعجبني أن يؤكل، هذا لا يعيش منه، قيل له: فالذئب يعدو على الشاة، فيشق بطنها، ولا يشق الأمعاء؟ قال: إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل(3).
__________
(1) ابن جرير ٨/٦٦.
(2) السَّحْرُ: ما لصق بالحلقوم من أعلى البطن.
(3) ابن جرير ٨/٦٧.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾، وقوله: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ﴾ الآية، وقوله: ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾، هذا كله محرم، إلا ما ذكي من هذا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ ما ذبح على النصب، وما أهل لغير الله به، وهو واحد(2).
__________
(1) ابن جرير ٨/٦٦.
(2) ابن جرير ٨/٧٢.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنّه قال: المتردية والنطيحة وما أكل السبع، إن أدركت ذكاته، فكله(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/292.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. أما ما أهل لغير الله به هو: ما ذكر عليه غير اسم الله.. وأما المنخنقة هو: الدابة ينشب حلقها بين عودين، أو في حبل، أو غير ذلك مما تنخنق به فتموت، وأما الموقوذة فهي: التي ترمى على موقذتها، أو تضرب فتموت.. وأما المتردية فهي: التي تتردى من رأس جبل، أو من المطارة، أو في بئر، أو في غير ذلك، مما تسقط فيه الدابة فتموت، فلا تلحق ذكاتها.. وأما النطيحة فهي: ما تنطحه البقرة، أو الشاة منهن فتموت.. وأما ما أكله السبع فهي: الدابة يقتلها السبع، ولا يلحق ذكائها؛ فحرم الله ذلك كله، إلا أن تلحق منه ذكاة، فيذبح وفيه شيء من حياة، فيكون حينئذ ذكيا حلالا للآكلين، غير محرم على العالمين، وكانت الجاهلية يعدون ذلك كله ذكيا، وليس بميتة.. ثم قال: الله سبحانه: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾، والنصب فهي: آلهتهم المنصبة التي كانوا يذكون لها وعلى اسمها.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/290.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾: هو على الإضمار كأنه قال حرم عليكم أكل الميتة والدم وأكل لحم الخنزير.. إلى آخر ما ذكر؛ ألا ترى أنه قال يجوز الانتفاع بصوف الميتة وبعظمها؛ دل أنه على الإضمار: إضمار (أكل)، وأما الانتفاع بجلدها لا يجوز إلا بعد الدباغ؛ لأن الجلد ربما يشوى مع اللحم فيؤكل؛ فهو حرام كاللحم، إلا أن يدبغ.
2. ثم في الآية دليل الامتحان من وجهين:
أ. أحدهما: إباحة التناول من جوهر، وامتحن بحرمة الخنزير والدم لم يحله بسبب ولا بغير سبب، وامتحن بحل الآخر بسبب، وحَرَّم بسبب.
ب. الثاني: امتحن بسبب حل تنفر الطباع عنه؛ لأن كل ذي روح يتألم بالذبح واستخراج الروح منه، وجعل طبيعة كل أحد مما ينفر عنه لم يتألم به؛ لتطيب أنفسهم بذلك، ثم جعل ما يخرج من الأرض كله حلالاً بلا سبب يكتسبون، إلا ما لا يقدرون على التناول منه؛ لخوف الهلاك؛ لأنه موات لا تنفر الطبائع عنه، ثم جعل أسباب الحل أسبابًا يكتسبون مما لا يعمل في استخراج ذلك الدم المحرم منه حل أكله، وإذا لم يعمل في استخراج ذلك الدم؛ فهلك فيه ـ أفسده؛ لأنه أتلف فيه ما هو محرم فأفسده؛ فاستخراج ذلك الدم مما يطيب ذلك، ويمنع عن الفساد، إلا في طول الوقت، والذي هلك فيه الدم يفسد في قليل الوقت.
3. ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾: قال الكسائي: ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾: أي: ذكر وسمي عليه غير اسم الله، مشتقة من استهلال الصبي، ومنه أهك الهلال، وأهل المهل بالحج إذا لبى. والكافر ـ في الحقيقة ـ يهل لغير الله؛ لأنه لا يعرف الله حقيقة، لكنه أجيز ذبائح الكتابي؛ لأنه يسمي عليها اسم الله تعالى.
4. ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾: كانوا يضربون بالعصي حتى إذا ماتت أكلوها، ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾: كانت تردى في بئر أو من جبل؛ فتموت، ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾: كان الكبشان يتناطحان؛ فيموت أحدهما، فيأكلونه، ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾: كان أهل الجاهلية إذا قتل السبع شيئًا من هذا وأكل منه، أكلوا ما بقي؛ فقال الله تعالى: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾
5. ثم روي عن ابن عباس قال: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ فما أَدْرَكْتَ من هذا كُلِّه يتحرك له الذنَبُ، أو يَطْرف له العينُ ـ فاذبحْ، واذكر اسم الله عليه؛ فهو حلال، وروي عن عليٍّ قال إذا طرفت بعينها، أو ركضت برجلها أو حركت ذنبها ـ فهي ذكية، وكذلك روي عن أبي الزبير أنه سمع عبيد بن عمير يقول كذلك، وكانه روي ـ مرفوعًا ـ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كذلك.
6. وهذا إذا خنقها أو أوقذها ـ يغمى عليها، فإذا ذبحت، فحركت ذنبها، أو طرفت عينها، أو ركضت برجلها ـ أفاقت؛ فاستدل بذلك على حياتها، وليس هذا كشاة ينزع الذئب أو السبع ما في بطنها، وصارت بحال لا تتحامل، إنها وإن تحركت أو طرفت بعينها فإنها لا تؤكل، وأصله: أن كل ما لو قطع العروق فتركت فماتت، تكون ميتة، فإذا أدركها في تلك الحال فذكاها، كانت ذكية، وكل ما لو صار بحال لو ماتت كانت ذكية، فإذا أدركه في تلك الحال فذكاه، كانت ميتة.
7. ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾: الممتنعة عن الذبح، في المذبح، إذا ذبح من غير المذبح يجوز أكله، وروي عن رافع بن خديج قال أصبنا إبلا وغنمًا، فَنَدَّ منها بعير؛ فرماه رجل بسهم؛ فحبسه؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن لهذه الإبل أوابد كآوابد الوحش، فإذا كان غلبكم شيء منها، فاصنعوا به هكذا)، وعن ابن عباس أنه قال ـ في البعير يتردى في البئر ـ إذا لم يُقْدَرْ على منحره؛ فهو بمنزلة الصيد ينحره من حيث أدرك، واسأل علي بن أبي طالب عن بعير تردى في بئر، فصار أعلاه أسفله؛ فقال: قطعوه أعضاء وكلوه، وعن ابن عمر كذلك روي أنه سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقيل: هل تكون الذكاة إلا في الحلق واللبَّة؛ فقال: (أما إنها لو طعنت في فخذها، أجزى عنك)
8. وَإِذَا ذكي بِغَيرِ السكين من نحْوِ المروة والقصبة مما يقطع ـ يجوز، روي أن عدي بن حاتم قال يا رسول الله، أُرْسِلُ كلبي فيأخذ الصيد، وليس معي ما أذكيه به؛ فأذبحه بالمروة أو القصبة؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:(أمر الدم بما شئت، واذكر اسم الله عليه)، وكذلك روي عن علي أبن أبي طالب، وروي أن رجلًا أشاط دم جزور بجدل؛ فسأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (إذا أنهرت الدم فكل)، وعن حذيفة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اذبح بكل ما أفرى الأوداج وأهرق الدم ما خلا السِّنَّ والظُّفُرَ)، وإلى هذا يذهب أصحابنا (2) في ذلك، ويرون كل ما أنْهرَ الدم: من حجر، أو مروة، أو نحو ذلك ـ مذكى ويؤكل، ويحملون قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إلا السن والظفر) على أنهما إذا كانا غير منزوعين؛ لأن ذلك خنق، وليس بذبح؛ يفسر ذلك قول ابن عباس حيث قال إن ذلك خنق، وفي الخبر بيان؛ لأنه قال: (كل ما أنهر الدم وأفرى الأوداج، ما خلا السن والظفر؛ فإنهما مدى الحبشة)، وهم إنما كانوا يذبحون بسن أو ظفر غير منزوعة.
9. ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾، أي: للنصب، قيل: كانوا يذبحون للأوثان والأصنام التي يعبدونها؛ يتقربون بذلك إليها؛ كما كان أهل الإسلام يتقربون بالذبائح يذبحونها إلى الله؛ فحرم الله عز وجل ما كانوا يذبحون للنصب ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾؛ لما ذكرنا أن الأمر به خرج مخرج قبول النعمة والشكر له فيما أنعم عليهم من عظيم النعم؛ فإذا أهلوا به لغير الله ـ أي: لغير وجه الله لم يقبلوا نعمه، ووجهوا الشكر إلى غيره؛ فحرم لذلك.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٤٦.
(2) يقصد الحنفية
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾:
أ. أما ما أهل به لغير الله: فهو ما ذكر عليه عند الذبح غير ذكر الله عز وجل.
ب. والمنخنقة: هي الدابة ينشب حلقها بين أعواد أو في حبل أو غير ذلك مما ينخنق به فيموت.
ج. والموقوذة: هي التي تُرمى على موقذتها، والموقذة: هي أصل الأذن، وهي أحد المقاتل، أو تضرب أيضاً فتموت.
د. وأما المتردية: فهي التي تردى من رأس الجبل، أو من بعض الجدر أو في البير فلا يلحق ذكاتها.
هـ. وأما النطيحة: فهي ما نطحته البقرة أو الشاة منهن فمات.
و. وأما ما أكل السبع: فهو الدابة يقتلها السبع ولا تلحق ذكاتها.
2. فحرم الله ذلك كله إلا ما لحق فيه الذكاة، وأدرك فيه قبل ذبحه الحياة، فيكون حينئذ حلالاً لجميع الآكلين، وغير محرم على أحد من العالمين، إذا كان الذابح من المقرين بالله الموحدين.
3. ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ أي وما ذبح للنصب وعلى ذكرها، وهي آلهتهم وأصنامهم.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/215.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ وهي كلما خرج روحه من غير ذكاة ﴿وَالدَّمَ﴾ منه وهو الخارج مسفوحاً كان أو غير مسفوح حرام كله ﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ وما خالطه من شحم في حكمه وليس بين الأهلي والوحشي فرق ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ أي ما ذبح لغير الله من الأصنام والأوثان وأصله من استهلال الصبي إذا صاح حين يسقط من بطن أمه ومنه إهلال المحرم بالحج والعمرة قال الشاعر:
çيهل بالغرقد ركبانها... كما الراكب المعتمرé
2. ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ هي التي تنخنق بحبل الصائد وغيره حتى تموت ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ هي التي تضرب بالخشب حتى تموت يقال وقذه يقذه وقذاً إذا ضربه حتى أشفى على الهلاك ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ التي تسقط من رأس جبل أو بئر حتى تموت ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ هي الشاة التي تنطحها أخرى فتموت ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ يعني من المنخنقة وما بعدها، وهذا رويناه عن أمير المؤمنين علي.. ويحتمل أن يكون عائداً إلى أكل السبع ومأكولة السبع التي تحل بالذكاة وهو أن يكون لها عين تطرف أو ذنب يتحرك.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/204.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: أنه كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره.
ب. الثاني: أنه كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير ذكاة.
2. في قوله تعالى: ﴿وَالدَّمَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن الحرام منه ما كان مسفوحاً كقوله تعالى: ﴿أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾
ب. الثاني: أنه كل دم مسفوح وغير مسفوح، إلا ما خصته اسنة من الكبد والطحال، فعلى القول
الأول لا يحرم السمك، وعلى الثاني يحرم.
3. في قوله تعالى: ﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن التحريم يختص بلحم الخنزير دون شحمه، وهذا قول داوود
ب. الثاني: أنه يعم اللحم وما خالطه من شحم وغيره، وهو قول الجمهور، ولا فرق بين الأهلي منه والوحشي.
4. ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ يعني ما ذبح ليغر الله من الأصنام والأوثان، أصله من استهلال الصبي إذا صاح حين يسقط من بطن أمه، ومنه أهلال المُحْرِم بالحج والعمرة، قال ابن أحمر:
çيهل بالفرقد ركبانها … كما يهل الراكب المعتمرé
5. في قوله تعالى: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها تخنق بحبل الصائد وغيره حتى تموت، وهو قول السدي، والضحاك.
ب. الثاني: أنها التي توثق، فيقتلها خناقها.
6. ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ هي التي تضرب بالخشب حتى تموت، يقال: (وقذتها أقذها وقذاً، وأوقذها أيقاذاً، إذا أثخنتها ضرباً)، ومنه قول الفرزدق:
çشغارة تقذ الفصيل برجلها … فطَّارة لقوادم الأبكارé
7. ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ هي التي تسقط من رأس جبل، أو بئر حتى تموت، ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ هي الشاة التي تنطحها أخرى حتى تموت.
8. في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: يعنى من المنخنقة وما بعدها، وهو قول علي، وابن عباس، وقتادة، والحسن، والجمهور.
ب. الثاني: أنه عائد إلى ما أكل السبع خاصة، وهو محكي عن الظاهرية.
9. وفى مأكولة السبع التي تحل بالذكاة قولان:
أ. أحدهما: أن تكون لها عين تطرف أو ذنب يتحرك.
ب. الثاني: أن تكون فيها حركة قوية لا كحركة المذبوح، وهو قول الشافعي، ومالك.
__________
(1) تفسير الماوردي: ٢/١٠.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين الله تعالى في هذه الآية ما استثناه في قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ فهذا مما تلاه علينا فقال مخاطباً للمكلفين: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ وأصله الميتة مشدد غير انه خفف، ولو قرئ على الأصل كان جائزاً إلا انه لم يقرأ به أحد ها هنا إلا أبا جعفر المدني يقال: ميت بمعنى واحد.
أ. وقال بعضهم الميت لما لم يمت والميت لما قد مات وهذا ليس بشيء لأن ميت يصلح لما قد مات ولما سيموت، قال الله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ وقال الشاعر في الجمع بين اللغتين:
çليس من مات فاستراح بميت...انما الميت ميت الأحياءé
فجعل الميت مخففاً من الميت.
ب. وقال بعضهم: الميتة كلما له نفسٌ سائلة من دواب البر، وطيره مما أباح الله أكلها أهليها ووحشيها فارقتها روحها بغير تذكية، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم انه سمى الجراد والسمك ميتاً، فقال: ميتتان مباحان: الجراد، والسم.
2. ﴿وَالدَّمُ﴾ تقديره، وحرم عليكم الدم، وقيل: إنهم كانوا يجعلون في المباعر يشوونها ويأكلونها، فاعلم الله تعالى ان الدم المسفوح أي المصوب حرام، فأما المتلطخ، باللحم، فهو كاللحم، وما كان منه كاللحم مثل الكبد فهو مباح، وأما الطحال، فهو محرم عندنا (2)، وقد روي كراهته عن علي عليه السلام، وابن مسعود وأصحابهما وعند جميع الفقهاء أنه مباح، وإنما شرطنا في الدم المحرم ما كان مسفوحا، لأنه تعالى بين ذلك في آية اخرى فقال: ﴿أو دَمًا مَسْفُوحًا﴾
3. ﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ معناه وحرم عليكم لحم الخنزير أهليه وبريه، فالميتة ولآدم مخرجهما في الظاهر مخرج العموم، والمراد بهما الخصوص، ولحم الخنزير على ظاهره في العموم، وكذلك كل ما كان من الخنزير حرام كلحمه من الشحم والجلد، وغيره ذلك.
4. ﴿وَمَا أهل لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ موضع ما رفع وتقديره وحرم عليكم ما أهل لغير الله به، ومعنى أهل لغير الله به ما ذبح للأصنام والأوثان أي ذكر اسم غير الله عليه، لأن الإهلال رفع الصوت بالشيء ومنه استهلال الصبي وهو صياحه إذا سقط من بطن امه، ومنه إهلال المحرم بالحج أو العمرة: إذا لبى به، قال ابن احمر:
çيهل بالفر قد ركباننا...كما يهل الراكب المعتمرé
فما تقرب به من الذبح لغير الله أو ذكر عليه غير اسمه حرام، وكل ما حرم اكله مما عددناه يحرم بيعه وملكه، والتصرف فيه.
5. والخنزير يقع على الذكر والأنثى.
6. وفي الآية دلالة على أن ذبائح من خالف الإسلام، لا يجوز اكله، لأنهم يذكرون عليه اسم غير الله لأنهم يعنون بذلك من ابد شرع موسى، أو اتخذ عيسى ابناً، وكذب محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وذلك غير الله، فيجب أن لا يجوز أكل ذبيحته، فأما من اظهر الإسلام، ودان بالتجسيم، والصورة وقال بالجبر والتشبيه أو خالف الحق، فعندنا لا يجوز أكل ذبيحته، فأما الصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين وموارثته، فانه يجري عليه، لأن هذه الأحكام تابعة في الشرع لإظهار الشهادتين، واما مناكحته فلا تجوز عندنا، وقال البلخي حاكياً عن قوم: إنه لا يجوز أجراء شيء من ذلك عليهم، وحكى عن آخرين أنه يجري جميع ذلك عليهم، لأنها تجري على من اظهر الشهادتين دون المؤمنين على الحقيقة، وكذلك أجريت على المجانين، والأطفال.
7. فأما التسمية على الذبيحة، فعندنا واجبة من تركها معتمداً، لا يجوز كل ذبيحته، وان تركها ناسيا، لم يكن به بأس، وكذلك إن ترك استقبال القبلة متعمداً لم يحل أكل ذبيحته، وان تركه ناسياً، لم يحرم.. وفي ذلك خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف.
8. ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾:
أ. قال السدي: هي التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق وتموت.
ب. وقال الضحاك: هي التي تخنق وتموت.
ج. وقال قتادة: هي التي تموت في خناقها.
د. وقال ابن عباس: هي التي تختنق، فتموت.
هـ. وحكي عن قتادة ان أهل الجاهلية كانوا يخنقونها، ثم يأكلونها.
و. والاولى حمل الآية على عمومها في جميع ذلك وهي التي تختنق حتى تموت، سواء كان في وثاقها أو بإدخال رأسها في موضع لا تقدر على التخلص أو غير ذلك، لأن الله تعالى وصفها بأنها المنخنقة، ولو كان الامر على ما حكي عن قتادة، لقال: (والمخنوقة)
9. ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ يعني التي تضرب حتى تموت: يقال: وقذتها أقذها وقذاً وأوقذها يوقذها إيقاذاً: إذا أثخنتها ضرباً، وقال الفرزدق:
çشفارة تقذ الفصيل برجلها...فطارة لقوادم الأبكارé
وهو قول ابن عباس، وقتادة والضحاك والسدي.
10. ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ يعني التي تقع من جبل، أو تقع في بئر أو من مكان عالٍ، فتموت، وهو قول ابن عباس، وقتادة والسدي، والضحاك، ومتى وقع في بئر ولا يقدر على موضع ذكاته، جاز أن يطعن ويضرب بالسكين في غير المذبح حتى يبرد، ثم يؤكل.
11. ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ يعني التي تنطح أو تنطح، فتموت والنطيحة بمعنى المنطوحة، فنقل من مفعول إلى فعيل، سؤال وإشكال: كيف تثبت فيها الهاء، وفعيل إذا كان بمعنى مفعول مثل لحية دهين، وعين كحيل وكف خضيب، بلا هاء التأنيث في شيء من ذلك؟ والجواب: اختلف في ذلك:
أ. فقال بعض البصريين: اثبت فيها الهاء أعني في النطيحة، لأنها جعلت كالاسم، مثل الطويلة والظريفة فوجه، هذا تأويل النطيحة الي معنى الناطحة، ويكون المعنى حرمت عليكم الناطحة التي تموت من نطاحها.
ب. وقال بعض الكوفيين: إنما يحذف الهاء من فعلية بمعنى مفعولة إذا كانت صفة لاسم قد تقدمها، مثل كف خضيب، وعين كحيل، فأما إذا حذف الكف والعين والاسم الذي يكون فقيل نعتاً له واجتزوا بفعيل أثبتوا فيه هاء التأنيث، ليعلم بثبوتها فيه أنه صفة للمؤنث دون المذكر فيقول: رأينا كحيلة وخضيبة واكيلة السبع، فلذلك دخلت الهاء في النطيحة، لأنها صفة المؤنث.
ج. والقول بأن النطيحة بمعنى المنطوحة هو قول اكثر المفسرين، ابن عباس، وابن ميسرة والضحاك، والسدي وقتادة، لأنهم اجمعوا على تحريم الناطحة والمنطوحة إذا ماتاً.
12. ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ موضع (ما) رفع وتقديره وحرم عليكم ما أكل السبع بمعنى ما قتله السبع، وهو قول ابن عباس، والضحاك وقتادة، وهو فريسة السبع.
13. ﴿إلا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ معناه إلا ما أدركتم ذكاته، فذكيتموه من هذه الأشياء التي وصفها، وموضع (ما) نصب بالاستثناء، واختلفوا في الاستثناء إلى ماذا يرجع:
أ. فقال قوم: يرجع إلى جميع ما تقدم ذكره من قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أهل لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ إلا ما لا يقبل الذكاة من الخنزير والدم، وهو الأقوى، ذهب إليه علي عليه السلام وابن عباس قال: وهو أن تدركه تتحرك أذنه أو ذنبه، أو تطرف عينه، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام وبه قال الحسن وقتادة وإبراهيم وطاووس وعبيد بن عمير والضحاك، وابن زيد.
ب. وقال آخرون: هو استثناء من التحريم، لا من المحرمات، لأن الميتة لا ذكاة لها، ولا الخنزير قالوا: والمعنى حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما ذكر إلا ما ذكيتم مما أحله الله لكم بالتذكية، فانه حلال لكم، ذهب إليه مالك وجماعة من أهل المدينة، والجبائي، وسئل مالك من الشاة يخرق جوفها السبع حتى يخرج أمعاءها فقال لا أرى ان تذكى ولا يؤكل أي شيء يذكى منها، وقال كثير من الفقهاء إنه يراعي أن يلحق فيه حياة مستقرة، فيذكى ويجوز أن يؤكل وما يعلم أنه لا حياة فيه مستقرة، فلا يجوز بحال، واختار الطبري الأقل، وقال: كل ما أدراك ذكاته مما ذكر من طير أو بهيمة قبل خروج نفسه ومفارقة روحه جسده، فحلال اكله إذا كان مما أحله الله لعباده واختار البلخي، والجبائي الأول.
14. سؤال وإشكال: ما وجه تكرير قول: ﴿وَمَا أهل لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ وجميع ما عدد تحريمه في هذه الآية وقد افتتح الآية بقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ والميتة تعم جميع ذلك وان اختلفت أسباب موته من خنق أو ترد أو نطح أو إهلال لغير الله به أو أكيل سبع، وإنما يكون لذلك معنى على قول من يقول: إنها، وان كانت فيها حياة إذا كانت غير مستقرة، فلا يجوز أكلها، والجواب: الفائدة في ذلك ان الذين خوطبوا بذلك لم يكونوا يعدون الميت إلا ما مات حتف انفه من دون شيء من هذه الأسباب، فأعلمهم الله ان حكم الجميع واحد، وان وجه الاستباحة هو التذكية المشروعة، وقال السدي إن ناساً من العرب كانوا يأكلون جميع ذلك، ولا يعدونه ميتاً، انما يعدون الميت الذي يموت من الوجع.
15. والتذكية: هو فري الأوداج والحلقوم إذا كانت فيه حياة، ولا يكون بحكم الميت، واصل الذكاء في اللغة تمام الشيء فمن ذلك الذكاء في السن، والفهم وهو تمام السن، قال الخليل: الذكاء أن تأتي في السن على قروحه، وهو سن في ذات الحافر، هي البزولة في ذات الخف، وهي الصلوغه في ذات الظلف، وذلك تمام استكمال القوة، قال الشاعر:
çيفضله إذا اجتهدا عليها...تمام السن منه والذكاءé
وقيل جرى المذكيات غلاب أي جرى المسار التي قد أسنت ومعنى تمام السن النهاية في الشباب، فإذا نقص عن ذلك أو زاد، فلا يقال له الذكاء، والذكاء في الفهم أن يكون فهما تاماً سريع القبول وذكيت النار إنما هو من هذا تأويله أتممت اشعالها فالمعنى على هذا ما ذكيتم أي ما أدركتم ذبحه على التمام.
16. ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ فالنصب: الحجارة التي كانوا يعبدونها وهي الأوثان، واحدها نصب، ويجوز أن يكون واحداً، وجمعه أنصاب، (وما) موضعه رفع عطفاً على ما تقدم، وتقديره وحرم عليكم ما ذبح على النصب، وبه قال مجاهد وابن جريج، وقتادة، وقال ابن جريج: النصب ليست أصناما الصنم يصور وينقش، وهذه حجارة تنصب ثلاثمائة وستون حجراً، ومنهم من يقول ثلاثمائة منها لخزاعة، فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من الميت، وشرحوا اللحم، وجعلوه على الحجارة، فقال المسلمون: كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم فنحن أحق أن نعظمه، فأنزل الله ﴿لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا﴾ الآية.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/429.
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. التحريم: أصله المنع، وقد بيناه.
ب. الموت: خلاف الحياة، ومَيْت ومَيِّت بالتخفيف والتشديد لغتان، والميت كل حي فارقته الحياة بغير تذكية، وقيل: إنه معنى يضاد الحياة، وقيل: ليس هو بمعنى وإنما هو إبطال الحياة بغير تذكية، قال القاضي: وقد دل السمع على أنه معني في قوله تعالى: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ وهو مقدور للقديم تعالى فقط.
ج. الإهلال: رفع الصوت، يقال: أهل بالحج إذا رفع صوته به، واستهل الصبي صاح حين سقط من بطن أمه، قال ابن أحمر:
çيَهِلَّ بالفَرقدِ رُكْبَانُهَا...كَمَا يَهِلُّ الرَّاكِبُ المعتمِرْé
والهلال سمي هلالا لأنه يرفع الصوت عنده، وقيل: لأنه أول ما يُرَى.
د. ﴿الْمُنْخَنِقَةُ﴾ يقال: خنقه خنقًا: إذا ضغطه، والمِخْنَقَة: هي القلادة، والخانِقُ: شِعْبٌ ضيق، والمنخنقة: أن تخنق بحبل حتى يموت.
هـ. الوقذ: شدة الضرب، وشاة موقوذة: قتلت بالخشب، وَقَذَهُ يَقِذُهُ وقذًا، وهو وقيذ إذا ضربه حتى هلك، قال الفرزدق:
çشغَّارَةٍ تَقِذُ الفَصيلَ بِرِجلِها...فَطّارَةٍ لِقَوادِمِ الأبَكارِé
و. الردى: أصله الهلاك، والتردي: التهور، يُقال: ردى في البئر وتردى.
ز. النطح معروف، ورجل نطيح مشؤوم، والنطيحة معدولة من المنطوحة.
ح. الذكاة: تمام فري الأوداج، ومنه: ذكيت النار أتممت إشعالها، ومنه: الذكاء: الفطنة، وذكاء الشمس.
ط. ﴿النُّصُبِ﴾ بفتح النون والصاد، وبفتح النون وسكون الصاد، وهو حجر ينصب ويعبد، وهو من الانتصاب، والصنم: ما له صورة، والوثن كالنُّصُب، وقيل: هو واحد وجمعه أنصاب، نحو: عنق وأعناق، وقيل: هو جمع واحده نِصاب كشُهُب وشِهاب، وفي العين نُصُبٌ جماعة النصيبة.
2. لما أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود وبين ما يحل واستثنى المحرمات بَيَّنَ تفصيل المحرمات، وذكر نعمه علينا بإتمام الدين، فقال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾:
أ. يعني: أكلها والانتفاع بها، والميت ما فارقه الروح مما له دم سائل من غير جناية.
ب. وقيل: ما فارقه الروح من غير جناية، فالسمك والجراد حلالان.
ج. وقيل: إنه مخصوص بالسنة.
3. ﴿وَالدَّمَ﴾ يعني الدم المسفوح، أجمل ههنا، وفصل في قوله: ﴿أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ فالكبد والطحال دمان ليسا بمسفوحين، وهما حلال، وقيل: كانت العرب في الجاهلية يجعلون الدم في الأمعاء ويشوونه ويأكلونه، فحرم ذلك عليهم.
4. ﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ فحرام لحمه وشحمه، وجميع أجزائه، وهل يدخل فيه شعره، وعظمه، قال بعضهم: نعم، وقال بعضهم: لا، والظاهر لا يتناول الشعر إلا أن يقال: حرم بدليل آخر.
5. ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ يعني ذكر عليه غير اسم الله من الأوثان التي كان أهل الجاهلية يعبدونها، عن الأصم وغيره.
6. ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ التي تختنق بحبل الصائد وغيره حتى تموت، عن الحسن والضحاك، وقتادة والسدي، قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها.
7. ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ المضروبة بخشب أو غيره حتى تموت، عن ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك، قال قتادة: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصا، حتى إذا ماتت أكلوها.
8. ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ الساقطة من رأس جبل أو في بئر فتموت، عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي.
9. ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾:
أ. المنطوحة حتى تموت، عن الحسن وقتادة والضحاك والسدي.. وهو أظهر.
ب. وقيل: هي الناطحة حتى تموت (فَعِيل) بمعنى (فاعل)، يعني مات من نطاحه
10. ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ يعني ما أكل السبع غير المعلَّم حتى تموت من أكله قبل أن يدرك ذكاته، تقديره: ما أكل السبع منه فحذف لدلالة الكلام عليه، وكان أهل الجاهلية يأكلون بقية ما أكل السبع، عن قتادة، و﴿مَا﴾ مع ﴿أُكُلٍ﴾ بمنزلة الاسم، فصار كأنه قيل: وأكيلة السبع حرام عليكم.
11. ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ والذكاة قطع في الحلقوم والمريء والودجين:
أ. ذكاته على التمام، فذكيتم يعني ذبحتم من جميع ما تقدم.
ب. وقيل: من أكيل السبع، وسئل الحسن عن ذلك، فقال: ما أدركت ذكاته فذكه، وقيل: كيف يعرف ذلك؟ فقال: إذا طرفت بعينها أو ضربت بذنبها، أو رجليها أو يدها، وروي عن أمير المؤمنين نحو ذلك.
12. ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾:
أ. أي وحرم ما ذبح على النصب وذكر عليه اسم الأوثان.
ب. وقيل: ذبح للأوثان تقربًا لها، واللام و﴿عَلَى﴾ يتعاوران، قال تعالى: ﴿فَسَلَامٌ لَكَ﴾ أي عليك.
ج. وقيل: النصب الأوثان التي ينصبونها، ويعبدونها، عن ابن جريج وقتادة ومجاهد.
د. وقيل: كانوا يقربون ويلطخون أوثانهم بدمائها.
هـ. وقيل: النصب كانت أحجارًا منصوبة حول الكعبة، وروي أن المسلمين قالوا: يا رسول الله كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحق بالتعظيم فنزل ﴿لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا﴾ الآية.
13. سؤال وإشكال: هل يدل على منع البيع وسائر الانتفاع في الخنزير والميتة والدم؟ والجواب:
أ. أما أبو علي فيقول: نعم.
ب. وقال بعضهم: لا تدل، وبينا الخلاف في أن ما علق به التحريم هل هو من باب المجمل أو المبين، وأن أبا الحسن ذكر أنه مجمل، وغيره يقول: ليس بمجمل.
14. سؤال وإشكال: ما حكم الذكاة وما شرائطها؟ والجواب: أن الكلام يقع فيه في أربعة مواضع:
أ. أولها: صفة المذكي، وهو أن يعقل الذكاة، ويكون مسلمًا، واختلفوا في ذكاة أهل الكتاب، واتفقوا أن ذكاة المجوسي والوثني لا تحل، وكذلك سائر الكفار سوى أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، ولا يختلف بين أن يكون رجلاً أو امرأة أو مراهقًا.
ب. ثانيها: صفة الآلة التي يقع بها الذكاة، واختلفوا في السن والظفر المنزوعين إذا جرحا، واختلفوا في السكين المغصوب، والسُّنّة أن يقع بسكين حديدًا، وما يشبهها.
ج. الثالث: صفة المذكَّى، واختلفوا في الجنين أن ذكاته ذكاة أمه أم لا على قولين.
د. الرابع صفة الذكاة: وهو النحر في الإبل والذبح في غيرها، وهو قْطع الحلقوم والمريء والودجين، وتفصيل ذلك في كتب الفقه.
15. تدل الآية الكريمة على:
أ. تحريم ما ذكر وفصل، قال قتادة: إنما خص هذه الأمور بالذكر؛ لأن القوم كانوا يستبيحون ذلك أجمع إما على تفرق في تحليله، أو اجتماع، فبين التحريم، فمن ذلك الميتة:
• قال القاضي: الأولى: في الميتة أنه الذي تبطل حياته من غير جناية وضَرْبٍ، وهو قول أبي علي.. وهو أصح؛ لأنه عطف المنخنقة والموقوذة عليه فدل أنه غيره، وقد بينا ذلك في سورة البقرة
• وقيل: إنه الذي تبطل روحه لا بذكاة.
ب. أن الذكاة تحل ما لولاه لحرم، ولا خلاف فيه.
ج. تحريم ما يسمى عليه غير اسم الله.
16. قراءات ووجوه:
أ. قراءة العامة ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾، وروي عن ابن عباس: وأكيل السبع، وعن ابن مسعود: وأكيلة السبع، وعن الحسن ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ بسكون الباء، وهي لغة، وقال حسان في عتبة بن أبي لهب:
çمَنْ يرجعِ العامَ إلى أهلهِ...ما أكيلُ السَّبعِ بالراجعِé
ب. قراءة العامة ﴿النُّصُبِ﴾ بضم الصاد، وعن الحسن بن صالح بسكون الصاد، وروي عن ابن عمر بفتح النون، وسكون الصاد، وعن الجحدري بفتح النون والصاد جعله اسمًا موحدًا كالجبل والحمل، وجمعه أنصاب كالأحلام والأجبال، وكلها لغات.
17. مسائل لغوية ونحوية:
أ. رفع الميتة، وما عطف عليه لأنه اسم ما لم يسم فاعله، ويجوز فيه النصب على تقدير: حرمت عليكم الميتة.
ب. ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ محل ﴿مَا﴾ رفع عطف على ما تقدم.
18. سؤال وإشكال: في قوله: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ من أي شيء وقع الاستثناء؟ والجواب: فيه أقوال:
أ. الأول: من جميع ما تقدم من قوله: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ إلى قوله: ﴿أَكَلَ السَّبُعُ﴾، عن علي وابن عباس والحسن وقتادة.
ب. الثاني: من أكل السبع خاصة.
ج. الثالث: أنه استثناء منقطع، كأنه قيل: ولكن ما ذكيتم من هذا فهو حلال، وقيل: استثناء من التحريم لا من المحرمات يعني حرم عليكم ما مضى إلا ما ذكيتم فإنه حلال لكم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/190.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. ﴿أُهِلَّ﴾ أصل الاهلال: رفع الصوت بالشيء ومنه استهلال الصبي، وهو صياحه إذا سقط من بطن أمه، ومنه إهلال المحرم بالحج، أو العمرة، إذا لبى به قال ابن أحمر:
çيهل بالفرقد ركباننا... كما يهل الراكب المعتمرé
وسمي الهلال هلالا، لأنه يرفع الصوت عنده.
ب. ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ يقال خنقه خنقا: إذا ضغطه، ومنه المخنقة للقلادة.
ج. الوقذ: شدة الضرب، يقال وقذتها، أقذها، وقذا، وأوقذتها ايقاذا: إذا أثخنتها ضربا، قال الفرزدق:
çشغارة تقذ الفصيل برجلها...فطارة لقوادم الابكارé
د. الردى: الهلاك، والتردي: التهور.
هـ. النطيحة: المنطوحة نقل عن مفعول إلى فعيل، وإنما يثبت فيها الهاء، وإن كان فعيل بمعنى المفعول لا تثبت فيه الهاء، مثل لحية دهين، وعين كحيل، وكف خضيب، لأنها دخلت في حيز الأسماء، وقال بعض الكوفيين: إنما تحذف الهاء من فعيلة، بمعنى مفعولة، إذا كانت صفة لاسم قد تقدمها مثل: كف خضيب، وعين كحيل، فأما إذا حذفت الكف والعين، وما يكون فعيلة نعتا له، واجتزوا بفعيل أثبتوا فيه هاء التأنيث، ليعلم بثبوتها فيه أنها صفة لمؤنث، فيقال: رأينا كحيلة، وخضيبة.
و. التذكية: فري الأوداج والحلقوم، لما كانت فيه حياة، ولا يكون بحكم الميت: وأصل الذكاء في اللغة: تمام الشيء فمن ذلك الذكاء في السن والفم، قال الخليل: الذكاء: أن يأتي في السن على القروحة، وهي في ذات الحافر، وهي البزولة في ذات الخف، وهي الصلوغة في ذات الظلف، وذلك تمام استكمال القوة، قال زهير:
çيفضله إذا اجتهدا عليها... تمام السن منه والذكاءé
وفي المثل: جري المذكيات غلاب أي: جري المسان التي قد أسنت مغالبة، يريد أن المسان يحتمل أن تؤخذ بالغلبة، لفضل قوتها، والصغار لا تحمل على ذلك، وتداري، ويروى غلاء: وهي جمع غلوة أي: هي تمتد امتدادا كما تريد، وليست كالجذع الذي لا علم له، فيخرج في أول شوط، أقصى ما عنده من الحضر، ثم هو مسبوق، ومعنى تمام السن: النهاية في الشباب، فإذا نقص عن ذلك، أو زاد، فلا يقال له الذكاء، والذكاء في الفهم: أن يكون تاما، سريع القبول، وذكيت النار من هذا أي: أتممت إشعالها.
ز. النصب: الحجارة التي كانوا يعبدونها، واحدها نصاب، وجائز أن يكون واحدا، وجمعه أنصاب.
2. بين سبحانه ما استثناه في الآية المتقدمة بقوله إلا ما يتلى عليكم، فقال مخاطبا للمكلفين: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ أي: حرم عليكم أكل الميتة والانتفاع بها، وهو:
أ. كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره، مما أباح الله أكله، أهليهما ووحشيهما، فارقه روحه من غير تذكية.
ب. وقيل الميتة: كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره، بغير تذكية، فقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه سمى الجراد والسمك ميتا، فقال: ميتتان مباحتان الجراد والسمك.
3. ﴿وَالدَّمَ﴾ أي: وحرم عليكم الدم، وكانوا يجعلونه في المباعر، ويشوونه، ويأكلونه، فأعلم الله سبحانه أن الدم المسفوح أي: المصبوب، حرام، فأما المتلطخ باللحم، فإنه كاللحم، وما كان كاللحم مثل الكبد، فهو مباح، وأما الطحال فقد رووا الكراهية فيه، عن علي عليه السلام، وابن مسعود، وأصحابهما وأجمعت الامامية على أنه حرام، وذهب سائر الفقهاء إلى أنه مباح.
4. ﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ وإنما ذكر لحم الخنزير، ليبين أنه حرام بعينه، لا لكونه ميتة، حتى إنه لا يحل تناوله، وإن حصل فيه ما يكون ذكاة لغيره، وفائدة تخصيصه بالتحريم مع مشاركة الكلب إياه في التحريم، حالة وجود الحياة، وعدمها، وكذلك السباع، والمسوخ، وما لا يحل أكله من الحيوانات أن كثيرا من الكفار اعتادوا أكله، وألفوه أكثر مما اعتادوا في غيره.
5. ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾: موضع ﴿مَا﴾ رفع، وتقديره وحرم عليكم ما أهل لغير الله به، وقد ذكرنا معناه في سورة البقرة، وفيه دلالة على أن ذبائح من خالف الاسلام لا يجوز أكله، لأنهم يذكرون عليه اسم غير الله، لأنهم يعنون به من أبد شرع موسى، أو اتحد بعيسى، أو اتخذه ابنا، وذلك غير الله، فأما من أظهر الاسلام، ودان بالتجسيم، والتشبيه، والجبر، وخالف الحق، فعندنا لا يجوز أكل ذبيحته، وفيه خلاف بين الفقهاء.
6. ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾:
أ. وهي التي يدخل رأسها بين شعبتين من شجرة، فتنخنق وتموت، عن السدي.
ب. وقيل: هي التي تخنق بحبل الصائد، فتموت، عن الضحاك، وقتادة.
ج. وقال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يخنقونها فيأكلونها.
7. ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ وهي التي تضرب حتى تموت، عن ابن عباس، وقتادة، والسدي.
8. ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ وهي التي تقع من جبل، أو مكان عال، أو تقع في بئر فتموت، عن ابن عباس، وقتادة، والسدي، ومتى وقع في بئر، ولا يقدر على تذكيته، جاز أن يطعن ويضرب بالسكين في غير المذبح، حتى يبرد، ثم يؤكل.
9. ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ وهي التي ينطحها غيرها، فتموت.
10. ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ أي: وحرم عليكم ما أكله السبع، بمعنى قتله السبع، وهي فريسة السبع، عن ابن عباس، وقتادة، والضحاك.
11. ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾، يعني: إلا ما أدركتم ذكاته فذكيتموه، من هذه الأشياء، وموضع (ما) نصب بالاستثناء وروي عن السيدين الباقر والصادق عليهما السلام: إن أدنى ما يدرك به الذكاة، أن تدركه يتحرك أذنه، أو ذنبه، أو تطرف عينه، وبه قال الحسن، وقتادة، وإبراهيم، وطاووس والضحاك، وابن زيد، واختلف في الاستثناء إلى ماذا يرجع:
أ. فقيل: إلى جميع ما تقدم ذكره من المحرمات، سوى ما لا يقبل الذكاة من الخنزير والدم، عن علي عليه السلام، وابن عباس.
ب. وقيل: هو استثناء من التحريم لا من المحرمات، لان الميتة لا ذكاة لها، ولا الخنزير، فمعناه: حرمت عليكم سائر ما ذكر إلا ما ذكيتم، مما أحله الله لكم بالتذكية، فإنه حلال لكم، عن مالك، وجماعة من أهل المدينة، واختاره الجبائي.
12. سؤال وإشكال: ما وجه التكرار في قوله: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾، مع أنه افتتح الآية ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ والميتة تعم جميع ذلك، وإن اختلفت أسباب الموت، من خنق، أو ترد، أو نطح، أو إهلال لغير الله به، أو أكل سبع؟ والجواب: إن الفائدة في ذلك أنهم كانوا لا يعدون الميتة إلا ما مات حتف أنفه من دون شيء من هذه الأسباب، فأعلمهم الله سبحانه أن حكم الجميع واحد، وأن وجه الاستباحة هو التذكية المشروعة فقط، قال السدي: إن ناسا من العرب كانوا يأكلون جميع ذلك، ولا يعدونه ميتا، إنما يعدون الميت الذي يموت من الوجع.
13. ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾:
أ. يعني الحجارة التي كانوا يعبدونها، وهي الأوثان، عن مجاهد، وقتادة، وابن جريج: يعني وحرم عليكم ما ذبح على النصب، أي على اسم الأوثان.
ب. وقيل: معناه وما ذبح للأوثان تقربا إليها، واللام وعلى متعاقبان، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ بمعنى عليك، وكانوا يقربون ويلطخون أوثانهم بدمائها، قال ابن جريج: ليست النصب أصناما، إنما الأصنام ما تصور وتنقش، بل كانت أحجارا منصوبة حول الكعبة، وكانت ثلاثمائة وستين حجرا، وقيل: كانت ثلاثمائة منها لخزاعة، فكانوا إذا ذبحوا، نضحوا الدم على ما أقبل من البيت، وشرحوا اللحم، وجعلوه على الحجارة، فقال المسلمون: يا رسول الله! كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحق بتعظيمه! فأنزل الله سبحانه ﴿لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا﴾ الآية.
14. روي في الشواذ قراءة ابن عباس (وأكيل السبع)، وعن الحسن ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ بسكون الباء، قال ابن جني: الأكيلة اسم للمأكول، كالنطيحة، والأكيل: للجنس والعموم، يصلح للمذكر والمؤنث، تقول: مررت بشاة أكيل أي: قد أكلها الأسد ونحوه، وتقول: وما لنا طعام إلا الأكيلة أي: الشاة، أو الجزور المعدة للأكل، وإن كانت قد أكلت فهي بلا هاء، فأكيل السبع: ما أكل بعضه السبع، والسبع: تخفيف للسبع، قال حسان في عتبة بن أبي لهب:
çمن يرجع العام إلى أهله... فما أكيل السبع بالراجعé
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/240.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ مفسّر في (البقرة)
2. ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ فقال ابن عباس: هي التي تختنق فتموت، وقال الحسن، وقتادة: (هي التي تختنق بحبل الصّائد وغيره)، والمنخنقة حرام كيف وقع ذلك.
3. قال ابن قتيبة: ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾: التي تضرب حتى توقذ، أي: تشرف على الموت، ثم تترك حتى تموت، وتؤكل بغير ذكاة، ومنه يقال: فلان وقيذ، وقد وقذته العبادة.
4. (المتردّية): الواقعة من جبل أو حائط، أو في بئر، يقال: تردّى: إذا سقط.
5. ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾: التي تنطحها شاة أخرى أو بقرة، (فعيلة) في معنى (مفعولة)
6. ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو مجلز، وابن أبي ليلى: السّبع: بسكون الباء، والمراد: ما افترسه فأكل بعضه.
7. ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ أي: إلا ما لحقتم من هذا كلّه وبه حياة، فذبحتموه، فأمّا الاستثناء، ففيه قولان:
أ. أحدهما: أنه يرجع إلى المذكور من عند قوله تعالى: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾
ب. الثاني: أنه يرجع إلى ما أكل السّبع خاصة، والعلماء على الأوّل.
8. الذّكاة: قال الزجّاج: أصل الذّكاة في اللغة: تمام الشّيء فمنه الذّكاء في السّن، وهو تمام السّن، قال الخليل: الذّكاء: أن تأتي على قروحه سنة، وذلك تمام استكمال القوّة، ومنه الذّكاء في الفهم، وهو أن يكون فهما تامّا، سريع القبول، وذكّيت النار، أي: أتممت إشعالها، وقد روي عن عليّ، وابن عباس، والحسن، وقتادة أنهم قالوا: ما أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف؛ أو ذنب يتحرّك، فأكله حلال، قال القاضي أبو يعلى: ومذهب أصحابنا (2) أنه إن كان يعيش مع ما به، حلّ بالذّبح، فإن كان لا يعيش مع ما به، نظرت، فإن لم تكن حياته مستقرّة، وإنما حركته حركة المذبوح، مثل أن شقّ جوفه، وأبينت حشوته، فانفصلت عنه، لم يحلّ أكله، وإن كانت حياته مستقرّة يعيش اليوم واليومين، مثل أن يشقّ جوفه، ولم تقطع الأمعاء، حلّ أكله، ومن الناس من يقول: إذا كانت فيه حياة في الجملة أبيح بالذّكاة، والصحيح ما ذكرنا، لأنه إذا لم تكن فيه حياة مستقرّة، فهو في حكم الميت، ألا ترى أنّ رجلا لو قطع حشوة آدميّ، ثم ضرب عنقه آخر، فالأوّل هو القاتل، لأن الحياة لا تبقى مع الفعل الأول.
9. فيما يجب قطعه في الذّكاة روايتان:
أ. إحداهما: أنه الحلقوم والمريء والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء، فإن نقص من ذلك شيئا لم يؤكل، هذا ظاهر كلام أحمد في رواية عبد الله.
ب. الثانية: يجزئ قطع الحلقوم والمريء، وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل، وبه قال الشّافعيّ، وقال أبو حنيفة: يجزئ قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين، وقال مالك: يجزئ قطع الأوداج، وإن لم يقطع الحلقوم، وقال الزجّاج: الحلقوم بعد الفم، وهو موضع النّفس، وفيه شعب تتشعّب منه في الرّئة، والمريء: مجرى الطّعام، والودجان: عرقان يقطعهما الذّابح، فأما الآلة التي تجوز بها الذّكاة، فهي كل ما أنهر الدّم، وفرى الأوداج سوى السّنّ والظفر، سواء كانا منزوعين أو غير منزوعين، وأجاز أبو حنيفة الذّكاة بالمنزوعين، فأما البعير إذا توحّش أو تردّى في بئر، فهو بمنزلة الصّيد ذكاته عقره، وقال مالك: ذكاته ذكاة المقدور عليه، فإن رمى صيدا فأبان بعضه وفيه حياة مستقرّة فذكاه، أو تركه حتى مات جاز أكله، وفي أكل ما بان منه روايتان.
10. ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ في النّصب قولان:
أ. أحدهما: أنها أصنام تنصب، فتعبد من دون الله، قاله ابن عباس، والفرّاء، والزجّاج، فعلى هذا القول يكون المعنى، وما ذبح على اسم النّصب، وقيل لأجلها، فتكون (على) بمعنى (اللام)، وهما يتعاقبان في الكلام، كقوله تعالى: ﴿فَسَلَامٌ لَكَ﴾ أي: عليك، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾
ب. الثاني: أنها حجارة كانوا يذبحون عليها، ويشرّحون اللحم عليها ويعظّمونها، وهو قول ابن جريج.
11. قرأ الحسن، وخارجة عن أبي عمرو: على النّصب، بفتح النون، وسكون الصاد، قال ابن قتيبة، يقال: نصب ونصب ونصب، وجمعه أنصاب.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/511.
(2) يقصد الحنابلة
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال الله تعالى في أول السورة ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ [المائدة: 1] ثم ذكر فيه استثناء أشياء تتلى عليكم، فههنا ذكر الله تعالى تلك الصور المستثناة من ذلك العموم، وهي أحد عشر نوعا:
أ. الأول: الميتة: وكانوا يقولون: إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله، وتحريم الميتة موافق لما في العقول، لأن الدم جوهر لطيف جدا، فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه وتعفن وفسد وحصل من أكله مضار عظيمة.
ب. الثاني: الدم: قال صاحب (الكشاف) كانوا يملؤون المعي من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف، فالله تعالى حرم ذلك عليهم.
ج. الثالث: لحم الخنزير، قال أهل العلم: الغذاء يصير جزءا من جوهر المغتذي، فلا بدّ أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلا في الغذاء، والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المشتهيات، فحرم أكله على الإنسان لئلا يتكيف بتلك الكيفية، وأما الشاة فإنها حيوان في غاية السلامة، فكأنها ذات عارية عن جميع الأخلاق، فلذلك لا يحصل للإنسان بسبب أكل لحمها كيفية أجنبية عن أحوال الإنسان.
د. الرابع: ما أهل لغير الله به، والإهلال رفع الصوت، ومنه يقال أهل فلان بالحج إذا لبى به، ومنه استهل الصبي وهو صراخه إذا ولد، وكانوا يقولون عند الذبح: باسم اللّات والعزى فحرم الله تعالى ذلك.
هـ. الخامس: المنخنقة، يقال: خنقه فاختنق، والخنق والاختناق انعصار الحلق، والمنخنقة على وجوه: منها أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها، ومنها ما يخنق بحبل الصائد، ومنها ما يدخل رأسها بين عودين في شجرة فتختنق فتموت، وبالجملة فبأي وجه اختنقت فهي حرام، وهذه المنخنقة من جنس الميتة، لأنها لما ماتت وما سال دمها كانت كالميت حتف أنفه.
و. السادس: الموقوذة، وهي التي ضربت إلى أن ماتت يقال: وقذها وأوقذها إذا ضربها إلى أن ماتت، ويدخل في الموقوذة ما رمي بالبندق فمات، وهي أيضا في معنى الميتة وفي معنى المنخنقة فإنها ماتت ولم يسل دمها.
ز. السابع: المتردية، والمتردي هو الواقع في الردى وهو الهلاك، قال تعالى: ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾ [الليل: 11] أي وقع في النار، ويقال: فلان تردى من السطح، فالمتردية هي التي تسقط من جبل أو موضع مشرف فتموت، وهذا أيضا من الميتة لأنها ماتت وما سال منها الدم، ويدخل فيه ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم أنه مات بالتردي أو بالسهم.
ح. الثامن: النطيحة، وهي المنطوحة إلى أن ماتت، وذلك مثل شاتين تناطحا إلى أن ماتا أو مات أحدهما، وهذا أيضا داخل في الميتة لأنها ماتت من غير سيلان الدم، ودخول الهاء في هذه الكلمات الأربع، أعني: المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، إنما كان لأنها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة، كأنه قيل: حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة، وخصت الشاة لأنها من أعم ما يأكله الناس، والكلام يخرج على الأعم الأغلب ويكون المراد هو الكل، سؤال وإشكال: لم أثبت الهاء في النطيحة مع أنها كانت في الأصل منطوحة فعدل بها إلى النطيحة، وفي مثل هذا الموضع تكون الهاء محذوفة، كقولهم: كف خضيب، ولحية دهين، وعين كحيل؟ والجواب: إنما تحذف الهاء من الفعلية إذا كانت صفة لموصوف يتقدمها، فإذا لم يذكر الموصوف وذكرت الصفة وضعتها موضع الموصوف، تقول: رأيت قتيلة بني فلان بالهاء لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف أرجل هو أو امرأة، فعلى هذا إنما دخلت الهاء في النطيحة لأنها صفة لمؤنث غير مذكور وهو الشاة.
ط. التاسع: قوله: ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ السبع: اسم يقع على ما له ناب ويعدو على الإنسان والدواب ويفترسها، مثل الأسد وما دونه، ويجوز التخفيف في سبع فيقال: سبع وسبعة، وفي رواية عن أبي عمرو: السبع بسكون الباء، وقرأ ابن عباس: وأكيل السبع، قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئا فقتله وأكل بعضه أكلوا ما بقي، فحرمه الله تعالى، وفي الآية محذوف تقديره: وما أكل منه السبع لأن ما أكله السبع فقد نفد ولا حكم له، وإنما الحكم للباقي.
ي. العاشر: من المحرمات المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ والنصب يحتمل أن يكون جمعا وأن يكون واحدا، فإن قلنا إنه جمع ففي واحده ثلاثة أوجه: الأول: أن واحده نصاب، فقولنا: نصاب ونصب كقولنا: حمار وحمر، والثاني: أن واحده النصب، فقولنا نصب ونصب كقولنا: سقف وسقف ورهن ورهن، وهو قول ابن الأنباري، والثالث: أن واحده النصبة، قال الليث: النصب جمع النصبة، وهي علامة تنصب للقوم، أما إن قلنا: أن النصب واحد فجمعه أنصاب، فقولنا: نصب وأنصاب كقولنا طنب وأطناب، قال الأزهري: وقد جعل الأعشى النصب واحدا فقال:
çولا النصب المنصوب لا تنسكنه...لعاقبة والله ربك فاعبداé
ك. النوع الحادي عشر: قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ (2)
2. اختلف في معنى النصب:
أ. من الناس من قال النصب هي الأوثان، وهذا بعيد لأن هذا معطوف على قوله: ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ وذلك هو الذبح على اسم الأوثان، ومن حق المعطوف أن يكون مغايرا للمعطوف عليه.
ب. قال ابن جريج: النصب ليس بأصنام فإن الأصنام أحجار مصورة منقوشة، وهذه النصب أحجار كانوا ينصبونها حول الكعبة، وكانوا يذبحون عندها للأصنام، وكانوا يلطخونها بتلك الدماء ويضعون اللحوم عليها، فقال المسلمون: يا رسول الله كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحق أن نعظمه، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم ينكره، فأنزل الله تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا﴾ [الحج: 37]
3. (ما) في قوله: ﴿وَمَا ذُبِحَ﴾ في محل الرفع لأنه عطف على قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾
4. في قوله تعالى: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: وما ذبح على اعتقاد تعظيم النصب.
ب. الثاني: وما ذبح للنصب، و(اللام) و(على) يتعاقبان، قال تعالى: ﴿فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ [الواقعة: 91] أي فسلام عليك منهم، وقال: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: 7] أي فعليها.
5. ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ أصل الذكاء في اللغة إتمام الشيء ومنه الذكاء في الفهم وهو تمامه، ومنه الذكاء في السن، وقيل: جري المذكيات غلاب، أي جري المسنات التي قد أسنت، وتأويل تمام السن النهاية في الشباب، فإذا نقص عن ذلك أو زاد فلا يقال له الذكاء في السن، ويقال ذكيت النار أي أتممت إشعالها، والاستثناء المذكور في قوله: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ فيه أقوال:
أ. الأول: أنه استثناء من جميع ما تقدم من قوله: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ وهو قول علي وابن عباس والحسن وقتادة، فعلى هذا أنك إن أدركت ذكاته بأن وجدت له عينا تطرف أو ذنبا يتحرك أو رجلا تركض فاذبح فإنه حلال، فإنه لولا بقاء الحياة فيه لما حصلت هذه الأحوال، فلما وجدتها مع هذه الأحوال دل على أن الحياة بتمامها حاصلة فيه.
ب. الثاني: أن هذا الاستثناء مختص بقوله: ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾
ج. الثالث: أنه استثناء منقطع كأنه قيل: لكن ما ذكيتم من غير هذا فهو حلال.
د. الرابع: أنه استثناء من التحريم لا من المحرمات، يعني حرم عليكم ما مضى إلا ما ذكيتم فإنه لكم حلال، وعلى هذا التقدير يكون الاستثناء منقطعا أيضا.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/284.
(2) نقلنا ما قاله فيها في المقطع التالي
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ تقدم القول فيه في البقرة.
2. ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ هي التي تموت خنقا، وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمي أو اتفق لها ذلك في حبل أو بين عودين أو نحوه، وذكر قتادة: أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها، وذكر نحوه ابن عباس.
3. ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ الموقوذة هي التي ترمى أو تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية، عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي، يقال منه: وقذه يقده وقذا وهو وقيذ، والوقذ شدة الضرب، وفلان وقيذ أي مثخن ضربا، قال قتادة: كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونه، وقال الضحاك: كانوا يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلوها، ومنه المقتولة بقوس البندق، وقال الفرزدق:
çشغارة تقذ الفصيل برجلها...فطارة لقوادم الأبكارé
وفي صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال: قيل: يا رسول الله فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب، فقال: (إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله) وفي رواية (فإنه وقيذ)، قال أبو عمر: اختلف العلماء قديما وحديثا في الصيد بالبندق والحجر والمعراض، فمن ذهب إلى أنه وقيذ لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته، على ما روي عن ابن عمر، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي، وخالفهم الشاميون في ذلك، قال الأوزاعي في المعراض، كله خزق أو لم يخزق، فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به بأسا، قال أبو عمر: هكذا ذكر الأوزاعي عن عبد الله بن عمر، والمعروف عن ابن عمر ما ذكره مالك عن نافع عنه، والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة لمن لجأ إليه حديث عدي بن حاتم وفيه (وما أصاب بعرضه فلا تأكله فإنما هو وقيذ)
4. ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ المتردية هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت، كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه، وهي متفعلة من الردى وهو الهلاك، وسواء تردت بنفسها أو رداها غيرها، وإذا أصاب السهم الصيد فتردى من جبل إلى الأرض حرم أيضا، لأنه ربما مات بالصدمة والتردي لا بالسهم، ومنه الحديث (وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك) أخرجه مسلم، وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحوه دون سبب يعرف، فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة، فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة على ما يأتي بيانها، وبقيت هذه كلها ميتة، وهذا كله من المحكم المتفق عليه، وكذلك النطيحة وأكيلة السبع التي فات نفسها بالنطح والأكل.
5. ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ النطيحة فعيلة بمعنى مفعولة، وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت قبل أن تذكى، وتأول قوم النطيحة بمعنى الناطحة، لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان، وقيل: نطيحة ولم يقل نطيح، وحق فعيل لا يذكر فيه الهاء كما يقال: كف خضيب ولحية دهين، لكن ذكر الهاء هاهنا لأن الهاء إنما تحذف من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف منطوق به، يقال: شاة نطيح وامرأة قتيل، فإن لم تذكر الموصوف أثبت الهاء فتقول: رأيت قتيلة بني فلان وهذه نطيحة الغنم، لأنك لو لم تذكر الهاء فقلت: رأيت قتيل بني فلان لم يعرف أرجل هو أم امرأة، وقرأ أبو ميسرة (والمنطوحة)
6. ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ يريد كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان، كالأسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوها، هذه كلها سباع، يقال: سبع فلان فلانا أي عضه بسنه، وسبعه أي عابه ووقع فيه، وفي الكلام إضمار، أي وما أكل منه السبع، لأن ما أكله السبع فقد فني، ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد، وكانت العرب إذا أخذ السبع شاة ثم خلصت منه أكلوها، وكذلك إن أكل بعضها، قاله قتادة وغيره وقرأ الحسن وأبو حياة ﴿السَّبْعِ﴾ بسكون الباء، وهي لغة لأهل نجد، وقال حسان في عتبة بن أبي لهب:
çمن يرجع العام إلى أهله...فما أكيل السبع بالراجعé
وقرأ ابن مسعود: (وأكيلة السبع) وقرأ عبد الله بن عباس: (وأكيل السبع)
7. ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ نصب على الاستثناء المتصل، عند الجمهور من العلماء والفقهاء، وهو راجع على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة، فإن الذكاة عاملة فيه، لأن حق الاستثناء أن يكون مصروفا إلى ما تقدم من الكلام، ولا يجعل منقطعا إلا بدليل يجب التسليم له، روى ابن عيينة وشريك وجرير عن الركين بن الربيع عن أبي طلحة الأسدي قال: سألت ابن عباس عن ذئب عدا على شاة فشق بطنها حتى انتثر قصبها فأدركت ذكاتها فذكيتها فقال: كل وما انتثر من قصبها فلا تأكل، قال إسحاق بن راهويه: السنة في الشاة على ما وصف ابن عباس، فإنها وإن خرجت مصارينها فإنها حية بعد، وموضع الذكاة منها سالم، وإنما ينظر عند الذبح أحية هي أم ميتة، ولا ينظر إلى فعل هل يعيش مثلها؟ فكذلك المريضة، قال إسحاق: (ومن خالف هذا فقد خالف السنة من جمهور الصحابة وعامة العلماء)، وإليه ذهب ابن حبيب وذكر عن أصحاب مالك، وهو قول ابن وهب والأشهر من مذهب الشافعي، قال المزني: وأحفظ للشافعي قولا آخر أنها لا تؤكل إذا بلغ منها السبع أو التردي إلى ما لا حياة معه، وهو قول المدنيين، والمشهور من قول مالك، وهو الذي ذكره عبد الوهاب في تلقينه، وروي عن زيد بن ثابت، ذكره مالك في موطئه، وإليه ذهب إسماعيل القاضي وجماعة المالكيين البغداديين، والاستثناء على هذا القول منقطع، أي حرمت عليكم هذه الأشياء لكن ما ذكيتم فهو الذي لم يحرم، قال ابن العربي: اختلف قول مالك في هذه الأشياء، فروي عنه أنه لا يؤكل إلا ما ذكي بذكاة صحيحة، والذي في الموطأ أنه إن كان ذبحها ونفسها يجري، وهي تضطرب فليأكل، وهو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده وقرأه على الناس من كل بلد طول عمره، فهو أولى من الروايات النادرة، وقد أطلق علماؤنا على المريضة أن المذهب جواز تذكيتها ولو أشرفت على الموت إذا كانت فيها بقية حياة، وليت شعري أي فرق بين بقية حياة من مرض، وبقية حياة من سبع لو اتسق النظر، وسلمت من الشبهة الفكر!، وقال أبو عمرو: قد أجمعوا في المريضة التي لا ترجى حياتها أن ذبحها ذكاة لها إذا كانت فيها الحياة في حين ذبحها، وعلم ذلك منها بما ذكروا من حركة يدها أو رجلها أو ذنبها أو نحو ذلك، وأجمعوا أنها إذا صارت في حال النزع ولم تحرك يدا ولا رجلا أنه لا ذكاة فيها، وكذلك ينبغي في القياس أن يكون حكم المتردية وما ذكر معها في الآية.
8. ﴿ذَكَّيْتُمْ﴾ الذكاة في كلام العرب الذبح، قاله قطرب، وقال ابن سيده في المحكم: (والعرب تقول ذكاة الجنين ذكاة أمه)، قال ابن عطية: وهذا إنما هو حديث، وذكى الحيوان ذبحه، ومنه قول الشاعر: (يذكيها الأسل) الحديث الذي أشار إليه أخرجه الدارقطني من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وعلي وعبد الله عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (ذكاة الجنين ذكاة أمه)، وبه يقول جماعة أهل العلم، إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال إذا خرج الجنين من بطن أمه ميتا لم يحل أكله، لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين، قال ابن المنذر: وفي قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ذكاة الجنين ذكاة أمه) دليل على أن الجنين غير الأم، وهو يقول: لو أعتقت أمة حامل إن عتقه عتق أمه، وهذا يلزمه أن ذكاته ذكاة أمه، لأنه إذا أجاز أن يكون عتق واحد عتق اثنين جاز أن يكون ذكاة واحد ذكاة اثنين، على أن الخبر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما جاء عن أصحابه، وما عليه جل الناس مستغنى به عن قول كل قائل، وأجمع أهل العلم على أن الجنين إذا خرج حيا أن ذكاة أمه ليست بذكاة له، واختلفوا إذا ذكيت الأم وفي بطنها جنين، فقال مالك وجميع أصحابه: ذكاته ذكاة أمه إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره، وذلك إذا خرج ميتا أو خرج به رمق من الحياة، غير أنه يستحب أن يذبح إن خرج يتحرك، فإن سبقهم بنفسه أكل، وقال ابن القاسم: ضحيت بنعجة فلما ذبحتها جعل يركض ولدها في بطنها فأمرتهم أن يتركوها حتى يموت في بطنها، ثم أمرتهم فشقوا جوفها فأخرج منه فذبحته فسال منه دم، فأمرت أهلي أن يشووه، وقال عبد الله بن كعب بن مالك، كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه، قال ابن المنذر: وممن قال ذكاته ذكاة أمه ولم يذكر أشعر أو لم يشعر علي بن أبي طالب وسعيد ابن المسيب والشافعي وأحمد وإسحاق، قال القاضي أبو الوليد الباجي: وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر إلا أنه حديث ضعيف، فمذهب مالك هو الصحيح من الأقوال الذي عليه عامة فقهاء الأمصار، وبالله التوفيق.
9. الذكاة: في اللغة أصلها التمام، ومنه تمام السن، والفرس المذكى الذي يأتي بعد تمام القروح بسنة، وذلك تمام استكمال القوة، ويقال: ذكى يذكي، والعرب تقول: جري المذكيات غلاب، والذكاء حدة القلب، وقال الشاعر:
çيفضله إذا اجتهدوا عليه...تمام السن منه والذكاءé
والذكاء سرعة الفطنة، والفعل منه ذكي يذكى ذكا، والذكوة ما تذكو به النار، وأذكيت الحرب والنار أوقدتهما، وذكاء اسم الشمس، وذلك أنها تذكو كالنار، والصبح ابن ذكاء لأنه من ضوئها، فمعنى ﴿ذَكَّيْتُمْ﴾ أدركتم ذكاته على التمام، ذكيت الذبيحة أذكيها مشتقة من التطيب، يقال: رائحة ذكية، فالحيوان إذا أسيل دمه فقد طيب، لأنه يتسارع إليه التجفيف، وفي حديث محمد بن علي (ذكاة الأرض يبسها) يريد طهارتها من النجاسة، فالذكاة في الذبيحة لها، وإباحة] لأكلها فجعل يبس الأرض بعد النجاسة تطهيرا لها وإباحة الصلاة فيها بمنزلة الذكاة للذبيحة وهو قول أهل العراق، وإذا تقرر هذا فاعلم أنها في الشرع عبارة عن إنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح، والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور، مقرونا بنية القصد لله وذكره عليه، على ما يأتي بيانه.
10. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بالذكاة وشروطها، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.
11. من تمام هذا الباب قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله كتب الإحسان على كل شي فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) رواه مسلم عن شداد بن أوس قال: (ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال إن الله كتب) فذكره، قال علماؤنا: إحسان الذبح في البهائم الرفق بها، فلا يصرعها بعنف ولا يجرها من موضع إلى آخر، وإحداد الآلة، وإحضار نية الإباحة والقربة وتوجيهها إلى القبلة، والإجهاز، وقطع الودجين والحلقوم، وإراحتها وتركها إلى أن تبرد، والاعتراف لله بالمنة، والشكر له بالنعمة، بأنه سخر لنا ما لو شاء لسلطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء لحرمه علينا، وقال ربيعة: من إحسان الذبح ألا يذبح بهيمة وأخرى تنظر إليها، وحكي جوازه عن مالك، والأول أحسن، وأما حسن القتلة فعام في كل شي من التذكية والقصاص والحدود وغيرها، وقد روى أبو داوود عن ابن عباس وأبي هريرة قالا: (نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن شريطة الشيطان)، زاد ابن عيسى في حديثه وهي (التي تذبح فتقطع ولا تفرى الأوداج ثم تترك فتموت)
12. ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ قال ابن فارس: ﴿النُّصُبِ﴾ حجر كان ينصب فيعبد وتصب عليه دماء الذبائح، وهو النصب أيضا، والنصائب حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد، وغبار منتصب مرتفع، وقيل: ﴿النُّصُبِ﴾ جمع، واحده نصاب كحمار وحمر، وقيل: هو اسم مفرد والجمع أنصاب، وكانت ثلاثمائة وستين حجرا، وقرأ طلحة ﴿النُّصُبِ﴾ بجزم الصاد، وروي عن ابن عمر ﴿النُّصُبِ﴾ بفتح النون وجزم الصاد، الجحدري: بفتح النون والصاد جعله اسما موحدا كالجبل والجمل، والجمع أنصاب، كالأجمال والأجبال، قال مجاهد: هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها، قال ابن جريج: كانت العرب تذبح بمكة وتنضح بالدم ما أقبل من البيت، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة، فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال، فكأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكره ذلك، فأنزل الله تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا﴾ [الحج] ونزلت ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ المعنى: والنية فيها تعظيم النصب لا أن الذبح عليها غير جائز، وقال الأعشى:
çوذا النصب المنصوب لا تنسكنه...لعافية والله ربك فاعبداé
وقيل: ﴿عَلَى﴾ بمعنى اللام، أي لأجلها، قال قطرب قال ابن زيد: ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله شي واحد، قال ابن عطية: ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله، ولكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له.
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/48.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا شروع في المحرّمات التي أشار إليها سبحانه بقوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾، والميتة قد تقدّم ذكرها في البقرة، وكذلك الدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله، وما هنا من تحريم مطلق الدم مقيد بكونه مسفوحا كما تقدم حملا للمطلق على المقيد، وقد ورد في السّنّة تخصيص الميتة بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أحلّ لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطّحال) أخرجه الشافعي وأحمد وابن ماجة والدارقطني والبيهقي، وفي إسناده مقال، ويقوّيه حديث: (هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته) وهو عند أحمد وأهل السنن وغيرهم، وصححه جماعة منهم ابن خزيمة وابن حبان، وقد أطلنا الكلام عليه في شرحنا للمنتقى.
2. والإهلال: رفع الصوت لغير الله كأن يقول: باسم اللات والعزى ونحو ذلك، ولا حاجة بنا هنا إلى تكرير ما قد أسلفناه ففيه ما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
3. ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ هي التي تموت بالخنق: وهو حبس النفس سواء كان ذلك بفعلها كأن تدخل رأسها في حبل أو بين عودين، أو بفعل آدميّ أو غيره، وقد كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة، فإذا ماتت أكلوها.
4. ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ هي التي تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية، يقال: وقذه يقذه وقذا فهو وقيذ، والوقذ شدّة الضرب، وفلان وقيذ: أي مثخن ضربا، وقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك فيضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى تموت ثم يأكلونها، ومنه قول الفرزدق:
çشغّارة تقذ الفصيل برجلها...فطّارة لقوادم الأبكارé
﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ هي التي تتردّى من علو إلى أسفل فتموت من غير فرق بين أن تتردّى من جبل أو بئر أو مدفن أو غيرها، والتردّي مأخوذ من الردى وهو الهلاك وسواء تردّت بنفسها أو ردّاها غيرها، قوله: ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ هي فعيلة بمعنى مفعولة، وهي التي تنطحها أخرى فتموت من دون تذكية، وقال قوم أيضا: فعيلة بمعنى فاعلة، لأنّ الدابتين تتناطحان فتموتان، وقال: نطيحة ولم يقل نطيح مع أنه قياس فعيل، لأن لزوم الحذف مختصّ بما كان من هذا الباب صفة لموصوف مذكور فإن لم يذكر ثبتت التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية، وقرأ أبو ميسرة: والمنطوحة.
5. ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ أي ما افترسه ذو ناب كالأسد والنمر والذئب والضبع ونحوها، والمراد هنا ما أكل منه السبع، لأن ما أكله السبع كله قد فني، ومن العرب من يخصّ اسم السبع بالأسد، وكانت العرب إذا أكل السبع شاة، ثم خلصوها منه أكلوها، وإن ماتت لم يذكوها، وقرأ الحسن وأبو حيوة: ﴿السَّبْعِ﴾ بسكون الباء، وهي لغة لأهل نجد، ومنه قول حسان في عتبة بن أبي لهب:
çمن يرجع العام إلى أهله...فما أكيل السّبع بالرّاجعé
6. ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ في محل نصب على الاستثناء المتصل عند الجمهور، وهو راجع على ما أدركت ذكاته من المذكورات سابقا، وفيه حياة، وقال المدنيون: وهو المشهور من مذهب مالك، وهو أحد قولي الشافعي أنه إذا بلغ السبع منها إلى ما لا حياة معه فإنها لا تؤكل، وحكاه في الموطأ عن زيد بن ثابت، وإليه ذهب إسماعيل القاضي، فيكون الاستثناء على هذا القول منقطعا؛ أي حرمت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكّيتم فهو الذي يحلّ ولا يحرم، والأوّل أولى، والذكاة في كلام العرب الذبح، قاله قطرب وغيره، وأصل الذّكاة في اللغة: التمام؛ أي تمام استكمال القوّة، والذكاء حدة القلب، والذكاء سرعة الفطنة، والذّكوة ما تذكى منه النار، ومنه أذكيت الحرب والنار: أوقدتهما، وذكاء اسم الشمس، والمراد هنا: إلا ما أدركتم ذكاته على التمام، والتذكية في الشرع: عبارة عن انهار الدم، وفري الأوداج في المذبوح والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور مقرونا بالقصد للّه، وذكر اسمه عليه، وأما الآلة التي تقع بها الذكاة، فذهب الجمهور إلى أن كل ما أنهر الدم، وفرى الأوداج، فهو آلة للذكاة ما خلا السن والعظم، وبهذا جاءت الأحاديث الصحيحة.
7. ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ قال ابن فارس: النصب حجر كان ينصب فيعبد ويصبّ عليه دماء الذبائح، والنصائب حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد، وقيل النصب: جمع واحده نصاب، كحمار وحمر، وقرأ طلحة بضم النون وسكون الصاد، وروي عن أبي عمرو بفتح النون وسكون الصاد، وقرأ الجحدري بفتح النون والصاد، جعله اسما موحدا كالجبل والجمل، والجمع أنصاب كالأجبال والإجمال، قال مجاهد: هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها، قال ابن جريج: كانت العرب تذبح بمكة وتنضح بالدم ما أقبل من البيت ويشرّحون اللحم ويضعونه على الحجارة، فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: نحن أحقّ أن نعظّم هذا البيت بهذه الأفعال، فأنزل الله ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ والمعنى: والنية بذلك تعظيم النصب لا أن الذبح عليها غير جائز، ولهذا قيل إن ﴿عَلَى﴾ بمعنى اللام: أي لأجلها، قاله قطرب، وهو على هذا داخل فيما أهلّ به لغير الله، وخصّ بالذكر لتأكيد تحريمه ولدفع ما كانوا يظنونه من أن ذلك لتشريف البيت وتعظيمه.
__________
(1) فتح القدير: 2/12.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ أكلاً وانتفاعًا بلبس أو فرش أو تغطية أو ستر أو ثمن فإنَّها لا تُباع ولا تُشتَرَى ولا تعوَّض لشيءٍ، وهي الحيوان البرِّيُّ الذي له دم، خرجت روحه بلا ذكاة من ذبح أو نحر أو اصطياد بمحدَّد أو جارحة، واختلف في خشاخش الأرض مِمَّا لا دم فيه وفي الذباب.
2. ﴿وَالدَّمُ﴾ المسفوح كما في سورة الأنعام [الآية: 145] لا الطحال والكبد، وكان أهل الجاهليَّة يفصدون البعير ويشوون دمه ويأكلونه، وكذا يفعلون في دم الذبيحة، وحرَّمت الإماميَّة الطحال، وعن عليٍّ كراهته.
3. ﴿وَلَحْمُ الْخِنـزِيرِ﴾ وسائر أجزائه؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ [الأنعام: 145]، فإنَّ الخنزير كلَّه رجس، وخصَّ اللحم بالذكر لأنَّه معظم ما يُقصَد، وأباحت الظاهريَّة ـ داود وأصحابه ـ غير لحمه لظاهر الآية، وهو خطأ، وعن قتادة: (من أكل لحم الخنزير استتيب وإن لم يتب قتل)، فقيل: لأنَّ أكله صار اليوم علامة كفر كالزنار، وفيه أنَّه لعلَّه أكَلَه بغير استحلال، وإنَّما يُقتل لو استحلَّه ولم يتب، وفي الخنزير صفات رديئة، منها: أنَّه عديم الغيرة يرى خنزيرًا على أنثاه ولا يتعرَّض له، وله غرض عظيم ورغبة شديدة في المشتهيات، فحرِّم أكله لئلَّا يرث آكله تلك الصفات.
4. ﴿وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ﴾ رفع الصوت لغير الله، وذكر الرفع لأنَّه حالهم، والرفع والخفض والنيَّة سواء في التحريم، فيكون في الآية استعمال مقيَّد في مطلق، ﴿بِهِ﴾ بذكره، مثل أنْ يقول عند تذكيته: باسم اللات، أو باسم العزَّى، وهو حرام ولو ذكر الله وغيره معًا.
5. ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ مطاوِعُ (خنق) المتعدِّي، أو هو مطلق حصول انحباس الحلق ولو بلا شدِّ أحد أو شيء عليه حتَّى ماتت، وكان الجاهليَّة يخنقون البهيمة ويأكلونها.
6. ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ المضروبة بخشبة أو بحجر أو حديد أو بندق البارود وبندق القوس أو غير ذلك حتَّى ماتت.
7. ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ الساقطة عمدًا أو بلا عمد من عال، كجبل وسطح وفم بئر وماتت.
8. ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ المنطوحة وماتت بالنطح، والتاء فِيهِنَّ للنقل من الوصفيَّة، ومعنى هذا عندي أنَّه ساغت التاء لأنَّهنَّ في الأصل أوصاف، وشأن الوصف في الجملة أن يؤنَّث إذا كان لمؤنَّث، وإلَّا فبعد النقل لا تستحسن التاء، كما لا يحسن أن نقول: فرسة وحمارة، والتاء في قولهم: (حقيقة) اعتبار لكون الأصل كلمة حقيقة، وإذا قيل: لفظ (حقيقة) فلقصد معنى الكلمة واللفظة باللفظ، وزعموا أنَّ معنى كون التاء للنقل من الوصفية أنَّها تلحق لتدل على تغلُّب الاسميَّة عليها وعلى عدم احتياجها إلى الموصوف، ويجوز هنا استشعار الوصفيَّة مثل قولك: الدابَّة أو البهيمة الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردِّية والنطيحة، وقال بعض الكوفيِّين: إذا لم يذكر الموصوف فليست التاء للنقل.
9. ﴿وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ﴾ منها أو ما أكل السبع بعضها وماتت، كذئب ونمر وأسد وهرٍّ، والكلب المعلَّم، والطير المعلَّم ونحوهما من السباع المعلَّمة المرسلة للصيد، أو (أَكَلَ) بمعنى قَتَل مجازًا، وإنَّما قلت ذلك لأنَّ ما أكله وفوَّته لا يتصوَّر أن يأكله أحد، ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ وقد أدركتم حياته مِمَّا أُهلَّ لغير الله به، وما بعده كلُّه فحلال وهو الصحيح، قال الباقر والصادق: (أدنى ما تدرك به الذكاة حركة الأذن أو الذنب أو الجفن)، وبه قال الحسن وقتادة وإبراهيم وطاووس والضحَّاك، وظاهره أنَّها حلال، ولو لم يخرج الدم ولم تَتَحَرَّك بعد أن أيقن أنَّها حال الذبح حيَّة، وقال الكلبي: استثناء عائد إلى قوله: وما أكل السبع خاصَّة.
10. والذكاة: قطع الحلق والحلقوم، وكماله قطع الودجين معهما، كما قيل: إنَّ الذكاة في اللغة تمام الشيء، وذلك بقطع الأوداج وإنهار الدم، وقيل: لا تحلُّ إن لم يُقطعا، وهو الصحيح، ويلتحق بها ما صيد بمحدَّد أو جارحة أو طعن في أيِّ موضع لضرورة ولو في واحد من الأنعام إذا ندَّ أو توعَّر بحيث لا يوصل إلى ذكاته، وقيل: تحرم المتوعِّرة، ولحق بها أيضًا النحر حيث لا يصادف الحلق والحلقوم والودجين، والذبح فوق الجوزة، وإدراكُ الحياة يُتصوَّر بطرف أذن أو تحرُّك ذَنَب أو رجل أو غيرهما مِمَّا يدلُّ على الحياة، وذكر التفتازاني أنَّه تعرف الحياة بالاضطراب وسيلان الدم بعد التذكية، وأنَّه لا يكفي الحياة قبلها، وهو المشهور عندنا، لكن إن تُصُوِّرَ اضطرابٌ بعد الذكاة بلا دم حلَّت أيضًا، وكذا يقول كلُّ أحد، وقال مالك والزجَّاج وابن الأنباريِّ: إذا أصابها ما لا تحيَى معه لم تؤثِّر معه الذكاة؛ لأنَّ معنى التذكية أن يلحقها وفيها بقيَّة تشخب معها الأوداج وتضطرب اضطراب المذبوح لوجود الحياة فيه قبل ذلك، وفيه أنَّ المراد إزالة الحياة الموجودة وذلك حاصل؛ فهي حيَّة عجَّل بموتها.
11. ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ ولو بلا ذِكْرٍ لاسمها، فلم يتكرَّر مع قوله: ﴿وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾، والعطف على ما حرِّم، والنُّصُب جمع نِصَاب (بالكسر)، كحمار وحمر، أو مفرد وجمعه: أنصاب، وهو ما يُنصب من الحجارة يَذبحون عليه حول الكعبة للأصنام، وهي غير مصوَّرة ولا منقوشة، وقيل: هي الأصنام لتُعبد وتعظَّم، وقيل: تلك الحجارة ثلاثمائة وستُّون حجرًا حول الكعبة تذبح الجاهليَّة عليها، و(عَلَى) أولى من اللام لصدقها على الأصنام والحجارة، ولو قال: (للنُّصُب) لاختصَّ بالأصنام.
12. وإذا كان ما أُهلَّ لغير الله به يعاد ذبحه ويحلُّ إذا أُدرك حيًّا فأولى أن يحلَّ ما ذُبح على النُّصُب بلا ذكر لاسمها إن أُدرك حيًّا وأعيد ذبحه، ويجزي الذبح بعد النحرِ، والنحرُ بعد الذبح في ذلك كما شمله قوله: ﴿ذَكَّيْتُمْ﴾
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/380.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم بين تعالى المحرمات التي أشير إليها بقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ فقال: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ وهي ما فارقه الروح بغير سبب خارجيّ، لأنها تنجست بمفارقته من غير مطهر، من ذكر اسم الله تحقيقا أو تقديرا، كإسلام الذابح، كذا في (التبصير)، وقد خص من (الميتة) السمك بالسّنة: فإنه حلال، مات بتذكية أو غيرها، لما رواه مالك في موطئه، والشافعي وأحمد في مسنديهما، وأبو داوود والترمذيّ والنّسائيّ وابن ماجة في سننهم، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل عن ماء البحر؟ فقال: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، وهكذا الجراد، لما سيأتي.
2. قال الرازيّ: تحريم الميتة موافق لما في العقول، لأن الدم جوهر لطيف جدّا، فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه، وتعفن وفسد، وحصل من أكله مضار عظيمة.
3. أخرج ابن مندة في كتاب (الصحابة) من طريق عبد الله بن جبلة بن حبان بن حجر عن أبيه عن جده حبان قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة، فأنزل تحريم الميتة فاكفأت القدر ﴿وَالدَّمَ﴾ أي: المسفوح منه، لقوله تعالى في الأنعام: ﴿أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ [الأنعام: 145]، وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال؟ فقال: كلوه، فقالوا: إنه دم، فقال: إنما حرم عليكم الدم المسفوح، وكذا رواه حماد بن سلمة عن يحيي بن سعيد بن القاسم عن عائشة قالت: إنما نهى عن الدم السافح.
4. قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ: حدثنا عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم عن أبيه عن بن عمر مرفوعا قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال)، وكذا رواه أحمد بن حنبل وابن ماجة والدار قطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم، وهو ضعيف، قال الحافظ البيهقيّ: ورواه إسماعيل بن أبي إدريس، عن أسامة، وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، مرفوعا، قال الحافظ ابن كثير: وثلاثتهم كلهم ضعفاء، ولكن بعضهم أصلح من بعض، وقد رواه سليمان ابن بلال، أحد الأثبات، عن زيد بن أسلم عن ابن عمر، فوقفه بعضهم عليه، قال الحافظ أبو زرعة الرازيّ: وهو أصح، نقله ابن كثير، أقول: أقوى مما ذكر في الحجة، ما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن أبي أوفي قال: غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سبع غزوات نأكل الجراد، وفيهما أيضا من حديث جابر، إن البحر ألقى حوتا ميتا فأكل منه الجيش، فلما قدموا قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: كلوا رزقا أخرج الله لكم، أطعمونا منه إن كان معكم، فأتاه بعضهم بشيء، وفي البخاري عن عمر في قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ﴾ [المائدة: 96]، قال: صيده ما اصطيد، وطعامه ما رمي به، وفيه عن ابن عباس قال: طعامه ميتته.
5. قال ابن كثير: روى ابن أبي حاتم عن أبي أمامة وهو صديّ بن عجلان قال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله، وأعرض عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم، فبينما نحن كذلك، إذ جاءوا بقصعة من دم فاجتمعوا عليها يأكلونها، فقالوا: هلم، يا صديّ! فكل، قال قلت: ويحكم، إنما أتيتكم من عند من يحرّم هذا عليكم، فأقبلوا عليه، قالوا: وما ذاك؟ فتلوت عليهم هذه الآية: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾ الآية، ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه، وزاد بعد هذا السياق قال فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ويأبون علي، فقلت: ويحكم! اسقوني شربة من ماء فإني شديد العطش، قال وعليّ عباءتي، فقالوا: لا، ولكن ندعك حتى تموت عطشا، قال: فاغتممت وضربت برأسي في العباء، ونمت على الرمضاء في حرّ شديد، قال: فأتاني آت في منامي بقدح من زجاج، لم ير الناس أحسن منه، وفيه شراب لم ير الناس ألذ منه، فأمكنني منه فشربته، فلما فرغت من شرابي استيقظت، فلا، والله! ما عطشت ولا عربت (2) بعد تيك الشربة، ورواه الحاكم في مستدركه عن عليّ بن حماد، عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي أمامة، وزاد بعد قوله: (بعد تيك الشربة): فسمعتهم يقولون: أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تمجعوه بمذقة؟ فأتوني بمذقة فقلت: لا حاجة لي فيها، إن الله أطعمني وسقاني، وأريتهم بطني، فأسلموا عن آخرهم.
6. قال الزمخشري: كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات: البهيمة التي تموت حتف أنفها، والفصيد، وهو الدم في المباعر، يشوونها ويقولون: لم يحرم من فزد له، وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ﴾ [البقرة: 173] الآية.
7. قال المهايميّ: حرم الدم لأنه متعلق الروح بلا واسطة، فأشبه النجس بالذات لا يؤثر فيه المطهر، ﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ لأنه نجس في حياته بصفاته الذميمة وهي، وإن زالت بالموت، فهو منجّس ولم يقبل التطهير، لأنه لما كان نجسا حال الحياة والموت، أشبه النجس بالذات، فكأنه زيد تنجيسه بالموت، وإنما ذكر اللحم إشارة إلى أنه، وإن لم يكن موصوفا في الحياة بالصفات المنجسة لروحه، كان متنجسا بنجاسة روحه، ثم بزوال الروح.
8. قال ابن كثير: وقوله تعالى: ﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ يعني إنسيّه ووحشيه، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم، كما هو المفهوم من لغة العرب ومن العرف المطّرد.
9. في صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي قال: (قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من لعب بالنردشير، فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه)، فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس، فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به؟ وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره، وفي الصحيحين: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام: فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام)
10. ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ أي: نودي عليه بغير اسم الله، كما في (الصحاح) وأصل الإهلال رفع الصوت، وكان العرب في الجاهلية، يذكرون أسماء أصنامهم عند الذبح، فحرم الله ذلك بهذه الآية، وبقوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: 121]
11. قال ابن كثير في الآية: أي ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله، فهو حرام، لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم، فمن عدل بها عن ذلك، وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات، فإنها حرام بالإجماع، وإنما اختلف العلماء في متروك التسمية، إما عمدا أو نسيانا، كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام، إن شاء الله تعالى، وروى ابن أبي حاتم عن الجارود بن أبي سبرة قال كان رجل من بني رياح يقال له: ابن نائل، وكان شاعرا، نافر غالبا، جدّ الفرزدق بماء بظهر الكوفة، على أن يعقر هذا مائة من إبله، إذا وردت الماء، فلما وردت الماء، قاما بسيفيهما فجعلا يكشفان عراقيبها، قال فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم، وعليّ بالكوفة، قال فخرج عليّ، على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم البيضاء، وهو ينادي: يا أيها الناس! لا تأكلوا من لحومها، فإنما أهل بها لغير الله، هذا أثر غريب، يشهد له بالصحة ما رواه أبو داوود عن ابن عباس قال: (نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن معاقرة الأعراب)، ثم أسند عن عكرمة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل، أفاده ابن كثير.
12. في (القاموس وشرحه): وعاقره: فاخره وكارمه في عقر الإبل، ويقال: تعاقرا إذا عقرا إبلهما، يتباريان بذلك، ليرى أيهما أعقر لها، ومن ذلك معاقرة غالب بن صعصعة، أبي الفرزدق وسحيم بن وثيل الرياحيّ لما تعاقرا بصوأر، فعقر سحيم خمسا ثم بدا له، وعقر غالب مائة، وفي حديث ابن عباس: لا تأكلوا من تعاقر الأعراب، فإني لا آمن أن يكون مما أهل به لغير الله، قال ابن الأثير: هو عقرهم الإبل، كان الرجلان يتباريان في الجود والسخاء، فيعقر هذا وهذا، حتى يعجز أحدهما الآخر، وكانوا يفعلونه رياء وسمعة وتفاخرا، ولا يقصدون به وجه الله تعالى، فشبهه بما ذبح لغير الله تعالى.
13. روى مسلم عن عليّ قال: (حدثني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض)، وروى أحمد عن طارق بن شهاب؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب، قالوا: وكيف ذلك؟ يا رسول الله! قال مر رّجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب قال ليس عندي شيء أقرب، قالوا له: قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا، فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل، فضربوا عنقه، فدخل الجنة)، وفي هذه القصة ترهيب من وجوه: منها كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصا من شرهم، ومنها معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم، مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر، ومنها أن في هذا شاهدا للحديث الصحيح: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك)، كذا في كتاب (التوحيد)
14. ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ وهي التي تموت بالخنق إما قصدا وإما اتفاقا، بأن تتخبل في وثاقها فتموت به، قال الحسن وغيره: هي التي تختنق بحبل الصائد أو غيره، وبأي وجه اختنقت فهي حرام، وقال ابن عباس: كانت الجاهلية يخنقون الشاة، حتى إذا ماتت أكلوها، والمنخنقة من جنس الميتة، لأنها لما ماتت، وما سال دمها، كانت كالميت حتف أنفه، إلا أنها فارقت الميتة بكونها تموت بسبب انعصار الحلق بالخنق، بخلاف الميتة فإنها بلا سبب.
15. قال المهايمي: المنخنقة، وإن ذكر اسم الله عليها فقد عارضه سريان خباثة الخانق إليها، مع تنجسها بالموت ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ يعني المقتولة بالخشب، وكان أهل الجاهلية يضربون الشاة بالعصيّ، حتى إذا ماتت أكلوها، وفي (القاموس وشرحه) الوقذ شدة الضرب، وقذه يقذه وقذا: ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت، وشاة وقيذ وموقوذة قتلت بالخشب، وقال أبو سعيد: الوقذ الضرب على فأس القفا، فيصير هدتها إلى الدماغ، فيذهب العقل، فيقال: رجل موقوذ، وفي الصحيح أن عديّ ابن حاتم قال: (قلت: يا رسول الله! إني أرى بالمعراض الصيد، فأصيب، قال إذا رميت بالمعراض فخرق فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ، فلا تأكله)، ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ هي الساقطة من جبل أو في بئر، فتموت، والتردي السقوط فهي مهواة، وهذه الثلاثة في معنى الميتة، فإنها ماتت ولم يسل دمها، ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ هي التي نطحتها أخرى فماتت، فهي حرام، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها، وإن أرسل إنسان الناطح بذكر اسم الله، لأنه لما لم يكن بطريق الصيد المشروع، ولم تخل من خباثة.
16. قال التبريزيّ في (تهذيبه) وابن قتيبة في (أدب الكاتب): ما كان على فعيل، نعتا للمؤنث وهو في تأويل مفعول، كان بغير هاء، نحو كف خضيب وملحفة غسيل، وربما جاءت بالهاء يذهب بها مذهب الأسماء، نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع.. وقالوا: ملحفة جديد، لأنها في تأويل مجدودة أي مقطوعة، وإذا لم يجز فيه مفعول فهو بالهاء، نحو مريضة وظريفة وكبيرة وصغيرة، وجاءت أشياء شاذة، فقالوا: ريح خريق وناقة سديس وكتيبة خصيف، وقال ابن السكيت: قد تأتي فعيله بالهاء وهي في تأويل مفعول بها، تخرج مخرج الأسماء ولا يذهب بها مذهب النعوت، نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع، ومررت بقتيلة بني فلان، وقال الجوهريّ: إنما جاءت النطيحة بالهاء، لغلبة الاسم عليها، وكذلك الفريسة والأكيلة والرميّة، لأنه ليس هو (نطحتها، فهي منطوحة) وإنما هو الشيء في نفسه مما ينطح والشيء مما يفرس ويؤكل.
17. ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ أي ما عدا عليها فأكل بعضها، قال قتادة: كان أهل الجاهلية، إذا جرح السبع شيئا فقتله أو أكل منه، أكلوا ما بقي منه، فحرمه الله تعالى، قال المهايميّ: هو، وإن أشبه الصيد، لكنه لما أكله قصد بذلك نفسه، فسرت خباثته فيه.
18. (السبع) بضم الباء وفتحها وسكونها: المفترس من الحيوان، مثل الأسد والذئب والنمر والفهد، وما أشبهها مما له ناب، ويعدو على الناس والدواب فيفترسها، وسمي ذلك لتمام قوته، وذلك أن (السبع) من الأعداد التامة، وفي الآية محذوف تقديره: وما أكل السبع بعضه، كما ذكرنا، لأن ما أكله فقد فقد، فلا حكم له، إنما الحكم للباقي منه.
19. ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ أي ما أدركتم ذكاته من هذه المذكورات المنخنقة فما بعدها، بحيث ينسب موتها إلى الذبح دون غيره، فإنه يتحقق فيه المطهر، ولا يؤثر فيه السابق، لأن اللاحق ينسخه، بل هو واقع قبل تأثير السابق، إذ لا يتم التأثير إلا بالموت، أفاده المهايميّ.
20. قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي: إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح، فكلوه فهو ذكيّ، وكذا روي عن سعيد بن جبير والحسن والسدّي، وروى ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليّ، في الآية قال إن مصعت بذنبها، أو ركضت برجلها، أو طرفت بعينها، فكل، وروى ابن جرير عن الحارث عن عليّ أيضا قال إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة، وهي تحرك يدا أو رجلا، فكلها، وهكذا روي عن طاووس والحسن وقتادة وعبيد بن عمير والضحاك وغير واحد؛ أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح، فهي حلال، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، أفاده ابن كثير.
21. وفي الموطأ: سئل مالك عن شاة تردت فتكسّرت، فأدركها صاحبها فذبحها، فسال الدم منها ولم تتحرك؟ فقال مالك: إذا كان ذبحها ونفسها يجري وهي تطرف، فليأكلها.
22. والتذكية الذبح، كالذكا والذكاة، قال الراغب: حقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزية، لكن خص في الشرع بإبطال الحياة على وجه دون وجه، أي وهو قطع الحلقوم والمريء، بمنهر للدم: من سكين وسيف وزجاج وحجر وقصب، له حد يقطع كما السلاح المحدد، ما لم يكن سنا أو ظفرا، لحديث رافع بن خديج في الصحيحين وغيرهما قال: (قلت يا رسول الله! إنا لاقو العدوّ غدا، وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ فقال: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه، فكلوه، ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة)
23. أما حديث أبي العشراء عن أبيه: قلت: (يا رسول الله! أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبّة؟ قال لو طعنت في فخذها لأجزاك)، أخرجه أحمد وأهل السنن ـ ففي إسناده مجهولون، وأبو العشراء لا يعرف من أبوه، ولم يرو عنه غير حماد بن سلمة، فهو مجهول، كذا في (الروضة)، وقال الحافظ ابن حجر في (التلخيص): أبو العشراء مختلف في اسمه وفي اسم أبيه، وقد تفرد حماد بن سلمة بالرواية عنه على الصحيح، ولا يعرف حاله، وقال في (التقريب): أعرابيّ مجهول، قال الترمذيّ في جامعه، بعد سوقه لهذا الحديث: قال أحمد بن منيع: قال يزيد بن هارون: هذا في الضرورة، وفي الباب عن رافع بن خديج، وقال ابن كثير: (وهذا الحديث صحيح، ولكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق واللبة)، وتصحيحه له، مع جهالة راوية المذكور، فيه نظر، فإن حد الصحيح كما في (التقريب) ما اتصل إسناده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة، قال: (شارحه السيوطيّ): فخرج بقيد (العدول) ما نقله مجهول عينا أو حالا، أي: فليس بصحيح بل ضعيف، وفي (النخبة) أن خبر الآحاد مقبول ومردود، والثاني إما لسقط من إسناد أو طعن في راو، والطعن إما لكذب أو تهمته بذلك، إلى أن قال أو جهالته بأن لا يعرف فيه تعديل ولا تجريح معيّن، فتبصّر.
24. ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ قال الزمخشريّ: كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت، يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها، يعظمونها بذلك ويتقربون به إليها، وتسمى الأنصاب، قال ابن كثير: فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع وحرّم عليهم أكل هذه الذبائح، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله، لما في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله.
25. وقد ورد النهي عن الذبح لله بمكان يذبح فيه لغيره تعالى، فروى أبو داود بإسناد على شرط الشيخين، عن ثابت بن الضحاك قال: (نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم)، ففيه، أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة، وفيه المنع من النذر إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله، أو عيد من أعيادهم، ولو بعد زواله أيضا، وأنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة لأنه نذر معصية وفيه الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم، ولو لم يقصده، كذا في (كتاب التوحيد)
26. (النّصب) بضمتين، وضم فسكون، إما جمع، واحده نصاب، ككتاب وكتب، أو مفرد جمعه أنصاب كعنق وأعناق، وقفل وأقفال، وفي (القاموس وشرحه): النّصب: كل ما نصب وجعل علما، وكل ما نصب فعبد من دون الله تعالى، والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهلّ عليها ويذبح لغير الله تعالى، وقال القتيبيّ: النصب صنم أو حجر، وكانت الجاهلية تنصبه تذبح عنده، فيحمرّ بالدم، ومنه حديث أبي ذر في إسلامه قال فخرجت مغشيّا عليّ ثم ارتفعت كأني نصب أحمر، يريد أنهم ضربوه حتى أدموه، فصار كالنصب المحمّر بدم الذبائح.
27. قال ابن جريح: كانت النصب ثلاثمائة وستين نصبا، وكانوا يذبحون عندها وينضحون ما أقبل منها إلى البيت، بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب.
__________
(1) تفسير القاسمي: 4/17.
(2) عرب كفرح فسدت معدته
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال الله تعالى في أول الآية الأولى: من هذه السورة ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ ثم بين هذا الاستثناء بقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ الآية، وهذه المحرمات الثلاثة قد ذكرت بصيغة الحصر في سورة الأنعام بقوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [الأنعام: 145] وفي سورة النحل بقوله عز وجل: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ [النحل: 115] وختم كلا من هاتين الآيتين بقوله: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وقد نزلت آية المائدة التي نحن بصدد تفسيرها بعد هاتين الآيتين وليست ناسخة للحصر فيهما بزيادة المحرمات في قوله: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ بل هذا شرح وتفصيل للميتة وما أهل به لغير الله كما سنبينه، فمحرمات الطعام أربعة بالإجمال وعشرة بالتفصيل وهاك بيانها وحكمة تحريمها.
أ. الأول: الميتة:
• يراد بالميت عند الإطلاق ما مات حتف أنفه أي بدون فعل فاعل، والتأنيث هنا وفي قوله والمنخنقة الخ لأنه وصف للشاة كما قالوا وهي تطلق على الذكر والأنثى من الغنم وإن كانت موضوعة في الأصل للأنثى، والمراد الشاة وغيرها من الحيوان المأكول، ولك أن تقدر البهيمة بدل الشاة ولفظها أعم وهو الذي ورد في قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾، فلما كانت هذه الآية مبينة لما استثنى من حل بهيمة الأنعام صار المناسب أن نقول: إن الميتة هنا صفة للبهيمة أي حرمت عليكم البهيمة الميتة، والمراد من الميتة في عرف الشرع ما مات ولم يذكه الإنسان لأجل أكله تذكية جائزة، فيدخل في عمومه جميع ما يأتي مع اعتبار قاعدة: إذا قوبل العام بالخاص يراد بالعام ما وراء الخاص.
• وحكمة تحريم ما مات حتف أنفه أنه يكون في الغالب ضارا لأنه لا بد أن يكون قد مات بمرض أو ضعف أو نسمة خفية مما يسمى الآن بالميكروب انحلت به قواه أو ولد فيه سموما، وقد يعيش ميكروب المرض في جثة الميت زمنا، ولأنه مما تعافه الطباع السليمة وتستقذره وتعده خبيثا، المشهور عند علمائنا أن سبب ضرر الميتة احتباس الرطوبات فيها، وفيه بحث سيأتي في الكلام على التذكية.
ب. الثاني: الدم:
• والمراد به المسفوح أي المائع الذي يسفح ويراق من الحيوان وإن جمد بعد ذلكم، بخلاف المتجمد في الطبيعة كالطحال والكبد، وما يتخلل اللحم عادة فإنه لا يعد مسفوحا.
• وحكمة تحريم الدم والضرر والاستقذار أيضا كما قيل في الميتة، إما كونه خبثا مستقذرا عند الناس فظاهر، وإما كونه ضارا فلأنه عسر الهضم جدا ويحمل كثيرا من المواد العفنة الميتة التي تنحل من الجسم، وهي فضلات لفظتها الطبيعة كما تلفظ البراز واستعاضت عنها بمواد حية جديدة من الدم، فالعود إلى التغذي بها يشبه التغذي بالرجيع، وقد يكون في الدم جراثيم بعض الأمراض المعدية وهي تكون فيه أكثر مما تكون في اللحم، وكذا اللبن الذي أعده الخالق الحكيم في أصل الطبيعة للتغذي به، ومع هذا ترى الأطباء متفقين على وجوب غلي اللبن لأجل قتل ما عساه يوجد فيه من جراثيم الأمراض المعدية، والدم لا يغلى كما يغلى اللبن بل يجمد بقليل من الحرارة، وحينئذ تبقى جراثيم المرض فيها حية تؤثر في الجسم الذي تدخله.
• سؤال وإشكال: إن المشهور عن الأطباء أن الدم مادة الحياة الحيوانية الفعالة في الصحة فإذا أمكن للإنسان أن يضيف دم غيره من الأحياء إلى دمه فالقياس أنه لا يزيده ذلك إلا صحة وقوة، والجواب: أن هذا لا يؤخذ على إطلاقه ولم يثبت عند الأطباء أن شرب الدم المسفوح أو أكله بعد أن يجمد بنفسه أو بالطبخ مفيد للصحة والقوة ولا أنه يزيد الدم ولذلك لا يفعلونه ولا يأمرون الناس به، ولا يقولون إن معدة الناس تقوى على هضمه والتغذي به بسهولة، وإنما يتولد الدم مما يهضم من الطعام، نعم يمكن أن يحقن ضعيف الدم بدم حيوان سليم فيزيده ذلك قوة، وهذا غير محرم ولا مما نحن فيه.
ج. الثالث: لحم الخنزير:
• وحكمة تحريمه ما فيه من الضرر وكونه ما يستقذر أيضا، وإن كان استقذاره ليس لذاته كالميتة والدم، بل هو خاص بمن يتذكر ملازمته للقاذورات ورغبته فيها، ولهذا المعنى ورد النهي عن أكل الجلالة وشرب لبنها وهي التي تأكل العذرة والجلة أي البعر (والجلالة صيغة مبالغة وهي كالجلة بفتح الجيم وتشديد اللام) فروى أحمد وأصحاب السنن الثلاثة ـ وصححه الترمذي منهم كما صححه البيهقي ـ عن ابن عباس (نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن شرب لبن الجلالة) وروي بلفظ (عن أكل الجلالة وشرب ألبانها) وصححه ابن دقيق العيد، وروى أحمد وأبو داوود والترمذي وحسنه ابن ماجة عن ابن عمر مثله قال: (نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الجلال وألبانها) وقد اختلف في وصله وإرساله، واختلف العلماء في النهي عن الجلالة من الأنعام وغيرها كالدجاج والإوز هل العبرة بعلفها قلة وكثرة أم العبرة برائحة لحمها؟ وهل النهي للتحريم أم للكراهة؟ وقال بعض أئمة الفقه لا تؤكل حتى تحبس عن أكل القذر أياما، واختلفوا في مدة الحبس، وكان ابن عمر يحبس الدجاجة ثلاثا ولم ير بأكلها بأسا، والغرض من هذا أن الإسلام طيب أحل الطيبات وحرم الخبائث وبالغ في أمر النظافة فلا غرو إذا عد أكل الخنازير للقاذورات علة أو حكمة من علل تحريم لحمه أو حكمها وإن لم يترتب عليه ضرر فكيف إذا ترتب عليه ضرر عظيم.
• وأما كون لحم الخنزير ضارا فهو مما يثبته الطب الحديث، وجل ضرره ناشئ من أكله للقاذورات، فمنه أنه يولد الديدان الشريطية كالدودة الوحيدة نعوذ بالله منها، وسبب سريان ذلك إليه أكل العذرة، ومنه أنه يولد دودة أخرى يسميها الأطباء الشعرة الحلزونية وهي تسري إلى الخنازير من أكل الفيران الميتة، ومنه أن لحمه أعسر اللحوم هضما لكثرة الشحم في أليافه العضلية، وقد تحول الأنسجة الدهنية التي فيه دون عصير المعدة فيعسر هضم المواد الزلالية للعضلات فتتعب معدة آكله ويشعر بثقل في بطنه واضطراب في قلبه، فإن ذرعه القيء فقذف هذه المواد الخبيثة وإلا تهيجت الأمعاء وأصيب بالإسهال، ولولا العادة التي تسهل على كثير من الناس تناول السموم أكلا وشربا وتدخينا، ولولا ما يعالجون به لحم الخنزير لتخفيف ضرره، لما أمكن الناس أن يأكلوه ولاسيما أهل البلاد الحارة.
• سؤال وإشكال: إن آية الأنعام عللت تحريم أكل لحم الخنزير بكونه رجسا فهل معنى ذلك أكله للقذر، أم ما فيه من ضرر؟ والجواب: لفظ الرجس يطلق على كل ضار مستقبح حسا أو معنى، فيسمى النجس رجسا ويسمى الضار رجسا، ومن الأخير قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ [المائدة: 90] فتعليل آية الأنعام يشمل الأمرين اللذين ذكرناهما معا، فهي من إيجاز القرآن الذي لا يصل الناس إلى شرحه وتفصيله إلا باتساع دائرة علومهم وتجاربهم.
د. الرابع: ما أهل لغير الله به:
• وهذا هو الذي حرم لسبب ديني محض لا لأجل الصحة والنظافة كالثلاثة الماضية، والمراد به ما ذبح أو نحر على ذكر غير الله تعالى من المخلوقات التي يعظمها الناس تعظيما دينيا ويتقربون إليها بالذبائح، والإهلال رفع الصوت، يقال أهل فلان بالحج إذا رفع صوته بالتلبية له، ومنه استهل الصبي إذا صرخ عند الولادة، وكانوا يذبحون لأصنامهم فيرفعون صوتهم بقولهم: باسم اللات أو باسم والعزى.
• وحكمة تحريم أكل هذا أنه من عبادة غير الله تعالى فالأكل منه مشاركة لأهله فيه ومشايعة لهم عليه، وهو مما يجب إنكاره لا إقراره، ورفع الصوت ليس هو علة التحريم ولا شرطا له بل هو البيان الواقع، وإنما سبب التحريم ما ذكرناه من كونه من عبادة غير الله تعالى، ويدخل فيما أهل به لغير الله ما ذكر عند ذبحه اسم نبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء، كما يفعله بعض أهل الكتاب وجهلة المسلمين الذين اتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع.
هـ. الخامس: المنخنقة:
• قال صاحب القاموس: (خنقه خنقا (ككتف) وخنقا فهو خنق أيضا (أي ككتف) وخنق ومخنوق كخنقه فاختنق، وانخنقت الشاة بنفسها) وقد روى ابن جرير في تفسير المنخنقة أقوالا عن مفسري السلف في هذا المعنى، فعن السدي أنها التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق فتموت، وعن ابن عباس والضحاك: التي تختنق فتموت، وعن قتادة التي تموت في خناقها، وفي رواية الضحاك: الشاة توثق فيقتلها خناقها، وفي رواية أخرى عن قتادة: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها، قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال هي التي تختنق إما في وثاقها أو بإدخال رأسها في الموضع الذي لا تقدر على التخلص حتى تموت، وإنما قلنا إن ذلك أولى بالصواب في التأويل من غيره لأن المنخنقة هي الموصوفة بالانخناق دون خنق غيرها لها، ولو كان معنيا بذلك أنها مفعول بها لقيل والمخنوقة حتى يكون معنى الكلام ما قالوا) وهو المختار عندنا لأنه هو المعنى اللغوي المنطبق على حكمة الشارع، ويغلط من يقول إن فعل الانخناق هنا مما يسمونه فعل المطاوعة كما قال الصرفيون في مثل كسرته فانكسر، ويتوهم من لا ذوق له في اللغة أن هذه الصيغة لا تجيء إلا لما كان أثر لفعل فاعل مختار ككسوته فانكسر، والصواب أن هذه فلسفة باطلة، وأن العربي القح إنما يقول انكسر الشيء إذا كان يعلم أنه انكسر بنفسه أو يجهل من يكسره، إلا إذا كان المقام مقام تعبير عن شيء تعاصى كسره على الكاسرين ثم انكسر بفعل أحدهم، وهذا لا يتأتى إلا في بعض المواد، وأرى ذوقي يوافق في مادة الخنق ما يفهم منه إلا ما كان بفعل الحيوان بنفسه كما قال ابن جرير، ويؤيد هذا الفهم الذي جزم ابن جرير بأنه هو الصواب الجمع به بين هذه الزوائد في سورة المائدة بين حصر المحرمات في الأربعة الأولى منها.
• فالمنخنقة بهذا المعنى من قبيل ما مات حتف أنفه من حيث إنه لم يمت بتذكية الإنسان له لأجل أكله، فهي داخلة في عموم الميتة بالمعنى الشرعي الذي بيناه في تفسيرها، وإنما خصها بالذكر لأن بعض العرب في الجاهلية كانوا يأكلونها ولئلا يشتبه فيها بعض الناس لأن لموتها سببا معروفا، وإنما العبرة في الشرع بالتذكية التي تكون بقصد الإنسان لأجل الأكل حتى يكون واثقا من صحة البهيمة التي يريد التغذي بها، ولو أراد تعالى بالمنخنقة المخنوقة بفعل الإنسان لعبر بلفظ المخنوقة أو الخنيقة لأنه حينئذ يفيد أن الخنق وإن ضربا من التذكية بفعل الفاعل لا يحل، ويفهم منه تحريم المنخنقة بالأولى، بل يفهم هذا من لفظ الميتة أيضا كما تقدم، فالعدول إلى صيغة المنخنقة لا تعقل له حكمة إلا الإشعار بكون المنخنقة في معنى الميتة.
و. السادس: الموقوذة:
• وهي التي ضربت بغير محدد حتى انحلت قواها وماتت، قال في القاموس: الوقذ شدة الضرب، قال شارحه: وفي البصائر للمصنف: الموقوذة هي التي تقتل بعصا أو بحجارة لا حد لها فتموت بلا ذكاة) وشاة وقيذ وموقوذة، والوقذ أيضا الشديد المرض المشرف على الموت، وما نقله ابن جرير من أقوال مفسري السلف موافق لهذا وهو أن الوقيذ ما ضرب بالخشب أو العصا، وكانوا يأكلونها في الجاهلية، والوقذ محرم في الإسلام لأنه تعذيب للحيوان وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن شداد ابن أوس، فلما كان الوقذ محرما حرم ما قتل به.
• ثم إن الموقوذة تدخل في عموم الميتة غير الشرعية على الوجه الذي فسرناها به أخذا من مجموع النصوص، فإنها لم تذك تذكية شرعية لأجل الأكل، قال الرازي: (ويدخل في الموقوذة ما رمي بالبندق فمات وهي أيضا في معنى المنخنقة فإنها ماتت ولم يسل دمها) فأما ما قاله في البندق ـ وهو ما يتخذ من الطين فيرمي به بعد يبسه ـ فعليه الجمهور عملا بحديث الصحيحين عن عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى عن الخذف وقال: (إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدوا ولكنها تكسر السن وتفقأ العين)، والخذف بالخاء المعجمة الرمي بالحصا والخزف وكل يابس غير محدد سواء رمي باليد أو المخذفة والمقلاع، وهو في معنى الوقذ لأنه يعذب الحيوان ويؤذيه ولا يقتله فالعلة في النهي عنه منصوصة في الحديث هو أنه تعذيب للحيوان وليس سببا مطردا ولا غالبا في القتل بخلاف بندق الرصاص المستعمل في الصيد الآن فإنه يصيد وينكأ ولذلك أفتى بجواز الصيد به المحققون من المتأخرين، وأما قوله ـ أي الرازي ـ: وهي في معنى المنخنقة فإنها ماتت ولم يسل دمها، فهو تعليل مردود لأن سيلان الدم سبب لحل الحيوان ولكنه ليس شرطا، بدليل حل ما صادته الجوارح فجاءت به ميتا، ولم يشترط أن تجرحه في نص ولم يقل به أئمة الفقه كما سيأتي.
ز. السابع: المتردية: وهي التي تقع من مكان مرتفع أو في منخفض فتموت، قال ابن جرير: (يعني بذلك جل ثناؤه وحرمت عليكم الميتة ترديا من جبل أو بئر أو غير ذلك، وترديها رميتها بنفسها من مكان عال شرف إلى أسفله) وهذا التفسير يدخل التردية في الميتة بحسب معناها الذي بيناه إذا لم يكن للإنسان عمل في إماتتها ولا قصد به إلى أكلها.
ح. الثامن: النطيحة: وهي التي تنطحها أخرى فتموت من النطاح من غير أن يكون للإنسان عمل في إماتتها كما سبق القول فيما قبلها، وفيها بحث لفظي وهو أنها بمعنى المنطوحة وصيغة (فعيل) إذا كانت بمعنى اسم المفعول يستوي فيها المذكر والمؤنث فلا تحتاج إلى التاء، إذ تقول العرب: عين كحيل، لا كحيلة، وكف خضيب، لا خضيبة، قد أجاب بعض البصريين عن هذا بأن التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية، وجعله بعضهم من استعمال فعيل بمعنى فاعل كأنه قال والناطحة التي تموت بالنطاح أي تنطح غيرها وتنطحها فتموت، وقال الكوفيون إنما يمتنع إلحاق التاء بفعيل بمعنى مفعول إذا كان وصفا لموصوف مذكور كعين كحيل فأما إذا لم يسبق للموصوف ذكر فلا يمتنع.
ط. التاسع: ما أكل السبع: أي ما قتله بعض سباع الوحوش كالأسد والذئب ليأكله، وأكله منه ليس شرطا للتحريم فإن فرسه إياه يلحقه بالميتة كما علم مما مر، وكانوا في الجاهلية يأكلون بعض فرائس السباع، وهو ما تأنفه أكثر الطباع، ولا يزال الناس يعدون أكله ذلة ومهانة وإن كانوا لا يخشون منه ضررا.
2. ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ وقد اختلف فيه المفسرون هل هو استثناء من جميع المحرمات التي يتوقف حلها على تذكية الإنسان لها أي إماتتها إماتة شرعية لأجل أكلها؟ أم استثناء من الأخير وهو ما أكل السبع؟ أم هو استثناء من تحريم دون المحرمات يقصد به أنه حرم عليكم ما ذكر إلا ما ذكيتم، أي ولكن لم يحرم عليكم ما ذكيتموه بفعلكم مما يذكى؟ والأول هو الظاهر المتبادر، ورجحه ابن جرير بعد ذكره الثالث، وجعله بعضهم استثناء من المنخنقة والثلاث بعدها، لأن ما أهل به لغير الله وما ذبح على النصب لا شأن للتذكية فيهما، قال ابن جرير: (وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب القول الأول وهو أن قوله: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ استثناء من قوله: ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾، لأن كل ذلك مستحق الصفة التي هو بها قبل حال موتها، فيقال لما قرب المشركون لآلهتهم فسموه له: هو ما أهل به لغير الله، وكذلك المنخنقة إذا انخنقت وإن لم تمت فهي منخنقة، وكذلك سائر ما حرمه الله تعالى ما بعد ما أهل به لغير الله، إلا بالتذكية المحللة دون الموت بالسبب الذي كان به موصوفا)
3. سؤال وإشكال: أورد ابن جرير سؤالا وأجاب عنه فقال: فإن قال لنا قائل فإذا كان ذلك معناه عندك فما وجه تكريره ما كرر بقوله: ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ وسائر ما عدد تحريمه في هذه الآية، وقد افتتح الآية بقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾؟ وقد علمت أنه شامل كل ميتة كان موته حتف أنفه من علة به غير جناية أحد عليه؟ أو كان موته من ضرب ضارب إياه أو انخناق منه أو انتطاح أو فرس سبع، هلا كان قوله ـ إن كان الأمر على ما وصفت في ذلك من أنه معني بالتحريم في كل ذلك الميتة بالانخناق والنطاح والوقذ وأكل السبع أو غير ذلك دون أن يكون معنيا به تحريمه إذا تردى أو انخنق أو فرسه السبع فبلغ ذلك منه ما يعلم أنه لا يعيش مما أصابه منه إلا باليسير من الحياة ـ ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ معنيا منه تكرير ما كرر بقوله: ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ وسائر ما ذكر مع ذلك وتعديده ما عدد؟ والجواب: وجه تكراره ذلك ـ وإن كان تحريم ذلك إذا مات من الأسباب التي هو بها موصوف وقد تقدم بقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ أن الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا لا يعدون الميتة من الحيوان إلا ما مات من علة عارضة به غير الانخناق والتردي والانتطاح وفرس السبع، فأعلمهم الله أن حكم ذلك حكم ما مات من العلل العارضة، وأن العلة الموجبة تحريم الميتة ليست موتها من علة مرض أو أذى كان بها قبل هلاكها ولكن العلة في ذلك أنها لم يذبحها من أحل ذبيحته بالمعنى الذي أحلها به.
4. وقد أيد ابن جرير رأيه برواية عن السدي في المنخنقة وما بعدها قال: (هذا حرام لأن ناسا من العرب كانوا يأكلونه ولا يعدونه ميتا إنما يعدون الميت الذي يموت من الوجع فحرمه الله عليهم إلا ما ذكروا اسم الله عليه وأدركوا ذكاته فيه الروح)، وقد أخطأ ابن جرير في سياقه هذا بما ذكر من العلة بالتعبير فيه بلفظ الذبح بدل لفظ التذكية الذي هو تعبير القرآن، والتذكية أعم من الذبح كم سيأتي، وقد ثبت أن المتردية في البئر إذا طعنت في أي جزء من بدنها فكان ذلك هو المتمم لموتها عد تذكية وحل أكلها، وما هو بالذي يجهل هذا ولكن الاستعمال الغالب ينسي الإنسان غيره أحيانا فيعبر به، وقد يريد به المثال، ثم إن عبارة السدي التي رواها عنه لتأييد قوله تفيد أن بعض العرب هم الذين كانوا لا يعدون ذلك من الميتة، وهي أخص من عبارته هو، وأقول إنه ليس المراد بذلك أنهم لا يعدونه من الميتة لغة بل المراد أن العرب كانت تعاف أكل الميتة إلا بعضهم كان لا يعاف منها إلا ما جهل سبب موته، وأما ما عرف كالمنخنقة والموقوذة الخ ما ذكر في الآية فلم يكونوا يعافونه.
5. جملة القول في أصل المسألة أن الله تعالى أحل أكل بهيمة الأنعام وسائر الطيبات من الحيوان ما دب منه على الأرض وما طار في الهواء وما سبح في البحر، ولم يحرم على سبيل التعيين إلا الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، ولما كان بعض العرب يذبح الحيوان على اسم غير الله وهو شرك وفسق، وبعضهم يأكل بعض أنواع الميتة بل كان بعضهم يأكل كل ميتة سهل ذلك عليه عدمه وفقره ـ وهم الذين كانوا يقولون لم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله ـ ولما كان ذلك مظنة الضرر وفيه شيء من مهانة النفس، جعل الله تعالى حل أكل المسلم لذلك منوطا بأن يكون إتمام موته والإجهاز عليه بفعله هو ليذكر اسم الله على ما بدئ بالإهلال به لغير الله عند إزهاق روحه فلا يكون من عمل الشرك، ولئلا يقع في مهانة أكل الميتة وخسة صاحبها بأكله المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وفريسة السبع، وناهيك بما في الموقوذة من إقرار واقذها على قسوته وظلمه للحيوان وهو محرم شرعا.
6. ويكفي في صحة إدراك ذكاة ما ذكر أن يكون فيه رمق من الحياة عند جمهور مفسري السلف، وقال بعض الفقهاء: لا بد أن تكون فيه حياة مستقرة وعلامتها انفجار الدم والحركة العنيفة، روى ابن جرير عن الحسن أنه قال في بيان ما تدركه ذكاته من هذه الأشياء: إذا طرفت بعينها أو ضربت بذنبها، وفي رواية أخرى عنه عنده: إذا كانت الموقوذة تطرف ببصرها أو تركض (تضرب) برجلها أو تمصع بذنبها (تحركه) فاذبح وكل، وعن قتادة في قوله: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ قال فكل هذا الذي سماه الله عز وجل وجهل ها هنا ما خلا لحم الخنزير إذا أدركت منه عينا تطرف أو ذنبا يتحرك أو قائمة تركض فذكيته فقد أحله الله، وفي رواية أخرى عنه: إلا ما ذكيتم من هذا كله فإذا وجدتها تطرف عينها أو تحرك أذنيها من كله فهي لك حلال، وعن علي كرم الله وجهه قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهي تحرك يدا أو رجلا فكلها، وفي رواية أخرى عنه عنده أيضا: إذا ركضت برجلها أو طرفت بعينها أو حركت ذنبها فقد أجزي، وعن الضحاك: كان أهل الجاهلية يأكلون هذا فحرم الله في الإسلام إلا ما ذكي منه، فما أدرك فتحرك منه رجل أو ذنب أو طرف فذكى فهو حلال، وروى القول الآخر عن مالك قال حدثني يونس عن أشهب قال سئل مالك عن السبع يعدو على الكبش فيدق ظهره، أترى أن يذكى قبل أن يموت فيؤكل؟ قال إن كان بلغ السحر فلا أرى أن يؤكل، وإن كان إنما أصاب أطرافه فلا أرى بذلك بأسا، قيل له وثب عليه فدق ظهره، قال: لا يعجبني أن يؤكل هذا لا يعيش منه، قيل له فالذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء، قال إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل، (قال ابن جرير) وعلى هذا القول يجب أن يكون قوله: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ استثناء منقطعا، ثم بين أن هذا مرجوح وأن الصواب غيره، وقد نقلنا عبارته في أول هذا البحث.
7. أما الذكاء والتذكية والإذكاء فمعناها في أصل اللغة فعل خاص أو تمامه لا مجرد إيقاع ذلك الفعل أو وقوعه، يقال ذكت النار تذكو ذكوا وذكا وذكاء إذا تم اشتعالها، والشمس إذا اشتدت حرارتها كأتم ما يعتاد وأكمله، وذكى الرجل (كرمى ورضى) تمت فطنته، وأذكى النار وذكاها تذكية وذكى البهيمة إذا أزهق روحها وإن بدأ بذلكم غيره أو عرضت لها علة توجبه لو تركت، إذ العبرة بالتمام، قال في لسان العرب: (الذكاء شدة وهج النار يقال ذكيت النار إذ أتممت إشعالها ورفعها، وكذلك قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ ذبحه على التمام، والذكا تمام إيقاد النار مقصور يكتب بالألف)
8. ذكر الذبح مثال، ومثله غيره مما تتم به الإماتة كنحر البعير وطعن المتردية في البئر أي السن، وأصله أنهم يعرفون أعمارها برؤية أسنانها، ومنه (جرى المذكيات غلاب) وهي الخيل تمت قوتها وأشرفت على النقص فهي تغالب الجري مغالبة، وذكى الرجل (بالتشديد) أسن وبدن، وفي السن معنى التمام قال في اللسان: (وتأويل تمام السن النهاية في الشباب فإذا نقص عن ذلك أو لو زاد فلا يقال له الذكاء، والذكاء في الفهم أن يكون فهما تاما سريع القبول، ابن الأنباري في ذكاء الفهم والذبح: أنه التمام وأنهما ممدودان) ثم نقل أقوالا عن اللغويين في كون الذبح والنحر ذكاة وذكر أقوال الذكاء في السن والفهم.
9. وقد جعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خرق حديدة المعراض وقتل الكلب (ونحوه) للصيد ذكاة، ففي حديث عدي بن حاتم في الصحيحين وغيرهما: (إذا رميت بالمعرض فخرق فكله وإن أصاب بعرضه فلا تأكله) وفي رواية (إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاة)، قال صاحب منتقي الأخبار عند إيراد هذا الحديث المتفق عليه: وهو دليل على الإباحة سواء قتله الكلب جرحا أو خنقا، والمعرض ـ كما في اللسان ـ: بالكسر سهم يرمى به بلا ريش ولا نصل يمضي عرضا فيصيب بعرض العود لا بحده اه، وإنما يصيب بحده ـ أي طرف العود الدقيق الذي يخزق أي يخدش ـ إذا كان الصيد قريبا كما في شرح القاموس، وقيل هو خشبة ثقيلة في آخر عصا محدد رأسها وقد لا يحدد، وقوى هذا القول النووي في شرح مسلم تبعا للقاضي عياض، وقال القرطبي إنه المشهور، وقال ابن التين: المعرض عصا في طرفها حديدة يرمي بها الصائد فما أصاب بحده فهو ذكي فيؤكل وما أصاب بغير حده فهو وقيذ.. والأول أظهر وهو المقدر في معاجم اللغة، ولعل للمعراض أنواع، والشاهد أن خدش المعراض وقتل الكلب يعد تذكية لغة وشرعا لأنه مما يدخل في قصد الإنسان إلى قتل الحيوان لأجل أكله لا تعذيبه، وفي حديث أبي ثعلبة عند مسلم مرفوعا (إذ رميت بسهمك فغاب عنك فأدركته فكله ما لم ينتن)
10. ولما كانت التذكية المعتادة في الغالب لصغار الحيوانات المقدور عليها هي الذبح كثر التعبير به فجعله الفقهاء هو الأصل، وظنوا أنه مقصود بالذات لمعنى فيه فعلل بعضهم مشروعية الذبح بأنه يخرج الدم من البدن الذي يضر بقاؤه فيه لما فيه من الرطوبات والفضلات، ولهذا اشترطوا فيه قطع الحلقوم والودجين والمريء على خلاف بينهم في تلك الشروط، وأرى أن هذا تحكم في الطب والشرع بغير بينة، ولو كان الأمر كما قالوا لما أحل الصيد الذي يأتي به الجارح ميتا، وصيد السهم والمعراض إذا خزق لأن هذا الخزق لا يخرج الدم الكثير كما يخرجه الذبح، والصواب أن الذبح كان ولا يزال أسهل أنواع التذكية على أكثر الناس فلذلك اختاروه وأقرهم الشرع عليه لأنه ليس فيه من تعذيب الحيوان ما في غيره من أنواع القتل، كما أقرهم على صيد الجوارح والسهم والمعراض ونحو ذلك، وإني لا أعتقد أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لو أطلع على طريقة للتذكية أسهل على الحيوان لا ضرر فيها كالتذكية بالكهربائية ـ إن صح هذا الوصف فيها ـ لفضلها على الذبح لأن قاعدة شريعته أنه لا يحرم على الناس إلا ما فيه ضرر لأنفسهم أو غيرهم من الأحياء، ومنه تعذيبه الحيوان بالوقذ ونحوه، وأمور العادات في الأكل واللباس ليست مما يتعبد الله الناس تعبدا بإقرارهم عليه، وإنما تكون أحكام العبادة بنصوص من الشارع تدل عليها، ولا يعرف مراد الشارع وحكمته في مسألة من المسائل إلا بفهم كل ما ورد فيها بجملته، ولو كان إقرار الناس على الشيء من العادات أو استئناف الشارع لها حجة على التعبد بها لوجب على المسلمين اتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في كيفية أكله وشربه ونومه، بل هنالك ما هو أجدر بالوجوب كالتزام صفة مسجده وحينئذ يحرم فرشه ووضع السرج والمصابيح فيه.
11. وقد تأملنا مجموع ما ورد في التذكية ففقهنا أن غرض الشارع منها اتقاء تعذيب الحيوان بقدر الاستطاعة فأجاز ما أنهر الدم وما مراه أو أمراه أو أمره وهو دون أنهره في معنى إخراجه أو إرساله، وأمر بان تحد الشفار وان لا يقطع شيء من بدن الحيوان قبل أن تزهق روحه، وأجاز النحر والذبح حتى بالظرار أي بالحجارة والمحددة بالمرو أي الحجر الأبيض وقيل الذي تقدح منه النار، وبشق العصا، وهذا دون السكين غير المحدد بالشحذ، ولكل وقت وحال ما يناسبهما، فإذا تيسر الذبح بسكين حاد لا يعدل إلا ما دونه، وإذا تيسر في الذبح إنهار الدم يكون أسهل على الحيوان وأقل إيلاما له فلا يعدل عنه إلى مثل طعن المتردية في ظهرها أو فخذها أو خزق المعراض وخدشه لأي عضو من البدن، والرمي بالسهم للحيوان الكبير ذي الدم الغزير، روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن رافع بن خديج قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في سفر فند بعير من إبل القوم ولم يكن معهم خيل فرماه رجل منهم بسهم فحبسه فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما فعل منها هذا فافعلوا به هكذا)، ند البعير نفر، وحبسه وأثبته في مكانه إذا مات فيه برميه السهم، واستدل جمهور السلف بالحديث على جواز أكل ما رمي بالسهم فجرح في أي موضع من الجسد ولكن اشترطوا أن يكون وحشيا أو متوحشا أو نادا، إلا أن مالكا وشيخه ربيعة والليث وسعيد بن المسيب لم يجيزوا أكل المتوحش إلا بتذكيته في حلقه أو لبته أي نحره.
12. العاشر من محرمات الطعام: ما ذبح على النصب قال الراغب في مفرداته: نصب وضعه وضعا ناتئا كنصب الرمح وبناء الحجر، والنصيب الحجارة تنصب على الشيء وجمعه نصائب ونصب (بضمتين) وكان للعرب حجارة تعبدها وتذبح عليها قال: ﴿كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾ [المعارج: 43] قال: (ما ذبح على النصب) وقد يقال في جمعه أنصاب، قال: (والأنصاب والأزلام)) وقال في اللسان: والنصب (بالفتح) والنصب (بالضم) والنصب (بضمتين) الداء والبلاء والشد، وفي التنزيل ﴿مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ [ص: 31] والنصيبة والنصب (بضمتين) كل ما نصب فجعل علما، وقيل النصب جمع نصيبة كسفينة وسفن وصحيفة وصحف، الليث: النصب جماعة النصيبة وهي علامة تنصب للقوم، والنصب (بالفتح) والنصب (بضمتين) العلم المنصوب، في التنزيل ﴿كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾ قرئ بهما جميعا، وقيل النصب (بالفتح) الغاية، والأول أصح، قال أبو إسحاق من قرأ إلى نصب (بالفتح) فمعناه إلى علم منصوب يسبقون إليه، ومن قرأ إلى نصب (بضمتين) فمعناه إلى أصنام كقوله: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ ونحو ذلك قال الفراء، قال والنصب (بالفتح) واحد وهو المصدر وجمعه الأنصاب، والينصوب علم ينصب في الفلاة، والنصب والنصب كل ما عبد من دون الله تعالى، وكذلك النصب بالضم وقد يحرك مثل عسر.. وقال ابن جرير: والنصب الأوثان من الحجارة جماعة أنصاب، كانت تجمع في الموضع من الأرض فكان المشركون يقربون لها، وليست الأصنام، وكان ابن جرير يقول في صفته ـ وذكر سنده إليه ـ النصب ليست بأصنام، الصنم يصور وينقش وهذه حجارة تنصب ثلاث مئة وستون حجرا، منهم من يقول الثلاث مئة منها بخزاعة، فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت وشرحوا اللحم وجعلوه على الحجارة، قال المسلمون يا رسول الله: كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم فنحن أحق أن نعظمه، فكأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكره ذلك فأنزل الله ﴿لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج: 37] ثم أيد ابن جرير قول ابن جريج بما رواه عن غيره من المفسرين، ومنه قول مجاهد: النصب حجارة حول الكعبة تذبح عليها أهل الجاهلية ويبدلونها إذا شاءوا بحجارة أحب إليهم منها، وقول قتادة: والنصب حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها ويذبحون لها فنهى الله عن ذلك، وقول ابن عباس: أنصاب كانوا يذبحون ويهلون عليها.
13. فعلم من هذه النصوص أن ما ذبح على النصب هو من جنس ما أهل به لغير الله من حيث إنه يذبح بقصد العبادة لغير الله تعالى ولكنه أخص منه، فما أهل به لغير الله قد يكون ذبح لصنم من الأصنام بعيدا عنه وعن النصب، وما ذبح على النصب لا بد أن يذبح على تلك الحجارة أو عندها وينشر لحمه عليها، فعلم من هذا ومما قبله أن المحرمات عشرة بالتفصيل وأربعة بالإجمال، وكما خص المنخنقة وما عطف عليها من الميتات بالذكر بسبب خاص معروف لئلا يغتر أحد باستباحة بعض أهل الجاهلية لها ـ خص ما ذبح على النصب بالذكر لإزالة وهم من توهم أنه قد يحل بقصد تعظيم البيت الحرام إذا لم يذكر اسم غير الله عليه، وحسبك أنه من خرافات الجاهلية التي جاء الإسلام بمحوها.
__________
(1) تفسير المنار: 6/111.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا شروع في بيان المحرمات التي أشير إليها في أول السورة بقوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ وهي عشرة أنواع:
أ. الأول: الميتة: ويراد بها عرفا ما مات حتف أنفه: أي بدون فعل فاعل، ويراد بها في عرف الشرع ما مات ولم يذكه الإنسان لأجل أكله، والحكمة في التحريم:
• استقذار الطباع السليمة لها.
• أن في أكلها مهانة تنافى عزة النفس وكرامتها.
• الضرر الذي ينشأ من أكلها سواء كانت قد ماتت بمرض أو شدة ضعف أو بجراثيم (ميكروبات) انحلت بها قواها.
• تعويد المسلم ألا يأكل إلا مما كان له قصد في إزهاق روحه.
ب. الثاني: الدم: والمراد به الدم المسفوح: أي المائع الذي يسفح ويراق من الحيوان وإن جمد بعد ذلك، بخلاف المتجمد طبيعة كالطحال والكبد وما يتخلل اللحم عادة فإنه لا يسمى مسفوحا، وحكمة تحريم الدم الضرر والاستقذار أيضا، أما الضرر فلأنه عسر الهضم جدّ العسر، ويحمل كثيرا من الموادّ العفنة التي تنحلّ من الجسم، وهي فضلات لفظتها الطبيعة كما تلفظ البراز ونحوه واستعاضت عنها بموادّ جديدة من الدم، وقد يكون فيه جراثيم بعض الأمراض المعدية وهي تكون فيه أكثر مما تكون في اللحم ومن أجل هذا اتفق الأطباء على وجوب غلى اللبن قبل شربه، لقتل ما عسى أن يكون قد علق به من جراثيم الأمراض المعدية.
ج. الثالث: لحم الخنزير: لما فيه من الضرر والاستقذار لملازمته للقاذورات ورغبته فيها، أما ضرره فقد أثبته الطب الحديث، إذ أثبت أن له ضررا يأتي من أكله القاذورات، فإن أكله يولد الديدان الشريطية كالدودة الوحيدة ودودة أخرى تسمى الشعرة الحلزونية وهي تنشأ من أكله الفيران الميتة، كما أثبت أن لحمه أعسر اللحوم هضما لكثرة الشحم في أليافه العضلية، وأن الموادّ الدهنية التي فيه تمنع وصول عصير المعدة إلى الطعام فيعسر هضم الموادّ الزلالية وتتعب معدة آكله ويشعر بثقل في بطنه واضطراب في قلبه، فإن ذرعه القيء فقذف هذه المواد الخبيثة خفّ ضرره، وإلا تهيجت المعدة وأصيب بالإسهال، ولولا أن العادة قد جرت بتناول السموم أكلا وشربا وتدخينا ولولا ما يعالجون به لحم الخنزير لتخفيف ضرره لما أمكن الناس أن يأكلوه ولا سيما أهل البلاد الحارة.
د. الرابع: ما أهلّ لغير الله به: الإهلال رفع الصوت، يقال أهلّ فلان بالحج إذا رفع صوته بالتّلبية له (لبيك اللهم لبيك) واستهلّ الصبىّ إذا صرخ عند الولادة والمراد به ما ذبح على ذكر غير الله تعالى من المخلوقات التي يعظمها الناس تعظيما دينيا ويتقربون إليها بالذبائح، وكانوا يذبحون لأصنامهم فيرفعون أصواتهم بقولهم باسم اللات أو باسم العزّى، وحكمة التحريم في هذا أنه من عبادة غير الله، فالأكل منه مشاركة لأهله ومشايعة لهم عليه، وهو مما يجب إنكاره لا إقراره، ويدخل في ذلك ما ذكر عند ذبحه اسم نبي أو ولىّ كما يفعل بعض أهل الكتاب وجهلة المسلمين الذين اتبعوا من قبلهم وساروا على نهجهم باعا فباعا وذراعا فذراعا.
هـ. الخامس: المنخنقة: وقد روى ابن جرير في تفسيرها أقوالا؛ فعن السدى أنها التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق فتموت، وعن ابن عباس والضحاك هي التي تختنق فتموت، وفى رواية عن الضحاك هي الشاة توثق فيقتلها خناقها، ثم قال وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال هي التي تختنق إما في وثاقها أو بإدخال رأسها في الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه فتختنق حتى تموت، وهي بهذا المعنى من قبيل ما مات حتف أنفه من حيث إنه لم يمت بتذكية الإنسان له لأجل أكله فهي داخلة في الميتة، وإنما خصها بالذكر لأن بعض العرب في الجاهلية كانوا يأكلونها، ولئلا يشتبه فيها بعض الناس لأن لموتها سببا معروفا، والعبرة في الشرع بالتذكية التي تكون بقصد الإنسان لأجل الأكل حتى يكون واثقا من صحة البهيمة التي يريد التغذي بها.
و. السادس: الموقوذة: الوقذ: شدة الضرب، وشاة وقيذ وموقوذة، والموقوذة هي التي تقتل بعصا أو بحجارة لا حدّ لها فتموت بلا ذكاة، وكانوا يأكلونها في الجاهلية، والوقذ يحرم في الإسلام، لأنه تعذيب للحيوان، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن، ولما كان الوقذ محرما حرم ما قتل به، وهي تدخل في عموم الميتة على الوجه الذي ذكرنا، فإنها لم تذكّ تذكية شرعية، ويدخل في الموقوذة ما رمى بالبندق (وهو نحو كرة من الطين تجفف ويرمى بها بعد يبسها) لما روى (أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى عن الخذف (الرمي بالحصا والخزف وكل يابس غير محدد سواء رمى باليد أو المخذفة أو المقلاع) وقال، إنه لا يفقأ العين ولا ينكى العدوّ ولا يحرز صيدا) ففي هذا الحديث نص على العلة وهو أنه تعذيب للحيوان وليس سببا مطردا ولا غالبا للقتل، أما بندق الرّصاص المستعمل الآن وما في حكمه فإنه يصيد وينكأ، ولذا أفتى العلماء بجواز الصيد به.
ز. السابع: المتردّية: وهي التي تقع من مكان مرتفع كجبل، أو منخفض كبئر ونحوها فتموت، وهي في حكم الميتة، لأنه لم يكن للإنسان عمل في إماتتها ولا قصد به إلى أكلها.
ح. الثامن: النطيحة: وهي التي تنطحها بهيمة أخرى فتموت من النّطاح من غير أن يكون للإنسان عمل في أمانتها.
ط. التاسع: ما أكل السبع: وهو ما قتله بعض سباع الوحوش كالاسد والذئب والنمر ليأكله، وأكله منه ليس بشرط للتحريم، إذ يكفى فرسه إياه وقتله في تحريمه، وكان العرب في الجاهلية يأكلون بعض فرائس السباع، ولكنه مما تأنفه أكثر الطباع، وأكثر الناس يعدّ أكله ذلة ومهانة وإن كانوا لا يخشون منه ضررا.
ي. العاشر: ما ذبح على النصب: والنصب واحد الأنصاب، وهي حجارة كانت حول الكعبة عددها ثلاثمائة وستون حجرا وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة، ومن هذا تعلم أن ما ذبح على النصب هو من جنس ما أهلّ به لغير الله من حيث إنه يذبح بقصد العبادة لغير الله تعالى، وخص بالذكر لإزالة وهم من يتوهم أنه قد يحل لقصد تعظيم البيت الحرام إذا لم يذكر اسم غير الله عليه، وهو من خرافات الجاهلية التي جاء الإسلام بمحوها.
2. ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ أي إلا ما أدركتموه وفيه بقية حياة ويضطرب اضطراب المذبوح فذكيتموه وأمتموه إماتة شرعية لأجل أكله ـ وهو استثناء من جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل التذكية من الميتة والدم والخنزير وما أكل السبع، وذلك هو ـ ما أهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وخلاصة المعنى ـ ولكن لا يحرم عليكم ما ذكيتموه بفعلكم مما يقبل التذكية، ويكفى في صحة إدراك ذكاة ما ذكر أن يكون فيه رمق من الحياة بأن يطرف بعينه أو يضرب بذنبه، وقد قال على كرم الله وجهه: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهي تحرك يدا أو رجلا فكلها.
3. خلاصة ما تقدم ـ إن الله تعالى أحلّ أكل بهيمة الأنعام وسائر الطيبات من الحيوان، ما دبّ منها على الأرض، وما طار في الهواء، وما سبح في البحر، ولم يحرم إلا الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، وقد كان بعض العرب يذبح الحيوان على اسم غير الله وهو شرك وفسق، وبعضهم يأكل الميتة ويقول لم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ ولكن الفارق بينهما ما في هذا من مظنة الضرر، وفيه مهانة للنفس، ومن ثم جعل الله حل أكل المسلم لذلك منوطا بإتمام موته والإجهاز عليه بفعله هو ليذكر اسم الله عليه فلا يكون من عمل الشرك، ولئلا يقع في مهانة أكل الميتة وخسة آكلها بأكله المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وفريسة السبع ـ إلى ما في الموقوذة من إقرار الواقذ على القسوة وظلم الحيوان وذلك محرم شرعا.
__________
(1) تفسير المراغي 6/48.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يأخذ السياق في تفصيل ما استثناه في الآية الأولى: من السورة من حل بهيمة الأنعام.. والميتة والدم ولحم الخنزير، سبق بيان حكمها، وتعليل هذا الحكم في حدود ما يصل إليه العلم البشري بحكمة التشريع الإلهي، عند استعراض آية سورة البقرة الخاصة بهذه المحرمات.
2. وسواء وصل العلم البشري إلى حكمة هذا التحريم أم لم يصل، فقد قرر العلم الإلهي أن هذه المطاعم ليست طيبة؛ وهذا وحده يكفي، فالله لا يحرم إلا الخبائث، وإلا ما يؤذي الحياة البشرية في جانب من جوانبها، سواء علم الناس بهذا الأذى أو جهلوه.. وهل علم الناس كل ما يؤذي وكل ما يفيد!؟
3. وأما ما أهل لغير الله به، فهو محرم لمناقضته ابتداء للإيمان، فالإيمان يوحد الله، ويفرده سبحانه بالألوهية ويرتب على هذا التوحيد مقتضياته، وأول هذه المقتضيات أن يكون التوجه إلى الله وحده بكل نية وكل عمل؛ وأن يهل باسمه ـ وحده ـ في كل عمل وكل حركة؛ وأن تصدر باسمه ـ وحده ـ كل حركة وكل عمل، فما يهل لغير الله به؛ وما يسمى عليه بغير اسم الله (وكذلك ما لا يذكر اسم الله عليه ولا اسم أحد) حرام؛ لأنه ينقض الإيمان من أساسه؛ ولا يصدر ابتداء عن إيمان.. فهو خبيث من هذه الناحية؛ يلحق بالخبائث الحسية من الميتة والدم ولحم الخنزير.
4. وأما المنخنقة (وهي التي تموت خنقا) والموقوذة (وهي التي تضرب بعصا أو خشبة أو حجر فتموت) والمتردية (وهي التي تتردى من سطح أو جبل أو تتردى في بئر فتموت) والنطيحة (وهي التي تنطحها بهيمة فتموت) وما أكل السبع (وهي الفريسة لأي من الوحش).. فهي كلها أنواع من الميتة إذا لم تدرك بالذبح وفيها الروح: (إلا ما ذكيتم) فحكمها هو حكم الميتة.. إنما فصل هنا لنفي الشبهة في أن يكون لها حكم مستقل..
5. على أن هناك تفصيلا في الأقوال الفقهية واختلافا في حكم (التذكية)، ومتى تعتبر البهيمة مذكاة؛ فبعض الأقوال يخرج من المذكاة، البهيمة التي يكون ما حل بها من شأنه أن يقتلها سريعا ـ أو يقتلها حتما ـ فهذه حتى لو أدركت بالذبح لا تكون مذكاة، بينما بعض الأقوال يعتبرها مذكاة متى أدركت وفيها الروح، أيا كان نوع الإصابة.. والتفصيل يطلب في كتب الفقه المختصة..
6. واما ما ذبح على النصب ـ وهي أصنام كانت في الكعبة وكان المشركون يذبحون عندها وينضحونها بدماء الذبيحة في الجاهلية، ومثلها غيرها في أي مكان ـ فهو محرم بسبب ذبحه على الأصنام ـ حتى لو ذكر اسم الله عليه، لما فيه من معنى الشرك بالله.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/841.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية هي بيان لما جاء في قوله تعالى في الآية الأولى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ فهذا الذي يتلى على المؤمنين في هذه الآية، هو البيان الشارح لهذا الاستثناء! فهذه المحرمات هي استثناء من قوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ وهي: الميتة، والدم، ولحم الخنزير.
2. فالميتة مما تعافه النفوس، حتى إن بعض الحيوانات لا تأكل الميتة ولو هلكت جوعا، كالأسد مثلا.. وكذلك الدم الذي تستقذره النفوس الطيبة، وكذلك الشأن في لحم الخنزير، الذي حرّمته الشرائع السماوية كلها، للشبه الكبير الذي بينه وبين السباع، والكلاب! والتوراة التي هي شريعة اليهود ـ كما هي شريعة المسيحيين ـ تحرّم الخنزير، وقد التزم اليهود بهذا التحريم، وكذلك أتباع المسيح مدة حياته معهم، وشطرا كبيرا من عهد الحواريين بعده.. ولكن حين انتقلت الدعوة المسيحية إلى الوثنيين في أوربا، وكان لحم الخنزير من طعامهم، واقتناؤه وتربيته مصدر ثروة لهم ـ أباح لهم المبشرون بدعوة المسيح أن يأكلوا لحم الخنزير، حتى يقرّبوهم من دعوة المسيح، ويجذبوهم إليها.. ففي التوراة: (والخنزير لا تأكل.. يشقّ الظلف لكنه لا يجترّ.. فهو نجس لكم) [تثنية 14: 8]، فهذا حكم ملزم لأتباع هذه الشريعة، والتوراة هي شريعة اليهود والمسيحيين، كما قلنا، ولكن هكذا تلعب الأهواء حتى بشرائع السماء! ولا ندرى كيف يخالف المسيحيون نصّا صريحا من كتابهم المقدس، يقرءونه ويتعبدون به؟ ولا ندرى كيف يظلّ هذا النصّ الصريح في الكتاب المقدس قائما بين أعينهم، ثم يخالفونه عن عمد وإصرار!.
3. وأكثر من هذا.. عملية الختان.. إنها شريعة التوراة، حيث تقول: (قال الله لإبراهيم: هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينك وبين نسلك من بعدك: يختن منكم كل ذكر، فتختنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم.. وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فقطع تلك النفس من شعبها.. إنه نكث عهدي [تكوين 17: 9]، ولقد ختن المسيح نفسه، عملا بتلك الشريعة، ولكن حين انتقلت الدعوة المسيحية إلى الوثنيين من الرومان واليونان الذين لم يقبلوا الختان رفع عنهم هذا الحكم، كما رفع عن المسيحيين جميعا.. يقول (لوقا) صاحب الإنجيل المعروف باسمه، في رسالة بعث بها الرسل المبشرون بالمسيحية إلى أهل أنطاكية وسورية وكيليكية، الذين دخلوا في المسيحية، ثم رجعوا عنها، حين قيل لهم إنكم لن تقبلوا عند الله إذا لم تختنوا ـ في هذه الرسالة يقول لوقا: (قد سمعنا أن أناسا خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال، مقلقين أنفسكم، وقائلين أن تختنوا وتحفظوا الناموس، الذين نحن لم نأمرهم ـ رأينا وقد صرنا بنفس واحدة أن نختار رجلين ونرسلهما إليكم مع حبيبنا برنابا بولس.. رجلين قد بذلا أنفسهما لأجل ربنا المسيح، فقد أرسلنا يهوذا وسيلا، وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاها، لأنه قد رأى الروح القدس، ونحن، لا نضع عليكم ثقلا أكثر من هذه الأشياء الواجبة: أن تمتنعوا عن الذبح للأصنام، وعن الدم، والمخنوق والزنا) (أعمال الرسل 15: 24 ـ 28)، وهكذا سقط (الختان) من الشريعة المسيحية، بل لقد أصبح الختان سبّة يعرّض بها دعاة المسيحية في مواجهة المختونين، ويقولون: إنهم غير مختونى القلوب، وإن ختنوا بالأجسام!
4. ومما حرمه الله تعالى على المسلمين: ﴿ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ﴾ أي ما ذكر عند ذبحه اسم غير اسم الله، فهو ـ والحال كذلك ـ متلبس بالرجس، مشوب بالخبث.. وما كان لمؤمن أن يدخل إلى معدته رجسا أو خبثا، كما لا يدخل إلى معتقده شركا أو كفرا.. (والمنخنقة) وهي التي تموت خنقا من الحيوان.. إنها في حكم التي تموت حتف أنفها، في تعفف النفس الطيبة عنها.. (والموقوذة) وهي التي ضربت ضربا قضى عليها.. هي في حكم الميتة كذلك (والمتردّية) وهي التي ماتت نتيجة سقوطها من علوّ.. (والنطيحة) وهي التي ماتت بنطح حيوان آخر لها.. (وما أكل السبع) أي ما وقع فريسة لحيوان مفترس..
5. ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ أي هذه الحيوانات التي وقعت تحت هذه الأحداث من خنق، أو وقذ، أو تردّ، أو نطح، أو افتراس سبع ـ هذه الحيوانات محرم طعامها والأكل منها إذا هي ماتت قبل أن يلحقها من يذكيها، أي يطهرها بالذبح، وهي حية بعد، تجرى الحياة في كيانها كله.. وإلا كان ذبحها غير مطهر لها، وغير مبيح للأكل منها..
6. ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾، والنّصب: الحجارة المنصوبة للذبح عليها تقربا للأوثان.. فالحيوان المذبوح هذه الذّبحة قد تدنس لحمه بهذا الرجس، فكان حراما على المؤمن أن يطعم منه.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1029.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ استئناف بيانيّ ناشئ عن قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: 1]، فهو بيان لما ليس بحلال من الأنعام.
2. معنى تحريم هذه المذكورات تحريم أكلها، لأنّه المقصود من مجموع هذه المذكورات هنا، وهي أحوال من أحوال الأنعام تقتضي تحريم أكلها، وأدمج فيها نوع من الحيوان ليس من أنواع الأنعام وهو الخنزير، لاستيعاب محرّمات الحيوان، وهذا الاستيعاب دليل لإباحة ما سوى ذلك، إلّا ما ورد في السنّة من تحريم الحمر الأهلية، على اختلاف بين العلماء في معنى تحريمها، والظاهر أنّه تحريم منظور فيه إلى حالة لا إلى الصنف، وألحق مالك بها الخيل والبغال قياسا، وهو من قياس الأدون، ولقول الله تعالى إذ ذكرها في معرض الامتنان ﴿الْخَيْلَ والْبِغالَ والْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وزِينَةً﴾ [النحل: 8]، وهو قول أبي حنيفة خلافا لصاحبيه، وهو استدلال لا يعرف له نظير في الأدلّة الفقهية، وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: يجوز أكل الخيل، وثبت في الصحيح، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: ذبحنا فرسا على عهد رسول الله فأكلناه، ولم يذكر أنّ ذلك منسوخ، عن جابر بن عبد الله أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخّص في لحوم الخيل، وأمّا الحمر الأهلية فقد ورد في الصحيح أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى عن أكلها في غزوة خيبر، فقيل: لأنّ الحمر كانت حمولتهم في تلك الغزاة، وقيل: نهى عنها أبدا، وقال ابن عباس بإباحتها، فليس لتحريم هذه الثلاثة على الإطلاق وجه بيّن من الفقه ولا من السنّة.
3. والميتة: الحيوان الذي زالت منه الحياة، والموت حالة معروفة تنشأ عن وقوف حركة الدم باختلال عمل أحد الأعضاء الرئيسية أو كلّها، وعلّة تحريمها أنّ الموت ينشأ عن علل يكون معظمها مضرّا بسبب العدوى، وتمييز ما يعدي عن غيره عسير، ولأنّ الحيوان الميّت لا يدرى غالبا مقدار ما مضى عليه في حالة الموت، فربّما مضت مدّة تستحيل معها منافع لحمه ودمه مضارّ، فنيط الحكم بغالب الأحوال وأضبطها.
4. والدم: هنا هو الدم المهراق، أي المسفوح، وهو الذي يمكن سيلانه كما صرّح به في آية الأنعام [145]، حملا لمطلق هذه الآية على مقيّد آية الأنعام، وهو الذي يخرج من عروق جسد الحيوان بسبب قطع العرق وما عليه من الجلد، وهو سائل لزج أحمر اللون متفاوت الحمرة باختلاف السنّ واختلاف أصناف العروق، والظاهر أنّ علّة تحريمه القذارة: لأنّه يكتسب رائحة كريهة عند لقائه الهواء، ولذلك قال كثير من الفقهاء بنجاسة عينه، ولا تعرّض في الآية لذلك، أو لأنّه يحمل ما في جسد الحيوان من الأجزاء المضرّة التي لا يحاط بمعرفتها، أو لما يحدثه تعوّد شرب الدم من الضراوة التي تعود على الخلق الإنساني بالفساد، وقد كانت العرب تأكل الدم، فكانوا في المجاعات يفصدون من إبلهم ويخلطون الدم بالوبر ويأكلونه، ويسمّونه العلهز ـ بكسر العين والهاء، ـ وكانوا يملئون المصير بالدم ويشوونها ويأكلونها، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ﴾ في سورة البقرة [173]
5. إنّما قال: ﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ ولم يقل والخنزير كما قال: ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ إلى آخر المعطوفات، ولم يذكر تحريم الخنزير في جميع آيات القرآن إلّا بإضافة لفظ لحم إلى الخنزير، ولم يأت المفسّرون في توجيه ذلك بوجه ينثلج له الصدر، وقد بيّنا ذلك في نظير هذه الجملة من سورة البقرة [173]، ويبدو لي أنّ إضافة لفظ لحم إلى الخنزير للإيماء إلى أنّ المحرّم أكل لحمه لأنّ اللحم إذا ذكر له حكم فإنّما يراد به أكله، وهذا إيماء إلى أنّ ما عدا أكل لحمه من أحوال استعمال أجزائه هو فيها كسائر الحيوان في طهارة شعره، إذا انتزع منه في حياته بالجزّ، وطهارة عرقه وطهارة جلده بالدبغ، إذا اعتبرنا الدبغ مطهّرا جلد الميتة، اعتبارا بأنّ الدبغ كالذكاة، وقد روي القول بطهارة جلد الخنزير بالدبغ عن داوود الظاهري وأبي يوسف أخذا بعموم قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس، وعلّة تحريم الخنزير أنّ لحمه يشتمل على جراثيم مضرّة لا تقتلها حرارة النار عند الطبخ، فإذا وصلت إلى دم آكله عاشت في الدم فأحدثت أضرارا عظيمة، منها مرض الديدان التي في المعدة.
6. ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ هو ما سمّي عليه عند الذبح اسم غير الله، والإهلال: الجهر بالصوت ومنه الإهلال بالحجّ، وهو التلبية الدالّة على الدخول في الحجّ، ومنه استهلّ الصبي صارخا، قيل: ذلك مشتقّ من اسم الهلال، لأنّ العرب كانوا إذا رأوا هلال أوّل ليلة من الشهر رفعوا أصواتهم بذلك ليعلم الناس ابتداء الشهر، ويحتمل عندي أن يكون اسم الهلال قد اشتقّ من جهر الناس بالصوت عند رؤيته، وكانوا إذا ذبحوا القرابين للأصنام نادوا عليها باسم الصنم، فقالوا: باسم اللّات، باسم العزّى.
7. ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ هي التي عرض لها ما يخنقها، والخنق: سدّ مجاري النفس بالضغط على الحلق، أو بسدّه، وقد كانوا يربطون الدابّة عند خشبة فربما تخبّطت فانخنقت ولم يشعروا بها، ولم يكونوا يخنقونها عند إرادة قتلها، ولذلك قيل هنا: المنخنقة، ولم يقل المخنوقة بخلاف قوله: ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾، فهذا مراد ابن عباس بقوله: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها، وحكمة تحريم المنخنقة أنّ الموت بانحباس النفس يفسد الدم باحتباس الحوامض الفحمية الكائنة فيه فتصير أجزاء اللحم المشتمل على الدم مضرّة لآكله.
8. ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾: المضروبة بحجر أو عصا ضربا تموت به دون إهراق الدم، وهو اسم مفعول من وقذ إذا ضرب ضربا مثخنا، وتأنيث هذا الوصف لتأويله بأنّه وصف بهيمة، وحكمة تحريمها تماثل حكمة تحريم المنخنقة.
9. ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾: هي التي سقطت من جبل أو سقطت في بئر تردّيا تموت به، والحكمة واحدة، ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ فعيلة بمعنى مفعولة، والنطح ضرب الحيوان ذي القرنين بقرنيه حيوانا آخر، والمراد التي نطحتها بهيمة أخرى فماتت، وتأنيث النطيحة مثل تأنيث المنخنقة، وظهرت علامة التأنيث في هذه الأوصاف وهي من باب فعيل بمعنى مفعول لأنّها لم تجر على موصوف مذكور فصارت بمنزلة الأسماء.
10. ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾: أي بهيمة أكلها السبع، والسبع كلّ حيوان يفترس الحيوان كالأسد والنمر والضبع والذئب والثعلب، فحرّم على الناس كلّ ما قتله السبع، لأنّ أكيلة السبع تموت بغير سفح الدم غالبا بل بالضرب على المقاتل.
11. ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ استثناء من جميع المذكور قبله من قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾؛ لأنّ الاستثناء الواقع بعد أشياء يصلح لأن يكون هو بعضها، يرجع إلى جميعها عند الجمهور، ولا يرجع إلى الأخيرة إلّا عند أبي حنيفة والرازي، والمذكورات قبل بعضها محرّمات لذاتها وبعضها محرّمات لصفاتها، وحيث كان المستثنى حالا لا ذاتا، لأنّ الذكاة حالة، تعيّن رجوع الاستثناء لما عدا لحم الخنزير، إذ لا معنى لتحريم لحمه إذا لم يذكّ وتحليله إذا ذكّي، لأنّ هذا حكم جميع الحيوان عند قصد أكله، ثم إنّ الذكاة حالة تقصد لقتل الحيوان فلا تتعلّق بالحيوان الميّت، فعلم عدم رجوع الاستثناء إلى الميتة لأنّه عبث، وكذلك إنّما تتعلّق الذكاة بما فيه حياة فلا معنى لتعلّقها بالدم، وكذا ما أهلّ لغير الله به، لأنهم يهلّون به عند الذكاة، فلا معنى لتعلّق الذكاة بتحليله، فتعيّن أنّ المقصود بالاستثناء: المنخنقة، والموقوذة، والمتردّية، والنطيحة، وما أكل السبع، فإنّ هذه المذكورات تعلّقت بها أحوال تفضي بها إلى الهلاك، فإذا هلكت بتلك الأحوال لم يبح أكلها لأنّها حينئذ ميتة، وإذا تداركوها بالذكاة قبل الفوات أبيح أكلها، والمقصود أنّها إذا ألحقت الذكاة بها في حالة هي فيها حيّة، وهذا البيان ينبّه إلى وجه الحصر في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ [الأنعام: 145]، فذكر أربعة لا تعمل الذكاة فيها شيئا ولم يذكر المنخنقة والموقوذة وما عطف عليها هنا، لأنّها تحرم في حال اتّصال الموت بالسبب لا مطلقا، فعضّوا على هذا بالنواجذ.
12. للفقهاء في ضبط الحالة التي تعمل فيها الذكاة في هاته الخمس عبارات مختلفة: فالجمهور ذهبوا إلى تحديدها بأن يبقى في الحيوان رمق وعلامة حياة، قبل الذبح أو النحر، من تحريك عضو أو عين أو فم تحريكا يدلّ على الحياة عرفا، وليس هو تحريك انطلاق الموت، وهذا قول مالك في (الموطّأ)، ورواية جمهور أصحابه عنه، وعن مالك: أنّ المذكورات إذا بلغت مبلغا أنفذت معه مقاتلها، بحيث لا ترجى حياتها لو تركت بلا ذكاة، لا تصحّ ذكاتها، فإن لم تنفذ مقاتلها عملت فيها الذكاة، وهذه رواية ابن القاسم عن مالك، وهو أحد قولي الشافعي، ومن الفقهاء من قالوا: إنّما ينظر عند الذبح أحيّة هي أم ميّتة، ولا ينظر إلى حالة هل يعيش مثلها لو تركت دون ذبح، وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك، واختاره ابن حبيب، وأحد قولين للشافعي، ونفس الاستثناء الواقع في الآية يدلّ على أنّ الله رخّص في حالة هي محلّ توقّف في إعمال الذكاة، أمّا إذا لم تنفذ المقاتل فلا يخفى على أحد أنّه يباح الأكل، إذ هو حينئذ حيوان مرضوض أو مجروح، فلا يحتاج إلى الإعلام بإباحة أكله بذكاة، إلّا أنّ يقال: إنّ الاستثناء هنا منقطع بمعنى لكن، أي لكن كلوا ما ذكّيتم دون المذكورات، وهو بعيد، ومن العلماء من جعل الاستثناء من قوله: ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ على رأي من يجعل الاستثناء للأخيرة، ولا وجه له إلّا أن يكون ناظرا إلى غلبة هذا الصنف بين العرب، فقد كانت السباع والذئاب تنتابهم كثيرا، ويكثر أن يلحقوها فتترك أكيلتها فيدركوها بالذكاة.
13. ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ هو ما كانوا يذبحونه من القرابين والنشرات فوق الأنصاب، والنصب ـ بضمّتين ـ الحجر المنصوب، فهو مفرد مراد به الجنس، وقيل: هو جمع وواحده نصاب، ويقال: نصب ـ بفتح فسكون ـ ﴿كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾ [المعارج: 43]، وهو قد يطلق بما يرادف الصنم، وقد يخصّ الصنم بما كانت له صورة، والنصب بما كان صخرة غير مصوّرة، مثل ذي الخلصة ومثل سعد، والأصحّ أنّ النصب هو حجارة غير مقصود منها أنّها تمثال للآلهة، بل هي موضوعة لأنّ تذبح عليها القرابين والنسائك التي يتقرّب بها للآلهة وللجنّ، فإنّ الأصنام كانت معدودة ولها أسماء وكانت في مواضع معيّنة تقصد للتقرّب، وأمّا الأنصاب فلم تكن معدودة ولا كانت لها أسماء وإنّما كانوا ـ يتّخذها كلّ حيّ ـ يتقرّبون عندها، فقد روى أئمّة أخبار العرب: أنّ العرب كانوا يعظّمون الكعبة، وهم ولد إسماعيل، فلمّا تفرّق بعضهم وخرجوا من مكة عظم عليهم فراق الكعبة فقالوا: الكعبة حجر، فنحن ننصب في أحيائنا حجارة تكون لنا بمنزلة الكعبة، فنصبوا هذه الأنصاب، وربما طافوا حولها، ولذلك يسمّونها الدّوار ـ بضمّ الدال المشدّدة وبتشديد الواو ـ ويذبحون عليها الدماء المتقرّب بها في دينهم، وكانوا يطلبون لذلك أحسن الحجارة، وعن أبي رجاء العطاردي في (صحيح البخاري): كنّا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا خيرا منه ألقينا الأوّل وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجرا (أي في بلاد الرمل) جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناها عليه ليصير نظير الحجر ثمّ طفنا به.
14. فالنصب: حجارة أعدّت للذبح وللطواف على اختلاف عقائد القبائل: مثل حجر الغبغب الذي كان حول العزّى، وكانوا يذبحون على الأنصاب ويشرّحون اللحم ويشوونه، فيأكلون بعضه ويتركون بعضا للسدنة، قال الأعشى، يذكر وصايا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قصيدته التي صنعها في مدحه: وذا النصب المنصوب لا تنسكنّه وقال زيد بن عمرو بن نفيل للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل البعثة، وقد عرض عليه الرسول سفرة ليأكل معه في عكاظ: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، وفي حديث فتح مكّة: كان حول البيت ثلاثمائة ونيّف وستّون نصبا، وكانوا إذا ذبحوا عليها رشّوها بالدم ورشّوا الكعبة بدمائهم، وقد كان في الشرائع القديمة تخصيص صخور لذبح القرابين عليها، تمييزا بين ما ذبح تديّنا وبين ما ذبح للأكل، فمن ذلك صخرة بيت المقدس، قيل: إنّها من عهد إبراهيم وتحتها جبّ يعبّر عنها ببئر الأرواح، لأنّها تسقط فيها الدماء، والدم يسمّى روحا، ومن ذلك فيما قيل: الحجر الأسود كان على الأرض ثم بناه إبراهيم في جدر الكعبة، ومنها حجر المقام، في قول بعضهم، فلما اختلطت العقائد في الجاهلية جعلوا هذه المذابح لذبح القرابين المتقرّب بها للآلهة وللجنّ، وفي (البخاري) عن ابن عباس: النصب: أنصاب يذبحون عليها.
15. ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ بحرف (على)، ولم يقل وما ذبح للنصب لأنّ الذبيحة تقصد للأصنام والجنّ، وتذبح على الأنصاب، فصارت الأنصاب من شعائر الشرك.
16. ووجه عطف ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ على المحرّمات المذكورة هنا، مع أنّ هذه السورة نزلت بعد أن مضت سنين كثيرة على الإسلام وقد هجر المسلمون عبادة الأصنام، أنّ في المسلمين كثيرين كانوا قريبي عهد بالدخول في الإسلام، وهم وإن كانوا يعلمون بطلان عبادة الأصنام، أوّل ما يعلمونه من عقيدة الإسلام، فقد كانوا مع ذلك مدّة الجاهلية لا يختصّ الذبح على النصب عندهم بذبائح الأصنام خاصّة، بل يكون في ذبائح الجنّ ونحوها من النشرات وذبائح دفع الأمراض ودفع التابعة عن ولدانهم، فقالوا: كانوا يستدفعون بذلك عن أنفسهم البرص والجذام ومسّ الجن، وبخاصّة الصبيان، ألا ترى إلى ما ورد في كتب السيرة: أنّ الطفيل بن عمرو الدوسي لمّا أسلم قبل الهجرة ورجع إلى قومه ودعا امرأته إلى الإسلام قالت له: أتخشى على الصبية من ذي الشّرى (صنم دوس)، فقال: لا، أنا ضامن، فأسلمت، ونحو ذلك، فقد يكون منهم من استمرّ على ذبح بعض الذبائح على الأنصاب التي في قبائلهم على نيّة التداوي والانتشار، فأراد الله تنبيههم وتأكيد تحريم ذلك وإشاعته، ولذلك ذكر في صدر هذه السورة وفي آخرها عند قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ [المائدة: 90] الآيات.
__________
(1) التحرير والتنوير: 5/21.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآية السابقة بين سبحانه تحريم الصيد في وقت معين ومكان معين، وحال معينة، وهذا في البيت الحرام وفى الأشهر الحرم المخصصة للحج، كما قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة]، وفى هذه الآية بين سبحانه وتعالى المحرمات من الحيوان الذى كان في أصله حلالا، ولكن كان التحريم فيه سببه مقترنا بهلاكه، مما يهلك بموت من غير ذبح، وكذلك بعض أجزائه، وبين تحريم حيوانات أخرى وبعض الأفعال التي تقترن بالذبح عند الذين أباحوا الميسر لأنفسهم، ولذلك قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾
2. هذه الآية تبين تحريم أربعة أنواع، هي الميتة وما هو في حكمها مما يقتل ودمه لا يخرج منه، والثاني الدم، والثالث لحم الخنزير، والرابع ما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب، وحرم مع هذا فعلا يقترن بالذبح، وهو الاستقسام بالأزلام، أي قسم اللحم بطريق الأزلام، وهي الأقداح التي تستعمل في الميسر، أو كانت تستعمل عند العرب:
أ. والميتة: الحيوان الذى يموت، وكلمة ﴿الْمَيْتَةُ﴾ وصف والموصوف هو الجثة، فإن كل جثة لا تجرى فيها الحياة تكون ميتة، والمراد من الميتة هنا ما يموت من غير فعل فاعل، والميتة غالبا تكون مستقذرة في ذاتها تعافها النفس وينفر منها الطبع، وهي رجس قذر، يكون فيه تعفن، أو على الأقل يسارع إليه التعفن، وهي فوق أنها خبث يكون في الغالب سببه مرضا قد اعترى جسمه، وقد يكون بجرثومة تبقى بعد الموت أمدا غير قصير، ولأن الميتة يكون دمها فيها وقد فسد؛ ولذلك كله حرمت، فهي قذارة وفيها ضرر كبير.
ب. والدم: الذى جاء النص الكريم بتحريمه هو الدم المسفوح، الذى نص عليه في قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ [الأنعام] والمراد بالمسفوح: الذى يسفح ويراق من الحيوان، وإن غلظ وتماسك من بعد ذلك، فالدم الذى يكون جامدا بأصل خلقته وتكوينه كالكبد والطحال يكون حلالا، كما ورد عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (أحلت لنا ميتتان حلالان: ودمان حلالان الكبد والطحال، والسمك والجراد)، وكان تحريم الدم لأنه ضار، إذ إنه يعسر هضمه، وسريع التعفن، ويحمل كثيرا من جراثيم الأمراض، ولا يمكن تنقيته من هذه الجراثيم كاللبن إذ يغلى، وإن دم الحيوان السليم قد ينقل إلى الإنسان محفوظا مصونا من غير أن يتعرض للهواء فيزيده قوة أو يعوضه عما فقده، ولكنه لا يمكن أن يكون غذاء يتناول بالفم، ويمر على الجهاز الهضمى، إذ إنه لا يكون قابلا للتمثيل في الجسم فوق ما يسرى إليه من جراثيم تفسده وأن النفس الفطرية تعافه.
ج. ولحم الخنزير: حرام لأنه مستقذر، تعافه الفطرة كالميتة والدم، إذ إنه يلازم القاذورات ويتغذى منها، ولهذا المعنى حرمت البهائم الجلالة التي تأكل الجلة وتتغذى بها، فقد روى عن ابن عمر أنه قال: (نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أكل الجلالة وألبانها) وهذا النهى للكراهة عند بعض الأئمة، وللتحريم عند الآخرين، وقالوا: لا تؤكل حتى تحبس، وكان ابن عمر يحبس الدجاجة ثلاثا، ولا يرى بأكلها بعد ذلك بأسا، وإن المقصد من ذلك ألا يأكل المؤمن إلا طيبا لا خبث فيه، وإن كون لحم الخنزير ضارا فهو أمر قد قرره الطب، فلحمه يولد كثيرا من الديدان، كالدودة الوحيدة والشعرة الحلزونية التي تجىء إليه من أكل الجرذان الميتة، وإنه عسر الهضم لا تكاد النفس تستسيغه، والجهاز الهضمى لا يهضمه، وإن الذين يستطيبونه قد فسدت أذواقهم، والعادة هي التي سهلت استساغته، وكثير من المستقذرات تسهل العادة تناولها، وقد وصفه القرآن الكريم بأنه رجس، وقد صدق فيه الوصف، فهو ضار ضررا بليغا، ومستقذر استقذارا شديدا مهما يقل فيه الذين فسدت أذواقهم.
د. ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ الإهلال: هو رفع الصوت، وأصله رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم أطلق على رفع الصوت لأمر يدعو إلى رفعه، ومنه أهل فلان بالحج إذا رفع صوته بالتلبية والدعاء في كل مكان يناسب ذلك، وعند البيت الحرام، والإهلال لغير الله عند الذبح أن يذبحوا باسم صنم من الأصنام، وإن ذلك فيه عبادة لغير الله تعالى، فنهى عن أكل ما يذبح لذلك منعا لهذا العمل الذى هو شرك بالله تعالى، وكان النهى عن الأكل لأنه ذريعة إلى المنع المطلق، والتحريم في هذا ليس لذات الحيوان، بل لما صحبه من عمل فيه شرك بالله تعالى، وفسوق عن أمره سبحانه وتعالى، ولذلك كان تحريم الميتة والدم والخنزير؛ لأنها رجس، وهذا حرم لأنه فسق وإشراك، وهذا مؤدى قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ [الأنعام]
3. وإن الذبيحة إنما تحرم إذا كان قد ذكر غير اسم الله تعالى عليها، وإنها حلال إذا ذكر اسم الله تعالى عليها، ولكن إذا لم يذكر اسم الله تعالى عليها، ولم يذكر غيره، وكان الذابح مسلما، وكان الذبح في مكان لا يبدو أن فيه تقربا لغير الله تعالى أتكون الذبيحة حراما أم لا تكون؟ قال بعض الفقهاء: لا تحل لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام] فإذا لم يذكر اسم الله، فذلك من مواضع النهى.
4. وقال آخرون: إن موضع التحريم هو فيما أهل لغير الله به، والآخر على أصل الحل، ويدل على ذلك القصر في التحريم في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ [الأنعام]، وبقصر النهى في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام] على حال ما إذا ذكر غيره وما كان قبل النهى وبعده يزكى تفسيره بذلك، وسنبين ذلك عند الكلام في هذه الآية إن شاء الله تعالى.
5. ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾:
أ. المنخنقة: هي التي تموت بخنق إما باختناقها من وثاقها، أو يخنقها غيرها ويتركها حتى تموت.
ب. والموقوذة: هي التي وقذت بحجر، أو تضرب بعصا حتى تموت من غير تذكية شرعية، فالوقذ الرمي والضرب الشديد.. وما يرمى بالسهم، فيموت أيعد موقوذا أم لا يعد؟ روى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إذا رميت بالمعراض (السهم الذى قد يصيب بعرضه لا بحده) فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله، فإنه وقيذ) ومؤدى الحديث أن السهم إن اخترق الجسم وأسال الدم يؤكل المضروب وإلا فإنه لا يؤكل، فالعبرة إذن بإسالة الدم، فإن أساله أكله، وإلا فلا يؤكل.
ج. والمتردية: هي التي تموت بسبب سقوطها من مكان مرتفع في مكان منخفض، كالتي تسقط من جبل في هاوية، أو تسقط في بئر فتموت.
د. والنطيحة: هي الحيوان الذى يموت من نطح أو اصطدام، فهي فعيلة بمعنى مفعولة، كذبيحة بمعنى مذبوحة، وقد كان العرب يأكلون كل هذه الأصناف الأربعة، فجاء الإسلام وحرمها، والحقيقة أنها من نوع الميتة؛ لأنها تموت ودمها محبوس فيها لم يخرج منها، ويصح أن تدخل في عموم الميتة؛ ولذلك جاء الاقتصار على ذكر الميتة في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ [الأنعام] وهي بلا شك داخلة في عموم كلمة الميتة.
هـ. وما أكل السبع: المراد به ما افترسه ذو ناب وأظفار من سباع الحيوان كالأسد والنمر والذئب والثعلب والضبع، وغيرها من الحيوان، فما افترسه حتى مات يكون حراما سواء أكل منه أم لم يأكل، وذلك لأنه افترسه ليأكله، فأطلق اسم السبب وأريد المسبب، ولإطلاق السبب هنا معنى، ذلك أنه افترسه ليأكله، فيخرج بذلك الكلب المعلم الذى أطلق ليصطاد لصاحبه وسمى عند إطلاقه، فهو يفترس لا ليأكل، بل لمن أطلقه، وقالوا: إنه إذا افترسه ليأكله هو بأن أكل أكثره فإنه لا يحل الباقي لمن أطلقه.
6. وقد استثنى من المحرمات السابقة حال التذكية الشرعية، وهي الذبح أو ما يشبهه مما يريق الدم، ويصفيه؛ ولذا قال تعالى: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ أي أن المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما افترسه السبع إذا أدرك وهو حي وذكى التذكية الشرعية وأريق دمه، فإنه يكون حلالا، بسبب هذه التذكية، فهو وما ذكى ابتداء وهو قوى قادر ـ على سواء؛ لأن التذكية الشرعية وهو حي هي سبب الحل، وقد تحقق في الحالين.
7. ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ النصب: اسم مفرد لحجر كان ينصب فيعبد، وتصب عليه دماء الذبائح، ويشرح اللحم ويوضع عليه، وكانوا يفعلون ذلك تقربا إليها، أو ليتقربوا عن طريقها، فنهى الله تعالى عن أكل ما يذبح على هذه الحجارة قطعا لدابر الوثنية والأفعال التي تؤدى إليها، وتحريم هذا هو من قبيل تحريم ما أهل لغير الله تعالى، فالمعنى فيهما واحد، والتحريم ليس لذات الشيء المذبوح، ولكن لما اقترن بالذبح من آثام وفسوق عن أمر الله تعالى.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/2028.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كل المأكولات والمشروبات على الاباحة الا ما ورد النص بتحريمه خصوصا كالميتة وما إليها، أو عموما كالأشياء الضارة، ومنها الخبائث، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾، وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا، حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه.
2. وتقدم في الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ وقد تلا علينا صنفين من المحرمات: الأول ما أشار اليه بقوله: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) الخ وسبق تفسيره، والثاني ما ذكره في هذه الآية؛ وهو عشرة أصناف:
أ. الأول: الميتة، وهي كل حيوان أو طير مات من غير تذكية شرعية، وتختلف التذكية الشرعية باختلاف الحيوان، فتذكية السمك بإخراجه من الماء حيا، وتذكية الجراد بالاستيلاء عليه حيا أيضا، وتذكية الجنين بذكاة أمه، وتذكية المصيد تكون بالكلب المعلّم، أو بالسيف أو الرمح أو السهم أو آلة محددة الرأس، وتذكية الحيوان باستقباله القبلة وقطع أوداجه الأربعة مع ذكر اسم الله عليه، والتفصيل في كتب الفقه.
ب. الثاني: الدم المسفوح، والمراد به الذي يخرج بقوة ودفع، ويتميز عن اللحم، لأن ما يختلط باللحم معفو عنه، والدم الذي هو كاللحم حلال إذا كان كبدا عند جميع المذاهب، وحرام إذا كان طحالا عند الشيعة الإمامية خاصة.
ج. الثالث: لحم الخنزير، وهو حرام بإجماع المسلمين.
د. الرابع: ما أهل لغير الله، والإهلال رفع الصوت، يقال: استهل الصبي إذا صرخ عند الولادة، والمراد به هنا ما ذبح على غير ذكر الله، وقد كان المشركون يذبحون لأصنامهم، ويرفعون أصواتهم باسم اللات والعزى.
هـ. الخامس: المنخنقة، وهي التي تموت اختناقا بيد أو حبل، أو يدخل رأسها في مضيق، وما إلى ذلك.
و. السادس: الموقوذة، وهي التي تضرب بعصا ونحوها، حتى تموت.
ز. السابع: المتردية، وهي التي تتردى من مكان عال.
ح. الثامن: النطيحة، وهي التي تنطحها أخرى؛ فتموت.
ط. التاسع: ما أكل السبع، أي ما تبقى من فريسة الحيوان المفترس.. ثم استثنى سبحانه من الأصناف الخمسة الأخيرة ما ندركه حيا، فانه يحل لنا بالذبح الشرعي، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾، وفي الأخبار: (ان أدنى ما تدرك به الذكاة أن تدركه وتتحرك اذنه أو ذنبه أو تطرف عينه)
ي. العاشر: ما ذبح على النصب، قال صاحب التسهيل لعلوم التنزيل: (النصب جمع نصاب، وهي حجارة كان أهل الجاهلية يعظمونها، ويذبحون عليها، وليست بالأصنام، لأن الأصنام مصورة، والنصب غير مصورة)
3. وتجدر الاشارة إلى أن محرمات الطعام لا تنحصر بهذه الأصناف العشرة التي جاءت في الآية الكريمة، بل هناك محرمات أخرى، كالكلب والحيوان المفترس والطير الكاسر كالبازي والنسر والحشرات وبعض أنواع السمك ومحرمات الذبيحة، وما إليها مما نصت عليه السنة النبوية، وأجمع عليه الفقهاء، ولا فرق بين ما جاء النص على تحريمه في الكتاب أو السنة: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، وغير بعيد أن يكون ذكر هذه الأصناف بالخصوص لمناسبة قوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾
__________
(1) التفسير الكاشف: 3/10.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ هذه الأربعة مذكورة فيما نزل من القرآن قبل هذه السورة كسورتي الأنعام والنحل وهما مكيتان، وسورة البقرة وهي أول سورة مفصلة نازلة بالمدينة قال تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: 145]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 173]، والآيات جميعا ـ كما ترى ـ تحرم هذه الأربعة المذكورة في صدر هذه الآية وتماثل الآية أيضا في الاستثناء الواقع في ذيلها بقوله: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
2. فآية المائدة بالنسبة إلى هذه المعاني المشتركة بينها وبين تلك مؤكدة لتلك الآيات، بل النهي عنها وخاصة عن الثلاثة الأول أعني الميتة والدم ولحم الخنزير أسبق تشريعا من نزول سورتي الأنعام والنحل المكيتين، فإن آية الأنعام تعلل تحريم الثلاثة أو خصوص لحم الخنزير بأنه رجس، فتدل على تحريم أكل الرجز، وقد قال تعالى في سورة المدثر ـ وهي من السور النازلة في أول البعثة ـ: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 5]
3. وكذلك ما عده تعالى بقوله: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ جميعا من مصاديق الميتة بدليل قوله: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ فإنما ذكرت في الآية لنوع عناية بتوضيح أفراد الميتة ومزيد بيان للمحرمات من الأطعمة من غير أن تتضمن الآية فيها على تشريع حديث.
4. وكذلك ما عده الله تعالى بقوله: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ فإنهما وإن كانا أول ما ذكرا في هذه السورة لكنه تعالى علل تحريمهما أو تحريم الثاني منهما ـ على احتمال ضعيف ـ بالفسق، وقد حرم الفسق في آية الأنعام، وكذا قوله: ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ﴾ يدل على تحريم ما ذكر في الآية لكونه إثما، وقد دلت آية البقرة على تحريم الإثم، وقال تعالى أيضا: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ [الأنعام: 120]، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ ﴿وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ﴾ [الأعراف: 33]
5. فقد اتضح وبان أن الآية لا تشتمل فيما عدته من المحرمات على أمر جديد غير مسبوق بالتحريم فيما تقدم عليها من الآيات المكية أو المدنية المتضمنة تعداد محرمات الأطعمة من اللحوم ونحوها.
6. ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ المنخنقة هي البهيمة التي تموت بالخنق، وهو أعم من أن يكون عن اتفاق أو بعمل عامل اختيارا، ومن أن يكون بأي آلة ووسيلة كانت كحبل يشد على عنقها ويسد بضغطة مجرى تنفسها، أو بإدخال رأسها بين خشبتين، كما كانت هذه الطريقة وأمثالها دائرة بينهم في الجاهلية، والموقوذة هي التي تضرب حتى تموت، والمتردية هي التي تردت أي سقطت من مكان عال كشاهق جبل أو بئر ونحوهما، والنطيحة هي التي ماتت عن نطح نطحها به غيرها، وما أكل السبع هي التي أكلها أي أكل من لحمها السبع فإن الأكل يتعلق بالمأكول سواء أفنى جميعه أو بعضه والسبع هو الوحش الضاري كالأسد والذئب والنمر ونحوها.
7. ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ استثناء لما يقبل التذكية بمعنى فري الأوداج الأربعة منها كما إذا كانت فيها بقية من الحياة يدل عليها مثل حركة ذنب أو أثر تنفس ونحو ذلك والاستثناء كما ذكرنا آنفا متعلق بجميع ما يقبله من المعدودات من دون أن يتقيد بالتعلق بالأخير من غير دليل عليه.
8. وهذه الأمور الخمسة أعني المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع كل ذلك من أفراد الميتة ومصاديقها، بمعنى أن المتردية أو النطيحة مثلا إنما تحرمان إذا ماتتا بالتردي والنطح، والدليل على ذلك قوله: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ فإن من البديهي أنهما لا تؤكلان ما دامت الروح في جثمانهما، وإنما تؤكلان بعد زهوقها وحينئذ فإما أن تذكيا أو لا، وقد استثنى الله سبحانه التذكية فلم يبق للحرمة إلا إذا ماتتا عن ترد أو نطح من غير تذكية، وأما لو تردت شاة ـ مثلا ـ في بئر ثم أخرجت سليمة مستقيمة الحال فعاشت قليلا أو كثيرا ثم ماتت حتف أنفها أو ذكيت بذبح فلا تطلق عليها المتردية، يدل على ذلك السياق فإن المذكورات فيها ما إذا هلكت، واستند هلاكها إلى الوصف الذي ذكر لها كالانخناق والوقذ والتردي والنطح.
9. والوجه في تخصيص هذه المصاديق من الميتة بالذكر رفع ما ربما يسبق إلى الوهم أنها ليست ميتة بناء على أنها أفراد نادرة منها والذهن يسبق غالبا إلى الفرد الشائع، وهو ما إذا ماتت بمرض ونحوه من غير أن يكون لمفاجاة سبب من خارج، فصرح تعالى بهذه الأفراد والمصاديق النادرة بأسمائها حتى يرتفع اللبس وتتضح الحرمة.
10. ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ قال الراغب في المفردات: نصب الشيء وضعه وضعا ناتئا كنصب الرمح والبناء والحجر، والنصيب الحجارة تنصب على الشيء وجمعه نصائب ونصب، وكان للعرب حجارة تعبدها وتذبح عليها قال: ﴿كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾ قال: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ وقد يقال في جمعه: أنصاب قال: ﴿وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ﴾ والنصب والنصب: التعب، فالمراد من النهي عن أكل لحوم ما ذبح على النصب أن يستن بسنن الجاهلية في ذلك فإنهم كانوا نصبوا حول الكعبة أحجارا يقدسونها ويذبحون عليها، وكان من سنن الوثنية.
11. سؤال وإشكال: سلمنا أن أكل اللحوم مما تبيحه الفطرة والخلقة فهلا اقتصر في ذلك بما يحصل على الصدفة ونحوها بأن يقتصر في اللحوم بما يهيئه الموت العارض حتف الأنف، فيجمع في ذلك بين حكم التكوين بالجواز، وحكم الرحمة بالإمساك عن تعذيب الحيوان وزجره بالقتل أو الذبح من غير أن يعدل عن ذلك إلى التذكية والذبح؟ والجواب: تبين الجواب عنه مما تقدم، فإن الرحمة بهذا المعنى غير واجب الاتباع بل اتباعه يفضي إلى إبطال أحكام الحقائق، وقد عرفت أن الإسلام مع ذلك لم يأل جهدا في الأمر بإعمال الرحمة قدر ما يمكن في هذا الباب حفظا لهذه الملكة اللطيفة بين النوع، على أن الاقتصار على إباحة الميتة وأمثالها مما لا ينتج التغذي به إلا فساد المزاج ومضار الأبدان هو بنفسه خلاف الرحمة، وبعد ذلك كله لا يخلو عن الحرج العام الواجب نفيه.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/164.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الْمَيْتَةُ﴾ ـ بتخفيف الياء ـ التي ماتت دون أن تذبح أي لم تمت من الذبح، ويلحق بها ما قطع من أعضاء أي الأنعام وهي في الحياة قبل أن تذبح للحديث ﴿وَالدَّمَ﴾ لا يجوز شربه رائقاً ولا أكله خاثراً مطبوخاً.
2. ﴿الْخِنْزِيرِ﴾ حيوان بالشام وغيره معروف عندهم ولحمه عند الإطلاق يعم العروق والشحم؛ لأن الجملة يسمى لحماً، وإنما يختلف عند المقارنة حيث يقال: لحم وشحم ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ مر تفسيره في تفسير (آية البقرة)
3. ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ التي يخنقها ما يحبس نَفَسَهَا من حبل أو غيره فتموت، كذا قال الإمام الهادي عليه السلام في المنخنقة، وقال عليه السلام: (وأما الموقوذة: فهي التي ترمى على مَوْقِذتها، أو تضرب فتموت؛ وأما المتردية: فهي التي تردّى من رأس الجبل أو من المطارة أو في البئر أو في غير ذلك مما تسقط فيه الدابة فتموت ولا يلحق ذكاتها، وأما النطيحة: فهي ما تنطحه البقرة أو الشاة منهن فتموت، وأما ما أكله السبع: فهي الدابة يقتلها السبع ولا تلحق ذكاتها فحرم الله ذلك كله إلا أن يلحق منه ذكاة فيذبح وفيه شيء من حياة فيكون حيئذ ذكياً) من (الأحكام) وقال الشرفي في (الموقوذة) وهي: (المقتولة بغير حدٍّ رجماً أو ضرباً بعصى، يقال: وقَذَهُ، يَقِذُهُ، وقْذاً: إذا ضربه حتى أشفى على الهلاك)، وفي (الصحاح) وغيره نحوه، ولم أجد تفسير الموقوذة، وليست شرطاً، أعنى أن الوقذْ ضربٌ ونحوه يؤدي إلى الموت في أي موضع من الجسد، ولعل أصل الموقوذة التي تضرب على موقذتها، ثم استعمل في التي تضرب ضرباً يؤدي إلى الموت على الإطلاق؛ لأن هذا هو المعروف في اللغة، وقوله عليه السلام: (أو من المطارة) قال في (الصحاح): (وبئر مطارة واسعة الفم)، والأقرب: أن الإمام الهادي عليه السلام أراد المكان المرتفع الذي يطير منه الطائر لارتفاعه، لأنه عليه السلام قال أو في البئر.
4. ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ قال الإمام الهادي عليه السلام: (ثم قال سبحانه: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ والنصب: فهي آلهتهم المنصّبة التي كانوا يذبحون لها وعلى اسمها، ومعنى قوله: ﴿عَلَى النُّصُبِ﴾ فإنما هو للنصب) أصل مفهوم ﴿عَلَى النُّصُبِ﴾ حول النصب بحيث يكون الظاهر أنه ذبح من أجلها ولها، قال امرؤ القيس:
çوقوفاً بها صَحْبي عليّ مَطِيَّهُم...يقولون لا تهلك أساً وتجملé
ومثله لطرفة بن العبد، وقال بدل (وتجمل) (وتجلد) والمراد: حولي مطيهم، ومنه قوله تعالى: ﴿طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [النور:58] وفي حديث الهرة: (إنها من الطوافين عليكم) وقوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ [يوسف:105]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ﴾ [الصافات:137]
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/235.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ بسنده عن أبي رافع قال: أمرني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بقتل الكلاب، فقال النّاس: يا رسول الله ما أحلّ لنا من هذه الأمة الّتي أمرت بقتلها، فأنزل الله تعالى هذه الآية وهي: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾، وذكر المفسرون شرح هذه القصة، فقالوا: قال أبو رافع: جاء جبريل عليه السّلام إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واستأذن عليه فأذن له فلم يدخل، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: قد أذنّا لك يا رسول الله، فقال: أجل يا رسول الله، ولكنّا لا ندخل بيتا فيه صورة، ولا كلب، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو، قال أبو رافع: فأمرني أن لا أدع كلبا بالمدينة إلَّا قتلته حتّى بلغت العوالي فإذا امرأة عندها كلب يحرسها فرحمتها فتركته، فأتيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبرته، فأمرني بقتله، فرجعت إلى الكلب فقتلته، فلما أمر رسول الله بقتل الكلاب، جاء ناس فقالوا: يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة الّتي تقتلها؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلما أمر نزلت أذن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في اقتناء الكلاب الّتي ينتفع بها ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها، وأمر بقتل الكلب الكلب والعقور وما يضر ويؤذي ودفع القتل عما سواهما وما لا ضرر فيه)، ونلاحظ على هذه الرِّواية:
أ. الارتباك في المضمون، فإنَّ القضية المطروحة هي أنَّ جبريل عليه السلام لم يدخل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنَّه لا يدخل بيتا فيه صورة أو كلب، ولم تتحدث الرِّواية عن وجود كلب في داره، بل تحدثت عن وجود جرو في بعض بيوتهم أي بيوت المسلمين، مما لا علاقة له بعدم دخول جبريل إلى بيت النبي محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. ثمَّ ما المناسبة بين عدم دخول جبريل إلى البيت وقتل كل كلاب المدينة من دون تفريق بين كلب الهراش وكلب الصيد وكلب الحراسة؟ وهل أنَّ وجود الكلاب من حيث المبدأ مرفوض عند الله بحيث كان وجودها مفسدة يقتضي الأمر بقتلها جميعا؟ إذا لماذا خلقها الله إذا كانت الشرّ كله؟
ج. ثمَّ إنَّ الرِّواية لم تذكر أنَّ الله قد أوحى إليه بذلك مما قد يستفيد منه البعض بأنَّه رد فعل لعدم دخول جبريل عليه كما لو كانت القضيّة انتقاما منها، وذلك لا يتناسب مع روحيّة النبي وإنسانيته ورفقه بالحيوان، لا سيّما إذا لا حظنا صدور الأمر بقتل الكلب الحارس لتلك المرأة الضعيفة الّتي تقول الرِّواية إنَّ أبا رافع رحمها ولم يرحمها النبي محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
د. وهناك ملاحظة في نهاية الرِّواية، فإنَّ المسلمين لما ضجوا من قتل الكلاب، سألوه ماذا أحلّ لهم من الكلاب، فلم يجبهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم انتظارا لأمر ربِّه، في الوقت الَّذي كانت مبادرته بقتلها ـ حسب الرِّواية ـ بدون انتظار لأمره حتّى نزلت الآية.
هـ. ولو دققنا في سياق الآية في مفرداتها الّتي تدل على أنَّ السؤال عن تحديد ما أحلّ لهم بشكل مطلق ـ من كل شيء يتصل بحياتهم لا من الكلاب ـ لوجدنا عدم تناسب بين القضيّة وهذا السياق، مما يجعلنا نستقرب كون القصة موضوعة جملة وتفصيلا، لأنَّها لا تتناسب مع المقام القدسي للنبي محمَّد صلى الله وعليه وآله وسلم في روحه وإنسانيته وعدم انفعاله بأية حالة نفسيّة أو ردّ فعل ذاتي، بل إنَّ انطلاقه من أمر الله: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3 ـ 4]
2. ربَّما كان من خصوصيات الأديان ومن بينها الإسلام بالنسبة إلى المبادئ الوضعية، هذا الشمول في التشريع، بحيث يتدخل في كل خصوصيات الإنسان، فيحدد له تكاليفه حتّى في مأكولاته ومشروباته وملبوساته وزواجه.. فلم يجعل له الحريّة في ممارسة ذلك كله إلَّا في نطاق ما أحلّ الله، فإذا تجاوز بعض ذلك، كان عاصيا مستحقا للعقوبة في الآخرة وفي الدنيا في بعض الحالات، وربَّما كان الفرق بين فكرة التقنين في المبادئ الوضعيّة أو المبادئ الشرعيّة، هي أنَّ القانون الوضعي ينطلق ـ غالبا ـ من دراسة الإنسان من حيث هو كائن اجتماعي، يتبادل المسؤوليّة بينه وبين المجتمع، فهو من جهة مسئول عن المجتمع، ومن جهة أخرى المجتمع مسئول عنه، ولا دخل له في حياته الخاصة إلَّا بقدر ارتباطها بسلامة المجتمع، من هنا، فإنَّ أي تشريع يتناول الفرد كفرد يعتبر اعتداء على الحريّة الشخصيّة، أمّا الإسلام، فإنَّه ينطلق من فكرة أنَّ الإنسان مخلوق لله وعبد له، فليس له الحرّية في أن يعمل أي عمل، أو يتحرك في أي مشروع، إلّا من خلال الرخصة الّتي يتلقاها من الله، وبذلك كان الله ـ من خلال شريعته ـ هو الَّذي ينظم له حياته الشخصية والاجتماعية، فيحدد له كل ما يتصرف فيه من شؤونه الخاصة والعامة، ولم يمنحه الحريّة في الإضرار بحياته سواء من ناحية الأكل والشرب، أو غيرهما، لأنَّه لا يملك نفسه، بل هو ملك الله، فليس له أن يتصرف في ملك الله إلَّا بإذن منه، وهكذا يتدخل التشريع في حياة الإنسان الخاصة، ليضغط على حريّته في نطاق مصلحته الحقيقية.
3. وعلى ضوء هذا، نلتقي بهاتين الآيتين في نطاق التحليل والتحريم، فقد حرّم الله على النّاس الميتة، وهي ما مات حتف أنفه، والمخنوقة، والمتردية، وبقايا الفريسة، وما مات بسبب الانتطاح من حيوان آخر، وحرّم إلى جانب ذلك ما ذبح على الأصنام تقرّبا لها، وما ذكر عليه اسم غير الله، والدم ولحم الخنزير، نحن لا نريد تبيان فلسفة هذا التشريع تفصيليّا، إنَّما نكتفي بالإشارة إلى أنَّ هناك أبحاثا تتحدث عن الأضرار الّتي قد تصيب الإنسان في جسده من خلال أكل الميتة بجميع أنواعها، كما أنَّ هناك أفكارا تتحدث عن الأثر الروحي المترتب على أكل اللحوم، مما يجعل للذبح معنى روحيا عباديا، لأنَّ الحيوان خلقه الله، فليس لك أن تذبحه أو تأكله إلَّا على أساس اسم الله، الأمر الَّذي قد يعطي إحساسك نبضا روحيا يوحي إليك بالطمأنينة والانفتاح على معنى العبودية لله في طعامك وشرابك، فإذا ذبحته للأصنام أو ذكرت عليه اسم غير الله، كنت بعيدا عن ذلك الجو كله، وتحولت حياتك إلى حياة تعيش ماديّتها بعيدا عن الروح، وهذا ما لا يريده الله لعباده، لأنَّه يبتعد بهم عن الآفاق الروحيّة الّتي تشدهم إليه في ممارستهم لحياتهم العادية، حيث يتحول الجانب الروحي لديهم إلى زاوية ضيّقة محدودة من زوايا حياتهم، لتبقى الساحات الأخرى مسرحا للشيطان، وهذا النوع من التفسيرات لا بأس به، لأنَّ الله تعالى لم يمنعنا من محاولة فهم أسرار شريعته، لكن شريطة أن يظل ذلك في نطاق التأمل الذاتي الّذي يحتفظ به الإنسان لنفسه، كما يحتفظ بالكثير من الانطباعات والتأملات الشخصيّة من دون أن تترك تأثيرا على المسار العملي فيما يفعله أو يتركه، فإنَّ الإيمان يفرض على المؤمن من موقع إحساسه بالعبوديّة، أن يسلم أمره لله تعالى، وأن يعطيه إطاعة عمياء في كل أوامره ونواهيه، سواء عرف سر التشريع في موارد الطاعة والمعصية أو لم يعرفها، فإنَّ ذلك لا دخل له بالموضوع، وبالتالي يجب أن يكون شعار المؤمن دائما: عليّ إطاعة الله من منطلقات الله لا سيما فيما لم أحط به علما من مصالح وأسرار.
4. وأحلّ الله للإنسان، فيما أحلّه من حيوانات، الحيوان الَّذي يذكيه الإنسان، وذلك وفق شروط فقهية تحدد كيفية التذكية، وهذا ما أشار إليه في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ أي إلَّا ما أدركتم ذكاته فذكيتموه من هذه الأشياء، وقد جاء عن الإمامين الباقر والصادق عليه السّلام: (إن أدنى ما يدرك به الذكاة أن تدركه يتحرك أذنه أو ذنبه أو تطرف عينه)، وخلاصته أن تكون به حياة بحسب العلامات الدالة عليه.
5. واختلف المفسرون في الاستثناء، هل يرجع إلى ما تقدم ذكره من المحرمات غير ما لا يقبل الذكاة كالميتة والدم ولحم الخنزير، أو يرجع إلى فقرة ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ والظاهر رجوعه إلى الجميع، وقد روي ذلك عن علي عليه السّلام وابن عباس وقيل ـ كما في مجمع البيان ـ (هو استثناء من التحريم لا من المحرمات، لأنَّ الميتة لا ذكاة لها ولا الخنزير، فمعناه: حرمت عليكم سائر ما ذكر إلا ما ذكيتم مما أحلّه الله لكم بالتذكية فإنَّه حلال لكم، عن مالك وجماعة من أهل المدينة واختاره الجبائي)، إلَّا أنَّ هذا القول يناقش، حيث يثأر سؤال هنا حول السر في تعداد الأنواع التالية في قوله تعالى: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ﴾ مع دخولها في الميتة الّتي حرّمت في صدر الآية وإن اختلفت أسباب الموت من خنق، أو تردّ أو نطح، أو إهلال لغير الله به، أو ما أكل السبع، وأجيب عنه ـ كما في مجمع البيان ـ (إنَّ الفائدة في ذلك أنَّهم كانوا لا يعدون الميتة إلَّا ما مات حتف أنفه من دون شيء من هذه الأسباب، فأعلمهم الله سبحانه أنَّ حكم الجميع واحد، وأنَّ وجه الاستباحة هو التذكية المشروعة فقط، قال السدي: إنَّ ناسا من العرب كانوا يأكلون جميع ذلك ولا يعدُّونه ميتا، إنَّما يعدُّون الميت الَّذي يموت من الوجع)، وعلى ضوء ذلك، فإنَّ الميتة في الآية لا تشمل إلَّا ما مات حتف أنفه، أمَّا الأنواع المذكورة الأخرى، بالإضافة إلى ما ذبح بطريقة غير شرعيّة، فلا يستفاد حكمها من الميتة، بل يستفاد من التنصيص عليها وما يستفاد من حصر الحل في التذكية، ولذلك لا يمكن إلحاق الميتة مطلقا بهذه العناوين من النجاسة أو حرمة البيع أو نحو ذلك، مما جعل الميتة موضوعا له، إلَّا بدليل خاص، لأنَّ المفهوم القرآني اللغوي لا يشملها، والله العالم.
6. سؤال وإشكال: قد يثأر اعتراض إنسانيٌّ على مسألة تحليل ذبح الحيوانات وأكل لحمها بأنَّه نوعٌ من أنواع التعذيب الَّذي ينافي الرحمة ويُصادر حياة مخلوق حيّ، الأمر الَّذي قد لا نرى فرقا في قبحه الأخلاقي بينه وبين قتل الإنسان وأكل لحمه، ولهذا ذهب البعض إلى تحريم أكل اللحوم بلحاظ استلزامه قتل الحيوان، ورأوا في ذلك نوعا من الوحشيّة الإنسانيّة الّتي لا تختلف في طبيعتها وفي شكلها عن وحشيّة السباع، والجواب:
أ. أنَّ مسألة الحياة لا تعالج بهذه الطريقة وأنَّ الرحمة ليست حالة شعورية تنطلق من الإحساس الساذج، فالحياة هبة الله للمخلوق الحّي، وقد أراد لها الاستمرار وفق شروط حيويّة خاصة قوامها الاعتماد المتبادل فيما بينها في عمليّة التغذي، كما نلاحظ ذلك في عالم الحيوان ـ غير النباتي ـ الَّذي لا مجال لبقاء حياته واستمرار نظامه الوجودي إلَّا بأن يأكل بعضه بعضا بمختلف الوسائل المتنوّعة، الأمر الَّذي يوحي بأنَّ نظام الخلق للحيوانات المختلفة في قوتها وضعفها في أصل وجودها قائمٌ على ذلك، بحيث كانت سنَّة الكون منطلقة من المصلحة العميقة في حركة الحياة، وليس الإنسان بدعا من عالم الحيوان، في نظام التغذية، في حاجته الوجوديّة إلى أكل الحيوان ـ في نطاق خاص ـ فإنَّ استمرار حياته ـ في عناصرها القوية ـ يتوقف على ذلك.
ب. وفي ضوء ذلك، نجد أنَّ مسألة مصادرة الحياة ليست شرّا مطلقا في ذاتها، بل هي ضرورةٌ لاستمرار حياة أخرى يخضع لها النظام الكوني، بحيث لولا ذلك لانهارت الحياة نفسها وفقدت القدرة على الاستمرار، مما يجعلها داخلةٌ في عمق تنظيم الحياة نفسها تنوعا وتكاملا وترابطا متبادلا.
ج. وهكذا نلتقي بمسألة التعذيب، الحاصل من الذبح، فإنَّه تماما كالتعذيب الحاصل من الافتراس في تغذية الحيوان من الحيوان، ولا بُدَّ من تجاوز قبحه بالتركيز على أنَّ الله جعله من شؤون الفطرة في أصل الخلق مما تتقدم فيه المصلحة في جانبها الإيجابي على المفسدة في جانبها السلبي، وبذلك نعرف أنَّ الرحمة أمرٌ نسبيٌّ إذا ما قيست إلى المصلحة المتوخاة، بالإضافة إلى الجانب الشعوري، فقد يكون الشيء رحمة من جانب علاقته بالنظام العام وإن لم يكن كذلك في الجانب الذاتي للشخص، وهذا أمر طبيعيٌّ في كل القضايا المتصلة بالأمور الحيويّة في علاقة الإنسان بمسؤولياته تجاه الإنسان الآخر، وفي نظام العقوبات الّتي يتوقف عليها نظام الحياة.
__________
(1) من وحى القرآن: 8/32.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تمّت الإشارة في بداية السورة إلى الحلال من لحوم المواشي، وورد ـ أيضا ـ أنّ هناك استثناءات تحرم فيها لحوم المواشي، حيث ذكرتها الآية الأخيرة ـ موضوع البحث ـ في أحد عشر موردا تكرر ذكر بعضها في آيات قرآنية أخرى على سبيل التأكيد، والمحرمات التي وردت في هذه الآية، بحسب الترتيب الذي جاءت عليه كما يلي:
أ. أوّلا: الميتة.
ب. ثانيا: الدم.
ج. ثالثا: لحم الخنزير.
د. رابعا: الحيوانات التي تذبح باسم الأصنام، أو باسم غير اسم الله، كما كان يفعل الجاهليّون، وقد تحدثنا عن هذه اللحوم الأربعة المحرمة في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.
هـ. خامسا: الحيوانات المخنوقة، سواء كان الخنق بسبب الفخ الذي تقع فيه أو بواسطة الإنسان أو بنفسها، وكان الجاهليون يخنقون الحيوانات أحيانا للانتفاع بلحومها وقد أشارت الآية إلى هذا النوع باسم (المنخنقة)، وورد في بعض الروايات أنّ المجوس كان من عادتهم أن يخنقوا الحيوانات التي يريدون أكلها، ولهذا يمكن أن تشملهم الآية أيضا.
و. سادسا: الحيوانات التي تموت نتيجة تعرضها للضرب والتعذيب، أو التي تموت عن مرض وسمّيت في الآية بـ (الموقوذة)، ونقل القرطبي في تفسيره أن عرب الجاهلية اعتادوا على ضرب بعض الحيوانات حتى الموت إكراما لأصنامهم وتقربا لها.
ز. سابعا: الحيوان الذي يموت نتيجة السقوط من مكان مرتفع، وقد سمي هذا النوع في الآية بـ (المتردية)
ح. ثامنا: الحيوان الذي يموت جراء نطحه من قبل حيوان آخر، وقد سمت الآية هذا النوع من الحيوانات بـ (النطيحة)
ط. تاسعا: الحيوان الذي يقتل نتيجة هجوم حيوان متوحش عليه، وسمي هذا النوع في الآية بـ ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾
ي. عاشرا: كان الوثنيون في العصر الجاهلي ينصبون صخورا حول الكعبة ليست على أشكال أو هيئات معينة، وكانوا يسمون هذه الصخور بـ (النصب) حيث كانوا يذبحون قرابينهم أمامها ويمسحون الصخور تلك بدم القربان، والفرق بين النصب والأصنام هو أنّ النصب ليست لها أشكال وصور بخلاف الأصنام، وقد حرم الإسلام لحوم القرابين التي كانت تذبح على تلك النصب، فجاء حكم التحريم في الآية بقوله تعالى: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾، وواضح أنّ تحريم هذا النوع من اللحوم إنّما يحمل طابعا معنويا وليس ماديا، وفي الحقيقة فإن هذا النوع يعتبر من تلك القرابين التي تدخل ضمن مدلول العبارة القرآنية: ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ وقد ذكر تشخيصا في الآية بسبب رواجه لدى عرب الجاهلية.
2. قد يكون جزءا من فلسفة تحريم هذه الأنواع من الحيوانات، هو عدم نزفها المقدار الكافي من الدم لدى الموت أو القتل، لأنّه ما لم تقطع عروق رقابها لا تنزف الدم بمقدار كاف، ولما كان الدم محيطا مناسبا جدا لنمو مختلف أنواع الجراثيم، وبما أنّه يتفسخ حين يموت الحيوان قبل الأجزاء الأخرى من الجسد، لذلك يتسمم لحم الحيوان ولا يمكن أن يعد هذا اللحم من اللحوم السليمة، وغالبا ما يحصل هذا التسمم عندما يموت الحيوان على أثر مرض أو من جراء التعذيب أو نتيجة تعرضه لملاحقة حيوان متوحش آخر.
3. من جانب آخر فإنّ الشرط المعنوي للذبح لا يتحقق في أي نوع من تلك الحيوانات، أي شرط ذكر اسم الله وتوجيه الحيوان صوب القبلة لدى الذبح.
4. لقد ذكرت الآية شرطا واحدا لو تحقق لأصبحت لحوم الحيوانات المذكورة حلالا، وهذا الشرط هو أن يذبح الحيوان قبل موته وفق الآداب والتقاليد الإسلامية، ليخرج الدم منه بالقدر الكافي فيحل بذلك لحمه، ولذلك جاءت عبارة ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ بعد موارد التحريم مباشرة، ويرى بعض المفسّرين أن هذا الاستثناء يخص القسم الأخير فقط، أي ذلك الذي جاء تحت عنوان: ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ لكن أغلب المفسّرين يرون أنّ الاستثناء يشمل جميع الأنواع المذكورة، والنظرية الأخيرة أقرب للحقيقة من غيرها.
5. سؤال وإشكال: هنا قد يسأل البعض: لماذا لم تدخل جميع أنواع الحيوانات المحرمة في الآية في إطار (الميتة) التي ذكرت كأوّل نوع من المحرمات الأحد عشر في الآية، أليست الميتة في مفهومها تعني كل الأنواع المذكورة؟ والجواب: إنّ الميتة لها معان واسعة من حيث مفهوم الفقهي الشرعي، فكل حيوان لم يذبح وفق الطريقة الشرعية يدخل في إطار مفهوم الميتة، أمّا المعنى اللغوي للميتة فيشمل ـ فقط ـ الحيوان الذي يموت بصورة طبيعية، ولهذا السبب فإن الأنواع المذكورة في الآية ـ غير الميتة ـ لا تدخل من الناحية اللغوية ضمن مفهوم الميتة، وهي محتاجة إلى البيان والتوضيح.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/584.
9. الاستقسام بالأزلام والفسق
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈9⌉ من سورة المائدة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ [المائدة: 3]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ هي القداح، كانوا يستقسمون بها في الأمور، ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ يعني: من أكل من ذلك كله فهو فسق(1).
2. روي أنّ نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾، قال: الأزلام: القداح، كانوا يستقسمون الأمور بها، مكتوب على أحدهما: أمرني ربي، وعلى الآخر: نهاني ربي، فإذا أرادوا أمرا أتوا بيت أصنامهم، ثم غطوا على القداح بثوب، فأيهما خرج عملوا به، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الحطيئة وهو يقول(2).:
çلا يزجر الطير إن مرت به سنحا… ولا يفاض على قدح بأزلامé
3. روي أنّه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما قدم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (قاتلهم الله، أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط)(3).
__________
(1) ابن جرير ٨/٧٧.
(2) الطستيُّ في مسائل نافع بن الأزرق ص ١٩٩.
(3) البخاري ٢/١٥٠.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ القداح، كانوا إذا أرادوا أن يخرجوا في سفر جعلوا قداحا للخروج، وللجلوس، فإن وقع الخروج خرجوا، وإن وقع الجلوس جلسوا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ حصى بيض كانوا يضربون بها(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٧٣.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾: كانوا يستقسمون بها في الأمور(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٧٥.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ سهام العرب، وكعاب فارس؛ التي يتقامرون بها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾: حجارة كانوا يكتبون عليها، يسمونها القداح(1).
3. روي أنّه قال: الأزلام: القداح، يضربون بها لكل سفر وغزو وتجارة(2).
__________
(1) ابن جرير ٨/٧٤.
(2) تفسير مجاهد ص ٣٠٠.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: كانوا إذا أرادوا أمرا أو سفرا يعمدون إلى قداح ثلاثة، على واحد منها مكتوب: اؤمرني، وعلى الآخر: انهني، ويتركون الآخر محللا بينهما، ليس عليه شيء، ثم يجيلونها؛ فإن خرج الذي عليه: اؤمرني، مضوا لأمرهم، وإن خرج الذي عليه: انهني، كفوا، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٧٣.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ كانوا يعمدون إلى جزور فيجزئونه عشرة أجزاء، ثم يجتمعون عليه فيخرجون السهام ويدفعونها إلى رجل، والسهام عشرة: سبعة لها أنصباء، وثلاثة لا أنصباء لها، فالتي لها أنصباء: الفذ، والتوأم، والمسبل، والنافس، والحلس، والرقيب، والمعلى، فالفذ له سهم، والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستة أسهم، والمعلى له سبعة أسهم، والتي لا أنصباء لها: السفيح والمنيح والوغد، وثمن الجزور على من لا يخرج له من الأنصباء شيء، وهو القمار، فحرمه الله عز وجل(1).
__________
(1) الخصال: 451/57.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ كان الرجل إذا أراد الخروج في سفر كتب في قدح: هذا يأمر بالمكوث، وكتب في آخر: وهذا يأمر بالخروج، وجعل بينهما منيحا لم يكتب فيه شيئا، ثم استقسم بها حين يريد أن يخرج، فإن خرج الذي يأمر بالخروج خرج، وقال: لا يصيبني في سفري هذا إلا خير، وإن خرج الذي يأمر بالمكث مكث، وإن خرج الآخر أجالها ثانية حتى يخرج أحد القدحين(1).
__________
(1) عبد الرزاق ١/١٨٣.
ابن كثير:
روي عن عبد الله بن كثير (ت 120 هـ) قال: سمعنا أن أهل الجاهلية كانوا يضربون بالقداح في الظعن والإقامة، أو الشيء يريدونه، فيخرج سهم الظعن فيظعنون، والإقامة فيقيمون(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٧٦.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ فالأزلام كعاب فارس وقداح العرب كانوا يعمدون إلى قدحين فيكتبون على أحدهما مرني وعلى الآخر انهني ثمّ يجيلونها، فإذا أراد الرّجل سفرا أو نحو ذلك، فمن خرج عليه مرني مضى في وجهته، وإن خرج الذي عليه انهني لم يخرج.. ويقال: إنّ الأزلام: حصى كانوا يضربون بها.. واحدها زلم وزلم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ معناه كفر(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 126.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ الأزلام: قداح كانت في الجاهلية عند الكهنة، فإذا أراد الرجل أن يسافر أو يتزوج أو يحدث أمرا، أتى الكاهن، فأعطاه شيئا، فضرب له بها؛ فإن خرج منها شيء يعجبه أمره ففعل، وإن خرج منها شيء يكرهه نهاه فانتهى، كما ضرب عبد المطلب على زمزم، وعلى عبد الله والإبل(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٧٥.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ يعني: وأن تستقسموا الأمور بالأزلام، والأزلام قدحان في بيت أصنامهم، فإذا أرادوا أن يركبوا أمرا أتوا بيت أصنامهم، فضربوا بالقدحين، فما خرج من شيء عملوا به، وكان كتب على أحدهما: أمرني ربي، وعلى الآخر: نهاني ربي، فإذا أرادوا سفرا أتوا ذلك البيت فغطوا عليه ثوبا، ثم يضربون بالقدحين، فإن خرج السهم الذي فيه: أمرني ربي؛ خرج في سفره، وإن خرج السهم الذي فيه: نهاني ربي؛ لم يسافر، فهذه الأزلام، ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ يعني: معصية حراما(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٥٢.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: الأزلام: قداح لهم، كان أحدهم إذا أراد شيئا من تلك الأمور كتب في تلك القداح ما أراد، فيضرب بها، فأي قدح خرج ـ وإن كان أبغض تلك ـ ارتكبه وعمل به(1).
__________
(1) ابن جرير ٨/٧٥.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾، الأزلام هي القداح التي يستقسمون بها، ويرضون بما يكون من أمرها، فنهاهم الله عز وجل عنها؛ إذ كانت من فعل الجاهلين.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/292.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾:
قيل: سهام العرب وكعاب فارس التي يتقامرون بها.
وقيل: الأزلام: هي القداح، كانوا يقتسمون بها الأمور: فكان الرجل إذا أراد سفرًا أخذ قِدحًا، فقال: (هذا يأمره بالخروج)، فإن هو خرج فهو مصيب في سفره خيرا، ويأخذ قِدحًا آخر؛ فيقول: (هذا يأمره بالمكث)، فإن هو خرج فليس بمصيب خيرًا في سفره، والمنيح بينهما؛ فنهي الله عن ذلك، وأنبا أن ذلك فسق؛ بقوله: ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾، وعن الحسن قال كانوا يعمدون إلى قداح فيكتبون على أحدها: (مُرْني)، وعلى الآخر: (انْهَنِي)، ثم يحيلونها إذا أرادوا السفر: فإن خرج عليه (مرني) مضى في وجهه، وإن خرج الذي عليه (انهني) لم يخرج.
2. قال أبو بكر الكيساني: إن في النهي عن العمل بالأزلام دليل النهي عن العمل بالنجوم، فإذا نهي عن العمل بقول المقتسمين ينهى ـ أيضًا ـ عن العمل بقول المنجِّمة؛ لأنهم يقولون عين ما يقول أُولَئِكَ ويعملون به، لكن المنجمة ليسوا يقولون: إن نجم كذا يأمركم كذا، ونجم كذا ينهى عن كذا؛ على ما كان يفعل أُولَئِكَ.
3. ويجوز أن يكون الله عز وجل جعل في النجوم أعلامًا ومعاني يدركون بها، ويستخرجون أشياء تحتمل ذلك؛ ويكون على ما يستخرج أهل الاجتهاد بالاجتهاد أشياء من معنى النصوص، وأحكامًا لم تذكر في المنصوص؛ فعلى ذلك المنجمة يجوز أن يستخرجوا أشياء من النجوم بدلائل ومعان تكون في النجوم، ولا عيب عليهم في ذلك ولا لائمة، إنما اللائمة عليهم فيما يحكمون على الله ويشهدون عليه.
4. قَالَ الْقُتَبِيُّ: الأزلام: القداح، واحدها: زَلَم وزُلَم، بها: أن يضرب، فأخذ الاستقسام من القسم ـ وهو النصيب ـ كأنه طلب النصيب، قال أَبُو عَوْسَجَةَ: استقسمت، أي: ضربت بالقداح؛ قال كأنه من القسم، وقال أبو عبيد: إنما سمي: استقسامًا؛ لأنهم كانوا يطلبون قسم الرزق وطلب الحوائج بها؛ فكانوا يسألونها أن تقسم لهم.
5. ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾:
أ. يحتمل قوله: ﴿فِسْقٌ﴾: أي: العمل بالأزلام، والشهادة على الله أنه أمر بذلك ـ فِسق، وعلى هذا من يستجيز العمل بالقرعة؛ لأنه يقول: يقرع فمن خرجت قرعته يحكم له، فإنما يحكم له بأمر القرعة؛ كأن القرعة تأمره بالحكم لهذا بهذا، وتنهاه عن الحكم لهذا بهذا، فهو بالأزلام والقداح التي نهى الله عن العمل بذلك أشبه، وبها أمثل من غيره.
ب. ويحتمل قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾: أي: التناول مما ذكر من المحرمات: من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وما ذبح على النصب، وما ذكر في أول السورة من الاصطياد في الإحرام والتناول منه؛ ذلك كله فسق، وهو قول ابن عباس.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٤٥٣.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾، والأزلام: هي القداح التي كان المشركون يستقسمون بها وبعلاماتها، ويحكمونها على حكم العدل ويعملون بها، محبة منهم للظلم والفساد، وميلاً إلى الباطل وظلم العباد، والأزلام: هي القداح، قال: الكميت بن زيد رحمة الله عليه:
çفي من يدين مخطئين... هدى الله ومستقسمين بالأزلامé
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/215.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ أي تطلبوا علم ما قسم أو لم يقسم من رزق أو حاجة بالأزلام وهي أقداح ثلاثة مكتوب على أحدها: أمرني ربي، وعلى الآخر: نهاني ربي، والثالث: غفل لا شيء عليه، وكانوا إذا أرادوا سفراً أو حاجة أو غزواً ضربوا بها واستقسموا فإن خرج أمرني ربي فعلوه، وإن خرج نهاني ربي تركوه، وإن خرج الأبيض أعادوه؛ فنهى الله سبحانه عنه وسمى ذلك استقساماً لأنهم طلبوا به علم ما قسم لهم، وقيل: إنه يشتق من قسم اليمين لأنهم التزموا بالقداح ما لم يلتزموا به اليمين.
2. ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ أي خروج عن أمر الله وطاعته وهو فعل ما تقدم ذكره.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/204.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ معناه أن تطلبوا علم ما قُسِّمَ أو لم يُقَسَّم من رزق أو حاجة بالأزلام، وهي قداح ثلاثة مكتوبة على أحدها: أمرني ربي، والآخر: نهاني ربي، والثالث: غفل لا شيء عليه، فكانوا إذا أرادوا سفراً، أو غزواً، ضربوا بها واستسقسموا، فإن خرج أمرني ربي فعلوه، وإن خرج نهاني ربي تركوه، وإن خرج الأبيض أعادوه، فنهى الله عنه، فَسُمِّي ذلك استقساماً، لأنهم طلبوا به علم ما قُسِمَ لهم، وقال أبو العباس المبرد: بل هو مشتق من قَسَم اليمين، لأنهم التزموا ما يلتزمونه، باليمين.
2. ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ أي خروج عن أمر الله وطاعته، وفعل ما تقدم نهيه عنه.
__________
(1) تفسير الماوردي: ٢/١٢.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ موضع (ان) رفع، وتقديره، وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام، وواحد الأزلام زلم وزلم قال الراجز: (بات يراعيها غلام كالزلم)، وهي سهام كانت للجاهلية مكتوب على بعضها أمرني ربي، وعلى بعضها نهاني ربي، فإذا أرادوا سفرا أو أمراً يهتم به، ضربوا تلك القداح فإن خرج السهم الذي عليه أمرني ربي، مضى لحاجته وإن خرج الذي عليه نهاني ربي، لم يمض، وإن خرج ما ليس عليه شيء أعادوها فبين الله تعالى أن ذلك حرام العمل به.
2. والاستقسام الاستفعال:
أ. من قسمت أمري أي قلبته ودبرته قال الراعي:
çوتركت قومي يقسمون أمورهم...اليك أم يتلبثون قليلاé
ب. وقيل: معناه طلب قسم الأرزاق بالقداح التي كانوا يتفاءلون بها في أسفارهم وابتداءات أمورهم قال الشاعر يفتخر بقوة عزيمته وانه لا يلتفت إلى ذلك: (أو لم اقسم فترثبني القسوم)، وبه قال ابن عباس، وقتادة وسعيد بن جبير، ومجاهد والسدي قال مجاهد: هي سهام العرب، وكعاب فارس والروم كانوا يتقامرون بها.
3. ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ معنى هذه الأشياء التي ذكرها فسق يعني خروج من طاعة الله إلى معصيته وهو قول ابن عباس، وأصله من فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرها، قال الزجاج: ولو كان بعض هذه المرفوعات نصباً بتقدير وحرم الله الدم ولحم الخنزير، لكان جائزا إلا انه لم يقرأ به أحد والقراءة متبعة، لا يجوز خلاف ما قرئ به.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/434.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الاستقسام طلب القسمة، والقَسْم بفتح القاف مصدر قسمت الشيء والقسم بالكسر: النصيب، والقَسَمُ: اليمين، وأصله من القسامة وهي الأيمان تقسم على أولياء المقتول، ثم كثر حتى سمي كل قسم يمينًا.
ب. الزَّلَم مثل قلم، والزُّلَم مثل عمر لغتان، وهو القِدْحُ، والجمع الأزلام، [يقال]: اقتسم بالأزلام.
2. ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾:
أ. قيل: أن تطلبوا علم ما قسم لكم بالأزلام، وهي القداح، وذلك أن أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفرًا أو تجارة، أو أمرًا أجال القداح، وهي ثلاثة: على واحد أمرني ربي، وعلى واحد نهاني ربي، وواحد غفل لا شيء عليه، يسمى المبيح، فإذا خرج الأمر مضى في أمره، وإذا خرج الناهي قعد عنها، وإذا خرج المغفل أجالها ثانية، عن الحسن وجماعة من المفسرين.
ب. وقيل: كانت الأزلام سبعة عند هبل أعظم أصنام قريش، فكانوا يضربونها عنده، بعد تقديم قربان لها ثم ينتهون في أمورهم إلى ما يخرج من القداح، عن ابن إسحاق.
ج. وقيل: هم كفار فارس والروم الَّذِينَ يتقامرون بها عن مجاهد، يعني بالكعاب.
د. وقيل: هو الشطرنج، عن سفيان ووكيع.
3. ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾:
أ. قيل: خروجكم عن أمر الله وطاعته.
ب. وقيل: مَنْ فعل ذلك صار فاسقًا، ويحتمل أن يرجع إلى الأزلام، وذلك كفر، ويحتمل أن يرجع إلى ما تقدم من التحريم والتحليل، فمن خالف فيه تمردًا فقد كفر، ومن خالفه معتقدًا تحريمه فسق.
4. تدل الآية الكريمة على:
تحريم الاستقسام بالأقداح، وكانوا يرون ذلك مباحًا وديانة، ثم بين أنه فسق، وهذا يدل على أن الواجب على الإنسان فيما يهم به أن يتوكل على ربه، ويقدم ذكر الله والصدقة على موجب ما ورد به الشرع..
تحريم التمسك بالفأل والزجر والتطير والنجوم وغير ذلك، والتفاؤل بالخير مباح، قال الأصم: ومن هذا قول المنجم إذا طلع نجم قال اخرج، وإذا طلع آخر قال لا تخرج لم يفترقا إلا في المستقسم به.
5. ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا﴾ موضعه رفع، أي حرم عليكم الاستقسام بالأزلام.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 3/190.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الأزلام: جمع زلم وزلم، وهو القدح.
ب. الاستقسام: طلب القسمة، والقسم المصدر، والقسم بالكسر: النصيب.
2. ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ موضعه رفع، أي: وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام، ومعناه:
أ. طلب قسم الأرزاق بالقداح التي كانوا يتفاءلون بها في أسفارهم، وابتداء أمورهم:
• وهي سهام كانت للجاهلية، مكتوب على بعضها أمرني ربي، وعلى بعضها نهاني ربي وبعضها غفل، لم يكتب عليه شيء فإذا أرادوا سفرا، أو أمرا، يهتمون به، ضربوا على تلك القداح، فإن خرج السهم الذي عليه أمرني ربي مضى الرجل في حاجته، وإن خرج الذي عليه نهاني ربي لم يمض، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها، فيبين الله تعالى أن العمل بذلك حرام عن الحسن، وجماعة من المفسرين.
• وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليه السلام: إن الأزلام عشرة: سبعة لها أنصباء، وثلاثة لا أنصباء لها، فالتي لها أنصباء: الفذ، والتوأم، والمسبل، والنافس، والحلس، والرقيب، والمعلى، فالفذ له سهم، والتوأم سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستة أسهم، والمعلى له سبعة أسهم، والتي لا أنصباء لها: السفيح، والمنيح، والوغد، وكانوا يعمدون إلى الجزور، فيجزؤونه أجزاء، ثم يجتمعون عليه، فيخرجون السهام، ويدفعونها إلى رجل، وثمن الجزور على من تخرج له التي لا أنصباء لها، وهو القمار، فحرمه الله تعالى.
ب. وقيل: هي كعاب فارس والروم التي كانوا يتقامرون بها، عن مجاهد.
ج. وقيل: هو الشطرنج، عن أبي سفيان بن وكيع.
3. ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾:
أ. معناه: إن جميع ما سبق ذكره فسق، أي: ذنب عظيم، وخروج من طاعة الله إلى معصيته، عن ابن عباس.
ب. وقيل: إن ذلكم إشارة إلى الاستقسام بالأزلام أي: إن ذلك الاستقسام فسق، وهو الأظهر.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/243.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾:
أ. قال ابن جرير: أي: وأن تطلبوا علم ما قسم لكم، أو لم يقسم بالأزلام، واستفعلت من القسم، قسم الرزق والحاجات، قال ابن قتيبة: الأزلام: القداح، واحدها: زلم وزلم، والاستقسام بها: أن يضرب بها فيعمل بما يخرج فيها من أمر أو نهي، فكانوا إذا أرادوا أن يقتسموا شيئا بينهم، فأحبّوا أن يعرفوا قسم كلّ امرئ تعرفوا ذلك منها، فأخذ الاستقسام من القسم وهو النّصيب، قال سعيد بن جبير: الأزلام: حصىّ بيض، كانوا إذا أرادوا غدوّا، أو رواحا، كتبوا في قدحين، في أحدهما: أمرني ربّي، وفي الآخر: نهاني ربّي، ثم يضربون بهما، فأيّهما خرج، عملوا به.
ب. وقال مجاهد: الأزلام: سهام العرب، وكعاب فارس التي يتقامرون بها.
ج. وقال السّدّي: كانت الأزلام تكون عند الكهنة، وقال مقاتل: في بيت الأصنام، وقال قوم: كانت عند سدنة الكعبة، قال الزجّاج: ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجّمين: لا تخرج من أجل نجم كذا، أو أخرج من أجل نجم كذا.
2. ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ في المشار إليه بذلكم قولان:
أ. أحدهما: أنه جميع ما ذكر في الآية، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير.
ب. الثاني: أنه الاستقسام بالأزلام، رواه أبو صالح عن ابن عباس، والفسق: الخروج عن طاعة الله إلى معصيته.
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير: 1/513.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ قال القفال: ذكر هذا في جملة المطاعم لأنه مما أبدعه أهل الجاهلية وكان موافقا لما كانوا فعلوه في المطاعم، وذلك أن الذبح على النصب إنما كان يقع عند البيت، وكذا الاستقسام بالأزلام كانوا يوقعونه عند البيت إذا كانوا هناك، وفي الآية قولان:
أ. الأول: كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو أمرا آخر من معاظم الأمور ضرب بالقداح، وكانوا قد كتبوا على بعضها: أمرني ربي، وعلى بعضها: نهاني ربي، وتركوا بعضها خاليا عن الكتابة، فإن خرج الأمر أقدم على الفعل، وإن خرج النهي أمسك، وإن خرج الغفل أعاد العمل مرة أخرى، فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح.. وهو اختيار الجمهور.
ب. الثاني: قال المؤرج وكثير من أهل اللغة: الاستقسام هنا هو الميسر المنهي عنه، والأزلام قداح الميسر.
2. الأزلام: القداح أحدها زلم، ذكره الأخفش، وإنما سميت القداح بالأزلام لأنها زلمت أي سويت، ويقال: رجل مزلم وامرأة مزلمة إذا كان خفيفا قليل العلائق، ويقال قدح مزلم وزلم إذا ظرف وأجيد قده وصنعته، وما أحسن ما زلم سهمه، أي سواه، ويقال لقوائم البقر أزلام، شبهت بالقداح للطافتها.
3. في قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ وجهان:
أ. الأول: أن يكون راجعا إلى الاستقسام بالأزلام فقط ومقتصرا عليه.
ب. الثاني: أن يكون راجعا إلى جميع ما تقدم ذكره من التحليل والتحريم، فمن خالف فيه رادا على الله تعالى كفر.
4. سؤال وإشكال: على القول الأول لم صار الاستقسام بالأزلام فسقا؟ أليس أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يحب الفأل، وهذا أيضا من جملة الفأل فلم صار فسقا؟ والجواب:
أ. قال الواحدي: إنما يحرم ذلك لأنه طلب لمعرفة الغيب، وذلك حرام لقوله تعالى: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾ [لقمان: 34]، وقال: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ﴾ [النمل: 65] وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة)
ب. لقائل أن يقول: لو كان طلب الظن بناء على الإمارات المتعارفة طلبا لمعرفة الغيب لزم أن يكون علم التعبير غيبا أو كفرا لأنه طلب للغيب، ويلزم أن يكون التمسك بالفأل كفرا لأنه طلب للغيب، ويتعين أن يكون أصحاب الكرامات المدعون للإلهامات كفارا، ومعلوم أن ذلك كله باطل، وأيضا فالآيات إنما وردت في العلم، والمستقسم بالأزلام نسلم أنه لا يستفيد من ذلك علما وإنما يستفيد من ذلك ظنا ضعيفا، فلم يكن ذلك داخلا تحت هذه الآيات، وقال قوم آخرون أنهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام ويعتقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام فبارشاد الأصنام وإعانتهم، فلهذا السبب كان ذلك فسقا وكفرا، وهذا القول عندي أولى وأقرب.
__________
(1) التفسير الكبير: 11/286.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ معطوف على ما قبله، و﴿أَنْ﴾ في محل رفع، أي وحرم عليكم الاستقسام، والأزلام قداح الميسر، واحدها زلم وزلم، قال: (بات يقاسيها غلام كالزلم) وقال آخر، فجمع:
çفلئن جذيمة قتلت سرواتها...فنساؤها يضربن بالأزلامé
وذكر محمد بن جرير: أن ابن وكيع حدثهم عن أبيه عن شريك عن أبي حصين عن سعيد بن جبير أن الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها، قال محمد بن جرير: قال لنا سفيان بن وكيع: هي الشطرنج، فأما قول لبيد: تزل عن الثرى أزلامها فقالوا: أراد أظلاف البقرة الوحشية، والأزلام العرب ثلاثة أنواع:
أ. منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه، على أحدها افعل، وعلى الثاني لا تفعل، والثالث مهمل لا شي عليه، فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شي أدخل يده ـ وهي متشابهة ـ فإذا خرج أحدها ائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له، وإن خرج القدح الذي لا شي عليه أعاد الضرب، وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبا بكر وقت الهجرة، وإنما قيل لهذا الفعل: استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون، كما يقال: الاستسقاء في الاستدعاء للسقي، ونظير هذا الذي حرمه الله تعالى قول المنجم: لا تخرج من أجل نجم كذا، واخرج من أجل نجم كذا، وقال جل وعز: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾ الآية] لقمان]، وسيأتي بيان هذا مستوفى إن شاء الله.
ب. الثاني: سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل، كل قدح منها فيه كتاب، قدح فيه العقل من أم الديات، وفي آخر (منكم) وفي آخر (من غيركم)، وفي آخر (ملصق)، وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك، وهي التي ضرب بها عبد المطلب على بنيه إذ كان نذر نحر أحدهم إذا كملوا عشرة، الخبر المشهور ذكره ابن إسحاق، وهذه السبعة أيضا كانت عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم، على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل، والنوع.
ج. الثالث: هو قداح المسير وهي عشرة، سبعة منها فيها حظوظ، وثلاثة أغفال، وكانوا يضربون بها مقامرة لهوا ولعبا، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء وكلب البرد وتعذر التحرف، وقال مجاهد: الأزلام هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها، وقال سفيان ووكيع: هي الشطرنج، فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب كما بينا، وهو من أكل المال بالباطل، وهو حرام.
2. كل مقامرة بحمام أو بنرد أو شطرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو استقسام بما هو في معنى الأزلام حرام كله، وهو ضرب من التكهن والتعرض لدعوى علم الغيب، قال ابن خويز منداد: ولهذا نهى أصحابنا عن الأمور التي يفعلها المنجمون على الطرقات من السهام التي معهم، ورقاع الفأل في أشباه ذلك، وقال إلكيا الطبري: وإنما نهى الله عنها فيما يتعلق بأمور الغيب، فإنه لا تدري نفس ماذا يصيبها غدا، فليس للأزلام في تعريف المغيبات أثر، فاستنبط بعض الجاهلين من هذا الرد على الشافعي في الإقراع بين المماليك في العتق، ولم يعلم هذا الجاهل أن الذي قاله الشافعي بني على الأخبار الصحيحة، وليس مما يعترض عليه بالنهي عن الاستقسام بالأزلام، فإن العتق حكم شرعي، يجوز أن يجعل الشرع خروج القرعة علما على إثبات حكم العتق قطعا للخصومة، أو لمصلحة يراها، ولا يساوي ذلك قول القائل: إذا فعلت كذا أو قلت كذا فذلك يدلك في المستقبل على أمر من الأمور، فلا يجوز أن يجعل خروج القداح علما على شي يتجدد في المستقبل، ويجوز أن يجعل خروج القرعة علما على العتق قطعا، فظهر افتراق البابين.
3. ليس من هذا الباب طلب الفأل، وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يعجبه أن يسمع يا راشد يا نجيح، أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح غريب، وإنما كان يعجبه الفأل لأنه تنشرح له النفس وتستبشر بقضاء الحاجة وبلوغ الأمل، فيحسن الظن بالله تعالى، وقد قال (أنا عند ظن عبدي بي)، وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يكره الطيرة، لأنها من أعمال أهل الشرك، ولأنها تجلب ظن السوء بالله تعالى، قال الخطابي: الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله، والطيرة إنما هي من طريق الاتكال على شي سواه، وقال الأصمعي: سألت ابن عون عن الفأل فقال: هو أن يكون مريضا فيسمع يا سالم، أو يكون باغيا فيسمع يا واجد، وهذا معنى حديث الترمذي، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال سمعت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (لا طيرة وخيرها الفأل)، قيل: يا رسول الله وما الفأل؟ قال: (الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم)، وسيأتي لمعنى الطيرة مزيد بيان إن شاء الله تعالى، روي عن أبي الدرداء أنه قال: (إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه، وثلاثة لا ينالون الدرجات العلا، من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر من طيرة)
4. ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ إشارة إلى الاستقسام بالأزلام، والفسق الخروج، وقد تقدم، وقيل يرجع إلى جميع ما ذكر من الاستحلال لجميع هذه المحرمات، وكل شي منها فسق وخروج من الحلال إلى الحرام، والانكفاف عن هذه المحرمات من الوفاء بالعقود، إذ قال: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة]
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/58.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ معطوف على ما قبله: أي وحرّم عليكم الاستقسام بالأزلام، والأزلام: قداح الميسر واحدها زلم، والأزلام للعرب ثلاثة أنواع: أحدها مكتوب فيه افعل، والآخر مكتوب فيه لا تفعل، والثالث مهمل لا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج واحدا منها، فإن خرج الأوّل فعل ما عزم عليه، وإن خرج الثاني تركه، وإن خرج الثالث أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأوّلين، وإنما قيل لهذا الفعل استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون فعله كما يقال استسقى: أي استدعى السّقي، فالاستقسام: طلب القسم والنصيب، وجملة قداح الميسر عشرة، وقد قدّمنا بيانها، وكانوا يضربون بها في المقامرة، وقيل: إن الأزلام كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها، وقيل: هي الشطرنج، وإنما حرّم الله الاستقسام بالأزلام لأنه تعرّض لدعوى علم الغيب وضرب من الكهانة.
2. ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ إشارة إلى الاستقسام بالأزلام أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا، والفسق: الخروج عن الحدّ، وقد تقدّم بيان معناه، وفي هذا وعيد شديد، لأنّ الفسق هو أشدّ الكفر لا ما وقع عليه اصطلاح قوم من أنه منزلة متوسطة بين الإيمان والكفر.
__________
(1) فتح القدير: 2/14.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
عَطَف على المحرَّمات بقوله: ﴿وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالَازْلَامْ﴾ أي: تُحصِّلوا القسمةَ أو الأنصباء بالأقداح، والمفرد: (زلَمٌ)، بفتح الزاي واللام أو بضمِّ الزاي وفتح اللام، وهو القِدْح (بكسر القاف وإسكان الدال)، وهو سهم صغير لا نصل فيه ولا ريش.
وهنَّ سبعة تكون عند خادم الأصنام مستوية مكتوب على واحد: (أمرني ربِّي)، وعلى آخر: (نهاني ربِّي)، وعلى واحد: (منكم)، وعلى آخر: (من غيركم)، وعلى واحد: (ملصق)، وعلى واحد: (العقل)، ولا يكتب على واحد وهو غفل، أو يكتب عليه: (غفل)، إذا أرادوا سَفرًا أو تجارة أو تزوُّجًا، أو اختلفوا في نَسَبٍ أو أمرِ قتيلٍ أو دِيَةٍ أو نحو ذلك مِمَّا يعظم جاءوا إلى بيت الأصنام ـ وقيل: إلى أكبر أصنامهم هبل ـ بمكَّة في الكعبة بمائة درهم وأعطوها صاحب الأقداح فيجيلها لهم، فإن خرج: (أمرني ربِّي)، فعلوا ذلك الأمر، وإن خرج: (نهاني ربِّي)، لم يفعلوا، وإذا أجالوا على نَسَب فإن خرج: (منكم) كان وسطًا فيهم، وإن خرج: (من غيركم)، كان حلفًا فيهم، وإن خرج: (ملصق)، كان على حاله، وإن اختلفوا في العقل وهو الدية فمن خرج عليه العقل تَحَمَّله، وإن خرج الغفل أجالوا ثانيًا، حتَّى يخرج المكتوب عليه، فحرم الله ذلك.
1. وقيل: الاستقسام: طلب معرفة أجزاء الجزور بالأقداح العشرة: الفذِّ والتوأَم والرقيب والحلس والنافس والْمُسْبِل والْمُعَلَّى، ولهنَّ أقسام من الجزور على ما اعتادوه، والسَّفيح والْمَنيحُ والوَغْد، ولا نصيب لهنَّ، يجتمع ثلاثة رجال ويشترون جزورًا ويجعلون لحمها ثمانية وعشرين، للفذِّ سهم وللتوأَم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستَّة، وللمعلَّى سبعة، ويجعلون الأزلام في خريطة يحرِّكها الرجل فيُخرج باسم كلِّ رجل قدحًا، ومن خرج له قدح جعله للفقراء ولا يأكل منه، يفتخرون بذلك ويذمُّون من لم يدخل فيه ويسمونه: البَرَم، أي: اللئيم، وحَمْلُ الآية على هذا غير راجح؛ لأنَّ قوله تعالى : ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [البقرة: 219] يغني عنه، وكذا يغني قوله: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ﴾ إلخ [المائدة: 90]
2. وقيل: ثلاثة، كتبوا على أحدها: (أمرني ربِّي)، وعلى الثاني: (نهاني ربي)، والثالث غفل لا يكتبون عليه شيئًا، فإن خرج الآمر مضوا، أو الناهي اجتنبوا، وإن خرج غفل أجالوها ثانيًا، وهكذا.. وعن مجاهد: الأزلام: سهام العرب، وكعاب فارس التي يتقامرون بها، وقال وكيع: إنَّها أحجار الشطرنج.
3. ﴿ذَالِكُمْ﴾ أي: البعيد في الكفر من الاستقسام أو الميسر أو كلِّ ما حُرِّم عليهم من الميتة والدم وما بعدهما إلى قوله: ﴿بِالَازْلَامِ﴾، وتحريم الطَّـيِّـبَات الذي يُستشعر بالمقام، ﴿فِسْقٌ﴾ خروج إلى ما حرَّم الله؛ لأنَّ طلب معرفة ما قُسم لهم وتمييز ما لم يُقسم بالأزلام توصُّلٌ إلى علم الغيب بغير الله، بخلاف الاستخارة بالقرآن والصلاة فإنَّها استعلام بالطريق المشروع، بل الاستخارة استدعاء الخير من الله تعالى لا طلب علم الغيب، ولا ظلم فيها، وليس فيها أكل مال بباطل، بخلاف الاستقسام فخطر في أكْلِ مالٍ بباطل قهرًا لا برضًى، وهَمٍّ بنيَّةِ سوءٍ، وفي اتِّكالٍ على غير الله، ويستعينون بالأصنام ويقصدون الوصول إلى علم الغيب في ذلك، فإن أرادوا بـ (رَبِّي) الصنمَ فشركٌ، أو اللهَ فافتراءٌ عليه، فمن أين لهم أنَّه أمره بذلك أو نهاه!؟، وأيضًا يمشون إلى بيت الأصنام بها أو إلى كبيرها.
4. والاستخارة جائزة عندنا، وحكى بعضٌ الإجماعَ عليها إذا كانت بالقرآن، وعن مالك كراهتها، وفَعَلَهَا عليٌّ وابن مسعود، وعن عليٍّ: يَقرأ من أراد الفأل: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ سبعًا، ويقول ثلاثًا: (اللهمَّ بكتابك تفاءَلتُ، وعليك توكلتُ، اللهمَّ أرني في كتابك ما هو المكتوم من سرِّك المكنون في غيبك) ثمَّ ينظر في أوَّل صحيفة.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/383.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ أي: وحرم عليكم، أيها المؤمنون، الاستقسام بالأزلام، أي: طلب القسم والحكم بها، والأزلام جمع زلم (محركة)، و(كصرد) وهي: قداح ثلاثة كانوا يستقسمون به في الجاهلية، مكتوب على أحدها: (افعل) وعلى الآخر (لا تفعل) والثالث غفل، ليس عليه شيء وقد زلّمت وسوّيت ووضعت في الكعبة، يقوم بها سدنة البيت، فإذا أراد رجل سفرا أو نكاحا، أتى السادن وقال: أخرج لي زلما، فيجيلها ثم يخرج زلما منها، فإذا خرج قدح الأمر، مضى على ما عزم عليه، أو النهي قعد عما أراده، أو الفارغ أعاد.
2. قال الأزهريّ (في معنى الآية): أي: تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم من أحد الأمرين، فمعنى الاستقسام هو طلب معرفة ما قسم له من الخير والشر، مما لم يقسم له بواسطة ضرب القداح، وذكر محمد بن إسحاق وغيره؛ أن أعظم أصنام قريش، صنم كان يقال له هبل، منصوب على بئر داخل الكعبة، فيها توضع الهدايا، وأموال الكعبة فيه، وكان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم، فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه، وفي (اللباب): كانت أزلامهم سبع قداح مستوية مكتوب على واحد منها: (أمرني ربي) وعلى واحد: (نهاني) وعلى واحد (منكم) وعلى واحد (من غيركم) وعلى واحد: (ملصق) وعلي واحد (العقل) وعلى واحد غفل، أي ليس عليه شيء وكانت العرب، في الجاهلية، إذا أرادوا سفرا أو تجارة أو نكاحا، أو اختلفوا في نسب أو أمر قتيل، أو تحمل عقل، أو غير ذلك من الأمور العظام ـ جاءوا إلى هبل، وكانت أعظم صنم لقريش بمكة، وجاءوا بمائة درهم، وأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم، فإن فرج (أمرني ربي) فعلوا ذلك الأمر، وإن خرج (نهاني ربي) لم يفعلوه، وإن أجالوا على نسب، فإن خرج (منكم) كان وسطا منهم، وإن خرج (من غيركم) كان حلفا فيهم، وإن خرج (ملصق) كان على حاله، وإن اختلفوا في العقل، وهو الدين، فمن خرج عليه قدح العقل تحمّله، وإن خرج غفل أجالوا ثانيا، حتى يخرج المكتوب عليه، فنهاهم الله عن ذلك وحرمه وسماه فسقا، كما يأتي.
3. وثبت في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما دخل الكعبة، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها، وفي أيديهما الأزلام، فقال: (قاتلهم الله، لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا)، وفي الصحيح أن سراقة بن مالك بن جعشم، لما خرج في طلب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبي بكر، وهما ذاهبان إلى المدينة، مهاجرين، قال فاستقسمت بالأزلام: هل أضرّهم أم لا؟ فخرج الذي أكره: لا تضرهم، قال فعصيت الأزلام واتبعتهم، ثم استقسم بها ثانية وثالثة، كل ذلك يخرج الذي يكره: لا تضرهم، وكان كذلك، وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك، ثم أسلم بعد ذلك، وروى ابن مردويه عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لن يلج الدرجات من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر طائرا)
4. ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ أي خروج عن الأخذ بالطريق المشروع، والإشارة إلى الاستقسام، أو إلى تناول ما حرم عليهم، لأن المعنى: حرم عليكم تناول الميتة وكذا وكذا، فإن.
5. سؤال وإشكال: لم كان استقسام المسافر وغيره بالأزلام، لتعرف الحال ـ فسقا؟ والجواب: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب، وقال: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ﴾ [النمل: 65]، واعتقاد أن إليه طريقا وإلى استنباطه، وقوله: أمرني ربي ونهاني ربي ـ افتراء على الله، وما يدريه أنه أمره أو نهاه؟ والكهنة والمنجمون بهذه المثابة، وإن كان أراد بالرب الصنم، فقد روي أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم ـ فأمره ظاهر، كذا في الكشاف.
6. في (الإكليل): (استدلّ بهذه الآية على تحريم القمار والتنجيم والرمل وكل ما شاكل ذلك، وعداه بعضهم إلى منع القرعة في الأحكام، وهو مردود)، أي لتباين القصد فيهما، فإن القرعة في قسمة الغنائم وإخراج النساء ونحوها، لتطيب نفوسهم والبراءة من التهمة في إيثار البعض، ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة، كما (في العناية)
7. قال الحاكم: وتدل على تحريم التمسك بالفأل والزجر والتطير والنجوم، فأما التفاؤل بالخير فمباح، قال الأصمّ: ومن هذا قول المنجم: إذا طلع نجم كذا فاخرج، وإن لم يطلع فلا تخرج، قال الراضي بالله: ومن عمل بالأيام في السعد والنحس، معتقدا أن لها تأثيرا، كفر، وإن لم يعتقد أثم.
8. وقد روى أبو داود والنسائي وابن حبان عن قطن بن قبيصة، عن أبيه، أنه سمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت)، قال عوف أحد رواته: العيافة زجر الطير والطرق الخط يخط بالأرض، وفي (القاموس) عفت الطير عيافة: زجرتها، وهو أن تعتبر بأسمائها ومساقطها، فتتسعّد أو تتشأم، وهو من عادة العرب كثيرا، وقال أبو زيد: الطرق أن يخط الرجل في الأرض بإصبعين ثم بإصبع، وقال ابن الأثير: الطرق الضرب بالحصى الذي تفعله النساء، وقيل: هو الخط بالرمل، والجبت: كل ما عبد من دون الله تعالى.
9. وقد روى مسلم في صحيحه، عن بعض أزواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه، لم تقبل له صلاة أربعين يوما)، وروى أحمد وأبو داوود والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعن عمران بن حصين مرفوعا: (ليس منا من تطيّر أو تطيّر له، أو تكهن أو تكهّن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الله)، رواه البزار بإسناد جيد، ورواه الطبراني في (الأوسط) بإسناد حسن من حديث ابن عباس، دون قوله: ومن أتى إلخ.
10. قال البغوي: العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك، وقيل: هو الكاهن، والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وقيل: الذي يخبر عما في الضمير، وقال أبو العباس بن تيمية: العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق، وقال ابن عباس (في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم): ما أرى من فعل ذلك، له عند الله من خلاق، وفي الأحاديث السابقة من الترهيب ما فهيا من التصريح بأنه لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن، والتصريح بأنه كفر، وعن ابن مسعود مرفوعا: الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا.. ولكن الله يذهبه بالتوكل، رواه أبو داوود والترمذيّ وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود، ولأحمد من حديث ابن عمرو: من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك، قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال أن تقول: اللهم! لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك، وعن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال الكلمة الطيبة، رواه الشيخان، ولأبي داود بسند صحيح عن عروة بن عامر قال ذكرت الطيرة عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (أحسنها الفأل ولا تردّ مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم! لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك)
11. قال الحافظ ابن كثير: قد أمر الله المؤمنين، إذا ترددوا في أمورهم، أن يستخيروه، بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه، كما رواه أحمد والبخاري وأهل السنن من طرق عن جابر بن عبد الله قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعلمنا الاستخارة في الأمور، كما يعلمنا السورة من القرآن: ويقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم! إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم! إن كنت تعلم أن هذا الأمر (ويسميه باسمه) خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري (أو قال عاجل أمري) وآجله فأقدره لي، ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي، ومعاشي، وعاقبة أمري، فاصرفني عنه واصرفه عني، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به)، هذا لفظ أحمد.
__________
(1) تفسير القاسمي: 4/26.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. عطف الله تعالى على محرمات الطعام التي كان أهل الجاهلية يستحلونها عملا آخر من خرافاتهم فقال: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ أي وحرم عليكم أن تطلبوا على ما قسم لكم ـ أو ترجيح قسم من مطالبكم على قسم ـ بالأزلام كما تفعل الجاهلية، وجعل بعضهم هذا من محرمات الطعام كما يأتي، والزلم محركة كصرد (أي بضم ففتح) قدح لا ريش عليه، وسهام كانوا يستقسمون بها الجاهلية، جمعه أزلام، قاله في القاموس، والمراد أنها قطع من الخشب بهيئة السهم إلا أنها لا يلصق عليها الريش الذي يلصق على السهم الذي يرمى به لحمله الهواء، ولا يكب فيها النصل الذي يجرم ما يرمى به من صيد وغيره، قال بعضهم كانت الأزلام ثلاثة مكتوبة على أحدها (أمرني ربي) وعلى الثاني (نهاني ربي) والثالث غفل ليس عليه شيء فإذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو زوجا أو بيعا أو غير ذلك أجال هذه الأزلام فإن خرج له الزلم المكتوب عليه أمرني ربي مضى لما أراد، وإن خرج المكتوب عليه (نهاني ربي) أمسك عن ذلك ولم يمض فيه، وإن خرج الغفل الذي لا كتابة أعاد الاستسقام.
2. روى ابن جرير عن الحسن قال كانوا إذا أرادوا أمرا أو سفرا يعمدون إلى قداح ثلاثة على واحد منها مكتوب اؤمرني، وعلى الآخر انهني، ويتركون الآخر محللا بينهما ليس عليه شيء ثم يجيلونها فإن خرج الذي عليه اؤمرني مضوا لأمرهم وإن خرج الذي عليه انهني كفوا، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها، وروى عن آخرين في الكتابة كلمات أخرى بمعنى ما ذكرنا، وعن السدي أنها كانت تكون عند الكهان فإذا أراد الرجل أن يسافر أو يتزوج أو يحدث أمرا أتى الكاهن فأعطاه شيئا فضرب له بها، فإن خرج شيء يعجبه منها أمره ففعل وإن خرج شيء يكرهه نهاه فانتهى، كما ضرب عبد المطلب على زمزم وعلى عبد الله والإبل.
3. وعن ابن اسحاق قال: كانت هبل أعظم أصنام قريش بمكة وكانت في بئر في جوف الكعبة وكانت تلك البئر التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة، وكانت عند هبل سبعة قداح كل قدح منها فيه كتاب (أي كتابة شيء وبينه بقوله) قدح العقل (أي دية القتيل) إذا اختلفوا في العقل من يحمله ضربوا بالقدح السبعة، وقدح فيه (نعم) للأمر إذا أرادوا يضرب به (أي يجال في سائر القداح) فإن خرج قدح (نعم) عملوا به، وقداح فيه (لا) فإذا أردوا أمرا ضربوا بالقداح فإن خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك، وقدح فيه (منكم) قدح فيه (ملصق) وقدح فيه (من غيركم) وقدح فيه المياه إن أرادوا أن يخرجوا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القداح فحيث ما خرج عملوا به، وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما أو ينكحوا منكحا أو أن يدفنوا ميتا أو يشكوا في نسب واحد منهم ذهبوا به إلى هبل بمائة دراهم وبجزور (بعير يجزر) فأعطاها صاحب القداح الذي يضربها ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق فيه، ثم يقولون لصاحب القداح اضرب فيضرب، فإن خرج عليه (من غيركم) كان حليفا، وإن خرج عليه (ملصق) كان على ميراثه منهم لا نسب له ولا حلف، وإن خرج فيه سوى هذا مما يعملون به (نعم) عملوا به، وإن خرج (لا) أخروه عامهم ذلك حتى يأتوا به مرة أخرى، ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح اه.
4. والظاهر من اختلاف الروايات أنه كان يكون عند بعض الكهنة أزلام غير السبعة التي عند هبل التي يفصل فيها في كل الأمور المهمة، وأنهم كانوا يتعرفون قسمتهم وحظهم أو يرجحون بغير ذلك من اللعب الذي يسكن به اضطراب نفوس أصحاب الأوهام، وفسر مجاهد الأزلام بكعب فارس والروم التي يقامرون بها وسهام العرب، وقال الأزهري: الأزلام كانت لقريش في الجاهلية مكتوب عليها أمر ونهي وافعل ولا تفعل؟ وقد زلمت وسويت ووضعت في الكعبة يقوم بها سدنة البيت، فإذا أراد أحد سفرا أو نكاحا أتى السادن وقال أخرج لي زلما: فيخرجه وينظر إليه الخ (قال): وربما كان مع الرجل زلمان وضعهما في قرابة فإذا أراد الإستسقام أخرج أحدهما) وهذا محل الشاهد، وقال بعضهم إن الأزلام قداح الميسر، وقال بعضهم إنها النرد والشطرنج، والجمهور على القول الأول وقد بينا سهام الميسر في التفسير ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [البقرة: 319] وهي عشرة لها أسماء، لسبعة منها أنصبة متفاوتة فليراجعه من شاء (ج2 تفسير) واللعب بالنرد ونحوه ليس استقساما وقد يستقسم به.
5. أما سبب تحريم الاستقسام فقد قيل إنه ما فيه من تعظيم الأصنام ويرده أن التحريم عام يشمل ما كان عند الأصنام وما لم يكن كالزلمين اللذين يحملهما الرجل معه في رحلة، وقيل لأنه طلب لعلم الغيب الذي استأثر الله به، ويرده أنه لم يكن يطلب بها علم الغيب في مثل الأمر والنهي، على أن جعل هذا محرما وعلة للتحريم غير ظاهر، وصرح بعضهم برده، وقيل لأن فيها افتراء على الله إن أرادوا بقولهم (أمرني ربي) الله عز وجل، وجهلا وشركا إن أرادوا به الصنم، ويرد بأن هذا رواية عن بعض الأزلام لا عن كلها.
6. والصواب أن هذا قد حرم لأنه من الخرافات والأوهام التي لا يركن إليها إلا من كان ضعيف العقل يفعل عن غير بينة ولا بصيرة، ويترك ما يترك عن غير بينة ولا بصيرة، ويجعل نفسه ألعوبة للكهنة والسدنة، ويتفاءل ويتشاءم بما لا فأل فيه ولا شؤم، فلا غرو أن يبطل ذلك دين العقل والبصيرة والبرهان، كما أبطل التطهير والكهانة والعيافة والعرافة وسائر خرافات الجاهلية، ولا يليق ذلك كله إلا بجهل الوثنية وأوهامها.
7. ومما يجب الاعتبار فيه في هذا المقام أن صغار العقول كبار الأوهام في كل زمان مكان، وعلى عهد كل دين من الأديان، يستنون بسنة مشركي الجاهلية، ولا تطمئن قلوبهم إلا بالخرافات الوثنية، فإن لم يستقسموا بالأزلام استقسموا بما هو مثلها وفي معناها، ولكنهم يسمون عملهم هذا اسما حسنا، كما يفعل بعض المسلمين حتى عصرنا هذا بالاستقسام بالسبح وغيرها، ويسمونه استخارة وما هو بالاستخارة التي ورد الإذن بها في شيء وقد يسمونه أخذ الفال، وذلك أنهم يقطعون طائفة من حب السبحة ويحولونه حبة بعد أخرى يقولون (افعل) على واحدة (لا تفعل) على أخرى يكون الحكم الفصل للحبة الأخيرة، وبعضهم يقول كلمات أخرى بهذا المعنى، تختلف كلماتهم كما كانت تختلف كلمات سلفهم من الجاهلية، والمعنى والمقصد واحد، ومنهم من يستقسم بورق اللعب الذي يقامرون به أحيانا، ومنهم من يأخذ الفال بفصوص النرد (الطاولة) وأمثاله من أدوات اللعب، وفصوص النرد هذه هي كعاب الفرس الذي أدخلها مجاهد في الأزلام وجعلها كسهام العرب وفي التحريم سواء، وقد ورد في الحديث ما يؤيد تحريمها، ومنهم من يستقسم أو يأخذ الفال والاستخارة ـ كما يقولون ـ بالقرآن العظيم، فيصبغون عملهم بصيغة الدين، وهو يتوقف على النص لأن الزيادة في الدين كالنقص منه، وهل يحل عمل الجاهلية بتغيير صورته؟ يلبس الباطل ثوب الحق فيصير حقا؟ اللهم أنزلت القرآن هدى للمتقين فترك قوم الاهتداء وحرموه على أنفسهم، واكتفوا مما يدعون من الإيمان به والتعظيم له بالاستقسام به كما كانت الجاهلية تستقسم بالازلام، أو استشفاء بمداد تكتب به الآيات في كاغط أو جام، اللهم لا تؤاخذنا بذنوبهم في الآخرة، فقد كفانا ما أصاب الأمة بضلالهم في هذه الحياة العاجلة، اللهم واجعل لنا مخرجا من فتنتهم، وفتنة من تركوا الدين كله استنكافا من خرافاتهم وخرافات أمثالهم.
8. وليعلم القارئ أن العادة والإلف يجعلان البدعة معروفة كالسنة، والسنة منكرة كالبدعة، فما حاول أحد إماتة بدعة أو إحياء سنة إلا وأنكر الناس عليه عمله باسم الدين، ولا طال العهد على بدعة إلا وتأولوا لفاعليهما وانتحلوا لها مسوغا من الدين، ومن ذلك زعم بعضهم أن ما فعله بعض الناس من الاستقسام بالسبح وغيرها يصح أن يعد الفأل الحسن، وقد روى ابن ماجه عن أبي هريرة والحاكم عن عائشة أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم (كان يعجبه الفأل الحسن) وما هو منه، وإنما الفأل ضد الطيرة التي نفتها وأبطلتها الأحاديث الصحيحة، وهو أن يسمع الإنسان اسما حسنا أو كلمة خير فينشرح لها صدره وينشط فيما أخذ فيه، وقيل يكون الفأل في الحسن والرديء، والطيرة (بوزن عنبة) ما يتشاءم به من الفأل الرديء، هذه عبارة القاموس وهي من الطائر إذ كانوا يتفاءلون ويتشاءمون بحركة الطير ذات اليمين وذات الشمال حتى صار زجر الطير عندهم صناعة، قال في القاموس: والطائر الدماغ وما تيمنت به أو تشاءمت اه، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا طيرة) في حديث الصحيحين يبطل حسن الطيرة ورديئها لأنه خرافة مبنية على الاستدلال على الحسن والقبح بما لا يدل عليه عقلا ولا شرعا ولا طبعا، لا فرق في التطير بين أن يكون بحركة الطير أو بغيرها من الأقوال والأفعال.
9. وهذه الطيرة قديمة العهد في العرب وقد أبطلها الله تعالى قبل الإسلام، على لسان نبيه صالح عليه السلام، كما بين لنا ذلك في مجادلته لقومه (ثمود) في سورة النمل قال تعالى: ﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ [النمل: 37] والاستقسام بالأزلام أو غيرها شر من التطير الذي يقع للإنسان من غير سعي إليه، والفرق واضح بين الخرافات والأوهام التي تؤثر في نفس الإنسان عرضا بقلة عقله أو تأثره بأحوال من تربى بينهم، وبين ما يسعى إليه منها ويستشيره باختياره ويجعله حاكما على قلبه، فيعمل بأمره ونهيه.
10. وإذا صح أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تساهل مع أصحابه وأقرهم على التفاؤل بالكلمة الطيبة ولم يعد هذا من الطيرة لعلمه بأنه أزال تلك العقائد الوهمية الباطلة من نفوسهم فلم تبق حاجة للتشديد عليهم فيما ينشرح له الصدر ـ فهذا التساهل لا يدل على جواز استقسام الجاهلية المحرم قطعا بالنص الصريح لتغير المستقسم به، فإن تحريم الاستقسام ليست علته أنه بالأزلام، بل إنه من الأباطيل والأوهام، وأين الفرق بين خشبات الأزلام وخشبات السبحة أو غير ذلك من حبها؟
11. وأغرب من ذلك جعل الاستقسام من قبيل الاستخارة إذا استحله بعض الدجالين باطلاق اسمها عليه، وجعله بعضهم من قبيل القرعة المشروعة، وكل هذا من قياس الشيطان، والحكم في دين الله بالهوى دون بينة ولا سلطان، بيان ذلك أن الإسلام دين البصيرة والعقل والبينة والبرهان، وآيات القرآن الكثيرة ناطقة بذلك ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 111] ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: 42] ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: 148] وإرشاد القرآن وهديه في الحث على الأخذ بالدليل والبرهان، عام يشمل جميع شؤون الإنسان، ولما كانت الدلائل والبينات تتعارض في بعض الأمور، والترجيح بينها يتعذر في بعض الأحيان، فيريد الإنسان الشيء فلا يستبين له الإقدام عليه خير أم تركه؟ فيقع في الحيرة ـ جعلت له السنة مخرجا من ذلك بالاستخارة حتى لا يضطرب عليه أمر ولا تطول غمته، وذلك المخرج هو الاستخارة، وهي عبارة عن التوجه إلى الله عز وجل والالتجاء إليه بالصلاة والدعاء بأن يزيل الحيرة ويهيئ وييسر للمستخير الخير، وجدير هذا بأن يشرح الصدر لما هو خير الأمرين، وهذا هو اللائق بأهل التوحيد أن يأخذوا بالبينة والدليل الذي جعله الله تعالى مبينا للخير والحق، فإن اشتبه على أحدهم أمر التجأ إلى الله تعالى فإذا شرح صدره لشيء أمضاه وخرج به من حيرته.
12. والقرعة تشبه ذلك بل أمرها أظهر، فإنها إنما تكون للترجيح بين المتساويين قطعا كالقسمة بين اثنين فإنه لا وجه لإلزام من يقسم بينهما بأن يأخذ زيد منهما هذه الحصة وعمرو الأخرى، فالقرعة طريقة حسنة عادلة، وقس على هذا ما يشبهه.
13. والذي صح في الاستخارة ما رواه الجماعة (أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربع) من حديث جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع بالأمر ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل (اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبه أمري ـ (أو قال عاجل أمري وآجله) ـ فاقدره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال عاجل أمري وآجله ـ فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به) قال ويسمي حاجته، وهذا لفظ البخاري والخلاف في رواياته قليل كأرضني به من الإرضاء ورضني من الترضية.
14. ليس في هذه الرواية التي رواها الجماعة إشارة إلى معنى يقرب من معنى الاستقسام ولا التفاؤل، بل هي أمر بعبادة ودعاء عند الاهتمام بالأمر والعزم عليه حتى لا ينسى المؤمن ربه عند اهتمامه بالشأن من شؤون الدنيا، وما بيناه من فقه الاستخارة وحكمتها في بدء الكلام عنها مبني على ما اشتهر من معناها عند الجمهور ولا أعرف له أصلا صحيحا في السنة، ولكن رواه ابن السني في عمل يوم وليلة والديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس: (إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ثم انظر على الذي يسبق إلى قلبك فإن الخيرة فيه) قال النووي فيه إنه يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له صدره، لكنه لا يقدم على ما كان له فيه هدى قبل الاستخارة، قال الحافظ ابن حجر في الفتح بعد ما عزى الحديث إلى ابن السني: لو ثبت لكان هو المعتمد ولكن سنده واه جدا اه، أقول وآفته إبراهيم بن البراء ضعفوه جدا بل قال ابن حبان فيه: شيخ كان يدور بالشام ويحدث عن الثقات بالموضوعات لا يجوز ذكره إلا على سبيل القدح فيه.
15. ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ ذهب ابن جرير في تفسيره إلى أن الإشارة راجع إلى كل ما سبق من المحرمات أي كل محرم منها خروج من طاعة الله ورغبة عن شرعه، وذكر الرازي فيه وجها آخر وهو أنه راجع إلى الأخير فقط وهو الاستقسام بالأزلام.
__________
(1) تفسير المنار: 6/122.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أضاف الله تعالى إلى محرمات الطعام التي كان أهل الجاهلية يستحلونها عملا آخر من أعمالهم وخرافاتهم فقال: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ الأزلام واحدها زلم: وهو قطعة من الخشب على هيئة السهم، لكن لا يركب فيه النصل الذي يجرح ما يرمى به من صيد وغيره؛ وكانت الأزلام ثلاثة، كتب على أحدها (أمرنى ربى) وعلى الثاني (نهانى ربى)و الثالث غفل ليس عليه شيء فإذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو زواجا أو بيعا أو نحو ذلك أجال (حرّك) هذه الأزلام، فإن خرج له الزلم المكتوب عليه (أمرنى ربى) مضى لما أراد، وإن خرج المكتوب عليه (نهانى ربى) أمسك عن ذلك ولم يمض فيه، وإن خرج الغفل الذي لا كتابة عليه أعاد الاستقسام، وهو: طلب معرفة ما قسم له دون ما لم يقسم بواسطة الأزلام.. أي وحرّم عليكم أن تطلبوا علم ما قسم لكم بالأزلام كما كانت تفعل العرب في الجاهلية.
2. وحكمة هذا التحريم أنه من الخرافات والأوهام التي لا يركن إليها إلا من كان ضعيف العقل، يفعل ما يفعل من غير بينة ولا بصيرة، ويترك ما يترك كذلك، ويجعل نفسه ألعوبة للكهنة والسّدنة، ويتفاءل ويتشاءم بما لا فأل فيه ولا شؤم، ومن ثمّ أبطل ذلك دين العقل والبصيرة كما أبطل التطيّر والكهانة والعيافة والعرافة وسائر خرافات الجاهلية، إلى أن فيها افتراء على الله إن أرادوا بقولهم (أمرنى ربى) الله عزّ وجل، وجهلا وشركا إن أرادوا به الصنم، إلى أن فيه طلبا لعلم الغيب الذي استأثر الله به.
3. وقد استنّ بعض جهال المسلمين بسنة مشركي الجاهلية، أو بما يشبهها فتراهم يستقسمون بالسّبح وغيرها ويسمون ذلك استخارة أو فألا فيقتطعون طائفة من حب السّبحة ويحركونها حبة بعد أخرى، يقولون: (افعل) على واحدة (لا تفعل) على الثانية، ويكون الحكم الفصل للحبة الأخيرة، وما هذا بالاستخارة التي ورد الإذن بها، بل قد ورد ما يؤيد تحريمها، ومنهم من يستقسم أو يأخذ الفأل من القرآن الكريم فيصبغون عملهم بصبغة الدين ويلبسون الباطل ثوب الحق، ولم يرد في هذا نص يجوّز العمل به، ولكن الإلف والعادة جعلا هذا البدع مستحسنة وتأولوا لها اسم الفأل الحسن ورووا في ذلك حديث أبى هريرة عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (كان يعجبه الفأل الحسن) وليس هذا من الفأل الحسن، بل الفأل ضد الطيرة التي أبطلتها الأحاديث.
4. والعجيب من أمر بعض المسلمين أنهم تركوا الاهتداء بالقرآن وحرموه على أنفسهم واكتفوا من الإيمان به والتعظيم له بالاستقسام به كما كانت الجاهلية تستقسم بالأزلام، أو الاستشفاء بمداد تكتب به آياته في كاغد أو جام (فنجان) وكل هذا من الضلالات والخرافات التي لم يرد شيء منها عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا عن السلف الصالح.
5. وأعجب من ذلك جعل بعض الدجالين الاستقسام من قبيل الاستخارة وجعل بعضهم له من قبيل القرعة المشروعة، وكل ذلك ضلال، إذ لا بينة فيه ولا سلطان، والاستخارة التي وردت بها السنة هي التوجه إلى الله والالتجاء إليه بالصلاة والدعاء بأن يزيل عن المستخير الحيرة ويرشده إلى ما فيه الفائدة فيما تتعارض فيه الدلائل والبينات، فلا يستبين له إن كان الخير في الإقدام أو في الترك، فإذا شرح الله صدره لشىء أمضاه، قد روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن من حديث جابر بن عبد الله قال كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعلّمنا الاستخارة كما يعلمنا سورة من القرآن يقول: (إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشى وعاجل أمرى وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فبه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشى وعاجل أمرى وآجله فاصرفه عنى واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضنى به) قال ويسمى حاجته.
6. والقرعة تشبه هذا بل أمرها أظهر، فإنها إنما تكون للترجيح بين المتساويين قطعا كالقسمة بين اثنين، إذ لا وجه لإلزام من تقسم بينهما بأن يأخذ زيد منهما هذه الحصة وعمرو الأخرى، فتكون القرعة طريقة حسنة عادلة.
7. ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ أي كل محرم مما سلف فسق وخروج من طاعة الله ورغبة عن شرعه إلى معصيته.
__________
(1) تفسير المراغي 6/52.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الأزلام: قداح كانوا يستشيرونها في الإقدام على العمل أو تركه، وهي ثلاثة في قول، وسبعة في قول، وكانت كذلك تستخدم في الميسر المعروف عند العرب؛ فتقسم بواسطتها الجزور ـ أي الناقة التي يتقامرون عليها ـ إذ يكون لكل من المتقامرين قدح، ثم تدار، فإذا خرج قدح أحدهم كان له من الجزور بقدر ما خصص لهذا القدح.. فحرم الله الاستقسام بالأزلام ـ لأنه نوع من الميسر المحرم ـ وحرم اللحوم التي تقسم عن هذا الطريق.
__________
(1) في ظلال القرآن: 2/842.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ وهو بيان لنوع آخر مما حرم على المسلمين أكل لحمه من الحيوان.. وهو الحيوان الذي يذبح، ثم يقسّم لحمه بالأزلام، وهي القداح، يقتسم بها الجماعة الحيوان المذبوح بينهم، وهذا ضرب من ضروب الميسر.
2. وإذ حرم الله الميسر فقد حرّم ما يثمره الميسر من ثمر خبيث.. وقد وصفه الله سبحانه بقوله: ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ أي هذا العمل في اقتسام لحم الحيوان، فسق، وخروج عن أمر الله، وعدوان على حرماته.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/1032.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾، الشأن في المعطف التناسب بين المتعاطفات، فلا جرم أنّ هذا المعطوف من نوع المتعاطفات التي قبله، وهي المحرّم أكلها، فالمراد هنا النهي عن أكل اللحم الذي يستقسمون عليه بالأزلام، وهو لحم جزور الميسر لأنّه حاصل بالمقامرة، فتكون السين والتاء في ﴿تَسْتَقْسِمُوا﴾ مزيدتين كما هما في قولهم: استجاب واستراب، والمعنى: وأن تقسموا اللحم بالأزلام.
2. ومن الاستقسام بالأزلام ضرب آخر كانوا يفعلونه في الجاهلية يتطلّبون به معرفة عاقبة فعل يريدون فعله: هل هي النجاح والنفع أو هي خيبة وضرّ؟، وإذ قد كان لفظ الاستقسام يشمله فالوجه أن يكون مرادا من النهي أيضا، على قاعدة استعمال المشترك في معنييه، فتكون إرادته إدماجا وتكون السين والتاء للطلب، أي طلب القسم، وطلب القسم ـ بالكسر ـ أي الحظّ من خير أو ضدّه، أي طلب معرفته، كان العرب، كغيرهم من المعاصرين، مولعين بمعرفة الاطّلاع على ما سيقع من أحوالهم أو على ما خفي من الأمور المكتومة، وكانوا يتوهّمون بأنّ الأصنام والجنّ يعلمون تلك المغيّبات فسوّلت سدنة الأصنام لهم طريقة يموّهون عليهم بها فجعلوا أزلاما، والأزلام جمع زلم ـ بفتحتين ـ ويقال له: قدح ـ بكسر القاف وسكون الدال ـ وهو عود سهم لا حديدة فيه.
3. وكيفية استقسام الميسر: المقامرة على أجزاء جزور ينحرونه ويتقامرون على أجزائه، وتلك عشرة سهام تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ الآية في سورة البقرة [219]، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: وما استقسمتم عليه بالأزلام، فغيّر الأسلوب وعدل إلى ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾، ليكون أشمل للنهي عن طريقتي الاستقسام كلتيهما، وذلك إدماج بديع.
4. وأشهر صور الاستقسام ثلاثة قداح: أحدها مكتوب عليه (أمرني ربّي)، وربما كتبوا عليه (افعل) ويسمّونه الآمر، والآخر: مكتوب عليه (نهاني ربّي)، أو (لا تفعل) ويسمّونه الناهي، والثالث: غفل ـ بضم الغين المعجمة وسكون الفاء أخت القاف ـ أي متروك بدون كتابة، فإذا أراد أحدهم سفرا أو عملا لا يدري أيكون نافعا أم ضارّا، ذهب إلى سادن صنمهم فأجال الأزلام، فإذا خرج الذي عليه كتابة، فعلوا ما رسم لهم، وإذا خرج الغفل أعادوا الإجالة، ولمّا أراد امرؤ القيس أن يقوم لأخذ ثار أبيه حجر، استقسم بالأزلام عند ذي الخلصة، صنم خثعم، فخرج له الناهي فكسر القداح وقال:
çلو كنت يا ذا الخلص الموتورا...مثلي وكان شيخك المقبوراé
لم تنه عن قتل العداة زورا وقد ورد، في حديث فتح مكة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وجد صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام فقال: (كذبوا والله إن استقسم بها قطّ)، وهم قد اختلقوا تلك الصورة، أو توهّموها لذلك، تنويها بشأن الاستقسام بالأزلام، وتضليلا للناس الذين يجهلون، وكانت لهم أزلام أخرى عند كلّ كاهن من كهانهم، ومن حكّامهم، وكان منها عند (هبل) في الكعبة سبعة قد كتبوا على كلّ واحد شيئا من أهمّ ما يعرض لهم في شئونهم، كتبوا على أحدها العقل في الدية، إذا اختلفوا في تعيين من يحمل الدية منهم؛ وأزلام لإثبات النسب، مكتوب على واحد (منكم)، وعلى واحد (من غيركم)، وفي آخر (ملصق)
5. وكانت لهم أزلام لإعطاء الحقّ في المياه إذا تنازعوا فيها، وبهذه استقسم عبد المطلب حين استشار في فداء ابنه عبد الله من النّذر الذي نذره أن يذبحه إلى الكعبة بعشرة من الإبل، فخرج الزلم على عبد الله فقالوا له: أرض الآلهة فزاد عشرة حتّى بلغ مائة من الإبل فخرج الزّلم على الإبل فنحرها، وكان الرجل قد يتّخذ أزلاما لنفسه، كما ورد في حديث الهجرة (أنّ سراقة ابن مالك لمّا لحق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليأتي بخبره إلى أهل مكة استقسم بالأزلام فخرج له ما يكره)
6. الإشارة في قوله: ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ راجعة إلى المصدر وهو ﴿أَنْ تَسْتَقْسِمُوا﴾، وجيء بالإشارة للتنبيه عليه حتّى يقع الحكم على متميّز معيّن، والفسق: الخروج عن الدين، وعن الخير، وقد تقدّم عند قوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ في سورة البقرة [26]
7. وجعل الله الاستقسام فسقا لأنّ منه ما هو مقامرة، وفيه ما هو من شرائع الشرك، لتطلّب المسبّبات من غير أسبابها، إذ ليس الاستقسام سببا عاديّا مضبوطا، ولا سببا شرعيّا، فتمحّض لأن يكون افتراء، مع أنّ ما فيه من توهّم الناس إيّاه كاشفا عن مراد الله بهم، من الكذب على الله، لأنّ الله نصب لمعرفة المسبّبات أسبابا عقليّة: هي العلوم والمعارف المنتزعة من العقل، أو من أدلّته، كالتجربة، وجعل أسبابا لا تعرف سببيتها إلّا بتوقيف منه على لسان الرّسل: كجعل الزوال سببا للصّلاة، وما عدا ذلك كذب وبهتان، فمن أجل ذلك كان فسقا، ولذلك قال فقهاؤنا بجرحة من ينتحل ادّعاء معرفة الغيوب، وليس من ذلك تعرّف المسبّبات من أسبابها كتعرّف نزول المطر من السحاب، وترقّب خروج الفرخ من البيضة بانقضاء مدّة الحضانة، وفي الحديث (إذا نشأت بحريّة ثم تشاءمت فتلك عين غديقة) أي سحابة من جهة بحرهم، ومعنى (عين) أنها كثيرة المطر، وأمّا أزلام الميسر، فهي فسق، لأنّها من أكل المال بالباطل.
__________
(1) التحرير والتنوير: 5/27.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الفعل الذى حرمه الإسلام من غير أن يتعرض لتحريم اللحم هو ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ فقد وصفه سبحانه وتعالى بأنه فسق، والأزلام جمع زلم، وهو القدح من أقداح الميسر، وهي عشرة أقداح، منها ثلاثة غفل ليس فيها ما يدل على مقدار يؤخذ، وسبعة فيها مقادير تبين مقاديرها، فإذا عقر الجزور، قسم على مقدار ما يشتمل عليه من أجزاء ثم ضربت الأقداح، فمن يخرج له منها قدح يأخذ بمقدار ما يشتمل عليه، وبذلك يطلب كل واحد نصيبه من الجزور بهذا القمار.
2. وقد وصف الله تعالى ذلك الفعل بأنه فسق، أي خروج على المبادئ الإسلامية، والتحريم منصب على الفعل، وليس منصبا على اللحم، وعلى ذلك إذا كانت الذبيحة قد ذكيت بالطريقة الإسلامية، وذكر اسم الله تعالى عليها، فإنها تكون حلالا، والتقسيم بهذه الطريقة يكون حراما.
__________
(1) زهرة التفاسير: 4/2033.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن ذكر سبحانه الأصناف العشرة عطف عليها قوله: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾، أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام، وهي جمع زلم بضم الزاي وفتحها، مع فتح اللام، والزلم قطعة من الخشب على هيئة السهم.
2. وكان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم أن يقدم على أمر يهمه أخذ ثلاثة من الأزلام، وكتب على واحد منها أمرني ربي، وعلى ثان نهاني ربي، وأهمل الثالث، ثم يغطيها بشيء ويدخل يده ويخرج أحدها، فان كان أمرا فعل، وان كان نهيا ترك، وان كان مهملا أعاد، حتى يخرج الأمر، أو النهي.
3. ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾، اشارة إلى خصوص الاستقسام بالأزلام دلالة، والى جميع المحرمات المذكورة حكما، وبهذا يتبين معنا ان اختلاف المفسرين حول ذلكم: هل هي اشارة إلى خصوص الأخير، أو إلى الجميع؟ ان هذا الاختلاف لا جدوى منه، ما دام حكم الجميع واحدا، من حيث الفسق، أي الذنب العظيم.
__________
(1) التفسير الكاشف: 3/12.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ والأزلام هي القداح، والاستقسام بالقداح أن يؤخذ جزور ـ أو بهيمة أخرى ـ على سهام ثم يضرب بالقداح في تشخيص من له سهم ممن لا سهم له، وفي تشخيص نفس السهام المختلفة وهو الميسر، وقد مر شرحه عند قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ الآية: [البقرة: 219]
2. قال الراغب: القسم إفراز النصيب يقال: قسمت كذا قسما وقسمة، وقسمة الميراث وقسمة الغنيمة تفريقهما على أربابهما، قال: ﴿لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ﴾ ﴿وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ﴾ واستقسمته سألته أن يقسم، ثم قد يستعمل في معنى قسم قال: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾
3. وما ذكره من كون استقسم بمعنى قسم إنما هو بحسب الانطباق مصداقا، والمعنى بالحقيقة طلب القسمة بالأزلام التي هي آلات هذا الفعل، فاستعمال الآلة طلب لحصول الفعل المترتب عليها فيصدق الاستفعال، فالمراد بالاستقسام بالأزلام المنهي عنه على ظاهر السياق هو ضرب القداح على الجزور ونحوه للذهاب بما في لحمه من النصيب.
4. وأما ما ذكره بعضهم أن المراد بالاستقسام بالأزلام الضرب بالقداح لاستعلام الخير والشر في الأفعال، وتمييز النافع منها من الضار كمن يريد سفرا أو ازدواجا أو شروعا في عمل أو غير ذلك فيضرب بالقداح لتشخيص ما فيه الخير منها مما لا خير فيه قالوا: وكان ذلك دائرا بين عرب الجاهلية، وذلك نوع من الطيرة، وسيأتي زيادة شرح له في البحث الروائي التالي ـ ففيه: أن سياق الآية يأبى عن حمل اللفظ على الاستقسام بهذا المعنى، وذلك أن الآية ـ وهي مقام عد محرمات الأطعمة، وقد أشير إليها قبلا في قوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ تعد من محرماتها عشرا، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب، ثم تذكر الاستقسام بالأزلام الذي من معناه قسمة اللحم بالمقامرة، ومن معناه استعلام الخير والشر في الأمور، فكيف يشك بعد ذلك السياق الواضح والقرائن المتوالية في تعين حمل اللفظ على استقسام اللحم قمارا وهل يرتاب عارف بالكلام في ذلك.
5. نظير ذلك أن العمرة مصدر بمعنى العمارة، ولها معنى آخر وهو زيارة البيت الحرام، فإذا أضيف إلى البيت صح كل من المعنيين لكن لا يحتمل في قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾: البقرة: 119 إلا المعنى الأول، والأمثلة في ذلك كثيرة.
6. ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ يحتمل الإشارة إلى جميع المذكورات، والإشارة إلى الأخيرين المذكورين بعد قوله: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ لحيلولة الاستثناء، والإشارة إلى الأخير ولعل الأوسط خير الثلاثة.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 5/167.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ (الأزلام): جمع زلم، وهو قِدْح ـ بكسر القاف وسكون الدال ـ أي قطعة قوية صلبة تستعمل في الإستقسام، وفي الميسر: قال في (الصحاح): (والزَّلَم ـ بالتحريك ـ القِدْحُ، قال الشاعر:
çبات يقاسيها غلام كالزّلَم...خدلج الساقين ممسوح القدمé
وكذلك الزُّلم ـ بضم الزاي ـ والجمع: الأزلام، وهي السهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها) وإنما قلت في الزلم: قطعة قوية صلبة؛ لأن الشاعر أراد مدح نفسه بالقوة على سوق الإبل أو الغنم التي ساقها وهرب بها.
2. وقصته مذكورة في (المصابيح) في تفسير الآية التي قبيل هذه، قال: (قال في (البرهان): وهذه الآية نزلت في الحطم بن هند البكري أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وحده وخلف خيله خارجة من المدينة فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال إلى ما تدعو؟ فأخبره، وقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لأصحابه: (يدخل عليكم اليوم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان) فلما أخبره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقبى غادر، فمر بسرح من سرح المدينة فاستاقه، وانطلق وهو يرتجز ويقول:
çقد لفّها الليل بسواق حطم...ليس براعي إبل ولا عنم
ولا بجزار على ظهر وضم...باتوا نياماً وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزَّلم...خدلج الساقين ممسوح القدمé
ثم أقبل من العام القابل حاجاً قد قلد الهدي، فأراد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يبعث إليه، فنزلت هذه الآية حتى بلغ: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ﴾)
3. وقال في (المصابيح) في تفسير قول الله تعالى: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾: قال في (البرهان): أي تطلبون علم ما قُسِمَ أو لم يُقسَم من رزق أو حاجة بالأزلام وهي قداح ثلاثة، مكتوب على أحدها: أمرني ربي، وعلى الآخر: نهاني ربي، والثالث: غِفْل لا شيء عليه، وكانوا إذا أرادوا سفراً أو حاجة أو غزواً ضربوا بها واستقسموا، فإن خرج: أمرني ربي فعلوه، وإن خرج: نهاني ربي تركوه، وإن خرج الأبيض أعادوه، فنهى الله سبحانه عنه، فسمى بذلك استقساماً لأنهم طلبوا به علم ما قسم لهم) وقوله: (وإن خرج الأبيض أعادوه) المراد بالأبيض: الذي لم يكتب فيه، وقوله: أعادوه، أي أعادوا الضرب بها، والذي يظهر: أنهم يجعلونها في شيء يغطيها ويجيلونها فيه، ثم يخرجون أحدها وينظرون أيها خرج، وقرينة هذا قوله: فإن خرج... وإن خرج... وإن خرج، فظهر: أن الضرب إجالتها وتحريكها بقوة لتختلط ويختلف وضعها عما كانت عليه عند جعلها في الظرف، وقد قيل أن المراد: الاستقسام عند أن تذبح الجزور، وتقسم سبعة أقسام ثم يتقامرون عليها بأزلام عشرة، والأقرب: أن الآية عامة لذلك كله، وأن العرب كانوا يتوهمون أن ما أحذوه بالقمار مقسوم لهم، فالعموم بواسطة هذا المعنى.
4. ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ أي معصية وجرأة على الله وخطيئة كما أفاده تفسير الإمام الهادي عليه السلام لغير هذه الآية، وتفسير (صاحب البرهان): (أنه خروج عن أمر الله وطاعته وهو فعل ما تقدم ذكره ـ أي الاستقسام المذكور)
5. ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا﴾ في تأويل المصدر معطو ف على ما سبق أي وحرم عليكم أن تستقسموا بالأزلام، فظاهرها: تحريم الإستقسام نفسه، وتفسيره بتحريم أخذ الجزور بالقمار إخراج لها عن ظاهرها فهو تأويل، ولو قيل: وما استقسموه بالأزلام لكان ظاهراً، كقوله تعالى: ﴿أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ ولا حاجة إلى التأويل؛ لأن تحريم الاستقسام بالأزلام يستلزم تحريم ما أخذ بناء على أنه مقسوم اعتماداً على الاستقسام بالأزلام، وهو محرم لا يفيد أنه مقسوم، فهو مازال ملك مشتري الناقة، أو ذابح الناقة، أو صاحبها، أو قد حرمت بالنحر على وجه محرم ليس ملك الذي أخذه بالاستقسام بالأزلام، فهو حرام عليه وعلى المساكين الذين أعطاهم هذا المستقسم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/237.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. جاء الحديث في الآية الأولى: عن الاستقسام بالأزلام، ومعناه ـ كما يقول صاحب مجمع البيان ـ (طلب قسم الأرزاق بالقداح الّتي كانوا يتفاءلون بها) كما عن جماعة من المفسرين، وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليه السّلام: (أنّ الأزلام عشرة: سبعة لها أنصباء، وثلاثة لا أنصباء لها، فالّتي لها أنصباء: الفذ والتوأم والمسبل والنافس والحلس والرقيب والمعلّى، فالفذ له سهم، والتوأم سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستة أسهم، والمعلى له سبعة أسهم، والّتي لا أنصباء لها: السفيح والمنيح والوغد، وكانوا يعمدون إلى الجزور، فيجزّئونه أجزاء، ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام ويدفعونها إلى رجل، وثمن الجزور على من تخرج له الّتي لا أنصباء لها، وهو القمار، فحرّمه الله تعالى..)
2. واعتبره فسقا وانحرافا عن خط إرادته، وفي ضوء هذا التفسير، يأخذ الاستقسام بالأزلام معنى القمار، مما يجعل من تحريم القمار تحريما له، ويبتعد عن معنى التفاؤل بالقداح فيما يريد الإنسان أن يفعله وما لا يريد أن يفعله.
3. وقد نلاحظ ـ في هذا المجال ـ أنّ تحريم مثل هذا التفاؤل لا يحمل الكثير من المعنى المتصل بحياة الإنسان، وقد حاول البعض أن يرجع سر هذا التحريم إلى إبعاد الإنسان عن أسلوب المحاولة للتعرّف على الغيب، مما قد يقوده إلى الخرافة، وإلى الابتعاد عن تلمّس الوسائل الطبيعية للمعرفة، ولكنّ ذلك لا يغيّر من الواقع شيئا، لأنّ النّاس قد يلجؤون إليه في وقت الحيرة عندما تغلق عنهم كل أبواب المعرفة، فتكون مثل هذه الطريقة أشبه بعملية الاختيار العشوائي الّتي يمارسها كل متحير يجد نفسه ملزما بذلك على أيّ حال، على أنّ قضيّة استعمال القداح للتفاؤل لا تتناسب مع كلمة الاستقسام الّتي توحي بأنّ هناك فرزا واقعيا للاستحقاقات، مما يبعد المعنى المذكور عن أن يكون تفسيرا للكلمة.
4. اعتبر بعض المفسرين الاستخارة في أشكالها المتعددة، كالاستخارة بالسبحة أو بالرقاع، من قبيل الاستقسام بالأزلام، وعليه تكون مرفوضة بنص القرآن الكريم، ولكننا نسجل عليه:
أ. أولا: الملاحظة السابقة في أنّ التفسير بما ذكر لا يتناسب مع طبيعة الكلمة.
ب. وثانيا: أنّ الاستخارة ـ في طبيعتها ومدلولها ـ تمثل نوعا من الرجوع إلى الله والابتهال إليه في تحديد الخيرة للإنسان الحائر فيما تحير فيه، عندما تسدّ عليه أبواب المذاهب، وتغلق عنه سبل المعرفة، فهي من القضايا الّتي تدخل في الأساليب الإيمانية، في معرفة الخيرة، بعد استنفاد كل وسائل الفكر والمشورة، وبقاء الموضوع على حاله من الغموض والإبهام، فما المانع من أن يستجيب الله لعباده ابتهالاتهم وينقذهم من حيرتهم!؟
5. لا نريد من خلال هذا التفسير أن نبرّر للإنسان الانطلاق بعيدا في هذا الأسلوب من ناحية ذاتية، ليستحدث النّاس لأنفسهم ـ باسم الإيمان ـ وسائل معرفة المستقبل، فنحن لا نشجع ذلك ـ كمبدإ ـ لأنَّه يؤدي بنا إلى الفوضى من جهة، وإلى الوقوع في قبضة الخرافة والدجل من جهة أخرى، ولكنَّنا نقول:
أ. إنَّ النصوص الدينية المعتمدة إذا أقرّت مثل هذا الأسلوب، فلا يكون ذلك بعيدا عن خط الإيمان والإسلام، ولا يؤدي إلى إغلاق باب الفكر والمشورة، لتكون الاستخارة بديلا عنهما، بل يكون له مبرراته الإنمانية في حدوده المعقولة.
ب. وفي ضوء ذلك، نثير الملاحظات على سلوك بعض النّاس الذَّين اتخذوا الاستخارة خطا عمليا في أسلوب العمل والحركة، فلم يسمحوا لأنفسهم بالتفكير أو بالاستشارة، بل اكتفوا بالمسبحة يستنطقونها وجه الخير لما يصنعون، أو بالرقاع، يتعرفون من كلماتها سر الحقيقة فيما يمارسون، وهكذا حكموا على أفكارهم بالشلل، فإذا دعوت أحدهم إلى أمر بسيط لا يحتاج إلَّا إلى بعض الحسابات البسيطة المحيطة بالموضوع، بادرك بالاستخارة ليقطع عليك أمر مناقشة القضية من جوانبها الواقعية، وإذا عرضت لأحدهم حاجة فيما يتعلق بشؤون حياته، أو شؤون من يتصل به، في قضية زواج أو تجارة أو غيرهما، كانت الاستخارة هي الأساس في اتخاذ القرار، وليس الفكر الَّذي يلقي الضوء على طبيعة الموضوع، مما قد يترك كثيرا من الآثار السلبية على حياته وحياة الآخرين.
ج. إنَّنا نعتقد أنَّ الله قد أعطى الإنسان وسائل المعرفة في ذاته ليستعملها، ودعاه إلى الاستعانة بالطاقات الّتي يملكها الآخرون ليستفيد منها، فإذا ترك هذه وتلك وأقبل على الاستخارة، كان متنكرا لما وجّهه الله إليه من خلال إرادته، ولذلك لن يستقبل الله حيرته بالعناية، لأنّه ـ تعالى ـ يستجيب لنداء الحيرة التي لا تملك معرفة السبيل إلى النور، ولا يستجيب للحيرة الّتي تجلس بعيدا عن الحركة الإرادية الواعية، لتنتظر الحل من السماء، في الوقت الَّذي تملك فيه كل الوسائل القريبة إلى الحل، وهذا ما يجب أن يثيره المؤمن في نفسه وفي حياته ليستقيم له القصد، ولتنفتح له آفاق النور بالمعرفة الواسعة.
__________
(1) من وحى القرآن: 8/42.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هناك نوع آخر من اللحوم المحرمة، وهو اللحوم التي تذبح وتوزع بطريقة القمار، وتوضيح ذلك هو أنّ عشرة من الأشخاص يتراهنون فيما بينهم فيشترون حيوانا ويذبحونه، ثمّ يأتون بعشرة سهام كتب على سبعة منها عبارة (فائز)، وعلى الثلاثة الأخرى كتبت عبارة (خاسر)، فتوضع في كيس وتسحب واحدة واحدة باسم كل من الأشخاص العشرة على طريقة الاقتراع، فالأشخاص الذين تخرج النبال السبعة الفائزة بأسمائهم يأخذون قسما من اللحم دون أن يدفعوا ثمنا لما أخذوه من اللحم، أمّا الأشخاص الثلاثة الآخرون الذين تخرج النبال الخاسرة بأسمائهم فيتحملون ثمن الحيوان بالتساوي، فيدفع كلّ واحد منهم ثلث قيمة الحيوان دون أن يناله شيء من لحمه.
2. وقد سمى الجاهليون هذه النبال بـ (الأزلام) وهي صيغة جمع من (زلم) وقد حرم الإسلام هذا النوع من اللحوم، لا بمعنى وجود تأصل الحرمة في اللحم، بل لأنّ الحيوان كان يذبح في عمل هو أشبه بالقمار، ويجب القول هنا أن تحريم القمار وأمثاله لا ينحصر في اللحوم فقط، بل إن القمار محرم في كل شيء وبأيّ صورة كان.
3. ولكي تؤكّد الآية موضوع التحريم وتشدد على حرمة تلك الأنواع من اللحوم تقول في الختام: ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾، بالرغم من أنّ(ذلكم)، اشارة لمفرد، إلّا أنّه لمّا كان يحتوي على ضمير الجمع، وقد فرض المجموع بمثابة الشيء الواحد، فلا اشكال في هذا الاستعمال.
4. إنّ الذي نستنتجه من البحث المار الذكر ومن المصادر الإسلامية الأخرى، هو أنّ الإسلام اتبع في قضية تناول اللحوم أسلوبا معتدلا تمام الاعتدال جريا على طريقته الخاصّة في أحكامه الأخرى، ويختلف أسلوبه هذا اختلافا كبيرا مع ما سار عليه الجاهليون في أكل لحم النصب والميتة والدم وأشباه ذلك، وما يسير عليه الكثير من الغربيين في الوقت الحاضر في أكل حتى الديدان والسلاحف والضفادع وغيرها، ويختلف مع الطريقة التي سار عليها الهنود في تحريم كل أنواع اللحوم على أنفسهم، فقد أباح الإسلام لحوم الحيوانات التي تتغذى على الأشياء الطاهرة التي لا تعافها النفس البشرية، وألغى الأساليب التي فيها طابع الإفراط أو التفريط، وقد عيّن الإسلام شروطا أبان من خلالها أنواع اللحوم التي يحلّ للإنسان الاستفادة منها، وهي:
أ. لحوم الحيوانات التي تقتات على الأعشاب، أمّا الحيوانات التي تقتات على اللحوم فهي غالبا ما تأكل لحوم حيوانات ميتة أو موبوءة، وبذلك قد تكون سببا في نقل أنواع الأمراض لدى تناول لحومها، بينما الحيوانات التي تأكل العشب يكون غذاؤها سليما وخاليا من الأمراض، وقد تقدم أيضا في تفسير الآية من سورة البقرة بأنّ الحيوانات تورث صفاتها عن طريق لحومها أيضا، فمن يأكل لحم حيوان متوحش يرث صفات الوحش كالقسوة والعنف، وبناء على هذا الدليل ـ أيضا ـ حرمت لحوم الحيوانات الجلّالة، وهي التي تأكل فضلات غيرها من الحيوانات.
ب. أن لا تكون الحيوانات التي ينتفع من لحمها كريهة للنفس الإنسانية.
ج. أن لا يترك لحم الحيوان أثرا سيئا أو ضارا على جسم أو نفس الإنسان.
د. لقد حرمت الحيوانات التي تذبح في طريق الشرك في سبيل الأصنام، وأمثال ذلك لما فيها من نجاسة معنوية.
هـ. لقد بيّن الإسلام أحكاما خاصّة لطريقة ذبح الحيوانات لكل واحد منها ـ بدوره ـ الأثر الصحي والأخلاقي على الإنسان.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/587.