...

📥 للتعريف بالكتاب وتحميله

📥 للبحث في الآيات القرآنية وعناوينها

اختر جزءا من الكتاب:

اختر عنوانا من الكتاب:

39. الإحسان والعلاقات الاجتماعية

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈39⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ [النساء: 36]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في قوله: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾: المرأة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ الرفيق الصالح(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾، المرأة(3).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٤٨.

(2) ابن جرير ٧/١٢.

(3) ابن جرير ٧/١٤.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾، يعني: الذي بينك وبينه قرابة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾، يعني: الذي ليس بينك وبينه قرابة(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾، يعني: الذي معك في منزلك(2).

4. روي أنّه قال: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾، الملازم، وقال أيضا: رفيقك الذي يرافقك(3).

5. روي أنّه قال: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾، الرفيق في السفر(4).

6. روي أنّه قال: إني لأستحي أن يطأ الرجل بساطي ثلاث مرات لا يرى عليه أثر من بري(5).

7. روي أنّه قال: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾، هو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين(6).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦.

(2) ابن جرير ٧/١٤.

(3) ابن جرير ٧/١٥.

(4) ابن جرير ٧/١١.

(5) تفسير الثعلبي ٣/٣٠٥.

(6) ابن أبي حاتم ٣/٩٥٠.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾، من قوم آخرين(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٠.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾، جارك هو ذو قرابتك(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾، جارك من قوم آخرين(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ هو رفيقك في السفر في بياتك، ويده مع يدك(2).

4. روي أنّه قال: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾، الرفيق في السفر، منزله منزلك، وطعامه طعامك، ومسيره مسيرك(3).

5. روي أنّه قال: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾، الضيف له حق في السفر والحضر(4).

6. روي أنّه قال: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾، الذي يمر عليك وهو مسافر(5).

7. روي أنّه قال: ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، مما خولك الله فأحسن صحبته، كل هذا أوصى الله به(6).

8. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا﴾ متكبرا، ﴿فَخُورًا﴾ يعد ما أعطى، وهو لا يشكر الله(7).

__________

(1) عبد الرزاق ١/١٥٩.

(2) ابن أبي حاتم ٣/٩٤٩.

(3) ابن جرير ٧/١٢.

(4) ابن المنذر ٢/٧٠٤.

(5) عبد الرزاق ١/١٥٩ من طريق قتادة وابن أبي نجيح، وابن جرير ٧/١٧.

(6) ابن جرير ٧/١٩.

(7) ابن جرير ٧/٢٠.

ميمون:

روي عن ميمون بن مهران (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾، الرجل يتوسل إليك بجوار ذي قرابتك(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٧.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾، قال إذا كان له جار له رحم فله حقان اثنان: حق القرابة، وحق الجار(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٧.

هلال:

روي عن هلال الوزان (ت 121 هـ) في هذه الآية: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾، قال هي الزوجة(1).

__________

(1) عبد الله بن وهب في الجامع ١/١٤٦.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ معناه القريب القرابة ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ الغريب.. والجنابة: الغربة والبعد(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ معناه المرأة.. ويقال: الرّفيق في السّفر ينزل إلى جنبه.. وابن السّبيل: الغريب(1).

3. روي أنّه قال: ﴿مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ فالمختال: ذو الخيلاء والتّكبر(2).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 118.

(2) تفسير الإمام زيد، ص 119.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾، الجار الغريب يكون من القوم(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٩، وعلَّقه ابن أبي حاتم ٣/٩٤٨.

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾، هو جليسك في الحضر، ورفيقك في السفر، وامرأتك التي تضاجعك(1).

__________

(1) الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ١/١٨٠.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾، هو المار عليك، وإن كان في الأصل غنيا(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٨.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: (إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أحد الوالدين، وعلي الآخر) قيل له: أين موضع ذلك في كتاب الله؟ قال: اقرأ ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ الوالدان رسول الله وعلي عليهما السلام(2).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/241.

(2) مناقب ابن شهر آشوب 3/105.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، يعني: من عبيدكم وإمائكم، يوصي الله بهم خيرا؛ أن تؤدوا إليهم حقوقهم التي جعل الله لهم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٥٠.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾، هو الذي يصحبك رجاء نفعك(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/٣٠٤.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، يعني: برا بهما(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ والإحسان إلى ذي القربى، يعني: صلته(1).

3. روي أنّه قال: الإحسان إلى اليتامى والمساكين أن تتصدقوا عليهم(1).

4. روي أنّه قال: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾، يعني: الضيف ينزل عليك؛ أن تحسن إليه(1).

5. روي أنّه قال: وإلى ﴿مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ من الخدم وغيره(1).

6. روي أنّه قال: فأمر الله عز وجل بالإحسان إلى هؤلاء، ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا﴾ يعني: بطرا مرحا، ﴿فَخُورًا﴾ في نعم الله، لا يأخذ ما أعطاه الله عز وجل فيشكر(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٧٢.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾، الذي يلصق بك وهو إلى جنبك، ويكون معك إلى جنبك رجاء خيرك ونفعك(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٥.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾:

أ. قيل: وحّدوا الله‏.

ب. وقيل: أطيعوا الله‏، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم‏.

2. قوله تعالى: ﴿وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل: النهي عن الإشراك في العبادة والطاعة.

ب. ويحتمل: النهي عن الإشراك في الربوبية والألوهية.

ج. ويحتمل: النهي عن الإشراك في سلطانه، وغير ذلك؛ كل ذلك إشراك بالله، وبالله العصمة.

3. قال بعض أهل اللغة: العبادة هي الطاعة التي معها الخضوع، وقال بعضهم: التوحيد، وأصلها: أن يجعل العبد نفسه لله عبدا، لا يشرك فيها غيره من هوى أو ما كان من وجوه الإشراك، ثم له وجهان:

أ. أحدهما: في الاعتقاد.

ب. الثاني: في الاستعمال.

4. ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ أمر الله تعالى بالإحسان إلى الوالدين، وأمر بالإحسان إلى ذي القربى، واليتامى، والمساكين.. إلى آخر ما ذكر، لكن المعنى الذي به أمر بالإحسان إلى هؤلاء الأصناف والفرق مختلف.

5. أما إحسان الوالدين: تشكر لهما بما أحسنا إليه وربياه صغيرا؛ كقوله: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ الآية ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 24] يذكر حال صغره وضعفه أن كيف ربياه، ويشكر لهما على ذلك، ويحسن إليهما كما عزّ وجل أيضا: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾ [الأحقاف: 15] فإحسان الوالدين جزاء وتشكر لما أنعما هما عليه، وذلك يكون من جانب الولد قوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: 15] أمره بمصاحبتهما بالمعروف إلا أن يأمراه بمعصية؛ ولهذا قال أصحابنا (2): لا ينبغي للرجل أن يقتل أباه الكافر إذا كان محاربا؛ إلا أن يضطره الأب إلى ذلك؛ لأنه قال: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: 15] فمن المعروف في الدنيا ألا يقتله، ولا يشهر عليه السلاح، وقالوا أيضا: إن مات أحدهما تولى دفنه، وذلك من حسن الصحبة والمعروف.

6. ثم في هذه الآية تسوية بين الوالدين فيما أمر له من الإحسان إليهما، ولم يجعل للأب فضلا في ذلك على الأم؛ فذلك يدل على أن إسلام كل واحد من الأبوين إسلام للصغير؛ إذ كان الإجماع قائما في أن إسلام الأب إسلام لولده الصغار، وكذلك قول‏ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث قال: غير أن أبويه يهوّدانه وينصّرانه)

7. ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ أمر بالإحسان إلى ذي القربى، ومعنى الأمر به صلة يصل بعضهم بعضا، وذلك من جانبين ما يلزم هذا أن يحسن إلى هذا لزم الآخر أن يحسن إليه، وذلك إبقاء للمودة فيما بينهم والمحبة، وذلك فرض ـ أيضا ـ أن يصل بعضهم بعضا؛ لأن صلة القرابة فريضة.

8. الأمر بالإحسان إلى اليتامى يحتمل وجهين: يحتمل: لما ليس لهم والد يقوم بكفايتهم على ما يقوم له والده، وأمر بذلك؛ لما يبر الرجل ولد آخر لمكان والديه، فإذا مات والده يمتنع عن ذلك، فأمر أن يحسنوا إليه بعد موت والده على ما كانوا يحسنون في حياته؛ لأنه في ذلك الوقت أحوج إليه؛ إذ لا شفقة لأحد عليه، وشفقة والده معدومة.

9. معنى الأمر بالإحسان إلى المساكين يحتمل أيضا وجهين:

أ. يحتمل: شكر الله على ما منّ عليهم وأنعم بالإفضال على أولئك؛ إذ لم يسبق منهم إلى الله معنى يستوجبون ذلك دونهم، أمر بالإحسان إليهم؛ شكرا لما أنعم عليهم وأحسن إليهم.

ب. الثاني: أنهم من جوهرهم وجنسهم في الخلقة؛ يحتاجون إلى ما يحتاج هؤلاء من المأكل، والمشرب، والملبس، وغير ذلك، يأمرهم بالإحسان إليهم؛ شفقة منهم لهم؛ ليتقووا على أداء ما فرض الله عليهم؛ إذ هم مثلهم في الخلقة والجوهر وهذا الإحسان في اليتامى والمساكين من جانب ليس من جانبين.

10. ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ أمر الله بالإحسان إلى ابن السبيل؛ للوجهين اللذين وصفتهما في المساكين وقيل في اليتامى: إنه أمر الأوصياء بالقيام على ما لهم وحفظهم؛ رحمة لهم، وباللين لهم.

11. ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ وهم ذوو قرابة، وله حقان: حق الجوار، وحق الرحم، كذلك روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: الجيران ثلاثة: جار له حقّ واحد، وجار له حقّان، وجار له ثلاثة حقوق: فأمّا الّذي له حقوق ثلاثة: حقّ القرابة، وحقّ الإسلام، وحقّ الجوار، والّذي له حقّان: حقّ الإسلام، وحقّ الجوار، والّذى له حقّ واحد هو حقّ الجوار خاصّة)

12. ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ خص الله سبحانه وتعالى الجار الجنب دون غيره من الجيران غير الملازقين، وكان ذلك دليلا على أن الحقوق التي تلزم بالجوار إنما تلزم‏ ماتوا فأوصوا إنما أوصوا بأداء ما كان بينهم، وكذلك قال في الوصية لذوى قرابته: إنها لقرابته الذين يفرض عليهم صلتهم إذا كانوا أحياء، فإذا مات فأوصى فإنما يوصى بأداء ما كان يؤدي في حال حياته، وذلك مما عليه الأداء؛ وفيه دليل على أن الشفعة الواجبة للجار إنما تكون للجار الجنب الملازق‏ دون غيره من‏ الجيران، وقد ذكر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حق الجار، وأمر بمسامحته، وعن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورّثه) وفي بعض الأخبار: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جاره)، وفي بعضها: (ما آمن من أمسى شبعانا وجاره جائع)، وإذا بيع بجنبه دار أو أرض، فله أن يأخذها بالشفعة:

أ. لما روي عن عمرو بن‏ الشريد، عن أبي رافع، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (الجار أحقّ بسقبه‏) وعن عمرو بن الشريد، عن أبيه قال قلت: يا رسول الله، أرض ليس لأحد فيها شرك إلا الجوار؟ قال: (الجار أحقّ بسقبه ما كان)

ب. وعن رافع بن خديج‏ قال عرض علىّ سعد بيتا له، فقال: خذه؛ فإني قد أعطيت به أكثر ممّا تعطيني؛ ولكنك أحق به؛ لأني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (الجار أحقّ بسقبه)

ج. وعن أبي الزبير، عن جابر: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى بالشفعة بالجوار.

د. وعنه ـ أيضا ـ قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الجار أحقّ بسقبه جاره إذا كان طريقهما واحدا ينتظر بها وإن كان غائبا)، وقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (ينتظر بها وإن كان غائبا) يدل على أنه لا ينتظر بها أكثر من ذلك؛ وفي ذلك دليل على أن الشفيع إن أمسك عن طلب الشفعة، وقد علم بالبيع ـ بطلت شفعته، ومما يدل على ذلك ـ أيضا ـ أن الشفعة إنما جعلت للجار بما يخاف عليه من سوء جوار المشتري، والضرر الذي عسى أن يلحقه منه، فلو جعلنا الشفيع على شفعته أبدا لم يؤمن أن يبني المشتري في الدار، وينفق فيها نفقة عظيمة، ثم يجيء الشفيع فيطلب الشفعة؛ فيقال للمشتري: سلم الدار وارفع بناءك، وفي ذلك ضرر عليه بيّن.

هـ. وعن علي وعبد الله قالا: قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالشفعة بالجوار.

و. وعن شريح قال كتب إليّ عمر: أن اقض للجار بالشفعة.

13. وإلى هذا ذهب أصحابنا (2) في إيجاب الشفعة للجار، وأنكر قوم أن تكون الشفعة إلا فيما لم يقسم من الدور والأرضين، واحتجوا في ذلك:

أ. بما روي عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة قالا: (قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالشفعة في كل ما لم‏ يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعة)، وكذلك روى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بمثله، لكن تأويل الحديث عندنا: أن قوله: (قضى بالشفعة فيما لم يقسم) قول الراوي؛ لأنه لم يحك عنه أنه قال لا شفعة فيما قسم، فيحتمل أن يكون علم ذلك فحكاه، ولم يعلم بما رواه الآخرون بإيجاب الشفعة فيما قد قسم.

ب. أمّا قوله: (فإذا وقعت الحدود، فلا شفعة)، فليس فيه بيان حكاية عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد يجوز أن يكون ذلك من الراوي، أو أن قال [ذلك‏] إنما قال في القسمة، لا شفعة في القسمة عندنا.

ج. ثم قد جعل الله تعالى للجيران بعضهم على بعض حقوقا باتصال أملاكهم، حتى قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من أراد أن يبيع داره فليستأذن جاره) فإذا أراد البائع اختيار الجار الذي لا حق له على الجار الذي له حق، جعل له إبطال ذلك؛ إذ ليس غرضه من البيع إلا الثمن؛ وهو وقد يوجد ذلك من الجار؛ ولهذا ما توجب الشفعة في الهبات والصدقات مما يجوز أن يقصد بها أسبابا وأحوالا لا يوجد ذلك في الجار، وأما البيع فالمقصود فيه الثمن.

14. وقوله عزّ وجل أيضا: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ والجنب: البعيد، بيّن ليعلم أن الحق الذي ذكر للجار من الإحسان إليه ليس هو بحق القرابة، بل هو بحق الجوار، فأمر بالإحسان إلى من له جوار بالملك نحو ما أمر بالإحسان إلى من له جوار بالنسب، ثم كان الحق قد يفترض بجوار النسب بمال مع ما كانت الصّلة مفروضة فيمن مس ملكه ملكه في الملك وجوبه فيما وقع التّماسّ بالبدن‏ في البدن.

15. على أن الآية فيما أمر بالإحسان إلى جميع من ذكر أن يجب بحق القسمة، فيجب ذلك في كل محتمل القسمة، وذلك مما يأباه الجميع، أو يجب بما جعل من حق الجوار الذي جاء به الكتاب، وجرت به السنة، أو بما جعل من تأذي بعض الجيران ببعض، والأمر بالمعروف في الخلق من الاستخبار عن أحوال الجيران قبل تأمل الدور وتفاوت القيم باختلاف الجيران بما في ذلك من المؤن والمضارّ، وأي هذين كان فالشفعة واجبة بالجوار؛ لأنهما أمران لا يسلم عنهما على ثبات الجوار؛ فيجب به الشفعة مع ما أمكن الجمع بين الآثار بما لا يحتمل تسمية الشريك جارا من حيث الشرك لوجهين:

أ. أحدهما: قوله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ﴾ [الرعد: 4] لم يجعل الأرض من حيث الأرض متجاورة حتى أثبت لها القطع؛ فأوجب بالقطع التجاور مع ما كان الجوار في اللغة اسما للتقارب والالتصاق، لا لتداخل معروف، ذلك عند من تأبى نفسه مكابرة المعارف.

ب. والوجه الآخر: ما لا يسمّي الشركاء في عين العرصات‏ جيرانا، ثبت أن ذلك ليس من‏ أسماء الشرك؛ فلا وجه لصرف الخبر باسم الجوار إلى الشرك مع ما قد جاء ما يقطع من السؤال عن أرض ليس لأحد فيها شرك إلا الجوار أنّه قال: (الجار أحقّ بسقبه..) فقد يحتمل أن يكون خبرا عن هذا الفعل ألا شفعة في صرف الطريق وإظهار الحدود؛ إذ القسمة في معنى البيع في الأمور حتى منع الاقتسام في كل ما لا يحتمل التفاضل إلا بما يجوز به، فقيل: لا شفعة في هذا الثاني: أن يكون إذا كان هذا فلا شفعة لهم مع من لم تقع بينهم الحدود، ولا صرفت بينهم الطرق.

ج. الثالث: إذا وقعت الحدود فتباينت، وصرفت الطرق فتباعدت؛ إذ فيما لم يتباينا ثم حد ليس واحد من الأمرين، وإذا احتمل خبر الشرك ما ذكرنا، ثبت أمر الشفعة بالجوار والشرك جميعا على الترتيب، ولا قوة إلا بالله، ولو كان الجنب اسمه لبعيد الجيران بالنسب استحق بما كان الذي به الجوار يلتصقان، ويكون كل واحد منهما بجنب الآخر؛ إذ لا يسمى كل بعيد به، ففيه وجهان:

أحدهما: الحق بالاتصال.

الثاني: بيان ما به يكون الجوار.

16. قوله عزّ وجل: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ اختلف فيه:

أ. قال علي: هي المرأة، وقال عبد الله بن مسعود كذلك‏ أيضا هي المرأة.

ب. وعن ابن عباس: هو الرفيق في السفر، وكذلك قول مجاهد.

17. فإن كان الصاحب بالجنب هو المرأة، فالأمر بالإحسان من جانب، وإن كان هو الرفيق في السفر فمن جانبين، ما يلزم هذا يلزم الآخر مثله بحق المصاحبة.

18. قوله عزّ وجل: ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ يحتمل الأمر وجهين:

أ. بالإحسان إلى المماليك شكرا لما أنعم عليهم مما جعل لهم من الخولة من جوهرهم وأمثالهم في الخلقة أذلاء تحت أيديهم يستخدمونهم ويستعملونهم في حوائجهم.

ب. أو لما هم أمثالهم في الحاجة من المطعم، والمشرب، والملبس، وهم مقهورون في أيديهم، وقد يترك الرجل النظر لمن هو مقهور في يده؛ أمر بالنظر إليهم وقد جاءت الآثار في ذلك عن أنس قال كانت عامة وصية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الصّلاة وما ملكت أيمانكم)، وعن جابر بن عبد الله قال كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوصي بالمملوك خيرا، ويقول: (وأطعموهم ممّا تأكلون، وألبسوهم ممّا تلبسون)، وعن علي قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوصي بالصلاة والزكاة وما ملكت أيماننا، وعن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان يقول في مرضه: (الصلاة وما ملكت أيمانكم)، فجعل يتكلم وما يقبض بها لسانه، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلّف من العمل ما لا يطيق)، وعن أنس قال كان آخر وصية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين حضرته الوفاة: (الصّلاة وما ملكت أيمانكم)، ثم جعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يغرغر بها في صدره، ولا يفصح بها لسانه، وعن أبي ذر قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول في المماليك: (هم إخوانكم، ولكنّ الله خوّلهم إيّاكم، فأطعموهم ممّا تأكلون، وألبسوهم ممّا تلبسون)

19. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ الآية:

أ. قيل: المختال: هو المتكبر.

ب. وقيل: هو من الخداع.

ج. وقيل: هو الذي يمشي مرحا؛ وهو واحد، يتكبر على عبادة الله تعالى أو يتكبر على عباد الله تعالى ويخدعهم.

20. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾؛ لأنه لا يحب الاختيال، وكذا في كل ما ذكر: لا يحب ذا ويحب ذا؛ كقوله: ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ والتائبين، ولا يحب الظالمين؛ لأنه يحب الطهارة والتوبة، ولا يحب الظلم ولا الكفر، فإذا لم يحب هذا، لم يحب فاعله لفعله وإذا أحب هذا، أحب فاعله لفعله.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/171.

(2) يقصد الحنفية

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، فإن الله أوصى بهؤلاء كلهم، والجار الجنب: هو الضيف، والجار الأجنبي: الذي ليس بقريب النسب، وما ملكت أيمانكم: فهو الخادم المملوك، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان يشدد في المماليك، ويحض على كرامتهم، ويغلظ على من أساء عليهم.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/241.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ أي واستوصوا بالوالدين إحسانا ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ هم قرابة النسب ﴿وَالْيَتَامَى﴾ جمع يتيم وهو من مات أبوه ولم يبلغ الحلم ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ جمع مسكين وهو الذي ركبه ذل الفاقة والحاجة فتمسكن لذلك، والجار ذي القربى أحدهما بمعنى القرابة والرحم وهو الذي بينك وبينه قرابة النسب، ويحتمل أن يكون الكافر البعيد في دينه والجنيب في كلام العرب هو البعيد ومنه سمي الجنب لاعتزاله الصلاة حتى يغتسل.

2. ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ أي الرفيق في السفر، وروينا عن أمير المؤمنين أنه قال هو المرأة التي تكون إلى جنبه، ويحتمل أن يكون الذي يكرمك ويصحبك رجاء نفعك.. وروينا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: كل صاحب يصحب صاحباً فهو مسؤول عن صحابته ولو ساعة من نهار).. وروينا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره.

3. ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ هو المسافر المحتاج المحتار، وقيل لصاحب الطريق ابن السبيل كما قيل لطير الماء ابن الماء قال الشاعر:

çوردت اعتسافاً والثريا كأنها... على قمة النسرين ماء محلقé

4. ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ يعني المملوك فأضاف الملك إلى اليمين لاختصاصها بالتفرق كما يقال تكلم فوك ومشت قدمك ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ المختال من كان ذا خيلاء مفيعل من قولك: خال الرجل يخول خالاً وخولاً.. والخال ثوب من نبات الجبال والفخور المفتخر على عباد الله بما أنعم عليه من آلاء الله وبسط عليهم من رزقه.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/177.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ معناه واستوصوا بالوالدين إحسانا، ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ هم قرابة النسب من ذوي الأرحام، ﴿وَالْيَتَامَى﴾ جمع يتيم وهو من مات أبوه ولم يبلغ الحلم، ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ جمع مسكين وهو الذي قد ركبه ذل الفاقة والحاجة فيتمسكن لذلك.

2. في قوله تعالى: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ قولان:

أ. أحدهما: بمعنى ذي القرابة والرحم وهم الذين بينك وبينهم قرابة نسب، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد.

ب. الثاني: يعني الجار ذي القربى بالإسلام.

3. في قوله تعالى: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: الجار البعيد في نسبه الذي ليس بينك وبينه قرابة، وهو قول ابن عباس ومجاهد.

ب. الثاني: أنه المشرك البعيد في دينه.

4. الجنب في كلام العرب هو البعيد، ومنه سمي الجنب لاعتزاله الصلاة حتى يغتسل، قال الأعشى بن قيس بن ثعلبة:

çأتيت حريثا زائرا عن جنابة...فكان حريث في عطائي جامداé

5. في قوله تعالى: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ فيه ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه الرفيق في السفر، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.

ب. الثاني: أنها زوجة الرجل التي تكون في جنبه، وهو قول ابن مسعود.

ج. الثالث: أنه الذي يلزمك ويصحبك رجاء نفعك، وهو قول ابن زيد، وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (كلّ صاحب يصحب صاحبا مسئول عن صحابته ولو ساعة من نهار)، وروى عبد الله بن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره)

6. في قوله تعالى: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أنه المسافر المجتاز مارّا، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والربيع.

ب. الثاني: هو الذي يريد سفرا ولا يجد نفقة، وهذا قول الشافعي.

ج. الثالث: أنه الضعيف، وهو قول الضحاك.

السبيل: الطريق، ثم قيل لصاحب الطريق ابن السبيل، كما قيل لطير الماء ابن ماء، قال الشاعر:

çوردت اعتسافا والثريا كأنها...على قمة الراس ابن ماء ملحق‏é

7. ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ يعني المملوكين، فأضاف الملك إلى اليمين لاختصاصها بالتصرف كما يقال تكلم فوك، ومشت رجلك.

8. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ المختال: من كان ذا خيلاء، مفتعل من قولك: خال الرجل يخول خيلاء، وخالا، قال العجاج:

çوالخال ثوب من ثياب الجهال‏...والدهر فيه غفلة للغفالé

والفخور: المفتخر على عباد الله بما أنعم الله عليه من آلائه وبسط عليه من رزقه.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/485.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا خطاب لجميع المكلفين، أمرهم الله بأن يعبدوه وحده، ولا يشركوا بعبادته شيئاً سواه‏ ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ نصب على المصدر، وتقديره: وأحسنوا إلى الوالدين إحساناً، ويحتمل أن يكون نصباً على تقدير: واستوصوا بالوالدين إحساناً، لأن قوله: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ بمنزلة استوصوا بعبادة الله، وأن تحسنوا إلى ذي قرباكم، وإلى اليتامى الذين لا أب لهم، والمساكين وهم الفقراء، والجار ذي القربي، يعني الجار القريب.

2. أصل الجار العدول، جاوره مجاورة وجواراً، فهو مجاور له وجار له، لعدوله إلى ناحيته في مسكنه، والجور الظلم، لأنه عدول عن الحق، ومنه جار السهم إذا عدل عن قصده، وجار عن الطريق إذا عدل عنه، واستجار بالله، لأنه‏ يسأله العدول به عن النار، وجوار الذمة، لأنه عدول بها إلى ناحية صاحبها.

3. ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ أصل الجنب التنحية، جنبت فلاناً عن كذا فتجنب أي نحيته، ومنه قوله: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ والجانبان الناحيتان، لتنحي كل واحدة عن الأخرى، ومنه جنب الإنسان وكل حيوان، والاجتناب الترك للشيء، والجار الجنب معناه الغريب الأجنبي، لتنحيه عن القرابة، قال علقمة بن عبدة:

çفلا تحرمني نائلا عن جنابة...فاني امرؤ وسط القباب غريب‏é

أي عن غربة، وقال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد: الجار ذي القربي القريب في النسب، والجار الجنب: الغريب، أي عن غربة، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال الجيران ثلاثة، جار له ثلاثة حقوق: حق الجوار، وحق القرابة، وحق الإسلام، وجار له حقان: حق الجوار، وحق الإسلام، وجار له حق الجوار، والمشرك من أهل الكتاب، وقال الزجاج، الجار ذي القربي الذي يقاربك ويعرفك وتعرفه، والجار الجنب البعيد، وروي أن حد الجوار إلى أربعين داراً، وروي إلى أربعين ذراعاً.

4. في قوله تعالى: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والسدي، والضحاك: هو الرفيق.

ب. الثاني: قال عبد الله بن مسعود، وعلي عليه السلام وابراهيم، وابن أبي ليلى: الزوجة.

ج. الثالث: قال ابن زيد، وابن عباس، في رواية أخرى عنه: إنه المنقطع اليك رجاء رفدك، وقيل إنه في جميع هؤلاء، وهو أعم فائدة.

5. ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ معناه صاحب الطريق، وقيل في المراد به هاهنا قولان:

أ. أحدهما: قال مجاهد، والربيع: إنه المسافر.

ب. الثاني: قال قتادة، والضحاك: انه الضيف.

ج. وقال أصحابنا (2): يدخل فيه الفريقان.

6. ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ يعني المماليك من العبيد والإماء، أمر الله بالإحسان إلى هؤلاء أجمع.

7. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا﴾:

أ. فالمختال الصلف التياه، والاختيال هو التطاول، وإنما ذكره الله هاهنا وذمه، لأنه أراد بذلك من يختال فيأنف من قراباته وجيرانه إذا كانوا فقراء، لكبره وتطاوله، فأما الاختيال في الحرب فممدوح، لأن في ذلك تطاولا على العدو واستخفافاً به، وأصل المختال من التخيل، وهو التصور، فالمختال لأنه يتخيل بحاله مرح البطر، ومنه الخيل، لأنها تختال في مشيها، أي تتبختر، والخيال، لأنه يتخيل به صاحبه، والأخيل الشقراق، لأنه يتخيل في لونه الخضرة من غير خلوصها، والخول الحشم، وخلته راكباً خيلاناً أي تخيلته، والخال المختال، والخال أخ الأم.

ب. (والفخور) هو الذي يعدد مناقبه كبراً وتطاولا، وأما الذي يعددها اعترافا بالنعم فيها فهو شكور غير فخور.

روي عن المفضل عن عاصم أنه قرأ: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ ـ بفتح الجيم ـ قال أبو الحسن: هو لغة في الجنب، قال الراجز: (الناس جنب والأمير جنب) يعني ناحية: قال أبو علي الفارسي: يحتمل أمرين:

أ. أحدهما: أن يريد الناحية، والتقدير: ذي الجنب، فحذف المضاف، لأن المعنى مفهوم، لأن الناحية لا تكون هي الجار.

ب. الثاني: أن يكون وصفاً، مثل: ضرب وندب وفسل، فهذا وصف جرى على موصوف.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/194.

(2) يقصد الإمامية.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الجار أصله من العدول، جار أي عدل، وجاوره مجاورة وجوارًا، وسمي الجار لعدوله إلى ناحيته في مسكنه، والجَوْرُ: الظلم؛ لأنه عدول عن الحق، ومنه استجار بِاللهِ من النار أي سَأَلهُ العدول به عنها.

ب. أصل الجنب التنحية، يقال: جنبت فلانًا عن كذا فتجنب، أي نحيته فتنحى، ومنه ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ﴾ والجار الجنب الأجنبي لتنحيه عن القرابة بالبعد منها.

ج. المختال: أصله التخيل وهو التصور، فالمختال لأنه يتخيل بخياله مزح النظر، ومنه الخيال؛ لأنه يتخيل به صاحبه، وهو مُفْتَعِل من خال يخال، ومنه قول الشاعر: وإِنْ كُنْتَ لْلِخَالِ فَاذْهَبْ فَخُلْ.

د. الفخور هو: المعدد للمنافع كبرًا وتطاولاً، وهو من الفخر، والذي يعددها اعترافًا بالنعمة هو: شكُور.

2. في اتصال الآية بما قبلها وجوه:

أ. قيل: لما أمر الله بمكارم الأخلاق في اليتامى والمواريث وأمر النساء، أمرهم بهذه الخصال ليكون الوعظ شاملاً لمكارم الأخلاق ومعالي الأمور.

ب. وقيل: لما بين العشرة في باب الزوجين مصلحة للدنيا عطف عليه بهذه الخصال مصلحة للدين والدنيا.

ج. وقيل: لما أمر بالإحسان إلى الزوجات التي بينهما سبب عقبه بالإحسان إلى من هو أولى فبدأ بعبادته؛ لأنه الخالق المنعم، ثم بالوالدين؛ لأنهما سبب كونه والمنعم عليه وإليهما تربيته، ثم بالقربى؛ لأنه أخص من غيره، ثم بالجار القريب، ثم بالجار الجنب، ثم بابن السبيل، فبدأ بالأهم فالأهم.

3. ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ﴾ أي عظموه غاية التعظيم، ووحدوه بالربوبية، فالعبادة لا تجوز لغيره؛ لأن استحقاقه بفعل أصول النعم والقدرة عليها وهو المتفرد بذلك ﴿وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ يعني لا تجعلوا له شريكًا في عبادتكم، كأنه قيل: وحدوا الله بالعبادة مخلصين له.

4. ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ أي أحسنوا إلى الوالدين بالتعظيم والتوقير وحسن العشرة والإنفاق عليهما وحسن المصاحبة ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ أي أحسنوا إلى أقربائكم بصلة الرحم، والبر بهم والنفقة لمن يجب، والإرث لمن يرث، والوصية لمن لا يرث ﴿وَالْيَتَامَى﴾ أي أحسنوا إلى اليتامى بالبر وفعل ما هو أصلح لهم، وألا يقرب من مالهم إلا بالتي هي أحسن، واليتيم من لا أب له ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ هم الفقراء الَّذِينَ لا شيء لهم، أمر بالإحسان إليهم بالزكوات والصدقات وغيرهما.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾:

أ. قيل: أي: أحسنوا إلى الجيران الَّذِينَ هم أقرباؤكم في النسب.

ب. وقيل: الملاصق لداركم، والجنب مَنْ بَيْنَ داركم وداره دُورٌ.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾:

أ. قيل: القريب عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد قالوا: الجار ذي القربى القريب في النسب، وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الجيران ثلاثة: جار له ثلاثة حقوق: حق الجوار، وحق القرابة، وحق الإسلام، وجار له حقان: حق الجوار، وحق الإسلام، وجار له حق الجوار: المشرك من أهل الكتاب)

ب. والجنب قيل: البعيد منك نسبًا.

ج. وقيل: البعيد منك دارًا.

7. الإحسان إليهم بالمواساة والنصرة وحسن العشرة، وكف الأذى عنهم.

8. ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ أي أحسنوا إليه:

أ. قيل: هو الرفيق في السفر عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك والأصم، والإحسان إليه بالمواساة وحسن العشرة.

ب. وقيل: هو الزوجة عن عبد الله وابن أبي ليلى، وإبراهيم، والإحسان إليه حسن العشرة وإيتاء ما يجب من النفقة وغيرها.

ج. وقيل: المنقطع إليك رجاء خيرك عن ابن عباس بخلاف وابن جريج وابن زيد.

د. وقيل: هو الجار الذي يخدمك.

هـ. وقيل: هو جار البيت قريبًا كان في النسب أو بعيدًا عن أبي علي وأبي مسلم.

و. وقيل: هو محمول على كل ذلك؛ إذ لا تنافي، وهو الوجه.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾:

أ. قيل: أي صاحب الطريق، قيل: هو المسافر عن مجاهد والربيع، والإحسان إليه إيواؤه ومعونته وإعطاء حقه.

ب. وقيل: الضيف عن قتادة والضحاك.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾:

أ. قيل: عبيدكم وإماؤكم، وذكر اليمين تأكيدًا، كما يقال: مشت رجلك وبطشت يدك.

ب. وقيل: كل حيوان مملوك.

11. والإحسان إليهم: النفقة عليهم وحسن العشرة معهم، وألّا يكلفوا إلا ما يسهل عليهم.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾:

أ. قيل: الصَّلِفُ التّيَّاهُ.

ب. وقيل: المختال لا يألف الناس لما يرى لنفسه من الفضل، فنهى عن التعظيم وخصه بالذكر؛ لأنه يأنف من أقربائه وجيرانه إذا كانوا فقراء لكبْره وتطاوله، فخور يفتخر على عباد الله بماله وحاله تكبرًا ولا يشكر الله.

13. تدل الآية الكريمة على:

أ. وجوب عبادته تعالى مخلصًا، وحذّر عبادة غيره فيدخل فيه أنواع الشرك.

ب. وجوب الإخلاص، وتدخل فيه العبادات العقلية والشرعية.

ج. وجوب حق الوالدين والمذكورين في الآية وأن لكل واحد منهم حقًا يجب على الإنسان مراعاته.

د. ذم المختال الفخور ففيه تنبيه على وجوب التمسك بالتواضع، وقد حرم التخيل إلا في الحرب فإنه أبيح هناك استخفافا بالكفار، وفي غير الحرب هو استخفاف بالمؤمنين فيحرم.

هـ. قبح الفخر إذا تطاول به على غيره، ولهذا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنا سيد ولد آدم ولا فخر)

14. قراءات ووجوه:

أ. قراءة العامة ﴿إِحْسَانًا﴾ نصبًا على معنى أحسنوا إليهم إحسانًا، وعن ابن أبي عبلة بالرفع على تقدير: واجب الإحسان إليهما.

ب. قراءة العامة ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ عطفًا على الكلام الأول عن ابن أبي عبلة، والجار وما يليه نصب على الإغراء.

ج. قراءة العامة ﴿الْجُنُبِ﴾ بضم الجيم والنون، وعن الأعمش ﴿الْجُنُبِ﴾ بفتح الجيم وسكون النون، وهما لغتان، يقال: رجل جُنُبٌ وجَنْبٌ وجانب وأجنبي إذا لم يكن قريبًا والجمع: أجانب.

15. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿إِحْسَانًا﴾: قيل: نصب على المصدر تقديره: أحسنوا إحسانًا كقولك: جَرْبًا لزيد، وقيل: تقديره استوصوا بالوالدين إحسانًا؛ لأن قوله: ﴿وَاعْبُدُوا﴾ بمنزلة استوصوا بعبادة الله تعالى.

ب. ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ محله جر بالعطف على ما قبله.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/622

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الجار: أصله من العدول، يقال: جاوره، يجاوره، مجاورة، وجوار، فهو مجاور له، وجار له بعدوله إلى ناحيته في مسكنه، من قولهم: جار عن الطريق، وجار السهم: إذا عدل عن القصد، واستجار بالله لأنه يسأله العدول به عن النار.

ب. الجار ذي القربى: القريب، والجار الجنب: الغريب، قال أبو علي: الجنب صفة على فعل، مثل ناقة أجد، ومشي سجح، فالجنب: المتباعد عن أهله، يدلك على ذلك مقابلته بقوله: (والجار ذي القربى) والقربى: من القرب، كاليسرى من اليسر.

ج. أصل المختال: من التخيل، وهو التصور، لأنه يتخيل بحاله مرح البطر، والمختال: الصلف التياه، ومنه الخيل، لأنها تختال في مشيها: أي تتبختر، والخول: الحشم.

د. الفخور: الذي يعد مناقبه كبرا أو تطاولا، وأما الذي يعددها اعترافا بالنعمة فيها، فهو شكور، غير فخور.

2. لما أمر سبحانه بمكارم الاخلاق في أمر اليتامى، والأزواج، والعيال، عطف على ذلك بهذه الخلال المشتملة على معاني الأمور، ومحاسن الأفعال، فبدأ بالأمر بعبادته فقال: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ أي وحدوه وعظموه، ولا تشركوا في عبادته غيره، فإن العبادة لا تجوز لغيره، لأنها لا تستحق إلا بفعل أصول النعم، ولا يقدر عليها سواه تعالى.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾:

أ. قيل: أي فاستوصوا بهما برا، وإنعاما، وإحسانا، وإكراما.

ب. وقيل: إن فيه إضمار فعل: أي وأوصاكم الله بالوالدين إحسانا.

4. ﴿وبذي القربى واليتامى والمسكين﴾ معناه: أحسنوا بالوالدين خاصة، وبالقرابات عامة، يقال: أحسنت إليه، وأحسنت به، وأحسنوا إلى اليتامى بحفظ أموالهم، والقيام عليها، وغيرها من وجوه الاحسان، وأحسنوا إلى المساكين، فلا تضيعوهم، وأعطوهم ما يحتاجون إليه من الطعام، والكسوة، وسائر ما لا بد منه لهم.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾:

أ. قيل: معناه الجار القريب في النسب، والجار الأجنبي الذي ليس بينك وبينه قرابة، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد.

ب. وقيل: المراد به الجار ذي القربى منك بالاسلام، والجار الجنب: المشرك البعيد في الدين، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (الجيران ثلاثة: جار له ثلاثة حقوق: حق الجوار، وحق القرابة، وحق الاسلام، وجار له حقان: حق الجوار وحق الاسلام، وجار له حق الجوار: المشرك من أهل الكتاب)

ج. وقال الزجاج: والجار ذي القربى: الذي يقاربك وتقاربه، ويعرفك وتعرفه، والجار الجنب: البعيد، وروي أن حد الجوار إلى أربعين دارا، ويروى إلى أربعين ذراعا، قال: ولا يجوز أن يكون المراد بذي القربى من القرابة، لأنه قد سبق ذكر القرابة، والامر بالاحسان إليهم، بقوله: ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾، ويمكن أن يجاب عنه بأن يقال: هذا جائز، وإن كان قد سبق ذكر القرابة، لان الجار إذا كان قريبا فله حق القرابة والجوار، والقريب الذي ليس بجار: له حق القرابة فحسب، فحسن إفراد الجار القريب بالذكر.

6. في قوله تعالى: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ أربعة:

أ. أحدها: إنه الرفيق في السفر، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وجماعة، والاحسان إليه بالمواساة وحسن العشرة.

ب. ثانيها: أنه الزوجة، عن عبد الله بن مسعود، وابن أبي ليلى، والنخعي.

ج. ثالثها: إنه المنقطع إليك يرجو نفعك، عن ابن عباس في إحدى الروايتين، وابن زيد.

د. رابعها: إنه الخادم الذي يخدمك.

هـ. الأولى حمله على الجميع.

7. ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ معناه: صاحب الطريق، وفيه قولان:

أ. أحدهما: إنه المسافر، عن مجاهد، والربيع.

ب. وقيل: هو الضيف، عن ابن عباس، قال: والضيافة ثلاثة أيام، وما فوقها فهو معروف، وكل معروف صدقة، وروى جابر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك)

8. ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ يعني به المماليك من العبيد، والإماء، وذكر اليمين تأكيدا كما يقال مشت رجلك، وبطشت يدك، فموضع ﴿مَا﴾ من قوله ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ جر بالعطف على ما تقدم: أي، وأحسنوا إلى عبيدكم وإمائكم بالنفقة، والسكنى، ولا تحملوهم من الاعمال ما لا يطيقونه، أمر الله عباده بالاحسان إلى هؤلاء أجمع.

9. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ﴾ أي لا يرتضي ﴿مَنْ كَانَ مُخْتَالًا﴾ في مشيته ﴿فَخُورًا﴾ على الناس بكثرة المال، تكبرا، عن ابن عباس، وإنما ذكرهما لأنهما يأنفان من أقاربهم وجيرانهم إذا كانوا فقراء، لا يحسنان عشرتهم.

10. هذه آية جامعة تضمنت بيان أركان الاسلام، والتنبيه على مكارم الأخلاق، ومن تدبرها حق التدبر، وتذكرها حق التذكر، أغنته عن كثير من مواعظ البلغاء، وهدته إلى جم غفير من علوم العلماء.

11. ﴿إِحْسَانًا﴾ نصب على المصدر، كما تقول ضربا لزيد، وتقديره أحسنوا بالوالدين إحسانا، أو يكون نصبا على تقدير استوصوا بالوالدين إحسانا، فيكون مفعولا به.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/72.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾ قال ابن عباس: وحدوه، ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ قال الفرّاء: أغراهم بالإحسان إلى الوالدين.

2. في قوله تعالى: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه الجار الذي بينك وبينه قرابة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والضّحّاك، وقتادة، وابن زيد، ومقاتل في آخرين.

ب. الثاني: أنه الجار المسلم، قاله نوف الشّاميّ، فيكون المعنى: ذي القربى منكم بالإسلام.

3. ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ روى المفضّل، عن عاصم: (والجار الجنب) بفتح الجيم، وإسكان النون، قال أبو عليّ: المعنى: والجار ذي الجنب، فحذف المضاف، وفي الجار الجنب ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه الغريب الذي ليس بينك وبينه قرابة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضّحّاك، وابن زيد، ومقاتل في آخرين.

ب. الثاني: أنه جارك عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك، وخلفك، رواه الضّحاك، عن ابن عباس.

ج. الثالث: أنه اليهوديّ والنّصرانيّ، قاله نوف الشّاميّ.

4. في الصّاحب بالجنب ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه الزّوجة، قاله عليّ، وابن مسعود، والحسن، وإبراهيم النّخعيّ، وابن أبي ليلى.

ب. الثاني: أنه الرّفيق في السّفر، قاله ابن عباس في رواية مجاهد، وقتادة، والضّحّاك، والسّدّيّ، وابن قتيبة، وعن سعيد بن جبير كالقولين.

ج. الثالث: أنه الرّفيق، رواه ابن جريج، عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، قال ابن زيد: هو الذي يلصق بك رجاء خيرك، وقال مقاتل: هو رفيقك حضرا وسفرا، وفي ابن السّبيل أقوال قد ذكرناها في (البقرة)

5. ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ يعني: المملوكين، وقال بعضهم: يدخل فيه الحيوان البهيم.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُخْتَالًا فَخُورًا﴾:

أ. قال ابن عباس: المختال: البطر في مشيته، والفخور: المفتخر على الناس بكبره.

ب. وقال مجاهد: هو الذي يعدّ ما أعطى، ولا يشكر الله.

ج. وقال ابن قتيبة: المختال: ذو الخيلاء والكبر.

د. وقال الزجّاج: المختال: الصّلف التّيّاه الجهول، وإنما ذكر الاختيال هاهنا، لأن المختال يأنف من ذوي قراباته، ومن جيرانه إذا كانوا فقراء.

__________

(1) زاد المسير: 1/405.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. النوع التاسع من التكاليف المذكورة في هذه السورة ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، ذلك أنه لما أرشد كل واحد من الزوجين إلى المعاملة الحسنة مع الآخر وإلى إزالة الخصومة والخشونة، أرشد في هذه الآية إلى سائر الأخلاق الحسنة وذكر منها عشرة أنواع:

أ. الأول: قوله: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾ قال ابن عباس: المعنى وحدوه، واعلم أن العبادة عبارة عن كل فعل وترك يؤتى به لمجرد أمر الله تعالى بذلك، وهذا يدخل فيه جميع أعمال القلوب وجميع أعمال الجوارح، فلا معنى لتخصيص ذلك بالتوحيد، وتحقيق الكلام في العبادة قد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾، [البقرة: 21]

ب. الثاني: قوله: ﴿وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ وذلك لأنه تعالى لما أمر بالعبادة بقوله: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾ أمر بالإخلاص في العبادة بقوله: ﴿وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ لأن من عبد مع الله غيره كان مشركا ولا يكون مخلصا، ولهذا قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: 5]

ج. الثالث: قوله: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ واتفقوا على أن هاهنا محذوفا، والتقدير: وأحسنوا بالوالدين إحسانا كقوله: ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ [محمد: 4] أي فاضربوها، ويقال: أحسنت بفلان، وإلى فلان، قال كثير:

çأسيئي بنا أو أحسني لا ملومة... لدنيا ولا مقلية ان تقلت‏é

د. الرابع: قوله تعالى: ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ وهو أمر بصلة الرحم كما ذكر في أول السورة بقوله: ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ [النساء: 1] واعلم أن الوالدين من الأقارب أيضا، إلا أن قرابة الولاد لما كانت مخصوصة بكونها أقرب القرابات وكانت مخصوصة بخواص لا تحصل في غيرها، لا جرم ميزها الله تعالى في الذكر عن سائر الأنواع، فذكر في هذه الآية قرابة الولاد، ثم أتبعها بقرابة الرحم.

هـ. الخامس: قوله: ﴿وَالْيَتَامَى﴾ واليتيم مخصوص بنوعين من العجز:

أحدهما: الصغر.

الثاني: عدم المنفق، ولا شك أن من هذا حاله كان في غاية العجز واستحقاق الرحمة، قال ابن عباس: يرفق بهم ويربيهم ويمسح رأسهم، وإن كان وصيا لهم فليبالغ في حفظ أموالهم.

و. السادس: قوله: ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ واعلم أنه وان كان عديم المال إلا أنه لكبره يمكنه أن يعرض حال نفسه على الغير، فيجلب به نفعا أو يدفع به ضررا، وأما اليتيم فلا قدرة له عليه، فلهذا المعنى قدم الله اليتيم في الذكر على المسكين، والإحسان إلى المسكين اما بالإجمال اليه، أو بالرد الجميل، كما قال تعالى: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾ [الضحى: 9]

ز. السابع: قوله: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ واختلفوا:

قيل: هو الذي قرب جواره، والجار الجنب هو الذي بعد جواره، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ألا وان الجوار أربعون دارا) وكان الزهري يقول: أربعون يمنة، وأربعون يسرة، وأربعون أماما وأربعون خلفا، وعن أبي هريرة قيل: يا رسول الله ان فلانة تصوم النهار وتصلي الليل وفي لسنانها شيء يؤذي جيرانها، أي هي سليطة، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا خير فيها هي في النار)، وروي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: والذي نفس محمد بيده لا يؤدي حق الجار إلا من رحم الله وقليل ما هم أتدرون ما حق الجار ان افتقر أغنيته وان استقرض أقرضته وان أصابه خير هنأته وان أصابه شر عزيته وان مرض عدته وان مات شيعت جنازته)

وقال آخرون: عني بالجار ذي القربى: القريب النسيب، وبالجار الجنب: الجار الأجنبي، وقرئ (والجار ذا القربى) نصبا على الاختصاص، كما قرئ‏ ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة: 238] تنبيها على عظم حقه، لأنه اجتمع فيه موجبان، الجوار والقرابة.

ح. الثامن: قوله: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ وقد ذكرنا تفسيره، قال الواحدي: الجنب نعت على وزن فعل، وأصله من الجنابة ضد القرابة وهو البعيد، يقال: رجل جنب إذا كان غريبا متباعدا عن أهله، ورجل أجنبي وهو البعيد منك في القرابة، وقال تعالى: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ﴾ [إبراهيم: 35] أي بعدني، والجانبان الناحيتان لبعد كل واحد منهما عن الآخر، ومنه الجنابة من الجماع لتباعده عن الطهارة وعن حضور المساجد للصلاة ما لم يغتسل، ومنه أيضا الجنبان لبعد كل واحد منهما عن الآخر، وروى المفضل عن عاصم: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ بفتح الجيم وسكون النون وهو يحتمل معنيين:

أحدهما: أنه يريد بالجنب الناحية، ويكون التقدير: والجار ذي الجنب فحذف المضاف، لأن المعنى مفهوم.

والآخر: أن يكون وصفا على سبيل المبالغة، كما يقال: فلان كرم وجود.

ط. التاسع: قوله: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ وهو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقا في سفر، وإما جارا ملاصقا، وإما شريكا في تعلم أو حرفة، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه، فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان، قيل: الصاحب بالجنب: المرأة فإنها تكون معك وتضجع إلى جنبك.

ي. العاشر: قوله: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ وهو المسافر الذي انقطع عن بلده، وقيل: الضيف.

ك. الحادي عشر: قوله: ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، الإحسان إلى المماليك طاعة عظيمة، روى عمر بن الخطاب أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من ابتاع شيئا من الخدم فلم توافق شيمته شيمته فليبع وليشتر حتى توافق شيمته شيمته فان للناس شيما ولا تعذبوا عباد الله)، وروي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان آخر كلامه: (الصلاة وما ملكت أيمانكم)، وروي‏ أنه كان رجل بالمدينة يضرب عبده، فيقول العبد أعوذ بالله ويستمعه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، والسيد كان يزيده ضربا، فطلع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: أعوذ برسول الله فتركه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (إن الله كان أحق أن يجار عائذه) قال يا رسول الله فإنه حر لوجه الله، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (والذي نفس محمد بيده لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار)، والإحسان إليهم من وجوه:

أحدها: أن لا يكلفهم ما لا طاقة لهم به.

ثانيها: أن لا يؤذيهم بالكلام الخشن بل يعاشرهم معاشرة حسنة.

ثالثها: أن يعطيهم من الطعام والكسوة ما يحتاجون إليه، وكانوا في الجاهلية يسيئون إلى المملوك فيكلفون الإماء البغاء، وهو الكسب بفروجهن وبضوعهن، وقال بعضهم: كل‏ حيوان فهو مملوك، والإحسان إلى الكل بما يليق به طاعة عظيمة.

2. قرن الله تعالى إلزام بر الوالدين بعبادته وتوحيده في مواضع:

أ. أحدها: في هذه الآية.

ب. ثانيها: قوله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23]

ج. ثالثها: قوله: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لقمان: 14] وكفى بهذا دلالة على تعظيم حقهما ووجوب برهما والإحسان إليهما، ومما يدل على وجوب البر إليهما قوله تعالى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: 23] وقال: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: 8] وقال في الوالدين الكافرين: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: 15] وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس) وعن أبي سعيد الخدري: أن رجلا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من اليمين استأذنه في الجهاد، فقال عليه السلام: (هل لك أحد باليمن فقال أبواي فقال: أبواك أذنا لك فقال لا فقال فارجع واستاذنهما فان أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما)

3. الإحسان إلى الوالدين هو أن يقوم بخدمتهما، وألا يرفع صوته عليهما، ولا يخشن في الكلام معهما، ويسعى في تحصيل مطالبهما والانفاق عليهما بقدر القدرة من البر، وأن لا يشهر عليهما سلاحا، ولا يقتلهما، قال أبو بكر الرازي: إلا أن يضطر إلى ذلك بأن يخاف أن يقتله أن ترك قتله، فحينئذ يجوز له قتله، لأنه إذا لم يفعل ذلك كان قد قتل نفسه بتمكين غيره منه، وذلك منهي عنه، روي‏ أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركا.

4. ذكر اليمين تأكيد وهو كما يقال: مشت رجلك، وأخذت يدك، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (على اليد ما أخذت)، وقال تعالى: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا﴾ [يس: 71]

5. ولما ذكر تعالى هذه الأصناف قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ والمختال ذو الخيلاء والكبر، قال ابن عباس: يريد بالمختال العظيم في نفسه الذي لا يقوم بحقوق أحد، قال الزجاج: وإنما ذكر الاختيال هاهنا، لأن المختال يأنف من أقاربه إذا كانوا فقراء، ومن جيرانه إذا كانوا ضعفاء فلا يحسن عشرتهم، وذكرنا اشتقاق هذه اللفظة عند قوله: ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ [آل عمران: 14]

6. معنى الفخر التطاول، والفخور الذي يعدد مناقبه كبرا وتطاولا، قال ابن عباس: هو الذي يفخر على عباد الله بما أعطاه الله من أنواع نعمه، وإنما خص الله تعالى هذين الوصفين بالذم في هذا الموضع، لأن المختال هو المتكبر، وكل من كان متكبرا فإنه قلما يقوم برعاية الحقوق، ثم أضاف اليه ذم الفخور لئلا يقدم على رعاية هذه الحقوق لأجل الرياء والسمعة، بل لمحض أمر الله تعالى.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 10/76.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أجمع العلماء على أن هذه الآية من المحكم المتفق عليه، ليس منها شي منسوخ، وكذلك هي في جميع الكتب، ولو لم يكن كذلك لعرف ذلك من جهة العقل، وإن لم ينزل به الكتاب، وقد مضى معنى العبودية وهي التذلل والافتقار، لمن له الحكم والاختيار، فأمر الله تعالى عباده بالتذلل له والإخلاص فيه، فالآية أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره، قال الله تعالى ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾:

أ. حتى لقد قال بعض علمائنا: إنه من تطهر تبردا أو صام محما لمعدته ونوى مع ذلك التقرب لم يجزه، لأنه مزج في نية التقرب نية دنياوية وليس لله إلا العمل الخالص، كما قال تعالى: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ وقال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، وكذلك إذا أحس الرجل بداخل في الركوع وهو إمام لم ينتظره، لأنه يخرج ركوعه بانتظاره عن كونه خالصا لله تعالى.

ب. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)

ج. وروى الدارقطني عن أنس ابن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يجاء يوم القيامة بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول الله تعالى للملائكة ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما رأينا إلا خيرا فيقول الله تعالى وهو أعلم ـ إن هذا كان لغيري ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما كان ابتغي به وجهي)

د. وروي أيضا عن الضحاك بن قيس الفهري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شي ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شي)

2. إذا ثبت هذا فاعلم أن علماءنا قالوا: الشرك على ثلاث مراتب وكله محرم:

أ. وأصله اعتقاد شريك لله في ألوهيته، وهو الشرك الأعظم وهو شرك الجاهلية، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾

ب. ويليه في الرتبة اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل، وهو قول من قال: إن موجودا ما غير الله تعالى يستقل بإحداث فعل وإيجاده وإن لم يعتقد كونه إلها كالقدرية مجوس هذه الأمة، وقد تبرأ منهم ابن عمر كما في حديث جبريل عليه السلام.

ج. ويلي هذه الرتبة الإشراك في العبادة وهو الرياء، وهو أن يفعل شيئا من العبادات التي أمر الله بفعلها له لغيره، وهذا هو الذي سيقت الآيات والأحاديث لبيان تحريمه، وهو مبطل للأعمال وهو خفي لا يعرفه كل جاهل غبي، ورضي الله عن المحاسبي فقد أوضحه في كتابه (الرعاية) وبين إفساده للأعمال:

أ. وفي سنن ابن ماجه عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصارى وكان من الصحابة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله تعالى أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك.

ب. وفيه عن أبي سعيد الخدري قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ونحن نتذاكر المسيخ الدجال فقال: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيخ الدجال؟ قال: فقلنا بلى يا رسول الله، فقال: الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل.

ج. وفيه عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن أخوف ما أتخوف على أمتي الإشراك بالله أما إني لست أقول يعبدون شمسا ولا قمرا ولا وثنا ولكن أعمالا لغير الله وشهوة خفية) خرجه الترمذي الحكيم، وسيأتي في آخر الكهف، وفيه بيان الشهوة الخفية.

د. وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الشهوة الخفية فقال: (هو الرجل يتعلم العلم يحب أن يجلس إليه)

هـ. قال سهل ابن عبد الله التستري: الرياء على ثلاثة وجوه، أحدها: أن يعقد في أصل فعله لغير الله ويريد به أن يعرف أنه لله، فهذا صنف من النفاق وتشكك في الايمان، والآخر: يدخل في الشيء لله فإذا اطلع عليه غير الله نشط، فهذا إذا تاب يزيد أن يعيد جميع ما عمل، والثالث: دخل في العمل بالإخلاص وخرج به لله فعرف بذلك ومدح عليه وسكن إلى مدحهم، فهذا الرياء الذي نهى الله عنه.

و. وقال سهل قال لقمان لابنه: الرياء أن تطلب ثواب عملك في دار الدنيا، وإنما عمل القوم للآخرة، قيل له: فما دواء الرياء؟ قال: كتمان العمل، قيل له: فكيف يكتم العمل؟ قال: ما كلفت إظهاره من العمل فلا تدخل فيه إلا بالإخلاص، وما لم تكلف إظهاره أحب ألا يطلع عليه إلا الله، قال: وكل عمل اطلع عليه الخلق فلا تعده من العمل.

ز. وقال أيوب السختياني: ما هو بعاقل من أحب أن يعرف مكانه من عمله.

3. قول سهل الثالث (دخل في العمل بالإخلاص) إلى آخره، إن كان سكونه وسروره إليهم لتحصل منزلته في قلوبهم فيحمدوه ويجلوه ويبرؤه وينال ما يريده منهم من مال أو غيره فهذا مذموم، لأن قلبه مغمور فرحا باطلاعهم عليه، وإن كانوا قد اطلعوا عليه بعد الفراغ، فأما من أطلع الله عليه خلقه وهو لا يحب اطلاعهم عليه فيسر بصنع الله وبفضله عليه فسروره بفضل الله طاعة، كما قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾، وبسط هذا وتتميمه في كتاب الرعاية للمحاسبي، فمن أراده فليقف عليه هناك، وقد سئل سهل عن حديث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (أني أسر العمل فيطلع عليه فيعجبني) قال: يعجبه من جهة الشكر لله الذي أظهره الله عليه أو نحو هذا، فهذه جملة كافية في الرياء وخلوص الأعمال، وقد مضى في البقرة، حقيقة الإخلاص، والحمد لله.

4. ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ قد تقدم في صدر هذه السورة أن من الإحسان إليهما عتقهما، ويأتي في ﴿سُبْحَانَ﴾ حكم برهما مستوفى:

أ. وقرأ ابن أبي عبلة (إحسان) بالرفع أي واجب الإحسان إليهما، الباقون بالنصب، على معنى أحسنوا إليهما إحسانا:

ب. قال العلماء: فأحق الناس بعد الخالق المنان بالشكر والإحسان والتزام البر والطاعة له والإذعان من قرن الله الإحسان إليه بعبادته وطاعته وشكره بشكره وهما الوالدان، فقال تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾

ج. وروى شعبة وهشيم الواسطيان عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (رضى الرب في رضى الوالدين وسخطه في سخط الوالدين)

5. ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ أما الجار فقد أمر الله تعالى بحفظه والقيام بحقه والوصاة برعي ذمته في كتابه وعلى لسان نبيه، ألا تراه سبحانه أكد ذكره بعد الوالدين والأقربين فقال تعالى: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ أي القريب.

أ. ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ أي الغريب، قاله ابن عباس، وكذلك هو في اللغة، ومنه فلان أجنبي، وكذلك الجنابة البعد، وأنشد أهل اللغة:

çفلا تحرمني نائلا عن جنابة...فإني امرؤ وسط القباب غريبé

وقال الأعشى:

çأتيت حريثا زائرا عن جنابة...فكان حريث عن عطائي جامداé

وقرأ الأعمش والمفضل ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ بفتح الجيم وسكون النون وهما لغتان، يقال: جنب وجنب وأجنب وأجنبي إذا لم يكن بينهما قرابة، وجمعه أجانب، وقيل: على تقدير حذف المضاف، أي والجار ذي الجنب أي ذي الناحية.

ب. وقال نوف الشامي: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ المسلم ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ اليهودي والنصراني، وعلى هذا فالوصاة بالجار مأمور بها مندوب إليها مسلما كان أو كافرا، وهو الصحيح.

6. الإحسان قد يكون بمعنى المواساة، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه:

أ. روى البخاري عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)

ب. وروي عن أبي شريح أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن) قيل: يا رسول الله ومن؟ قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه) وهذا عام في كل جار، وقد أكد صلّى الله عليه وآله وسلّم ترك إذايته بقسمه ثلاث مرات، وأنه لا يؤمن الإيمان الكامل من آذى جاره، فينبغي للمؤمن أن يحذر أذى جاره، وينتهي عما نهى الله ورسوله عنه، ويرغب فيما رضياه حضا العباد عليه.

ج. وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق وجار له حقان وجار له حق واحد فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب له حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام والجار الذي له حقان فهو الجار المسلم فله حق الإسلام وحق الجوار والجار الذي له حق واحد هو الكافر له حق الجوار.

د. روى البخاري عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي، قال: إلى أقربهما منك بابا)، فذهب جماعة من العلماء إلى أن هذا الحديث يفسر المراد من قوله تعالى: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ وأنه القريب المسكن منك.

7. ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ هو البعيد المسكن منك، واحتجوا بهذا على إيجاب الشفعة للجار، وعضدوه وبقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الجار أحق بصقبه)، ولا حجة في ذلك، فإن عائشة إنما سألت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عمن تبدأ به من جيرانها في الهدية فأخبرها أن من قرب بابه فإنه أولى بها من غيره، قال ابن المنذر: فدل هذا الحديث على أن الجار يقع على غير اللصيق، وقد خرج أبو حنيفة عن ظاهر هذا الحديث فقال: إن الجار اللصيق إذا ترك الشفعة وطلبها الذي يليه وليس له جدار إلى الدار ولا طريق لا شفعة فيه له، وعوام العلماء يقولون: إن أوصى الرجل لجيرانه أعطي اللصيق وغيره، إلا أبا حنيفة فإنه فارق عوام العلماء وقال: لا يعطى إلا اللصيق وحده.

8. اختلف الناس في حد الجيرة، فكان الأوزاعي يقول: أربعون دارا من كل ناحية، وقال ابن شهاب، وروي أن رجلا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إني نزلت محلة قوم وإن أقربهم إلي جوارا أشدهم لي أدى، فبعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أبا بكر وعمر وعليا يصيحون على أبواب المساجد: ألا إن أربعين دارا جار ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه، وقال علي بن أبي طالب: من سمع النداء فهو جار، وقالت فرقة: من سمع إقامة الصلاة فهو جار ذلك المسجد، وقالت فرقة: من ساكن رجلا في محلة أو مدينة فهو جار، قال الله تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ﴾ إلى قوله: ﴿ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ فجعل تعالى اجتماعهم في المدينة جوارا، والجيرة مراتب بعضها ألصق من بعض، أدناها الزوجة، كما قال: أيا جارتا بيني فإنك طالقه.

9. من إكرام الجار ما رواه مسلم عن أبي ذر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)، فحض صلّى الله عليه وآله وسلّم على مكارم الأخلاق، لما رتب عليها من المحبة وحسن العشرة ودفع الحاجة والمفسدة، فإن الجار قد يتأذى بقتار قدر جاره، وربما تكون له ذرية فتهيج من ضعفائهم الشهوة، ويعظم على القائم عليهم الألم والكلفة، لا سيما إن كان القائم ضعيفا أو أرملة فتعظم المشقة ويشتد منهم الألم والحسرة، وهذه كانت عقوبة يعقوب في فراق يوسف عليه السلام فيما قيل، وكل هذا يندفع بتشريكهم في شي من الطبيخ يدفع إليهم.

10. ولهذا المعنى حض صلّى الله عليه وآله وسلّم الجار القريب بالهدية، لأنه ينظر إلى ما يدخل دار جاره وما يخرج منها، فإذا رأى ذلك أحب أن يشارك فيه، وأيضا فإنه أسرع إجابة لجاره عند ما ينويه من حاجة في أوقات الغفلة والغرة، فلذلك بدأ به على من بعد بابه وإن كانت داره أقرب، قال العلماء: لما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فأكثر ماءها) نبه بذلك على تيسير الأمر على البخيل تنبيها لطيفا، وجعل الزيادة فيما ليس له ثمن وهو الماء، ولذلك لم يقل: إذا طبخت مرقة فأكثر لحمها، إذ لا يسهل ذلك على كل أحد، ولقد أحسن القائل:

çقدري وقدر الجار واحدة...وإليه قبلي ترفع القدرé

11. ولا يهدي النزر اليسير المحتقر، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف) أي بشيء يهدى عرفا، فإن القليل وإن كان مما يهدى فقد لا يقع ذلك الموقع، فلو لم يتيسر إلا القليل فليهده ولا يحتقر، وعلى المهدى إليه قبوله، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يا نساء المؤمنات لا تحتقرن أحدا كن لجارتها ولو كراع شاة محرقا) أخرجه مالك في موطئه، وكذا قيدناه (يا نساء المؤمنات) بالرفع على غير الإضافة، والتقدير: يا أيها النساء المؤمنات، كما تقول يا رجال الكرام، فالمنادى محذوف وهو يا أيها، والنساء في التقدير النعت لأيها، والمؤمنات نعت للنساء، قد قيل: فيه: يا نساء المؤمنات بالإضافة، والأول أكثر.

12. من إكرام الجار ألا يمنع من غرز خشبة له إرفاقا به، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره)، ثم يقول أبو هريرة: (ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكنافكم، روي (خشبه وخشبة) على الجمع والإفراد، وروي (أكتافهم) بالتاء و(أكنافهم) بالنون، ومعنى (لأرمين بها) أي بالكلمة والقصة، وهل يقضى بهذا على الوجوب أو الندب؟ فيه خلاف بين العلماء، فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أن معناه الندب إلى بر الجار والتجاوز له والإحسان إليه، وليس ذلك على الوجوب، بدليل قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه)، قالوا: (ومعنى قوله لا يمنع أحدكم جاره) هو مثل معنى قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها)، وهذا معناه عند الجميع الندب، على ما يراه الرجل من الصلاح والخير في ذلك، وقال الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداوود بن علي وجماعة أهل الحديث: إلى أن ذلك على الوجوب، قالوا: ولولا أن أبا هريرة فهم فيما سمع من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم معنى الوجوب ما كان ليوجب عليهم غير واجب، وهو مذهب عمر بن الخطاب، فإنه قضى على محمد بن مسلمة للضحاك بن خليفة في الخليج أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة، فقال محمد بن مسلمة: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمر به ففعل الضحاك رواه مالك في الموطأ، وزعم الشافعي في كتاب (الرد) أن مالكا لم يرو عن أحد من الصحابة خلاف عمر في هذا الباب، وأنكر على مالك أنه رواه وأدخله في كتابه ولم يأخذ به ورده برأيه، قال أبو عمر: ليس كما زعم الشافعي، لأن محمد بن مسلمة كان رأيه في ذلك خلاف رأي عمر، ورأي الأنصار أيضا كان خلافا لرأي عمر، وعبد الرحمن بن عوف في قصة الربيع وتحويله ـ والربيع الساقية ـ وإذا اختلفت الصحابة وجب الرجوع إلى النظر، والنظر، يدل على أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم بعضهم على بعض حرام إلا ما تطيب به النفس خاصة، فهذا هو الثابت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويدل على الخلاف في ذلك قول أبي هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمينكم بها، هذا أو نحوه، أجاب الأولون فقالوا: القضاء بالمرفق خارج بالسنة عن معنى قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) لأن هذا معناه التمليك والاستهلاك وليس المرفق من ذلك، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد فرق بينهما في الحكم، فغير واجب أن يجمع بين ما فرق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحكى مالك أنه كان بالمدينة قاض يقضي به يسمى أبو المطلب، واحتجوا من الأثر بحديث الأعمش عن أنس قال: استشهد منا غلام يوم أحد فجعلت أمه تمسح التراب عن وجهه وتقول: أبشر هنيئا لك الجنة، فقال لها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره)، والأعمش لا يصح له سماع من أنس، والله أعلم، قاله أبو عمر.

13. ورد حديث جمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه مرافق الجار، وهو حديث معاذ بن جبل قال: قلنا يا رسول الله، ما محق الجار؟ قال: (إن استقرضك أقرضته وإن استعانك أعنته وإن احتاج أعطيته وإن مرض عدته وإن مات تبعت جنازته وإن أصابه خير سرك وهنيته وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزيته ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تعرف له منها ولا تستطل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسد عليه الريح إلا بإذنه وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها وإلا فأدخلها سرا لا يخرج ولدك بشيء منه يغيظون به ولده وهل تفقهون ما أقول لكم لن يؤدي حق الجار إلا القليل ممن رحم الله) أو كلمة نحوها، هذا حديث جامع وهو حديث حسن، في إسناده أبو الفضل عثمان بن مطر الشيباني غير مرضي.

14. قال العلماء: الأحاديث في إكرام الجار جاءت مطلقة غير مقيدة حتى الكافر كما بينا، وفي الخبر قالوا: يا رسول الله أنطعمهم من لحوم النسك؟ قال: (لا تطعموا المشركين من نسك المسلمين)، ونهيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن إطعام المشركين من نسك المسلمين يحتمل النسك الواجب في الذمة الذي لا يجوز للناسك أن يأكل منه ولا أن يطعمه الأغنياء، فأما غير الواجب الذي يجزيه إطعام الأغنياء فجائز أن يطعمه أهل الذمة، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لعائشة عند تفريق لحم الأضحية: (ابدئي بجارنا اليهودي)، وروي أن شاة ذبحت في أهل عبد الله بن عمرو فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ ـ ثلاث مرات ـ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)

15. ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ أي الرفيق في السفر:

أ. وأسند الطبري أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم غيضة، فقطع قضيبين أحدهما معوج، فخرج وأعطى لصاحبه القويم، فقال: كنت يا رسول الله أحق بهذا! فقال: (كلا يا فلان إن كل صاحب يصحب آخر فإنه مسئول عن صحابته ولو ساعة من نهار)

ب. وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: للسفر مروءة وللحضر مروءة، فأما المروءة في السفر فبذل الزاد، وقلة الخلاف على الأصحاب، وكثرة المزاج في غير مساخط الله، وأما المروءة في الحضر فالإدمان إلى المساجد، وتلاوة القرآن وكثرة الإخوان في الله تعالى.

ولبعض بني أسد ـ وقيل إنها لحاتم الطائي:

çإذا ما رفيقي لم يكن خلف ناقتي...له مركب فضلا فلا حملت رجلي

ولم يك من زادي له شطر مزودي...فلا كنت ذا زاد ولا كنت ذا فضل

شريكان فيما نحن فيه وقد أرى...علي له فضلا بما نال من فضليé

ج. وقال علي وابن مسعود وابن أبي ليلى: (الصاحب بالجنب) الزوجة.

د. ابن جريج: هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء نفعك، والأول أصح، وهو قول ابن عباس وابن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك، وقد تتناول الآية الجميع بالعموم، والله أعلم.

16. ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ قال مجاهد: هو الذي يجتاز بك مارا، والسبيل الطريق، فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه، ومن الإحسان إليه إعطاؤه وإرفاقه وهدايته ورشده.

17. ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أمر الله تعالى بالإحسان إلى المماليك، وبين ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم:

أ. فروى مسلم وغيره عن المعرور بن سويد قال: مررنا بأبي ذر بالربذة وعليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة، فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلقيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية) قلت: يا رسول الله، من سب الرجال سبوا أباه وأمه، قال: (يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم)

ب. وخرج أبو داوود عن أبي ذر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من لايمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون ومن لا يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله، لايمكم وافقكم، والملائمة الموافقة.

ج. وروى مسلم عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق) وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم:)لا يقل أحدكم عبدي وأمتي بل ليقل فتاي وفتاتي)

18. ندب صلّى الله عليه وآله وسلّم السادة إلى مكارم الأخلاق وحضهم عليها وأرشدهم إلى الإحسان وإلى سلوك طريق التواضع حتى لا يرو الا نفسهم مزية على عبيدهم، إذ الكل عبيد الله والمال مال الله، لكن سخر بعضهم لبعض، وملك بعضهم بعضا إتماما للنعمة وتنفيذا للحكمة، فإن أطعموهم أقل مما يأكلون، وألبسوهم أقل مما يلبسون صفة ومقدارا جاز إذا قام بواجبه عليه، ولا خلاف في ذلك والله أعلم، وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو إذ جاءه قهرمان له فدخل فقال: أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال لا، قال: فانطلق فأعطهم، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم)

19. ثبت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (من ضرب عبده حدا لم يأته أو لطمه فكفارته أن يعتقه)، ومعناه أن يضربه قدر الحد ولم يكن عليه حد، وجاء عن نفر من الصحابة أنهم اقتصوا للخادم من الولد في الضرب وأعتقوا الخادم لما لم يرد القصاص، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من قذف مملوكه بالزنى أقام عليه الحد يوم القيامة ثمانين)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يدخل الجنة سيئ الملكة)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (سوء الخلق شوم وحسن الملكة نماء وصلة الرحم تزيد في العمر والصدقة تدفع ميتة السوء)

20. اختلف العلماء من هذا الباب أيهما أفضل الحر أو العبد:

أ. فروى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (للعبد المملوك المصلح أجران) والذي نفس أبي هريرة بيد لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك، وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين)، فاستدل بهذا وما كان مثله من فضل العبد، لأنه مخاطب من جهتين: مطالب بعبادة الله، مطالب بخدمة سيده، وإلى هذا ذهب أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري وأبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد العامري البغدادي الحافظ.

ب. استدل من فضل الحر بأن قال: الاستقلال بأمور الدين والدنيا وإنما يحصل بالأحرار والعبد كالمفقود لعدم استقلاله، وكالآلة المصرفة بالقهر، وكالبهيمة المسخرة بالجبر، ولذلك سلب مناصب الشهادات ومعظم الولايات، ونقصت حدوده عن حدود الأحرار إشعارا بخسة المقدار، والحر وإن طولب من جهة واحدة فوظائفه فيها أكثر، وعناؤه أعظم فثوابه أكثر، وقد أشار إلى هذا أبو هريرة بقوله: لولا الجهاد والحج، أي لولا النقص الذي يلحق العبد لفوت هذه الأمور، والله أعلم.

21. روى أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، وما زال يوصيني بالنساء حتى ظننت أنه سيحرم طلاقهن، وما زال يوصيني بالمماليك حتى ظننت أنه سيجعل لهم مدة إذا انتهوا إليها عتقوا، وما زال يوصيني بالسواك حتى خشيت أن يحفي فمي ـ وروي حتى كاد ـ وما زال يوصيني بقيام الليل حتى ظننت أن خيار أمتي لا ينامون ليلا)، ذكره أبو الليث السمرقندي في تفسيره.

22. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ﴾ أي لا يرضى، ﴿مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ فنفى سبحانه محبته ورضاه عمن هذه صفته، أي لا يظهر عليه آثار نعمه في الآخرة، وفي هذا ضرب من التوعد، والمختال ذو الخيلاء أي الكبر، والفخور: الذي يعدد مناقبه كبرا، والفخر: البذخ والتطاول، وخص هاتين الصفتين بالذكر هنا لأنهما تحملان صاحبيهما على الأنفة من القريب الفقير والجار الفقير وغيرهم ممن ذكر في الآية فيضيع أمر الله بالإحسان إليهم، وقرأ عاصم فيما ذكر المفضل عنه والجار الجنب بفتح الجيم وسكون النون، قال المهدوي: هو على تقدير حذف المضاف، أي والجار ذي الجنب أي ذي الناحية، وأنشد الأخفش: الناس جنب والأمير جنب والجنب الناحية، أي المتنحي عن القرابة، والله أعلم.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/180.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قد تقدّم بيان معنى العبادة، وشيئا إما مفعول به، أي: لا تشركوا به شيئا من الأشياء، من غير فرق بين حي وميت، وجماد وحيوان، وإما مصدر، أي: لا تشركوا به شيئا من الإشراك من غير فرق بين الشرك الأكبر والأصغر، والواضح والخفي.

2. ﴿إِحْسَانًا﴾ مصدر لفعل محذوف، أي: أحسنوا بالوالدين إحسانا، وقرأ ابن أبي عبلة: بالرفع، وقد دل ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد الأمر بعبادة الله والنهي عن الإشراك به على عظم حقهما، ومثله: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ فأمر سبحانه بأن يشكرا معه.

3. ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ أي: صاحب القرابة، وهو من يصح إطلاق اسم القربى عليه، وإن كان بعيدا، ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ قد تقدّم تفسيرهم، والمعنى: وأحسنوا بذي القربى إلى آخر ما هو مذكور في هذه الآية.

4. ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ أي: القريب جواره؛ وقيل: هو من له مع الجوار في الدار قرب في النسب‏، ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ المجانب، وهو مقابل للجار ذي القربى، والمراد: من يصدق عليه مسمى الجوار مع كون داره بعيدة، وفي ذلك دليل على تعميم الجيران بالإحسان إليهم، سواء كانت الديار متقاربة أو متباعدة، وعلى أن الجوار حرمة مرعية مأمور بها، وفيه ردّ على من يظن أن الجار مختص بالملاصق دون من بينه وبينه حائل، أو مختص بالقريب دون البعيد؛ وقيل: إن المراد بالجار الجنب هنا: هو الغريب؛ وقيل: هو الأجنبي الذي لا قرابة بينه وبين المجاور له، وقرأ الأعمش، والمفضل: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ بفتح الجيم وسكون النون، أي: ذي الجنب، وهو الناحية، وأنشد الأخفش: (النّاس جنب والأمير جنب)‏، وقيل: المراد بالجار ذي القربى: المسلم، وبالجار الجنب: اليهودي والنصراني.

5. وقد اختلف أهل العلم في المقدار الذي يصدق عليه مسمى الجوار ويثبت لصاحبه الحق، فروي عن الأوزاعي والحسن: أنه إلى حدّ أربعين دارا من كل ناحية، وروي عن الزهري نحوه؛ وقيل: من سمع إقامة الصلاة؛ وقيل: إذا جمعتهما محلة؛ وقيل: من سمع النداء. والأولى أن يرجع في معنى الجار إلى الشرع، فإن وجد فيه ما يقتضي بيانه وأنه يكون جارا إلى حد كذا من الدور، أو من مسافة الأرض، كان العمل عليه متعينا، وإن لم يوجد رجع إلى معناه لغة أو عرفا، ولم يأت في الشرع ما يفيد أن الجار هو الذي بينه وبين جاره مقدار كذا، ولا ورد في لغة العرب أيضا ما يفيد ذلك، بل المراد بالجار في اللغة: المجاور، ويطلق على معان، قال القرطبي في تفسيره: وروي (أن رجلا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إنّي نزلت محلة قوم، وإن أقربهم إليّ جوارا أشدّهم لي أذى، فبعث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أبا بكر، وعمر، وعليا يصيحون على أبواب المساجد: ألا إن أربعين دارا جار، ولا يدخل الجنّة من لا يأمن جاره بوائقه)، ولو ثبت هذا لكان مغنيا عن غيره، ولكنه رواه كما ترى من غير عزو له إلى أحد كتب الحديث المعروفة، وهو وإن كان إماما في علم الرواية، فلا تقوم الحجة بما يرويه بغير سند مذكور ولا نقل عن كتاب مشهور، ولا سيما وهو يذكر الواهيات كثيرا، كما يفعل في تذكرته، وقد ورد في القرآن: ما يدل على أن المساكنة في مدينة مجاورة، قال الله تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ﴾ إلى قوله: ﴿ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ فجعل اجتماعهم‏ في المدينة جوارا، وأما الأعراف في مسمى الجوار فهي تختلف باختلاف أهلها، ولا يصح حمل القرآن على أعراف متعارفة واصطلاحات متواضعة.

6. ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ قيل: هو الرفيق في السفر، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن أبي ليلى: هو الزوجة، وقال ابن جريج: هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء نفعك، ولا يبعد أن تتناول الآية جميع ما في هذه الأقوال مع زيادة عليها، وهو كل من صدق عليه أنه صاحب بالجنب، أي: بجنبك، كمن يقف بجنبك في تحصيل علم أو تعلم صناعة أو مباشرة تجارة أو نحو ذلك.

7. ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ قال مجاهد: هو الذي يجتاز بك مارا، والسبيل: الطريق، فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه، فالأولى تفسيره بمن هو على سفر، فإن على المقيم أن يحسن إليه؛ وقيل: هو المنقطع به؛ وقيل: هو الضعيف.

8. ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي: وأحسنوا إلى ما ملكت أيمانكم إحسانا، وهم العبيد والإماء، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: بأنهم يطعمون مما يطعم مالكهم، ويلبسون مما يلبس، والمختال: ذو الخيلاء، وهو الكبر والتيه، أي: لا يحب من كان متكبرا تائها على الناس مفتخرا عليهم، والفخر: المدح للنفس، والتطاول، وتعديد المناقب، وخص هاتين الصفتين لأنهما يحملان صاحبهما على الأنفة مما ندب الله إليه في هذه الآية.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/536.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاعْبُدُواْ اللهَ﴾ بأنواع العبادات، والعبادة أقصى غاية الخضوع ﴿وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ﴾ غيرَهُ من صنم أو غيره في عبادته، ﴿شَيْئًا﴾ أي: إشراكًا، أو لا تشركوا به شيئًا هو صنم أو غيره، ومن الإشراك الرياء، وترك عبادة خوف النسبة إلى الرياء، وقد قيل: إنَّ ترك العمل خوف النسبة إلى الرياء شرك، وعندي أنَّه لا ثواب لمن صلَّى صلاة أو فَعَلَ عبادةً ليرزق مالاً أو صحَّة أو نحوهما من أمور الدنيا، أو صام إصلاحًا لمعدته، أو تطهَّر لتبرُّدٍ، ولو نوى مع ذلك تقرُّبًا، والعبوديَّة: ترك الاختيار، وملازمة الذلَّة والافتقار، والوفاء بالعهود، وحفظ الحدود، والرضا بالموجود، والصبر على المفقود.

2. ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ وأحسنوا بالوالدين إحسانًا، بالخضوع في الكلام لهما، والإنفاق عليهما، والسعي فيما يليق بهما، ولو لم يطلباه، قال أبو سعيد الخدري: أراد رجل الجهاد فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أبواك أذنا لك؟) قال: لا، قال: (استأذنهما فإن أذِنَا لك فجاهدْ وإلَّا فبَرَّهما)، والباء للمصاحبة أو الغاية.

3. ﴿وَبِذِي الْقُرْبَىٰ﴾ كانت الباء هنا لأنَّ ما هنا تكليف لهذه الأمَّة وتوصية لها، فكان بطريق الاعتناء، ولم تكن الباء في سورة البقرة لأنَّه ما فيها حكاية لبني إسرائيل، ﴿وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ﴾ بجوار أو نسب أو رضاع أو دين، أو بمتعدِّد من ذلك، أو بذلك كلِّه ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ المنتفية عنه القرابة المذكورة، قال الله تعالى: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الَاصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35]، أي: أبعِدني.

4. فقه: قالت عائشة: (يا رسول الله، إنَّ لي جارين فبأيِّهما أبدأ؟) قال: (بأقربهما إليكِ بابًا)، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (الجيران ثلاثةٌ: جارٌ له ثلاثة حقوق: حقُّ الجوار وحقُّ القرابة وحقُّ الإسلام (أي التوحيد ولا تشترط الولاية)، وجار له حقَّان: حقُّ الجوار وحقُّ الإسلام، وجار له حقٌّ واحد: حقُّ الجوار)، وهو المشرك من أهل الكتاب، قال أبو هريرة: قيل: يا رسول الله، فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وفي لسانها شيء يؤذي الجيران، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا خير فيها، هي في النَّار، والذي نفس محمَّد بيده لا يؤدِّي حقَّ الجار إلَّا من رحمه الله، وقليلٌ ما هم، أتدرون ما حقُّ الجار؟ إن افتقر أغنيته، وإن استقرض أقرضته، وإن أصابه خيرٌ هنَّأته، وإن أصابه شرٌّ عزَّيته، وإن مرض عدته، وإن مات شيَّعت جنازته)

5. ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ﴾ أي: حال كونه في الجنب، أو الباء على بابها، كالزوج والسُّرِّيَّة والزوج والسيِّد، والرفيق في مباح، أو في عبادة كتعلُّم وتصرُّف وصناعة وسفر وقعود إلى جنبك في المسجد، أو مجلس علم، ويتفاوت بتفاوت ما وقع من الصحبة حتَّى يكون في حكم حقِّ القرابة، كما قالوا: صحبة عشرين يومًا قرابة، وقيل: الصاحب بالجنب هو المنقطع إليك يرجو نفعك.

6. ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ المسافر في مباح أو عبادة، منقطعًا أو غيره، وقيل: إن ضعف، والضيف، ﴿وَمَا مَلَكَتَ اَيْمَانُكُم﴾ من عبيد وإماء وحيوان، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم للذي أضرَّ بجمله: (ما هذا جزاء العبد الصالح!)، ويروى: (المملوك الصالح لا يكلِّفهم ما لا يطيقون، ولا يؤذيهم بكلام، ويطعم ويكسو)، قال أنس: كانت عامَّة وصيَّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين حضره الموت: (الصلاة وما ملكت أيمانكم، حتَّى جعل يغرغرها في صدره، وما يفيض بها لسانه)، جعل رجل من الأنصار يضرب عبده، ويقول العبد: (أعوذ بالله)! وهو يزيد ضربًا، فحضر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (أعوذ برسول الله)! فتركه، فقال: (إنَّ اللهَ 8 أحقُّ أن يُجار عائذُه)، فقال سيِّده: (إنَّه حرٌّ لوجه الله)، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (والذي نفس محمَّد بيده لو لم تقلها لَلَفَحَ وجهَك سفعُ النَّار)، وهو مخالف لمتن حديث الربيع.

7. ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً﴾ معجبًا بنفسه متكبِّرًا يأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه، ويَظهَر أثرُ ذلك في كلامه ومشيه، ﴿فَخُورًا﴾ على الناس بماله أو علمه، أو بنيه أو كرمه أو شجاعته، أو مناقب آبائه، لَمَّا نزلت بكى ثابت بن قيس بن شمَّاس وقال: (يا رسول الله، إنِّي لأحبُّ الجَمال ولو لشراك نعلي)، فقال: (ليس ذلك كبرًا، الكبر تسفيه الحقِّ، وغمص الخلق، أنت من أهل الجنَّة)

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/182.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ يأمر تعالى بعبادته وحده وبالإخلاص فيها بقوله: ﴿وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ كما قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: 5]، لأنه تعالى هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الأوقات والحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا من الشرك، الجليّ والخفيّ، للنفس وشهواتها، وما يتوصل به إليها من المال والجاه، وهذه العبادة حق الله علينا، كما في الصحيحين‏ عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له: (يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا)

2. ثم أوصى سبحانه بالإحسان إلى الوالدين، إثر تصدير ما يتعلق بحقوق الله عز وجل التي هي آكد الحقوق وأعظمها، تنبيها على جلالة شأن الوالدين بنظمها في سلكها بقول‏ ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ وقد كثرت مواقع هذا النظم في التنزيل العزيز كقوله: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ [لقمان: 14]، ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23]، أي أحسنوا بهما إحسانا يفي بحق تربيتهما، فإن شكرهما يدعو إلى شكر الله المقرب إليه، مع ما فيه من صلة أقرب الأقارب الموجب لوصلة الله، وقطعها لقطعه، ثم عطف، على الإحسان إليهما، الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء، بقوله: ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ أي الأقارب، وقد جاء في الحديث الصحيح عن سلمان بن عامر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صلة وصدقة، رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائيّ والحاكم وابن ماجة.

3. ثم قال تعالى:‏ ﴿وَالْيَتَامَى﴾ وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم فأمر الله بالإحسان إليهم والحنوّ عليهم، تنزلا لرحمته عز وجل‏ ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ وهم المحاويج الذين لا يجدون ما يقوم‏ بكفايتهم، فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم، وتزول به ضرورتهم‏ ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ أي الذي قرب جواره، أو الذي له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين‏ ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ أي الذي جواره بعيد، أو الأجنبيّ، وقال نوف البكاليّ: الجار ذي القربى، يعني الجار المسلم، والجار الجنب يعني اليهوديّ والنصرانيّ.

4. وقد ورد في الوصية بالجار أحاديث كثيرة، منها:

أ. قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، أخرجاه في الصحيحين‏ عن ابن عمر.

ب. ومنها ما رواه الإمام أحمد والترمذيّ عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره)

ج. وروى الإمام أحمد عن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يشبع الرجل دون جاره)، قال ابن كثير: تفرد به أحمد.

د. وعن المقدار بن الأسود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأصحابه: ما تقولون في الزنى؟ قالوا: حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، قال فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأصحابه: لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره، قال فقال: ما تقولون في السرقة؟ قالوا: حرمها الله ورسوله، فهي حرام، قال لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات، أيسر عليه من أن يسرق من جاره.. قال ابن كثير: تفرد به أحمد، وله شاهد في الصحيحين‏ من حديث ابن مسعود، قال سألت (أو سئل) رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أي الذنب عند الله أكبر؟ قال أن‏ تجعل لله ندّا وهو خلقك، قلت: ثم أيّ؟ قال ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أيّ؟ قال أن تزاني بحليلة جارك.

هـ. وروى الإمام أحمد عن أبي العالية عن رجل من الأنصار قال: خرجت من أهلي أريد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإذا أنا به قائم ورجل معه مقبل عليه، فظننت أن لهما حاجة، قال فقال الأنصاريّ: والله! لقد قام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى جعلت أرثي لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من طول القيام، فلما انصرف قلت: يا رسول الله! لقد قام بك الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام، قال ولقد رأيته؟ قلت: نعم، قال أتدري من هو؟ قلت: لا، قال ذاك جبريل، ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، ثم قال أما إنك لو سلمت عليه ردّ عليك السلام)

و. ورواه عبد بن حميد عن جابر عن عبد الله قال جاء رجل من العوالي ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وجبريل عليه السّلام يصليان حيث يصلي على الجنائز، فلما انصرف قال الرجل: يا رسول الله! من هذا الرجل الذي رأيت يصلي معك؟ قال وقد رأيته؟ قال نعم، قال لقد رأيت خيرا كثيرا، هذا جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى رأيت إنه سيورثه، قال ابن كثير: تفرد به من هذا الوجه، وهو شاهد للذي قبله.

ز. وروى البزار عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الجيران ثلاثة: جار له حق واحد وهو أدنى الجيران حقّا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق وهو أفضل الجيران حقّا، فأما الجار الذي له حق واحد فجار مشرك، لا رحم له، له حق، وأما الجار الذي له حقان، فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق، فجار مسلم ذو رحم، له حق الجوار، وحق الإسلام، وحق الرحم)

ح. وروى الإمام أحمد والبخاريّ‏ عن عائشة أنها سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالت: إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال إلى أقربهما منك بابا.

ط. وروى الإمام مسلم‏ عن أبي ذر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك.

ي. وفي رواية قال إذا طبخت مرقا فأكثر ماءها ثم انظر إلى أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف.

ك. وروى الشيخان‏ عن أبي هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: والله! لا يؤمن، والله! لا يؤمن، والله! لا يؤمن، قيل: ومن؟ يا رسول الله! قال الذي لا يأمن جاره بوائقه.. ولمسلم‏: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه، والبوائق: الغوائل والشرور.

ل. ورويا عنه‏ قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يا نساء المؤمنات! لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة)، معناه: ولو أن تهدي لها فرسن شاة، وهو الظلف المحرق، وأراد به الشيء الحقير.

م. ورويا عنه‏ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره‏.

5. ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ قال سعيد بن جبير: هو الرفيق الصالح، وقال زيد بن أسلم: هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر، أي فإنه كالجار، وأوضحه الزمخشري بقوله: هو الذي صحبك بأن حصل بجنبك، إما رفيقا في سفر، وإما جارا ملاصقا، وإما شريكا في تعلم علم أو حرفة، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه، فعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان، وروي عن عليّ‏ وابن مسعود قالا: هي المرأة، أي لأنها تكون معك وتضجع إلى جنبك.

6. ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ أي ابن الطريق، أي المسافر الغريب الذي انقطع عن بلده وأهله، وهو يريد الرجوع إلى بلده ولا يجد ما يتبلغ به، نسب إلى السبيل الذي هو الطريق لمروره عليه وملابسته له، أو الذي‏ يريد البلد غير بلده، لأمر يلزمه، وقال ابن عرفة: هو الضيف المنقطع به، يعطى قدر ما يتبلغ به إلى وطنه، وقال ابن برّي: هو الذي أتى به الطريق، كذا في (تاج العروس)، ولم يذكر السلف من المفسرين وأهل اللغة (السائل) في معنى ابن السبيل، لأنه جاء تابعا لابن السبيل في البقرة، في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ﴾، قال بعضهم في (ابن السبيل):

çومنسوب إلى ما لم يلده‏... كذاك الله نزّل في الكتاب‏é

7. ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ يعني المماليك، فإنهم ضعفاء الحيلة، أسرى في أيدي الناس كالمساكين، لا يملكون شيئا:

أ. وقد ثبت عن عليّ عليه السلام‏ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جعل يوصي أمته في مرض الموت، يقول: الصلاة، الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم، رواه أبو داود وابن ماجة وهذا لفظ أبي داود.

ب. وروى الإمام‏ أحمد عن المقدام بن معد يكرب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، ما أطعمت زوجك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة، ورواه النسائيّ، قال الحافظ ابن كثير، وإسناده صحيح ولله الحمد.

ج. وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له: هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال لا، قال فانطلق فأعطهم، فإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: كفى بالمرء إثما أن يحبس، عمن يملك قوته)، رواه مسلم‏.

د. وعن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق)، رواه مسلم‏ أيضا.

هـ. وعنه أيضا عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال إذا أتى أحدكم بطعامه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله أكلة أو لقمة أو لقمتين، فإنه ولي حرّه وعلاجه، أخرجاه‏، ولفظه للبخاريّ.

و. وعن أبي ذرّ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: هم إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم، أخرجاه.‏

8. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا﴾ أي متكبرا عن الإحسان إلى من أمر ببرّه‏ ﴿فَخُورًا﴾ يعدّد مناقبه كبرا، وإنما خص تعالى هذين الوصفين بالذم، في هذا الموضع، لأن المختال هو المتكبر، وكل من كان متكبرا فإنه قلما يقوم برعاية الحقوق، ثم أضاف إليه ذم الفخور لئلا يقدم على رعاية هذه الحقوق لأجل الرياء والسمعة، بل لمحض أمر الله تعالى، روى أبو داود والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (الكبر من بطر الحق وغمط الناس)، وروى ابن جرير عن أبي رجاء الهرويّ قال: لا تجد سيّئ الملكة (الملكة) إلا وجدته مختالا فخورا، وتلا ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ الآية ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيّا، وتلا ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ [مريم: 32] وقد ورد في ذم الخيلاء والفخر ما هو معروف.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/103.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي: في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في وجه اتصال الآية بما قبلها:

أ. قال البقاعي ما نصه ولما كثرت في هذه السورة الوصايا من أولها إلى هنا نتيجة التقوى (كذا) العدل والفضل والترغيب في نواله، والترهيب من نكاله، إلى أن ختم ذلك بإرشاد الزوجين إلى المعاملة بالحسنى وختم الآية بما هو في الذروة من حسن الختام من صفتي العلم والخبر وكان ذلك في معنى ما ختم به الآية الآمرة بالتقوى من الوصف بالرقيب، اقتضى ذلك تكرير التذكير بالتقوى التي افتتحت السورة بالأمر بها فكان التقدير حتما فاتقوه عطف عليه أو على نحو ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أو على ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ الخلق المقصود من الخلق المبثوثين على تلك الصفة وهو العبادة الخالصة التي هي الإحسان في معاملة الخالق، وأتبعها الإحسان في معاملة الخلائق، فقال: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾ الخ وأقول إنه أبعد في العطف، وأحسن في الترتيب والوصف.

ب. وقال محمد عبده: كل ما تقدم من الأحكام كان خاصا بنظام القرابة والمصاهرة وحال البيوت التي تتكون منها الأمة، ثم إنه تعالى بعد بيان تلك الأحكام الخصوصية، أراد أن ينبهنا إلى بعض الحقوق العمومية، وهي العناية بكل من يستحق العناية وحسن المعاملة من الناس، فبدأ ذلك بالأمر بعبادته تعالى، وعبادته ملاك حفظ الأحكام والعمل بها وهي الخضوع له تعالى وتمكين هيبته وخشيته من النفس، والخشوع لسلطانه في السر والجهر، فمتى كان الإنسان على هذا فإنه يقيم هذه الأحكام وغيرها حتى تصلح جميع أعماله ولذلك كانت النية عندنا تجعل الأعمال العادية عبادات كالزارع يزرع ليقيم أمر بيته ويعول من يمونه ويفيض من فضل كسبه على الفقراء والمساكين ويساعد على الأعمال ذات المنافع العامة فعمله بهذه النية يجعل حرثه من أفضل العبادات فليست العبادة في قوله هنا: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾ خاصة بالتوحيد كما قال المفسر (الجلال) بل هي عامة كما قلنا تشمل التوحيد وجميع ما يمده من الأعمال.

2. ﴿وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ من الأشياء أو شيئا من الإشراك.. اختلف تعبيرهم والمعنى واحد، والإشراك بالله يستلزم الإيمان به والنهي عنه يستلزم النهي عن التعطيل بالأولى، يعني أن الشرك هو الخضوع لسلطة غيبية وراء الأسباب والسنن المعروفة في الخلق بأن يرجى صاحبها ويخشى منه ما تعجز المخلوقات عن مثله، وهذه السلطة لا تكون لغيره تعالى فلا يرجى غيره ولا يخشى سواه في أمر من الأمور التي هي وراء الأسباب المقدورة للمخلوقين عادة لأن هذا خاص به تعالى فمن اعتقد أن غيره يشركه فيه كان مؤمنا مشركا: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف: 106] وأما التعطيل فهو إنكار الألوهية ألبتة أي إنكار تلك السلطة الغيبية التي هي مبدأ كل قوة وتصرف وفوق كل قوة وتصرف، فإذا نهى تعالى أن يشرك به غيره فيما استأثر به من السلطة والقدرة والتصرف ولم يجعله من الهبات التي منحها خلقه وعرفت عن سنته فيهم فلأن ينهى عن إنكار وجوده وجحد ألوهيته يكون أولى.

3. الإشراك قد ذكر في القرآن بعض ضروبه عند مشركي العرب وهو عبادة الأصنام باتخاذهم أولياء وشفعاء عند الله تعالى يقربون المتوسل بهم إليه ويقضون الحاجات عنده كما هو المعهود من معنى الولاية والشفاعة عندهم والآيات في ذلك كثيرة: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس: 18] ﴿والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون، إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار﴾ [الزمر: 3]، وذكر أن أهل الكتاب دخل عليهم الشرك فالنصارى عبدوا المسيح عليه السلام وبعضهم عبد أمه السيدة مريم رضي الله عنها وقال الله في الفريقين: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 32] وقد ورد في تفسيره بالحديث الصحيح المرفوع أنهم كانوا يضعون لهم أحكام الحلال والحرام فيتبعونهم فيها وسبق ذكر ذلك في التفسير غير مرة.

4. ثم عقب الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك بالوصية بالوالدين فقال: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ أي وأحسنوا بالوالدين إحسانا تاما لا تقصروا في شيء منه يقال أحسن به وأحسن له وأحسن إليه، وقيل إذا تعدى الإحسان بالباء يكون متضمنا لمعنى العطف وعندي أن التعدية بالباء أبلغ لإشعارها بإلصاق الإحسان بمن يوجه إليه من غير إشعار بالفرق بينه وبين المحسن، والتعدية بإلى تشعر بطرفين متباعدين يصل الإحسان من أحدهما إلى الآخر.

5. الإحسان في المعاملة يعرفه كل أحد وهو يختلف باختلاف أحوال الناس وطبقاتهم وإن العامي الجاهل ليدري كيف يحسن إلى والديه ويرضيهما ما لا يدري العالم النحرير إذا أراد أن يحدد له ذلك، وقال بعضهم إن جماع الإحسان المأمور به أن يقوم بخدمتهما ولا يرفع صوته عليهما ولا يخشن في الكلام معهما، وأن يسعى في تحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما بقدر سعته، وأنت تعلم أن من فعل ذلك وهو لا يلقاهما إلا عابسا مقطبا، أو أدى النفقة التي يحتاجان إليها وهو يظهر الفاقة والقلة فإنه لا يعد محسنا بهما، فالتعليم الحرفي لا يحدد الإحسان المطلوب من كل أحد بل العمدة فيها اجتهاد المرء وإخلاص قلبه في تحري ذلك بقدر طاقته وحسب فهمه لأكمل الإرشاد الإلهي التفصيلي في ذلك بقوله عز وجل: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾ [الإسراء: 23 25] فأنت ترى الرب العليم الحكيم الرحيم قد قفى هذه الوصية البليغة الدقيقة ببيان أن العبرة بما في نفس الولد من قصد البر والإحسان والإخلاص فيه وأن التقصير مع هذا مرجو الغفران، وقد فصل بعض العلماء القول في ذلك كالغزالي في الإحياء وابن حجر في الزواجر.

6. قال محمد عبده: الخطاب لعموم الأفراد أي ليحسن كل لوالديه وذلك أنهما السبب الظاهر في وجود الولد ونموه بذلا من الجهد والطاقة في تربيته بكل رحمة وإخلاص وقد بينت كتب الأحكام الظاهرة ما للوالدين من حقوق النفقة وبينت كتب الدين جميع الحقوق والمراد بكتب الدين كتب آدابه كالإحياء للغزالي ويجمع هذه الحقوق كلها آيتا سورة الإسراء وذكرهما وتكلم عليهما قليلا وأقول: إن ههنا مسألة مهمة قلما تجد أحدا من علمائنا بينها كما ينبغي وهو أن بعض الوالدين يتعذر إرضاؤهما بما يستطيعه أولادهما من الإحسان بل يكلفون الأولاد ما لا طاقة لهم به وما أعجب حكمة الله في خلق هذا الإنسان، قلما تجد ذا سلطة لا يجور ولا يظلم في سلطته حتى الوالدين على أولادهما، وهما اللذان آتاهما الفاطر من الرحمة الفطرية ما لم يؤت سواهما، قد تظلم الأم ولدها قليلا مغلوبة لبادرة الغضب أو طاعة لما يعرض من أسباب الهوى، كأن تتزوج رجلا تحبه، وهو يكره ولدها من غيره، وكان يقع التغاير بينها وبين امرأة ولدها وتراه شديد الحب لامرأته يشق عليه أن يغضبها لأجل مرضاتها هي، ففي مثل هذه الحال قلما ترضى الأم بالعدل، وتعذر ولدها في خضوعه لسلطان الحب، وإن هو لم يقصر فيما يجب لها من البر والإحسان، بل تأخذها عزة الوالدية، حتى تستل من صدرها حنان الأمومة، ويطغى في نفسها سلطان استعلائها على ولدها، ولا يرضيها إلا أن يهبط من جنة سعادة الزوجية لأجلها، وربما تلتمس له في مثل هذه الحال زوجا آخر ينفر منها طبعه، وما حيلته وقد سلب منه قلبه، كما أنها تظلمه من أول الأمر بمثل هذا الاختيار، وظلم الآباء فيه أشد من ظلم الأمهات، ولا تجب طاعة الوالدين في مثل هذا، ويا ويح الولد الذي يصاب بمثلهما، ولا سيما إذا كانا جاهلين بليدين يتعذر إقناعهما.

7. لعلك إذا دققت النظر في أخبار البشر لا تجد فيها أغرب من تحكم الوالدين في تزويج الأولاد بمن يكرهون، أو إكراههم على تطليق من يحبون، ثبت في الهدي النبوي الشريف أن الثيب من النساء أحق بنفسها فليس لأبيها ولا لغيره من أوليائها أن يعقدوا لها إلا على من تختاره وترضاه لنفسها، لأنها لممارستها الرجال تعرف مصلحتها، وأن البكر على حيائها وغرارتها، وعدم اختبارها وعلم ما يعلم الأب الرحيم من مصلحتها، يجب أن تستأذن في العقد عليها، ويكتفي من إذنها بصماتها، وظاهره أنها إذا لم تظهر الرضى بل صرحت بعدمه لا يجوز العقد عليها، ومن قال من الفقهاء إن الأب ولي مجبر كالشافعية اشترطوا في صحة تزويجه لبنته بدون إذنها أن يكون الزوج كفؤا لها وأن يكون موسرا بالمهر حالا وأن لا يكون بينها وبينه عداوة ظاهرة ولا خفية، وأن لا يكون بينها وبين الولي العاقد عداوة ظاهرة، فهذا قولهم في العذراء المخدرة، وأما الرجل فهو أحق من أبيه بتزويج نفسه إجماعا وليس لأبيه ولاية عليه في ذلك فكيف يتحكم الوالد في ولده بما لا يحكم به الشرع ولا ترضى به الفطرة، أليس هذا من ظلم الاستعلاء الذي يوهم الرجل أن ابنه كعبده، يجب أن لا يكون له معه رأي ولا اختيار في أمره، لا في حاضره ولا في مستقبله الذي يكون عليه بعده، وإن كان الوالد جاهلا بليدا، والولد عالما رشيدا، وعاقلا حكيما؟ والويل كل الويل للولد إذا كان والده الجهول الظلوم غنيا، وكان هو معوزا فقيرا، فإن والده يدل عليه حينئذ بسلطتين، ويحاربه بسلاحين، لا يهولنك أيها السعيد بالأبوين الرحيمين ما أذكر من ظلم بعض الوالدين الجاهلين القساة فإني أعلم من أمر الناس ما لا تعلم، إني لأعرف ما لا تعرف من أخبار الأمهات اللواتي تحكمن في أمر زواج بناتهن أو أبنائهن تحكما كان سبب المرض القتال، والداء العضال، فالموت الزؤام، ثم ندمن ندامة الكسعي ولات ساعة مندم، ولعلك تعلم أن تحكم الآباء في ذلك أشد وأضر، وأدهى وأمر، على أنه كثير.

8. من ضروب ظلم الوالدين الجاهلين للولد العاقل الرشيد منعه من استعمال مواهبه في ترقية نفسه في العلوم والأعمال، ولا سيما إذا توقف ذلك على السفر والترحال، والأمثلة والشواهد على هذا كثيرة جدا في كل زمان ومكان، وأول ما خطر في بالي منها عند الكتابة الآن اثنان: شاب عاشق للعلم كان أبوه يمنعه منه ليشتغل بالتجارة التي ينفر منها لتوجه استعداده إلى العلم، ففر من بلده على قطر آخر ثم إلى قطر آخر، يركب الأهوال، ويصارع أنواء البحار، ويعجم عود الذل والضر، ويذوق طعوم الجوع والفقر، ورجل دعي إلى دار خير من داره، وقرار أشرف من قراره، ورزق أوسع من رزقه، في عمل أفضل من عمله، وأمل في الكمال أعلى من سابق أمله، ورجاء في ثواب الله أعظم من رجائه، فاستشرفت له نفسه، واطمأن به قلبه، ولكن والدته منعته أن يجيب الدعوة، ويقبل النعمة، لا حبا فيه، فإنها لا تستطيع أن تماري في أن ذلك خير له، ولكن حبا في نفسها، وإيثارا للذتها وأنسها، نعم إن العجوز ألفت بيتها ومن تعاشر في بلدها من الأهل والجيران، فآثرت لذة البيئة الدنيا لنفسها، على المنفعة العليا لولدها، ولعله لو اختار الظعن لاختارت الإقامة، وفضلت فراقه على صحبته، وبعده على قربه، ونبزته بلقب العاق، وادعت أنها لم تتعد حدود الرحمة والحنان، ووافقها الجمهور الجاهل على ذلك لبنائه الأحكام على المسلمات، ومنها أن الأولاد هم الذين يؤثرون أهواءهم على بر والديهم، وأن الوالدين لا يختاران لولدهما إلا ما فيه الخير له، وأنهما يتركان كل حظوظهما ورغائبهما لأجله، ولا ينكر أحد أن لهذا أصلا صحيحا ولكنه ليس من القضايا الكلية الدائمة، أما الأم فذلك شأنها مع الطفل إلا ما تأتي به بوادر الغضب من لطمة خفيفة تسبق بها اليد من غير روية واختيار، أو دعوة تعد من فلتات اللسان، ولسان حالها ينشد:

çأدعو عليه وقلبي...يقول يا رب لا لاé

فإذا كبر وصار له رأي غير رأيها، وهوى غير هواها وذلك ما لا بد منه تغير شأنها معه، وهي أشد الناس حبا له، فلا ترجح رأيه وهواه في كل مسائل الخلاف، بل لا تعذره أيضا في كل ما يتبع فيه وجدانه، ويرجح فيه استقلاله، وأما الأب فهو على فضله وعنايته بأمر ولده أضعف من الأم حبا ورحمة وإيثارا، وأشد استنكارا لاستقلال ولده دونه واستكبارا، حتى إنه ليقسو عليه ويؤذيه ويشمت به ويحرمه من ماله ويؤثر الأجانب عليه، وأكثر ما يكون ذلك من الأب الغني مع ولده المحتاج إذا خالف هواه ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: 7،6] وإن طغيانه يكون على حسب ما يرى لنفسه من السلطة والفضل والاستعلاء حتى أنه لينتحل لنفسه صفات الربوبية، ويتسلق بغروره إلى ادعاء الألوهية، وقد كنت أنكر على أبي الطيب قوله:

çوالظلم من شيم النفوس فإن تجد...ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلمُé

وأعده من المبالغة الشعرية حتى كدت بعد إطالة التأمل في أحوال الوالدين مع الأولاد وتدبر ما أحفظ من الوقائع في ذلك أجزم بأن قوله هذا صحيح مطرد، فكم رأينا من غني قد انغمس في الترف والنعيم، أفاض من فضل ماله على المستحقين وغير المستحقين، وله من الولد من يعيش في البؤس والضنك، ولا يناله من والده لماج ولا مجاج من ذلك الرزق، لأنه لم يرض أن يكون منه كعبد الرق.

9. إنما أطلت في هذا لأن الناس غافلون عنه فهم يظنون أن وصايا الدين حجة على أن للوالدين أن يعبثا باستقلال الولد ما شاء هواهما، وأنه ليس للولد أن يخالف رأي والديه ولا هواهما، وإن كان هو عالما وهما جاهلين بمصالحه وبمصالح الأمة والملة، وهذا الجهل الشائع مما يزيد الآباء والأمهات إغراء بالاستبداد في سياستهم للأولاد فيحسبون أن مقام الوالدية يقتضي بذاته أن يكون رأي الولد وعقله وفهمه دون رأي والديه وعقلهما وفهمهما، كما يحسب الملوك والأمراء المستبدون أنهم أعلى من جميع أفراد رعاياه عقلا وفهما ورأيا أو يحسب هؤلاء وأولئك أنه يجب ترجيح رأيهم وإن كان أفينا، على رأي أولادهم ورعاياهم وإن كان حكيما.

10. إذا طال الأمد على هذا الجهل الفاشي في أمتنا فإن الأمم التي تربي أولادها على الاستقلال الشخصي تستعبد من بقي من شعوبنا خارجا عن محيط سلطتها قبل أن ينقضي هذا الجيل.

11. يجب أن نفهم أن الإحسان بالوالدين الذي أمرنا به في دين الفطرة هو أن نكون في غاية الأدب مع الوالدين في القول والعمل بحسب العرف حتى يكونا مغبوطين بنا وأن نكفيهما أمر ما يحتاجان إليه من الأمور المشروعة المعروفة بحسب استطاعتنا، ولا يدخل في ذلك شيء من سلب حريتنا واستقلالنا في شؤوننا الشخصية والمنزلية، ولا في أعمالنا لأنفسنا ولملتنا ولدولتنا، فإذا أراد أحدهما أو كلاهما الاستبداد في تصرفنا فليس من البر ولا من الإحسان شرعا أن نترك ما نرى فيه الخير العام أو الخاص، أو نعمل ما نرى فيه الضرر العام أو الخاص، عملا برأيهما واتباعا لهواهما، من سافر لطلب العلم الذي يرى أنه واجب عليه لتكميل نفسه أو خدمة دينه أو دولته، أو سافر لأجل عمل نافع له أو لأمته ووالداه أو أحدهما غير راض لأنه لا يعرف قيمة ذلك العمل فإنه لا يكون عاقا ولا مسيئا شرعا وعقلا، هذا ما ينبغي أن يعرفه الوالدون الأولاد: البر والإحسان، لا يقتضيان سلب الحرية والاستقلال.

12. أرأيت لو كانت أمهات سلفنا الأماجد كأمهاتنا أكانوا فتحوا الممالك، وفعلوا هاتيك العظائم؟ كلا بل كانت الأسيفة الرقيقة القلب منهن كتماضر الخنساء تدفع بنيها الأربعة إلى القتال في سبيل الله وترغبهم فيه بعبارات تشجع الجبان، بل تحرك الجماد، فقد روى ابن عبد البر عن الزبير بن بكار أنها شهدت حرب القادسية ومعها أربعة بنين لها فقالت لهم من أول الليل: يا بني إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين، من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية، خير من الدار الفانية، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200] فإذا أصبحتم إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، واضطرمت لظى على سباقها، وجللّت نارا على أرواقها، فيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، عند احتدام خميسها، تظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة، فلما كان القتال في الغد كان يهجم كل واحد منهم ويقول شعرا يذكر فيه وصية العجوز ويقاتل حتى يقتل فلما بلغها خبر قتلهم كلهم قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.

13. أفترى هذه الأمة تعتبر اليوم بسيرة سلفها وهي لم تعتبر بما بين يديها، وأمام عينيها، وما يتلى كل يوم عليها، من أحوال الأمم التي كانت دونها في العلم والقوة، والعزة والثروة، فأصبحت منها في موقع النجم، تشرف عليها من سماء العظمة بالأمر والنهي، ومنشأ ذلك كله الاستقلال الشخصي في الإرادة والعقل، فإن الآباء والأمهات متفقون فيها على تربية أولادهم على استقلال العقل والفهم في العلم، واستقلال الإرادة في العمل، فقرة أعينهم أن يعمل أولادهم بإرادة أنفسهم واختيارهم ما يعتقدون أنه هو الخير لهم ولقومهم، وإنما قرة أعين أكثر آبائنا وأمهاتنا أن ندرك بعقولهم لا بعقولنا، ونحب ونبغض بقلوبهم لا بقلوبنا، ونعمل أعمالنا بإرادتهم لا بإرادتنا، ومعنى ذلك أن لا يكون لنا وجود مستقل في خاصة أنفسنا، فهل تخرج هذه التربية الاستبدادية الجائرة، أمة عزيزة عادلة، مستقلة في أعمالها، وفي سياستها وأحكامها؟، أم البيوت هي التي تغرس فيها شجرة الاستبداد الخبيثة للملوك والأمراء الظالمين، فيجنون ثمراتها الدانية ناعمين آمنين؟، فعليكم يا علماء الدين والأدب أن تبينوا لأمتكم في المدارس والمجالس، حقوق الوالدين على الأولاد، وحقوق الأولاد على الوالدين، وحقوق الأمة على الفريقين، ولا تنسوا قاعدتي الحرية والاستقلال، فهما الأساس الذي قام عليه بناء الإسلام، وإن علماء الشعوب الشمالية التي سادت في هذا العصر علينا، يعترفون بأنهم أخذوا هاتين المزيتين (استقلال الفكر والإرادة) عنا، وأقاموا بناء مدنيتهم عليهما، ولله درّ القائل منا: لاعب ولدك سبعا، وأدبه سبعا، وصاحبه سبعا، ثم اجعل حبله على غاربه، وسنعود إلى هذه المسألة إن شاء الله تعالى.

14. قال تعالى: ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ أي وأحسنوا بمعاملة ذي القربى وهم أقرب الناس إلى الإنسان بعد الوالدين الذين يلونهما في الحقوق، وفي سورة البقرة ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى﴾ [البقرة: 82] الخ فأعيد الجار هنا، ولم يعد هناك، قال بعض المفسرين النكتة في ذلك أن الوصية بذي القربى مؤكدة في هذه الأمة زيادة عن تأكيدها في بني إسرائيل لأن إعادة الجار للتأكيد، وعندي أنه يمكن أن تكون إعادة الجار لإفادة التنويع فإن الإحسان بالوالدين غير الإحسان بالأقربين إذ يجب للوالدين من الرعاية والتكريم والخضوع ما لا يجب لغيرهما، ومتى ارتقت الشرائع بارتقاء الأمة حسن فيها مثل هذا التحديد والتدقيق في الحدود والواجبات لاستعداد الأمة له.

15. قال محمد عبده: إذا قام الإنسان بحقوق الله تعالى فصحت عقيدته وصلحت أعماله، وقام بحقوق الوالدين فصلح حالهما وحاله، تتكون بذلك وحدة البيوت الصغيرة المركبة من الوالدين الأولاد، وبصلاح هذا البيت الصغير يحدث له قوة فإذا عاون أهله البيوت الأخرى التي تنسب إلى هذا البيت بالقرابة وعاونته هي أيضا يكون لكل من البيوت المتعاونة قوة كبرى يمكنه أن يحسن بها إلى المحتاجين الذين ليس لهم بيوت تكفيهم مؤنة الحاجة إلى الناس الذين لا يجمعهم بهم النسب وهم الذين عطفهم على ذوي القربى بقوله: ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ فإن الله تعالى يوصي باليتامى في مثل هذا المقام لأن اليتيم يهمل أمره بفقده الناصر القوي الغيور وهو الأب، أو تكون تربيته ناقصة بالجهل الذي هو جناية على العقل، أو فساد الأخلاق الذي هو جناية على النفس، وهو بجهله وفساد أخلاقه يكون شرا على أولاد الناس يعاشرهم فيسري إليهم فساده، وقلما تستطيع الأم أن تربي الولد تربية كاملة مهما اتسعت معارفها، وكذلك المساكين لا تنتظم الهيئة الاجتماعية إلا بالعناية بهم وصلاح حالهم فإن أهمل أمرهم الأغنياء كانوا بلاء وويلا على الناس.

16. قلما ينظر الناس في المسكنة إلى غير العدم وصفر الكف والمهم معرفة سبب ذلك فإن من الناس من يكون سبب عدمه وعوزه ضعفه وعجزه عن الكسب، أو نزول الجوائح السماوية تذهب بماله من غير تقصير منه، وهذا هو المسكين الحقيقي الذي تجب مواساته بالمال الذي يقع موقعا من كفايته، ومنهم العادم الذي ما عدم المال إلا بالإسراف والتبذير والمخيلة والفخفخة الباطلة، ومنهم العادم الذي ما عدم المال إلا لكسله وإهماله للكسب طمعا فيما في أيدي الناس واتكالا عليهم، أو بسلوكه فيه مسلك الغش والخيانة حتى يفضح سره ويظهر أمره فيحبط عمله، فالمساكين على ضربين: مسكين معذور يساعد بالمال ينفقه أو يساعده على تحصيله بكسبه إن كان قادرا على ذلك، ومسكين غير معذور يرشد إلى تقصيره، ولا يساعد على إسرافه وتبذيره، بل يدل على طرق الكسب، فإن اتعظ وقبل النصح، وإلا ترك أمره إلى أولي الأمر، والله بصير بالعباد، اه بتصرف وزيادة واختصار.

17. ثم قال تعالى: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ الجوار ضرب من ضروب القرابة فهي قرب بالنسب، وهو قرب بالمكان والسكن؛ وقد يأنس الإنسان بجاره القريب، ما لا يأنس بنسيبه البعيد، ويحتاجان إلى التعاون والتناصر ما لا يحتاج الأنسباء الذين تناءت ديارهم، فإذا لم يحسن كل واحد منهما بالآخر لم يكن فيهما خير لسائر الناس، وقد اختلف المفسرون في الجار ذي القربى والجار الجنب فقال بعضهم: الأول هو القريب منك بالنسب، والثاني هو الأجنبي لا قرابة بينك وبينه، وقال بعضهم: الأول هو الأقرب منك دارا، والثاني من كان أبعد مزارا، وقيل إن ذا القربى من كان قريبا منك ولو بالدين، والأجنبي من لا يجمعك به دين ولا نسب، وفي حديث ضعيف السند عند أبي نعيم والبزار عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الجيران ثلاثة: فجار له ثلاثة حقوق حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام، وجار له حقان حق الجوار وحق الإسلام، وجار له حق واحد حق الجوار)

18. وثبت الأمر بالإحسان في معاملة الجار غير المسلم في أحاديث أخرى كأحاديث الوصايا المطلقة والوقائع المعينة كعيادته صلّى الله عليه وآله وسلّم لولد جاره اليهودي في الصحيح، وروى البخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن عمر أنه ذبح له شاة فجعل يقول لغلامه: أهديت لجارنا اليهودي أهديت لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) فهذا دليل على أن ابن عمر فهم من الوصايا المطلقة في الجار أنها تشمل المسلم وغير المسلم وناهيك بفهمه وعلمه، ومن تلك الوصايا حديث أبي شريح الخزاعي في الصحيحين مرفوعا) من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره) ورواه غيرهما عن غيره.

19. قال محمد عبده حدد بعضهم الجوار بأربعين دارا من كل جانب من الجوانب الأربعة والحكمة في الوصية بالجار، هي التي تعرفنا سر الوصية ومعنى الجوار، المراد بالجار من تجاوره ويتراءى وجهك ووجهه في غدوك أو رواحك إلى دارك فيجب أن تعامل من ترى وتعاشر بالحسنى فتكون في راحة معهم ويكونون في راحة معك اه، فهو يرى أن أمر الجوار لا يحدد بالبيوت والتحديد بالدور مروي عن الحسن وحدده بعضهم بأربعين ذراعا والصواب عدم التحديد والرجوع في ذلك إلى العرف، والأقرب حقه آكد وإكرام الجار من أخلاق العرب قبل الإسلام وزاده الإسلام تأكيدا بالكتاب والسنة، ومن الإحسان بالجار الإهداء إليه ودعوته على الطعام وتعاهده بالزيارة والعيادة.

20. قال تعالى: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ روي عن ابن عباس فيه قولان: الرفيق في السفر، والمنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك، وروى عبد بن حميد عن عليّ كرم الله وجهه أنه المرأة، أي لأنها هي التي قضت الفطرة ونظام المعيشة أن تكون بجنب بعلها وإذ كان الأصل في خطاب الشرع أن يكون للرجال والنساء جميعا وإن كان بضمير المذكر للتغليب جاز أن نقول أن المراد بالمرأة الزوج ورجلها مثلها فيجب على كل منهما الإحسان بالآخر، ويحتمل أن يكون الإمام عبر بلفظ الزوج المراد به الجنس فظن الراوي أنه يريد المرأة لأنها أحوج إلى إحسان بعلها منه إلى إحسانها فرواه بالمعنى، وقال محمد عبده هو من صاحبته وعرفته ولو وقتا قصيرا، وهذا القول أعم وأشمل من قول بعضهم إنه الرفيق في أمر حسن كتعلم وتصرف صناعة وسفر فإنه بقيد) ولو وقتا قصيرا) يشمل صاحب الحاجة الذي يمشي بجانبك يستشيرك أو يستعينك وما كان أكثر هؤلاء الأصحاب عنده رحمه الله تعالى كان لا يكاد يتراءى للناس في طريق إلا وتراهم يوفضون إليه من كل نصب يمشون بجانبه مستبشرين أو مستعينين.

21. قال تعالى: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ المشهور في تفسيره هنا المسافر والضيف وقلنا في تفسير آية: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ [البقرة: 175] هو المنقطع في السفر لا يتصل بأهل ولا قرابة كان السبيل أبوه وأمه ورحمه وأهله، وقال محمد عبده هنا إنه من تبناه السبيل في غير معصية، أي السائح الرحالة في غرض صحيح غير محرم، والمتبادر أنه من لا يعرف إلا من الطريق أو في الطريق وإنما ضيقوا في تفسيره في آية مصارف الصدقات لأنهم لا يرون كل من عرف في الطريق مستحقا للزكاة وأما الإحسان المطلق فالأمر فيه أوسع وهو مطلوب دائما في كل شيء ومع كل أحد، كل شيء بقدره، وفي الحديث الصحيح (إن الله كتب الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) الخ وهو في كتاب الصيد في صحيح مسلم فيما أذكر، وإنما جاءت الآية فيمن يتأكد الإحسان بهم والضيف والمسافر منهم وإن لم يكونا مستحقين للزكاة، والأمر بالإحسان بابن السبيل يتضمن الترغيب في السياحة والإعانة عليها وقد أهملها المسلمون في هذه العصور إلا قليلا خيره أقل.

22. ذكرت في هامش تفسير هذه الكلمة من آياته ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ في الجزء الثاني أن اللقيط يوشك أن يدخل في معنى ابن السبيل، واختار بعض أذكياء المعاصرين في رسالة له أن هذا هو المعنى المراد، واللفظ يتسع للقيط ولا سيما في باب الإحسان ما لا يتسع لغيره، وهو أولى وأجدر من اليتيم بما ذكرنا من الحكمة والفقه في الأمر بالإحسان به، وإنما غفل جماهير المفسرين عن ذكره لندرة اللقطاء في زمن المتقدمين منهم، ولا حظ للمتأخرين من التأليف إلا النقل عنهم، لأنهم في الغالب قد حرموا على أنفسهم الاستقلال في الفهم لئلا يكون من الاجتهاد الذي تواطؤوا على القول بإقفال بابه، وانقراض أربابه، والرضا باستبدال الجهل به، فإن غير المستقل بفهم الشيء لا يسمى عالما له كما هو بديهي وعليه إجماع علماء السلف، وقد كثر في هذه الأزمنة اللقطاء ولولا عناية الجمعيات الدينية من الأوربيين بجمعهم وتربيتهم وتعليمهم لكان شرهم في البلاد مستطيرا، فلله در هؤلاء الأوربيين ما أشد عنايتهم بدينهم، ونفع الناس به بحسب اجتهادهم واستطاعتهم، ويا لله ما أشد غفلة المسلمين وجهل جماهيرهم بأنفسهم وبغيرهم فإنهم يزعمون أنهم أشد من الإفرنج عناية بدينهم وغيرة عليه وعملا به بل يزعمون أن الإفرنج قد تركوا الدين ألبتة، يستنبطون هذه النتيجة من بعض أحرارهم الغالين الذين يلقونهم فيسمعون منهم كلم الإلحاد، أو من السياسيين منهم الذين يزلزلون ثقتنا بالدين لما يجهل أكثرنا من المقاصد والأغراض، ونحن أحق الناس بتربية اللقطاء، وجميع أنواع البر والإحسان.

23. قال تعالى: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي وأحسنوا بما ملكت أيمانكم، من فتيانكم وفتياتكم، وعبر في آية البر وفي آية الصدقات بقوله: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ [التوبة: 61] أي تحريرها وهذا هو الإحسان الأتم الأكمل وهو من المالك يحصل بعتقهم، ومن غيره بإعانتهم على شراء أنفسهم دفعة واحدة أو نجوما وأقساطا وهو المعبر عنه بالمكاتبة، ودون هذا إحسان المالكين المعاملة إذا استبقوهم لخدمتهم وبينت السنة ذلك قولا وعملا ومنها أن لا يكلفوا ما لا يطيقون، وروى الشيخان وأبو داود والترمذي من حديث أبي ذر مرفوعا (هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه)، وقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يبالغ ويؤكد في الوصية بهم في مرض موته فكان ذلك من آخر وصاياه، ومنه ما رواه أحمد والبيهقي من حديث أنس قال كانت عامة وصية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين حضره الموت (الصلاة وما ملكت أيمانكم) حتى جعل يغرغرها في صدره وما يفيض بها لسانه، فهل بعد هذه العناية من عناية، وهل بعد هذا التأكيد من تأكيد؟ قال محمد عبده: أوصانا الله تعالى بهؤلاء الذين يعدون في عرف الناس أدنى الطبقات لئلا نظن أن استرقاقهم يجيز امتهانهم ويجعلهم كالحيوانات المسخرة، فبين لنا أن لهم حقا في الإحسان كسائر طبقات الناس، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

24. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ قال محمد عبده هذا تعليل أو بمنزلة لكل هذه الوصايا المتقدمة، والمختال هو المتكبر الذي يظهر على بدنه أثر من كبره في الحركات والأعمال، فيرى نفسه أعلى من نفوس الناس، وأنه يجب على غيره أن يتحمل من تيهه ما لا يتحمله هو منه، فالمختال من تمكنت في نفسه ملكة الكبر وظهر أثرها في عمله وشمائله فهو شر من المتكبر غير المختال، والفخور هو المتكبر الذي يظهر أثر الكبر في قوله كما يظهر في فعل المختال فهو يذكر ما يرى أنه ممتاز به على الناس تبجحا بنفسه وتعريضا باحتقار غيره، فالمختال الفخور مبغوض عند الله تعالى لأنه احتقر جميع الحقوق التي وضعها عز وجل وأوجبها للناس وعمي عن نعمته تعالى عليهم وعنايته بهم بل لا يجد هذا المتكبر في نفسه معنى عظمة الله وكبريائه لأنه لو وجدها لتأدب وشعر بضعفه وعجزه وصغاره فهو جاحد أو كالجاحد لصفات الألوهية التي لا تليق إلا بها ولا تكون بحق إلا لها، فمن فتش نفسه وحاسبها علم أنه لا يعينه على القيام بعبادة الله تعالى ويطهره من نزغات الشرك به ومنازعته في صفاته ويسهل عليه القيام بوصاياه هذه وبغيرها إلا سكون النفس ومعرفتها قدرها ببراءتها من خلق الكبر الخبيث الذي تظهر آثار تمكنه ورسوخه بالخيلاء والفخر، إن المختال لا يقوم بعبادة الله تعالى لأن عملا ما لا يسمى عبادة إلا إذا كان صادرا عن الشعور بعظمة المعبود، وسلطانه الأعلى غير المحدود، ومن أوتي هذا الشعور خشع قلبه، ومن خشع قلبه خشعت جوارحه، فلا يكون مختالا، إن المختال لا يقوم بحقوق الوالدين ولا حقوق ذوي القربى لأنه لا يشعر بما عليه من الحق لغيره، وإذا كان لا يقوم بحقوق الوالدين وفضلهما عليه ليس فوقه إلا فضل الله تعالى ولا بحقوق ذوي القربى وهم بمقتضى النسب في طبقته، فهل يرى نفسه مطالبا بحق ما لليتيم الضعيف، أو للمسكين الأسيف، أو للجار القريب أو البعيد، أو للصاحب النبيه أو المغمول، أو لابن السبيل المعروف أو المجهول؟، كلا إن هذا رجل مفتون بنفسه، مسحور في عقله وحسه، فلا يرجى منه البر والإحسان، وإنما يتوقع منه الإساءة والكفران، اه بتصرف وزيادة.

25. ليس من الكبر والخيلاء أن يكون المرء وقورا في غير غلظة، عزيز النفس مع الأدب والرقة، حسن الثياب بلا تطرس ولا ابتغاء شهرة، روى مسلم وأبو داود والترمذي من حديث ابن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه جسنا ونعله حسنة فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمص الناس) وبطر الحق رده استخفافا به وترفعا أو عنادا، وغمص الناس وغمطهم احتقارهم والازدراء بهم، وروى الطبراني وابن مردويه عن ثابت بن قيس بن شماس قال كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقرأ هذه الآية فذكر الكبر وعظمه فبكى ثابت فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما يبكيك) فقال يا رسول الله إني لأحب الجمال حتى أنه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي، قال: (فأنت من أهل الجنة إنه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس) وروى أبو داود من حديث أبي هريرة أن رجلا جميلا أتي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إني أحب الجمال وقد أعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقني أحد بشراك نعل فمن الكبر ذلك؟ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا ولكن الكبر من بطر الحق وغمص الناس)

26. من الخيلاء إطالة الثياب وجر الأذيال بطرا ومنه مشيه المرح فترى الشاب يتمطى ويمرح ويأرن كالمهر أو العجل ويضرب برجليه الأرض ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ [الإسراء: 37] ولكن يجوز ذلك في الحرب ومثله التعليم العسكري، والفخور كثير الفخر يعد مناقبه ويزكي نفسه تعاظما وتطاولا على الناس وتعريضا بنقصهم وتقصيرهم عن بلوغ مداه، والجمع بين هاتين الخلتين الخيلاء وكثرة الفخر هو التناهي في الكبرياء والعتو على الله تعالى باحتقار خلقه والامتناع من الإحسان إليهم بالقول والعمل بدلا من الفخر والزهو عليهم بالقول والعمل ولا سيما أصحاب تلك الحقوق المؤكدة والأحاديث في ذلك كثيرة، وكانوا يتفاخرون في الجاهلية بآبائهم فنهوا عن ذلك في الأحاديث نهيا صريحا فتركوه، والفخر في الشعر إذا أريد به الترغيب في الفضيلة فلا بأس به وإلا كان مذموما.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/82.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان الكلام من أول السورة في وصايا ونصائح، كابتلاء اليتامى قبل تسليمهم أموالهم، والنهى عن إيتاء الأموال للسفهاء، وعن قتل النفس، والإرشاد إلى كيفية معاملة النساء، وطرق تأديبهن تارة بالموعظة الحسنة وأخرى بالقسوة والشدة مع مراقبة الله عزّ وجل في كل ذلك، فناسب بعدئذ التذكير بحسن معاملة الخالق بالإخلاص له في الطاعة، وحسن معاملة الطوائف المختلفة من الناس، وعدم الضن عليهم بالمال في أوقات الشدة، مع قصد التقرب إلى الله لا لقصد الفخر والخيلاء، لأن ذاك عمل من لا يرجو ثواب الله، ولا يخشى عقابه.

2. ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ عبادة الله هي الخضوع له وتمكين هيبته وعظمته من النفس، والخشوع لسلطانه في السر والجهر، وأمارة ذلك العمل بما به أمر، وترك ما عنه نهى، وبذا تصلح جميع الأعمال من أقوال وأفعال، والعبادة هي الخضوع لسلطة غيبية وراء الأسباب المعروفة يرجى خيرها ويخشى شرها، وهذه السلطة لا تكون لغير الله، فلا يرجى غيره ولا يخشى سواه، فمن اعتقد أن غيره يشركه فيها كان مشركا، وإذا نهى الله عن إشراك غيره معه، فلأن ينهى عن إنكار وجوده وجحد ألوهيته أولى، والإشراك ضروب مختلفة:

أ. منها ما ذكره سبحانه عن مشركى العرب من عبادة الأصنام باتخاذهم أولياء وشفعاء عند الله يقربون المتوسل بهم إليه ويقضون الحاجات عنده، وقد جاء ذكر هذا في آيات كثيرة كقوله: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾

ب. ومنها ما ذكره عن النصارى من أنهم عبدوا المسيح عليه السلام، قال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَسُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾

3. بعد أن أمر الله بعبادته وحده لا شريك له أعقبه بالوصية بالوالدين فقال: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ أي أحسنوا بهما ولا تقصّروا في شيء مما يطلبانه، لأنهما السبب الظاهر في وجودكم وتربيتكم بالرحمة والإخلاص، وقد فصّلت هذه الوصية في سورة الإسراء بقوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾ والخلاصة ـ إن العبرة بما في نفس الولد من قصد البر والإحسان والإخلاص فيه، بشرط ألا يحدّ الوالدان من حرية الولد واستقلاله في شؤونه الشخصية أو المنزلية ولا في الأعمال الخاصة بدينه ووطنه، فإذا أراد أحدهما الاستبداد في شيء من ذلك، فليس من البر العمل برأيهما اتباعا لهواهما.

4. ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ أي وأحسنوا معاملة أقرب الناس إليكم بعد الوالدين، وإذا أدى المرء حقوق الله فصحت عقيدته وصلحت أعماله، وقام بحقوق الوالدين، صلح البيت وحسن حال الأسرة، وإذا صلح البيت كان قوة كبيرة، فإذا عاون أهله ذوى القربى الذين ينسبون إليهم كان لكل منهم قوة أخرى تتعاون مع هذه الأسرة، وبذا تتعاون الأمة جمعاء، وتمدّ يد المعونة لمن هو في حاجة إليها ممن ذكروا بعد.

5. ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ لأن اليتيم قد فقد الناصر والمعين وهو الأب، وقلّما تستطيع الأم مهما اتسعت معارفها أن تقوم بتربيته تربية كاملة، فعلى القادرين أن يعاونوا في تربيته، وإلا كان وجوده جناية على الأمة لجهله وفساد أخلاقه وكان خطرا على من يعاشرهم من لداته وجرثومة فساد بينهم، وكذلك المساكين لا ينتظم حال المجتمع إلا بالعناية بهم وصلاح حالهم، وإلا كانوا وبالا عليه، وهم ضربان:

أ. مسكين معذور تجب مواساته، وهو من كان سبب عدمه الضعف والعجز أو نزول آفات سماوية ذهبت بماله، ومثل هذا يجب عونه بمساعدته بالمال الذي يسدّ عوزه ويستعين به على الكسب.

ب. ومسكين غير معذور في تقصيره، وهو من عدم المال بإسرافه وتبذيره، ومثل هذا يبذل له النصح ويدل على طرق الكسب، فإن اتعظ وقبل النصح فبها، وإلا ترك أمره إلى أولى الأمر فهم أولى بتقويم معوجّه، وإصلاح ما فسد من أخلاقه.

6. ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ الجوار ضرب من ضروب القرابة فهو قرب بالمكان والسكن، وقد يأنس الإنسان بجاره القريب أكثر مما يأنس بالنسيب، فيحسن أن يتعاون الجاران، ويكون بينهما الرحمة والإحسان، فإذا لم يحسن أحدهما إلى الآخر فلا خير فيهما لسائر الناس، وقد حث الدين على الإحسان في معاملة الجار ولو غير مسلم فقد عاد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ابن جاره اليهودي، وذبح ابن عمر شاة فجعل يقول لغلامه: أهديت لجارنا اليهودي، أهديت لجارنا اليهودي، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول (ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه) وروى الشيخان أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره)، وحدد الحسن البصري الجوار بأربعين جارا من كل جانب من الجوانب الأربعة، والأولى عدم التحديد بالدور وجعل الجار من تجاوره ويتراءى وجهك ووجهه في غدوك أو رواحك إلى دارك، ووإكرام الجار من شيم العرب قبل الإسلام وزاده الإسلام توكيدا بما جاء في الكتاب والسنة، ومن إكرامه إرسال الهدايا إليه، ودعوته إلى الطعام، وتعاهده بالزيارة والعيادة إلى نحو ذلك.

7. ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ روى عن ابن عباس أنه الرفيق في السفر والمنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك، وقيل من صاحبته وعرفته ولو وقتا قصيرا، فيشمل صاحب الحاجة الذي يمشى بجانبك، يستشيرك أو يستعين بك.

8. ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ هو السائح الرّحالة في غرض صحيح غير محرم، والأمر بالإحسان إليه يتضمن الترغيب في السياحة والإعانة عليها، ويشمل اللقيط أيضا وهو أجدر بالعناية من‏ اليتيم وأحق بالإحسان إليه، وقد عنى الأوروبيون بجمع اللقطاء وتربيتهم وتعليمهم، ولولا ذلك لاستطار شرهم، وعمّ ضرّهم، وقد كنا أحق بهذا الإحسان منهم، لأن الله قد جعل في أموالنا حقا معلوما للسائل والمحروم.

9. ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي وأحسنوا إلى ما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائكم ويشمل هذا تحريرهم وعتقهم وهو أتم الإحسان وأكمله، ومساعدتهم على شراء أنفسهم دفعة واحدة أو نجوما وأقساطا، وحسن معاملتهم في الخدمة بألا يكلفوا ما لا يطيقون ولا يؤذون بقول ولا بفعل، وقد روى الشيخان قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه)، وقد أكد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الوصية بهم في مرض موته، وكان ذلك من آخر وصاياه، فقد روى أحمد والبيهقي من حديث أنس قال كانت عامة وصية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين حضره الموت (الصلاة وما ملكت أيمانكم)، وقد أوصانا سبحانه بهؤلاء حتى لا يظن أن استرقاقهم يجيز امتهانهم ويجعلهم كالحيوانات المسخرة.

10. ثم ذكر ما هو علة للأمر السابق فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ المختال: المتكبر الذي تظهر آثار الكبر في حركاته وأعماله، والفخور: المتكبر الذي تظهر آثار الكبر في أقواله، فتجده يذكر ما يرى أنه ممتاز به عن الناس زهوا بنفسه، واحتقارا لغيره، والمختال الفخور مبغوض عند الله، لأنه احتقر جميع الحقوق التي أوجبها للناس وأوجبها لنفسه من الشعور بعظمته وكبريائه، فهو كالجاحد لصفات الألوهية التي لا تليق إلا لها، فالمختال لا يقوم بعبادة ربه حق القيام، لأن العبادة لا تكون إلا عن خشوع للقلب، ومن خشع قلبه خشعت جوارحه، ولا يقوم بحقوق الوالدين ولا ذوى القربى، لأنه لا يشعر بحق لغيره عليه، وبالأولى لا يشعر بحق لليتيم أو المسكين أو لجار قريب أو بعيد، فهو لا يرجى منه برّ ولا إحسان، وإنما يتوقع منه إساءة وكفران، ومن الكبر والخيلاء إطالة الثوب وجر الذيل بطرا ومرحا، قال تعالى: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾، وليس من الكبر والخيلاء أن يكون المرء وقورا في غير غلظة، عزيز النفس مع الأدب والرقة، روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم (إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمص الناس) بطر الحق: رده استخفافا وترفعا، وغمص الناس احتقارهم والازدراء بهم.

__________

(1) تفسير المراغى: 5/33.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هناك أكثر من مناسبة واحدة، تربط بين مطلع هذا الدرس؛ وبين محور السورة كلها، وموضوعاتها الأساسية من ناحية؛ وبينه وبين موضوعات الدرس السابق في هذا الجزء من ناحية أخرى، فهذا الدرس بدء جولة في تنظيم حياة المجتمع المسلم؛ وتخليصه من رواسب الجاهلية، وتثبيت الملامح الإسلامية الجديدة؛ والتحذير من أهل الكتاب ـ وهم اليهود بالمدينة ـ وما جبلوا عليه من شر ونكر؛ وما ينفثونه في المجتمع المسلم، وما يبذلونه من جهود لتعويق نموه وتكامله ـ وبخاصة من الناحية الأخلاقية، وناحية التكافل والتعاون، اللتين هما موضع القوة النامية في هذا المجتمع الجديد.

2. ولأن الدرس الجديد جولة جديدة، فقد بدأ بالقاعدة الأولية التي يقوم عليها المجتمع المسلم ـ قاعدة التوحيد الخالص ـ التي تنبثق منها حياته؛ وينبثق منها منهج هذه الحياة، في كل جانب، وفي كل اتجاه.

3. وقد سبق هذا الدرس أشواط منوعة في التنظيم العائلي، والتنظيم الاجتماعي، وكان الحديث في الدرس السابق عن الأسرة وتنظيمها ووسائل صيانتها، والروابط التي تشدها وتوثق بناءها.. فجاء هذا الدرس يتناول علاقات إنسانية ـ في المجتمع المسلم ـ أوسع مدى من علاقات الأسرة؛ ومتصلة بها كذلك، متصلة بها بالحديث عن الوالدين، ومتصلة بها في توسعها بعد علاقة الوالدين، لتشمل علاقات أخرى؛ ينبع الشعور بها من المشاعر الودود الطيبة التي تنشأ في جو الأسرة المتحابة؛ حتى تفيض على جوانب الإنسانية الأخرى؛ ويتعلمها الإنسان ـ أول ما يتعلمها ـ في جو الأسرة الحاني ومحضنها الرفيق، ومن هناك يتوسع في علاقاته بأسرة الإنسانية كلها؛ بعد ما بذرت بذورها في حسه أسرته الخاصة القريبة.

4. ولأن في الدرس الجديد توجيهات إلى رعاية الأسرة القريبة ـ العائلة ـ والأسرة الكبيرة ـ الإنسانية ـ وإقامة قيم وموازين في هذا الحقل، للباذلين وللباخلين.. فقد ابتدأ الدرس بالقاعدة الأساسية التي تنبثق منها كل القيم والموازين ـ كما ينبثق منها منهج الحياة كله في المجتمع المسلم ـ وهي قاعدة التوحيد.. وربط كل حركة وكل نشاط، وكل خالجة وكل انفعال بمعنى العبادة لله، التي هي غاية كل نشاط إنساني، في ضمير المسلم وفي حياته.

5. وبسبب من الحديث عن عبادة الله وحده ـ في محيطها الشامل ـ جاءت الفقرة الثانية في الدرس؛ تبين بعض أحكام الصلاة والطهارة؛ وتتخذ خطوة في طريق تحريم الخمر ـ ولم تكن قد حرمت بعد ـ باعتبار هذه الخطوة جزءا من برنامج التربية الإسلامية العامة الدائبة الخطى في المجتمع الوليد، وباعتبار علاقتها بالعبادة والصلاة والتوحيد، حلقات متماسكة بعضها مع بعض، ومع الدرس السابق، ومع محور السورة كذلك.

6. ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ هذه الفقرة تبدأ بالأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن إشراك شيء به.. تبدأ بحرف عطف يربط بين هذا الأمر، وهذا النهي، والأوامر السابقة الخاصة بتنظيم الأسرة في أواخر الدرس الماضي، فيدل هذا الربط بين الموضوعين على الوحدة الكلية الشاملة المتكاملة في هذا الدين، فليس هو مجرد عقيدة تستكن في الضمير؛ ولا مجرد شعائر تقام وعبادات؛ ولا مجرد تنظيم دنيوي منقطع الصلة بالعقيدة وبالشعائر التعبدية.. إنما هو منهج يشمل هذا النشاط كله، ويربط بين جوانبه، ويشدها جميعا إلى الأصل الأصيل، وهو توحيد الله، والتلقي منه وحده ـ في هذا النشاط كله ـ دون سواه، توحيده إلها معبودا، وتوحيده مصدرا للتوجيه والتشريع لكل النشاط الإنساني أيضا، لا ينفك هذا التوحيد عن ذاك ـ في الإسلام ـ وفي دين الله الصحيح على الإطلاق.

7. ويلي الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، الأمر بالإحسان إلى تلك المجموعات من الأسرة الخاصة، والأسرة الإنسانية؛ وتقبيح البخل والخيلاء والفخر وأمر الناس بالبخل، وكتمان فضل الله ـ من أي نوع سواء كان من المال أم من العلم والدين ـ والتحذير من اتباع الشيطان؛ والتلويح بعذاب الآخرة، وما فيه من خزي وافتضاح.. لربط هذا كله بالتوحيد؛ وتحديد المصدر الذي يتلقى منه من يعبد الله ولا يشرك به شيئا، وهو مصدر كذلك واحد لا يتعدد ولا يشاركه أحد في التوجيه والتشريع؛ كما لا يشاركه أحد في الألوهية وعبادة الناس له بلا شريك.

8. إن التشريعات والتوجيهات ـ في منهج الله ـ إنما تنبثق كلها من أصل واحد، وترتكز على ركيزة واحدة، إنها تنبثق من العقيدة في الله، وترتكز على التوحيد المطلق سمة هذه العقيدة.. ومن ثم يتصل بعضها ببعض؛ ويتناسق بعضها مع بعض؛ ويصعب فصل جزئية منها عن جزئية؛ وتصبح دراسة أي منها ناقصة بدون الرجوع إلى أصلها الكبير الذي تلتقي عنده؛ ويصبح العمل ببعضها دون البعض الآخر غير واف بتحقيق صفة الإسلام؛ كما أنه غير واف بتحقيق ثمار المنهج الإسلامي في الحياة.

9. من العقيدة في الله تنبع كل التصورات الأساسية للعلاقات الكونية والحيوية والإنسانية، تلك التصورات التي تقوم عليها المناهج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والعالمية، والتي تؤثر في علاقات الناس بعضهم ببعض، في كل مجالي النشاط الإنساني في الأرض؛ والتي تكليف ضمير الفرد وواقع المجتمع؛ والتي تجعل المعاملات عبادات ـ بما فيها من اتباع لمنهج الله ومراقبة الله ـ والعبادات قاعدة للمعاملات ـ بما فيها من تطهير للضمير والسلوك ـ والتي تحيل الحياة في النهاية وحدة متماسكة؛ تنبثق من المنهج الرباني، وتتلقى منه وحده دون سواه، وتجعل مردها في الدنيا والآخرة إلى الله.

10. هذه السمة الأساسية في العقيدة الإسلامية، وفي المنهج الإسلامي، وفي دين الله الصحيح كله، تبرز هنا في تصدير آية الإحسان إلى الوالدين والأقربين، وغيرهم من طوائف الناس، بعبادة الله وتوحيده ـ كما أسلفنا ـ ثم في الجمع بين قرابة الوالدين، وقرابة هذه الطوائف من الناس، متصلة هذه وتلك بعبادة الله وتوحيده ـ كذلك ـ وذلك بعد أن جعل هذه العبادة وهذا التوحيد واسطة ما بين دستور الأسرة القريبة في نهاية الدرس الماضي، ودستور العلاقات الإنسانية الواسعة في هذا الدرس ـ على النحو الذي بينا من قبل ـ ليصلها جميعا بتلك الآصرة التي تضم الأواصر جميعا؛ وليوحد المصدر الذي يشرع ويوجه في شأن هذه الأواصر جميعا.

11. ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾، الأمر الأول بعبادة الله.. والنهي الثاني لتحريم عبادة أحد ـ معه ـ سواه، نهيا باتا، شاملا، لكل أنواع المعبودات التي عرفتها البشرية: ﴿وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾.. شيئا كائنا ما كان، من مادة أو حيوان أو إنسان‏ أو ملك أو شيطان.. فكلها مما يدخل في مدلول كلمة شيء، عند إطلاق التعبير على هذا المنوال.

12. ثم ينطلق إلى الأمر بالإحسان إلى الوالدين ـ على التخصيص ـ ولذوي القربي ـ على التعميم ـ ومعظم الأوامر تتجه إلى توصية الذرية بالوالدين ـ وإن كانت لم تغفل توجيه الوالدين إلى الذرية؛ فقد كان الله أرحم بالذراري من آبائهم وأمهاتهم في كل حال، والذرية بصفة خاصة أحوج إلى توجيهها للبر بالوالدين، بالجيل المدبر المولي، إذ الأولاد ـ في الغالب ـ يتجهون بكينونتهم كلها، وبعواطفهم ومشاعرهم واهتماماتهم إلى الجيل الذي يخلفهم؛ لا الجيل الذي خلفهم! وبينما هم مدفوعون في تيار الحياة إلى الأمام، غافلون عن التلفت إلى الوراء، تجيئهم هذه التوجيهات من الرحمن الرحيم، الذي لا يترك والدا ولا مولودا، والذي لا ينسى ذرية ولا والدين؛ والذي يعلم عباده الرحمة بعضهم ببعض، ولو كانوا ذرية أو والدين! كذلك يلحظ في هذه الآية ـ وفي كثير غيرها ـ أن التوجيه إلى البر يبدأ بذوي القربي ـ قرابة خاصة أو عامة ـ ثم يمتد منها ويتسع نطاقه من محورها، إلى بقية المحتاجين إلى الرعاية من الأسرة الإنسانية الكبيرة.

13. وهذا المنهج يتفق:

أ. أولا ـ مع الفطرة ويسايرها، فعاطفة الرحمة، ووجدان المشاركة، يبدءان أولا في البيت، في الأسرة الصغيرة، وقلما ينبثقان في نفس لم تذق طعم هذه العاطفة ولم تجد مسّ هذا الوجدان في المحضن الأول، والنفس كذلك أميل إلى البدء بالأقربين ـ فطرة وطبعا ـ ولا بأس من ذلك ولا ضير؛ ما دامت توجه دائما إلى التوسع في الدائرة من هذه النقطة ومن هذا المحور.

ب. ثم يتفق المنهج ـ ثانيا ـ مع طريقة التنظيم الاجتماعي الإسلامية: من جعل الكافل يبدأ في محيط الأسرة؛ ثم ينساح في محيط الجماعة، كيلا يركز عمليات التكافل في يد الأجهزة الحكومية الضخمة ـ إلا عند ما تعجز الأجهزة الصغيرة المباشرة ـ فالوحدات المحلية الصغيرة أقدر على تحقيق هذا التكافل: في وقته المناسب وفي سهولة ويسر، وفي تراحم وود يجعل جو الحياة لائقا ببني الإنسان!

14. وهنا يبدأ بالإحسان إلى الوالدين، ويتوسع منهما إلى ذوي القربي، ومنهم إلى اليتامى والمساكين ـ ولو أنهم قد يكونون أبعد مكانا من الجار، ذلك أنهم أشد حاجة وأولى بالرعاية ـ ثم الجار ذو القرابة، فالجار الأجنبي ـ مقدمين على الصاحب المرافق ـ لأن الجار قربه دائم، أما الصاحب فلقاؤه على فترات ـ ثم الصاحب المرافق ـ وقد ورد في تفسيره أنه الجليس في الحضر، الرفيق في السفر ـ ثم ابن السبيل، العابر المنقطع عن أهله وماله، ثم الرقيق الذين جعلتهم الملابسات (ملك اليمين) ولكنهم يتصلون بآصرة الإنسانية الكبرى بين بني آدم أجمعين.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/658.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الآيات السابقة كانت حديثا إلى الناس، فيما يتصل بذات أنفسهم، من شؤون المال، والزواج، وما يقع بين الناس من ظلم وعدوان، حين تتعارض مصالحهم، وتختلف آراؤهم، وأرزاقهم.. فيكون فيهم الغنىّ والفقير، ومن يملك الكثير مما يتجاوز حدود حاجته، ومن يملك القليل الذي لا يشبع جوعته.

2. وإذ لفت الله النّاس في تلك الآيات إلى الطريق القويم، الذي ينبغي أن يلتزموه، ويقيموا خطوهم عليه، حتى لا يقع بينهم صدام، ينتهى إلى تقطيع الأرحام، وسفك الدماء ـ فكان من تدبير الحكيم العليم، أن يدعوهم إليه، وأن يستحثهم إلى عبادته وطاعته، حتى تمتلئ قلوبهم إيمانا به، وخشية له، وتوقيرا لأوامره ونواهيه، وبهذا يكون لما وصّاهم به سبحانه من البر بأنفسهم، والعدل فيما بينهم، والتراحم بين أغنيائهم وفقرائهم، وأقويائهم وضعفائهم ـ يكون لهذا مكانه من قلوبهم، وأثره في تصرفاتهم، وفي سلامة نوازعهم، واستقامة سلوكهم.

3. ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾، فإذا أخذ العبد نفسه بطاعة الله؛ ووجه إليه وجهه خالصا، قانتا، خاشعا، غير ملتفت إلى سواه، ولا ناظر إلى غيرهـ وجد لخشية الله سطوة تملك عليه أهواءه، ولجلاله خشية يستحى معها أن يصرف وجهه عن الله، ويسلم يده لنزواته ونزعاته.. وبهذا يجد لوصايا الله مكانا متمكنا من نفسه، يعصمه من أن ينحرف، أو يزلّ.

4. والدعوة إلى عبادة الله دعوة عامة، تتوجه إلى عباده جميعا.. فهم جميعا مدعوّون إلى رحابه، لينالوا رضاه، وينعموا برحمته.. وليس لأحد أن يحجز أحدا عن الله، أو يصدّه عن سبيله، بحجّة أن دعوة الله قاصرة عليه، أو على قومه، وبنى جنسه.. فذلك عدوان على الله، وكفر به، فوق أنه عدوان على الناس ومصادرة لحق مشروع لهم، فالطريق إلى الله مفتوح لكل إنسان، يفتح قلبه لله، ويوجه وجهه إليه، وأنه إذا كان لأحد أن يحول بين إنسان وبين غاياته التي يتغيّاها في الحياة، أو أن يسلبه شيئا ملكه واستحوذ عليه، فليس في مستطاع أحد أن يحول بين‏ الإنسان وربّه، أو أن يمدّ يده إلى الإيمان الذي سكن قلبه فينتزعه منه، فذلك لا سلطان لأحد عليه، وإنما أمر ذلك كله إلى الإنسان نفسه، وإلى ما في قلبه من إيمان.. إن شاء أمسك هذا الإيمان، وإن شاء أرسله! فإذا آمن الإنسان بالله، وتعبّد لله.. كان عبدا ربّانيا، يجيب دعوته، ويمتثل أمره.

5. في قوله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ أمر من أمر الله، ووصاة من وصاياه، بل هو الأمر الأول، والوصاة الأولى، بعد الأمر بالإيمان به، والوصاة بعبادته وطاعته.. فالإحسان إلى الوالدين حقّ من حقوقهما على المولودين، إذ كان لهما أثر في وجود الأبناء، وفي البلوغ بهم مبلغ الحياة.

6. قوله سبحانه: ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، يبين به الله سبحانه أصحاب الحقوق الواجبة على الإنسان نحوهم، إمّا لصلة قرابة تجمعهم إليه، وتجعلهم بعضا منه، أو تجعله بعضا منهم.. وإما لصلة إنسانية عامة، تلك الصلة التي تقوم على أساس أن الفرد عضو في الجسد الاجتماعى كلّه، وأن كل عضو سليم في هذا الجسد من واجبه أن يحمل بعض أعباء الأعضاء المريضة فيه، شأن الجسد حين تضعف فيه حاسة، أو تعجز عن العمل، فتتولى أقرب الحواس إليها، وأشكلها بها، أداء وظيفتها بوجه أو بآخر حتى يستقيم للجسد أمره:

أ. فذوو القربى.. هم من الإنسان وهو منهم.. ولهم على الإنسان أكثر من حق.. حق القرابة، وحق الإنسانية.

ب. واليتامى والمساكين.. أعضاء ضعيفة في الجسد الاجتماعى.. ولهم على الإنسان حق، هو حقّ بعض الجسد على بعض.

ج. والجار ذو القربى، له حق القرابة، وحق الجوار، وحق الإنسان على الإنسان.

د. والجار الجنب له حقان: حق الجوار، وحق الإنسانية.

هـ. والصاحب بالجنب، هو الصديق المرافق، الذي يجده الإنسان إلى جنبه في شدته ورخائه.. وهذا له حق الصداقة مع حق الإنسانية.

و. وابن السبيل.. هو المسافر الذي يقطع الطريق بغير مركب أو زاد، وسمّى ابن السبيل، وأضيف إليه، لأنه لا أهل له، ولا رفيق، غير الطريق الذي ركبه في سفره.. فهو غريب، ضعيف.. له حق الضعيف على القوى، وحق الإنسان على الإنسان!.

ز. وما ملكت أيمانكم.. وهم الأرقاء، الذين ملك غيرهم وجودهم كله، فهم أضعف الضعفاء.. وحقهم على أصحابهم أولا، ثم حقهم على المجتمع كله ثانيا.

7. فهؤلاء جميعا هم أصحاب حقوق على الإنسانية كلها.. يتقاضونها أولا ممن هم أقرب إليهم، وأولى بهم، من أهل، وأقارب، وجيران، وأصحاب، وسادة، فكل إنسان في المجتمع الإنساني مدعوّ ـ في شريعة الإسلام ـ إلى أداء حقوق لمجتمعه، يبدأ فيها بأبويه، ثم بذوي قرابته، ثم باليتامى والمساكين، ثم بالجيران من ذوى قرابته، ثم بالجيران ممن لا قرابة لهم، ثم الأصدقاء، ثم أبناء السبيل، ثم الأرقاء.. فإن فضل عنده فضل من عطاء، فليضعه حيث يشاء، فيما ينفع الناس ويعينهم.

8. وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ تعقيب على‏ هذه الدعوة إلى البر والإحسان، والتواصل بين الناس، وفي هذا التعقيب إشارة إلى أنه لا يتقبل هذه الدعوة الكريمة، ولا يفى بها إلّا من استشعر قلبه الأخوة، فوصل نفسه بالناس، واختلط بهم، وتحسس مواقع الآلام، ومواطن العلل فيهم.. وذلك لا يكون إلا من إنسان آمن بأنه ابن هذه الإنسانية، وأن الناس جميعا شركاء له في هذا النسب، أما من عزل نفسه عن الناس، وغرّه بذاته الغرور، وملكه العجب، واستبدّ به الكبر، بما آتاه الله، من مال، أو صحة، أو علم، فرأى أنه من عالم غير عالم الناس، ومن طينة غير طينتهم ـ فإنه لا يأخذ منهم ولا يعطى، ولا يمدّ إلى أحد يدا، ولا يقبل أن يمد إليه أحد يدا.. إن المسافة بينهم وبينه بعيدة.. إنهم أرض وهو سماء.. وأين الأرض وأين السماء؟

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/786.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ﴾ عطف تشريع يختصّ بالمعاملة مع ذوي القربى والضعفاء، وقدّم له الأمر بعبادة الله تعالى وعدم الإشراك على وجه الإدماج، للاهتمام بهذا الأمر وأنّه أحقّ ما يتوخّاه المسلم، تجديدا لمعنى التوحيد في نفوس المسلمين كما قدّم لذلك في طالع السورة بقوله: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [النساء: 1]، والمناسبة هي ما أريد جمعه في هذه السورة من أحكام أواصر القرابة في النسب والدين والمخالطة.

2. الخطاب للمؤمنين، قدّم الأمر بالعبادة على النهي عن الإشراك، لأنّهم قد تقرّر نفي الشرك بينهم وأريد منهم دوام العبادة لله، والاستزادة منها، ونهوا عن الشرك تحذيرا ممّا كانوا عليه في الجاهلية، ومجموع الجملتين في قوة صيغة حصر؛ إذ مفاده: اعبدوا الله ولا تعبدوا غيره فاشتمل على معنى إثبات ونفي، كأنّه قيل: لا تعبدوا إلّا الله، والعدول عن طريق القصر في مثل هذا طريقة عربية جاء عليها قول السموأل، أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي:

çتسيل على حدّ الظّبات نفوسنا... وليست على غير الظّبات تسيل‏é

وإنّما يصار إليها عند ما يكون الغرض الأول هو طرف الإثبات، ثم يقصد بعد ذلك نفي الحكم عمّا عدا المثبت له، لأنّه إذا جي‏ء بالقصر كان المقصد الأوّل هو نفي الحكم عمّا عدا المذكور وذلك غير مقتضى المقام هنا، ولأجل ذلك لمّا خوطب بنو إسرائيل بنظير هذه الآية خوطبوا بطريقة القصر في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: 83] الآية، لأنّ المقصود الأوّل إيقاظهم إلى إبطال عبادة غير الله، لأنّهم قالوا لموسى: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ ولأنّهم عبدوا العجل في مدّة مناجاة موسى ربّه، فأخذ عليهم الميثاق بالنهي عن عبادة غير الله، وكذلك البيت فإنّ الغرض الأهمّ هو التمدّح بأنّهم يقتلون في الحرب، فتزهق نفوسهم بالسيوف، ثم بدا له فأعقبه بأنّ ذلك شنشنة فيهم لا تتخلّف ولا مبالغة فيها.

3. ﴿شَيْئًا﴾ منصوب على المفعولية لـ (تشركوا) أي لا تجعلوا شريكا شيئا ممّا يعبد كقوله: ﴿وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ [الجن: 2] ويجوز انتصابه على المصدرية للتأكيد، أي شيئا من الإشراك ولو ضعيفا كقوله: ﴿فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا﴾ [المائدة: 42]

4. ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ اهتمام بشأن الوالدين إذ جعل الأمر بالإحسان إليهما عقب الأمر بالعبادة، كقوله: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ [لقمان: 14]، وقوله: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾ [لقمان: 13، 14]، ولذا قدّم معمول (إحسانا) عليه تقديما للاهتمام إذ لا معنى للحصر هنا لأنّ الإحسان مكتوب على كلّ شيء، ووقع المصدر موقع الفعل، وإنّما عدّي الإحسان بالباء لتضمينه معنى البرّ، وشاعت تعديته بالباء في القرآن في مثل هذا، وعندي أنّ الإحسان إنّما يعدّى بالباء إذا أريد به الإحسان المتعلّق بمعاملة الذات وتوقيرها وإكرامها، وهو معنى البرّ ولذلك جاء ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾؛ وإذا أريد به إيصال النفع المالي عديّ بإلى، تقول: أحسن إلى فلان، إذا وصله بمال ونحوه.

5. وذو القربى صاحب القرابة، والقربى فعلى، اسم للقرب مصدر قرب كالرجعي، والمراد بها قرابة النسب، كما هو الغالب في هذا المركّب الإضافي: وهو قولهم: ذو القربى، وإنّما أمر بالإحسان إليه استبقاء لأواصر الودّ بين الأقارب، إذ كان العرب في الجاهلية قد حرّفوا حقوق القرابة فجعلوها سبب تنافس وتحاسد وتقاتل، وأقوالهم في ذلك كثيرة في شعرهم؛ قال ارطأة بن سهية:

çونحو بنو عمّ على ذاك بيننا... زرابيّ فيها بغضة وتنافس‏é

وحسبك ما كان بين بكر وتغلب في حرب البسوس، وهما أقارب وأصهار، وقد كان المسلمون يومها عربا قريبي عهد بالجاهلية؛ فلذلك حثّهم على الإحسان إلى القرابة، وكانوا يحسنون بالجار، فإذا كان من قرابتهم لم يكترثوا بالإحسان إليه.

6. وأكّد ذلك بإعادة حرف الجرّ بعد العاطف، ومن أجل ذلك لم تؤكّد بالباء في حكاية وصية بني إسرائيل‏ ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ إلى قوله: ﴿وَذِي الْقُرْبَى﴾ [البقرة: 83] لأنّ الإسلام أكّد أوامر القرابة أكثر من غيره، وفي الأمر بالإحسان إلى الأقارب تنبيه على أنّ من سفالة الأخلاق أن يستخفّ أحد بالقريب لأنّه قريبه، وآمن من غوائله، ويصرف برّه وودّه إلى الأباعد ليستكفي شرّهم، أو ليذكر في القبائل بالذكر الحسن، فإنّ النفس التي يطوّعها الشرّ، وتدينها الشدّة، لنفس لئيمة، وكما ورد (شرّ الناس من اتّقاه الناس لشرّه)، فكذلك نقول: (شرّ الناس من عظّم أحدا لشرّه)

﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ هذان صنفان ضعيفان عديما النصير، فلذلك أوصي‏ بهما.

7. والجار هو النزيل بقرب منزلك، ويطلق على النزيل بين القبيلة في جوارها، فالمراد ب ﴿الْجارِ ذِي الْقُرْبى‏﴾ الجار النسيب من القبيلة، وبـ ﴿الْجارِ الْجُنُبِ‏﴾ الجار الغريب الذي نزل بين القوم وليس من القبيلة، فهو جنب، أي بعيد، مشتقّ من الجانب، وهو وصف على وزن فعل، كقولهم: ناقة أجد، وقيل: هو مصدر، ولذلك لم يطابق موصوفه، قال بلعاء بن قيس:

çلا يجتوينا مجاور أبدا... ذو رحم أو مجاور جنب‏é

ويشهد لهذا المعنى قول علقمة بن عبدة في شعره الذي استشفع به عند الملك الحارث ابن جبلة الغسّاني، ليطلق له أخاه شاسا، حين وقع في أسر الحارث:

çفلا تحرمنّي نائلا عن جنابة... فإنّي امرؤ وسط القباب غريب‏é

8. فسّر بعضهم الجار ذا القربى بقريب الدار، والجنب بعيدها، وهذا بعيد، لأنّ القربى لا تعرف في القرب المكاني، والعرب معروفون بحفظ الجوار والإحسان إلى الجار، وأقوالهم في ذلك كثيرة، فأكّد ذلك في الإسلام لأنّه من محامد العرب التي جاء الإسلام لتكميلها من مكارم الأخلاق، ومن ذلك الإحسان إلى الجار، وأكّدت السنّة الوصاية بالجار في أحاديث كثيرة (2).

9. اختلف في حدّ الجوار: فقال ابن شهاب، والأوزاعي: أربعون دارا من كلّ ناحية، وروي في ذلك حديث: وليس عن مالك في ذلك حدّ، والظاهر أنّه موكول إلى ما تعارفه الناس.

10. ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ هو المصاحب الملازم للمكان، فمنه الضيف، ومنه الرفيق في السفر، وكلّ من هو ملمّ بك لطلب أن تنفعه، وقيل: أراد الزوجة.

11. ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ هو الغريب المجتاز بقوم غير ناو الإقامة، لأنّ من أقام فهو الجار الجنب، وكلمة (ابن) فيه مستعملة في معنى الانتساب والاختصاص، كقولهم: أبو الليل، وقولهم في المثل: أبوها وكيّالها، والسبيل: الطريق السابلة، فابن السبيل هو الذي لازم الطريق سائرا، أي مسافرا، فإذا دخل القبيلة فهو ليس من أبنائها، فعرّفوه بأنه ابن الطريق، رمى به الطريق إليهم، فكأنّه ولده، والوصاية به لأنّه ضعيف الحيلة، قليل النصير، إذ لا يهتدي إلى أحوال قوم غير قومه، وبلد غير بلده.

12. وكذلك‏ ﴿مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ لأنّ العبيد في ضعف الرقّ والحاجة وانقطاع سبل الخلاص من سادتهم، فلذلك كانوا أحقّاء بالوصاية.

13. جملة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ تذييل لجملة الأمر بالإحسان إلى من سمّاهم بذمّ موانع الإحسان إليهم الغالبة على البشر، والاختيال: التكبّر، افتعال مشتقّ من الخيلاء، يقال: خال الرجل خولا وخالا، والفخور: الشديد الفخر بما فعل، وكلا الوصفين منشأ للغلظة والجفاء، فهما ينافيان الإحسان المأمور به، لأنّ المراد الإحسان في المعاملة وترك الترفّع على من يظنّ به سبب يمنعه من الانتقام.

14. معنى نفي محبّة الله تعالى نفي رضاه وتقريبه عمّن هذا وصفه، وهذا تعريض بأخلاق أهل الشرك، لما عرفوا به من الغلطة والجفاء، فهو في معنى التحذير من بقايا الأخلاق التي كانوا عليها.

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/123.

(2) ذكر هنا بعض الأحاديث التي سبق ذكرها.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات السابقة من أول السورة وردت أحكام الأسرة، وواجبات الأقوياء فيها بالنسبة لضعفائها، والدعائم التي تقوم عليها، والحقوق المتبادلة بين آحادها، وأشير إلى الآفات التي قد تعروها، ثم بينت عناصر تكوينها سليمة، وأشير إلى المعاملات المالية بينها من غير تفضيل، ثم بيّن علاج ما يكون بين الزوجين من أسباب النزاع التي قد تهدد المودة الواصلة بينهما بالقطع، وفي هذه الآيات ذكر سبحانه الأسس التي تقوم عليها المعاملات العامة والخاصة، وذكر وجوب الإحسان إلى كل من يتصل بالشخص بقرابة أو جوار، ثم بين حال الذين يقطعون العلاقات بين الناس، وبين سبحانه وتعالى أن أساس التعامل الفاضل هو عبادة الله تعالى وحده، من غير إشراك، وأن أساس التعامل الفاسد هو أن يريد الشخص بعبادته غرضا من أغراض الدنيا من غير اتجاه إليه سبحانه، ومراعاة حق الناس عليه.

2. ولذا قال سبحانه: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ هذا أول الخط الذي يسير فيه الفاضل في علاقته بالله وبالناس، وهو أول الخط المستقيم، والعبادة معناها خلوص النفس لله تعالى، والاتجاه إليه وحده، والإخلاص في كل ما يعمل‏ لله تعالى، وهى بهذا المعنى تشمل العبادات من صلاة وحج وصوم، وصدقات، والصلاة لب العبادة، وهى ذات صور مختلفة في الديانات، ولكنها في صميمها لا تكون صلاة إلا إذا تحققت فيها الضراعة التامة، والاتجاه إلى الله وحده، وعدم الانشغال عنه سبحانه بأي عرض من أعراض الدنيا، وهذه هي العبادات المفروضة، وبعدها يكون الاتجاه إلى الله تعالى في كل مقصد وعمل، ولا يحس بالالتجاء إلا له، فالدعاء له وحده، لا يشرك معه أحدا في دعائه، ولذلك ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (الدعاء مخ العبادة)

3. هذه هي العبادة، أو إشارات إلى أنواعها ومراتبها، وإن الأخذ بها يجعل كل الأعمال في دائرة الفضيلة، وينير البصيرة، وإن نقيض العبادة الخالصة لله تعالى الشرك، وهو منهى عنه، وكما أن العبادة مراتب فالشرك مراتب أيضا، أعلاها الشرك الأعظم، وهو اعتقاد شريك لله تعالى في ألوهيته واستحقاقه للعبودية، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء] ويليه أن يعتقد أن أحدا ينفع ويضر من دون الله، والالتجاء إلى غير الله والخضوع لغير الله وبغير ما أمر الله تعالى، والمرتبة الثالثة الإشراك في القربات، بأن يصلى مرائيا، أو يزكى مباهيا، أو يصوم متعاليا، ولا يقصد وجه الله بصومه، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من صلى يرائى فقد أشرك، ومن صام يرائى فقد أشرك، ومن تصدق يرائى فقد أشرك)، ويسمى هذا النوع الشرك الخفى، وقد روى الترمذي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن أخوف ما أتخوف‏ أمتى: الإشراك بالله، أما إني لست أقول يعبدون شمسا ولا قمرا ولا وثنا، ولكن أعمالا لغير الله وشهوة خفية)

4. النهى عن الشرك يشمل الإشراك بالله في أي شيء أو أي حال، ولذا قال تعالى‏ ﴿وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ أي شيء وعلى أي نحو كان، سواء أكان شركا ظاهرا أم كان شركا خفيا، وإن الإشراك في كل صوره يضعف الضمير، والإيمان بالله يقوى الضمير.

5. إن أول مظاهر قوة الضمير التي توجدها عبادة الله وحده، البر بالناس، ولذا عقب طلب البر والإحسان بالنهى عن الإشراك فقال تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ وقد قرن الله سبحانه وتعالى النهى عن الإشراك بالإحسان إلى الوالدين، ومن وليهما، وقد جاء في آيات أخرى ذكر الإحسان بالوالدين فقط بعد النهى عن الإشراك، كما قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء] لأن أحق من يستحق الإرضاء بعد الله الوالدان، ولا يستحق غيرهما بعد الله الشكر، ولذا قال تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ [لقمان‏] وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (رضاء الرب من رضا الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين)، والإحسان إلى الوالدين بالصحبة الكريمة، وسد حاجتهما، والقول الحسن، وعدم التململ من حياتهما إن بلغا الكبر، وتعبا تعب الشيخوخة، وصارت حياتهما عبئا على أولادهما، ولذا قال سبحانه وتعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء]

6. والإحسان إلى ذي القربى من هذا الصنف، فعلى القريب أن يحسن بقريبه، بسد حاجته، ويكرم صحبته، ويصله ولو قاطعه، ولذا قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ليس‏ الواصل بالمكافئ إنما الواصل من يصل رحمه عند القطيعة)، ويكون في عونه دائما في دفع الملمات، والمواساة في الشدائد.

7. والإحسان باليتيم، يكون بإيوائه، والعطف الذي يقوم مقام عطف أبيه، وسد حاجاته، والاختلاط به بالرحمة، فيجعله مع أولاده مختلطا بهم، مؤتنسا معهم، ويسوّى بينهم وبينه، لكى ينشأ أليفا مألوفا مع المجتمع الذي يعيش فيه، وقد ورد في الأثر: (إن خير بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم، وشر بيت من بيوت المسلمين بيت يقهر فيه يتيم)، وإن قهر اليتيم وإذلاله ينشئه نافرا شاذا، فيكون عدوا للجماعة لا يألفها، ويكون منه الإجرام، والإيذاء، وقد قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ [الضحى‏]

8. المساكين هم الفقراء والذين لا طاقة لهم على عمل، لمرض مزمن أو شيخوخة فانية، أو آفة في جسمهم تجعلهم غير قادرين، أو تعطّل لا يجدون معه عملا يعملون، والإحسان بهم سد حاجاتهم، وكفالة الراحة لهم.

9. وبعد أن بين سبحانه الإحسان اللازم المطلوب الذي لا مناص عنه، وهو دفع الآفات الاجتماعية، اتجه إلى الإحسان إلى المجتمع القريب، والإحسان في المعاملة بشكل عام، فقال: ﴿وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى‏ والْجارِ الْجُنُبِ والصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وابْنِ السَّبِيلِ وما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ‏ والْجارِ ذِي الْقُرْبى‏﴾ هو الجار الذي يتصل بالإنسان بصلة الرحم والقرابة، وهذا له مع حق الجوار حق الرحم، فقد ثبت له الإحسان من ناحيتين:

أ. إحداهما: من ناحية القرابة، فهو داخل في ذي القربى.

ب. الثانية: الجوار.

10. سؤال وإشكال: لماذا أمر بالإحسان به في الجوار مع أنه مذكور في القرابة؟ والجواب: عن ذلك أن الجوار قد يوجد احتكاكا، تكون معه الشحناء، فللحرص على بقاء المودة الواصلة، نبّه ـ سبحانه ـ إلى أن الجوار يوثق الإحسان ولا يباعده، فهو يجعله أوجب وألزم.

11. ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ هو الجار الذي يكون مسكنه أو متجره، أو مزرعته بجنبك، والإحسان إليه بألا يكون منه أذى له بأي نوع من أنواع الأذى، فلا يزعجه في أمنه، ولا يمنع الماء عنه، ولا يرسل إليه الماء غير الصالح، ويلقى عليه مزابل بيته، ثم من الإحسان به مواساته في شدائده، ومعاونته في حاجاته، وأن يحفظ سره، ولا يكشف عورته، ولا يعلن منه ما يخفى على الناس، ومن الإحسان إليه أن يهدى إليه ما يعجز عن شرائه لأولاده من حلوى وفاكهة ونحو ذلك، وإن الإحسان إلى الجار هو الأمر الذي يدعو إليه التآلف الإسلامى في المجتمعات الصغيرة، وقد أكثر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من الحث على الإحسان بالجار.

12. ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ هو الصاحب الذي يكون بجنبك في عمل أو سفر، أو طريق، أو مركب، وقد قال جار الله الزمخشري في ذلك: (الصاحب بالجنب هو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقا في سفر، وإما شريكا في تعلم علم أو حرفة، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد، أو غير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه، فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان) وإن من الإحسان إلى الصاحب الذي يكون بجنبك، ألا تؤذيه بمنظر كريه أو ريح كريهة، وأن تحافظ على الحياء في مجلسك، فلا تجعل نعلك يحف بثيابه أو بحيث يؤذيه، وأن تعاونه إن كان محتاجا إلى معاونتك.

13. ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ هو المنقطع عن أهله ولا مال له، فكأن الطريق تبناه، والإحسان إليه بإيوائه وإطعامه وتسهيل الحياة له حتى يعود إلى أهله، وقد أوجب الإسلام إعداد مأوى لهؤلاء من بيت مال الزكاة، وإمدادهم بالطعام والكساء حتى يثوبوا إلى أهلهم.

14. ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ هم العبيد والإماء الذين ملكت رقابهم في الحروب العادلة، فهم في سيطرة المالك لهم، وكأن رقابهم في يمينه يسيرها كما شاء، والإحسان إليهم يكون من مالكهم بالإطعام والكساء والمأوى، وعدم إيذائهم بأي نوع من أنواع الأذى، فلا يضربون، ولا يلطمون، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه)، وفي سبيل الإحسان بهم نهى النبيّ عن أن يقول المالك عبدى وأمتى، فقال: (لا يقل أحدكم عبدى وأمتى، بل ليقل فتاى وفتاتى)، ونهى عن ضربهم: (من لطم عبده فكفارته عتقه)، وقال بعض الحنابلة: إنه بمجرد اللطم يكون عتيقا.

15. هنا بحث لفظي في الكلمة السامية: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ فقد قالوا: إن (أحسن) تتعدى بنفسها وذلك بالنسبة للأعمال، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف‏] وقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يحسنه) وقول علىّ: (الناس أبناء ما يحسنون)، ويتعدى بالباء، وبإلى وباللام، وتكون بمعنى الإنعام والإكرام، وقالوا: إنها في تعديها بالباء تكون بمعنى الإكرام مع الاتصال والمودة والقرب ممن أحسن إليه.

16. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ المختال هو ذو الخيلاء أي الكبر؛ وذلك لأن المتكبر يتخيل لنفسه من الصفات والسجايا والأفعال ما ليس فيه، فيستعلى على الناس، والفخور هو الذي يكثر من ذكر مزاياه ويبالغ فيها، ويحب أن يحمد بما لم يفعل، وإن هذين الوصفين يتلازمان، فحيث كان الكبر كان الفخر الكاذب، والله تعالى لا يحب هؤلاء؛ لأنهم يستنكفون عن الاتصال بالناس، ويغمطون حقوق الناس، ولا يقومون بحق النعمة التي أنعم الله بها عليهم، ولذا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الكبر بطر النعمة وغمط الناس)

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1673.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾، وما عبد الله بشيء أفضل من الجهاد والاستشهاد من أجل الحق والحرية والانسانية، أما طلب العلم والعمل من أجل الحياة، والتعاون‏ على ما فيه الخير، وإصلاح ذات البين فأفضل من عامة الصلاة والصيام، كما جاء في الحديث.

2. ﴿وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾، انكار الألوهية من الأساس كفر وجحود، أما الشرك فهو على نوعين: شرك في الألوهية، كمن يؤمن بأن الخالق والرازق أكثر من واحد، ومن هذا الشرك الاعتقاد بأن لله وزراء وأعوانا ومستشارين، وشرك في الطاعة، كمن يؤمن بأن الخالق والرازق واحد لا شريك له ولا أعوان له ولا وزراء ولا مستشارين، ولكنه يعصي الخالق في طاعة المخلوق، ويؤثر مرضاته على مرضاة الله، ومن هذا الشرك الرضا عن الحاكم الجائر، وعن الوزير أو النائب الخائن، والقاضي الجاهل الفاسق، وعن كل من تولى شأنا من الشؤون العامة، وما هو له بكفؤ، وفي الحديث من رضي بفعل قوم فهو شريك لهم.

3. ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، قرن الله سبحانه وجوب التعبد له بوجوب البرّ بالوالدين في العديد من الآيات، منها هذه الآية، ومنها قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾، ومنها: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾، ومن دعاء الإمام زين العابدين لوالديه: (يا إلهي أين طول شغلهما بتربيتي؟ وأين شدة تعبهما في حراستي؟ وأين إقتارهما على أنفسهما للتوسعة عليّ؟ هيهات ما يستوفيان مني حقهما، ولا أدرك ما يجب عليّ لهما، ولا أنا بقاض وظيفة خدمتهما)

4. ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾، بعد الأمر بالإحسان للوالدين أمر بالإحسان للأقارب والأرحام، ثم‏ ﴿الْيَتامى‏ والْمَساكِينِ﴾ ولو انهم أبعد مكانا من الجار، لأن اليتيم فقد الناصر والمعين، أعني الأب، ولأن المسكين لا ينتظم حال المجتمع الا بالعناية به، والمسكين الذي ينبغي العناية به هو الضعيف العاجز عن الكسب، أما اعانة القادر على العمل، ومع ذلك آثر البطالة والكسل، فتشجيع على الرذيلة، وفي الحديث: ان الله يحب العبد المحترف.. ويكره العبد البطال، وقال الحواريون لعيسى: من أفضل منا؟ قال أفضل منكم من يعمل بيده، ويأكل من كسبه.

5. ﴿الْجارِ ذِي الْقُرْبى‏ والْجارِ الْجُنُبِ والصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وابْنِ السَّبِيلِ وما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ﴾، ولا ينحصر الإحسان بإعطاء المال، بل يشمل الرفق والتواضع والسعي في قضاء الحوائج، والنصح في المشورة، وكتمان السر، وغض الطرف عن العورات، وعدم اشاعة السيئات، واعارة الأدوات، وما إلى هذه.. وعلى أية حال، فان الأمر بالإحسان الى هؤلاء ندب لا فرض.

6. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾، هذا تهديد ووعيد لمن يأنف من أقاربه الفقراء، وجيرانه الضعفاء.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/321.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. آيات سبع فيها حث على الإحسان والإنفاق في سبيل الله ووعد جميل عليه، وذم على تركه إما بالبخل أو بالإنفاق مراءاة للناس.

2. ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ هذا هو التوحيد غير أن المراد به‏ التوحيد العملي‏، وهو إتيان الأعمال الحسنة ـ ومنها الإحسان الذي هو مورد الكلام ـ طلبا لمرضاة الله وابتغاء لثواب الآخرة دون اتباع الهوى والشرك به، والدليل على ذلك أنه تعالى عقب هذا الكلام أعني قوله: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾، وعلله بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾، وذكر أنه البخيل بماله والمنفق لرئاء الناس، فهم الذين يشركون بالله ولا يعبدونه وحده، ثم قال: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا﴾، وظهر بذلك أن شركهم عدم إيمانهم باليوم الآخر، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ فبين أن الضلال باتباع الهوى ـ وكل شرك ضلال ـ إنما هو بنسيان يوم الحساب، ثم قال: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ فبين أن اتباع الهوى عبادة له وشرك به.

3. فتبين بذلك كله أن التوحيد العملي أن يعمل الإنسان ابتغاء مثوبة الله وهو على ذكر من يوم الحساب الذي فيه ظهور المثوبات والعقوبات، وأن الشرك في العمل أن ينسى اليوم الآخر: ولو آمن به لم ينسهـ وأن يعمل عمله لا لطلب مثوبة بل لما يزينه له هواه من التعلق بالمال أو حمد الناس ونحو ذلك، فقد أشخص هذا الإنسان هواه تجاه ربه، وأشرك به، فالمراد بعبادة الله والإخلاص له فيها أن يكون طلبا لمرضاته، وابتغاء لمثوبته لا لاتباع الهوى.

4. ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ إلى قوله: ﴿أَيْمَانِكُمْ﴾ الظاهر أن قوله: ﴿إِحْسَانًا﴾ مفعول مطلق لفعل مقدر، تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، والإحسان يتعدى بالباء وإلى معا يقال: أحسنت به وأحسنت إليه، وقوله: ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾، هو وما بعده معطوف على الوالدين، وذو القربى‏ القرابة.

﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ قرينة المقابلة في الوصف تعطي أن يكون المراد بالجار ذي القربى الجار القريب دارا، وبالجار الجنبـ وهو الأجنبي ـ الجار البعيد دارا، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: تحديد الجوار بأربعين ذراعا،: وفي رواية: أربعون دارا، ولعل الروايتين ناظرتان إلى الجار ذي القربى والجار الجنب.

5. ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ هو الذي يصاحبك ملازما لجنبك، وهو بمفهومه يعم مصاحب السفر من رفقة الطريق ومصاحب الحضر والمنزل وغيرهم، وقوله: وابن السبيل هو الذي لا يعرف من حاله إلا أنه سألك سبيل كأنه ليس له من ينتسب إليه إلا السبيل فهو ابنه، وأما كونه فقيرا ذا مسكنة عادما لزاد أو راحلة فكأنه خارج‏ من مفهوم اللفظ، وقوله: وما ملكت أيمانكم المراد به العبيد والإماء بقرينة عده في عداد من يحسن إليهم، وقد كثر التعبير عنهم بما ملكته الأيمان دون من ملكته.

6. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ المختال‏ التائه المتبختر المسخر لخياله، ومنه الخيل للفرس لأنه يتبختر في مشيته، والفخور كثير الفخر، والوصفان أعني الاختيال وكثرة الفخر من لوازم التعلق بالمال والجاه، والإفراط في حبهما، ولذلك لم يكن الله ليحب المختال الفخور لتعلق قلبه بغيره تعالى، وما ذكره تعالى في تفسيره بقوله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾.. وقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ﴾.. يبين كون الطائفتين معروضتين للخيلاء والفخر: فالطائفة الأولى متعلقة القلب بالمال، والثانية بالجاه وإن كان بين الجاه والمال تلازم في الجملة، وكان من طبع الكلام أن يشتغل بذكر أعمالهما من البخل والكتمان وغيرهما لكن بدأ بالوصفين ليدل على السبب في عدم الحب كما لا يخفى.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/353.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾ بطاعته والخضوع له، وإخلاص العبادة له، فهذه عبادته لا تتم إلا بأن نجعل أنفسنا عبيداً له وحده لا شريك له، فلو عبدنا غيره لم تتم لنا عبادته، ألا ترى أن الأنبياء يأمرون قومهم بعبادة الله ما لهم من إله غيره فقد جعلوهم غير عابدين لله حين كانوا مشركين لأنه لا يقبل منهم مع الشرك بعض عبادة؛ ولأنهم لم يجعلوا أنفسهم في حال الشرك عبيداً لله وحده، فلم يعبدوه، بدليل قوله تعالى: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾، فدل على أن معنى العبادة: أن تجعل نفسك عبداً لله، فإذا جعلت نفسك لله ولشريكٍ معه فلم تجعل نفسك لله إنما جعلت بعضك، وعلى هذا جرى خطابُ الأنبياء لأممهم انظر (سورة الأعراف)، وقول نوح: ﴿يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 59] وقول هود مثل ذلك، وصالح، وشعيب عليهم السلام.

2. وقوله تعالى: ﴿وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ نهيٌ عن أن نجعل له شريكاً في شيء من صفاته وما يتبعها كعلم الغيب والقدرة الخارقة والمشاركة في الملك أو في الحكم أو في الربوبية، وكونه تعالى لا شريك له في ذلك حجةٌ على من أشرك بعبادته غير الله، أو بالرئاء، فمفهوم الإشراك به غير مفهوم الإشراك بعبادته.

3. وقوله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ قال الشرفي في (المصابيح): (واتفقوا على أن هاهنا محذوفاً، والتقدير: وأحسنوا بالوالدين إحساناً، كقوله: ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ [محمد: 4] أي فاضربوها، ويقال: أحسنت بفلان وإلى فلان، كقول كثير:

çأسيئي بنا أو أحسني لا ملومة... لدينا ولا مقليَّةَ إن تَقَلَّتé

4. أعتقد أن الإستعمال الشائع تعديةُ الإحسان بـ (إلى) فإذا كانت تعديته بـ (الباء) قليلاً فالأولى جعله من التضمين لمعنى اللطف أو الرفق، وكذلك (أسيئ بنا) فالشائع أن يقال: أساء إليه، فالأولى: أنه أراد أوقعي بقلوبنا السوء بالهجر ونحوه، فعداه بـ (الباء) لئلا يوهم: أو صلي إلينا سوءاً بقولٍ أو فعل؛ لأنه لا يريد وصفها بالتعدي والظلم أو أنها مظنة ذلك.

5. والإحسان بالوالدين: شكر لنعمتهما على الولد، فإذا وجب لحقِّهما على الولد فبالأولى أن تقبح الإساءة إليهما، وقد جاء في الحديث الزجرُ عنها وأنها من الكبائر، وفي رواية: (من أكبر الكبائر)

6. ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ فقد أمرنا أن نحسن بهؤلاء، و(ذو القربى) صاحب القرب من النسب، وفسرهم أهل المذهب: بمن ولده جدا أبويه، فعم هذا التفسير: الأعمام والأخوال وذرياتهم، مع الأخوة والأخوات وذرياتهم، وعم الوالدين الأولاد وذرياتهم، وعم الأجداد والجدات الأسفلين، وهذا في ذي القربى، فأما الأقربون ففيه تفضيل في قرب النسب، فلا يعم أهل القربى كلهم وإنما هم من جاء ذكرهم في المواريث في القرآن، قال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ [النساء: 33] فهم الإخوة مع الوالدين الأولاد، وأما قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214] فشمل الأعمام فهم أقرب من سائر العشيرة بعد هم.

7. في (لسان العرب) ـ من رواية عن الزجاج ـ: والقرابة، والقربى: الدنو في النسب، والقربى في الرحم وهي في الأصل مصدر، وفي التنزيل العزيز: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ ثم قال وأقارب الرجل وأقربوه عشيرته الأدنون، وفي التنزيل: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214] وجاء في التفسير: أنه لما نزلت هذه الآية صعد الصفا، ونادى الأقرب فالأقرب فخذاً فخذاً: (يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا بني عبد مناف، يا عباس، يا صفية)

8. اعتمد الرواية في تفسير (الأقارب) وألفاظُها مختلفة، فأخرج الطبري في (تفسيره) بإسناده عن عائشة، قالت: لما نزلت هذه الآية: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214] قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يا صفية بنت عبد المطلب، يا فاطمة بنت محمد، يا بني عبدالمطلب.. إني لا أملك لكم من الله شيئاً، سلوني من مالي ما شئتم) وروى مثله بسند آخر، ثم روى بإسناده مثله عن عروة بن الزبير، وقال الطبري: حدثنا أبو كريب، قال ثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرَّة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال لما نزلت هذه الآية: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214] قام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على الصفا ثم نادى: يا صباحاه، فاجتمع الناس إليه فبين رجل يجيء وبين آخر يبعث رسوله، فقال: (يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني... يا بني..) إلخ، وهذه الرواية لا تدل على أنهم كلهم عشيرته الأقربون؛ لأنه نذير للأقربين والأبعدين، فمن الجائز أنه عم بالدعوة ليأتي الأقربون والأبعدون ليعم الكل ويخص الأقربين بقوله: (يا بني عبد المطلب..)، ويدل على ذلك ما رواه الطبري بإسناده عن علي عليه السلام قال لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214] دعاني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال لي: يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، قال فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أني متى ما أنادهم بهذا الأمر أرَ منهم ما أكره فصمتُّ حتى جاءني جبريل، فقال: (يا محمد إنك إن لا تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربك) فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رِجْل شاة، واملأ لنا عُسّاً من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم وهم يومئذ أربعون رجلاً.. إلى آخر الرواية، وهي في (تفسير الطبري) وفي تاريخه نحوها بسند آخر تقوى هذه الرواية وإن لم تكن مثلها في اللفظ، ورواها أبو نعيم في (دلائل النبوة) والبيهقي في (دلائل النبوة)، فظهر: أنهم الأقربون من العشيرة، فأما الأقربون من ذوي القربى: فهم الوالد والولد، وألحقنا بهم الإخوة لدخولهم في تفصيل ما أجمله قولُه تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ فأما الأعمام فإنما ورثوا بالتعصيب، والدليل على ذلك: أن العمة لا ترث إلا مع ذوي الأرحام بخلاف الأخت.

9. وقوله تعالى: ﴿وَالْيَتَامَى﴾ قد مر ذكرهم والتحذير من ظلمهم، وهذا أمر بالإحسان إليهم لتأنيسهم والجبر من ضعف يتمهم.

10. وقوله تعالى: ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ هم مثل اليتامى فيحسن إليهم ولو لم يعطوا، فالإحسان أعم من العطاء فلا يترك الإحسان بالقول ونحوه عند تعذر العطاء، وقد مر تفسيرهم.

11. وقوله تعالى: ﴿وَالْجَارِ﴾ هو المجاور في المسكن أي مَن كان مسكنه قريباً من مسكنك، وقد جاء في أهل المقبرة: (جيران لا يتزاورون) وأنشِد لأمرئ القيس:

çأجارتنا إن الخطوب تنوب.. وإني مقيم ما أقام عسيب

أجارتنا إنا مقيمان هاهنا.. وكل غريب للغريب نسيبé

وللسموأل:

çوما ضرّنا أنا قليل وجارنا.. عزيز وجار الأكثرين ذليلé

فلا يشترط في الجوار الملاصقة.

12. وقوله تعالى: ﴿ذِي الْقُرْبَى﴾ تنبيهٌ على أن له حق الجوار مع كونه قريباً، وكانت الجاهلية غافلة عن هذا، وكانت تفتخر بحماية الجار الأجنبي، مع أن الجار ذا القربى له حق الجوار وحق الرحامة.

13. وقوله تعالى: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ الجنب: الأجنبي، قال الشرفي في (المصابيح): (والإحسان إليهم: بالمواساة، والنصرة، وحسن العشرة، وكف الأذى) والأذى إساءة فتحريمه من المفهوم، ولعله يدخل في حسن العشرة التعليمُ للقرآن والتربية الدينية إن أمكن، والنصائح التي يحتاجها الجار، وطلاقة الوجه، والإبتسامة، والكلمة الطيبة وغير ذلك، فالإحسان لا حدّ له.

14. وقوله تعالى: ﴿وَالصَّاحِبِ﴾ الذي يصحبك ويكون معك مستمراً أو في حالة الصحبة، وقوله تعالى: ﴿بِالْجَنْبِ﴾ يخص الذي حولك فيخرج المبتعد عنك، وهو يعم الصاحب في السفر حال السفر، والصاحب: الزميل في طلب العلم مثلاً، والصاحب في معمل وغير ذلك، حتى الصاحب في السجن، وقد دخلت فيه الزوجة التي تكون معك في مسكن أو غيره، فهي صاحبة للزوج والزوج صاحب لها، فقد دخلا في عموم الآية، ولذلك فسره الإمام زيد بن علي عليهما السلام بالمرأة، وروي ذلك عن علي عليه السلام، وحقوق الصحبة تختلف وتتفاوت.

15. وقوله تعالى: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ قالوا: هو المسافر الذي انقطع عن بلده، وعبارة الراغب: (ابن السبيل: المسافر البعيد عن منزله، نسب إلى السبيل لممارسته إياه)، لعله نسب إلى السبيل ليحسن إليه ولو كان غريباً مجهولاً لغربته فيحسن إليه لأجل السبيل، أي لكونه فيه غريباً، ولا يوقف الإحسان إليه على معرفته ومعرفة أبيه، قال الشرفي في (المصابيح): (والإحسان إليه إيواؤه ومعونته وإعطاؤه حقه)، يعني: إطعامه وسقيه، وإيواؤه: جعله في بيت يبيت فيه، وهذا الإحسان غير حقه من الزكاة، كما مر في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ الآية [البقرة: 177]

16. ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ العبيد والإماء والبهائم، قال الشرفي: (حتى الهرة والدجاجة)، ويحتمل: أنه خاص بالعبيد والإماء، لأن السياق في الناس، ولأن هذا الاسم كثر استعماله في الإماء خاصة وفي الإماء والعبيد، ولعله بسبب نسبة الملك إلى اليمين، بخلاف الأنعام فقد قال تعالى: ﴿فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ [يس: 71] وهذا هو الراجح، وإن كان الإحسان إلى الأنعام من خُلُق أهل الدين، وقد جاء الحث في الحديث على الإحسان اليها أو الرفق بها، لكن لم يثبت نسبة ملك اليمين إليها، بل الملك فقط بدون ذكر اليمين.

17. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ لَمَّا أمر الله تعالى بالإحسان وَوَسع مواقعه وكان امتثال ذلك شأنَ أهل الإيمان عقّب ذلك ببيان أنه تعالى لا يحب من كان على ضد صفات أهل الإحسان، ونفي الحب تعبير عن تركهم من الألطاف ونحو ذلك مما يفعله الله لأوليائه، والمختال: ذو الْخُيَلاء ومَن لازمه الكبر؛ لأن سبب الخيلاء إعجابه بنفسه، وقال الراغب: (والخُيَلاءُ: التكبر عن تخيل فضيلة تراءت للإنسان من نفسه)، وفي (الصحاح): (والخال، والخُيَلاءُ، والخِيَلاء: الكبر، تقول منه: اختال فهو ذو خيلاء وذو خال وذو مَخيِلَة، أي ذو كبر، قال والخال ثوب من ثياب الجُهّال)، وفي (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام): (فالمختال ذو الخيَلاء والكبر)، ومثله في (المصابيح) وفي (الكشاف): (المختال: التيَّاه الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه ومماليكه..) إلخ، وهو موافق لما مرّ، قال في (المصابيح): (والفخور: المفتخر على عباد الله) إلخ، و(فَخُور) يدل على كثرة ذلك منه؛ لأن فعولاً من أمثلة المبالغة فهو لإعجابه بنفسه يكثر تعداد ما يدعيه فضلاً على غيره ليثبت بذلك ما يعتقده في نفسه من تفوقه على غيره، وقد فسر الفخور في (لسان العرب) بالمتكبر، ولعله: يعني المتكبر على غيره بالفخر عليه.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/69.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان الحديث في الآيات السابقة عن الأسرة الصغيرة؛ وفي هذه الآيات بعض الحديث عن الأسرة الكبيرة، وهي المجتمع الذي يعيش فيه الأفراد ضمن خلايا متنوعة، ينتقل فيها الإنسان منذ طفولته من خلية إلى أخرى، ويتحمّل ـ على أساس ذلك ـ مسئوليته تجاهه، وتلك هي النظرة الإسلامية الواسعة للحياة، فإن النمو الطبيعي للإنسان في المؤسسات الاجتماعية المختلفة التي ترعاه وتطعمه وتسقيه وتعلّمه وتمرّضه وتدافع عنه، يجعل للمجتمع حقا عليه في القيام بمسؤوليته، من خلال الإمكانات المالية والعلمية والبدنية التي ساهم المجتمع بها في تكوينه، وهذا ما أرادت هذه الآيات أن توجه الإنسان إليه في بعض مجالاته العملية.

2. ولمّا كان الإسلام يعتقد أن على الإنسان أن يرتكز على قاعدة فكرية وروحية تحدد له مواقعه ومساره في الحياة، فقد بدأ بالنداء الذي يدعو إلى عبادة الله وحده وعدم الإشراك به، لأن ذلك هو الذي يوحّد التصور والمسار والهدف، ويجعل الإنسان خاضعا في تصرفاته العملية لقوة واحدة، هي الله باعتباره النقطة الوحيدة التي تحدد له منطلقاته في الحياة، فهو الهاجس الدائم الخفي الذي يحكم كل أفكاره ومشاعره، لأن معنى أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، هو أن نخشع له ونخضع لسلطته ونطيعه ونطلب رضاه ومحبته، وبذلك نبتعد عن كل الأشياء التي تبعدنا عنه، ونجعل الحياة كلها ساحة متحركة من أجل الحصول على ثوابه والبعد عن عقابه، وهذا هو قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾، وفي هذا الجو، يمكننا أن نحدّد علاقتنا بالأشياء والأشخاص، لتكون بأجمعها مشدودة إلى هذا الخط وسائرة في هذا الاتجاه، فإذا فكر الإنسان أن يقترب من هذا أو يبتعد عن ذاك، أو يعطي هذا أو يمنع ذاك؛ فإن مسار التفكير ينطلق في الاتجاه الذي يحدده ما يرضي الله أو ما يسخطه، وما يحبه الله أو ما يبغضه، وهذا ما حددته بعض الآيات الكريمة التي تحدثت عن صفة المؤمنين في كلمة واحدة حاسمة، ﴿الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأحقاف: 13]، فإن الاعتراف بالله الرب الواحد، يحدّد للإنسان نقطة البدء التي تنتهي إليه في نهاية المطاف، وهذا هو معنى الاستقامة التي توجّه الخطوط المنطلقة من الإيمان به، نحوه، في مسيرة الإنسان الصاعدة إليه، ومن هنا كانت البداية؛ فإذا كنا نريد أن نعبد الله وحده، فعلينا أن نحب ونرعى من يريد الله منا أن نحبه ونرعاه؛ وتلك هي بعض النماذج الإنسانية التي تعيش داخل المجتمع.

3. ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ هذه هي الخلية الأولى من خلايا المجتمع التي تحضن الإنسان؛ وهي تضم والديه اللذين هما السبب المباشر لوجوده، وهما اللذان أعطياه من كل شيء يملكانه من دون مقابل، وذلك هو النموذج الذي يشعر معه المعطي بالعطاء، كحالة وجدانية ذاتية تتصل بالإحساس الطاهر الرفيع من كيانه، وقد أراد الله لنا أن نعيش الشعور بالحاجة إلى الإحسان إليهما، من خلال ما نقدم إليهما من خدمات، وما نصبر عليه من سلبياتهما المزاجية والعملية، كنوع من الاعتراف بالجميل لإحسانهما الذي‏ لن نستطيع بلوغ مداه؛ لأنهما عاشا العطاء من موقع الإحساس الذاتي بالحاجة إليه، تماما كما هي حاجتنا إلى أن نعيش حياتنا، أما نحن، فنعيش ـ غالبا ـ العطاء من موقع الواجب الذي قد نحس بثقله علينا في كثير من الحالات.

4. ولعل الإحسان إلى الوالدين، بما يعنيه من الاعتراف بالجميل، يعطينا درسا في الفكرة من ناحية المبدأ، عند ما نواجه الكثيرين من الناس الذين يقدّمون إلينا خدمات متنوعة فيكون علينا مقابلتهم بالإحسان إليهم من خلال إيماننا بالمبدأ الذي عشنا تجربته مع الوالدين، وقد يكون في الجانب السلبي من الممارسة، في عدم الإحسان إليهما، ما يوحي بأننا سنعيش الشعور بالجحود والنكران مع الآخرين، لأن حق الوالدين هو أعظم الحقوق بعد حق الله، فإذا أنكره الإنسان، فإن إنكار ما هو أهون منه أسهل، وقد نلاحظ أن القرآن لم يوص الوالدين بالولد كما أوصى الولد بوالديه، وربما كان الأساس في ذلك أن الفطرة التي تفجر ينابيع العاطفة الروحية لدى الوالدين، تغني عن كل النصائح والأوامر في هذا الاتجاه، لأنهما يحققان المبدأ من ناحية فطرة ذاتية، من دون ملاحظة لأيّ شيء خارجي، ولكن الأحاديث المأثورة تحدثت عن بعض تفاصيل حقوق الولد على والديه، في بعض الجوانب التربوية الفكرية والعملية، لتتحرك مسئوليتهما في ذلك، في ما لا يلتفتان إليه من ناحية العاطفة.

5. وقد نحتاج للإشارة إلى نقطة مهمة في موضوع إطاعة الوالدين، وهي أن القرآن الكريم لم يستخدم تعبير (إطاعة الوالدين) ليكون ذلك عنوانا للخط الذي يسير عليه الولد مع والديه، فيكون ذلك لونا من ألوان جعل السلطة للوالدين بالتدخل في شؤون الولد في مسار حياته الخاصة والعامة، وفي توجيه أفكاره وانتماءاته وعلاقته بالناس والأشياء؛ كما ربما يعتقد الكثيرون من الناس؛ بل استخدم تعبير الإحسان للوالدين وعدم محاولة إيذائهما والشكر لهما على ما قاما به، إلا في الجانب السلبي كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ [العنكبوت: 8] فإنهما قد يطلبان من الولد أن يجسّد الإحسان إليهما بإطاعتهما في معصية الله، لأن ذلك يدخل السرور عليهما ويثبت لهما أن ولدهما بار بهما مخلص لهما، فكان النهي الإلهي له عن ذلك أن يمتنع عن إطاعتهما في هذا الموضوع المضاد لمصلحته لأنه يبعده عن الله ويعرّضه لغضبه، مع الأمر بمصاحبتهما بالمعروف ـ عند عصيانهما ـ واتباع سبيل المنيبين إلى الله، ولكن ذلك لا يعني وجوب الطاعة لهما في غير مورد المعصية إذا كان مضمون الأمر الأبوي أو الأمومي مخالفا لمصلحته في حياته، لأن الإحسان إليهما يصطدم بالإساءة إلى نفسه، وهذا ليس مطلوبا منه، بل كل ما هناك أن عليه أن يتحرك معهما بأسلوب الإحسان من دون أن يقع في مشكلة في واقعه العملي، وعلى ضوء ذلك، فإن المبدأ هو الإحسان والرعاية وتجنب الإيذاء، أما في غير هذا المجال، فللولد أن يتبع طريقه على هدي قناعاته المستمدة من الفكر والمعاناة والتجربة والإيمان، فليس لهما أن يضغطا عليه في التخلي عن قناعاته بحجّة حقهما الوالدي، وليس لهما تخريب مخططاته العملية على ذلك الأساس، إلا إذا دخلا معه في عملية حوار وإقناع؛ ولكن لا بد لنا من إثارة تحفّظ في هذا المجال، وهو محاولة الولد الابتعاد عن مواجهتهما بالعصيان بطريقة مباشرة جافة، بل إن عليه أن يدير الأمور بطريقة لبقة ذكية تحقق له مصلحته وتبتعد به عن إيذائهما، لأن ذلك ما نفهمه من مبدأ الإحسان، وقد يفرض عليه الموقف أن يضحّي ببعض مشاعره لمصلحة مشاعرهما، في ما لا يترتب عليه مفسدة كبيرة، وعلى كل حال؛ فإن الإنسان المؤمن الواعي يعرف كيف يدير علاقاته بوالديه إدارة حكيمة، تجمع بين مصلحته وبين الإحسان إليهما.

6. ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ وهم أرحام الإنسان الذين يرتبط بهم بصلة النسب، ويمثّلون الخلية الثانية من خلايا المجتمع الحاضنة له، وقد أراد الله لنا أن نحسن إليهم فنصلهم ولا نقطعهم، ونتحمل منهم الأذى؛ لأن ذلك ما يجعل العلاقة باقية في نطاقها الطبيعي، باعتبار أن التغلّب على المشاكل، في المواضع الحسّاسة التي تثيرها تعقيدات القربى، يتيح المجال للتغلّب على أمثالها في المواقع الأخرى التي هي أقلّ تعقيدا؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الله سبحانه يريد للإنسان أن يحافظ على الصلاحات التي ترتبط بالروابط الطبيعية الحميمة، كأساس من أسس التخطيط لإيجاد روابط أخرى جديدة، فإن انهيار تلك الروابط يؤدّي إلى فقدان الفرصة لصنع الأخرى، وقد وردت النصوص الدينية الكثيرة التي تؤكد على صلة الرحم، باعتبارها من القيم الإسلامية الكبيرة التي يعتبر الانحراف عنها موجبا للدخول في النار.

7. ﴿وَالْيَتَامَى﴾ هذه هي الفئة المحرومة من فئات المجتمع، التي بقيت معلّقة بالهواء ومعرّضة للضياع ـ من ناحية ذاتية ـ، فقد فقدت الآباء أو الأمهات، ففقدت الحاضن الذي يحضنها، والكفيل الذي يكفلها ويرعاها، والقلب الذي يغذيها بالحنان والعاطفة؛ فأراد الله للمجتمع ـ بمختلف أفراده ـ أن يحمل مسئولية رعاية هؤلاء، فيمنحهم الشعور بالحياة والقوة، ويدفعهم إلى الإحساس بالتفاؤل بالمستقبل، وبأنهم يقفون على أرض قوية صلبة، وذلك في ما يكفله لهم المؤمنون من رعاية وعناية وإحسان.

8. ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ وهذه هي الفئة التي تعيش المسكنة الطبيعية في الظروف الصعبة التي تمرّ بها في حياتها؛ فليس لديها مجال للعيش الكريم، وليس عندها فرصة للعمل المنتج أو للحصول على الإمكانات المادية التي تهيّئ لها سبل الحياة بشكل معقول، وقد أراد الإسلام للناس أن يكفلوا حياة هؤلاء ويجنبوهم ذل السؤال، ويحفظوا لهم كرامتهم في الغذاء والملبس والمسكن، بالطريقة العزيزة التي تتيح لهم الارتفاع إلى مستوى الحياة العادية للنّاس؛ وذلك من موقع الفرض لا من موقع المنّة، من خلال ما فرضه الله من فرائض ماليّة في أموال المؤمنين.

9. ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ وقد أراد الإسلام منا أن نهتم بالجار، كمظهر من مظاهر الإحساس بأن الجوار يحقق علاقة ألفة ومحبّة، تفرض على الإنسان حقا في القيام برعاية الجار والإحسان إليه وتحمّل الأذى منه، سواء كان هذا الجار قريبا أو بعيدا، مسلما كان أو كافرا.. وهذا أسلوب إسلاميّ في تخطيطه للحياة، في اعتبار المجتمعات الصغيرة المتقاربة من الناحية السكنية أساسا للمجتمع الكبير، في ما يعيشه الأفراد من علاقات حميمة مسئولة، تتجاوز المشاكل الطبيعية اليومية التي قد تحدث بفعل الاتصال الشديد الذي يعقّد الكثير من الأوضاع، وقد شدّد على ذلك، كما لم يشدّد على شيء آخر في نطاق العلاقات الإنسانية البعيدة، حتى‏ ورد في الحديث الشريف، (ما زال جبرائيل عليه السّلام يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورّثه)، وبذلك أعطى هذه العلاقة ـ علاقة الجوار ـ بعدا روحيا يمتص من خلاله الكثير من المشاكل التي يريد للإنسان المؤمن أن يتجاوزها قربة إلى الله؛ وذلك لأننا إذا أردنا أن نخضع العلاقات الإنسانية إلى الجانب‏ المادي المبنيّ على الحسابات الدقيقة المعقّدة وأغفلنا الجانب الروحي، وقعنا في أوضاع صعبة جدا، لا سيما في مثل هذه العلاقات التي لا مجال للإنسان للانفصال عنها إلا بتغيير حياته من الأساس في مسكنه أو أوضاعه؛ وتلك هي طريقة الإسلام في التعامل مع الجانب الاجتماعي من حياة الإنسان، وذلك لما يثيره في نفسه من التفاعل الروحي والمادي؛ ليستمر الانسجام مع المجتمع من موقع الروح، إذا لم تتوفر الأرباح في الحسابات المادية.

10. ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ قيل: إنه من كان رفيقا في السفر، أو جليسا في الحضر، أو شريكا في الدرس، أو في حرفة وما إلى ذلك.. وهذا هو الخط الإسلامي الذي يعتبر للصحبة حقا إنسانيا يوحي بالرعاية والإحسان، في ما يحتاجه الصاحب من شؤون الحياة، وما يواجهه من مشاكلها، وما يحتاج إلى ستره من عيوبه وخطاياه مما يمكن أن يطّلع عليه صاحبه منه من خلال استمرار الصحبة، وما يتطلبه من احترام مشاعره وأحاسيسه، في الأمور التي تثيره وتغضبه، وفي القضايا التي تفرحه وتريحه، وغير ذلك من الأمور التي تمثلها كلمة الإحسان بما توحيه من مشاعر وممارسات.

11. ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ وهو المنقطع به في السفر، في المواضع التي لا يملك فيها تدبير أموره من ناحية مالية؛ فإن على المسلمين أن يحفظوا عزته وكرامته، ويحسنوا إليه بما يحل له مشكلته حتى يبلغ بلده.

12. ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ من العبيد والإماء؛ فإن على الإنسان المؤمن أن لا يعتبر الرق مصدر شعور بالدونية لهؤلاء، أو مبرر إذلال عملي لهم، بل ينبغي له أن يعترف بأن ذلك لا يلغي إنسانيتهم وحاجتهم إلى‏ الحماية والاحترام والإحسان، بل كل ما هناك، أنه وضع قانوني شرّعه الله في نطاق المصالح العامة التي ينطلق منها التشريع، وأراد للناس أن يعملوا على اعتبار تحرير الرقيق هدفا إسلاميا من خلال الوسائل الشرعية المتاحة للإنسان.

13. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ ربما كان تعقيب الآية بهذه الفقرة إيحاء للإنسان بأن الانسجام مع خط الله في السلوك يفرض عليه التواضع بين يدي الله، فيحس بإنسانية الناس من حوله؛ فلا يتكبر عليهم، ولا يأخذه الزهو والغرور والشعور بالخيلاء، بسبب ما رزقه الله من مال وجاه، أو يفخر بذلك فيحس بالاستعلاء عليهم؛ ويمنعه ذلك من الإحسان إليهم بالكلمة والنظرة والممارسة؛ فإن الله هو الذي أعطاه كل ما لديه من النعم، وهو القادر على أن يسلبه إياها؛ وهو الذي جعل من نعمته عليه، حاجة الآخرين إليه، فليسلك السبيل التي يحبها الله، من خلال ذلك؛ فإن الله يحب المتواضعين الطيبين، ولا يحب من كان مختالا فخورا.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/253.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الآية الكريمة تبيّن سلسلة من الحقوق الإسلامية بما فيها الحقوق الإلهية، وحقوق العباد، وآداب العشرة مع الناس، ويستفاد منها عشرة تعاليم:

أ. إنّ الدّعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده تطهر الروح، وتخلص النية، وتقوي الإرادة، وتشدد من عزيمة الإنسان على الإتيان بأي برنامج مفيد، وحيث أنّ الآية الكريمة تبيّن سلسلة من الحقوق الإسلامية لذلك فقد أشارت إلى حقّ الله على الناس قبل أي شيء وقبل أي حقّ وقالت: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾

ب. ثمّ إنّها تشير إلى حقّ الوالدين وتوصي بالإحسان إليهما ولا شك أنّ حقّ الوالدين من القضايا التي يهتمّ بها القرآن الكريم كثيرا، وقلّما حظى موضوع بمثل هذا الاهتمام والعناية، فقد جاءت التوصية بالوالدين بعد الدعوة إلى التوحيد في العبادة في أربعة مواضع في القرآن الكريم‏، ومن هذه التعابير المتكررة يستفاد أن ثمّة ارتباطا بين هاتين المسألتين، والقضية في الحقيقة كالتالي: حيث إن أكبر نعمة هي نعمة الوجود والحياة وهي مأخوذة من جانب الله سبحانه في الدرجة الأولى، فيما ترتبط بالوالدين في الدرجة الثانية، لأنّ الولد جزء من وجود الوالدين، لذلك كان ترك حقوق الوالدين وتجاهلها، في مصاف الشرك بالله سبحانه، هذا ولنا أبحاث مفصلة حول حقوق الوالدين في ذيل الآيات المناسبة في سورة الإسراء ولقمان بإذن الله تعالى.

ج. ثمّ إنّها توصي بالإحسان إلى كلّ الأقرباء، وهذا الموضوع من المسائل التي يهتم بها القرآن الكريم اهتماما بالغا تارة تحت عنوان (صلة الرحم) وأخرى بعنوان (الإحسان إلى القربى) وقد أراد الإسلام بهذا ـ في الحقيقة ـ أن يقوي من أواصر العلاقة الواسعة بين جميع أفراد البشر مضافا إلى إيجاد أواصر وعلاقات أقوى وأمتن منها في الوحدات الاجتماعية التي هي أكثر انسجاما مثل‏ (العشيرة) و(العائلة) ليستطيعوا التعاون في ما بينهم عند ظهور المشاكل والحوادث، والتعاون على الدفاع عن حقوقهم.

د. ثمّ أشارت إلى حقوق (اليتامى) وأوصت المؤمنين ببرهم والإحسان إليهم، لأنّه يوجد في كل مجتمع أطفال أيتام على أثر الحوادث المختلفة، لا يهدد تناسيهم وإهمالهم وضعهم الخاص فقط، بل الوضع الاجتماعي بصورة عامّة، لأنّ الأطفال اليتامى لو تركوا دون ولاية أو حماية ولم ينالوا حاجتهم من المحبّة واللطف يتحولون إلى أفراد منفلتين فاسدين، بل أشخاص خطرين جناة، وعلى هذا يكون الإحسان إلى اليتامى إحسانا إلى الفرد وإلى المجتمع معا.

هـ. ثمّ يذكّر سبحانه ـ في هذه الآية ـ بحقوق الفقراء والمساكين، لأنّه قد يوجد حتى في المجتمع السليم الذي يسوده العدل من يعاني من نواقص وعاهات تعوقه عن الحركة والنشاط والفعالية، ولا شك أنّ تناسي هؤلاء أمر يخالف كل الأسس والقيم الإنسانية، فلا بدّ من تقديم العون إليهم، ومعالجة حرمانهم، وأمّا إذا كان الفقر والحرمان الذي يعاني منه الأفراد الأصحاء ناشئين عن الانحراف عن مبادئ وأسس العدالة الاجتماعية فإنّه لا بدّ من مكافحتهما أيضا.

و. ثمّ يوصي بالجيران من ذوي القربى، وهناك احتمالات متعددة حول المراد من (الجار ذي القربى) أبداها المفسرون، فبعضهم قال معناه الجار القريب في النسب، غير أن هذا التّفسير يبدو بعيدا بملاحظة العبارات السابقة التي أشارت‏ إلى حقوق الأقرباء في هذه الآية، فلا بدّ أن يكون المراد هو القرب المكاني لا القرب النسبي، لأن الجيران الأقربين مكانا يستحقون احتراما وحقوقا أكثر من غيرهم، أو أن يكون المراد الجيران الأقربين إلى الإنسان من الناحية الدينية والاعتقادية.

ز. ثمّ إنها توصي بالجيران البعيدين، والمراد ـ كما أسلفنا ـ هو البعد المكاني، لأنّ كل أربعين دارا من بين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله تعتبر من الجيران، كما تصرح بعض الروايات‏، وهذا يستوعب في المدن الصغيرة كل المدينة تقريبا (لأنّنا لو فرضنا دار كل شخص مركز دائرة يقع في امتداد شعاعها من كل صوب أربعون بيتا لاتّضحت من خلال محاسبة بسيطة مساحة هذه الدائرة التي يكون مجموع البيوت الواقعة فيها ما يقرب من خمسة آلاف بيت، ومن المسلم أن المدن الصغيرة قلّما تتشكل من أكثر من هذا العدد من المنازل والبيوت، والجدير بالتأمل أنّ القرآن يصرّح ـ في هذه الآية ـ مضافا إلى ذكر الجيران القربين ـ بحقّ الجيران البعيدين، لأنّ لفظة الجار لها في العادة مفهوم محدود وضيق وتشمل الجيران القريبين فقط، ولهذا لم يكن بدّا في نظر الإسلام أن يذكر بالجيران البعيدين أيضا، كما يمكن أن يكون المراد من الجيران البعيدين الجيران غير المسلمين، لأنّ حقّ الجوار غير منحصر في نظر الإسلام بالجيران المسلمين، فهو يعمّ المسلمين وغير المسلمين (اللهم إلّا الذين يحاربون المسلمين ويعادونهم)، إنّ لحقّ الجوار في الإسلام أهميّة بالغة إلى درجة أنّنا نقرأ في وصايا الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام المعروفة: (ما زال (رسول الله) يوصي بهم حتى ظننا أنّه‏ سيورثهم) (2)، وروي عن الإمام الصّادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه قال: حسن الجوار يعمر الدّيار ويزيد في الأعمار)، في عالمنا المادي حيث لا يعرف الجار عن جاره شيئا، بل وربّما لا يتعرف على اسم صاحبه بعد عشرين سنة من الجيرة والجوار يتألّق هذا التعليم الإسلامي في حق الجار بشكل خاص، فإنّ الإسلام يقيم للعلاقات العاطفية والتعاون الإنساني وزنا خاصّا، ويوليها اهتماما كبيرا، في حين تؤول هذه العلاقات والعواطف في الحياة الصناعية المادية إلى الزوال يوما بعد يوم، وتعطي مكانها إلى القسوة والجفاء والخشونة.

ح. ثمّ أوصت بالرّفيق والصّاحب، غير أنّه لا بدّ من الانتباه إلى أنّ لـ (الصاحب بالجنب) معنى أوسع من الرفيق والصديق المتعارف، وفي الحقيقة تشمل كل من رافق أو صاحب الإنسان مرافقة ما سواء كان صديقا دائميا أو صديقا مؤقتا (كالذي يرافق الإنسان في السفر بعض الوقت) وتفسير لفظة (لصاحب بالجنب) في بعض الروايات بالرفيق مثل (رفيقك في السفر) أو الذي يقصد الإنسان رجاء نفعه مثل: (المنقطع إليك يرجو نفعك) ليس المراد هو اختصاص هذا العنوان بهم، بل هو نوع من التوسعة في مفهوم هذه اللفظة بحيث تشمل هذه الموارد أيضا، وبهذا الطريق تكون هذه الآية أمرا كليا وجامعا بحسن معاشرة كل من يرتبط بالمرء، سواء كان صديقا واقعيا، أو زميلا، أو رفيق سفر، أو مراجعا، أو تلميذا، أو مشاورا، أو خادما، وقد فسرت لفظة الصاحب بالجنب في بعض الروايات بالزّوجة، وقد روى صاحب تفسير المنار، وتفسير روح المعاني والقرطبي في ذيل هذه الآية هذا المعنى عن علي عليه السّلام، ولكن لا يبعد أن يكون هذا من باب بيان أحد المصاديق أيضا.

ط. وأمّا الصنف الآخر الذي أوصت بهم الآية هنا فهم الذين تحدث لهم حاجة السفر وبلاد الغربة، فابن السبيل هو الذي ينقطع في السفر وإن كان يمكن أن يكون متمكّنا ذا مال في بلده، والتعبير عن هذا الشخص بابن السبيل (أي ابن الطريق) إنّما هو لأجل أنّنا لا نعرفهم أصلا حتى ننسبهم إلى عائلة أو قبيلة أو شخص، بل لا بدّ أن نحميهم بمجرّد أنّهم مسافرون انقطعوا في السفر، وبرزت لديهم حاجة إلى المساعدة والعون.

ي. وفي نهاية المطاف توصي هذه الآية بالإحسان إلى العبيد والأرقاء، وبهذا تكون الآية ـ في الحقيقة ـ قد بدأت بحق الله، وختمت بحقوق العبيد، لعدم انفصال هذه الحقوق بعضها عن بعض، على أنّ هذه الآية ليست هي الآية الوحيدة التي توصي بالعبيد، بل لقد بحثت هذه المسألة في آيات مختلفة أخرى أيضا، هذا مضافا إلى أنّ الإسلام قد نظم برنامجا دقيقا لتحرير العبيد تدريجا، والذي يؤول في النتيجة إلى تحريرهم المطلق، وسوف نتحدّث حول هذه المسألة في ذيل الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

2. ثمّ إنّه سبحانه يقول في ختام هذه الآية ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ وهو بذلك يحذر كل من يتمرّد ويعصي أوامر الله، ويتقاعس عن القيام بحقوق أقربائه ووالديه واليتامى والمساكين وابن السبيل والأصدقاء والأصحاب بدافع التكبر بأنّه سيكون معرضا لسخط الله، وسيحرم من عنايته سبحانه، ولا ريب أنّ من حرم من اللطف الإلهي والعناية الرّبانية حرم من كل خير وسعادة، وتؤيد هذا المعنى روايات وأخبار قد رويت في ذيل هذه الآية منها ما عن أصحاب النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث قال كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقرأ هذه الآية ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ فذكر الكبر فعظمه، فبكى ذلك الصحابي فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما يبكيك؟ فقال يا رسول الله: إنّي لأحب الجمال حتى أنّه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي قال: فأنت من أهل الجنّة، أنّه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك، ولكن الكبر من سفه الحقّ وغمص الناس)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/227.

(2) ذكر هنا بعض الأحاديث التي سبق ذكرها

40. البخل والجحود

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈40⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [النساء: 37]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان كردم بن يزيد حليف كعب بن الأشرف، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبحري بن عمرو، وحيي بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت؛ يأتون رجالا من الأنصار، يتنصحون لهم، فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم؛ فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون، فأنزل الله فيهم: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ إلى قوله: ﴿وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾، هي في أهل الكتاب، يقول: يكتمون، ويأمرون الناس بالكتمان(2).

__________

(1) ابن إسحاق ـ كما في سيرة ابن هشام ١/٥٦٠.

(2) ابن أبي حاتم ٣/٩٥٢.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان علماء بني إسرائيل يبخلون بما عندهم من العلم، وينهون العلماء أن يعلموا الناس شيئا، فعيرهم الله بذلك؛ فأنزل الله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ الآية(1).

2. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾، هذا في العلم، ليس للدنيا منه شيء(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٥١.

(2) ابن جرير ٧/٢٣.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: في قوله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، قال هم اليهود، بخلوا أن يبينوا نبوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتابهم، وأمروا الناس بذلك، وكتموه أن يظهروه(1).

__________

(1) تفسير مجاهد ص ٢٧٦.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، أي: النبوة التي فيها تصديق ما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٥٣.

طاووس:

روي عن طاووس بن كيسان (ت 106 هـ) أنّه قال: البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس، يحب أن يكون له ما في أيدي الناس بالحل والحرام، لا يقنع(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٢١.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: هم أعداء الله أهل الكتاب، بخلوا بحق الله عليهم، وكتموا الإسلام ومحمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٢٢.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ يعني: رؤوس اليهود، ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ وذلك أن رؤوس اليهود ـ كعب بن الأشرف، وغيره ـ كانوا يأمرون سفلة اليهود بكتمان أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ خشية أن يظهروه ويبينوه، ومحوه من التوراة، ﴿وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ﴾ عز وجل، يعني: ما أعطاهم ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ في التوراة من أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونعته، ثم أخبر عما لهم في الآخرة، فقال: ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ يا محمد ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ يعني: لليهود ﴿عَذَابًا مُهِينًا﴾ يعني: الهوان(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٧٢.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله عزّ وجل: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل أن يكون الآية تفسيرا لما تقدم من قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ ووصف لهم؛ إذ لا يتكلم بمثله إلا عن تقدّمه.

ب. ويحتمل على الابتداء؛ كقوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ الآية [الزخرف: 69]

2. قوله عزّ وجل: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل قوله: يبخلون بما عندهم من الأموال، ويأمرون الناس به، وهكذا دأب كل بخيل أنه يبخل ويأمر به غيره.

ب. ويحتمل: يبخلون بما عندهم من العلوم والأحكام، لم يعلّموا غيرهم، ويأمرون الناس بذلك.

ج. ويحتمل قوله: يبخلون بإظهار نعت‏ كتمان ما أنعم الله عليهم، وعلى ذلك روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من أتاه الله نعمة فلترى عليه) لعله أراد بقوله: (ترى عليه) أن ينفقها على نفسه ويتصدق بها ويلبسها.

د. وجائز أن يكون أراد الإنفاق والتصدق على غيرهم، فعلى ذلك كتمان ما آتاهم الله من الأموال إذا تركوا الإنفاق على غيرهم؛ لأن من كانت له الأموال لا يترك الإنفال على نفسه.

هـ. وأيضا، في قوله: ﴿يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾: أي: بما أنعم الله عليهم من الأموال، أو بما بين لهم من صفات الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أو بما أمروا به من العبادات، حملهم على الكفر أحد هذه الأوجه الثلاثة؛ أو كانوا استحلوا أحدها، فكفروا بذلك، لزمهم الذي ذكر في القرآن وكتمانهم يرجع إلى كتمان النعت والحقوق والعبادات‏ في غير موضع.

3. قيل في قوله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ نزلت في كعب بن الأشرف كتم نعت‏ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وكتب إلى الرؤساء من اليهود في الآفاق يأمرهم بكتمانه‏.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/181.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ قيل إن هذه الآية نزلت في اليهود بخلوا بما عندهم في التوراة من نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وكتموه وأمروا الناس بكتمانه.

2. ﴿وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ من نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتحتمل الآية وجهاً آخر وهو أنهم يبخلون بالإنفاق في طاعة الله عز وجل ويأمرون الناس بمثل ذلك، والبخل هو أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس يحب أن يكون له.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/178.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي:

1. في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنها نزلت في اليهود، بخلوا بما عندهم من التوراة من نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وكتموه وأمروا الناس بكتمه، ﴿وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ يعني نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والسدي.

ب. الثاني: يبخلون بالإنفاق في طاعة الله عزّ وجل ويأمرون الناس بذلك، وهو قول طاوس، والبخل أن يبخل بما في يديه، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس يحب أن يكون له.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ حمزة، والكسائي هاهنا وفي الحديد: (بالبخل) بفتح الباء والخاء، والباقون بضم الباء وتسكين الخاء، فمن نصب قال لأنه مصدر بخل يبخل بخلا، الباب كله هكذا، ومن اختار الضم وتسكين الخاء، فلأنه نقيض الجود فحمل على وزنه، فهما لغتان، وحكي لغة ثالثة (بالبخل) ـ بفتح الباء وسكون الخاء.

2. قوله: (الذين) يحتمل أن يكون موضعه نصباً من وجهين، ورفعاً من وجهين، فأحد وجهي النصب أن يكون بدلا من (من) في قوله: ﴿لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ﴾، والثاني: على الذم، وأحد وجهي الرفع ـ على الاستئناف بالذم، ويكون خبره‏ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ﴾ والآية الثانية عطفاً عليها، والوجه الثاني: على البدل من الضمير في (فخور)، والبخل أصله مشقة الإعطاء.

3. قالوا في معنى البخل هاهنا قولان:

أ. أحدهما: أنه منع الواجب، لأنه اسم ذم لا يطلق إلا على مرتكب كبيرة.. وهو أليق بالآية، لأنه تعالى نفي محبته عمن كان بهذه الصفة، وذلك لا يليق إلا بمنع الواجب، قال الرماني: معناه منع الإحسان لمشقة الطباع، ونقيضه الجود وهو بذل الإحسان لانتفاء مشقة الطباع.

ب. الثاني: هو منع ما لا ينفع منعه، ولا يضر بذله، ومثله الشح، وضده الجود.

4. قال ابن عباس، ومجاهد، والسدي: وابن زيد: إن الآية نزلت في اليهود، إذ بخلوا بإظهار ما علموه وكتموه من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال الجبائي، والبلخي: الآية في كل من كان بهذه الصفة، وإنما ذكروا بالكفر لكتمانهم نعمة الله عليهم، والآمر بالبخل يتناوله الوعيد، كما أن من فعل البخل يتناوله الوعيد،

5. وقيل: معنى‏ ﴿يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ يجحدون اليسار والثروة اعتذاراً في البخل.

6. ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ قد فسرناه فيما مضى وهو أن معناه أعددناه، وجعلناه ثابتاً لهم و﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ يعني الجاحدين ما أنهم الله عليهم‏ ﴿عَذَابًا مُهِينًا﴾ أي يهينهم ويذلهم.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/197.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. البخل والشح من النظائر، ونقيضه الجود، والبخل أصله مشقة الإعطاء على النفس، وقيل: هو منع الإحسان لمشقة الطباع، وفي الشرع: هو منع الواجب؛ لأنه اسم ذم فلا يستحق إلا بترك واجب.

ب. الكتمان ضد الإعلان ونظيره الإخفاء.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت في اليهود؛ إذ بخلوا بما أعطوا من الرزق، وكتموا ما أوتوا من العلم بصفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ابن عباس ومجاهد والسدي وابن زيد.

ب. وقيل: نزلت في كل من كان بهذه الصفة، وعن سعيد بن جبير: هذا في العلم ليس في الدنيا منه شيء.

ج. وقيل: نزلت في جماعة من اليهود: حيي بن أخطب وغيره، وكانوا يأتون الأنصار ويقولون: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر، ولا تدرون ما يكون، فنزلت الآية فيهم عن ابن عباس وابن زيد.

3. ثم وصف الله من تقدم ذكره بالمختال الفخور، فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾:

أ. قيل: المانع ما وجب عليه من الصدقات والزكوات وغيرها مما تقدم ذكره عن أبي علي وأبي مسلم.

ب. وقيل: مَنْ مَنَعَ سائله من فَضْل ماله الذي آتاه الله.

ج. وقيل: هم اليهود بخلوا ببيان صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على ما في كتبهم فلم يبينوه عن ابن عباس ومجاهد والسدي والأصم.

د. وقيل: بخلوا ببيان أن الإسلام هو الحق.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾:

أ. قيل: يأمرون الأنصار بترك الإنفاق على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ابن عباس وابن زيد.

ب. وقيل: يأمرون بكتمان الحق.

ج. وقيل: يأمرون بمنع الزكاة والحقوق الواجبة عن أبي علي وأبي مسلم.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾:

أ. قيل: النبوة عن ابن عباس والأصم.

ب. وقيل: من المال فلا يعترفون بنعم الله عن أبي علي، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا أنعم الله على عبده نعمة أحب أن يرى أثر نعمه على عبده)

6. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ﴾ يعني من تقدم ذكرهم، ووصفوا بالكفر:

أ. قيل: لكتمان نعم الله تعالى عن أبي علي وأبي القاسم.

ب. وقيل: بجحدهم نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وكتمانهم صفته، وإنما الكفر هو الستر، فهم بالجحود كأنهم ستروا الحق.

7. ﴿عَذَابًا مُهِينًا﴾ يعني عذاب جهنم يعاقبون فيها ويهانون.

8. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن من آتاه الله نعمة فإنه يجب عليه القيام بحقوق كثيرة نحو الزكوات والنفقات، ومتى قام بها لم يستحق الوعيد، ولم يقع عليه اسم البخل، ومتى أخل بها وصف بالبخل، واستحق وعيد البخلاء، والأولى حمله على الواجب؛ لأن غير الواجب لا يستحق الذم بتركه.

ب. أن إظهار نعم الله واجب، وإظهاره يكون بالشكر والاعتراف، وأن يرى أثره عليه في الإنفاق، وحمله الأصم على كتمان النبوة وعلى اليهود، وأيد ذلك بقوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ﴾ إلا أنه خلاف الظاهر، والظاهر أنه في منع حقوق المال على ما حمله شيخنا أبو علي وأبو القاسم.

ج. أن كتمان نعم الله وكتمان الحق من الكبائر، ثم ينقسم قد يكون كفرًا وقد يكون فسقًا.

9. قرأ حمزة والكسائي وخلف ﴿بِالْبُخْلِ﴾ بفتح الباء والخاء، وفي الحديث مثله، وروي ذلك عن أنس بن مالك ومجاهد، وهي لغة الأنصار، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وعاصم البُخْل) بضم الباء وسكون الخاء فيهما، وهي اللغة العالية، وعن قتادة وأيوب السخستاني بفتح الباء وسكون الخاء، وعن عيسى بن عمر بضم الباء والخاء، وهي أربع لغات معروفة غير أنه لا يجوز القراءة إلا بالوجهين الأولين؛ لأنها المنقولة نقلاً مستفيضا.

10. موضع ﴿الَّذِينَ﴾ من الإعراب يحتمل النصب من وجهين: الأول: على الذم، والثاني: على البدل من ﴿مِنَ﴾ ووقيل: هو بدل من قوله: ﴿مُخْتَالًا فَخُورًا﴾، ويحتمل الرفع من وجهين: على الاستئناف بالذم، وعلى البدل من الضمير في ﴿فَخُورٍ﴾ تقديره: هو فخور، ثم فسره.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/626

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. البخل: أصله مشقة الاعطاء، وقيل في معناه: إنه منع الواجب، لأنه اسم ذم، لا يطلق إلا على مرتكب الكبيرة، وقيل: هو منع ما لا ينفع منعه، ولا يضر بذله، ومثله الشح، وضده الجود، والأول أليق بالآية، لأنه تعالى نفى محبته عمن كان بهذه الصفة، وقال علي بن عيسى: معناه منع الاحسان لمشقة الطباع، ونقيضه الجود ومعناه بذل الاحسان، لانتفاء مشقة الطباع.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾:

أ. قيل: أي يمنعون ما أوجب الله عليهم من الزكوات وغيرها، واختاره الجبائي، وأبو مسلم.

ب. وقيل: معناه الذين يبخلون بإظهار ما علموه من صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن ابن عباس، ومجاهد، والسدي، وابن زيد.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾:

أ. قيل: يأمرون غيرهم بذلك.

ب. وقيل: يأمرون الأنصار بترك الانفاق على رسول الله، وعلى أصحابه، عن ابن عباس.

ج. وقيل: يأمرون بكتمان الحق.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾:

أ. قيل: أي ويجحدون ما آتاهم الله من اليسار والثروة، اعتذارا لهم في البخل.

ب. وقيل: معناه يكتمون ما عندهم من العلم، ببعث النبي ومبعثه.

ج. والأولى أن تكون الآية عامة في كل من يبخل بأداء ما يجب عليه أداؤه، ويأمرون الناس به، وعامة في كل من كتم فضلا آتاه الله تعالى من العلم وغيره من أنواع النعم التي يجب إظهارها، ويحرم كتمانها، وقد ورد في الحديث: (إذا أنعم الله تعالى على عبد نعمة، أحب أن يرى أثرها عليه)

5. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ أعددنا للجاحدين ما أنعم الله عليهم، عذابا يهانون فيه، ويذلون، فأضاف الإهانة إلى العذاب، إذ كان يحصل به.

6. قرأ أهل الكوفة غير عاصم (بالبخل) بفتح الباء والخاء، وكذلك في سورة الحديد، والباقون ﴿بِالْبُخْلِ﴾ بالضم.. قال سيبويه هما لغتان.

7. ﴿الَّذِينَ﴾ يحتمل أن يكون موضعه نصبا من وجهين، وأن يكون رفعا من وجهين، فأما النصب فعلى أن يكون بدلا من ﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ﴾ وعلى الذم أيضا، وأما الرفع فعلى الاستئناف بالذم على الابتداء، وتكون الآية الثانية عطفا عليها، ويكون الخبر: إن الله لا يظلم، وعلى البدل من الضمير في فخور.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/74.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ ذكر المفسرون أنها نزلت في اليهود، فأمّا سبب نزولها، فقال ابن عباس: كان كردم بن زيد حليف كعب بن الأشرف، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبحريّ بن عمرو، وحيي بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التّابوت، يأتون رجالا من الأنصار من أصحاب رسول‏ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكانوا يخالطونهم، وينتصحون لهم، فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم، فإنّا نخشى عليكم الفقر، ولا تسارعوا في النّفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون، فنزلت هذه الآية.

2. في الذي بخلوا به وأمروا الناس بالبخل به قولان:

أ. أحدهما: أنه المال، قاله ابن عباس، وابن زيد.

ب. الثاني: أنه إظهار صفة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ونبوّته، قاله مجاهد، وقتادة، والسّدّيّ.

3. ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: (بالبخل) خفيفا، وقرأ حمزة والكسائيّ: (بالبخل) محرّكا، وكذلك في سورة الحديد.

4. في الذين آتاهم الله من فضله قولان:

أ. أحدهما: أنهم اليهود، أوتوا علم نعت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكتموه، هذا قول الجمهور.

ب. الثاني: أنهم أرباب الأموال بخلوا بها، وكتموا الغنى، ذكره الماورديّ في آخرين‏.

5. ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ قال الزجّاج: معناه: جعلنا ذلك عتادا لهم، أي: مثبّتا لهم.

__________

(1) زاد المسير: 1/405.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ حمزة والكسائي: ﴿بِالْبُخْلِ﴾ بفتح الباء والخاء، وفي الحديد مثله، وهي لغة الأنصار، والباقون‏ ﴿بِالْبُخْلِ﴾ بضم الباء والخاء وهي اللغة العالية.

2. الذين يبخلون: بدل من قوله: ﴿مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ والمعنى: ان الله لا يحب من كان مختالا فخورا ولا يجب الذين يبخلون، أو نصب على الذم، ويجوز أن يكون رفعا على الذم، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف كأنه قيل: الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون: أحقاء بكل ملامة.

3. البخل: قال الواحدي: البخل فيه أربع اللغات: البخل، مثل القفل، والبخل مثل الكرم، والبخل مثل الفقر، والبخل بضمتين، ذكره المبرد، وهو في كلام العرب عبارة عن منع الإحسان، وفي الشريعة منع الواجب.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْل﴾:

أ. قال ابن عباس: انهم اليهود، بخلوا أن يعترفوا بما عرفوا من نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفته في التوراة، وأمروا قومهم أيضا بالكتمان‏ ﴿وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ يعني من العلم بما في كتابهم من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ في الآخرة لليهود ﴿عَذَابًا مُهِينًا﴾ واحتج من نصر هذا القول: بأن ذكر الكافر في آخر الآية يدل على أن المراد بأولها الكافر.

ب. وقال آخرون: المراد منه البخل بالمال، لأنه تعالى ذكره عقيب الآية التي أوجب فيها رعاية حقوق الناس بالمال، فإنه قال: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [النساء: 36] ومعلوم أن الإحسان إلى هؤلاء إنما يكون بالمال، ثم ذم المعرضين عن هذا الإحسان فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ [النساء: 36] ثم عطف عليه‏ ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ فوجب أن يكون هذا البخل بخلا متعلقا بما قبله، وما ذاك إلا البخل بالمال.

ج. الثالث: أنه عام في البخل بالعلم والدين، وفي البخل بالمال، لأن اللفظ عام، والكل مذموم، فوجب كون اللفظ متناولا للكل.

5. ذكر الله تعالى في هذه الآية من الأحوال المذمومة ثلاثا:

أ. أولها: كون الإنسان بخيلا وهو المراد بقوله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾

ب. ثانيها: كونهم آمرين لغيرهم بالخبل، وهذا هو النهاية في حب البخل، وهو المراد بقوله: ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾

ج. ثالثها: قوله: ﴿وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ فيوهمون الفقر مع الغنى، والإعسار مع اليسار، والعجز مع الإمكان.

6. هذا الكتمان قد يقع على وجه يوجب الكفر، مثل أن يظهر الشكاية عن الله تعالى، ولا يرضى بالقضاء والقدر، وهذا ينتهي إلى حد الكفر، فلذلك قال: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾

7. من قال الآية مخصوصة باليهود، فكلامه في هذا الموضع ظاهر، لأن من كتم الدين والنبوة فهو كافر، ويمكن أيضا أن يكون المراد من هذا الكافر، من يكون كافرا بالنعمة، لا من يكون كافرا بالدين والشرع.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 10/79.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ﴾ في موضع نصب على البدل من ﴿مِنْ﴾ في قوله: ﴿مَنْ كَانَ﴾ ولا يكون صفة، لأن ﴿مِنْ﴾ و﴿مَا﴾ لا يوصفان ولا يوصف بهما، ويجوز أن يكون في موضع رفع بدلا من المضمر الذي في فخور، ويجوز أن يكون في موضع رفع فيعطف عليه، ويجوز أن يكون ابتداء والخبر محذوف، أي الذين يبخلون، لهم كذا، أو يكون الخبر ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾، ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعني، فتكون الآية في المؤمنين، فتجيء الآية على هذا التأويل أن الباخلين منفية عنهم محبة الله، فأحسنوا أيها المؤمنون إلى من سمي فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان.

2. ﴿يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ البخل المذموم في الشرع هو الامتناع من أداء ما أوجب الله تعالى عليه، وهو مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ الآية، وقد مضى في آل عمران القول في البخل وحقيقته، والفرق بينه وبين الشح مستوفى.

3. المراد بهذه الآية في قول ابن عباس وغيره اليهود، فإنهم جمعوا بين الاختيال والفخر والبخل بالمال وكتمان ما أنزل الله من التوراة من نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقيل: المراد المنافقون الذين كان إنفاقهم وإيمانهم تقية، والمعنى إن الله لا يحب كل مختال فخور، ولا الذين يبخلون، على ما ذكرنا من إعرابه.

4. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ فصل تعالى توعد المؤمنين الباخلين من توعد الكافرين بأن جعل الأول عدم المحبة والثاني عذابا مهينا.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/193.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ هم في محل نصب بدلا من قوله: ﴿مَنْ كَانَ مُخْتَالًا﴾ أو على الذمّ، أو في محل رفع على الابتداء، والخبر مقدّر، أي: لهم كذا وكذا من العذاب، ويجوز أن يكون مرفوعا بدلا من الضمير المستتر في قوله: ﴿مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ ويجوز أن يكون منصوبا على تقدير: أعني، أو مرفوعا على الخبر، والمبتدأ مقدّر، أي: هم الذين يبخلون، والجملة في محل نصب على البدل، والبخل المذموم في الشرع: هو الامتناع من أداء ما أوجب الله، وهؤلاء المذكورون في هذه الآية، ضموا إلى ما وقعوا فيه من البخل الذي هو أشرّ خصال الشرّ ما هو أقبح منه وأدل على سقوط نفس فاعله، وبلوغه في الرذالة إلى غايتها، وهو أنهم مع بخلهم بأموالهم وكتمهم لما أنعم الله به عليهم من فضله.

2. ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ كأنهم يجدون في صدورهم من جود غيرهم بماله حرجا ومضاضة، فلا كثّر في عباده من أمثالكم، هذه أموالكم قد بخلتم بها لكونكم تظنون انتقاصها بإخراج بعضها في مواضعه، فما بالكم بخلتم بأموال غيركم؟ مع أنه لا يلحقكم في ذلك ضرر، وهل هذا إلا غاية اللؤم، ونهاية الحمق والرقاعة، وقبح الطباع، وسوء الاختيار، وقد تقدم اختلاف القراءات في البخل، وقد قيل: إن المراد بهذه الآية: اليهود، فإنهم جمعوا بين الاختيال والفخر والبخل بالمال وكتمان ما أنزل الله في التوراة؛ وقيل: المراد بها: المنافقون، ولا يخفى أن اللفظ أوسع من ذلك، وأكثر شمولا، وأعمّ فائدة.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/539.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ ءَاتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ﴾ من المال والعلم، و(الَّذِينَ) خبره: لهم عذاب شديد، وقرينهم الشيطان، أو مبغوضون، أو أحقَّاء بِكُلِّ لوم، أو بدل مِن (مَنْ)، أو يقدَّر: هم الذين، أو أذُمُّ الذين، أو مبتدأ عُطف عليه (الَّذِينَ)، والخبر: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ﴾، أي: لا يظلمهم، أو نعت (مَنْ)، وفي الإبدال من (مَنْ) تخلُّصٌ من دعوى الحذف، ومن نعت (مَنْ)، ومن كثرة الفصل، والمعنى: يبخلون بما أعطاهم الله من مال فلا يعطونه الوالدين ومَن ذُكِر، ويأمرون الناس أن يبخلوا بما أُعطُوا، ويكتمون ما أعطاهم من مال لئلَّا يطمع فيه الوالدان، ومن ذُكِر، ويكتمون العلم؛ فالآية تُوَزَّعُ بين من يصلح لِمَا فيها.

2. كتْمُ العلم في اليهود، يكتمون صفات محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والبخل فيهم وفي غيرهم، وقد قيل: نزلت في طائفة منهم جمعوا ذلك، أو عمَّت كلَّ من يكتم العلم، والكتم بالعلم أنسب تفسيرًا، وخصوص السبب لا ينافي عموم الحكم، فشمل كلَّ من كتم علمًا عن أهله، وكان بعض الناس يقول: (أمسك مالك تصلح به حالك)، وتقول اليهود ـ حيي بن أخطب، ورفاعة بن زيد، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وكردم بن زيد حليف كعب بن الأشرف ونحوهم ـ للأنصار: (لا تنفقوا مالكم على محمَّد، فإنَّا نخشى عليكم الفقر، ولا تدرون ما يكون)، وكتم اليهود صفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم .

3. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ﴾ أي: لهم، وأظهر في موضع الإضمار إشعارًا بأنَّ مَنْ هذا شأنُه فهو كافر للنعمة، وفي الحديث: (إنَّ الله يحِبُّ أن يَرى أثر نعمته على عبده)، أو هو عامٌّ لِكُلِّ من كفر بما ذكر أو غيره ﴿عَذَابًا مُّهِينًا﴾، كما أهان الإسلام والنعمة.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/185.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ أي بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به فيما تقدم‏ ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ أي ولا يكونون سبب الإحسان، بل يبخلون بذات أيديهم وبما في أيدي غيرهم، فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتا للسخاء ممن وجد، وفي أمثال العرب: أبخل من الضنين بنائل غيره، قال:

çوإن امرءا ضنّت يداه على امرئ‏... بنيل يد من غيره، لبخيل‏é

قال الزمخشريّ بعد حكاية ما تقدم: ولقد رأينا ممن بلي بداء البخل، من إذا طرق سمعه أن أحدا جاد على أحد، شخص به، وحل حبوته واضطرب، ودارت عيناه في رأسه، كأنما نهب رحله، وكسرت خزانته، ضجرا من ذلك وحسرة على وجوده.

2. ﴿وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي من المال والغنى، فيوهمون الفقر مع الغنى والإعسار مع اليسار والعجز مع الإمكان‏ ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بأن من هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله تعالى، ومن كان كافرا بنعمة الله تعالى فله عذاب يهينه، كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء.

3. قال أبو البقاء: في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ وجهان:

أ. أحدهما: هو منصوب بدل من‏ ﴿مِنْ﴾ في قوله: ﴿مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ وجمع على معنى‏ ﴿مِنْ﴾ ويجوز أن يكون محمولا على قوله: ﴿مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ وهو خبر ﴿كَانَ﴾ وجمع على المعنى أيضا، أو على إضمار: أذم.

ب. الثاني: أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره: مبغضون، ودل عليه ما تقدم من قوله: ﴿لَا يُحِبُّ﴾ ويجوز أن يكون الخبر: معذبون، لقوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ ويجوز أن يكون التقدير: هم الذين، ويجوز أن يكون مبتدأ ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ﴾ معطوف عليه، والخبر ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ﴾ أي يظلمهم.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/109.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله تعالى حال هؤلاء المتكبرين بقوله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ روى ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر بسند صحيح عن ابن عباس قال كان كردم ابن زيد حليف كعب بن الأشرف وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحري بن عمرو وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت (كلهم من اليهود) يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم فيقولون لهم لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون، فأنزل الله تعالى: ﴿الذين يبخلون إلى قوله وكان الله بهم عليما﴾ وروى ابن حميد وغيره عن قتادة أنه قال في الآية هم أعداء الله تعالى أهل الكتاب بخلوا بحق الله تعالى عليهم وكتموا الإسلام ومحمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.

2. بناء على هاتين الروايتين جعل المفسر (الجلال) الآية كلاما مستأنفا في اليهود، فجعل الذين يبخلون مبتدأ خبره محذوف وتقديره لهم وعيد شديد، والظاهر أنه بدل من قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ مُخْتَالًا﴾ أو صفة له على القول بوقوع الموصول موصوفا وعليه الزجاج، وقيل إنه منصوب أو مرفوع على الذم، وأقرب منه ومن قول الجلال أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هم الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل.

3. والبخل بضم فسكون وبه قرأ الجمهور وبالتحريك وبه قرأ حمزة والكسائي وقرئ بضمتين وبفتح وسكون وهما لغتان أيضا، قال محمد عبده: قال المفسر يبخلون بما آتاهم الله من العلم والمال وهم اليهود، وهما قولان فمن خص البخل بالبخل بالعلم جعل الكلام في اليهود ومن قال هو البخل بالمال لم يجعله في اليهود فالمفسر جمع بين القولين وخص الكلام باليهود واضطر لأجل ذلك إلى قطع الكلام وجعل ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ خبره محذوف وإن لم يوجد في الكلام ما يدل عليه، ولمن يحمل الكلام على اليهود مندوحة عن هذا القطع إلى أهون منه وهو القطع من ابتداء قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ﴾ الخ ومن العجيب أن مثل ابن جرير الطبري حمل الكلام على اليهود كأنه تعالى بعد تلك الأوامر بالإحسان ختم الكلام بقوله إن الله لا يحب اليهود، وما هذا بأقرب إلى البلاغة من القطع الأول.

4. وأعجب من قول ابن جرير تعليله إياه بأنه لا يوجد في الناس أمة تأمر الناس بالبخل على أنه دين فتعين أن يكون المراد بالبخل البخل بغير المال، وكأن ابن جرير لم يخبر الناس فإن من طبيعة البخيل الأمر بالبخل بحاله ومقاله ليسهل على نفسه خلقه الذميم ويجد له فيه أقرانا وأمثالا، وذكر محمد عبده أن من الناس من أمروه بالبخل مرارا، وإن أمرهم كان يؤثر في نفسه أحيانا، حتى أنه ربما رد يده بالدراهم إلى جيبه بعد إخراجها إذا كان للبخيل المنفر شبهة قوية كقوله إن هذا غير مستحق فإعطاؤه إضاعة وإذا وضع ما يراد إعطاؤه إياه في موضع كذا يكون خيرا وأولى.

5. إن هذا وقع لي أيضا حتى في هذا الأسبوع الذي أكتب فيه وأنا في القسطنطينية، وليس لدي الآن تفسير ابن جرير فأراجع عبارته فإني أرى العجب العجاب فيما نقله عنه الأستاذ هو مخالفته للرواية التي نقلتها آنفا عن بعض التفاسير في سبب النزول وهي مروية عنه وعن ابن إسحاق وابن المنذر، والذم على الأمر بالبخل لا يتوقف على الأمر به باسم الدين فليراجعه من شاء، وليتذكر القارئ ما نبهنا عليه من قبل في سبب النزول وهو أنهم يذكرون فيه الحوادث التي اقترنت بزمن نزول الآية إذا كانت تناسبها وإن لم تكن الآية نزلت في الحادثة التي ذكروها خاصة بأن تكون نزلت في سياق هي متممة له، ولكن الراوي رأى أنها تتناول تلك الحادثة، أو ظن أنها نزلت فيها خاصة، وقد يكون مخطئا في اجتهاده لمنافاة ذلك لأسلوب القرآن البليغ.

6. ولنعد إلى سياق محمد عبده في الآية قال ما مثاله: المتعين في السياق أن قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ تعليل لما قبله، وإن قوله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ الخ وصف لمن كان مختالا فخورا أو بدل منه ولم يذكر ما يبخلون به فيخصه بالمال لأن الإحسان بالوالدين وذي القربى وما عطف عليهم في الآية لم يكن مرادا به الإحسان بالمال فقط كما علم مما تقدم بل منه الإحسان بالقول والمعاملة، فالمراد بالبخل البخل بذلك الإحسان المأمور به فهو أعم من البخل بالمال فيشمل البخل بلين الكلام وإلقاء السلام والنصح في التعليم، وبالنفس لإنقاذ المشرف على التهلكة، وكذلك كتمان ما آتاهم الله من فضله يشمل كتمان المال وكتمان العلم، وجيء بعد الأول لتوبيخ أهله، وبيان أنهم لا حق لهم فيه، ويجوز أن يخص البخل بإمساك المال، ويجعل الكتمان عاما شاملا لما عداه من أنواع الإحسان، فالكلام في الإحسان، والمقصرون فيه إنما يقصرون بعلة الخيلاء والفخر، اللذين هما مظهر الترفع والكبر، فهو يبين لنا أن من كان ملوث النفس بتلك الرذيلة لا يكون محسنا، لأن الكبر يستلزم جحود الحق، ولا سيما إذا ظهرت آثاره بالقول والعمل، وجحود الحق يستلزم منعه ومنعه هو البخل، فبين أن الملوثين بذلك الخلق الذي يبغض الله صاحبه ولا يحبه (وهو الكبر البين أثره) يبخلون بما أمروا به من الإحسان ويأمرون الناس بالبخل إما بلسان المقال وإما بلسان الحال بأن يكونوا قدوة سيئة في ذلك، ويكتمون نعم الله تعالى عليهم بإنكارها وعدم الشكر عليها بالإنفاق منها.

7. ولذلك توعدهم بقوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ أي وهيأنا لهم بكبرهم وكفرهم، وبخلهم وعدم شكرهم، عذابا ذا إهانة يجمع لهم فيه بين الألم والمهانة والذلة جزاء كبرهم وقال للكافرين ولم يقل لهم للإيذان بأن هذه الأخلاق والأعمال إنما تكون من الكفور، لا من المؤمن الشكور.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/98.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم بين المختال الفخور فقال: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ روى ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس ـ كان جماعة من اليهود يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم، فيقولون: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا في النفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون، فأنزل الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ إلى قوله ـ ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾

2. المراد بالبخل في الآية البخل بالإحسان الذي أمر به فيما تقدم، فيشمل البخل بلين الكلام وإلقاء السلام والنصح في التعليم وإنقاذ المشرف على التهلكة، وكتمان ما آتاهم الله من فضله يشمل كتمان المال وكتمان العلم.

3. ثم بين عاقبة أمرهم وعظيم نكالهم فقال: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ أي وهيأنا لهؤلاء بكبرهم وبخلهم وعدم شكرهم عذابا يهينهم ويذلهم، فهو عذاب جامع بين الألم والذلة جزاء لهم على ما اقترفوا، وسماهم الله كفارا للإيذان بأن هذه أخلاق وأعمال لا تصدر إلا من الكفور، لا من المؤمن الشكور.

__________

(1) تفسير المراغى: 5/39.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. عقب الله تعالى على الأمر بالإحسان، بتقبيح الاختيال والفخر، والبخل والتبخيل، وكتمان نعمة الله وفضله، والرياء في الإنفاق؛ والكشف عن سبب هذا كله، وهو عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، واتباع الشيطان وصحبته.

2. وهكذا تتضح مرة أخرى تلك اللمسة الأساسية في المنهج الإسلامي، وهي ربط كل مظاهر السلوك، وكل دوافع الشعور، وكل علاقات المجتمع بالعقيدة، فإفراد الله ـ سبحانه ـ بالعبادة والتلقي، يتبعه الإحسان إلى البشر، ابتغاء وجه الله ورضاه، والتعلق بثوابه في الآخرة؛ في أدب ورفق ومعرفة بأن العبد لا ينفق إلا من رزق الله، فهو لا يخلق رزقه، ولا ينال إلا من عطاء الله.. والكفر بالله وباليوم الآخر يصاحبه الاختيال والفخر.

3. البخل والأمر بالبخل، وكتمان فضل الله ونعمته بحيث لا تظهر آثارها في إحسان أو عطاء؛ أو الإنفاق رياء وتظاهرا طلبا للمفخرة عند الناس؛ إذ لا إيمان بجزاء آخر غير الفخر والخيلاء بين العباد!

4. وهكذا تتحدد (الأخلاق).. أخلاق الإيمان، وأخلاق الكفر.. فالباعث على العمل الطيب، والخلق الطيب، هو الإيمان بالله واليوم الآخر، والتطلع إلى رضاء الله.. وجزاء الآخرة، فهو باعث رفيع لا ينتظر صاحبه جزاء من الناس، ولا يتلقاه ابتداء من عرف الناس! فإذا لم يكن هناك إيمان باله يبتغى وجهه، وتتحدد بواعث العمل بالرغبة في رضاه، وإذا لم يكن هناك اعتقاد بيوم آخر يتم فيه الجزاء.. اتجه هم الناس إلى نيل القيم الأرضية المستمدة من عرف الناس، وهذه لا ضابط لها في جيل واحد في رقعة واحدة، فضلا عن أن يكون لها ضابط ثابت في كل زمان وفي كل مكان! وكانت هذه هي بواعثهم للعمل، وكان هناك التأرجح المستمر كتأرجح أهواء الناس وقيمهم التي لا تثبت على حال! وكان معها تلك الصفات الذميمة من الفخر والخيلاء، والبخل والتبخيل، ومراءاة الناس لا التجرد والإخلاص!

5. والتعبير القرآني يقول: إن الله (لا يحب) هؤلاء.. والله ـ سبحانه ـ لا ينفعل انفعال الكره والحب، إنما المقصود ما يصاحب هذا الانفعال في مألوف البشر من الطرد والأذى وسوء الجزاء.

6. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾.. والإهانة هي الجزاء المقابل للفخر والخيلاء، ولكن التعبير القرآني يلقي ظلاله ـ إلى جوار المعنى المقصود ـ وهي ظلال مقصودة؛ تثير في النفوس الكره لهذه الصفات، ولهذه التصرفات؛ كما تثير الاحتقار والاشمئزاز، وبخاصة حين يضم إليها أن الشيطان هو قرينهم: ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾!

7. وقد ورد أن هذه النصوص نزلت في جماعة من يهود المدينة.. وهي صفات تنطبق على اليهود، كما تنطبق على المنافقين.. وكلاهما كان موجودا في المجتمع المسلم في ذلك الحين.. وقد تكون الإشارة إلى كتمانهم ما آتاهم الله من فضله، تعني كذلك كتمانهم للحقائق التي يعرفونها في كتبهم عن هذا الدين، وعن رسوله الأمين.. ولكن النص عام، والسياق بصدد الإحسان بالمال وبالمعاملة، فأولى أن نترك مفهومه عاما، لأنه الأقرب إلى طبيعة السياق، وحين ينتهي من عرض سوءات نفوسهم؛ وسوءات سلوكهم؛ ومن عرض أسبابها من الكفر بالله واليوم الآخر، وصحبة الشيطان واتباعه؛ ومن الجزاء المعد المهيأ لأصحاب هذه السوءات، وهو العذاب المهين.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/661.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ كاشف عن هذا الصنف المتعالي المتغطرس من الناس، ذلك الصنف الذي لو وجد إنسانا تتعلق حياته على قطرة ماء لما التفت إليه، ولما مد يده نحوه بتلك القطرة، ولو كانت الأنهار تجرى من تحته! وفي هذا التعقيب إشارة إلى اليهود، إذ هم الذين عزلوا أنفسهم عن المجتمع الإنساني وعدّوا أنفسهم خلقا آخر غير خلق الناس ـ ونسبوا أنفسهم إلى الله نسبة لا يشاركهم فيها غيرهم، فقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وسمّوا شعبهم شعب الله المختار!

2. في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ ما يكشف عن تلك الإشارة التي ضمّت عليها كلمات الله في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾، فهؤلاء المختالون الفخورون، الذين يبغضهم الله، هم الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، فقد بخل اليهود بما عندهم من علم الكتاب، وضنّوا به، فلم يقم منهم داعية يدعو إلى دين الله، ويبشر به بين العباد، من غير اليهود.. فكتموا دين الله، وبخلوا به، مع أنه يزداد على الإنفاق والإعطاء نورا إلى نور، وألقا إلى ألق! بل وأكثر من هذا، فإنهم تواصوا بالبخل، ودعا بعضهم بعضا إليه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾

3. وكما بخلوا بما عندهم من علم الكتاب، بخلوا بما في أيديهم من مال، بل إن بخلهم بالمال كان مضرب المثل في الدنيا كلها، إذ لا يعرف شعب من الشعوب استبدّ به هذا الداء مثل اليهود.

4. في قوله تعالى: ﴿يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ إشارة صريحة بعد تلك الإشارتين المضمرتين إلى اليهود، وما بخلوا به.. فقد كتموا ما أتاهم الله من فضله من كتاب، فيه هدى ورحمة للعالمين.. ولم يقفوا عند هذا، بل كتموا الدلائل والبشريات التي عرفوها في كتابهم هذا، عن النبي محمد، وقد كانت تلك الدلائل وهذه البشريات مصباحا يضى‏ء لهم الطريق إلى الدّين الجديد، قبل أن تلوح شعاعات فجره الوليد.. ولكنهم آثروا أن يمسكوا هذه الدلائل بين أيديهم، وأن يكتموا النّاس أمرها، وأن يترصّدوا مطلع النبيّ الجديد، ليسبقوا إليه، ويستحوزوا عليه، ويستخلصوه لهم من دون الناس، فكان أن حرمهم الله هذا الخير، وأورد الناس جميعا موارده، غير اليهود! وهكذا كان الجزاء عدلا وفاقا، مكروا فمكر الله بهم، وأرادوا حرمان الناس، فحرمهم الله.

5. في قوله تعالى: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ خطاب عام بالجزاء الذي سيلقاه كل كافر، وهو العذاب المهين، وأول من يقع عليه هذا الجزاء هم اليهود، الذين كفروا بمحمد وبما في يده من كتاب الله الذي في أيديهم خبره.

فهم المواجهون بهذا الخطاب، الذي يتناولهم أولا، ويمتد إلى غيرهم من الكافرين ثانيا.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/790.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾:

أ. يجوز أن يكون استئنافا ابتدائيا، جي‏ء به عقب الأمر بالإحسان لمن جرى ذكرهم في الجملة السابقة، ومناسبة إرداف التحريض على الإحسان بالتحذير من ضدّه وما يشبه ضدّه من كلّ إحسان غير صالح؛ فقوبل الخلق الذي دعاهم الله إليه بأخلاق أهل الكفر وحزب الشيطان كما دلّ عليه ما في خلال هذه الجملة من ذكر الكافرين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، فيكون قوله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ مبتدأ، وحذف خبره ودلّ عليه قوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾، وقصد العدول عن العطف: لتكون مستقلّة، ولما فيه من فائدة العموم، وفائدة الإعلام بأنّ هؤلاء من الكافرين، فالتقدير: الذين يبخلون أعتدنا لهم عذابا مهينا وأعتدنا ذلك للكافرين أمثالهم، وتكون جملة: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ معطوفة أيضا على جملة ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ محذوفة الخبر أيضا، يدلّ عليه قوله: ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا﴾ إلخ، والتقدير: والذين ينفقون أموالهم رثاء الناس قرينهم الشيطان، ونكتة العدول إلى العطف مثل نكتة ما قبلها.

ب. ويجوز أن يكون‏ ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ بدلا من (من) في قوله: ﴿مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ [النساء: 36] فيكون قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾ معطوفا على‏ ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾، وجملة ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ معترضة، وهؤلاء هم المشركون المتظاهرون بالكفر، وكذلك المنافقون.

2. والبخل ـ بضمّ الباء وسكون الخاء ـ اسم مصدر بخل من باب فرح، ويقال البخل ـ بفتح الباء والخاء ـ وهو مصدره القياسي، قرأه الجمهور ـ بضم الباء ـ وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف ـ بفتح الباء والخاء ـ، والبخل: ضدّ الجود وقد مضى عند قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ في سورة آل عمران، ومعنى و﴿يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ‏﴾ يحضّون الناس عليه، وهذا أشدّ البخل، قال أبو تمّام:

çوإنّ امر أضنّت يداه على امرئ‏... بنيل يد من غيره لبخيل‏é

3. والكتمان: الإخفاء، و﴿مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ يحتمل أنّ المراد به المال، كقوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [آل عمران: 180]؛ فيكون المعنى: أنّهم يبخلون ويعتذرون بأنّهم لا يجدون ما ينفقون منه، ويحتمل أنّه أريد به كتمان التوراة بما فيها من صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فعلى الاحتمال الأوّل يكون المراد بالذين يبخلون: المنافقين، وعلى الثاني يكون المراد بهم: اليهود؛ وهذا المأثور عن ابن عباس، ويجوز أن تكون في المنافقين، فقد كانوا يأمرون الناس بالبخل‏ ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾ [المنافقون: 7]

4. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾، عقبه، يؤذن بأنّ المراد أحد هذين الفريقين، وجملة: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ معترضة، وأصل و﴿أَعْتَدْنَا﴾ أعددنا، أبدلت الدال الأولى تاء، لثقل الدالين عند فكّ الإدغام باتّصال ضمير الرفع، وهكذا مادّة أعدّ في كلام العرب إذا أدغموها لم يبدلوا الدال بالتاء لأنّ الإدغام أخفّ، وإذا أظهروا أبدلوا الدال تاء، ومن ذلك قولهم: عتاد لعدّة السلاح، وأعتد جمع عتاد، ووصف العذاب بالمهين جزاء لهم على الاختيال والفخر.

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/126.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان ذكر ذلك النص الكريم بعد طلب الإحسان للإشارة إلى أن المتصف بهاتين الصفتين لا يمكن أن يكون محسنا لأحد ـ هو إيذاء بصفاته وبأفعاله، وهو مصدر الشر والتفرق في الجماعات، وقد بين الله سبحانه وتعالى حقيقتهم بأوصافهم، وذكرها سبحانه وتعالى صفة صفة، فقال: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ وإن من صفة هؤلاء المختالين أنهم بخلاء، ويحرضون الناس على البخل، ويكتمون ما أعطاهم الله من فضله، والبخل أن يضن الشخص في مواضع الخير، فليس البخل مرادفا للاستمساك بالمال؛ إذ إن الإنفاق في الشر والضنّ على الخير يسمى بخلا في لسان الشرع والعقل، كما أن الإنفاق في سبيل البر مهما يكثر لا يكون إسرافا، فتبرع أبى بكر بكل ماله في الحرب لا يسمى إسرافا، ومثل ذلك تبرع عمر بالشطر من ماله، وكذلك تبرع عثمان بالأموال الضخمة للمسلمين، ولهذا روى عن عبد الله بن عباس: (درهم في الشر إسراف وألف في الخير ليس بإسراف) فلا غرابة إذن إذا وجدنا المختالين ينفقون الألوف في المظاهر والاستعلاء، ومع ذلك وصفهم الله تعالى بالبخل، ولا تناقض بين وصفهم بالبخل، وكونهم مثل الذين ينفقون رئاء الناس؛ لأن كلا الوصفين ينبع من نفس واحدة، وهى الشح في الخير، ودأب هؤلاء أن يبخلوا وأن يحرضوا على طريقهم الذي سلكوه، ويسخروا ممن يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة؛ لأنهم في طبيعتهم لا يحسون إلا بأنفسهم، ولا يؤمنون بحق الغير عليهم.

2. ﴿وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ المراد بها كتمان المال في موضع البر، فهم أشحة على الخير يحسبونه مفنيا لمالهم، فيكتمون ما أعطاهم الله من مال بفضله، وعلى هذا سار بعض المفسرين، وحجته أن الكلام في المال، فالكتمان فيه، وقال آخرون: إن المراد كتمان العلم الذي أوتوه بفضل الله عليهم، وإرسال رسل كثيرين فيهم، ويكون النص في اليهود لأنهم يتصفون بكل هذا، ويرشح لذلك قوله تعالى في ختام الآية: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ وأرى أن يفسر الكتمان تفسيرا عاما يشمل العلم والمال.

3. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ معناه: وهيأنا للجاحدين لرسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ولوحدانية الله تعالى عذابا يهينهم ويذلهم، فإذا كانوا قد استكبروا وطغوا واستعلوا واختالوا في الدنيا، وهى متاع قليل، فالذل الدائم والهوان المستمر لهم في الآخرة، وتعقيب هذا النص السامي للأوصاف السابقة يشير إلى أن تلك الأوصاف أوصاف الكافرين الجاحدين بنعيم الله، لا أوصاف المؤمنين المقربين بأنعمه.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1680.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾، بعد أن أمر سبحانه في الآية السابقة بالبذل والإحسان هدد في هذه الآية من يبخل، ويأمر غيره بالبخل، وكل بخيل يأمر الناس بالبخل، بل كل مسي‏ء يود أن يجد له أقرانا وأمثالا، لكي تتوزع المسئولية على الجميع: ويتقي ألسنة القدح والذم.. وبديهة ان كثرة اللصوص لا تبرر اللصوصية، وتجعلها حلالا، بل تضاعف من جرمها وجريرتها، وما رأيت كلاما تستجيب له النفس كالأمر بالبخل والإمساك، ذلك ان المال عزيز يعادل الروح، ولا تسخو بشيء منه ـ في الغالبـ إلا بعد جهد جهيد، والأمر بالإمساك يصادف هوى في النفس، فتستجيب له بيسر وسهولة.

2. قال الشيخ محمد عبده عند تفسير هذه الآية: ان للآمرين بالبخل شبهة قوية، وقد أثرت في نفسي، فكنت أرد الدراهم الى جيبي بعد إخراجها، لأن المنفرين من الإنفاق كانوا يقولون لي: ان هذا غير مستحق، وإعطاؤه اضاعة، فإذا وضعت المال في مكان آخر يكون خيرا وأولى، والصحيح ما قلناه: ان الأمر بالبخل إنما يؤثر على المرء حين يجد هوى في نفسه، لا لقول المنفرين وشبهتهم، ومهما يكن، فان العظيم هو الذي يتغلب على هوى نفسه، ويرغمها على تقبل الشاق العسير، ان كان فيه خيرها وصلاحها، قال الإمام علي عليه السلام: أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه، وفي الحديث: أفضل الأعمال أحمزها، أي أشقها.

3. ﴿وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، وفضل الله سبحانه يشمل كل نعمة، ومنها المال والعلم، وكتمان العلم محرم، ونشره واجب، ولكن بأسلوب يبشر ولا ينفر، ويقرب ولا يبعد، لأن العلم وسيلة، والعمل هو الغاية، وقال بعض العلماء: ان الغني إذا كتم غناه، وتفاقر أمام الناس فقد فعل محرما، واستدل بهذه الآية، وبقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾، وفي الحديث: إذا أنعم الله على عبد نعمة أحب ان يرى أثر نعمته عليه.

4. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾، سياق الآية يدل على ان المراد بالكافرين هنا الذين كتموا فضل الله ونعمته، وعن الإمام موسى بن جعفر الصادق عليه السلام انه قال التحدث بنعم الله شكر، وترك ذلك كفر، وفي الآية 7 من سورة ابراهيم: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾، وعلى هذا يحمل الكفر في الآية على كفران النعم، لا على الكفر بمعنى جحود الالوهية.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/323.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ الآية أمرهم الناس بالبخل إنما هو بسيرتهم الفاسدة وعملهم به سواء أمروا به لفظا أو سكتوا فإن هذه الطائفة لكونهم أولي ثروة ومال يتقرب إليهم الناس ويخضعون لهم لما في طباع الناس من الطمع ففعلهم آمر وزاجر كقولهم.

2. وأما كتمانهم ما آتاهم الله من فضله فهو تظاهرهم بظاهر الفاقد المعدم للمال لتأذيهم من سؤال الناس ما في أيديهم، وخوفهم على أنفسهم لو منعوا وخشيتهم من توجه النفوس إلى أموالهم، والمراد بالكافرين الساترون لنعمة الله التي أنعم بها، ومنه الكافر المعروف لستره على الحق بإنكاره.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/356.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ فالبخل كما قال الراغب في (مفرداته): (إمساك المقتنيات عمّا لا يحق حبسها عنه، ويقابله: الجود)، ولعله هو المعنى الحقيقي وغيره مجاز كالبخل بالسلام، والبخل بالعلم، وفي الحديث: (البخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ) اللهم صلِّ على محمد وآله.

2. ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ بيانٌ لصفة المخالفين الذين لا يحبهم الله، لأنهم على صفات ضد صفات المؤمنين، ومِن أمرهم بالبخل قولهم: ﴿لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾ [المنافقون: 7] وهو من الأمر بالمنكر الذي هو من عادة الكفار والمنافقين.

3. ﴿وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ يعم كتمان المال عمّن يستحق أن يعطى أو يقرَض وكتمان العلم ومنه كتمان ما في التوراة مما كانوا مطالبين بإظهاره من صفات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وغير ذلك.

4. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ أعتدنا بمعنى أنه أعدّه لهم وهيأه سواء كانت التاء أصلية أو أصله أعددنا كما مر، والكافرين أهل الصفات المذكورة، إما لأنه كفر النعمة ـ وهو الأقربـ أو الكفر بالإيمان، والعذاب المهين: عذاب جهنم، وذكر الإهانة مناسب لاختيالهم وتكبرهم وفخرهم.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/76.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾، في أسباب النزول ـ للواحدي ـ قال أكثر المفسرين: نزلت في اليهود؛ كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يبينوها للناس، وهم يجدونها مكتوبة عندهم في كتبهم، وقال الكلبي: هم اليهود بخلوا أن يصدقوا من أتاهم صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونعته في كتابهم، وقال مجاهد: الآيات الثلاث إلى قوله: ﴿عَلِيمًا﴾، نزلت في اليهود، وقال ابن عباس وابن زيد: نزلت في جماعة من اليهود كانوا يأتون رجالًا من الأنصار يخالطونهم وينصحونهم ويقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر، فأنزل الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾، ونلاحظ أن الآراء الأولى تنسجم مع الفقرة الثانية من الآية وهي‏ ﴿وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، أما رواية ابن عباس وابن زيد، فهي تنطبق مع الفقرة الأولى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ وربما كان الوجهان صادرين عن اجتهاد ذاتيّ من المفسرين لا عن رواية.

2. ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ وتلك هي صفة المختالين الفخورين؛ فإن هاتين الصفتين الذميمتين تمنعان الإنسان عن الانفتاح على الفئات المحرومة في المجتمع التي هي أقل منه مالا وجاها، وتوحيان إليه بالحرص على ما عنده من المال الذي أوصله إلى هذه المكانة، ورفعه إلى هذه الدرجة؛ ويتنامى لديه هذا الشعور الأنانيّ الضيق، الذي يسجنه في داخل ذاته، فيخيّل إليه أن الدنيا تتجمّع في شخصه، فلا وجود إلا له، ولا مصلحته إلا مصلحته؛ فالمهم عنده أن يعيش ويشبع ويرتوي ويستمتع بالحياة، ولا قيمة لحياة الآخرين ولحاجاتهم المعيشية، فلما ذا يهتم بهم أو يعتني بأمرهم، ما دامت حياتهم‏ غير مرتبطة بحياته؟ بل ربما يمتد به الأمر إلى الإحساس بالخوف على ماله منهم، وذلك لما يخيّل إليه من شعورهم بالحسد ضدّه، وهكذا تتحول الأنانية في نفسه إلى عقدة مرضيّة، تمنعه من العطاء والمشاركة والامتداد في حياة الآخرين؛ وهذا هو سر البخل الذي يتحكم في سلوكه، في ما يحتاج الناس إليه من العطاء، لأن الكرم خلق رفيع يتحرك في داخل النفس المنفتحة الممتدة في حياة الناس، على أساس إحساسها العميق بإنسانيتها التي تتصل بإنسانيتهم، وانطلاقها الواسع في رحاب الإيمان الذي يجد في العطاء تأكيدا للثقة بالله الذي منه العطاء، وإليه يرجع؛ فهو صاحب الفضل في ما يعطي، وما يأخذ، وهو الذي يفيض على الإنسان نعمه في البداية، وفي النهاية، فلما ذا البخل، ولماذا الحرص؛ إذا كانت خزائن الله لا تنفد وكرمه لا يضيق عن أحد؟

3. وهكذا أراد الله أن يعطينا ملامح هؤلاء المختالين الفخورين، من خلال سلوكهم في مواقع العطاء؛ فهم لا يكتفون بالبخل، بل يتنكرون للعطاء من قبل الآخرين الذين يعيشون العطاء كقيمة إنسانية روحية كبيرة، فيأمرونهم بالبخل ويخوفونهم بالفقر ويصوّرون لهم الواقع الذي تعيشه الفئات المحرومة بغير صورته الحقيقية؛ فهذا الإنسان لا يستحق العطاء لكذا، وذاك لا يستحق الإكرام لكذا.. وهكذا يستمرون في إثارة الشكوك وتفويت الفرص، وإضعاف الهمم، وتجفيف منابع الخير في قلوب الناس، لأنهم لا يريدون أن يحرجهم الآخرون في ما يعطون، ولا يحبّون للعطاء أن‏ يمتد أثره لدى الناس، لأنه ينعكس سلبيا على مواقعهم الاجتماعية، بما يكشفه من أنانياتهم وضعفهم وصغارهم في أنفسهم عندما يبدأ الناس المقارنة بينهم وبين الكرماء الطيبين من الأمة، ثم ذكر لنا أنهم يكتمون ما آتاهم الله من فضله، في ما أنعمه عليهم من نعمة التي أراد لهم أن يبذلوها للناس، سواء كان ذلك مالا أو علما أو جاها، فلكل نعمة من هذه النعم مسئولية لا بدّ أن يقوم بها الإنسان في نفسه وفي الآخرين، ولكنهم يكتمونها، لأن إظهارها لا يلتقي مع طبيعة الأنانية المتحكمة في نفوسهم؛ وقد يبرز ذلك في أساليبهم المتنوعة التي يحاولون أن يظهروا بها أنهم فقراء لا يملكون شيئا؛ خشية أن يطالبهم الناس بالعطاء.

4. إذا صح ما جاء في أحاديث أسباب النزول ـ التي أشرنا إليها في صدر هذا الحديث التفسيري عن هذه الآيات ـ من أن المقصود بهؤلاء المختالين، الفخورون الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل في أوضاعهم المادية ويكتمون ما آتاهم الله من فضله، مما أعطاهم الله من العلم بالنبي المبعوث في صفاته وعلامات رسالته ونبوّته، فإننا نرى أنهم يمثلون النموذج السلبي في واقع الإنسان الذي لا يريد الله للناس أن يقتدوه، لأنه يريد للإنسان أن يعيش روحية العطاء مما رزقه الله لمن يحتاج إلى ماله، كما يحب له أن يقدم للناس العلم الذي أتاه الله من فضله، لأن الحقيقة كالماء والهواء، ليست ملكا ذاتيا لأيّ إنسان، بل هي هبة الله للإنسان كله وللحياة كلها، لأنها هي التي توضّح له الرؤية، وتعمق له المعرفة، وتحقق له التوازن في خطواته وعلاقاته وأوضاعه العامة والخاصة في الحياة، باعتبار أن الباطل يبتعد به عن ذلك كله ويمنعه من أن يتصور الواقع في صورته الحقيقية، مما يجعله منحرفا عن خط الاستقامة في الفكر والعمل.

5. وعلى ضوء ذلك، فقد نستوحي من الآية، أن على العلماء الواعين أن‏ يجاهدوا بعلمهم ولا يخافوا من إعلان الحق لأهله، حتى لو كان ذلك على خلاف الذهنيات الخرافية الجاهلة المنحرفة التي تقف ضد كل رأي يختلف عما هو مألوف عندها من عقائد الآباء والأجداد ومفاهيمهم الخاطئة التي تسي‏ء إلى الإسلام وإلى المسيرة كلها، وأن لا يتعقدوا من النتائج السلبية النفسية التي قد تحصل لهم إذا كان صاحب الحقيقة مختلفا معهم أو بعيدا عنهم؛ الأمر الذي لا ينسجم مع مزاجهم الذاتي في الإقرار بفضله وبكفاءته وبقيمته العلمية وبصحة طريقته ورأيه العلمي في هذا الجانب أو ذاك، وأن لا ينهزموا أمام الحملات والاتهامات الظالمة التي قد توجّه إليهم من الجاهلين والمنحرفين، فإن على المفكر الحرّ المنفتح على الحق أن يدفع ضريبة أخلاقية للحقيقة وانفتاحه عليها.

6. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ وقد تحدث عن الكافرين في نطاق حديثه عن المختالين، للإيحاء بأن الإيمان لا يلتقي مع البخل، ولا ينسجم مع الأنانية والخيلاء والتجبر والتكبر والفخر، بل يلتقي مع التواضع والخشوع والرقّة والقلب الكبير، فإذا عاش المؤمن مثل تلك الصفات الذميمة، فإن ذلك يعني أنه يتحرك في أخلاقه من مواقع الخط الكافر، لأن الشيطان هو الذي يوحي للإنسان بذلك ويخوفه من الفقر، ﴿وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا﴾ [البقرة: 268]، وفي ضوء ذلك، يلتقي الإنسان بالكفر العملي في سلوكه، في الوقت الذي يبتعد عنه في تفكيره؛ الأمر الذي يجعل مصيره، في بعض الحالات، مصير الكافرين في ما ينتظرهم من العذاب على ما قدموه من معاص وجرائم.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/266.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية الكريمة تعقيب على الآيات السابقة وإشارة إلى المتكبرين إذ تقول: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ هذا مضافا إلى أنّهم يسعون دائما أن يخفوا عن الآخرين ما تفضل الله عليهم به من الخير كيلا يتوقع المجتمع منهم شيئا ﴿وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾

2. ثمّ يقول عن نهاية هذا الفرق من الناس وعاقبة أمرهم: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ ولعل السرّ في استخدام هذا التعبير في حق هذه الطائفة هو أن‏ (البخل) ينبع في الغالب من الكفر، لأنّ البخلاء لا يمتلكون الإيمان الكامل بالمواهب الربانية المطلقة والوعود الإلهية العظيمة للمحسنين، إنّهم يتصورون أنّ مساعدة الآخرين وتقديم العون إليهم يجرّ إليهم التعاسة والشقاء، وأمّا الحديث عن الخزي في عذاب هؤلاء، فلأن الجزاء المناسب للتكبر والاستكبار هو العذب المهين.

3. ثمّ إنّه لا بدّ من الالتفات إلى أنّ البخل لا يختص بالأمور المالية، بل يشمل كل نوع من أنواع الموهبة الإلهية، فثمّة كثيرون لا يعانون من صفة البخل الذميمة في المجال المالي، ولكنّهم يبخلون عن بذل العلم أو الجاه أو الأمور الأخرى من هذا القبيل.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/234.

41. الرياء والكفر

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈41⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ [النساء: 38 ـ 39]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ الآية، نزلت في اليهود(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٥٣.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: نزلت في المنافقين(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/٣٠٧.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ يعني: اليهود، ﴿وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ يقول: لا يصدقون بالله أنه واحد لا شريك له، ولا يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن، ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا﴾ يعني: صاحبا ﴿فَسَاءَ قَرِينًا﴾ يعني: فبئس الصاحب(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ﴾ يعني: وما كان عليهم ﴿لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ يعني: بالبعث، ﴿وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ﴾ من الأموال في الإيمان ومعرفته، ﴿وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ أنهم لن يؤمنوا(2).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٧٢.

(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٧٣.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله عزّ وجل: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ الآية أي سرّا:

أ. وقيل: إنها نزلت في المنافقين: كانوا ينفقون مراءاة، ويصلون مراءاة كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين بذلك، وكانوا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر سرّا.

ب. وقيل: إنها نزلت في الذين يسعون في معاداة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يخرجون معه ينفقون أموالهم مراءاة للناس، يطلبون بذلك الرئاسة.

2. قوله عزّ وجل: ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل أن يكون هذا في الدنيا كقوله: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ﴾ الآية.

ب. ويحتمل في الآخرة؛ كقوله تعالى: ﴿فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ [الزخرف: 38 ـ 39] فهذا لأن كلّا منهم كان يقبح الشيطان ويأنف عنه، ويحسّن الملائكة ويحمدهم، حتى ضرب مثل القبح من الأشياء بالشياطين؛ كقوله: ﴿طَلْعُها كَأَنَّهُ رؤوس الشَّياطِينِ‏﴾ [الصافات: 65] وضرب مثل الحسن بالملائكة، وذلك لمعرفتهم بقبح الشياطين وحسن الملائكة؛ وذلك إنما عرفوا بالخبر؛ لأنهم لم يعاينوا ملكا عرفوا حسنه بالمعاينة، ولا شاهدوا شيطانا عرفوا قبحه بالمشاهدة، ولكنهم عرفوا ذلك بالخبر؛ ففيه دليل إثبات النبوة؛ لأنهم ما عرفوا ذلك إلا بهم، دل‏ استقباح الجميع الشياطين واستنكارهم، واستحسانهم الملائكة واستعظامهم من غير أن شهدوا من أحد من الفريقين ـ على قبول الأخبار؛ إذ عن الألسن نطقوا به؛ وعلى إثبات الرسالة؛ إذ هم جاؤوا بالآثار عمن شهدهم وأنشأهم.

3. قوله عزّ وجل: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، هذا صلة قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ فمعنى قوله: فما ذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر: والله أعلم ـ وذلك أنهم كانوا ينفقون مراءاة طلب الرئاسة وإبقائها؛ فقال: لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله تبقى لهم تلك الرئاسة، ويكون لهم الذكر؛ بل لو آمنوا كان ذلك في الإيمان أكثر ذكرا، وأعظم قدرا ومنزلة؛ ألا ترى أنه من أسلم منهم من الأئمة من نحو ابن سلام وغيره كان لهم ذكر في الإسلام وبعد موتهم من غير حاجة وقعت بهم إليهم في حق شرائع الإسلام، ومن مات منهم على الكفر لم يذكر أبدا، فأخبر الله سبحانه وتعالى أن ليس في الإيمان بالله واتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ذهاب شيء مما يخافون ذهابه من‏ وصولها إليهم، وغير ذلك؛ حيث قالوا: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ [القصص: 57] فقال: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي: لم يكن مما خافوا باتباع الهدى قليلا ولا كثيرا.

4. قوله عزّ وجل: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: أنه كان على علم منه بما يفعلون من فعل الكفر والشر ونحوه من خلق إبليس، لا عن جهل ولا غفلة، ليس كصنيع ملوك الأرض أنهم إذا فعلوا فعلا ثم استقبل الخلاف فإنما يكون ذلك لفعله منهم وجهل بالعواقب، فالله سبحانه وتعالى كان لم يزل عالما بهم، لكنه تركهم على ذلك لما لا يلحقه الضرر بالعصيان، ولا النفع بالطاعة، بل حاصل الضرر والنفع يرجع إليهم.

ب. الثاني: يخرج مخرج التحذير لهم والتنبيه؛ لأن من علم أن آخر يعلم بصنيعه كان أحذر وأخوف ممن يعلم أنه ليس عليه حافظ ولا رقيب، وعلى هذا يخرج قوله: ﴿كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار: 11 ـ 12] ليكونوا على حذر من ذلك.

ج. وقيل: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ أنهم لن يؤمنوا، وفي: كان على إرادة نفي حدثية العلم، أو أخبر بعلمه بفعلهم وما لهم من الجزاء.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/183.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ نزلت في المنافقين ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾ القرين هو الصاحب الموافق كما قال عدي بن زيد:

çعن المرء لا تسأل وسل عن قرينه... فإن قرين بالمقارن مقتديé

2. أصل القرين الاقتران والقرن بالكسر المناسب لاقترانه بالصفة والقرن أهل العصر لاقترانهم في الزمان أي أنه مقارن للشيطان في فعله.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/178.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنهم اليهود، وهو قول مجاهد.

ب. الثاني: هم المنافقون، وهو قول الزجاج.

2. ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾ القرين هو الصاحب الموافق، كما قال عدي بن زيد:

çعن المرء لا تسأل وأبصر قرينه‏...فإن القرين بالمقارن مقتدي‏é

وأصل القرين من الأقران، والقرن بالكسر المماثل لأقرانه في الصفة، والقرن بالفتح: أهل العصر لاقترانهم في الزمان، ومنه قرن البهيمة لاقترانه بمثله.

3. في المراد يكون قرينا للشيطان قولان:

أ. أحدهما: أنه مصاحبه في أفعاله.

ب. الثاني: أن الشيطان يقترن به في النار.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/488.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله: ﴿وَالَّذِينَ﴾ عطف على (الذين) في الآية الأولى، واعرابه يحتمل ما قلناه في الآية الأولى سواء:

أ. وقال الزجاج وغيره: المعني بهذه الآية المنافقون.. وهو أقوى وأظهر، لأن الرياء ضرب من النفاق وواو العطف يقوي ذلك، لأنه لو أراد الموصوفين في الآية الأولى لقال: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ﴾، مع أنه قد ورد عطف الصفات بالواو لموصوف واحد على ما بيناه فيما مضى، غير أن الأجود ما قلناه.

ب. وقال مجاهد: المعني بها اليهود.

2. ذم الله تعالى بهذه الآية من ينفق ماله رئاء الناس دون أن ينفقه لوجهه وطلب رضاه، ولا يؤمن بالله أي لا يصدق به، ﴿وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ الذي فيه الثواب والعقاب، ثم قال: ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾ معناه من قبل من الشيطان، وأطاعه فيما يدعوه إليه فبئس القرين قرينه، والقرين أصله‏ الاقتران، ومنه قرن الثور لاقتران بعض ببعض، والقرن أهل العصر من الناس، وقرنة الشيء حرفه، والقرن المقاوم في الحرب، ﴿وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ أي مطيقين، والقرين الصاحب المألوف، قال عدي بن زيد:

çعن المرء لا تسأل وأبصر قرينه‏...فان القرين بالمقارن يقتدي‏é

ويمكن الإنسان الانفكاك من مقارنة الشيطان بالمخالفة له، فلا يعتد بالمقارنة، وقال أبو علي: لا يمكن ذلك، لأنه يقرن به الشيطان في النار فلا يمكنه الانفكاك منه.

3. ﴿فَسَاءَ قَرِينًا﴾ نصب على التفسير، كقوله: ﴿سَاءَ مَثَلًا﴾، وتقديره: ساء مثلا مثل الذين وتقول: نعم رجلا، وتقديره نعم الرجل رجلا.

4. معنى قوله تعالى: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ الآية الاحتجاج على المتخلفين عن الايمان بالله واليوم الآخر بما عليهم فيه ولهم، وذلك أنه يجب على الإنسان أن يحاسب نفسه فيما عليه وله، فإذا ظهر له ما عليه في فعل المعصية من استحقاق العقاب اجتنبها، وما له في تركها من استحقاق الثواب عمل في ذلك من الاختيار له، أو الانصراف عنه، وفي ذلك دلالة على بطلان قول المجبرة في أن الكافر لا يقدر على الايمان، لأن الآية نزلت على أنه لا عذر للكفار في ترك الايمان، ولو كانوا غير قادرين لكان فيه أوضح العذر لهم، ولما جاز أن يقال: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ﴾ لأنهم لا يقدرون عليه، كما لا يجوز أن يقال لأهل النار: ماذا عليهم لو خرجوا منها إلى الجنة، من حيث لا يقدرون عليه، ولا يجدون السبيل إليه، ولذلك لا يجوز أن يقال للعاجز: ماذا عليه لو كان صحيحاً، ولا للفقير: ماذا عليه لو كان غنياً.

5. موضع (ذا) يحتمل من الاعراب وجهين:

أ. أحدهما: أن يكون رفعاً، لأنه في موضع الذي، وتقديره: ما الذي عليهم لو آمنوا.

ب. الثاني: لا موضع له، لأنه مع (ما) بمنزلة اسم واحد، وتقديره: وأي شيء عليهم لو آمنوا بالله، ففي الآية تقريع على ترك الايمان بالله واليوم الآخر، وتوبيخ على الإنفاق مما رزقهم الله في غير أبواب البر وسبيل الخير على وجه الإخلاص، دون الرياء.

6. ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ معناه هاهنا ان الله بهم عليم، يجازيهم بما يسرون من قليل أو كثير، فلا ينفعهم ما ينفقونه على جهة الرياء.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/198.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الإنفاق: إخراج، المال إلى من ينفقه عليه، والرئاء أن يُظهِر خلاف ما يبطن، ومنه ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ وأصله من الرؤية، وهمزت همزتين لأن الهمزة الأولى من الأصل، وهو عين الفعل تقول: رأيت فالعين مهموزة، والهمزة الثانية التي بعد الألف همزة بدل من الياء التي هي لام الفعل، تقول: رأيت، غلام الفعل هي الياء فلما وقعت لام الفعل بعد الألف أبدلت مكانها همزة.

ب. القرين: فَعِيل من الأقران، ومنه المقرِن، وهو أهل العصر من الناس لاقترانهم، ومنه: القِرن المقاوم في الحرب، ومنه ﴿وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ أي مطيقين.

2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾:

أ. قيل: نزلت الآية في المنافقين عن السدي والزجاج والأصم وغيرهم، واستدلوا بقوله: ﴿رِئَاءَ النَّاسِ﴾، وكانوا ينفقون وَيَصِلُونَ الأرحام؛ لأن فيه ضربًا من النفاق.

ب. وقيل: نزلت في اليهود، أنفقوا في عداوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن مجاهد.

ج. وقيل: في مشركي مكة أنفقوا في عداوته صلّى الله عليه وآله وسلّم ببدر وغيره.

3. عطف الله تعالى بذكر صفة المتقين على صفة الكفار، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ يعني مراءاة للناس وفي غير عبادة الله وفي غير سبيل الخير، بل في سبيل الشيطان.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾:

أ. قيل: هم المنافقون لم يؤمنوا حقيقة الإيمان.

ب. وقيل: هم اليهود، شبهوا الله بخلقه.

ج. وقيل: المشركون.

5. ﴿وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ يعني القيامة:

أ. قيل: كانوا ينكرون البعث، هذا إذا حمل على مشركي العرب.

ب. وقيل: هم اليهود، وأنكروا الجزاء على ما يقوله، وأنكروا الأكل والشرب في الجنة.

6. ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا﴾ وإنما اتصل الكلام بذكر الشيطان تقريعًا لهم حيث أنفقوا في السبيل الذي دعاهم إليه وزين لهم واتبعوه، ولم يتبعوا أمر الله ولا أمر رسوله:

أ. وقيل: قرينًا أي خليلاً وصاحبًا في الدنيا يتبع أمره ويعمل بطاعته ويوافقه على الكفر.

ب. وقيل: الشيطان قرينًا لأصحاب هذه الأفعال في النار.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَسَاءَ قَرِينًا﴾:

أ. قيل: أي بئس القرين الشيطان؛ لأنه يدعوه إلى المعصية المؤدية إلى النار.

ب. وقيل: بئس القرين في الآخرة حيث يتلاعنان ويتباغضان في النار.

8. سؤال وإشكال: هل يمكن الإنسان الانفكاك من مقارنة الشيطان؟ والجواب:

أ. مَنْ حَمَله على الدنيا أمكنه، بأن يخالفه ولا يتبعه ويستعيذ بِاللهِ منه.

ب. ومن حمله على الآخرة قال: لا يمكنه؛ لأنه يقرن به تعذيبًا له فلا يمكنه دفعه.

9. ثم لما تقدم ذكر الكفار والمنافقين عقبه بالتوبيخ والتقريع لهم على تركهم الإيمان والإنفاق، فقال تعالى: ﴿وَمَا ذَا عَلَيْهِمْ﴾ يعني أي شيء عليهم.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا﴾:

أ. قيل: بعد إلزام الحجة عليهم.

ب. وقيل: فيه بيان لسوء اختيارهم، أي لو كانوا مؤمنين منفقين لكان خيرًا لهم.

ج. وقيل: فيه بيان أنه لا عذر لهم في ترك الإيمان والإنفاق في سبيل الله.

د. وقيل: ماذا عليهم لو جمعوا إلى إنفاقهم الإيمان لينفعهم الإنفاق.

11. ﴿بِاللهِ﴾ أي بتوحيده وعدله ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي بيوم القيامة والبعث ﴿وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ﴾ أعطاهم من النعم ﴿وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾:

أ. أي لا ينفعهم الرياء مع علمه بسرائرهم فإنه يجازيهم بها.

ب. وقيل: عليم بأفعالهم يجازيهم بخيرها وشرها، فإذا علم المكلف ذلك وراجع نفسه وحاسب ما له وما عليه، علم أن الأنفع له طاعة ربه، قال الأصم: وهذا وعيد لهم، كقول الرجل لمن يوعده: أنا أعرفك وأعرف أفعالك.

12. تدل الآية الكريمة على:

أ. ذم من أنفق ماله رئاء وسمعة أو في معصية.

ب. أن من اتبع الشيطان وقَبِلَ قوله فهو قرينه.

ج. أن كل من اتبع مبتدعًا فإنه يكون قرينه.

د. أن الشيطان يقرن بمن اتبعه في النار.

هـ. أن الواجب الإيمان والإنفاق في سبيل الله وأنه يستحق الجزاء عليهما.

و. أن الكفار ممكنون من الإيمان؛ لأنه لا يجوز أن يقال توبيخًا عليهم: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ﴾ وهم غير قادرين أو مضطرين، فيبطل بذلك قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق والاستطاعة والإرادة وتدل على أن الرزق لا يكون إلا حلالاً من حيث حث على إنفاقه، وإنفاق الحرام محظور.

ز. أن في المال حقوقًا لازمة كلزوم الإيمان كالزكاة ونحوها.

ح. إثبات المعاد.

13. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿وَالَّذِينَ﴾ محله نصب عطفًا على قوله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ وقيل: محله خفض عطفًا على قوله: ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ كأنه قيل: أعتدنا للكافرين الَّذِينَ ينفقون.

ب. ﴿رِئَاءَ﴾ نصب على الحال أي ينفقون في حال الرياء.

ج. نصب ﴿قَرِينًا﴾ قيل: على التفسير والتمييز، وقيل: على الحال، وقيل: على القطع بإلقاء الألف واللام منه، كما تقول: نعم رجلاً عبد الله، تقديره نعم الرجل عبد الله، فلما حذف الألف واللام نصب كقوله: ﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾، ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ وقيل: تقديره ساء الشيطان قرينًا.

د. موضع ﴿مَاذَا﴾ من الإعراب فيه وجهان: قيل: رفع على أنه في موضع الذي، وتقديره: ما الذي عليهم؟ وقيل: لا موضع له؛ لأنه مع ﴿مَا﴾ بمنزلة اسم واحد، وتقديره: أي شيء عليهم لو آمنوا.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/628

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. القرين: أصله من الاقتران، ومنه القرن لأهل العصر، لاقترانهم، والقرن: المقاوم في الحرب، والقرين: الصاحب المألوف، وقال عدي بن زيد:

çعن المرء لا تسأل وأبصر قرينه... فإن القرين بالمقارن يقتديé

2. عطف الله تعالى على ما تقدم بذكر المنافقين فقال: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ أي مراءاة الناس، ﴿وَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ أي ولا يصدقون ﴿بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ الذي فيه الثواب والعقاب، جمع الله سبحانه في الذم والوعيد، بين من ينفق ماله بالرياء والسمعة، ومن لم ينفق أصلا.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا﴾:

قيل: أي صاحبا وخليلا في الدنيا، يتبع أمره، ويوافقه على الكفر.

وقيل: يعني في القيامة، وفي النار.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَسَاءَ قَرِينًا﴾:

أ. قيل: أي بئس القرين الشيطان، لأنه يدعوه إلى المعصية المؤدية إلى النار.

ب. وقيل: بئس القرين الشيطان حيث يتلاعنان ويتباغضان في النار.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ﴾:

أ. قيل: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ﴾ أي أي شيء عليهم، ﴿لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ﴾ قطع الله سبحانه بهذا عذر الكفار في العدول عن الايمان، وأبطل به قول من قال: إنهم لا يقدرون على الايمان، لأنه لا يحسن أن يقال للعاجز عن الشئ: ماذا عليك لو فعلت كذا، فلا يقال للقصير: ماذا عليك لو كنت طويلا؟وللأعمى: ماذا عليك لو كنت بصيرا؟

ب. وقيل: معناه ماذا عليهم لو جمعوا إلى إنفاقهم الايمان بالله، لينفعهم الانفاق.

6. ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ يجازيهم بما يسرون إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فلا ينفعهم ما ينفقون على جهة الرياء.

7. في الآية دلالة أيضا على أن الحرام لا يكون رزقا من حيث إنه سبحانه حثهم على الانفاق مما رزقهم، وأجمعت الأمة على أن الانفاق من الحرام محظور.

8. مسائل لغوية ونحوية:

أ. اعراب (الذين) يحتمل أن يكون ما قلناه في الآية المتقدمة، ويحتمل أن يكون عطفا على ﴿الْكَافِرِينَ﴾، فكأنه قال: وأعتدنا للكافرين، وللذين ينفقون أموالهم.

ب. ﴿رِئَاءَ النَّاسِ﴾ رئاء: مصدر وضع موضع الحال، فكأنه قال ينفقون مرائين الناس.

ج. ﴿قَرِينًا﴾ نصب على التفسير.

د. مرضع ذا من ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ﴾: يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مرفوعا، لأنه في موضع الذي، وتقديره وما الذي عليهم لو آمنوا، والثاني: أن يكون لا موضع له، لأنه مع ما بمنزلة اسم واحد، وتقديره وأي شئ عليهم لو آمنوا.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/75.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلفوا فيمن نزل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ على ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس ومجاهد ومقاتل.

ب. الثاني: أنهم المنافقون، قاله السّدّيّ، والزجّاج وأبو سليمان الدّمشقيّ.

ج. الثالث: مشركو مكّة أنفقوا على عداوة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ذكره الثّعلبيّ.

2. القرين: الصاحب المؤالف، وهو فعيل من الاقتران بين الشّيئين، وفي معنى مقارنة الشّيطان قولان:

أ. أحدهما: مصاحبته في الفعل.

ب. الثاني: مصاحبته في النّار.

3. ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ﴾ المعنى: وأيّ شيء على هؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله، لو آمنوا!، وفي الإنفاق المذكور هاهنا قولان:

أ. أحدهما: أنه الصّدقة، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: الزّكاة، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

4. في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ تهديد لهم على سوء مقاصدهم.

__________

(1) زاد المسير: 1/406.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إن شئت عطفت‏ ﴿الَّذِينَ﴾ في هذه الآية على‏ ﴿الَّذِينَ﴾ في الآية التي قبلها، وإن شئت جعلته في موضع خفض عطفا على قوله: ﴿لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [النساء: 37]

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قال الواحدي: نزلت في المنافقين، وهو الوجه لذكر الرئاء، وهو ضرب من النفاق.

ب. وقيل: نزلت في مشركي مكة المنفقين على عداوة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

3. الأولى أن يقال: إنه تعالى لما أمر بالإحسان إلى أرباب الحاجات، بين أن من لا يفعل ذلك قسمان:

أ. الأول: هو البخيل الذي لا يقدم على إنفاق المال ألبتة، وهم المذمومون في قوله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ [النساء: 37]

ب. الثاني: الذين ينفقون أموالهم، لكن لا لغرض الطاعة، بل لغرض الرياء والسمعة، فهذه الفرقة أيضا مذمومة، ومتى بطل القول بهذين القسمين لم يبق إلا القسم الأول، وهو إنفاق الأموال لغرض الإحسان.

4. ثم قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾، والمعنى: أن الشيطان قرين لأصحاب هذه الأفعال كقوله: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَلَهُ قَرِينٌ‏﴾ [الزخرف: 36] وبين تعالى أنه بئس القرين، إذ كان يضله عن دار النعيم ويورده نار السعير وهو كقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [الحج: 3، 4]

5. ثم انه تعالى عيرهم وبين سوء اختيارهم في ترك الإيمان، فقال: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾، وقوله: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ﴾ استفهام بمعنى الإنكار، ويجوز أن يكون (ماذا) اسما واحدا، فيكون المعنى: وأي الشيء عليهم، ويجوز أن يكون (ذا) في معنى الذي، ويكون (ما) وحدها اسما، ويكون المعنى: وما الذي عليهم لو آمنوا.

6. احتج القائلون بأن الايمان يصح على سبيل التقليد بهذه الآية فقالوا: إن قوله تعالى: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا﴾ مشعر بأن الإتيان بالإيمان في غاية السهولة، ولو كان الاستدلال معتبرا لكان في غاية الصعوبة، فانا نرى المستدلين تفرغ أعمارهم ولا يتم استدلالهم، فدل هذا على أن التقليد كاف، وأجاب المتكلمون بأن الصعوبة في التفاصيل، فأما الدلائل على سبيل الجملة فهي سهلة.

7. احتج جمهور المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية وضربوا له أمثلة:

أ. قال الجبائي: ولو كانوا غير قادرين لم يجز أن يقول الله ذلك، كما لا يقال لمن هو في النار معذب: ماذا عليهم لو خرجوا منها وصاروا إلى الجنة، وكما لا يقال للجائع الذي لا يقدر على الطعام: ماذا عليه لو أكل.

ب. وقال الكعبي: لا يجوز أن يحدث فيه الكفر ثم يقول: ماذا عليه لو آمن، كما لا يقال لمن أمرضه: ماذا عليه لو كان صحيحا، ولا يقال للمرأة: ماذا عليها لو كانت رجلا، وللقبيح: ماذا عليه لو كان جميلا، وكما لا يحسن هذا القول من العاقل كذا لا يحسن من الله تعالى، فبطل بهذا ما يقال: إنه وإن قبح من غيره، لكنه يحسن منه لأن الملك ملكه.

ج. وقال القاضي عبد الجبار: إنه لا يجوز أن يأمر العاقل وكيله بالتصرف في الضيعة ويحبسه من حيث لا يتمكن من مفارقة الحبس، ثم يقول له: ماذا عليك لو تصرفت في الضيعة، وإذا كان من يذكر مثل هذا الكلام سفيها دل على أن ذلك غير جائز على الله تعالى، فهذا جملة ما ذكروه من الأمثلة.

8. التمسك بطريقة المدح والذم والثواب والعقاب قد كثر للمعتزلة ـ ومن وافقهم ـ ومعارضتهم بمسألتي العلم والداعي قد كثرت، فلا حاجة إلى الإعادة.

9. ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ والمعنى أن القصد إلى الرئاء إنما يكون باطنا غير ظاهر، فبين تعالى أنه عليم ببواطن الأمور كما هو عليم بظواهرها، فان الإنسان متى اعتقد ذلك صار ذلك كالرداع له عن القبائح من أفعال القلوب: مثل داعية النفاق والرياء والسمعة.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 10/80.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ الآية، عطف تعالى على ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾: الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، وقيل: هو عطف على الكافرين، فيكون في موضع خفض، ومن رأى زيادة الواو أجاز أن يكون الثاني عنده خبرا للأول.

2. قال الجمهور نزلت في المنافقين لقوله تعالى: ﴿رِئَاءَ النَّاسِ﴾والرئاء من النفاق، وقال مجاهد: في اليهود، وضعفه الطبري، لأنه تعالى نفى عن هذه الصنفة الإيمان بالله واليوم الآخر، واليهود ليس كذلك، قال ابن عطية: وقول مجاهد متجه على المبالغة والإلزام، إذ إيمانهم باليوم الآخر كلا إيمان من حيث لا ينفعهم، وقيل: نزلت في مطعمي يوم بدر، وهم رؤساء مكة، أنفقوا على الناس ليخرجوا إلى بدر، قال ابن العربي: (ونفقة الرئاء تدخل في الأحكام من حيث إنها لا تجزئ)، ويدل على ذلك من الكتاب قول تعالى: ﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ﴾

3. ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾ في الكلام إضمار تقديره ﴿وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ فقرينهم الشيطان ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾، والقرين: المقارن، أي الصاحب والخليل وهو فعيل من الإقران، قال عدي ابن زيد:

çعن المرء لا تسأل وسل عن قرينه...فكل قرين بالمقارن يقتديé

والمعنى: من قبل من الشيطان في الدنيا فقد قارنه، ويجوز أن يكون المعنى من قرن به الشيطان في النار ﴿فَسَاءَ قَرِينًا﴾ أي فبئس الشيطان قرينا، وهو نصب على التمييز.

4. ﴿مَا﴾ في موضع رفع بالابتداء و﴿ذَا﴾ خبره، وذا بمعنى الذي، ويجوز أن يكون ما وذا اسما واحدا، فعلى الأول تقديره وما الذي عليهم، وعلى الثاني تقديره وأي شي عليهم ﴿لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، أي صدقوا بواجب الوجود، وبما جاء به الرسول من تفاصيل الآخرة، ﴿وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ﴾، ﴿وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ تقدم معناه في غير موضع.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/194.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ عطف على قوله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ ووجه ذلك: أن الأوّلين قد فرطوا بالبخل، وبأمر الناس به، وبكتم ما آتاهم الله من فضله، وهؤلاء أفرطوا ببذل أموالهم في غير مواضعها، لمجرد الرياء والسمعة، كما يفعله من يريد أن يتسامع الناس بأنه كريم، ويتطاول على غيره بذلك، ويشمخ بأنفه عليه، مع ما ضم إلى هذا الإنفاق الذي يعود عليه بالضرر من عدم الإيمان بالله واليوم الآخر.

2. ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا﴾ في الكلام إضمار، والتقدير: ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر فقرينهم الشيطان‏ ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾ والقرين: المقارن، وهو الصاحب والخليل، والمعنى: من قبل من الشيطان في الدنيا فقد قارنه فيها، أو فهو قرينه في النار، فساء الشيطان قرينا.

3. ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ﴾ أي: على هذه الطوائف‏ ﴿لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ﴾ ابتغاء لوجهه، وامتثالا لأمره، أي: وماذا يكون عليهم من ضرر لو فعلوا ذلك.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/539.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ﴾ عطف على (الَّذِينَ) بأوجهه، أو على (الْكَافِرِينَ)، أو مبتدأٌ خبرُه: قرينهم الشيطان، والبخل تفريط، والسَّرف إفراطٌ، وهو إنفاق المال في غير وجهه كالرياء، والوسط: الإنفاق في وجهه، وكلا الطرفين مذموم، والرياء مضاف للمفعول، كما نصب (النَّاسَ) في قوله: ﴿يُرَآءُونَ النَّاسَ﴾ [النساء: 142]، ﴿وَلَا يُومِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الَاخِرِ﴾ فليسوا يرجون ثواب الله في الآخرة لإنكارهم إيَّاها، فلا ينفقون في وجه الإنفاق، وهم المشركون والمنافقون بإضمار الشرك، قيل: واليهود، وكلُّ هؤلاء هم قرناء الشيطان.

2. ﴿وَمَنْ يَّكُنِ الشَّيْطَانُ﴾ الشياطين، إبليس وأعوانه من الجنِّ والإنس ﴿لَهُ قَرِينًا﴾ صاحب سوء يأمره بالبخل والكتم والرياء والإشراك، ﴿اِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء: 27]، ويترتَّب على ذلك أن يكون قرينًا له مقترنًا في الدُّنيا وفي النَّار ﴿فَسَآءَ قَرِينًا﴾ له هو، وإن قلنا: إنَّها إخبارٌ لا من باب (نِعم) قدِّرَتْ (قَدْ)؛ لأنَّها تصلح شرطًا.

3. ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ﴾ من المضرَّة بل لهم النفع ﴿لَو﴾ ليست مصدريَّة، والمصدر يدلُّ على الهاء كما قيل؛ لأنَّه لا يصحُّ دخول حرف الجرِّ عليها لفظًا، بل هي بمعنى (إِنْ) الشرطيَّة والجواب أغنى عنه ما قبلُ، أو محذوف، أي: لسعدوا ﴿ءَامَنُواْ بِاللهِ وَالْيَومِ الَاخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ﴾ في سبيله، قدَّم الإيمان هنا لأنَّه لا ينتفع بالإنفاق مع عدمه؛ فتقديمه تحضيض، وأخَّره في الآية الأخرى لقصد التعليل به فيها، أو أخَّر الإيمان لأنَّ المراد بالإنفاق الإسراف الذي هو عديل البخل، فلا يحصل الفصل بينهما بالإيمان لعدم حسن الفصل بين العديلين.

4. ﴿وَكَانَ اللهُ بِهِمْ﴾ بذواتهم وأعمالهم ﴿عَلِيمًا﴾ لا يفوته عقابهم فذلك وعيد على سوء باطنهم، أو تنبيه على أنَّهم لو آمنوا وأنفقوا لأثابهم، ولم يخف عنه إيمانهم وإنفاقهم.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/187.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ أي قصد رؤية الخلق إياه، غفلة عن الخالق‏ تقدس، وعماية عنه، ليقال: ما أسخاهم وما أجودهم‏ ﴿وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ أي الذي يتقرب إليه وحده ويتحرى بالاتفاق رضاه‏ ﴿وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ الذي هو يوم الجزاء.

2. ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا﴾ معينا في الدنيا ﴿فَسَاءَ قَرِينًا﴾ فبئس القرين والصاحب الشيطان، لأنه يضله عن الهدى ويحجبه عن الحق، وإنما اتصل الكلام هنا بذكر الشيطان، تقريعا لهم على طاعته، والمعنى: من يكن عمله بما سول له الشيطان فبئس العمل عمله، ويجوز أن يكون وعيدا لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار.

3.﴿وَالَّذِينَ﴾ عطف على‏ ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ أو على‏ ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ وإنما شاركوهم في الذم والوعيد لأن البخل كالإنفاق رياء، سواء في القبح واستتباع اللائمة والذم، ويجوز أن يكون العطف بناء على إجراء التغاير الوصفيّ مجرى التغاير الذاتيّ، كما في قوله:

çإلى الملك القرم وابن الهمام‏... وليث الكتيبة في المزدحم‏é

أو مبتدأ خبره محذوف، يدل عليه قوله تعالى‏ ﴿وَمَنْ يَكُنِ﴾.. أي: فقرينهم الشيطان، وإنما حذف للإيذان بظهوره واستغنائه عن التصريح به، أو التقدير: فلا يقبل إحسانهم لأن رياءهم يدل على تفضيلهم الخلق على الله، ورؤيتهم على ثوابه.

4. ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ﴾ أي فلم يرجحوا الخلق عليه‏ ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ بالبعث والجزاء فلم يرجحوا تعظيمهم وحطامهم على ثوابه‏ ﴿وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ﴾ أعطاهم الله من المال، أي طلبا لرضاه وأجر آخرته، قال العلامة أبو السعود: وإنما لم يصرح به تعويلا على التفصيل السابق، واكتفاء بذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، فإنه يقتضي أن يكون الإنفاق لابتغاء وجهه تعالى وطلب ثوابه البتة، أي: وما الذي عليهم، أو: وأيّ تبعة ووبال عليهم في الإيمان بالله والإنفاق في سبيله؟ وهو توبيخ لهم على الجهل بمكان المنفعة، والاعتقاد في الشيء بخلاف ما هو عليه، وتحريض على التفكر لطلب الجواب، لعله يؤدي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة والعوائد الجميلة، وتنبيه على أن المدعوّ إلى أمر لا ضرر فيه يجيب إليه احتياطا، فكيف إذا كان فيه منافع لا تحصى، وتقديم الإيمان بهما، لأهمّيّته في نفسه، ولعدم الاعتداد بالإنفاق بدونه، وأما تقديم (إنفاقهم رئاء الناس) على عدم إيمانهم بهما، مع كون المؤخر أقبح من المقدم، فلرعاية المناسبة بين إنفاقهم ذلك وبين ما قبله من بخلهم وأمرهم للناس به، انتهى‏ ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ وعيد لهم بالعقاب.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/110.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ قال محمد عبده: الرئاء ويخفف فيقال الرياء مصدره راءى كالمراءاة، والجملة عطف على الذين يبخلون وأعيد الموصول للدلالة على المغايرة في الأصناف كقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ [آل عمران: 135] من سورة آل عمران، أي أن مانعي الإحسان من أهل الفخر والخيلاء صنفان صنف يبخلون ويكتمون فضل الله عليهم وصنف يبذلون المال لا شكرا لله على نعمته واعترافا لعباده بحقوقهم، بل ينفقونها رئاء الناس أي مرائين لهم يقصدون أن يروهم فيعظموا قدرهم، ويحمدوا فعلهم، فالمرائي لا يقصد بإنفاقه إلا الفخر على الناس بكبريائه، وإشراع الطريق لخيلائه، فإنفاقه أثر تلك الملكة الرديئة.

1. الكبرياء كما تكون من شيء في نفس الشخص، تكون أيضا بما يكون له من المال والعرض، فإنك لترى الرجل يمشي ينظر إلى عطفيه ويفكر في نفسه هل هو محل الإعجاب والتعظيم من الناس أم لا (والمرجح عنده نعم على لا) وشر هذا دون شر البخيل فإن هذا يحمل الناس على قبول اختياله وفخره في مقابلة شيء يبذله لهم فكأنه رأى لهم شيئا من الحق عليه وهو بدل التعظيم والثناء الذي يطلبه برئائه، وأما البخيل فقد بلغ من احتقاره للناس واختياله وفخره عليهم أن لا يرى لهم عليه حقا ما فهو يكلفهم تعظيمه ومدحه لأجل ماله وماله في الصندوق مكتوم عنهم فهو شر من المرائي بلا شك، ولذلك قدم ذكر البخلاء اهتماما بهم لأنهم أعرق في تلك الرذيلة وآثارها.

2. المرائي في الحقيقة بخيل لا يرى لأحد عليه حقا ولكنه يتوهم أنه صاحب الفضل على الناس ولذلك يخص ببذله في الغالب من لا حق لهم عنده ويبخل على أرباب الحقوق المؤكدة حتى على زوجه وولده وخادمه، وعلى الأقربين حتى الوالدين، ولا يتحرى في إنفاقه مواضع النفع العام ولا الخاص وإنما يتحرى مواطن التعظيم والمدح وإن كان الإنفاق هنالك ضارا كالمساعدة على الفسق أو الفتن، هو تاجر يشتري تعظيم الناس له وتسخيرهم لقضاء حاجته والقيام بخدمته.

3. إن ما يبينه محمد عبده هنا هو الرياء الحقيقي الممقوت عند الله وعند خيار عباده ويقول علماء الأخلاق الدينية أن للرياء أنواعا ومراتب، وإن منها أن يبذل المال لمستحقه امتثالا لأمر الله تعالى وقياما بالحق وإيثارا للخير، وقد يخفيه ولكنه يحب أن يحمد على ذلك إذا عرف، ويعدون الرياء من الشرك الخفي ويقولون إن منه ما هو أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، كهذا المثال الذي ذكرناه، وإنما هذا من قبيل ما يحاسب عليه أنفسهم الصديقون، ويقال في مثله حسنات الأبرار سيئات المقربين، والحق أن من جاء بالإحسان لأنه إحسان فهو مرضي عند الله نافع للناس، فلا يضيره حبه أن يحمد بما فعل، وإن كان عدم المبالاة بذلك لذاته أكمل، وقد بينت ذلك بالتفصيل في تفسير ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا﴾ [آل عمران: 188] الآية.

4. ثم وصف الله تعالى هؤلاء المجرمين المرائين بقوله: ﴿وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وهو من عطف السبب على المسبب والعلة على المعلول، ذلك بأن المرائي يثق بما عند الناس ما لا يثق بما عند الله، ويرجح التقرب إليهم على التقرب إليه، ويؤثر ما عندهم من المدح وتوقع النفع، على ما أعده الله في الآخرة على الإيمان وعمل الصالحات، فالله في نظره المظلم أهون من الناس، فهل يعد مثل هذا مؤمنا بالله إيمانا حقيقيا مؤمنا باليوم الآخر كما يجب؟ أم يكون إيمانه تخيلا كتخيل الشعراء، وقولا كقول الصبيان: والله ما فعلت كذا، فالواحد منهم ينطق باسم الله ويؤكد باسمه الكريم الكلام وهو لا يعرف الله وإنما يسمع الناس يقولون قولا فيقلدهم بما يحفظ منه، لا يعرف أنه هو موجد الكائنات، النافذ علمه وقدرته بما في الأرض والسماوات، فهل يكون مثل هذا مؤمنا بالله واليوم الآخر؟ كلا إنه لو كان مؤمنا باليوم الآخر موقنا بأن له هنالك حياة أبدية لا نهاية لها، لما فضل عليها عرض هذه الحياة القصيرة التي لا قيمة لها.

5. من آيات الفرق بين المخلص والمرائي أن المرائي يلتمس الفرص والمناسبات للفخر والتبجح بما أعطى وما فعل والمخلص قلما يتذكر عمله أو يذكره إلا لمصلحة كأن يرغب بعض الناس في البذل فيقول للغني مثلا إنني على فقري أو على قدر حالي قد أعطيت في مصلحة كذا كذا درهما أو دينارا فاللائق بك أن تبذل كذا.

6. من شأن الكافر الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر أن لا يبذل مالا ولا يعمل عملا صالحا إلا بقصد الرياء والسمعة لأنه ليس له وراء حظوظ هذه الدنيا أمل ولا مطلب والمؤمن ليس كذلك فإن وقع الرياء من مؤمن فإنما يقع من ضعيف الإيمان قليلا ولا يكون كل عمل المؤمن كذلك بل يكون ذلك إلماما يندم عليه صاحبه ويسرع إلى التوبة، وإلا كان كافرا مجاهرا، أو منافقا مخادعا، وسيأتي شيء من تحقيق هذا البحث في تفسير قوله تعالى في هذه السورة: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 142]

7. ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾ أي إن الحامل لأولئك المتكبرين على ما ذكر هو وسوسة الشيطان التي عبر عنها في آية البقرة بقوله: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [البقرة: 268] فبين أن هؤلاء قرناء الشيطان وهو بئس القرين فعلم أن حالهم في الشر كحال الشيطان، ولن يصرح بالمقصد بل اكتفى بذم من كان الشيطان قرينا له وهذا من الإيجاز الذي لا يجده الإنسان في غير القرآن، قال محمد عبده: أقول وفي الآية تنبيه إلى تأثير قرناء المرء في سيرته وما ينبغي من اختيار القرين الصالح على قرين السوء، وتعريض بتنفير أولئك الأنصار من مقارنة أولئك اليهود الذين كانوا ينهونهم عن الإنفاق في سبيل الله وبيان أنهم شياطين يعدون الفقر، وينهون عن العرف ويأمرون بالمنكر، والقرين الصالح من يكون عونا لك على الخير مرغبا لك فيه، منفرا لك بنصحه وسيرته عن الشر مبعدا لك عنه، مذكرا لك بتقصيرك، مبصرا إياك بعيوب نفسك، وكم أصلح القرين الصالح فاسدا، وكم أفسد قرين السوء صالحا.

8. ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ﴾ قال محمد عبده ما مثاله مع زيادة وإيضاح: أي ما الذي كان يصيبهم من الضرر لو آمنوا وأنفقوا، وهذا الكلام موجه إلى جميع المكلفين المخاطبين بالقرآن، وكان أكثر العرب يؤمنون قبل البعثة بالله تعالى وكونه هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما ومنهم من كان يؤمن بحياة أخرى بعد الموت وكانوا مع ذلك مشركين وإيمانهم على غير الوجه الصحيح، وكذلك أهل الكتاب كانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر ولكن الشرك كان قد تغلغل فيهم أيضا، فالمراد الإيمان الصحيح مع الإذعان الذي يظهر أثره في العمل.

9. ﴿لَوْ﴾ على معناها وجوابها محذوف دل عليه ما قبله من الاستفهام والكلام مسوق مساق التعجب من حالهم في إنفاق المال وعمل الإحسان لوجه الله عز وجل وابتغاء رضوانه وثوابه في الآخرة، والمراد من التعجب إثارة عجب الناس من حالهم إذ لو أخلصوا لما فاتتهم منفعة الدنيا، ولفازوا مع ذلك بسعادة العقبى.

10. كثيرا ما يفوت المرائي غرضه من التقرب إلى الناس وامتلاك قلوبهم وتسخيرهم لخدمته أو الثناء عليه ويفوز بذلك المخلص الذي يخفي العمل من حيث لا يطلبه ولا يحتسبه، ففي هذه الحالة يكون للمخلص سعادة الدارين، ويرجع المرائي بخفي حنين، بل يكون قد خسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين، فجهل المرائين جدير بأن يتعجب منه لأنه جهل بالله وجهل بأحوال الناس، ولو آمنوا وأخلصوا وأحسنوا ووثقوا بوعد الله ووعيده لكان هذا الإيمان كنز سعادة لهم، فإن من يحسن موقنا أن المال والجاه من فضل الله على العبد وأنه ينبغي أن يتقرب بهما إليه تعلو همته فتهون عليه المصاعب والنوائب، ويكون هذا الإيمان الصحيح عوضا له من كل فائت، وسلوى في كل مصاب، وفاقد الإيمان الحقيقي عرضة للغم واليأس من كل خير عند ما يرى خيبة أمله وكذب ظنه في الناس، فإذا وقع في مصاب عظيم كفقد المال ولا سيما إذا ذهب كل ماله وأمسى فقيرا ولم ينقذه الناس ولا بالوا به، فإن الغم والقهر ربما أماتاه جزعا لا صبرا، وربما بخع نفسه وانتحر بيده، ولذلك يكثر الانتحار من فاقدي الإيمان، وأما المؤمن فإن أقل ما يؤتاه في المصائب هو الصبر والسلوى فيكون وقع المصيبة على نفسه أخف، وثواء الحزن في قلبه أقل، وأكثره أن تكون المصيبة في حقه رحمة، وتتحول النقمة فيها نعمة، بما يستفيد فيها من الاختبار والتمحيص، وكمال العبرة والتهذيب، وقد بينا هذا في تفسير آيات من سورة آل عمران ولا سيما قوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ [آل عمران: 137] إلى الآية 141.

11. قال بعضهم في تفسير: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان: 20] إن النعم الباطنة هي المصائب التي يستفيد منها المؤمن زيادة الإيمان والاعتبار على أن المؤمنين المحسنين المخلصين يكونون أبعد عن النوائب والمصائب من غيرهم، وقد يبتلي الله المؤمن ويمتحن صبره فيعطيه إيمانه من الرجاء بالله تعالى ما تخالط حلاوته مرارة المصيبة حتى تغلبها أحيانا، وإن من الناس من يعظم رجاؤه بالله وصبره على حكمه ورضاه بقضائه واعتقاده أنه ما ابتلاه إلا ليربيه ويعظم أجره حتى أنه ليأنس بالمصيبة ويتلذذ بها، وهذا قليل نادر ولكنه واقع.

12. ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ أتى بهذه الجملة بعد ما تقدم لتنبيه المؤمن على الاكتفاء بعلم الله تعالى بإنفاقه وعدم مبالاته بعلم الناس، فهو الذي لا ينسى عمل عامل ولا يظلمه من أجره عليه شيئا وهو الذي يسخر القلوب لمن شاء قال محمد عبده ولو لم ينزل في معاملة الناس بعضهم لبعض إلا هذه الآيات ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾ إلى قوله: ﴿عَلِيمًا﴾ لكانت كافية لهداية من له قلب يشعر وعقل يفكر، ثم أخذ يبين تقصير المنتسبين إلى الإسلام في إتباع هذه الأوامر وذكر من حال الناس في معاملة الوالدين والأقربين والجيران واليتامى والمساكين ما يتبرأ منه الإسلام، وكل ما ذكره مشاهد معروف وأين المعتبرون المتعظون.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/101.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ الرئاء والرياء والمراءاة سواء، أي إن مانعى الإحسان من أهل الفخر والخيلاء فريقان: فريق يبخلون ويكتمون فضل الله عليهم، وفريق يبذل المال لا شكرا لله على نعمه ولا اعترافا لعباده بحق، بل ينفقونها مراءين الناس: أي يقصدون أن يروهم فيعظموا قدرهم ويحمدوا فعلهم.

2. والكبرياء كما تكون من شيء في نفس الشخص، تكون أيضا بما يكون له من المال والنسب، والمرائى أقل شرا من البخيل، إذ هو يحمل الناس على قبول فخره واختياله في مقابلة ما يبذله لهم من مال، فكأنه رأى لهم عليه حقا عوضا من التعظيم والثناء الذي يطلبه بريائه، وأما البخيل فقد بلغ من احتقاره للناس أنه لا يرى لهم عليه شيئا من الحقوق، فهو يكلفهم تعظيمه، وأمواله مدّخرة في الصناديق.

3. والمرائى بخيل في الحقيقة إذ هو إنما يبذل المال لمن لا حق لهم عنده، ويبخل على أرباب الحقوق كالزوجة والولد والخادم والأقربين كالوالدين، ولا يتحرى في إنفاقه النفع العام ولا الخاص، وإنما يتحرى مواطن التعظيم والمدح، وإن كان الإنفاق ضارا كالمساعدة على فسق أو فتنة، فهو تاجر يشترى تعظيم الناس له وتسخيرهم للقيام بخدمته.

4. ﴿وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي إن المؤمنين المرائين في إنفاقهم يثقون بما عند الناس من المدح والثناء والتعظيم والإطراء، ولا يثقون بما أعد الله لعباده من الثواب والجزاء، ويفضلون التقرب إليهم على التقرب إليه، فالله في نظرهم أهون من الناس، فمثل هؤلاء لا يعدّون مؤمنين إيمانا حقيقيا بالله ولا باليوم الآخر، بل إيمانهم ضرب من التخيل ليس له ما يؤيده من أثر في القلب ولا إذعان للنفس، فهم لا يعرفون الله، وإنما يسمعون الناس يقولون قولا فيقلدونهم فيما يحفظونه منهم، فهم لا يعرفون أنه موجد الكائنات النافذ علمه وقدرته فيما في الأرض والسماوات، ولو كانوا مؤمنين باليوم الآخر وأن هناك حياة أبدية لما فضلوا عليها عرض هذه الحياة القصيرة.

5. ومن أمارات التفرقة بين المخلص والمرائى، أن الأول قلما يتذكر عمله أو يذكره إلا لمصلحة كترغيب بعض الناس في البذل كأن يقول إني على ما بي من فقر قد أعطيت كذا درهما في مصلحة كذا فاللائق بمثلك أن يبذل كذا وكذا درهما، أما الثاني فهو يلتمس الفرص والمناسبات للفخر والتبجح بما أعطى وما فعل، كما لا يبذل المال ولا يعمل العمل الصالح إلا بقصد الرياء والسمعة، إذ ليس له وراء حظوظ الدنيا أمل ولا مطلب.

6. ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾ أي إن هؤلاء المتكبرين ما حملهم على ما فعلوا إلا وسوسة الشيطان وهو بئس الصاحب والخليل ـ والمقصد من هذا أن حالهم في الشر كحال الشيطان.

7. وفي الآية إيماء إلى تأثير قرناء المرء في سيرته وأن الواجب اختيار القرين الصالح على قرين السوء، وتعريض بتنفير الأنصار من معاشرة اليهود الذين كانوا ينهونهم عن الإنفاق في سبيل الله، وبيان أنهم شياطين يعدون الفقر وينهون عن العرف، أما القرين الصالح فهو عون على الخير مرغّب فيه، منفر بسيرته ونصحه عن الشر مبعد عنه، مذكر بالتقصير مبصر بالعيوب، وكم أصلح القرين الصالح فاسدا، وكم أفسد قرين السوء صالحا.

8. ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ﴾ أي وما الذي كان يصيبهم من الضرر لو آمنوا بالله إيمانا صحيحا يظهر أثره في العمل؟ وفي هذا الأسلوب إثارة تعجيب الناس من حالهم، إذ هم لو أخلصوا لما فاتتهم منفعة الدنيا، ولفازوا مع ذلك بسعادة العقبى، فكثيرا ما يفوت المرائى ما يرمى إليه من التقرّب إلى الناس وامتلاك قلوبهم، ويظفر بذلك المخلص الذي لم يكن من همه أن أحدا يعرف ما عمل، فيكون الأول قد رجع بخفّى حنين، بينما الثاني فاز بسعادة الدارين فجهله جدير بأن يتعجب منه، لأنه جهل بالله وجهل بأحوال الناس، ولو آمن وأخلص ووثق بوعد الله ووعيده لكان في هذا سعادته، فالإيمان سلوى من كل‏ فائت، وفقده عرضة لليأس من كل خير، ومن ثم يكثر الانتحار من فاقدى الإيمان، وأما المؤمن فأقل ما يؤتاه في المصائب الصبر الذي يخفف وقعها على النفس، وأكثره رحمة الله التي بها تتحول النقمة إلى نعمة بما يستفيد من الاختبار والتمحيص وكمال العبرة والتهذيب، وقد يبتلى الله المؤمن ويمتحن صبره فيعطيه إيمانه من الرجاء به ما تخالط حلاوته مرارة المصيبة حتى تغلبها، وقد يأنس أحيانا بها لعظم رجائه وصبره، وهذا وإن كان نادرا فهو واقع حاصل.

9. ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ فينبغى للمؤمن أن يكتفى بعلم الله في إنفاقه ولا يبالى بعلم الناس، فهو الذي لا ينسى عمل العاملين ولا يظلمهم من أجرهم شيئا.

10. وفي هذه الآيات الكريمة الهداية الكافية في معاملة الناس لربهم ولبعضهم بعضا ولكن المسلمين قصّروا في اتباع هذه الأوامر، وأعرضوا عن مساعدة ذوى القربى والجيران واليتامى والمساكين، والشواهد على هذا كثيرة.

__________

(1) تفسير المراغى: 5/40.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾.. هو عطف على قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾.. فهذا الصنف من الناس كصنف اليهود الذين غضب الله عليهم وأعدّ لهم عذابا مهينا، فإذا كان اليهود قد بخلوا أثرة وشحّا، فهؤلاء أنفقوا مباهاة ورياء، وإذا كان اليهود كفروا بالله واليوم الآخر عن علم، فهؤلاء كفروا بالله واليوم الآخر عن كبر وحمق، وهؤلاء وأولئك قد استقادوا للشيطان ووضعوا أيديهم في يده، وصحبوه إلى حيث يريد، ولن يريد لهم الشيطان إلا الضلال، ولن يوقعهم إلا في الهلاك.

2. ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ هو استنكار لموقفهم الذي وقفوه من الهدى والخير، ودعوة مجدّدة لهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والإنفاق مما رزقهم الله.. فالله من ورائهم محيط، يحصى عليهم أعمالهم من خير أو شر، ويجزيهم على الخير خيرا وزيادة، وبالشر شرا، ويعفو عن كثير.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/792.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. عطف‏ ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ على‏ ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ لأنّهم أنفقوا إنفاقا لا تحصل به فائدة الإنفاق غالبا، لأنّ من ينفق ماله رئاء لا يتوخّى به مواقع الحاجة، فقد يعطي الغنيّ ويمنع الفقير، وأريد بهم هنا المنفقون من المنافقين المشركين، ولذلك وصفوا بأنّهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وقيل: أريد بهم المشركون من أهل مكة، وهو بعيد، لأنّ أهل مكة قد انقطع الجدال معهم بعد الهجرة.

2. جملة: ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا﴾ معترضة، وقوله: ﴿فَسَاءَ قَرِينًا﴾ جواب الشرط، والضمير المستتر في (ساء) إن كان عائدا إلى الشيطان‏ ﴿فَسَاءَ﴾ بمعنى بئس، والضمير فاعلها، و﴿قَرِينًا﴾ تمييز للضمير، مثل قوله تعالى: ﴿سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ [الأعراف: 177]، أي: فساء قرينا له، ليحصل الربط بين الشرط وجوابه، ويجوز أن تبقى‏ ﴿فَسَاءَ﴾ على أصلها ضدّ حسن، وترفع ضميرا عائدا على (من) ويكون (قرينا) تمييز نسبة، كقولهم: (ساء سمعا فساء جابة) أي فساء من كان الشيطان قرينه من جهة القرين، والمقصود على كلا الاحتمالين سوء حال من كان الشيطان له قرينا بإثبات سوء قرينه؛ إذ المرء يعرف بقرينه، كما قال عديّ بن زيد: فكلّ قرين بالمقارن يقتدي وقوله: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ عطف على الجملتين، وضمير الجمع عائد إلى الفريقين، والمقصود استنزال طائرهم، وإقامة الحجّة عليهم.

3. ﴿وَمَاذَا﴾ استفهام، وهو هنا إنكاري توبيخي، و(ذا) إشارة إلى (ما)، والأصل لا يجيء بعد (ذا) اسم موصول نحو ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ﴾ [البقرة: 255]، وكثر في كلام العرب حذفه وإبقاء صلته لكثرة الاستعمال، فقال النحاة: نابت ذا مناب الموصول، فعدّوها في الموصولات وما هي منها في قبيل ولا دبير، ولكنّها مؤذنة بها في بعض المواضع، وعلى ظرف مستقرّ هو صلة الموصول، فهو مؤوّل بكون، وعلى للاستعلاء المجازي بمعنى الكلفة والمشقّة، كقولهم: عليك أن تفعل كذا.

4. ﴿لَوْ آمَنُوا﴾ شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، وقد قدّم دليل الجواب اهتماما بالاستفهام، كقول‏ قتيلة بنت الحارث:

çما كان ضرّك لو مننت وربما... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق‏é

ومن هذا الاستعمال تولّد معنى المصدرية في لو الشرطية، فأثبته بعض النحاة في معاني لو، وليس بمعنى لو في التحقيق، ولكنه ينشأ من الاستعمال، وتقدير الكلام: لو آمنوا ماذا الذي كان يتعبهم ويثقلهم، أي لكان خفيفا عليهم ونافعا لهم، وهذا من الجدال بإراءة الحالة المتروكة أنفع ومحمودة، ثم إذا ظهر أنّ التفريط في أخفّ الحالين وأسدّهما أمر نكر، ظهر أنّ المفرّط في ذلك ملوم، إذ لم يأخذ لنفسه بأرشد الخلّتين، فالكلام مستعمل في التوبيخ استعمالا كنائيا بواسطتين، والملام متوجّه للفريقين: الذين يبخلون؛ والذين ينفقون رئاء، لقوله: ﴿لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ﴾ على عكس ترتيب الكلام السابق.

5. جملة: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ معترضة في آخر الكلام، وهي تعريض بالتهديد والجزاء على سوء أعمالهم.

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/128.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ الرئاء مصدر راءى يرائى مراءاة، ورياء، ورئاء، وهو أن يعمل العمل، أو ينفق المال يظهر للناس أنه يقصد الخير، وهو يقصد بذلك الظهور أمام الناس والشهرة بالخير، وهو من صنف مماثل للبخلاء أو هو منهم؛ لأنه ينفق لنفسه لا لغيره، فكأن أولئك المختالين الفخورين صنفان: صنف لا ينفق على الناس قط، ولا يعين بأي نوع من العون في طريق البر، وصنف يعطى في سبل النفع، ولكن لا يقصد وجه الله تعالى، بل يقصد ما عند الناس، من رجاء محمدة، أو تفاخر، أو استعلاء، أو طلب جاه لدى ذي جاه، كأولئك الذين ينفقون النفقات العظيمة، ويتصدقون بالصدقات الكبيرة، تملقا لذوى الجاه، أو رجاء لما عندهم، وإن هذا النوع يكون إنفاقه إلى بوار عليه، ولا ثواب عليه، ولو كان من أهل الإسلام، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم في المرائين الذين ينفقون رياء: (يقول صاحب المال يوم القيامة لربه: ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك، فيقول الله تعالى: كذبت إنما أردت أن يقال جواد، فقد قيل)

2. وقد ذكر سبحانه بجوار الإنفاق رياء عدم الإيمان، فقال في أوصافهم: ﴿وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وهذا وصف يعم الذين يراءون، ويشمل الكافرين، وهو حقيقى في الكافرين الذين لا يذعنون للحق، فيؤمنون بالله واليوم الآخر، ودائم معهم بدوام كفرهم، وبالنسبة للمرائين من أهل القبلة ثابت لهم وقت رئائهم؛ لأن من يتصدق راجيا ما عند العباد من جاه أو ملق أو استعلاء، لا يؤمن بحق الله عليه وقت تبرعه، ولا يؤمن بأن وجه الله هو الذي يقصد، ولا ينظر إلا إلى متاع الدنيا، ولا يؤمن في عمله هذا باليوم الآخر، ولو كان يؤمن بالله في عمله هذا لقصد وجهه الكريم، وما يكون من ثواب مضاعف على فعله، وإن هذا كله من عمل الشيطان.

3. ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾ الشيطان هنا كل ما يحرض على الشر من وسوسة نفس، وصاحب مفسد، ومن تسلط على عباد الله تعالى لإغوائهم، وفي النص القرآني إيجاز بالحذف معجز، إذ المعنى: وقد دفع هؤلاء إلى الرياء في إنفاقهم وإلى البخل والكتمان قرناء السوء من شياطين الإنس والجن، والقرين هو الصاحب الملازم الذي يخلط نفسك بنفسه، ويقرنها بها حتى تصيرا كأنهما شيء واحد، ومعنى قوله: ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾ من يكن الشيطان صاحبا ملازما له قد اختلط به ومازج نفسه، فما أسوأه من قرين محرض على الشر يدفع إليه بصحبته، وملازمته وإغوائه، والعدوى التي تسرى إليه، وفي النص إشارة إلى أن قرناء السوء يفسدون الأخلاق؛ لأن عدوى الأخلاق تصل بالمجاورة كما تصل عدوى الأمراض.

4. ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ﴾ هذا النص توبيخ للذين يؤثرون رضا الناس على رضا الله، فلا يبتغون ما عنده، ويبتغون ما عند الناس، فيراءون ويمنعون الخير لذات الخير، والمعنى: ماذا يكون عليهم من مغبة أو تبعة أو ضرر، لو أنهم آمنوا بالله حق الإيمان وباليوم الآخر الذي يكون فيه الجزاء الحقيقي ولم يأخذهم زخرف الحياة الدنيا فلا يرعوا سواها؟ إنه لا ضرر بلا شك في الاتجاه إلى الله، وإنفاق بعض رزقه الذي أعطاه إياهم؛ إذ لا ينفقون إلا بعض ما أعطى، ومع عدم الضرر هناك نفع عظيم جليل، وهو رضا الله، وثواب يوم القيامة، وصلاح حالهم صلاحا حقيقيا في الدنيا، وبمقارنة ذلك بما عليه حالهم من رياء أو بخل أو كتمان، يتبين أنهم اختاروا الصفقة الخاسرة؛ لأن في انفاقهم لأجل الرياء أو بخلهم، إغضابا لله، وتعرضا لعقابه وإفسادا لمجتمعهم، وما ينالون من نفع ضئيل بجوار ما ينالهم من ضرر خطير، ولم يذكر سبحانه وتعالى ما ينالون من نقع في دنياهم؛ لأنه لا يعد في حقيقة الأمر نفعا، فضررهم مؤكد، ولا نفع، وإذا اتجهوا إلى الله فالنفع ثابت ولا ضرر.

5. ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ هذه إشارة إلى الضرر الذي ينالهم، وهو عقاب الله تعالى لهم، وهو عليم بأحوالهم يعلم سرهم وما يخفى من شؤونهم، وإنه سيجازيهم بعملهم، فالعقاب لا حق بهم لا محالة، وقانا الله تعالى شر نفوسنا، وجعلنا لله لا لأحد سواء.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1682.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، سبقت هذه الآية مع تفسيرها في سورة البقرة، الآية 264، ويتلخص المعنى بأن الذي ينفق ماله رياء، والذي يبخل به سواء عند الله، وربما كان المرائي أسوأ حالا، لأنه أشبه بالكافر الذي لا يعمل لله.

2. كل ما يزين فعل الغواية، ويغري بالفساد والضلال فلك ان تسميه شيطانا، خاطرا كان، أو إنسانا، أو أي شيء؛ فلفظ الشيطان رمز لكل غوي مضل، يخفي حقيقته في أثواب الصالحين، ومن أجل هذا نرى كثيرا من الناس يقولون ويفعلون بوحي من الشيطان وغوايته، وهم يحسبون انه وحي من الله وهدايته، وأقرب المقربين لدى الشيطان من وثق الناس بقداسته، ولم يعرفوا شيئا عن حقيقته، وهذا هو المقصود بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾، وبقوله: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾

3. وكما ان الشيطان قرين له في الدنيا فهو قرين له في الآخرة أيضا، فقد جاء في الحديث: الإنسان مع من أحب، وقال الإمام علي عليه السلام: (فكيف إذا كان بين طابقين من نار: ضجيع حجر، وقرين شيطان)

4. والشيطان يقسّم أتباعه الى أقسام، ويوكل الى كل مهمة تناسبه، تماما كقائد الجيش، فمنهم من يغريه بإراقة الدماء، والتعدي على الشعوب الآمنة، كالدول التي أوجدت إسرائيل، وأمدتها بالمال والسلاح للاعتداء على العرب وبلاد العرب، لا لشيء الا لتخضعهم للاستعمار سياسيا واقتصاديا، وقسم يغريهم بالفسق والفجور والتهتك والتبرج، وقسم يأمرهم بالصلاة والصيام، وارتداء ثوب الصالحين والزاهدين، ليصطاد بهم البسطاء والأبرياء، وإذا استعصى عليه المتقون، وأعيته فيهم الحيل رضي منهم ولو بكلمة حق يقولونها تلبية لطلبه، روي ان إبليس قال لعيسى ابن مريم عليه السلام: قل: لا إله الا الله، قال له عيسى: أقولها، لا لقولك، بل لأنها حق، فرجع اللعين خاسئا.. وترمز هذه الحكاية الى ان الإيمان لا يكون بالتهليل والتكبير، ولا بالصيام والصلاة، فإن هذه قد تكون من مصائد الشيطان ومكائده، وإنما الإيمان الحق يقاس بالعلم بالله وأحكامه، ومعرفة مداخل الشيطان التي تفسد على المؤمن إخلاصه وأعماله.

5. ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ﴾، لقد ربط سبحانه بين الإيمان به وباليوم الآخر، وبين الإنفاق، لأنه نفى الإيمان عن البخيل الممسك، ومعنى هذا ان الإنفاق دليل الإيمان، والإمساك دليل الكفر، والوجه في ذلك ان المؤمن المتوكل على الله حقا ينفق، وهو واثق بالخلف، ومن أيقن بالخلف جاد بالعطية، كما قال الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام، أما ضعيف الإيمان فيستمع الى شيطانه الذي يأمره بالإمساك، ويوعده الفقر، ان هو أنفق، ومهما يكن، فإن المراد بالإيمان هنا ايمان الطاعة والعمل، لا ايمان العقيدة فقط، والمراد بالكفر كفر الطاعة والعمل، لا الجحود، وانكار الألوهية.

6. من أقوال الإمام علي عليه السلام في البخيل: (عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب، ويفوته الغنى الذي إياه طلب، يعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء)، ومعنى قوله: الغني يستعجل الفقر، انه أسوأ حالا من الفقير، لأن الغني ما يزال خائفا من زوال غناه، أما الفقير فلا يزال راجيا لزوال فقره.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/325.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ أي لمراءاتهم، وفي الآية دلالة على أن الرئاء في الإنفاق ـ أو هو مطلقا ـ شرك بالله كاشف عن عدم الإيمان به لاعتماد المرائي على نفوس الناس واستحسانهم فعله، وشرك من جهة العمل لأن المرائي لا يريد بعمله ثواب الآخرة، وإنما يريد ما يرجوه من نتائج إنفاقه في الدنيا، وعلى أن المرائي قرين الشيطان وساء قرينا.

2. ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا﴾ الآية، استفهام للتأسف أو التعجب، وفي الآية دلالة على أن الاستنكاف عن الإنفاق في سبيل الله ناش من فقدان التلبس بالإيمان بالله وباليوم الآخر حقيقة وإن تلبس به ظاهرا.

3. ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ تمهيد لما في الآية التالية من البيان، والأمس لهذه الجملة بحسب المعنى أن تكون حالا.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/356.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ﴾ عطفٌ على ﴿الَّذِينَ﴾ فهو ذم يدل على انقسام أهل الخيلاء، والفخر قسمين: قسم البخلاء، وقسم المنفقين مالَهم رئاءَ الناس، والرّئاء فِعال من الرؤية، فأصله محاولة أن يراهم ويرونه منفقاً ليمدحوه أو يعتقدوا فيه الجود، والواقع: أنهم لا يبذلون المال إلا لطلب الثناء من الناس أي لغرض دنيوي راجعٍ إليهم، ولكنه أشنع من الإنفاق في أغراض النفس المباحة؛ لأن الرياء إشراك لغير الله في العمل.

2. ﴿وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ بيانٌ للعيب الثاني من عيوب هذا الفريق، ولعله يشير إلى من يدعي ذلك دعوى كاذبة، كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 8] وهم من المنافقين، وقد قال تعالى فيهم: ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾

3. ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾ يفيدُ: أن الشيطان قرينٌ لهم ﴿فَسَاءَ قَرِينًا﴾ فهو قرين سيءٌ؛ لأنه كما قال تعالى: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ [فصلت: 25] فهو يزين لهم باطلَهم المستقبل ليفعلوه والماضيَ ليصرُّوا عليه ولا يتوبوا منه، ليكونوا من أصحاب السعير.

4. ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ أيُّ ضرٍّ عليهم لو آمنوا، وأيُّ نقص لو آمنوا بالله واليوم الآخر، وأنفقوا مما رزقهم الله إنفاقاً مقبولاً ليس الإنفاق رئاء الناس فهو لا يعدّ إنفاقاً محموداً بل هو مذموم، وهذا زيادةُ احتجاجٍ عليهم وبيان أن الله تعالى لم يكلفهم ما يضرهم أو يكون عيباً عليهم، فلا عذر لهم في ترك الإيمان والإنفاق، وهذا دليل على أنهم كانوا قادرين على الإيمان والإنفاق؛ لأنهم لو لم يكونوا قادرين لما صح توبيخهم والاحتجاج عليهم، ومعنى أنهم كانوا قادرين على ذلك: أنهم كانوا سالمين من الآفات المانعة، مستطيعين للدخول في الإيمان، فإذا قلنا: إنهم كانوا في حال كفرهم قادرين على الإيمان، فالمراد: أنهم في حال الكفر قادرون على الخروج منه إلى الإيمان، وليس المراد: أنهم قادرون على الجمع بين الكفر والإيمان، وهذا واضح.

5. ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ إشارةٌ إلى أنه يجزيهم في الآخرة بسوء ما عملوا في الدنيا؛ لأنه عليم بهم على ما هم عليه.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/77.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ وهذه صفة بعض النماذج المنحرفة من هؤلاء المختالين الفخورين الأنانيين، فقد تمر بهم بعض حالات العطاء، ولكن لا لتكون مظهرا من مظاهر النفس الطيّبة الكريمة، بل لتكون مفتاحا لحركة الذات في خط المصالح الشخصية الأنانية، فهم ينفقون أموالهم رياء، ليراهم الناس وليمدحوهم وليرضوا بذلك غرورهم وكبرياءهم ويظهروا بمظهر المحسنين الكرماء الكبار الذين يقفون في الدرجة العلياء من السلّم الاجتماعي الكبير؛ فهم يتصدّقون على المحتاجين من أموالهم من موقع الرفعة والعظمة والكبرياء، وليحصلوا من خلال ذلك على بعض الامتيازات الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، عندما يوظفون هذا العطاء في مجال الدعاية والاعلام، لخدمة تلك المواقع والامتيازات، وللقفز منها إلى مواقع جديدة متقدمة، وبذلك لا يكون الإنفاق عملية أخلاقية، بل يتحول إلى عملية تجارية تبحث عن البدل لما تدفعه، وتفتش عن الربح في ما تنفقه، وهذا ما نراه في بعض البلاد التي يندفع فيها بعض الأغنياء للإنفاق بمستوى الملايين على المؤسسات الخيرية والتربوية، لأن ذلك يعفيهم من دفع الضرائب التي تزيد كثيرا على ما ينفقون، ويحقق لهم ـ بالتالي ـ وضعا اجتماعيا مميزا، ويثير حولهم هالة كبيرة من المدح والثناء الذي لا يستحقونه.

2. ﴿وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ فإن مثل هذا الإيمان يفرض على الإنسان أن يحسب حساب الرغبة في القرب من الله، والنجاة في اليوم الآخر؛ مما يدعوه إلى أن يجعل كل غايته في عمله هو رضا الله، وينطلق ـ على أساس ذلك ـ في حياته للحصول على النتائج العملية التي تحقق هذا الهدف.

3. ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾ كيف يكون الشيطان قرينا للإنسان؟ إن الظاهر ورود ذلك على سبيل الكناية، في انطلاق الإنسان في حياته من خلال الأفكار الضالة المنحرفة، والأخلاق الذميمة السيئة، والأهداف الضيّقة المحدودة، التي تجعله ينسى الله ويستسلم للدنيا في شهواتها المحرّمة ولذائذها الفانية، وهكذا تتمثل المسألة في العلاقات الإنسانية المرتكزة على قاعدة الضلال، من خلال ما يعيشه الإنسان من علاقاته بالكافرين والمنافقين والفاسقين والضالين، الذين يزينون له سوء عمله فيراه حسنا، ويغيّرون له طريقة تفكيره ليبتعد بذلك عن الإيمان والخير والصلاح، ولما كان ذلك كله من تسويلات الشيطان، من خلال ما يزينه للإنسان من شؤون الضلال وعلاقاته؛ كان التعبير القرآني بمصاحبته للشيطان الذي هو القرين السيّئ لكل أصحابه، وأيّ سوء أعظم وأفظع من الوقوع في جهنم وساءت مصيرا.

4. ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ إنها الدعوة إلى الإيمان والإنفاق من موقع النصيحة التي تدعو إلى التأمل والتفكير في عواقب الأمور، فما الذي يضرّهم إذا انفتحوا على أسس الإيمان بالله واليوم الآخر، وفكروا وتأملوا من خلال البراهين والبينات التي تقودهم إلى ذلك وتوصلهم إلى القناعة اليقينيّة الثابتة؛ فتدفعهم إلى الإنفاق مما رزقهم الله؛ لأنهم إذا آمنوا بأن الله هو الرزاق الذي رزق عباده؛ ليعودوا به على أنفسهم وعيالهم، كان ذلك دافعا لهم إلى الحصول على الثقة بالله والشعور بالمسؤولية في الإنفاق على عباد الله من رزق الله، من دون أن يعانوا أية عقدة في هذا السبيل، لأن المؤمن لا يرى لنفسه الاستقلال الذاتي في الأمور الخاصة والعامة أمام الله، بل يعتبر وجوده خاضعا لله في كل شيء، في ما توحيه كلمة الإسلام: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162 ـ 163].. هو الذي يعطي ويمنع ويأمر وينهى في ذلك كله، ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾، في كل ما يبدون وما يخفون من أمر السرّ والعلانية.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/269.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثمّ إن الله سبحانه يذكر صفة أخرى من صفات المتكبرين إذ يقول: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ إنّهم ينفقون أموالهم لا في سبيل الله وكسب رضاه، بل مراءاة الناس لكسب السمعة وجلب الشهرة والجاه، وبالتالي ليس هدفهم من الإنفاق هو خدمة الناس وكسب رضا الله سبحانه، ولهذا فإنّهم لا يتقيدون في من ينفقون عليه بملاك الاستحقاق، بل يفكرون دائما في أنّه كيف يمكنهم أن يستفيدوا من إنفاقاتهم ويحققوا ما يطمحون إليه من أغراض شخصية، وأهداف خاصّة، كتقوية نفوذهم وتكريس موقعهم في المجتمع مثلا، لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولهذا السبب يفتقر إنفاقهم إلى الدافع المعنوي الذي ينبغي توفره في الإنفاق، بل دافعهم هو الوصول إلى الشّهرة والشّخصية الكاذبة المزيفة من هذا السبيل، وهذا هو أيضا من آثار التكبر ونتائج الأنانية.

2. إنّ هؤلاء اختاروا الشّيطان رفيقا وقرينا لهم: ﴿مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً﴾ إنّه لن يكون له مصير أفضل من مصير الشّيطان، لأنّ منطقهم هو منطق الشيطان، وسلوكهم سلوكه سواء بسواء، إنّه هو الذي يقول لهم: إنّ الإنفاق‏ بإخلاص يوجب الفقر ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾ ولهذا فإمّا أن يبخلوا ويمتنعوا عن الإنفاق والبذل (كما أشير إلى هذا في الآية السابقة) أو أنّهم ينفقون إذا ضمن هذا الإنفاق مصالحهم الشخصية وعاد عليهم بفوائد شخصية (كما أشير إلى ذلك في الآية الكريمة)

3. من هذه الآية يستفاد مدى ما للقرين السي‏ء من الأثر في مصير الإنسان، ذلك الأثر الذي ربّما يبلغ في آخر المطاف إلى السقوط الكامل، كما يستفاد أنّ علاقة (المتكبرين) بـ (الشيطان والأعمال الشيطانية) علاقة مستمرة ودائمة لا مؤقتة ولا مرحلية، ذلك لأنّهم اختاروا الشيطان قرينا ورفيقا لأنفسهم.

4. وهنا يقول سبحانه وكأنّه يتأسف على أحوال هذه الطائفة من الناس:‏ ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ﴾ أي شيء عليهم لو تركوا هذا السلوك وعادوا إلى جادة الصواب وأنفقوا ممّا رزقهم الله من الخير والنعمة في سبيل الله، بإخلاص لا رياء، وكسبوا بذلك رضا الله، وتعرضوا للطفه وعنايته، وأحرزوا سعادة الدنيا والآخرة؟ فلماذا لا يفكر هؤلاء ولا يعيدون النظر في سلوكهم؟ ولما ذا ترى يتركون طريق الله الأنفع والأفضل ويختارون طريقا أخرى لا تنتج سوى الشقاء، ولا تنتهي بهم إلّا إلى الضرر والخسران؟ وعلى كل حال فإنّ الله يعلم بأعمالهم ونواياهم ويجزيهم بما عملوا: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾

5. الجدير بالانتباه أنّ الإنفاق في الآية السابقة التي كان الحديث فيها حول الإنفاق مراءاة نسب إلى الأموال‏ ﴿يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾، وفي هذه الآية نسب إلى‏ ﴿مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ﴾، وهذا التفاوت والاختلاف في التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى‏ ثلاث نقاط:

أ. أوّلا: إنّه في الإنفاق رياء لا تلحظ حلّية المال وحرمته، في حين تلحظ في الإنفاق لله حلّية المال وأن يكون مصداق‏ ﴿مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ﴾

ب. ثانيا: إنّه في الإنفاق رياء حيث أنّهم يحسبون أنّ المال الذي ينفقونه خاص بهم، لذلك فهم لا يمتنعون عن الكبر والمنّ، في حين أنّ المنفقين لله حيث يعتقدون بأنّ الله هو الذي رزقهم ما يملكون من المال، وأنّه لا مجال للمنّ إذا هم أنفقوا شيئا من ذلك، ولذلك يمتنعون من الكبر والسنّ.

ج. ثالثا: إنّ الإنفاق رياء ينحصر غالبا في المال، لأنّ أمثال هؤلاء محرمون من أي رأسمال معنوي لينفقوا منه، ولكن الإنفاق لوجه الله تتسع دائرته فتشمل كل المواهب الإلهية من المال، والعلم والجاه، والمكانة الاجتماعية وما شابه ذلك من الأمور المادية والمعنوية.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/235.

42. الله والعدل والشكر

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈42⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 40]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة، فينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين: هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه، فيفرح ـ والله ـ المرء أن يدور له الحق على والده أو ولده أو زوجته، فيأخذه منه وإن كان صغيرا، ومصداق ذلك في كتاب الله: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠١]، فيقال له: آت هؤلاء حقوقهم، فيقول: أي رب، ومن أين وقد ذهبت الدنيا!؟ فيقول الله لملائكته: انظروا في أعماله الصالحة، وأعطوهم منها، فإن بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة: يا ربنا، أعطينا كل ذي حق حقه، وبقي له مثقال ذرة من حسنة، فيقول للملائكة: ضعفوها لعبدي، وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة، ومصداق ذلك في كتاب الله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، أي: الجنة يعطيها، وإن فنيت حسناته وبقيت سيئاته قالت الملائكة: إلهنا، فنيت حسناته، وبقي طالبون كثير، فيقول الله: ضعوا عليه من أوزارهم، واكتبوا له كتابا إلى النار(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، أي: الجنة يعطيها(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٣٢، كما أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الأهوال ٦/٢٤٧.

(2) ابن جرير ٧/٣٧.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾، نملة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ أنه أدخل يده في التراب، ثم نفخ فيها، وقال: كل واحد من هذه الأشياء ذرة(2).

__________

(1) عزاه السيوطي إلى ابن المنذر.

(2) تفسير الثعلبي ٣/٣٠٨.

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) أنّه قال: نزلت هذه الآية في الأعراب: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: ١٦٠]، فقال رجل: وما للمهاجرين؟ قال: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، وإذا قال الله لشيء: عظيم، فهو عظيم(1).

__________

(1) الطبراني في الكبير ١٣/١٦٥.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، الأجر العظيم: الجنة(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٣٧.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه تلا هذه الآية، فقال: لأن تفضل حسناتي على سيئاتي بمثقال ذرة أحب إلي من الدنيا وما فيها(1).

2. روي أنّه قال: كان بعض أهل العلم يقول: لأن تفضل حسناتي على سيئاتي ما يزن ذرة أحب إلي من أن تكون لي الدنيا جميعا(2).

__________

(1) عبد الرزاق ١/١٦٠.

(2) ابن جرير ٧/٢٩.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ معناه زنة ذرّة.. والذّرة: النّملة الصّغيرة(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 120.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾، وزن ذرة(1).

__________

(1) ابن المنذر ٢/٧١٠.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾، يعني: لا ينقص وزن أصغر من الذرة من أموالهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً﴾ واحدة ﴿يُضَاعِفْهَا﴾ حسنات كثيرة، فلا أحد أشكر من الله عز وجل(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٧٣.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله عزّ وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ و﴿نَقِيرًا﴾ [النساء: 124] ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46] ذكر هذا لئلا يظن جاهل إذا رأي ألم الأطفال والصغار وما يحل بهم أن ذلك ظلم منه لهم، لكن ذلك ليعلم أن الصحة والسلامة إفضال من الله ـ تعالى ـ لهم، لا لحق لهم عليه في الظلم في الشاهد هو التنازل مما ليس له بغير إذن من له وكل الخلائق من كل الوجوه له؛ فلا معنى ثمّ للظلم.

2. ثم قيل في الذّرّة:

أ. نها نملة، وكذلك في حرف ابن مسعود: (مثقال نملة)

ب. وقيل: مثقال حبة.

3. وهو على التمثيل، ليس على التحقيق، ذكر لصغر جثته أنه لا يظلم ذلك المقدار، فكيف ما فوق ذلك!؟، لا أن مثله يحتمل أن يكون، لكن لو كان فهو بتكوينه‏، وبالله التوفيق.

4. قوله عزّ وجل: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ هذا على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: من ارتكب كبيرة يخلد في النار ومعه حسنات كثيرة، فأخبر عزّ وجل: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وهي الجنة، وهذا لسوء ظنهم بالله، وإياسهم من رحمته، عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إنّ الله تعالى لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها إمّا رزق في الدّنيا، وإمّا جزاء في الآخرة)، وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: يقول الله تعالى: أخرجوا من النّار من كان في قلبه مثقال ذرّة من إحسان) قال أبو سعيد: فمن شك في ذلك فليقرأ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ الآية.

5. قوله عزّ وجل: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ يقول: بالنبي، يعني: بنبيها وجئنا بك يا محمد على هؤلاء شهيدا عليهم، يعني: على أمته، شهيدا بالتصديق لهم؛ لأنهم يشهدون على الأمم للرسل أنهم بلغوا ما أرسلوا به لما هو دليل صدقهم، وقامت براهينهم بالرسالة صارت شهادة على هؤلاء؛ أي: لهؤلاء؛ على هذا التأويل؛ كقوله تعالى: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ [المائدة: 3] أي: لها ويحتمل عليهم لو كذبوا وزلوا.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/185.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ والمثقال الثقل وهو مقدار الشيء في الثقل والذرة هي ذرة حمراء.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/178.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ أصل المثقال الثقل، والمثقال مقدار الشيء في الثقل، والذرة: قال ابن عباس هي دودة حمراء، قال يزيد بن هارون: زعموا أن هذه الدودة الحمراء ليس لها وزن.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/488.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً﴾ بالرفع ابن كثير، ونافع، الباقون بالنصب، فمن نصب معناه: وإن تك زنة الذرة حسنة، أو: وإن تك فعلته حسنة، ومن رفع ذهب إلى أن كان تامة، وتقديره: وإن تحدث حسنة، وأصل (تك) تكون، فحذفت الضمة للجزم، والواو لسكونها وسكون النون، لكثرة الاستعمال، وقد ورد القرآن بإثباتها، قال الله تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾ فاجتمع في النون أنها ساكنة وأنها تشبه حروف اللين، فحذفت لكثرة الاستعمال، كما قالوا لا أدر، ولم ابل، والأجود: لم أبال ولا أدري (ويؤت) بغير ياء، سقطت الياء للجزم بالعطف على (يضاعفها)

2. (لدن) في موضع خفض، وفيها لغات، يقال: لدُ ولدن ولدا ولدا، والمعنى واحد، ومعناه من قبله، ولدن لما يليك، وعند يكون لما يليك ولما بعد منك، تقول: عندي مال وإن كان بينك وبينه بعد، فإذا أضفته إلى نفسك فقلت: من لدني ومن لدنا زدت فيها نوناً أخرى، وأدغموا الأولى منهما ليسلم سكون النون ومثله قالوا في (من)، إذا أضافوه قالوا: مني ومنا.

3. قرأ ابن كثير، وابن عامر: (يضعفها) مشدده، الباقون: (يضاعفها) من المضاعفة.

4. الظلم هو الألم الذي لا نفع فيه يوفى عليه، ولا دفع مضرة أعظم منه عاجلا ولا آجلا، ولا هو مستحق، ولا هو واقع على وجه المدافعة، وأصله وضع الشيء في غير موضعه، وقيل: أصله الانتقاص، من قوله: ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ أي لم ينقص، والظلم انتقاص الحق، والظلمة انتقاص النور بذهابه، والظلم الثلج، لانتقاصه بالجمود، وشبه به ماء الأسنان، وفي المثل (من أشبه أباه فما ظلم)، وسقاء مظلوم إذا شرب منه قبل أن يدرك، والظليم ذكر النعام، لأنه يضع الشيء في غير موضعه من حيث‏ يحضن غير بيضه.

5. أصل المثقال الثقل، فالمثقال مقدار الشيء في الثقل، والثقل ما ثقل من متاع السفر، والمثقل الذي أثقله المرض، والثقيل البطي‏ء في عمله (فمثقال ذرة): مقدار ذرة في الزنة.

6. الذرة النملة الحمراء في قول ابن عباس، وابن زيد، وهي أصغر النمل، وهي من ذررت الشيء أذرة ذراً إذا بددته سحوقاً.

7. في الآية دلالة على أن منع الثواب ظلم لأنه لو لم يكن ذلك ظلماً لما كان لهذا الكلام معنى على هذا الترتيب، وفيه أيضاً دلالة على أنه قادر على الظلم، لأنها صفة تعظيم وتنزيه عن فعل ما يقدر عليه من الظلم، ولو لم يكن قادراً عليه لما كان فيه مدحة، غير أنه وإن كان قادراً عليه فإنه لا يفعله لعلمه بقبحه، وبأنه غني عنه، ولأنه لو فعل لكان ظالماً، لأن الاشتقاق يوجب ذلك وذلك منزه عنه تعالى.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/200.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الظلم في اللغة: أصله الانتقاص من قوله: ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ أي لم تنتقص، والظلم انتقاص الحق، ومنه الظلمة لانتقاص النور، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه لانتقاص حقه، وفي الشرع: هو الضرر القبيح الذي ليس بمستحق ولا فيه نفع ولا دفع ضرر، ولا يظن ذلك فيه.

ب. والمثقال: مقدار الشيء في الثقل، وأصله من الثقل، والثقيل: البطيء في العمل لثقله فيه، والثقل: ما ثقل من متاع السفر.

ج. الذَّرُّ: أصغر من النمل، وهو من ذَرَرْتُ الشيء أَذُرُّهُ ذَرًّا إذا بددته مسحوقًا.

د. ﴿تَكُ﴾ أصله من كان يكونُ) سقطت الضمة للجزم، وسقطت الواو لسكونها وسكون النون، فأما سقوط النون من ﴿يَكُنْ﴾ فلكثرة الاستعمال، وجاء في القرآن بالحذف والإثبات قال تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾ فجاء على الأصل.

هـ. في ﴿لَدُنْ﴾ أربع لغات: لدن بضم الدال وفتحها وسكونها، ولدنه عن الكسائي، فإذا أضافوه إلى أنفسهم شدد النون.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾:

أ. قيل: يعني لا ينقص أحدًا عن جزاء عمله شيئًا وإن قَلَّ.

ب. وقيل: لو أنفقوا في سبيل الله لما ضاع منه مثقال ذرة.

ج. وقيل: مثقال ذرة: النملة الحمراء الصغيرة التي لا تكاد تُرى عن ابن عباس وابن زيد، وهي أصغر النمل.

د. وقيل: هو أجزاء الهباء في الكوة كل جزء منها ذرة.

هـ. وقيل: هو الخردلة، وإنما ذكر ذلك مثلاً، يعني إذا لم يظلم بذلك القدر مع أنه لا يظهر حاله فكيف بأكثر منه.

و. وقيل: لا ينقص من حق مظلوم مثقال ذرة ولا يبقي على ظالم مقداره حتى يستوفي القصاص تامًا.

ز. وقيل: لا يحمل على عبد ما لم يعمل من الذنوب مثقال ذرة.

3. ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً﴾ أي وكان فعله حسنة أي عبادة وطاعة ﴿يُضَاعِفْهَا﴾:

أ. قيل: يجعلها أضعافًا كثيرة، ويضعفها يجعلها ضعفين عن أبي عبيدة.

ب. وقيل: يضاعفها السرور واللذات التي يؤتيها عباده.

ج. وقيل: يديمها ولا يقطعها.

د. وقيل: لا يكون مقدار ذرة حسنة لمؤمن إلا ضاعفها، ولا لكافر إلا خفف من عقابه.

4. ﴿وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ﴾ أي يعطيه من عنده ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وهو ثواب الجنة.

5. تدل الآية الكريمة على:

أ. أنه تعالى يقدر على الظلم؛ لذلك تمدح بنفيه فيبطل قول الْمُجْبِرَة.

ب. أنه لا يظلم الناس فثبت أن الظالم من يفعل الظلم.

ج. وجوب الثواب وأن منعه ظلم عن أبي علي.

د. أنه لا ينتقص حق أحد وإن قل، قال الحسن: ميزان الآخرة يثقل فيه ذرة وإن كان لا يتبين في موازين الدنيا.

هـ. الموازنة؛ لأنه لو لم ينقص من عقابه لكان نقص حقه.

و. أنَّه يثيب العبد جزاء عمله ولذلك سماه أجرا؛ لأنه يقابل العمل.

6. قرأ أبو جعفر ونافع وابن كثير ﴿حَسَنَةٌ﴾ بالرفع، والباقون بالنصب، فالنصب على أنه خبر ﴿كَانَ﴾، تقديره: وإن يكن فعله حسنة أو يكن زِنَةُ الذرة حسنة، والرفع على أنه اسم ﴿كَانَ﴾، ولا خبر لها حينئذ، وتقديره: وإنْ وقع حسنة أو حديث حسنة، وقرأ ابن كثير وابن عامر يُضَعِّفْها) بالتشديد من غير ألف من التضعيف، والباقون ﴿يُضَاعِفْهَا﴾ بالألف والتخفيف من المضاعفة.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/630

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الظلم: هو الألم الذي لا نفع فيه يوفي عليه، ولا دفع مضرة أعظم منه، عاجلا ولا آجلا، ولا يكون مستحقا ولا واقعا على وجه المدافعة، وأصله: وضع الشئ في غير موضعه، وقيل: أصله الانتقاص، من قوله: ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ فالظلم على هذا: انتقاص الحق، والظلمة: انتقاص النور بذهابه، وسقاء مظلوم: إذا شرب منه قبل أن يدرك، والظليم: ذكر النعام، لأنه يضع الشئ غير موضعه، من حيث يحضن غير بيضه.

ب. أصل المثقال: الثقل، فالمثقال: مقدار الشئ في الثقل، والثقل: ما ثقل من متاع السفر.

2. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ﴾ أحدا قط ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾:

أ. قيل: أي زنة ذرة، وهي النملة الحمراء الصغيرة التي لا تكاد ترى، عن ابن عباس، وابن زيد، وهي أصغر النمل.

ب. وقيل: هي جزء من أجزاء الهباء في الكوة من أثر الشمس.

3. إنما لا يختار الله تعالى الظلم، ولا يجوز عليه الظلم، لأنه عالم بقبحه، مستغن عنه، وعالم بغناه عنه، وإنما يختار القبيح من يختاره، لجهله بقبحه، أو لحاجته إليه، لدفع ضرر، أو لجر نفع، أو لجهله باستغنائه عنه، والله سبحانه منزه عن جميع ذلك، وعن سائر صفات النقص والعجز ولم يذكر سبحانه الذرة ليقصر الحكم عليها، بل إنما خصها بالذكر، لأنها أقل شئ مما يدخل في وهم البشر.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾:

أ. قيل: معناه: وإن تك زنة الذرة حسنة، يقبلها ويجعلها أضعافا كثيرة.

ب. وقيل: يجعلها ضعفين عن أبي عبيدة.

ج. وقيل: معناه يديمها، ولا يقطعها، ومثله قوله: ﴿ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره﴾، وكلتا الآيتين غاية في الحث على الطاعة، والنهي عن المعصية.

5. ﴿وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ﴾ أي يعطه من عنده ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أي جزاء عظيما، وهو ثواب الجنة.

6. تدل الآية الكريمة على:

أ. منع الثواب، والنقصان منه، ظلم، لأنه لو لم يكن كذلك لما كان لهذا الترغيب في الآية معنى.

ب. أنه سبحانه قادر على الظلم، لأنه نزه نفسه عن فعل الظلم، وتمدح بذلك، فلو لم يكن قادرا عليه، لم يكن فيه مدحة.

7. قراءات ووجوه:

أ. قرأ ابن كثير ونافع: (وإن تك حسنة) بالرفع، والباقون بالنصب.. من نصب ﴿حَسَنَةٌ﴾ فمعناه: وإن تك زنة الذرة حسنة، أو إن تك فعلته حسنة، ومن رفعها فمعناه: وإن يقع حسنة، أو إن يحدث حسنة، فيكون كان تامة لا تحتاج إلى خبر.

ب. قرأ ابن كثير وابن عامر: (يضعفها) بالتشديد، والباقون: ﴿يُضَاعِفْهَا﴾ بالألف.. ويضاعف ويضعف: بمعنى واحد، قال سيبويه: يجئ فاعلت ولا يراد به عمل اثنين، وكذلك قولهم: ناولته، وعاقبته، وعافاه الله، قال: ونحو ذلك، ضاعفت، وضعفت، وناعمت، ونعمت، وهذا يدل على أنهما لغتان.

8. مسائل لغوية ونحوية:

أ. أصل ﴿تَكُ﴾ تكون، فحذفت الضمة للجزم لسكونها، وسكون النون، فأما سقوط النون فلكثرة الاستعمال، فكأنهم أرادوا أن يجزموا الكلمة مرة أخرى، فلم يجدوا حركة يسقطونها، فأسقطوا الحرف، وقد ورد القرآن بالحذف والاثبات، قال سبحانه: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾ ومثل تك قولهم: لا أدر، ولم أبل، والأصل لا أدري، ولم أبال.

ب. ﴿لَدُنْ﴾ في موضع جر، وفيه لغات: لد، ولدن، ولدى، ولدا، والمعنى واحد، ومعناه: من قبله، ولدن لما يليك، و﴿عِنْدَ﴾ تكون لما يليك ولما بعد منك، تقول: عندي مال، وإن كان بينك وبينه بعد، وإذا أضفته إلى نفسك زدت فيه نونا أخرى، ليسلم سكون النون، تقول: لدني ولدنا، وكذلك مني ومنا.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/76.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ قد شرحنا الظّلم فيما سلف، وهو مستحيل على الله عزّ وجلّ، لأنّ قوما قالوا: الظّلم: تصرّف فيما لا يملك، والكلّ ملكه، وقال آخرون: هو وضع الشيء في غير موضعه، وحكمته لا تقتضي فعلا لا فائدة تحته.

2. مثقال الشّي‏ء: زنة الشّي‏ء، قال ابن قتيبة: يقال: هذا على مثقال هذا، أي: على وزنه، قال الزجّاج: وهو مفعال من الثّقل، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللّغويّ قال يظنّ الناس أن المثقال وزن دينار لا غير، وليس كما يظنّون، مثقال كل شيء: وزنه، وكل وزن يسمّى مثقالا، وإن كان وزن ألف، قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾ قال أبو حاتم: سألت الأصمعيّ عن صنجة مثقال الميزان، فقال: فارسيّ، ولا أدري كيف أقول، ولكني أقول: مثقال، فإذا قلت للرجل: ناولني مثقالا، فأعطاك صنجة ألف، أو صنجة حبّة، كان ممتثلا.

3. في المراد بالذّرّة خمسة أقوال:

أ. أحدها: أنه رأس نملة حمراء، رواه عكرمة عن ابن عباس.

ب. الثاني: ذرّة يسيرة من التراب، رواه يزيد بن الأصمّ، عن ابن عباس.

ج. الثالث: أصغر النّمل، قاله ابن قتيبة، وابن فارس.

د. الرابع: الخردلة.

هـ. الخامس: الواحدة من الهباء الظاهر في ضوء الشمس إذا طلعت من ثقب، ذكرهما الثّعلبيّ، واعلم أنّ ذكر الذّرّة ضرب مثل بما يعقل، والمقصود أنه لا يظلم قليلا ولا كثيرا.

4. ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً﴾ قرأ ابن كثير، ونافع: (حسنة) بالرفع، وقرأ الباقون بالنّصب، قال الزجّاج: من رفع، فالمعنى: وإن تحدث حسنة، ومن نصب، فالمعنى: وإن تك فعلته حسنة.

5. ﴿يُضَاعِفْهَا﴾ قرأ ابن عامر، وابن كثير: (يضعّفها) بالتشديد من غير ألف، وقرأ الباقون: (يضاعفها) بألف مع كسر العين، قال ابن قتيبة: يضاعفها بالألف: يعطي مثلها مرات، ويضعّفها بغير ألف: يعطي مثلها مرّة.

6. ﴿مِنْ لَدُنْهُ﴾ أي: من قبله، والأجر العظيم: الجنّة.

__________

(1) زاد المسير: 1/406.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تعلق هذه الآية هو بقوله تعالى: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ﴾ [النساء: 39] فكأنه قال فان الله لا يظلم من هذه حاله مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها، فرغب بذلك في الايمان والطاعة.

2. هذه الآية مشتملة على الوعد بأمور ثلاثة:

أ. الأول: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ الذرة النملة الحمراء الصغيرة في قول أهل اللغة، وروي عن ابن عباس أنه أدخل يده في‏ التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها، ثم قال كل واحد من هذه الأشياء ذرة و﴿مِثْقَالَ﴾ مفعال من الثقل يقال: هذا على مثقال هذا، أي وزن هذا، ومعنى‏ ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ أي ما يكون وزنه وزن الذرة، والمراد من الآية أنه تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيرا، ولكن الكلام خرج على أصغر ما يتعارفه الناس يدل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾ [يونس: 44]

ب. الثاني: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾.. الله تعالى بين بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ أنه لا يبخسهم حقهم أصلا، وبين بهذه الآية أن الله تعالى يزيدهم على استحقاقهم، والمراد من هذه المضاعفة ليس هو المضاعفة في المدة، لأن مدة الثواب غير متناهية، وتضعيف‏ غير المتناهي محال، بل المراد أنه تعالى يضعفه بحسب المقدار، مثلا يستحق على طاعته عشرة أجزاء من الثواب، فيجعله عشرين جزءا، أو ثلاثين جزءا، أو أزيد، روي عن ابن مسعود أنه قال يؤتى بالعبد يوم القيامة وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين: هذا فلان ابن فلان، من كان له عليه حق فليأت إلى حقه، ثم يقال له: أعط هؤلاء حقوقهم، فيقول: يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله لملائكته: انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها فان بقي مثقال ذرة من حسنة ضعفها الله تعالى لعبده وأدخله الجنة بفضله ورحمته، مصداق ذلك في كتاب الله تعالى: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾ وقال الحسن: قوله: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾ هذا أحب إلى العلماء مما لو قال في الحسنة الواحدة مائة ألف حسنة، لأن ذلك الكلام يكون مقداره معلوما أما على هذه العبارة فلا يعلم كمية ذلك التضعيف إلا الله تعالى، وهو كقوله في ليلة القدر إنها خير من ألف شهر، وقال أبو عثمان النهدي: بلغني عن أبي هريرة أنه قال إن الله ليعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة، فقدر الله أن ذهبت إلى مكة حاجا أو معتمرا فألفيته فقلت: بلغني عنك أنك تقول: إن الله يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة قال أبو هريرة: لم أقل ذلك، ولكن قلت: إن الحسنة تضاعف بألفي ألف ضعف، ثم تلا هذه الآية وقال: إذا قال الله: ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ فمن يقدر قدره.

ج. الثالث: قوله تعالى: ﴿وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.. ولا بد من الفرق بين هذا وبين قوله: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾ والذي يحظر ببالي والعلم عند الله، أن ذلك التضعيف يكون من جنس ذلك الثواب، وأما هذا الأجر العظيم فلا يكون من جنس ذلك الثواب، والظاهر أن ذلك التضعيف يكون من جنس اللذات الموعد بها في الجنة، وأما هذا الأجر العظيم الذي يؤتيه من لدنه، فهو اللذة الحاصلة عند الرؤية، وعند الاستغراق في المحبة والمعرفة، وإنما خص هذا النوع بقوله: ﴿مِنْ لَدُنْهُ﴾ لأن هذا النوع من الغبطة والسعادة والبهجة والكمال، لا ينال بالأعمال الجسدانية، بل إنما ينال بما يودع الله في جوهر النفس القدسية من الإشراق والصفاء والنور، وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادة الجسمانية، وهذا الأجر العظيم إشارة إلى السعادة الروحانية.

3. اختلف في دلالة قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ على كون الله تعالى خالقا لأعمال العباد:

أ. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: دلت هذه الآية على أنه تعالى ليس خالقا لأعمال العباد، لأن من جملة تلك الأعمال ظلم بعضهم بعضا، فلو كان موجد ذلك الظلم هو الله تعالى لكان الظالم هو الله، وأيضا لو خلق الظلم في الظالم، ولا قدرة لذلك الظالم على تحصيل ذلك الظلم عند عدمه، ولا على دفعه بعد وجوده، ثم إنه تعالى يقول لمن هذا شأنه وصفته: لم ظلمت ثم يعاقبه عليه، كان هذا محض الظلم، والآية دالة على كونه تعالى منزها عن الظلم.

ب. جواب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ: المعارضة بالعلم والداعي على ما سبق مرارا لا حد لها، وقد ذكرنا أن استدلالات المعتزلة وإن كثرت وعظمت، إلا أنها ترجع إلى حرف واحد، وهو التمسك بالمدح والذم والثواب والعقاب، والسؤال على هذا الحرف معين، وهو المعارضة بالعلم والداعي، فكلما أعادوا ذلك الاستدلال أعدنا عليهم هذا السؤال.

4. اختلف في دلالة قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ على كون الله تعالى قادرا على الظلم:

أ. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: دلت هذه الآية على أن الله تعالى قادر على الظلم لأنه تمدح بتركه، ومن تمدح بترك فعل قبيح لم يصح منه ذلك التمدح، إلا إذا كان هو قادرا عليه، ألا ترى أن الزمن لا يصح منه أن يتمدح بأنه لا يذهب في الليالي إلى السرقة.

ب. جواب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ: أنه تعالى تمدح بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم، ولم يلزم أن يصح ذلك عليه، وتمدح بأنه لا تدركه الأبصار، ولم يدل ذلك عند المعتزلة على أنه يصح أن تدركه الأبصار.

5. اختلف في دلالة قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ على كون العبد يستحق الثواب على طاعته:

أ. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: دلت هذه الآية على أن العبد يستحق الثواب على طاعته وأنه تعالى لو لم يثبه لكان ظالما، لأنه تعالى بين في هذه الآية أنه لو لم يثبهم على أعمالهم لكان قد ظلمهم، وهذا لا يصح إلا إذا كانوا مستحقين للثواب على أعمالهم.

ب. جواب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ:

أنه تعالى وعدهم بالثواب على تلك الأفعال، فلو لم يثبهم عليها لكان ذلك في صورة ظلم، فلهذا أطلق عليه اسم الظلم، والذي يدل على أن الظلم محال من الله، أن الظلم مستلزم للجهل والحاجة عندكم، وهما محالان على الله، ومستلزم المحال محال، والمحال غير مقدور.

وأيضا الظلم عبارة عن التصرف في ملك الغير، والحق سبحانه لا يتصرف إلا في ملك نفسه، فيمتنع كونه ظالما.

وأيضا: الظالم لا يكون إلها والشيء لا يصح إلا إذا كانت لوازمه صحيحة، فلو صح منه الظلم لكان زوال إلهيته صحيحا، ولو كان كذلك لكانت إلهيته جائزة الزوال، وحينئذ يحتاج في حصول صفة الإلهية له إلى مخصص وفاعل، وذلك على الله محال.

6. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: إن عقاب قطرة من الخمر يزيل ثواب الايمان والطاعة مدة مائة سنة، وقال أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ: هذا باطل، لأنا نعلم بالضرورة أن ثواب كل تلك الطاعات العظيمة تلك السنن المتطاولة، أزيد من عقاب شرب هذه القطرة، فاسقاط ذلك الثواب العظيم بعقاب هذا القدر من المعصية ظلم، وإنه منفي بهذه الآية.

7. اختلف المعتزلة في الإحباط:

أ. قال الجبائي: إن عقاب الكبيرة يحبط ثواب جملة الطاعات، ولا ينحبط من ذلك العقاب شيء.

ب. وقال ابنه أبو هاشم: بل ينحبط.

8. هذا المشروع صار حجة قوية لأهل السنة ـ ومن وافقهم ـ في بطلان القول بالإحباط، ذلك أنه لو انحبط ذلك الثواب لكان إما أن يحبط مثله من العقاب أولا يحبط، والقسمان باطلان، فالقول بالإحباط باطل:

أ. إنما قلنا إنه لا يجوز انحباط كل واحد منهما بالآخر، لأنه إذا كان سبب عدم كل واحد منهما وجود الآخر، فلو حصل العدمان معا لحصل الوجودان معا، ضرورة أن العلة لا بد وأن تكون حاصلة مع المعلول، وذلك محال.

ب. وإنما قلنا: إنه لا يجوز انحباط الطاعة بالمعصية مع أن المعصية لا تنحبط بالطاعة، لأن تلك الطاعات لم ينتفع العبد بها ألبتة، لا في جلب ثواب، ولا في دفع عقاب وذلك ظلم، وهو ينافي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ ولما بطل القسمان ثبت القول بفساد الإحباط على ما تقوله المعتزلة.

9. احتج أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية على أن المؤمنين يخرجون من النار إلى الجنة، فقالوا: لا شك أن ثواب الإيمان، والمداومة على التوحيد، والإقرار بأنه هو الموصول بصفات الجلال والإكرام، والمواظبة على وضع الجبين على تراب العبودية مائة سنة: أعظم ثوابا من عقاب شرب الجرعة من الخمر، فإذا حضر هذا الشارب يوم القيامة وأسقط عنه قدر عقاب هذه المعصية من ذلك الثواب العظيم فضل له من الثواب قدر عظيم، فإذا أدخل النار بسبب ذلك القدر من العقاب، فلو بقي هناك لكان ذلك ظلما وهو باطل، فوجب القطع بأنه يخرج إلى الجنة.

10. ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾، قرأ نافع وابن كثير حسنة بالرفع على تقديره (كان) التامة، والمعنى: وإن حدثت حسنة، أو وقعت حسنة، والباقون بالنصب على تقدير (كان) الناقصة والتقدير: وإن تك زنة الذرة حسنة، وقرأ ابن كثير وابن عامر (يضعفها) بالتشديد من غير ألف من التضعيف، والباقون‏ ﴿يُضَاعِفْهَا﴾ بالألف والتخفيف من المضاعفة.

11. تك: أصله من (كان يكون) وأصله (تكون) سقطت الضمة للجزم، وسقطت الواو لسكونها وسكون النون فصار (تكن) ثم حذفوا النون أيضا لأنها ساكنة، وهي تشبه حروف اللين، وحروف اللين إذا وقعت طرفا سقطت للجزم، كقولك: لم أدر، أي لا أدري وجاء القرآن بالحذف والإثبات، أما الحذف فههنا، وأما الإثبات، فكقوله: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾ [النساء: 135]

12. ﴿وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ لدن: بمعنى (عند) إلا أن (لدن) أكثر تمكينا، يقول الرجل: عندي مال إذا كان ماله ببلد آخر، ولا يقال: لدي مال ولا لدني، إلا ما كان حاضرا.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 10/81.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ أي لا يبخسهم ولا ينقصهم من ثواب عملهم وزن ذرة بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها، والمراد من الكلام أن الله تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيرا، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾والذرة:

أ. قيل: النملة الحمراء، عن ابن عباس وغيره، وهي أصغر النمل، وعنه أيضا رأس النملة، وقال يزيد بن هارون: زعموا أن الذرة ليس لها وزن، ويحكى أن رجلا وضع خبزا حتى علاه الذر مقدار ما يستره ثم وزنه فلم يزد على وزن الخبز شيئا، قلت: والقرآن والسنة يدلان على أن للذرة وزنا، كما أن للدينار ونصفه وزنا.

ب. وقيل: الذرة الخردلة، كما قال تعالى: ﴿فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا﴾

ج. وقيل غير هذا، وهي في الجملة عبارة عن أقل الأشياء وأصغرها، وفي صحيح مسلم عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها)

2. ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾ أي يكثر ثوابها، وقرأ أهل الحجاز ﴿حَسَنَةٌ﴾ بالرفع، والعامة بالنصب، فعلى الأول ﴿تَكُ﴾ بمعنى تحدث، فهي تامة، وعلى الثاني هي الناقصة، أي إن تك فعلته حسنة، وقرأ الحسن نضاعفها) بنون العظمة، والباقون بالياء، وهي أصح، لقوله: ﴿وَيُؤْتِ﴾، وقرأ أبو رجاء (يضعفها)، والباقون ﴿يُضَاعِفْهَا﴾ وهما لغتان معناهما التكثير، وقال أبو عبيدة: ﴿يُضَاعِفْهَا﴾ معناه يجعله أضعافا كثيرة، و(يضعفها) بالتشديد يجعلها ضعفين.

3. ﴿مِنْ لَدُنْهُ﴾ من عنده، وفيه أربع لغات: لدن ولدن ولد ولدى، فإذا أضافوه إلى أنفسهم شددوا النون، ودخلت عليه ﴿مِنْ﴾ حيث كانت ﴿مِنْ﴾ الداخلة لابتداء الغاية و﴿لَدُنْ﴾ كذلك، فلما تشاكلا حسن دخول ﴿مِنْ﴾ عليها، ولذلك قال سيبويه في لدن: إنه الموضع الذي هو أول الغاية، ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ يعني الجنة.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/195.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ المثقال: مفعال من الثقل، كالمقدار من القدر، وهو منتصب على أنه نعت لمفعول محذوف، أي: لا يظلم شيئا مثقال ذرة، والذرّة: واحدة الذرّ، وهي النمل الصغار؛ وقيل: رأس النملة، وقيل: الذرّة: الخردلة؛ وقيل: كل جزء من أجزاء الهباء الذي يظهر فيما يدخل من الشمس من كوة أو غيرها ذرة، والأوّل هو المعنى اللغوي الذي يجب حمل القرآن عليه، والمراد من الكلام أن الله لا يظلم كثيرا ولا قليلا، أي: لا يبخسهم من ثواب أعمالهم، ولا يزيد في عقاب ذنوبهم وزن ذرّة فضلا عما فوقها.

2. ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾ قرأ أهل الحجاز: حسنة بالرفع، وقرأ من عداهم: بالنصب؛ والمعنى على القراءة الأولى: إن توجد حسنة، على أنّ كان هي التامة لا الناقصة؛ وعلى القراءة الثانية: إن تك فعلته حسنة يضاعفها؛ وقيل: إن التقدير: إن تك مثقال الذرّة حسنة، وأنت ضمير المثقال لكونه مضافا إلى المؤنث، والأوّل أولى، وقرأ الحسن: نضاعفها بالنون، وقرأ الباقون: بالياء، وهي الأرجح لقوله: ﴿وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وقد تقدّم الكلام في المضاعفة، والمراد: مضاعفة ثواب الحسنة.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/539.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ﴾ لا ينقص ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ من حقِّ أحد بزيادتها في الشرِّ، إذ حقُّه أن لا تزاد عليه، أو بإبطلانها من حسناته، والمثقال: (مفعال)، من الثقل، بمعنى: ما يوزن ويثقل كثقل الذرَّة، ويقال: هذا على مثقال ذلك، أي: على وزنه، وهي جزء من ألف جزء من حبَّة خردل أو نحوها، وذلك لا يعرف قدره إِلَّا الله، أو أربعة وعشرون قيراطًا وهو غير القيراط المعروف، أو الذرَّة زنة مائة منها حبَّة شعيرًا، أو النملة الصغيرة جدًّا لا تكاد ترى، أو رأس النملة، وقرأ ابن مسعود: (مثقال نملة)، أو جزء من أجزاء هباء الكوَّة، أو الخردلة، أو ما يطير بالنفخ على يد خرجت من التراب.

2. ومثقال الذرَّة مستعمل في الجاهليَّة والإسلام، ولم يقل: (مقدار ذرَّة) ليذكر ما يدلُّ على الوزن، كما قال: ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ [القارعة: 6]، وهو مفعول مطلق، أي: ظلمًا يساوي ذرَّة، أو مفعول به، والمراد بالوزن: البيان للمقدار لا الوزن بكفَّات وعمود.

3. ﴿وَإِن تَكُ حَسَنَةٌ يُضَاعِفْهَا﴾ يضاعف ثوابها إلى عشرة، وإلى سبعمائة، وإلى أكثر كما مَرَّ في سورة البقرة على الصدقة، وروى أبو داود عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من دخل السوق وقال: لا إله إِلَّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يُحيي ويميت، بيده الخير وهو على كلِّ شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيِّئة، ورفع له ألف ألف درجة)، وفي سنده ضعف، عن أبي هريرة: (ألفي ألف حسنة)، وهو على ظاهره، وقيل: المراد الكثرة، وفي حديث ضعيف: (من قال: سبحان الله كتب الله له ألف حسنة)، ويروي: (وأربعا وعشرين ألف حسنة)

4. ﴿وَيُوتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ قال أبو هريرة: (إذا قال أجرًا عظيمًا فمن يقدر قدره؟)، والحسنة في مكَّة بمائة ألف حسنة، والسيِّئة بمائة سيِّئة، وفي غيرها بواحدة، وهذا الأجر العظيم زيادة فضل، سمَّاها أجرًا لبنائها عليه، أو مضاعفة الحسنة: تكريرها، والأجر العظيم ثوابها، وذلك أن تكون الصلاة عشر صلوات، أو سبعمائة صلاة فصاعدًا فيما قال بعض المحقِّقِينَ.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/187.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ أي لا يبخس أحدا من ثواب عمله ولا يزيد في‏ عقابه شيئا مقدار ذرة، وهي النملة الصغيرة، في قول أهل اللغة، قال ثعلب: مائة من الذر زنة حبة شعير، وهذا مثل ضربه الله تعالى لأقل الأشياء، والمعنى: إن الله تعالى لا يظلم أحدا شيئا، قليلا ولا كثيرا، فخرج الكلام على أصغر شيء يعرفه الناس.

2. ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾ أي وإن تك مثقال ذرة حسنة يضاعف ثوابها، وإنما أنث ضمير المثقال لتأنيث الخبر، أو لإضافته إلى الذرة ﴿وَيُؤْتِ﴾ أي زيادة على الأضعاف‏ ﴿مِنْ لَدُنْهُ﴾ مما يناسب عظمته على نهج التفضل‏ ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أي عطاء جزيلا، وقد ورد في معنى هذه الآية أحاديث كثيرة:

أ. منها ما في الصحيحين‏ عن أبي سعيد الخدريّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث الشفاعة الطويل: وفيه: فيقول الله عز وجل: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار، وفي لفظ: أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوه من النار، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقول أبو سعيد: اقرؤا إن شئتم‏ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾

ب. وقد روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال: فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة، أي بحسنته، ولا يخرج من النار أبدا.

ج. روى أبو داود الطيالسيّ في مسنده عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن الله عز وجل لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا، ويجزي بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة.

د. ورواه مسلم‏ أيضا عن أنس أيضا مرفوعا، ولفظه: إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له حسنة يجزى بها.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/112.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال البقاعي في نظم الدرر مبينا وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها: (ولما فرغ من توبيخهم قال معللا له: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ الخ)، وقال الرازي: (اعلم أن تعلق هذه الآية بقوله تعالى: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا﴾ الخ فكأنه قال فإن الله لا يظلم من هذه حاله مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها فرغب بذلك في الإيمان والطاعة)، وقال محمد عبده: (بعد ما بين تعالى صفات المتكبرين وسوء حالهم وتوعدهم على ذلك أراد أن يزيد الأمر تأكيدا ووعيدا فبين أنه لا يظلم أحدا من العاملين بتلك الوصايا قليلا أو كثيرا بل يوفيه حقه بالقسطاس المستقيم، فالآية تتميم لموضوع الأوامر السابقة وترغيب للعاملين في الخير كما قال في سورة الزلزلة: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7] الخ فمن سمع هذه الآية تعظم رغبته في الخير ورجاؤه في الله تعالى)

2. قال محمد عبده: وللعابثين بالكتاب وبعقائد الناس كلام في الآية أقاموه على أساس مذاهبهم فمن ذلك قول المعتزلة أنه يجوز الظلم على الله تعالى (عقلا) لأنه لو لم يكن جائزا لما تمدح بنفيه ورد عليهم الآخرون بأنه تعالى نفى عن نفسه السنة والنوم وأنتم متفقون معنا على استحالة ذلك عليه فردوا عليهم بأن نفي الظلم كلام في أفعاله، ونفي النوم كلام في صفاته وفرق بينهما، وهذا كله من الجدل الباطل والهذيان، وإدخال الفلسفة في الدين بغير عقل ولا بيان، ومثله قول بعض المنتمين إلى السنة بجواز تخلف الوعيد، ولا يعد ذلك ظلما لأن الظلم لا يتصور منه تعالى وبلغ بهم الجهل من تأييد هذا الرأي إلى تجويز الكذب على الله تعالى وجعلوا هذا نصرا للسنة، والذي قذف بهؤلاء في هذه المهاوي هو الجدل والمراء لتأييد المذاهب التي تقلدوها والتزام كل فريق تفنيذ الآخر وإظهار خطئه لا طلب الحق أينما ظهر، ولهم مثل هذه الجهالات الكثيرة البعيدة عن كتاب الله ودينه كقول المعتزلة إن بعض الأشياء حسن لذاته وبعضها قبيح لذاته ويجب على الله تعالى أن يفعل الأصلح من الأمرين الجائزين وكقول بعض من لم يفهم مسألة أفعال العباد بما يدل على جواز العبث على الله تعالى وكل هذا جهل.

3. قال: والذي يفهم من الآية أن هناك حقيقة ثابتة في نفسها وهي الظلم وأن هذا لا يقع من الله تعالى لأنه من النقص الذي يتنزه عنه، وهو ذو الكمال المطلق والفضل العظيم، وقد خلق للناس مشاعر يدركون بها وعقولا يهتدون بها إلى ما لا يدركه الحس، وشرع لهم من أحكام الدين وآدابه ما لا تستقل عقولهم بالوصول إلى مثله في هدايتهم وحفظ مصالحهم وجعل فوائد الدين وآدابه سائقة إلى الخير صارفة عن الشر لتأييدها بالوعد والوعيد فمن وقع بعد ذلك فيما يضره ويؤذيه وترتبت عليه عقوبته كان هو الظالم لنفسه لأن الله لا يظلم أحدا.

4. قال: ونفي الظلم ههنا على إطلاقه يشمل المؤمن والكافر والذرة فيه عبارة عن منتهى الصغر في الأجسام وقيل الذر الهباء وقيل النمل الصغير الأحمر أو الذرة رأس النملة الصغيرة، وأظهر من هذه الآية في العموم ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ الخ وقد قدر مفسرنا (الجلال) في الآية هنا ﴿أَحَدًا﴾ للإشارة إلى العموم، ولكن ورد في الكافرين ما يدل على أنه لا أثر لعملهم في الآخرة كقوله: ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ [الكهف: 105] وقد قال بعضهم في الجمع إن الله يجازيهم على أعمالهم في الدنيا وهذا تأويل لا يأتي في سورة الزلزلة لأن الكلام فيها خاص بيوم القيامة، وقال بعضهم غير ذلك، كل يحمل الآية على مذهبه كما هي عادة المقلدين في جعل مذاهبهم أصلا والقرآن العزيز فرعا يحمل عليها ولو بالتأويل السقيم والتحريف البعيد.

5. قال: ومن العجب أن يقول قائل بهذه التأويلات وقد ورد في الأحاديث المسلمة عند قائليها أن بعض المشركين يخفف عنه العذاب بعمل له: حاتم بكرمه، بل ورد حديث بالتخفيف عن أبي لهب لعتقه ثويبة حين بشرت بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا وأبو لهب هو الذي نزل فيه ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد: 1] الخ السورة فالمعنى الصحيح إذن للآيات هو أن الله لا يقيم وزنا للمشرك في مقابلة شركه بمعنى أنه لا يقابل الشرك عمل صالح فيمحوه بل الأعمال الصالحة بإزاء الشرك هباء ولكن المشرك العاصي أشد عذابا من المشرك المحسن، ولا يعقل أن يكون المحسن والمسيء عنده تعالى سواء فإن هذا من الظلم المنفي بلا شك.

6. المثقال مفعال من الثقل المقدار الذي له ثقل مهما قلّ، وأطلق على المعيار المخصوص للذهب وغيره وهو معروف، والذرة أصغر ما يدرك من الأجسام كما اختار محمد عبده وما أطلق على النملة وعلى رأسها وعلى الخردلة وعلى الدقيقة من دقائق الهباء وهو ما يظهر في نور الشمس الداخل من الكوى إلا لبيان مكان صغر هذه الأشياء ولذلك روي عن ابن عباس في الذرة روايتان مختلفتان روي عنه أنها رأس النملة وروي عنه أنه أدخل يده في التراب ثم نفخ فيه فقال كل واحدة من هؤلاء ذرة، وروي أن ابن مسعود قرأ: إن الله لا يظلم مثال نملة وقد بينا من قبل أن مثل هذه القراءة لا يقصد بها القرآن، وإنما يقصد بها التفسير.

7. الظلم معناه في الأصل النقص كما قال تعالى في سورة الكهف: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف: 33] فمعنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ إن الله تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله والجزاء عليه شيئا ما وإن صغر كذرة الهباء بل يوفيه أجره، ولا يعاقبه بغير استحقاق للعقوبة، وقد بينا معنى نفي الظلم عن البارئ في مواضع من التفسير ومن المنار منها تفسير: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 117]، ومنها تفسير: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [آل عمران: 182]، وتفسير: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [آل عمران: 192] في ذلك الجزء أيضا، ولا أذكر غيرها الآن.

8. ومما يوضح هذا المعنى في التفسير الكلام في الجزاء وموازين الأعمال، ولا تفهم هذه الآية حق الفهم إلا باستبانة ما حققناه غير مرة في معنى الجزاء وكون الثواب والعقاب تابعين لتأثير أعمال الإنسان في نفسه بالتزكية أو التدسية والقرآن يفسر بعضه بعضا ويؤيد بعضه بعضا، وما أخطأ كثير من العلماء في فهم كثير من الآيات إلا لذهولهم عن مقارنة الآيات المتناسبة بعضها ببعض واستبدالهم بذلك تحكيم الاصطلاحات والقواعد التي وضعها علماء مذاهبهم وإرجاع الآيات إليها وحملها عليها فهذا يستشكل نفي الظلم عن الله عز وجل لأن العبيد لا يستحقون عنده شيئا من الأجر فيكون منعه أو النقص منه ظلما ثم يجيب عن ذلك بأنه بالنسبة إلى الوعد فهو قد وعد بإثابة المحسن وأوعد بعقاب المسيء ثم جعلوا جواز تخلف الوعد أو الوعيد محل بحث وجدال أيضا، وهذا يقول إن إثابة المحسن وعقاب المسيء أمر حسن في ذاته موافق للحكمة فهو واجب عليه تعالى أو واجب في حقه كما يجب له كل كمال ويستحيل عليه كل نقص فقام الآخرون يجادلونهم على لفظ يجب عليه ولعلهم قالوا يجب له فحرفوها، ومهما قالوا فالمقصد واحد وهو إثبات الكمال لله تعالى وتنزيهه عن النقص.

9. وأكثر الجدل الذي أهلك المسلمين وفرقهم شيعا وأذاق بعضهم بأس بعض كان مبنيا على المشاحة في الألفاظ والاصطلاحات، وكتاب الله ودينه يتبرأ من ذلك وينهى عنه، ومن فهم من مجموع القرآن ما قررناه مرارا في مسألة الجزاء يفقه معنى نفي الظلم عليه تبارك اسمه وتعالى جده فلكل عمل أثر في نفس العامل يرفع نفسه بالحق والخير إلى عليين، أو يهبط بها إلى سافلين، ولذلك درجات ومثاقيل مقدرة في نفسها لا يحيط بدقائقها إلا من أحاط بكل شيء علما.

10. ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾ أي أنه تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله مثقال ذرة ولكنه يزيد للمحسن في حسنته، فإن كانت الذرة التي عملها العامل سيئة كان جزاؤها بقدرها، وإن كانت حسنة يضاعفها له الله تعالى عشرة أضعاف أو أضعافا كثيرة كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 160] وفي معناها آيات وقال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 244] وقرأ ابن كثير ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً﴾ برفع حسنة أي وإن توجد حسنة يضاعفها، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وابن جبير ﴿يضعفها﴾ بتشديد العين من التضعيف وهو بمعنى المضاعفة، وردوا قول أبي عبيدة أن ضاعف يقتضي مرارا كثيرة وضعف يقتضي مرتين.

11. ﴿وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ يعني أن فضله تعالى أوسع أن يضاعف للمحسن حسنته فقط بأن لا يكون عطاؤه إلا في مقابلة الحسنات بل يزيد المحسنين من فضله ويعطيهم من لدنه أي من عنده لا في مقابلة حسناتهم أجرا عظيما أي عطاء كبيرا، قالوا أنه سمّى هذا العطاء أجرا وهو لا مقابل له من الأعمال لأنه تابع للأجر على العمل فسمي باسمه من قبيل مجاز المجاورة، ولعل نكتة هذا التجوز هي الإيذان بأن هذا العطاء العظيم لا يكون لغير المحسنين فهو علاوة على أجور أعمالهم والعلاوة على الشيء تقتضي وجود ذلك الشيء فلا مطمع فيها للمسيئين الذين غلبت سيئاتهم المفردة على حسناتهم المضاعفة، فما قولك بالمشركين الذين طمست حسناتهم في ظلمة شركهم والعياذ بالله تعالى، والظاهر أن هذا الأجر العظيم هو النعيم الروحاني برضوان الله الأكبر وقد تقدم الكلام فيه غير مرة فراجعه في مظانّه.

12. من مباحث اللفظ في الآية حذف النون في قوله: ﴿وَإِنْ تَكُ﴾ فإن أصلها) تكن) فحذفت النون للتخفيف سماعا وعللوه بتشبيهها بحروف العلة من حيث الغنة والسكون، ﴿ولدن﴾ بمعنى عند وقال بعضهم إن لدن أقوى في الدلالة على القرب من عند فلا يقال لدي مال إلا إذا كان حاضرا، ويقال عندي مال وإن كان غائبا.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/105.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن بيّن عز اسمه صفات المتكبرين وسوء أحوالهم وتوعدهم على ذلك بأشد أنواع الوعيد ـ زاد الأمر توكيدا وتشديدا فذكر أنه لا يظلم أحدا من العاملين بوصاياه لا قليلا ولا كثيرا، بل يوفيه حقه بالقسطاس المستقيم، وفي هذا أعظم الترغيب لفاعلى البر والإحسان وحفز لهممهم على العمل، وفي معنى الآية قوله: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾

2. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ أي إنه تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله، والجزاء عليه شيئا ما وإن صغر كذرة الهباء بل يوفيه أجره، كما لا يعاقبه بغير استحقاق للعقوبة، إذ أن الثواب والعقاب تابعان لتأثير الأعمال في النفس بتزكيتها أو تدسيتها، فالعمل يرفعها إلى أعلى عليين أو يهبط بها إلى أسفل سافلين، ولذلك درجات ومثاقيل مقدّرة في نفسها لا يحيط بدقائقها إلا من أحاط بكل شيء علما.

3. والخلاصة ـ إن الظلم لا يقع من الله تعالى لأنه من النقص الذي يتنزه عنه وهو ذو الكمال المطلق والفضل العظيم، وقد خلق للناس مشاعر يدركون بها ما لا يدركه الحس، وشرع لهم من أحكام الدين وآدابه ما لا تستقل عقولهم بالوصول إلى مثله في هدايتهم وحفظ مصالحهم، وهى تسوق إلى الخير وتصرف عن الشر وأيدها بالوعد والوعيد، فمن وقع بعد ذلك فيما يضره ويؤذيه كان هو الظالم لنفسه لأن الله لا يظلم أحدا.

4. ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾ أي إنه تعالى مع كونه لا ينقص أحدا من أجر عمله مثقال ذرة يزيد للمحسن في حسناته، فالسيئات جزاؤها بقدرها، والحسنات يضاعف الله تعالى جزاءها عشرة أضعاف أو أضعافا كثيرة كما قال في آية أخرى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ وقال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾

5. ﴿وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أي إنه تعالى لواسع فضله لا يكتفى بجزاء المحسنين على إحسانهم فحسب، بل يزيدهم من فضله ويعطيهم من لدنه عطاء كبيرا، وسمى هذا العطاء أجرا ولا مقابل له من الأعمال، لأنه لما كان تابعا للأجر على العمل سمى باسمه لمجاورته له، وفي ذلك إيماء إلى أنه لا يكون لغير المحسنين، إذ هو علاوة على أجور أعمالهم، فلا مطمع للمسيئين فيه.

__________

(1) تفسير المراغى: 5/42.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

عندئذ يسأل في استنكار: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، أجل! ماذا عليهم؟ ما الذي يخشونه من الإيمان بالله واليوم الآخر، والإنفاق من رزق الله، والله عليم بهم بما أنفقوا وبما استقر في قلوبهم من بواعث، والله لا يظلم مثقال ذرة فلا خشية من الجهل بإيمانهم وإنفاقهم، ولا خوف من الظلم في جزائهم.. بل هناك الفضل والزيادة، بمضاعفة الحسنات، والزيادة من فضل الله بلا حساب؟

1. إن طريق الإيمان أضمن وأكسب ـ على كل حال وعلى كل احتمال ـ وحتى بحساب الربح المادي والخسارة المادية، فإن الإيمان ـ في هذه الصورة ـ يبدو هو الأضمن وهو الأربح! فما ذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر، وأنفقوا مما رزقهم الله؟ إنهم لا ينفقون من شيء خلقوه لأنفسهم خلقا؛ إنما هو رزق الله لهم، ومع ذلك‏ يضاعف لهم الحسنة؛ ويزيدهم من فضله، وهم من رزقه ينفقون ويعطون! فيا له من كرم! ويا له من فيض! ويا لها من صفقة لا يقعد عنها إلا جاهل خسران!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/662.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا حكم الله بين عباده، لا يظلمهم مثقال ذرة، بل يوفّون حسابهم عليها، فإن كانت سيئة حوسبوا بقدرها، وإن كانت حسنة جوزوا بأضعافها.. فهذا من فضل الله ورحمته بعباده، السيئة سيئة، والحسنة حسنات، عشرة أو عشرات، أو مئات.. والله يضاعف لمن يشاء: ﴿وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/792.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ استئناف بعد أن وصف حالهم، وأقام الحجّة عليهم، وأراهم تفريطهم مع سهولة أخذهم بالحيطة لأنفسهم لو شاؤوا، بيّن أنّ الله منزّه عن الظلم القليل، بله الظلم الشديد، فالكلام تعريض بوعيد محذوف هو من جنس العقاب، وأنّه في حقّهم عدل، لأنّهم استحقّوه بكفرهم، وقد دلّت على ذلك المقدّر أيضا مقابلته بقوله: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً﴾ ولمّا كان المنفي الظلم، على أنّ (مثقال ذرّة) تقدير لأقلّ ظلم، فدلّ على أنّ المراد أنّ الله لا يؤاخذ المسيء بأكثر من جزاء سيّئته.

2. انتصب‏ ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ بالنيابة عن المفعول المطلق، أي لا يظلم ظلما مقدّرا بمثقال ذرّة، والمثقال ما يظهر به الثّقل، فلذلك صيغ على وزن اسم الآلة، والمراد به المقدار، والذّرة تطلق على بيضة النملة، وعلى ما يتطاير من التراب عند النفخ، وهذا أحقر ما يقدر به، فعلم انتفاء ما هو أكثر منه بالأولى، وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر ﴿حَسَنَةٌ﴾ ـ بالرفع ـ على أنّ (تك) مضارع كان التامّة، أي إن توجد حسنة، وقرأه الجمهور ـ بنصب‏ ـ ﴿حَسَنَةٌ﴾ على الخبرية لـ ﴿تَكُ﴾ على اعتبار كان ناقصة، واسم كان المستتر عائد إلى مثقال ذرّة، وجي‏ء بفعل الكون بصيغة فعل المؤنث مراعاة لفظ ذرّة الذي أضيف إليه مثقال، لأنّ لفظ مثقال مبهم لا يميّزه إلّا لفظ ذرّة فكان كالمستغنى عنه.

3. المضاعفة إضافة الضّعف ـ بكسر الصاد ـ أي المثل، يقال: ضاعف وضعّف وأضعف، وهي بمعنى واحد على التحقيق عند أئمّة اللغة، مثل أبي علي الفارسي، وقال أبو عبيدة ضاعف يقتضي أكثر من ضعف واحد وضعّف يقتضي ضعفين، وردّ بقوله تعالى: ﴿يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾ [الأحزاب: 30]، وأمّا دلالة إحدى الصيغ الثلاث على مقدار التضعيف فيؤخذ من القرائن لحكمة الصيغة، وقرأ الجمهور: ﴿يُضَاعِفْهَا﴾، وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر: ﴿يُضَاعِفْهَا﴾ ـ بدون ألف بعد العين وبتشديد العين ـ.

4. الأجر العظيم ما يزاد على الضعف، ولذلك أضافه الله تعالى إلى ضمير الجلالة، فقال: ﴿مِنْ لَدُنْهُ﴾ إضافة تشريف، وسمّاه أجرا لكونه جزاء على العمل الصالح، وقد روي أنّ هذا نزل في ثواب الهجرة.

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/129.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة، سواء أكانت هذه العبادة في التكليفات التي خصصت للعبادة ذاتها، أم كانت من المعاملات بين الناس التي لا بد من نية القربة فيها، فالإنفاق لا بد أن يخلص لله تعالى، كالصلاة لا بد أن تكون خالصة لله، فالنية في الأقوال والأفعال أساس الجزاء من عقاب وثواب، وفي هذه الآية الكريمة بين الجزاء الأوفى من خير أو شر، وأن الشر لا يجازى إلا بمثله، وأن الحسنة تكون بأضعافها.

2. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ المثقال ـ معناه المقدار الذي له ثقل يحتمل أن يوزن، والذرة الغبار الذي لا يرى في أكثر الأحوال، والمعنى اللفظي أن الله لا ينقص عاملا حقا وزن ذرة، وهى لا تعلى الميزان ولا تخفضه، إلا أن يكون ميزانا دقيقا جدا، وهذا النوع من الموازين لا يوجد في الدنيا، ولكن يوجد في الآخرة، فعندئذ تكون الموازين القسط التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا قومتها.

3. معنى النص في مرماه أن الله سبحانه وتعالى، لا ينقص أحدا من ثواب عمله أي مقدار ولو ضؤل، فهذا الكلام فيه استعارة مؤداها أنه لا ينقص عمل عامل، لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة]، وإن النص عام يشمل المؤمن وغير المؤمن في ظاهره، ولذا تكلم العلماء في أعمال الخير التي تقع من الكافر إذا قصد بها وجه الله تعالى مع كفره وضلاله، وقال الأكثرون إن الله لا يغفر الشرك، ويعطى الكافر ثواب الخير في الدنيا، أما المسلم فيؤتيه ثواب الخير في الدنيا والآخرة، واستندوا في ذلك إلى ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس، أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى بها إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها)

4. وإن ذلك نظر حسن يفسره ما نراه للكافرين من نعم مادية في الدنيا تجرى عليهم، فلعلها ثمرة لما عملوا من بعض الخيرات في التعاون الإنساني وثمرة لاتخاذهم أسباب الرزق على وجه كامل، ويميل الشيخ محمد عبده إلى أن الكافر إن عمل خيرا يقصد به وجه الله أو سبيل الخير المجردة، لا يضيعه الله تعالى عليه يوم القيامة، ولكن ينقص به من سيئاته، غير الكفر والإشراك فإن هذين لا يكفرهما شيء، ويؤيد نظره هذا بأن الآثار قد وردت بأنه يخفف عن أبى لهب لعتقه ثويبة حين بشرت بمولد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم‏، وأبو لهب هذا هو الذي قال الله تعالى فيه وفي امرأته: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ إلى قوله: ﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ [المسد]، فحسنات الكفار تكفر السيئات التي دون الشرك والكفر، على هذا النظر، فالكفر لا يغفر، ويذهب من السيئات الأخرى بمقدار الحسنات، ونحن لا نرى في ذلك خروجا عن حكم الإسلام، وهو معقول في ذاته يتفق مع عموم النصوص، وإن كنا نميل إلى الأول.

5. ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وإن الله سبحانه وتعالى عفو غفور رحيم بعباده، لا يكتفى بمنع الظلم عمن يحسن، بل إنه يضاعف الأجر لمن يحسن، و(تك) أصلها (تكن) حذفت النون و(كان) هنا ناقصة، والمعنى: وإن تكن الفعلة حسنة تكون مضاعفة، ومعنى يضاعفها أي يكون بدلها أمثالا كثيرة لها، وقد قيل: إن الفرق بين المضاعفة والتضعيف أن المضاعفة تكون بأضعاف كثيرة، والتضعيف يكون بضعفين اثنين، والمؤدى أن الحسنة تكون بأمثال كثيرة لها كقوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة] وقوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الأنعام‏] فالله سبحانه وتعالى لا ينقص من عمل الخير شيئا بل يضاعفه في الآخرة، وإن الله سبحانه وتعالى فوق هذا الجزاء المضاعف أضعافا كثيرة يزيد المحسن من عطائه، ولذا قال سبحانه: ﴿وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أي أن الله تعالى يعطى عطاء كثيرا، غير ملاحظ فيه المثلية والمضاعفة، بل إنه سبحانه فوق مضاعفة الحسنة بأمثالها، يعطى عطاء سمحا غير مقيد بالمضاعفة، بل إنه يكون سماحا، وكرما من الله تعالى، وسمى ذلك العطاء أجرا، وهو في الحقيقة ليس في مقابل عمل؛ لأن مقابلة العمل كانت بالأمثال السابقة؛ لأن الأجر قد يطلق على مطلق العطاء، وإن لم يكن له مقابل، وتفضل الله تعالى في كرمه فسماه أجرا، وإن لم يكن له نظير، فهو أجر غير ممنون.

6. وقد عظم الله سبحانه وتعالى ذلك العطاء غير الممنون بوصفين:

أ. أحدهما: أنه عظيم في ذاته ذو جلال وشأن، فهو رضوان الله تعالى، ونعيم مقيم، وجنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

ب. الثاني: أنه عطاء من لدن الله تعالى، فهو قد نال شرفا إضافيا بأنه من الله تعالى، وكانت عظمة العطاء على ذلك الوجه ليقدم المؤمن على العمل الصالح.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1684.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾، بعد أن أمر سبحانه بعبادته، وبالإحسان للوالدين، ومن ذكر معهم، وعقب بذم البخل، ومن أنفق رياء، ومن كتم فضل الله، وتوعد المختالين واخوان الشياطين، بعد هذا بيّن سبحانه مؤكدا انه لا ينقص أحدا من أجر عمله شيئا، وان كان كذرة الهباء، بل يضاعف ثواب المحسنين تفضلا من عنده، كما قال: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، ومن لدنه اشارة الى انه تعالى يعطي المحسن في مقابل حسناته، ثم يزيده علاوة على أجره‏ ﴿أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾

2. وللفلاسفة أقوال في ان الله: هل يثيب المطيع على سبيل الحتم والاستحقاق، بحيث لو منعه لكان ظالما له.. تعالى الله.. أو على سبيل التفضل والإحسان؟ والأقرب في رأينا ان الله سبحانه يثيب على الواجب تفضلا، لأنه لا أجر ولا شكر على واجب، أما المستحب فيثبت عليه استحقاقا.. وعلى أية حال، فإن الأمر سهل، لأن الثواب حاصل، ما في ذلك ريب ولا خلاف، وعليه يكون النزاع في أن سببه التفضل أو الاستحقاق يكون هذا النزاع عقيما، ما دام السبب خارجا عن المقدور والاستطاعة.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/327.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ الآية، المثقال‏ هو الزنة، والذرة هو الصغير من النمل الأحمر، أو هو الواحد من الهباء المبثوث في الهواء الذي لا يكاد يرى صغرا، وقوله: ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ نائب مناب المفعول المطلق أي لا يظلم ظلما يعدل مثقال ذرة وزنا.

2. ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً﴾، قرئ برفع حسنة وبنصبها فعلى تقدير الرفع كان تامة، وعلى تقدير النصب تقديره: وإن تكن المثقال المذكور حسنة يضاعفها، وتأنيث الضمير في قوله: ﴿إِنْ تَكُ﴾ إما من جهة تأنيث الخبر أو لكسب المثقال التأنيث بالإضافة إلى ذرة.

3. والسياق يفيد أن تكون الآية بمنزلة التعليل للاستفهام السابق، والتقدير: ومن الأسف عليهم أن لم يؤمنوا ولم ينفقوا فإنهم لو آمنوا وأنفقوا والله عليم بهم لم يكن الله ليظلمهم في مثقال ذرة أنفقوها بالإهمال وترك الجزاء، وإن تك حسنة يضاعفها

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/356.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وهذا زيادة في الاحتجاج على أولئك الفريقين، وكلهم يبخلون على اختلاف نوعي البخل، فهو يبين أنهم لو أنفقوا مع أن يكونوا مؤمنين لَما ضاع عليهم مثقالُ ذرة مما أنفقوا وأحسنوا، بل كان يضاعف لهم كل حسنة من الإنفاق والإيمان وغيره، وقد مرّ تفسير مضاعفتها، ويؤتون في الآخرة.

2. ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وهو ثوابها ضوعف كما ضوعفت حسناتهم وهذا عام لهم ولغيرهم فهو ترغيب في فعل الخير وإنفاق الخير.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/78.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وهذا هو الذي يريد الله للمؤمن أن يفكر فيه ويعيشه، في كل ما يتحرك فيه من عمل صالح، مما يشقّ عليه أمره ويجهده ثقله وتشتد عليه مؤونته، فإن الله الذي وعد المؤمن بالأجر والثواب على ذلك كله، لا يمكن أن يظلمه مثقال ذرة مما عمله، فلا يمنعه حقه الذي فرضه على نفسه، بل إن الله لا يكتفي بالثواب الموعود الذي يستحقه على العمل، وإنما يضاعف الحسنات بدرجات متفاوته، تبعا لطبيعة الحسنة في حجمها ومدلولها، ويؤتي العاملين الصالحين أجرا عظيما، لا يستطيعون أن يدركوا كنه عظمته، لأنه العارف بما يقدّر للإنسان من شؤون الرزق والثواب وهو أرحم الراحمين.

2. أمّا الأساس في نفي الظلم عن الله سبحانه، فلأنه ليس بحاجة إليه كما قد يحتاجه الناس تجاه بعضهم البعض أحيانا، لأن الظلم قد ينشأ من الجهل بحدود الحقوق العامة والخاصة للناس، وقد ينشأ عن الحاجة إلى الناس في ما يملكونه، فيظلمهم باغتصابه لملكيتهم ومصادرته لها لتلبية حاجته إليها، وقد يكون ناشئا عن عقدة نقص في النفس.. وهذا كله لا معنى له عند الله، لأنه العالم بكل شيء، فلا يغيب عنه شيء من شؤون خلقه، لأنه المحيط بكل الخلق في وجودهم وفي تفاصيل هذا الوجود، وهو الغني عن كل أحد، لأنه هو الذي يملك كل شيء ويكفي من كل شيء ولا يكفي منه شيء، وهو الذي اتصف بالكمال المطلق، فلا يقترب النقص ـ بسيطا أو مركبا ـ من ذاته المقدّسة، وهو القوي الذي يملك القوة جميعا فلا موقع للضعف في وجوده، والظلم مظهر ضعف، لأن القويّ لا يحتاج إلى أن يظلم‏ أحدا، فهو الذي يتصرف بكل محكمة في كل خلقه، وهو الذي يعطي لكل ذي حق حقه، وهو الذي جعل الحق لصاحب الحق.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/271.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. (الذّرة) في الأصل هي النملة الصغيرة التي لا ترى، وقال البعض: هي من أجزاء الهباء والغبار في الكوّة التي تظهر عند دخول شعاع الشمس خلالها، وقيل أيضا أنّه الغبار الدقيق المتطاير من يدي الإنسان إذا جعلهما على التراب وما شابهه ثمّ نفخهما، ولكنّها أطلقت تدريجا على كل شيء صغير جدّا، وتطلق الآن ويراد منها ما يتكون من الإلكترون والبروتون أيضا، لأنّها إذا كانت تطلق سابقا على أجزاء الغبار، فلأن تلك الأجزاء كانت أصغر أجراء الجسم، ولكن حيث ثبت اليوم أنّ أصغر أجزاء (الجسم المركب) هو (المولوكول) أو الجزئية، وأصغر أجزاء (الجسم البسيط) هو (الذّرات)، اختيرت لفظة (الذّرة) في الاصطلاح العلمي على تلك الجزئيات التي لا ترى بالعين المجرّدة، بل لا يمكن أن ترى حتى بأقوى الميكروسكوبات الإلكترونية، وإنّما يحسّ بوجودها من خلال القوانين والمعادلات العلمية والتصوير بآلات مزودة بأدقّ الأجهزة وأقواها، وحيث أن‏ (مثقال) يعني الثقل، فإنّ التعبير بمثقال ذرة يعني جسما في غاية الدقة والصغر.

2. إنّ الآية الكريمة تقول: إنّ الله لا يظلم قط زنة ذرة، بل يضاعف الحسنة إذا قام بها أحد، ويعطي من لدنه على ذلك أجرا عظيما: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾

3. إنّ هذه الآية تقول للكافرين الذين يبخلون والذين مرّ الحديث عن أحوالهم في الآيات السابقة: إنّ العقوبات التي تصيبكم ما هي في الحقيقة إلّا جزاء ما قمتم به من الأعمال، وأنّه لا يصيبكم أي ظلم من جانب الله، بل لو أنّكم تركتم الكفر والبخل وسلكتم طريق الله لنلتم المثوبات العظيمة المضاعفة.

4. لفظة (ضعف) و(المضاعف) تعني في اللغة العربية ما يعادل الشيء أو يربو عليه مرّات عديدة، وعلى هذا الأساس لا تنافي هذه الآية الآيات الأخرى التي تقول: إن أجر الإنفاق قد يصل إلى عشرة أضعاف، وقد يصل إلى سبعمائة مرّة.

الآية الكريمة تحكي عن لطف الله بالنسبة إلى عباده، حيث لا يعاقبهم على سيئاتهم وذنوبهم بأكثر ممّا عملوا، بينما يضاعف الأجر بمرات كثيرة إذا أتوا بحسنة واحدة.

5. سؤال وإشكال: لماذا لا يظلم الله سبحانه؟ والجواب: السبب فيه واضح، لأن الظلم عادة ـ إمّا ناشئ عن الجهل، وإمّا ناشئ عن الحاجة، وإمّا ناشئ عن نقص نفسي، ومن كان عالما بكل شيء، وكان غنيّا عن كل شيء، ولم يكن يعاني من أي نقص، لا يمكن صدور الظلم منه، فهو لا يظلم أساسا، لا أنّه تعالى لا يقدر على الظلم، ولا أن الظلم غير متصوّر في حقّه (كما تذهب إليه طائفة من الأشاعرة)، بل مع قدرته تعالى على الظلم ـ لا يظلم أبدا لحكمته وعلمه، فهو يضع كل شيء في عالم الوجود موضعه، ويعامل كل أحد حسب عمله، وطبقا لسلوكه وسيرته.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/238.

43. شهادة الرسول وعواقبها

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈43⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: 41 ـ 42]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

حذيفة:

روي عن حذيفة بن اليمان (ت 36 هـ) أنّه قال: أتي بعبد آتاه الله مالا، فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾، فقال: ما عملت من شيء، يا رب، إلا أنك آتيتني مالا، فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي أن أنظر المعسر، قال الله: أنا أحق بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي، فقال أبو مسعود الأنصارى: هكذا سمعت من في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

__________

(1) مسلم ٣/١١٩٥.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: الأوصياء هم أصحاب الصراط وقوفا عليه، لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه، لأنهم عرفاء الله عز وجل عرفهم عليهم عند أخذه المواثيق عليهم، ووصفهم في كتابه، فقال عز وجل: ﴿يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ﴾ وهم الشهداء على أوليائهم، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الشهيد عليهم، أخذ لهم مواثيق العباد بالطاعة، وأخذ للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الميثاق بالطاعة، فجرت نبوته عليهم، وذلك قول الله عز وجل: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾(1).

2. روي أنّه قال في صفة يوم القيامة: يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق فلا يتكلم أحد ﴿إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباًفتقام﴾ الرسل فتسأل، فذلك قوله لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ وهو الشهيد على الشهداء، والشهداء هم الرسل عليهم السلام(2).

__________

(1) مختصر بصائر الدرجات: 53.

(2) تفسير العياشي 1/242.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: الشاهد نبي الله، قال الله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾، يعني: أن تسوي الأرض بالجبال والأرض عليهم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾، بجوارحهم(3).

4. روي أنّ نافع بن الأزرق أتى ابن عباس، فقال: يا ابن عباس، قول الله: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾، وقوله: ﴿وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾؟ فقال له ابن عباس أنّه قال: إني أحسبك قمت من عند أصحابك، فقلت: ألقي على ابن عباس متشابه القرآن، فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد، فيقول المشركون: إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحده، فيقولون: تعالوا نقل، فيسألهم، فيقولون: والله ربنا، ما كنا مشركين، فيختم على أفواههم، وتستنطق به جوارحهم، فتشهد عليهم أنهم كانوا مشركين، فعند ذلك تمنوا لو أن الأرض سويت بهم، ولا يكتمون الله حديثا(4).

5. عن سعيد بن جبير، قال: قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، قال: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾، ﴿وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، فقد كتموا في هذه الآية، فقال:.. وأما قوله: ﴿مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾، ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾، فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، فقال المشركون: تعالوا نقول: لم نكن مشركين، فختم على أفواههم، فتنطق أيديهم، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده: ﴿يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآية.. فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلا من عند الله(5).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٥٦.

(2) ابن جرير ٧/٤٤.

(3) ابن المنذر ٢/٧١٤.

(4) ابن جرير ٧/٤٣.

(5) البخاري كتاب التفسير ٤/١٨١٦.

المسيب:

روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) أنّه قال: ليس من يوم إلا يعرض فيه على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمته غدوة وعشية، فيعرفهم بسيماهم ليشهد عليهم، يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾(1).

__________

(1) ابن المبارك في الزهد ١/٤٦٨.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾، كل أمة بنبيها(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٥٦.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ [البروج: ٣]، الشاهد محمد، والمشهود يوم الجمعة، فذلك قوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٣٩.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: إنها مواطن، ففي موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همسا، وفي موطن يتكلمون ويكذبون ويقولون: ما كنا مشركين، وما كنا نعمل من سوء، وفي موضع يعترفون على أنفسهم، وهو قوله: ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ﴾، وفي موضع لا يتساءلون، وفي موطن يسألون الرجعة، وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم، وهو قوله تعالى: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/٣١١.

عطاء:

روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) أنّه قال: ودوا لو تسوى بهم الأرض، وأنهم لم يكونوا كتموا أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا نعته(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/٣١١.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه سئل عن قول الله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾؟ فقال: يأتي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم القيامة من كل امة بشهيد، بوصي نبيها، وأوتي بك ـ يا علي ـ شهيدا على امتي يوم القيامة(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/242.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ وشاهدها نبوتها من كل أمة، ﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ يا محمد ﴿عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾(1).

2. روي أنّه قال:، يقول: ودوا لو انخرقت بهم الأرض، فساخوا فيها(2).

__________

(1) ابن المنذر ٢/٧١٢.

(2) ابن المنذر ٢/٧١٣.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ معناه يدخلون فيها، فتعلوهم الأرض(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 120.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾، إن النبيين يأتون يوم القيامة، منهم من أسلم معه من قومه الواحد، والاثنان، والعشرة، وأقل وأكثر من ذلك، حتى يأتي لوط عليه السلام لم يؤمن معه إلا ابنتاه، فيقال لهم: هل بلغتم ما أرسلتم به؟ فيقولون: نعم، فيقال: من يشهد لكم؟ فيقولون: أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيقال لهم: أتشهدون أن الرسل أودعوا عندكم شهادة، فبم تشهدون؟ فيقولون: ربنا، نشهد أنهم قد بلغوا كما شهدوا في الدنيا بالتبليغ، فيقال: من يشهد على ذلك؟ فيقولون: محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيدعى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيشهد أن أمته قد صدقوا، وأن الرسل قد بلغوا، فذلك قوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٣٨.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: يقول الله عز وجل للبهائم والوحوش والطير والسباع: كونوا ترابا، فتسوى بهن الأرض، فعند ذلك يتمنى الكافر أن لو كان ترابا، كما قال الله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النبأ: ٤٠](1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾؛ لأن جوارحهم تشهد عليهم(2).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/٣١٠.

(2) تفسير الثعلبي ٣/٣١١.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ نزلت في امة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة، في كل قرن منهم إمام منا شاهد عليهم، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في كل قرن شاهد علينا(1).

__________

(1) الكافي 1/146.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ رسولها يشهد عليها أن قد أبلغهم ما أرسله الله به إليهم، ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ قال كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا أتى عليها فاضت عيناه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، يوم القيامة(2).

3. روي أنّه قال: ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾، فتنشق لهم، فيدخلون فيها، فتسوى عليهم(3).

__________

(1) ابن جرير ٧/٣٩.

(2) ابن المنذر ٢/٧١٣.

(3) ابن المنذر ٢/٧١٤.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَكَيْفَ﴾ بهم ﴿إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾، يعني: نبيهم، وهو شاهد عليهم بتبليغ الرسالة إليهم من ربهم، ﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ يا محمد ﴿عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾، يعني: كفار أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بتبليغ الرسالة(1).

2. روي أنّه قال: ثم أخبر عن كفار أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال سبحانه: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾، وذلك بأنهم قالوا في الآخرة: والله ربنا، ما كنا مشركين، فشهدت عليهم الجوارح بما كتمت ألسنتهم من الشرك، فودوا عند ذلك أن الأرض انشقت، فدخلوا فيها، فاستوت عليهم(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٧٣.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي: في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾، ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ هو: يوم القيامة، يوم الدين وحشر العالمين، والموقف بين يدي أحكم الحاكمين، يود الكفرة يومئذ عند معاينة العذاب والإيقان بشر مآب: أن الأرض تسوى بهم، وتسويها هو: انخسافها وذهابهم فيها من شدة ما يرون.

2. ثم قال: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾، فهم يوم القيامة لا يكتمون حديثا من أفعالهم، ولا شيئا مما سلف من زمان حياتهم، وأيام لهوهم؛ ألا تسمع كيف يقول سبحانه: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس: 65]، فأي حشمة أو فضيحة أو عظيمة أشد من كلام الجوارح، وشهادتها على العبد بما كان من فعله، وما ارتكب من معصيته في أيام مهلته وأوان غفلته؛ فنعوذ بالله من شر المنقلب، وموقف الجزاء، وقبح الهول والخزاء؛ إنه ولينا، وغاية قصدنا.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/225.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ يعني: نبيها، ﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ يا محمد على أمتك شهيدا على تبليغ الرسالة.

2. قوله عزّ وجل: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ قيل فيه بوجوه:

أ. إذا ميز الله أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، قال للوحش والطير والسباع: (كوني ترابا)؛ فتكون ترابا، فعند ذلك يتمنون أن يكونوا ترابا مثل الوحش [فسويت بهم‏] الأرض‏.

ب. وعن ابن عباس قال: يجحد أهل الشرك يوم القيامة أنهم ما كانوا مشركين، فينطق الله تعالى جوارحهم؛ فتشهد عليهم؛ فيودون أنهم كانوا ترابا؛ كقوله: ﴿يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النبأ: 78] وقوله تعالى: ﴿يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾ [الحاقة: 27]؛ فذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ ليتنا لم نبعث‏ ولم نحيا.

3. يقرأ (تسوّى) و(تسوّى) (وتسّوى)، و(وتسوى)، و(تستوى)، و(تسوى)، وفي حرف حفصة: (لو تستوى بهم الأرض)

4. قوله عزّ وجل: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾:

أ. قيل: لما أنطق الله تعالى جوارحهم وشهدت عليهم حين أنكروا أن يكونوا مشركين بقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ ـ لم يستطيعوا أن يكتموا الله حديثا.

ب. ويحتمل: على الاستئناف: لا يكتمون الله حديثا.

ج. ويحتمل: أن يكونوا يؤدّوا في الآخرة ويتمنوا أن لم يكونوا كتموا في الدنيا حديثا.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/187.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾، يريد عز وجل أن الكافرين يوم القيامة يودون ويتمنون أن تسوى بهم الأرض، حتى يكونوا تراباً مثل ترابها، وتستوي أجسامهم عند الموت بها، ويصيروا تراباً مختلطاً مستوياً بها، لشدة ما يعاينون من الأهوال، والمصائب الجسام والحزن والنكال، فنعوذ من ذلك بذي الجلال.

2. معنى قوله: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾، أي لا يقدرون على الكتمان لما فعلوا إذا ختم على أفواههم، وتكلمت جوارحهم بما عملوا.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/242.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ وشهيد كل أمة نبيها لأنه يشهد على أمته أنه قد بلغها ما تقوم به الحجة عليها وتشهد بعلمها ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ يعني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سمع قارئاً يقرأ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ ففاضت عينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

2. ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾ هم العصاة الكافرون كما حكى عنهم في موضع آخر ويقول الآخر: ﴿يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النبأ]، وهم يتمنوا أن يدخلوا في الأرض بغلوهم.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/179.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ وشهيد كل أمة نبيّها، وفي المراد بشهادته عليها قولان:

أ. أحدهما: أن يشهد على كل أمّته بأنه بلغها ما تقوم به الحجة عليها، وهو قول ابن مسعود وابن جريج، والسدي.

ب. الثاني: أن يشهد عليها بعملها، وهو قول بعض البصريين.

2. ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ يعني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الشهادة على أمته، روى ابن مسعود أنه قرأ على رسول الله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ ففاضت عيناه صلّى الله عليه وآله وسلّم‏.

3. في قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن الذين تمنوه من تسوية الأرض بهم، أن يجعلهم مثلها، كما قال تعالى في موضع آخر ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النبأ: 40]

ب. الثاني: أنهم تمنوا لو انفتحت لهم الأرض فصاروا في بطنها.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/489.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. (كيف) لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها هاهنا التوبيخ، والتقدير فكيف يكون حال هؤلاء يوم القيامة، وحذف لدلالة الكلام عليه، والعامل في (كيف) الابتداء المحذوف، لأن التقدير: كيف حالهم، على ما بيناه، وإنما جاز خروج كيف عن الاستفهام إلى التوبيخ لأنه يقتضي إقرار العبد على نفسه بما كان من قبيح عمله، كما يقتضي الجواب في الاستفهام، ولا يجوز أن يكون العامل في (كيف) (جئنا) لاضافة (إذا) إليه والمضاف إليه لا يعمل فيما قبله كما لا تعمل الصلة فيما قبل الموصول، لأنه من تمام الاسم.

2. الشهادة تقع يوم القيامة من كل نبي بأنه بلغ قومه ما تقوم به عليهم الحجة، وأنه أدى ما تقوم به الحجة عليها من مراد الله، هذا قول عبد الله، وابن جريح، والسدي، وقال الجبائي: يشهد عليهم بأعمالهم، وقال الزجاج، والطبري: يشهد لهم وعليهم بما عملوه، ووجه حسن الشهادة ما في ذلك من اقامة الحجة عليهم، فيستجيبون عند تصور تلك الحال من خزي ذلك المقام، وفي ذلك أكبر الاتعاظ، وروي عن ابن مسعود أنه قرأ على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سورة النساء فلما بلغ‏ ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ فاضت عيناه.

3. ﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ يعني محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿عَلَى هَؤُلَاءِ﴾ يعني على أمته، وقال السدي: إن أمة نبينا تشهد لأنبياء بالأداء والتبليغ، ويشهد النبي لأمته بتصديقهم في تلك الشهادة، كما قال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾

4. قرأ حمزة، والكسائي: (تسوى) مفتوحة التاء خفيفة السين، وقرأ نافع وابن عامر ـ بفتح التاء وتشديد السين ـ الباقون بضم التاء وتخفيف السين، وقال الطبري: الاختيار فتح التاء، لموافقته لقوله: ﴿يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ ولم يقل: كونت، وقال الرماني، هذا ليس بشيء، لأن التمني فيه معنى الفعل، وبضم التاء أبين وليس كذلك الآخر، لأنه بمنزلة التمني لأن يكون معدوماً لم يوجد قط، قال أبو علي: من قرأ بضم التاء أراد: لو جعل هو والأرض سواء، ومن فتح التاء أراد: تتسوى، وإنما أدغم التاء في السين، قال وفي هذا تجوز، لأن الفعل مسند إلى الأرض وليس ذلك المراد، لأنه لا فائدة لهم أن تصير الأرض مثلهم، وإنما ودوا أن يتستواهم بما لا يتسوى بهم، ومن فتح التاء وخفض السين أراد هذا، غير أنه حذف إحدى التائين وهي الأصلية دون التي للمضارعة.

5. معني الآية الاخبار من الله تعالى أن الكفار يوم القيامة يودون ـ لعلمهم‏ بما يصيرون إليه من العذاب والخلود في النار ـ أنهم لن يبعثوا أو أنهم كانوا والأرض سواء، وروي في التفسير أن البهائم يوم القيامة تصير ترابا، فيتمنى عند ذلك الكفار أنهم صاروا كذلك ترابا، وهذا لا يجيزه إلا من قال إن العوض منقطع، فأما من قال هو دائم لم يصحح هذا الخبر.

6. ﴿وَعَصَوُا الرَّسُولَ﴾ ضموا الواو لأنها واو الجمع، وحركت لالتقاء الساكنين، وقوله: ﴿لَوِ اسْتَطَعْنَا﴾ كسرت على أصل الحركة، لالتقاء الساكنين، وإنما وجب لواو الجمع الضم لأنها لما منعت ما لها من ضم ما قبلها، جعلت الضمة عند الحاجة إلى حركتها فيها، والعامل في ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ﴿يَوَدُّ الَّذِينَ﴾ وإنما عمل في (يومئذ) ما بعد (إذ) ولم يجز مثل ذلك في‏ ﴿إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ﴾ لأنه لما أضيف (يوم) إلى (إذ) بطلت إضافته إلى الجملة، وجاء التنوين ليدل على تمام الاسم، يبين ذلك قوله: ﴿مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ﴾

7. ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ لا ينافي قوله: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ لأنه قيل في معنى الآية سبعة أقوال:

أ. أحدها: قال الحسن إن الآخرة مواطن، فموطن‏ ﴿فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾ أي صوتاً خفياً، وموطن يكذبون فيقولون: ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ﴾ ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ وموطن يعترفون بالخطإ بأن يسألوا الله أن يردهم إلى دار الدنيا.

ب. الثاني: قال ابن عباس: إن قوله: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ داخل في التمني بعد ما نطقت جوارحهم بفضيحتهم، فكأنهم لما رأوا المؤمنين دخلوا الجنة كتموا فقالوا: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ فختم الله أفواههم، وأنطق جوارحهم بما فعلوه، فحينئذ تمنوا أن يكونوا ﴿تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ فتمنوا الأمرين وقال الفراء: تقديره: يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ويودون لا يكتمون الله حديثاً.

ج. الثالث: قال أبو علي: انه لا يعتد بكتمانهم، لأنه ظاهر عند الله لا يخفى عليه شيء منه.

د. الرابع: لم يقصدوا الكتمان، لأنهم إنما أخبروا على ما توهموا، ولا يخرجهم من أن يكونوا كذبوا.

هـ. الخامس: قال بعضهم: إن قوله: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ انما معناه: أوجبوا العذاب بمثل حال الكاذب في الإقرار، كما يقال: كذب عليك الحج، قال الشاعر:

çكذب العتيق وماء شن بارد...إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي‏é

وقال الرماني: هذا التأويل ضعيف، لأنه يجري مجرى اللغز.

و. السادس: قال الحسين بن علي المغربي: تمنوا أن يكونوا عدماً، وتم الكلام ثم استأنف فقال: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ أي لا تكتمه جوارحهم وإن كتموه هم.

ز. السابع: قال البلخي: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ على ظاهره لا يكتمون الله شيئاً، لأنهم ملجأون إلى ترك القبائح والكذب.

8. ﴿مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ أي عند أنفسنا، لأنه كانوا يظنون في الدنيا أن ذلك ليس بشرك من حيث يقربهم إلى الله تعالى.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/202.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. ﴿كَيْفَ﴾: سؤال عن الحال، ثم يستعمل في معنى التوبيخ والتقريع، تقول العرب للرجل في الشيء يتوقع: كيف يمكن إذا كان كذا؟.

ب. الأمَّة: الجماعة، والشهيد: الشاهد الذي يشهد بما علم.

2. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:

أ. قيل: لأنه تعالى قال: إنه لا يظلم مثقال ذرة، ويجازي كل أحد بعمله فكيف حالهم مع هذا، والشهود يشهدون عليهم بأعمالهم.

ب. وقيل: يتصل بقوله: ﴿وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ يعني يؤت ذلك يوم يشهد الشهود على كل أحد بعمله فيجازى بحسبه.

ج. وقيل: يتصل بقوله: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ ثم وصف ذلك اليوم وحال المنكرين في ذلك اليوم.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ﴾:

أ. قيل: كيف بهم.

ب. وقيل: كيف حالهم يومئذ.

ج. وقيل: كيف يرون، وكل ذلك توبيخ لهم وتفخيم لشأن ذلك اليوم.

د. وقيل: كيف يصنعون ذلك اليوم.

4. ﴿إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ﴾ من الأمم ﴿بِشَهِيدٍ﴾:

أ. قيل: هو النبي المبعوث إلى كل أمة يشهد عليهم بالتبليغ عن عبد الله وابن جريج والسدي.

ب. وقيل: يشهد عليهم بأعمالهم عن أبي علي.

ج. وقيل: يشهد عليهم ولهم.

5. ﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ يا محمد ﴿عَلَى هَؤُلَاءِ﴾ يعني قومه المخاطيين ﴿شَهِيدًا﴾ أي شاهدا ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ يعني يوم القيامة ﴿يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يتمنون ﴿وَعَصَوُا الرَّسُولَ﴾ فيما أمرهم به:

أ. قيل: هم الكفار.

ب. وقيل: هم أهل الكبائر من هذه الأمة، وهذا أولى لحق العطف ولكونه فائدة جديدة.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾:

أ. قيل: لو سووا بهم مع الأرض فصاروا ترابًا مثلها.

ب. وقيل: يتمنون أن لو تخرقت الأرض فساخوا فيها وعادوا إليها كما خرجوا منها عن قتادة وأبي عبيدة.

ج. وقيل: ودوا أن يكونوا أمواتًا أبدًا لم يبعثوا؛ لأنهم كانوا قبل البعث الأرض مستوية بهم عن الأصم وأبي مسلم.

د. وقيل: ودوا لو كانوا أرضًا لم يحيوا ولم يخلقوا.

هـ. وقيل: ودوا لو جعلت الأرض وما فيها فدية لهم، واختلفوا لِمَ تمنوا هذا؟ فقيل: لعلمهم بما يصيرون إليه من العذاب الدائم.

و. وقيل: لشدة الحساب.

ز. وقيل: لَمَّا رأوا أن البهائم صاروا ترابًا تمنوا أن يصيروا مثلها، وأنكر هذا بعضهم لما فيه من إبطال الأعواض، وبنوه على الأصل لهم، وهو دوام العوض، فأما من يقول: إنه منقطع فإذا أوصل إليهم ما وجب لهم جاز أن يفنيهم، والصحيح أنها منقطعة، وهو الصحيح من مذهب الشيخين والقاضي.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾:

أ. قيل: إنه يتصل بما قبله أي ودوا لو تسوى بهم الأرض وأنهم لم يكونوا كتموا أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا بعثته عن عطاء.

ب. وقيل: بل هو كلام مستأنف يعني لا يكتمون الله يوم القيامة شيئًا؛ لأن ما عملوه لا يخفى على الله تعالى فكيف يكتمونه!؟ عن أبي علي.

ج. وقيل: لا يكتمون؛ لأن جوارحهم تشهد عليهم وتنطق بأعمالهم.

د. وقيل: لا يكتمون شيئًا في الدنيا؛ لأنه تعالى مطلع عليهم عن أبي علي.

8. في التوفيق بين هذه الآية وبين قوله تعالى: ﴿وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ أربعة أقوال:

أ. الأول: أن في الآخرة مواطن ومقامات، ففي موطن لا تسمع إلا همسا، وفي موطن يَكْذِبون، ويقولون: والله ربنا ما كنا مشركين، وفي موضع يعترفون ويسألون الرجعة عن الحسن.

ب. الثاني: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ﴾ داخل في التمني بعد ما نطقت جوارحهم لفضيحتهم عن ابن عباس.

ج. الثالث: لا يعتد بكتمانهم؛ لأنه ظاهر عند الله تعالى.

د. الرابع: أنهم لم يقصدوا الكتمان وإنما أخبروا على حسب ما توهموا تقديره: والله ما كنا مشركين عند أنفسنا بل كنا مصيبين في ظنوننا حتى تحققنا الآن.

9. ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا﴾ يعني في الدنيا عن أبي علي وهو الصحيح؛ لأن الآخرة لا يجوز أن يكذب فيه أحد وسنبين ذلك عند تلك الآية.

10. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن الأنبياء يشهدون على أممهم بأعمالهم، وفيه فوائد:

أحدها: زيادة حسرة للمقصرين وسرور المؤمنين، ولذلك تمنى الكافر عند هذه الشهادة لو تسوى بهم الأرض.

ثانيها: لما يظهر عند الخلائق أنه تعالى يجازي كل أحد بعمله وأنه لا يظلم أحدًا فيفتضح عند ذلك الْمُجْبِرَة في افترائها على الله تعالى.

ثالثها: أن تصور هذه الحالة لطفا عظيما للمكلفين في الإقدام على الطاعات والانتهاء عن المعاصي، وقد روي أن النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر ابن مسعود أن يقرأ عليه القرآن، فقرأ سورة النساء، فلما بلغ هذه الآية اشتد بكاؤه، وقال: (حسبنا) فقطع القراءة، ويحتمل أن بكاءه كان شكرًا لله تعالى على هذا المحل الشريف، ويحتمل أنه كان إشفاقًا على المقصرين من أمته من حيث يلحقهم عند شهادته من الحسرة العظيمة والعذاب الأليم.

ب. أن في كل أمة شهيدًا يشهد عليهم، ثم ذلك الشهيد يكون نبيًا أو غير نبي يقف على دليل سمعي؛ لأن الظاهر لا يدل عليه، وكلا الوجهين يجوز عقلا ولا حجة فيه للإمامية أنه لا بد في كل زمان من معصوم؛ لأنه ليس من شرط الشهادة العصمة، ولو تأوله متأول على الملائكة أو على المؤمنين لم يبعد، وإنما حملنا ﴿بِكَ﴾ على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم للإشارة إليه، على أن عند أبي علي لا بد في كل عصر من قوم يقومون بالحق، وإن كان ذلك عندنا ليس بشرط.

ج. وعيد أهل الصلاة؛ لأنهم عصوا الرسول.

د. أن أهل النار يقع منهم من التمني ما لا يصلون إليه.

هـ. أن كل مذنب يعترف بذنبه يوم القيامة.

11. قرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر ﴿تُسَوَّى﴾ بفتح التاء مشددة السين بمعنى تَتَسَوَّى، وأدغمت التاء الثانية في السين، وقرأ حمزة والكسائي ﴿تُسَوَّى﴾ بفتح التاء وتخفيف السين على حذف التاء، والأرض هي الفاعلة كقوله: ﴿لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو ويعقوب بضم التاء وتخفيف السين على المجهول.

12. مسائل لغوية ونحوية:

أ. عامل الإعراب في ﴿كَيْفَ﴾ قيل: ابتداء محذوف، على تقدير: فكيف حالهم، فحذف لدلالة الكلام، وكيف يرون إذا جئنا، فـ ﴿كَيْفَ﴾: استفهام، والمراد التوبيخ.

ب. ضمت الواو في ﴿عَصَوُا الرَّسُولَ﴾ قلنا: لأنه واو الجمع، فأما حركتها فلالتقاء الساكنين، وأصل الحركة في التقاء الساكنين الكسرة، كقوله: ﴿لَوِ اسْتَطَعْنَا﴾ وإنما وجب الضم لواو الجمع؛ لأنها لما مُنِعت ما لَهَا مِنْ ضَمِّ ما قبلها جعلت الضمة لما احتيج إلى الحركة فيها.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/633

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى اليوم الآخر، وصف حال المنكرين له فقال: ﴿فَكَيْفَ﴾ أي فكيف حال الأمم، وكيف يصنعون؟ ﴿إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ﴾ من الأمم ﴿بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ﴾ يا محمد ﴿عَلَى هَؤُلَاءِ﴾ يعني قومه ﴿شَهِيدًا﴾، وهذا كما تقول العرب للرجل في الامر الهائل يتوقعه: كيف بك إذا كان كذا، يريد بذلك تعظيم الامر، وتهويله وتحذيره، وتحذير الرجل عنه، وإنذاره به، وحثه على الاستعداد له.

2. معنى الآية: إن الله يستشهد يوم القيامة كل نبي على أمته، فيشهد لهم وعليهم، ويستشهد نبينا على أمته، وفي الآية مبالغة في الحث على الطاعة، واجتناب المعصية، والزجر عن كل ما يستحى منه على رؤوس الاشهاد، لأنه يشهد للانسان، وعليه يوم القيامة شهود عدول، لا يتوقف في الحكم بشهادتهم، ولا يتوقع القدح فيهم، وهم الأنبياء والمعصومون، والكرام الكاتبون، والجوارح، والمكان، والزمان، كما قال تعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾، وقال: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾، وقال: ﴿إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا﴾، و﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، وفي بعض الأخبار: المكان والزمان يشهدان على الرجل بأعماله، فليتذكر العاقل هذه الشهادة، ليستعد بهذه الحالة، فكأن قد وقعت، وكأن الشهادة قد أقيمت، وروي أن عبد الله بن مسعود قرأ هذه الآية على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ففاضت عيناه، فإذا كان الشاهد يفيض عيناه، لهول هذه المقالة، وعظم هذه الحالة، فماذا لعمري ينبغي أن يصنع المشهود عليه؟

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾:

أ. قيل: معناه: لو تجعلون والأرض سواء، كما قال تعالى: ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾، ومن التسوية قوله: ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ أي نجعلها صفيحة واحدة، لا يفصل بعضها عن بعض، فيكون كالكف، فيعجز لذلك عما يستعان عليه من الاعمال بالبنان.. وعلى هذا القول: فالمراد به أن الكفار يوم القيامة يودون أنهم لم يبعثوا، وأنهم كانوا والأرض سواء، لعلمهم بما يصيرون إليه من العذاب، والخلود في النار، وروي أيضا أن البهائم يوم القيامة تصير ترابا، فيتمنى عند ذلك الكفار أنهم صاروا كذلك ترابا، وهذا لا يجيزه إلا من قال: إن العوض منقطع، وهو الصحيح، ومن قال: إن العوض دائم لم يصحح هذا الخبر.

ب. وروي عن ابن عباس ان معناه يودون أن يمشي عليهم أهل الجمع، يطؤونهم بأقدامهم، كما يطأون الأرض.

4. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ أقوال:

أ. أحدها: إنه عطف على قوله: ﴿لَوْ تُسَوَّى﴾ أي ويودون أن لو لم يكتموا الله حديثا، لأنهم إذا سئلوا قالوا: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ فتشهد عليهم جوارحهم بما عملوا فيقولون يا ليتنا كنا ترابا، ويا ليتنا لم نكتم الله شيئا، وليس ذلك بحقيقة الكتمان، فإنه لا يكتم شئ عن الله، لكنه في صورة الكتمان، وهذا قول ابن عباس.

ب. ثانيها: إنه كلام مستأنف، والمراد به أنهم لا يكتمون الله شيئا من أمور دنياهم وكفرهم، بل يعترفون به، فيدخلون النار باعترافهم، وإنما لا يكتمون لعلمهم بأنه لا ينفعهم الكتمان، وإنما يقولون: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ في بعض الأحوال، فإن للقيامة مواطن وأحوالا، ففي موطن لا يسمع كلامهم إلا همسا، كما أخبر تعالى عنهم، وفي موطن ينكرون ما فعلوه من الكفر والمعاصي، ظنا منهم أن ذلك ينفعهم، وفي موطن يعترفون بما فعلوه، عن الحسن.

ج. ثالثها: إن المراد أنهم لا يقدرون على كتمان شئ من الله، لان جوارحهم تشهد عليهم بما فعلوه، فالتقدير لا تكتمه جوارحهم، وإن كتموه.

د. رابعها: إن المراد ودوا لو تسوى بهم الأرض، وأنهم لم يكونوا كتموا أمر محمد، وبعثه، عن عطا.

هـ. خامسها: إن الآية على ظاهرها، فالمراد ولا يكتمون الله شيئا، لأنهم ملجأون إلى ترك القبائح والكذب، وقولهم ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾، أي ما كنا مشركين عند أنفسنا، لأنهم كانوا يظنون في الدنيا أن ذلك ليس بشرك من حيث تقربهم إلى الله، عن أبي القاسم البلخي.

5. قرأ أهل الكوفة غير عاصم: (تسوي) مفتوحة التاء، خفيفة السين، وقرأ يزيد ونافع وابن عامر بفتح التاء، وتشديد السين، وقرأ الباقون: (تسوي) بضم التاء، وتخفيف السين.. قال أبو علي: قراءة نافع وابن عامر ﴿لَوْ تُسَوَّى﴾ معناه: لو تتسوى، فأدغم التاء في السين لقربها منها، وفي قراءة حمزة والكسائي حذف التاء، فالتاء اعتلت بالحذف، كما اعتلت بالادغام، وأما ﴿تُسَوَّى﴾ فهي تفعل من التسوية.

6. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿كَيْفَ﴾ لفظها الاستفهام، ومعناه التوبيخ، وتقديره كيف حال هؤلاء يوم القيامة؟ وحذف لدلالة الكلام عليه، والعامل في ﴿كَيْفَ﴾ المبتدأ المحذوف، فهو في موضع الرفع، بأنه خبر المبتدأ، ولا يجوز أن يكون العامل في ﴿كَيْفَ﴾ ﴿جِئْنَا﴾ لأنه في موضع جر بإضافة إذا إليه، والمضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف، كما لا تعمل الصلة فيما قبل الموصول، لأنه من تمام الاسم.

ب. ﴿مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ﴾ في موضع نصب على الحال، لأنه صفة ﴿شَهِيدٌ﴾، فلما تقدمه انتصب على الحال.

ج. العامل في ﴿إِذَا﴾ جوابه المحذوف لدلالة ما تقدمه عليه.

د. ﴿شَهِيدًا﴾ منصوب على الحال، والعامل في ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ﴾، وإنما عمل في ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ﴾ بعد ﴿إِذِ﴾، ولم يجز ذلك في ﴿إِذَا جِئْنَا﴾، لأنه لما أضيف ﴿يَوْمَ﴾ إلى ﴿إِذِ﴾ بطلت إضافته إلى الجملة، ونون ﴿إِذِ﴾ ليدل على تمام الاسم.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/77.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ قال الزجّاج: معنى الآية فكيف يكون حال هؤلاء يوم القيامة، فحذف الحال، لأنّ في الكلام دليلا عليه، ولفظ (كيف) لفظ الاستفهام، ومعناها: التّوبيخ.

2. الشّهيد: نبيّ الأمّة صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبما ذا يشهد فيه أربعة أقوال:

أ. أحدها: بأنه قد بلّغ أمّته، قاله ابن مسعود، وابن جريج، والسّدّيّ، ومقاتل.

ب. الثاني: بإيمانهم، قاله أبو العالية.

ج. الثالث: بأعمالهم، قاله مجاهد، وقتادة.

د. الرابع: يشهد لهم وعليهم، قاله الزجّاج.

3. ﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ يعني: نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفي (هؤلاء) ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنهم جميع أمّته، ثمّ فيه قولان:

أحدهما: أنه يشهد عليهم.

الثاني: يشهد لهم فتكون (على) بمعنى: اللام، والقول

ب. الثاني: أنهم الكفار يشهد عليهم بتبليغ الرّسالة، قاله مقاتل.

ج. الثالث: اليهود والنّصارى، ذكره الماورديّ.

4. ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾:

أ. قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو: (لو تسوى)، بضمّ التاء، وتخفيف السين، والمعنى: ودّوا لو جعلوا ترابا، فكانوا هم والأرض سواء، هذا قول الفرّاء في آخرين، قال أبو هريرة: إذا حشر الله الخلائق، قال للبهائم، والدّواب، والطّير: كوني ترابا، فعندها يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا.

ب. وقرأ نافع، وابن عامر: (لو تسّوّى)، بفتح التاء، وتشديد السين، والمعنى: لو تتسوّى، فأدغمت التاء في السين، لقربها منها، قال أبو عليّ: وفي هذه القراءة اتّساع، لأن الفعل مسند إلى الأرض، وليس المراد: ودّوا لو صارت الأرض مثلهم، وإنما المعنى: ودّوا لو يتسوّون بها.

ج. وقرأ حمزة، والكسائيّ: (لو تسوّى)، بفتح التاء، وتخفيف السين والواو مشدّدة ممالة، وهي بمعنى: تتسوّى، فحذف التاء التي أدغمها نافع، وابن عامر، فأما معنى القراءتين، فواحد.

5. في قوله تعالى: ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن معناه: ودّوا لو تخرّقت بهم الأرض، فساخوا فيها، قاله قتادة، وأبو عبيدة، ومقاتل.

ب. الثاني: أن معناه: ودّوا أنهم لم يبعثوا، لأن الأرض كانت مستوية بهم قبل خروجهم منها، قاله ابن كيسان، وذكر نحوه الزجّاج.

6. في الحديث في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه قولهم: ما كنّا مشركين، هذا قول الجمهور.

ب. الثاني: أنه أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفته ونعته، قاله عطاء، فعلى الأول يتعلّق الكتمان بالآخرة، وعلى الثاني يتعلّق بما كان في الدنيا، فيكون المعنى: ودّوا أنهم لم يكتموا ذلك.

7. في معنى الآية ستة أقوال:

أ. أحدها: ودّوا إذا فضحتهم جوارحهم أنهم لم يكتموا الله شركهم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس.

ب. الثاني: أنهم لما شهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا الله حديثا بعد ذلك، روي عن ابن عباس أيضا.

ج. الثالث: أنهم في موطن لا يكتمونه حديثا، وفي موطن يكتمون، ويقولون: ما كنّا مشركين، قاله الحسن.

د. الرابع: أن قوله تعالى: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ كلام مستأنف لا يتعلّق بقوله: ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾، هذا قول الفرّاء، والزجّاج، ومعنى: لا يكتمون الله حديثا: لا يقدرون على كتمانه، لأنه ظاهر عند الله.

هـ. الخامس: أن المعنى: ودّوا لو سوّيت بهم الأرض، وأنهم لم يكتموا الله حديثا.

و. السادس: أنهم لم يعتقدوا قولهم: ما كنّا مشركين كذبا، وإنما اعتقدوا أن عبادة الأصنام طاعة، ذكر القولين ابن الأنباريّ، وقال القاضي أبو يعلى: أخبروا بما توهّموا، إذ كانوا يظنّون أنهم ليسوا بمشركين، وذلك لا يخرجهم عن أن يكونوا قد كذبوا.

__________

(1) زاد المسير: 1/407.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وجه النظم هو أنه تعالى بين أن في الآخرة لا يجري على أحد ظلم، وأنه تعالى يجازي المحسن على إحسانه ويزيده على قدر حقه، فبين تعالى في هذه الآية أن ذلك يجري بشهادة الرسل الذين جعلهم الله الحجة على الخلق، لتكون الحجة على المسيء أبلغ، والتبكيت له أعظم وحسرته أشد، ويكون سرور من قبل ذلك من الرسول وأظهر الطاعة أعظم، ويكون هذا وعيدا للكفار الذين قال الله فيهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ ووعدا للمطيعين الذين قال الله فيهم: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾ [النساء: 40]

2. روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لا بن مسعود: (اقرأ القرآن علي) قال فقلت يا رسول الله أنت الذي علمتنيه فقال: (أحب أن أسمعه من غيري) قال ابن مسعود: فافتتحت سورة النساء، فلما انتهيت إلى هذه الآية بكى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ابن مسعود فأمسكت عن القراءة، وذكر السدي أن أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يشهدون للرسل بالبلاغ، والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يشهد لأمته بالتصديق، فلهذا قال: ﴿جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143] وحكي عن عيسى عليه السلام أنه قال: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ [المائدة: 117]

3. من عادة العرب أنهم يقولون في الشيء الذي يتوقعونه: كيف بك إذا كان كذا وكذا، وإذا فعل فلان كذا، وإذا جاء وقت كذا، فمعنى هذا الكلام: كيف ترون يوم القيامة إذا استشهد الله على كل امة برسولها، واستشهدك على هؤلاء، يعني قومه المخاطبين بالقرآن الذين شاهدهم وعرف أحوالهم، ثم إن أهل كل عصر يشهدون على غيرهم ممن شاهدوا أحوالهم، وعلى هذا الوجه قال عيسى عليه السلام: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ﴾

4. ثم انه تعالى وصف ذلك اليوم فقال: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾، وقوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ﴾ يقتضي كون عصيان الرسول مغايرا للكفر، لأن عطف الشيء على نفسه غير جائز، فوجب حمل عصيان الرسول على المعاصي المغايرة للكفر، إذا ثبت هذا فنقول: الآية دالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام، وأنهم كما يعاقبون يوم القيامة على الكفر فيعاقبون أيضا على تلك المعاصي، لأنه لو لم يكن لتلك المعصية أثر في هذا المعنى لما كان في ذكر معصيتهم في هذا الموضع أثر.

5. قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو ﴿تُسَوَّى﴾ مضمومة التاء خفيفة السين على ما لم يسم فاعله، وقرأ نافع وابن عامر ﴿تُسَوَّى﴾ مفتوحة التاء مشددة السين بمعنى: تتسوى، فأدغم التاء في السين لقربها منها، ولا يكره اجتماع التشديدين في هذه القراءة لأن لها نظائر في التنزيل كقوله: ﴿اطَّيَّرْنَا بِكَ﴾ [النمل: 47] ﴿وَازَّيَّنَتْ﴾ [يونس: 24] ﴿يَذْكُرُونَ﴾ [الأنعام: 26] وفي هذه القراءة اتساع، وهو إسناد الفعل إلى الأرض وقرأ حمزة والكسائي تسوى مفتوحة التاء والسين خفيفة، حذفا التاء التي أدغمها نافع، لأنها كما اعتلت بالإدغام اعتلت بالحذف.

6. ذكروا في تفسير قوله: ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ وجوها:

أ. الأول: لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى.

ب. الثاني: يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء.

ج. الثالث: تصير البهائم ترابا فيودون حالها كقوله: ﴿يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النبأ: 40]

7. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ لأهل التأويل طريقان، الأول: أن هذا متصل بما قبله، والثاني: أنه كلام مبتدأ:

أ. فإذا جعلناه متصلا احتمل وجهين:

أحدهما: ما قاله ابن عباس: يودون لو تنطبق عليهم الأرض ولم يكونوا كتموا أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا كفروا به ولا نافقوا، وعلى هذا القول: الكتمان عائد إلى ما كتموا من أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

الثاني: أن المشركين لما رأوا يوم القيامة أن الله تعالى يغفر لأهل الإسلام ولا يغفر شركا، قالوا: تعالوا فلنجحد فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين، رجاء أن يغفر الله لهم، فحينئذ يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يعملون، فهنالك يودون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا.

ب. الثاني في التأويل: أن هذا الكلام مستأنف، فان ما عملوه ظاهر عند الله، فكيف يقدرون على كتمانه؟

8. سؤال وإشكال: كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام:

23]؟ والجواب: من وجوه:

أ. الأول: أن مواطن القيامة كثيرة، فموطن لا يتكلمون فيه وهو قوله: ﴿فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾ [طه: 108] وموطن يتكلمون فيه كقوله: ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ﴾ [النحل: 28] وقولهم: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ فيكذبون في مواطن، وفي مواطن يعترفون على أنفسهم بالكفر ويسألون الرجعة وهو قولهم: ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا﴾ [الأنعام: 27] وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم وجلودهم، فنعوذ بالله من خزي ذلك اليوم.

ب. الثاني: أن هذا الكتمان غير واقع، بل هو داخل في التمني على ما بينا.

ج. الثالث: أنهم لم يقصدوا الكتمان، وإنما أخبروا على حسب ما توهموا، وتقديره: والله ما كنا مشركين عند أنفسنا، بل مصيبين في ظنوننا حتى تحققنا الآن، وسيجيء الكلام في هذه المسألة في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 10/84.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ فتحت الفاء لالتقاء الساكنين، و﴿إِذَا﴾ ظرف زمان والعامل فيه ﴿جِئْنَا﴾، ذكر أبو الليث السمرقندي: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أتاهم في بني ظفر فجلس على الصخرة التي في بني ظفر ومعه ابن مسعود ومعاذ وناس من أصحابه فأمر قارئا يقرأ حتى إذا أتى على هذه الآية ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ بكى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى اخضلت وجنتاه، فقال: (يا رب هذا على من أنا بين ظهرانيهم فكيف من لم أرهم)، وروى البخاري عن عبد الله قال، قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: اقرأ علي قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: (إني أحب أن أسمعه من غيري) فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ قال: أَمْسك فإذا عيناه تذرفان، وأخرجه مسلم.. قال علماؤنا: بكاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما كان لعظيم ما تضمنته هذه الآية من هول المطلع وشدة الأمر، إذ يؤتى بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب، ويؤتى به صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم القيامة شهيدا.

2. الإشارة بقوله: ﴿عَلَى هَؤُلَاءِ﴾:

أ. إلى كفار قريش وغيرهم من الكفار، وإنما خص كفار قريش بالذكر لأن وظيفة العذاب أشد عليهم منها على غيرهم، لعنادهم عند رؤية المعجزات، وما أظهره الله على يديه من خوارق العادات، والمعنى فكيف يكون حال هؤلاء الكفار يوم القيامة ﴿إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ أمعذبين أم منعمين؟ وهذا استفهام معناه التوبيخ.

ب. وقيل: الإشارة إلى جميع أمته، ذكر ابن المبارك أخبرنا رجل من الأنصار عن المنهال ابن عمرو حدثه أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم، يقول الله تعالى ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ يعني بنبيها ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾

3. موضع ﴿فَكَيْفَ﴾ نصب بفعل مضمر، التقدير فكيف يكون حالهم، كما ذكرنا، والفعل المضمر قد يسد مسد ﴿إِذَا﴾، والعامل في ﴿إِذَا﴾ ﴿جِئْنَا﴾، و﴿شَهِيدًا﴾ حال، وفي الحديث من الفقه جواز قراءة الطالب على الشيخ والعرض عليه، ويجوز عكسه، و﴿شَهِيدًا﴾ نصب على الحال.

4. ضمت الواو في ﴿عَصَوْا﴾ لالتقاء الساكنين، ويجوز كسرها، وقرأ نافع وابن عامر ﴿تُسَوَّى﴾ بفتح التاء والتشديد في السين، وحمزة والكسائي كذلك إلا أنهما خففا السين، والباقون ضموا التاء وخففوا السين، مبنيا للمفعول والفاعل غير مسمى، والمعنى لو يسوي الله بهم الأرض، أي يجعلهم والأرض سواء، ومعنى آخر: تمنوا لو لم يبعثهم الله وكانت الأرض مستوية عليهم، لأنهم من التراب نقلوا، وعلى القراءة الأولى والثانية فالأرض فاعلة، والمعنى تمنوا لو انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها، قاله قتادة، وقيل: الباء بمعنى على، أي لو تسوى عليهم أي تنشق فتسوى عليهم، عن الحسن، فقراءة التشديد على الإدغام، والتخفيف على حذف التاء، وقيل: إنما تمنوا هذا حين رأوا البهائم تصير ترابا وعلموا أنهم مخلدون في النار، وهذا معنى قوله تعالى: ـ يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا وقيل: إنما تمنوا هذا حين شهدت هذه الأمة للأنبياء على ما تقدم في البقرة عند قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ الآية، فتقول الأمم الخالية: إن فيهم الزناة والسراق فلا تقبل شهادتهم فيزكيهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيقول المشركون: ﴿وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ فيختم على أفواههم وتشهد أرجلهم وأيديهم بما كانوا يكسبون، فذلك قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ يعني تخسف بهم.

5. ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾ قال الزجاج: قال بعضهم: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾ مستأنف، لأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه، وقال بعضهم: هو معطوف، والمعنى يود لو أن الأرض سويت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثا، لأنه ظهر كذبهم، وسيل ابن عباس عن هذه الآية، وعن قوله تعالى: ﴿وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ فقال: لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا: ﴿وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم فلا يكتمون الله حديثا، وقال الحسن وقتادة: الآخرة مواطن يكون هذا في بعضها وهذا في بعضها، ومعناه أنهم لما تبين لهم وحوسبوا لم يكتموا.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/198.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ كيف: منصوبة بفعل مضمر، كما هو رأي سيبويه، أو محلها: رفع على الابتداء، كما هو رأي غيره، والإشارة بقوله: ﴿هَؤُلَاءِ﴾ إلى الكفار، وقيل: إلى كفار قريش خاصة، والمعنى: فكيف يكون حال هؤلاء الكفار يوم القيامة إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا؟ وهذا الاستفهام معناه: التوبيخ والتقريع.

2. ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ قرأ نافع وابن عامر: ﴿تُسَوَّى﴾ بفتح التاء وتشديد السين، وقرأ حمزة والكسائي: بفتح التاء وتخفيف السين، وقرأ الباقون: بضم التاء وتخفيف السين، والمعنى على القراءة الأولى والثانية: أن الأرض هي التي تسوّى بهم، أي: أنهم تمنوا لو انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها؛ وقيل: الباء في قوله: ﴿بِهِمْ﴾ بمعنى على، أي: تسوّى عليهم الأرض، وعلى القراءة الثالثة: الفعل مبنيّ للمفعول، أي: لو سوّى الله بهم الأرض فيجعلهم والأرض سواء حتى لا يبعثوا.

3. ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ عطف على‏ ﴿يَوَدُّ﴾ أي: يومئذ يودّ الذين كفروا، ويومئذ لا يكتمون الله حديثا، ولا يقدرون على ذلك، قال الزجاج: قال بعضهم‏ ﴿لا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً﴾ مستأنف، لأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه، وقال بعضهم: هو معطوف، والمعنى: يودّون أن الأرض سوّيت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثا لأنه ظهر كذبهم.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/540.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَكَيْفَ﴾ يصنع المشركون من اليهود والنصارى وغيرهم، أو كيف حال هؤلاء الكفرة ﴿إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ يشهد على عملها واعتقادها، وهو نبيئها، كما يدلُّ له قوله تعالى : ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَؤُلَآءِ شَهِيدًا﴾ أي: على أمَّتك، أو على المؤمنين، كقوله تعالى: ﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]، أو على الأنبياء الشاهدين على أممهم، أو على الأمم كلِّها تقوية لأنبيائهم ﴿يَومَئِذٍ﴾ يوم إذ جئنا من كلِّ أمَّة بشهيد.. و(إِذْ) للمضيِّ، وعبَّر بها لتحقُّق الوقوع.

2. ﴿يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ عمومًا ﴿وعَصَوُاْ الرَّسُولَ﴾ جنس الرسل، أو المراد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ومن كفر به، ﴿لَوْ تَسَّوَّىٰ بِهِمُ الَارْضُ﴾ أبدلت التاء الثانية سينًا وأدغمت في السين، والأصل: (تَتَسَوَّى) (بتاءين مفتوحتين، وسين مفتوحة مخفَّفة)، و(لَوْ) مصدريَّة، أي: يودُّون تَسَوِّي الأرضِ بهم بدفنهم فيها، والباء بمعنى على، أو للسببيَّة، أي: بدفنهم، أو للملابسة، أو يودُّون تَسَوِّيهَا بهم، بأن لم يُبعثوا أو لم يُخلقوا، أو يصيرون ترابًا كما رأوا الحيوانات صارت ترابًا، أو يُفْدَوْنَ بما يملأ الأرض، وفي ذلك غنية عن دعوى أنَّ الأصل يودُّون تَسَوِّي الأرضِ بهم، لو تُسَوَّى بهم الأرض لَسَرَّهم ذلك.

3. ﴿ولَا يَكْتُمُونَ اللهَ﴾ هذا اللفظ مفعول غير صريح، أي: عن الله، ﴿حَدِيثًا﴾، الجملة حال أو عطف على (يَوَدُّ) لا على معموله؛ لأنَّهم لا يودُّون ألَّا يكتموه حديثًا، بل رغبوا في الكتم لو وجدوه، ولا يجدونه؛ لأنَّ جوارحهم تشهد عليهم لَمَّا قالوا: ﴿وَاللهِ رَبِّـنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 23]، ختم على أفواههم وتكلمت جوارحهم بشركهم، فافتضحوا وتمنَّوا أنَّ الأرض تسوَّى بهم، ولا يدخلون النَّار حتَّى يعترفوا بألسنتهم.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/189.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال الرازيّ: وجه النظم هو أنه تعالى بيّن أن في الآخرة لا يجري على أحد ظلم وأنه تعالى يجازي المحسن على إحسانه ويزيده على قدر حقه، فبيّن تعالى في هذه الآية أن ذلك يجري بشهادة الرسل الذين جعلهم الله الحجة على الخلق لتكون الحجة على المسيء أبلغ، والتبكيت له أعظم، وحسرته أشد، ويكون سرور من قبل ذلك من الرسول وأظهر الطاعة أعظم، ويكون هذا وعيدا للكفار الذين قال الله فيهم‏ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ ووعدا للمطيعين الذين قال الله فيهم‏ ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾، ثمن قال من عادة العرب أنهم يقولون في الشيء الذي يتوقعونه: كيف بك إذا كان كذا وكذا، وإذا فعل فلان كذا، أو إذا جاء وقت كذا؟ فمعنى هذا الكلام: كيف ترون يوم القيامة إذا استشهد الله على كل أمة برسولها، واستشهدك على هؤلاء، يعني قومه المخاطبين بالقرآن الذين شاهدهم وعرف أحوالهم، ثم إن أهل كل عصر يشهدون على غيرهم ممن شاهدوا أحوالهم، وعلى هذا الوجه قال عيسى عليه السّلام: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ [المائدة: 117] ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [النحل: 89]

2. ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ أي يوم القيامة ﴿يَوَدُّ﴾ أي يتمنى‏ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله‏ ﴿وَعَصَوُا الرَّسُولَ﴾ بالإجابة ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ أي يهلكون فيها، أي يدفنون، فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى، إذ هو أعزّ لهم من الهوان الذي يلحقهم من فضائحهم، كقوله: ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ الآية، ف (تسوّى) بمعنى: تجعل مستوية، والباء للملابسة، أي تسوى الأرض متلبسة بهم، وقيل: الباء بمعنى (على) وفي (الدر المصون): وتسوية الأرض بهم أو عليهم: دفنهم، أو أن تنشق وتبلعهم، أو أنهم يبقون ترابا على أصلهم من غير خلق.

3. ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ عطف على (يود) أي ويعترفون بجميع ما فعلوه لا يقدرون على كتمانه، لأن جوارحهم تشهد عليهم، أو (الواو) للحال، أي يودون أن يدفنوا في الأرض وحالهم أنهم لا يكتمون من الله حديثا، ولا يكذبونه بقولهم: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾، كما روى ابن جرير عن الضحاك أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال: يا ابن عباس! قول الله تعالى، ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾، وقوله: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾، فقال له ابن عباس: إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت: ألقي على ابن عباس متشابه القرآن، فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله تعالى يجمع الناس يوم القيامة في بقيع واحد، فيقول المشركون: إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحده، فيقولون (تعالوا نقل)، فيسألهم فيقولون: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾، قال فيختم على أفواههم ويستنطق جوارحهم فتشهد عليهم ـ جوارحهم أنهم كانوا مشركين، فعند ذلك تمنّوا لو أن الأرض سويت بهم ولا يكتمون الله حديثا.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/114.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ قال محمد عبده: بعدما جاء بالوعد والوعيد في الآية السابقة جاء بهذه الآية معطوفة بالفاء فهو يقول إذا كان الله لا يضيع من عمل عامل مثقال ذرة فكيف يكون حال الناس إذا جمعهم الله وجاء بالشهداء عليهم وهم الأنبياء فما من أمة إلا ولها بشير ونذير.

2. هذه الشهادة هي التي غفل عنها الناس وبكى لها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ أمر بعض الصحابة بأن يقرأ عليه شيئا من القرآن وهو صلّى الله عليه وآله وسلّم أعلم الناس بالقرآن، هذه الشهادة يوم يجمع الله الناس مع أنبيائهم هي عبارة عن مقابلة عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم بعقائد الأنبياء وأعمالهم وأخلاقهم، تعرض أعمال كل أمة على نبيها لا فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين وسائر أتباع الأنبياء فمن شهد لهم نبيهم بعد معرفة أعمالهم وظهورها بأنهم على ما جاء به وعمل وأمر الناس بالعمل به فهم الناجون، إن كل أمة من أتباع الأنبياء تدعي إتباع نبيها وإن كانت قلوبهم مملوءة بالحقد والحسد والغل وأعمالهم كلها شرورا ومفاسد عليهم وعلى الناس فهؤلاء يتبرأ الأنبياء منهم وإن ادعوا هم إتباعهم والانتماء إليهم.

3. وقد اختلفوا في المراد بقوله: ﴿عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ قيل إن المراد به شهادة خاتم المرسلين على المرسلين قبله فهم يشهدون على أممهم وهو يشهد عليهم وقيل هي شهادته على أمته وهذا هو الموافق لقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 142] والخطاب للمؤمنين في عصر التنزيل وقد تقدم في تفسيره أن هذه الأمة تكون بسيرتها شهيدة على الأمم السابقة وحجة عليها في انحرافها عن هدي المرسلين، وأن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم يكون بسيرته العالية وسنته المعتدلة حجة على المفرطين والمفرّطين من أمته اتباعا للبدع الطارئة المحدثة من بعده.

4. أما الحديث الذي أشار إليه محمد عبده فهو ما روى أحمد والبخاري في صحيحه والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث ابن مسعود أنه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اقرأ علي) قلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: (نعم أحب أن أسمعه من غيري) فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ الخ فقال (حسبك الآن) فإذا عيناه تذرفان، فليت شعري هل يعتبر المسلمون بهذا وهم المشهود عليهم كما اعتبر الشهيد الأعظم فيبكون لتذكر ذلك اليوم كما بكى، ويستعدون باتباع سنته، واجتناب جميع البدع والتقاليد الدينية التي لم تكن في عهده، لأن يكونوا كأصحابه أمة وسطا لا تفريط عندها في الدين ولا إفراط لا في أمور الجسد ولا في أمور الروح أم يظلون سادرين في غلوائهم، مقلدين لآبائهم، ألا يعلمون كيف يكون حال الكافرين والعاصين في ذلك اليوم؟

5. ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ قيل إن هذا استئناف لبيان حال الكافرين التي أشير إلى شدتها والظاهر عندي أنه جواب ﴿فَكَيْفَ﴾ في الآية قبلها ومعنى تلك الآية فكيف يكون حال الناس إذا جئنا من كل أمة بشهيد الخ والجواب يومئذ يود أي يحب ويتمنى الذين كفروا وعصوا الرسول فلم يتبعوا ما جاء به أن يصيروا ترابا تسوّى بهم الأرض فيكونوا وإياها سواء كما قال في آخر سورة النبأ: ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النبأ: 40] وقيل يتمنون أن تكون الأرض لهم فيدفعونها فدية مساوية لهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 39] وقرأ نافع وابن عامر تسوى بفتح التاء وتشديد السين المفتوحة على أن أصلها تتسوى فأدغمت التاء في السين لقربها منها في المخرج، وقرأها حمزة بتخفيف السين مع الإمالة بحذف تاء تتسوى الثانية وهي لغة مشهورة.

6. ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ عطف على يود، أي لا يكتمون شيئا من خبر كفرهم ولا سيئاتهم في ذلك الوقت الذي تقوم به الحجة عليهم بشهادة أنبيائهم الذين كانوا ينسبون إليهم ما كانوا عليه من كفر وأباطيل وبدع وتقاليد.

7. قال بعض المفسرين إن قوله تعالى: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ ليس خبرا مجردا وإنما الواو فيه للحال والمعنى أنهم يودّون لو يموتون أو يكونون ترابا فتسوى بهم الأرض ولا يكونون كتموا الله تعالى وكذبوا أمامه على أنفسهم بإنكار شركهم وضلالهم الذي بينه تعالى من حالهم في الآخرة بقوله: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: 22 24] فهم عندما يكذبون وينكرون شركهم إما لاعتقادهم أن ما كانوا عليه ليس شركا وإنما هو استشفاع وتوسل إلى الله بمن اختار من خلقه، وإما مكابرة وتوهما أن ذلك ينفعهم ويدرأ عنهم العذاب، عند ذلك يشهد عليهم الأنبياء المرسلون أنهم لم يكونوا متبعين لهم فيما أحدثوا من شركهم وإنما كان شيئا ابتدعوه من عند أنفسهم بقياس ربهم على ملوكهم الظالمين وأمرائهم المستبدين الذين يتركون عقاب بعض المسيئين بشفاعة المقربين إليهم من بطانتهم ويقربون من لا يستحق التقريب بشفاعتهم أيضا فإذا شهدوا عليهم تمنوا لو كانوا سويت بهم الأرض وما افتروا ذلك الكذب.

8. روى الحاكم عن ابن عباس (وصححه) أنهم إذا قالوا ذلك ختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم فيتمنون أن تسوى بهم الأرض، ومن جوز أن يكون ذلك خبرا مجردا معطوفا على ﴿يَوَدُّ﴾ قال إنهم ينكرون في بعض مواقف القيامة ويعترفون في بعضها ويصح أن يقال إنهم كذبوا وكتموا في ذلك اليوم وأن يقال إنهم اعترفوا وما كذبوا بأن يكون حصل كل واحد من النقيضين في وقت غير الوقت الذي حصل في الآخر، ومثل هذا مشاهد في محاكمة المجرمين في الدنيا ينكرون ثم يقرون، ويكذبون ثم يصدقون، وقال بعضهم إن المراد بالكتمان هنا كتمان الحق في الدنيا ككتمان أهل الكتاب صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والبشارات به، وظاهر كلام الجمهور أن الحديث في الآية هو الكلام، وذهب البقاعي إلى أن معناه الشيء المحدث أي المبتدع الذي لم يجئ به رسلهم، قال أي شيئا أحدثوه بل يفتضحون بسيء أخبارهم، ويحملون جميع أوزارهم، جزاء لما كانوا يكتمون من آياته، وما نصب للناس من بيناته.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/110.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ أي إذا كان الله لا يضيع من عمل العاملين مثقال ذرة، فكيف يكون الناس إذا جمعهم الله وجاء بالشهداء عليهم وهم أنبياؤهم، فما من أمة إلا لها بشير ونذير، وهذه الشهادة عبارة عن عرض أعمال الأمم على أنبيائهم (لا فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين) ومقابلة عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم بعقائد الأنبياء وأعمالهم وأخلاقهم، فمن شهد لهم نبيهم بأنهم على ما جاء به وما أمر الناس بالعمل به فهم ناجون ومن تبرأ منهم أنبياؤهم لمخالفة أعمالهم وعقائدهم لما جاؤوا به فأولئك هم الخاسرون وإن ادّعوا اتباعهم والانتماء إليهم.

2. وقوله: ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾، يراد به شهادة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم خاتم المرسلين على أمته كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ أي إن هذه الأمة بحسن سيرتها تكون شهيدة على الأمم السالفة وحجة عليها في انحرافها عن هدى المرسلين، والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بسيرته وأخلاقه الغالية وسننه المرضية يكون حجة على من تركها وتساهل في اتباعها، وعلى من تغالى فيها وابتدع البدع المحدثة من بعده.

3. روى البخاري والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث ابن مسعود أنه قال قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ (اقرأ علىّ، قلت: يا رسول الله أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال نعم أحب أن أسمعه من غيرى فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾.. فقال (حسبك الآن) فإذا عيناه تذرفان)، فانظر كيف اعتبر بهذه الشهادة الشهيد الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم فبكى لتذكر هذا اليوم، وهل نعتبر كما اعتبر ونستعد لهول ذلك اليوم باتباع سنته ونجتهد في اجتناب البدع والتقاليد التي لم تكن في عهده، وبذا نكون أمة وسطا لا تفريط عندها في الدين ولا إفراط لا في الشؤون الجسمية ولا في الشؤون الروحية، أو نظل في غوايتنا تقليدا للآباء فنكون كما قال الكافرون‏ ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ أي إذا جاء ذلك اليوم الذي نأتى فيه بشهيد على كل أمة، يتمنى الذين كفروا وعصوا الرسول فلم يتبعوا ما جاء، أن يصيروا ترابا تسوّى بهم الأرض فيكونوا وإياها سواء كما قال في سورة النبأ ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾

4. ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ أي إنهم يودون لو يكونون ترابا فتسوّى بهم الأرض ولا يكونون قد كتموا الله وكذبوا أمامه على أنفسهم بإنكار شركهم وضلالهم كما قال تعالى‏ ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أي فهم حينئذ يكذبون وينكرون شركهم إما اعتقادا منهم أنّ ما كانوا عليه ليس بشرك وإنما هو استشفاع‏ وتوسل وإما مكابرة وظنا أن ذلك يجديهم ويدفع عنهم العذاب، فيشهد عليهم الأنبياء المرسلون أنهم لم يكونوا متبعين لهم فيما أحدثوا من شركهم، بل كانوا مبتدعين ذلك من عند أنفسهم، فقد قاسوا ربهم على ملوكهم الظالمين وأمرائهم المستبدين الذين يتركون عقاب بعض المسيئين بشفاعة المقربين، فإذا شهدوا عليهم تمنوا لو كانوا قد سوّيت بهم الأرض وما افتروا ذلك الكذب.

__________

(1) تفسير المراغى: 5/44.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ختم الله تعالى الأوامر والنواهي، والتحضيض والترغيب، بمشهد من مشاهد القيامة؛ يجسم موقفهم فيه، ويرسم حركة النفوس والمشاعر كأنها شاخصة متحركة.. على طريقة القرآن في مشاهد القيامة: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾

2. إنه يمهد لمشهد القيامة، بأن الله لا يظلم مثقال ذرة.. وإذن فهو العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه قيد شعرة.. وأنه يضاعف الحسنات ويؤتي فضلا عنها أجرا من لدنه عظيما.. فهي الرحمة إذن لمن يستحقون الرحمة؛ والفضل المطلق لمن كانوا يرجون الفضل، بالإيمان والعمل، فأما هؤلاء، هؤلاء الذين لم يقدموا إيمانا، ولم يقدموا عملا.. هؤلاء الذين لم يقدموا إلا الكفر وسوء العمل.. فكيف يكون حالهم يومذاك؟ كيف يكون الحال، إذا جئنا من كل أمة بشهيد ـ هو نبيها الذي يشهد عليها ـ وجئنا بك على هؤلاء شهيدا؟ وعندئذ يرتسم المشهد شاخصا.. ساحة العرض الواسعة، وكل أمة حاضرة، وعلى كل أمة شهيد بأعمالها.

3. وهؤلاء الكافرون المختالون الفخورون الباخلون المبخلون، الكاتمون لفضل الله، المراءون الذين لم يبتغوا وجه الله.. هؤلاء هم نكاد نراهم من خلال التعبير! واقفين في الساحة وقد انتدب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم للشهادة! هؤلاء هم بكل ما أضمروا وأظهروا، بكل ما كفروا وما أنكروا، بكل ما اختالوا وما افتخروا، بكل ما بخلوا وبخلوا، بكل ما راؤوا وتظاهروا.. هؤلاء هم في حضرة الخالق الذي كفروا به، الرازق الذي كتموا فضله وبخلوا بالإنفاق مما أعطاهم، في اليوم الآخر الذي لم يؤمنوا به، في مواجهة الرسول الذي عصوه، فكيف؟ إنها المهانة والخزي، والخجل والندامة.. مع الاعتراف حيث لا جدوى من الإنكار.

4. والسياق القرآني لا يصف هذا كله من الظاهر، إنما يرسم (صورة نفسية) تتضح بهذا كله؛ وترتسم حواليها تلك الظلال كلها، ظلال الخزي والمهانة، والخجل والندامة: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾! ومن خلال اللمسات المعبرة في الصورة الحية، نحس بكل تلك المعاني، وبكل تلك الانفعالات، وهي تتحرك في هذه النفوس.. نحس بها عميقة حية مؤثرة، كما لا نحس من خلال أي تعبير آخر.. وصفي أو تحليلي.. وتلك طريقة القرآن في مشاهد القيامة، وفي غيرها من مواضع التعبير بالتصوير.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/663.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ عرض ليوم القيامة، وما يلقى الناس فيه، جزاء ما عملوا من خير أو شر، والشهيد: هو الشاهد الذي تطلب شهادته في أمر هو عليم به، والأنبياء هم شهداء على أقوامهم، فيما كان منهم من قبول أو إعراض ـ والنبي الكريم هو شهيد على أمته.. يؤدى الشهادة فيهم بين يدى الله، ثم يكون حكم الله فيهم، بمقتضى ما شهد به النبيّ والذي لا يشهد إلا بالحق الذي يعلمه الله.

2. في هذا اليوم، الذي يدعى فيه الشهداء، وتسمع فيه شهادتهم.. يخزى‏ الكافرون، ويبلسون، بما قدمت أيديهم، ويودّون لو كانوا ترابا في التراب.. ولكن لا مفر لهم، وقد أحاطت بهم خطيئاتهم، وجاءت شهادة الرسل مسجلة عليهم آثامهم، ثم استنطقهم الله فنطقوا، وشهدت عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/793.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الفاء يجوز أن تكون فاء فصيحة تدلّ على شرط مقدّر نشأ عن الوعيد في قوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [النساء: 37] وقوله: ﴿فَسَاءَ قَرِينًا﴾ [النساء: 38]؛ وعن التوبيخ في قوله: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ﴾ [النساء: 39] وعن الوعد في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء: 40] الآية، والتقدير: إذا أيقنت بذلك فكيف حال كلّ أولئك إذا جاء الشهداء وظهر موجب الشهادة على العمل الصالح وعلى العمل السيّئ، وعلى هذا فليس ضمير (بك) إضمارا في مقام الإظهار، ويجوز أن تكون الفاء للتفريع على قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾ [النساء: 40]، أي يتفرّع عن ذلك سؤال عن حال الناس إذا جئنا من كلّ أمة بشهيد؛ فالناس بين مستبشر ومتحسّر، وعلى هذا فضمير ﴿بِكَ﴾ واقع موقع الاسم الظاهر لأنّ مقتضى هذا أن يكون الكلام مسوقا لجميع الأمّة، فيقتضي أن يقال: وجئنا بالرّسول عليهم شهيدا، فعدل إلى الخطاب تشريفا للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بعزّ الحضور والإقبال عليه.

2. والحالة التي دلّ عليها الاستفهام المستعمل في التعجيب تؤذن بحالة مهولة للمشركين وتنادي على حيرتهم ومحاولتهم التملّص من العقاب بسلوك طريق إنكار أن يكونوا أنذروا ممّا دلّ عليه مجيء شهيد عليهم، ولذلك حذف المبتدأ المستفهم عنه ويقدّر بنحو: كيف أولئك، أو كيف المشهد، ولا يقدّر بكيف حالهم خاصّة، إذ هي أحوال كثيرة ما منها إلّا يزيده حال ضدّه وضوحا، فالناجي يزداد سرورا بمشاهدة حال ضدّه، والموبق يزداد تحسّرا بمشاهدة حال ضدّه، والكلّ يقوى يقينه بما حصل له بشهادة الصادقين له أو عليه، ولذلك لمّا ذكر الشهيد لم يذكر معه متعلّقه بعلى أو اللام: ليعمّ الأمرين، والاستفهام مستعمل في لازم معناه من التعجيب، وقد تقدّم نظيره عند قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ﴾ في سورة آل عمران.

3. ﴿إِذَا﴾ ظرف للمستقبل مضاف إلى جملة ﴿جِئْنَا﴾ أي زمان إتياننا بشهيد، ومضمون الجملة معلوم من آيات أخرى تقدّم نزولها مثل آية سورة النحل ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ﴾ فلذلك صلحت لأن يتعرّف اسم الزّمان بإضافته إلى تلك الجملة، والظرف معمول لـ (كيف) لما فيها من معنى الفعل وهو معنى التعجيب، كما انتصب بمعنى التلهّف في قول أبي الطمحان:

çوقبل غد يا لهف قلبي من غد... إذا راح أصحابي ولست برائح‏é

4. المجروران في قوله: ﴿مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ﴾ وقوله: ﴿بِشَهِيدٍ﴾ يتعلّقان بـ (جئنا)، وقد تقدّم الكلام مختصرا على نظيره في قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [آل عمران: 25]

5. شهيد كلّ أمّة هو رسولها، بقرينة قوله: ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾، و﴿هَؤُلَاءِ﴾ إشارة إلى الذين دعاهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لحضورهم في ذهن السامع عند سماعه اسم الإشارة، وأصل الإشارة يكون إلى مشاهد في الوجود أو منزّل منزلته، وقد اصطلح القرآن على إطلاق إشارة ﴿هَؤُلَاءِ﴾ مرادا بها المشركون، وهذا معنى ألهمنا إليه، استقريناه فكان مطابقا، ويجوز أن تكون الإشارة إلى‏ ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ [النساء: 37] وهم المشركون والمنافقون، لأنّ تقدّم ذكرهم يجعلهم كالحاضرين فيشار إليهم، لأنّهم لكثرة توبيخهم ومجادلتهم صاروا كالمعيّنين عند المسلمين، ومن أضعف الاحتمالات أن يكون‏ ﴿هَؤُلَاءِ﴾ إشارة إلى الشهداء، الدالّ عليهم قوله: ﴿كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ وأن ورد في (الصحيح) حديث يناسبه في شهادة نوح على قومه وأنّهم يكذّبونه‏ فيشهد محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم بصدقه، إذ ليس يلزم أن يكون ذلك المقصود من هذه الآية، وذكر متعلّق‏ ﴿شَهِيدًا﴾ الثاني مجرورا بعلى لتهديد الكافرين بأنّ الشهادة تكون عليهم، لأنّهم المقصود من اسم الإشارة.

6. في (صحيح البخاري): أنّ عبد الله بن مسعود قال قال لي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ (اقرأ عليّ القرآن، قلت: أقرأه عليك وعليك أنزل، قال إني أحبّ أن أسمعه من غيري) فقرأت عليه سورة النساء، حتّى إذا بلغت‏ ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾، قال أمسك فإذا عيناه تذرفان، وكما قلت: إنه أوجز في التعبير عن تلك الحال في لفظ كيف فكذلك أقول هنا: لا فعل أجمع دلالة على مجموع الشعور عند هذه الحالة من بكاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنّه دلالة على شعور مجتمع فيه دلائل عظيمة: وهي المسرّة بتشريف الله إيّاه في ذلك المشهد العظيم، وتصديق المؤمنين إيّاه في التبليغ، ورؤية الخيرات التي أنجزت لهم بواسطته، والأسف على ما لحق بقية أمّته من العذاب على تكذيبه، ومشاهدة ندمهم على معصيته، والبكاء ترجمان رحمة ومسرّة وأسف وبهجة.

7. ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآية استئناف بياني، لأنّ السامع يتساءل عن الحالة المبهمة المدلولة لقوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ ويتطلّب بيانها، فجاءت هذه الجملة مبيّنة لبعض تلك الحالة العجيبة، وهو حال الذين كفروا حين يرون بوارق الشرّ: من شهادة شهداء الأمم على مؤمنهم وكافرهم، ويوقنون بأنّ المشهود عليهم بالكفر مأخوذون إلى العذاب، فينالهم من الخوف ما يودّون منه لو تسّوى بهم الأرض.

8. جملة ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ بيان لجملة يودّ أي يودّون ودّا يبيّنه قوله: ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾، ولكون مضمونها أفاد معنى الشيء المودود صارت الجملة الشرطية بمنزلة مفعول‏ ﴿يَوَدُّ﴾، فصار فعلها بمنزلة المصدر، وصارت لو بمنزلة حرف المصدر، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ في سورة البقرة.

9. ﴿تُسَوَّى﴾ قرأه نافع، وابن عامر، وأبو جعفر ـ بفتح التاء وتشديد السين ـ فهو مضارع تسوّى الذي هو مطاوع سوّاه إذا جعله سواء لشيء آخر؛ أي مماثلا، لأنّ السواء المثل فأدغمت إحدى التاءين في السين؛ وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف ـ بفتح التاء وتخفيف السين ـ على معنى القراءة السابقة لكن بحذف إحدى التاءين للتخفيف؛ وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، ويعقوب‏ ﴿تُسَوَّى﴾ ـ بضمّ التاء وتخفيف السين ـ مبنيّا للمجهول، أي تماثل، والمماثلة المستفادة من التسوية تحتمل أن تكون مماثلة في‏ الذات، فيكون المعنى أنّهم يصيرون ترابا مثل الأرض لظهور أن لا يقصد أن تصير الأرض ناسا، فيكون المعنى على هذا هو معنى قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النبأ: 40]، وهذا تفسير الجمهور، وعلى هذا فالكلام إطناب، قصد من إطنابه سلوك طريقة الكناية عن صيرورتهم ترابا بالكناية المطلوب بها نسبة، كقولهم: المجد بين ثوبيه، وقول زياد الأعجم:

çإنّ السّماحة والمروءة والنّدى‏... في قبّة ضربت على ابن الحشرج‏é

أي أنّه سمح ذو مروءة كريم؛ ويحتمل أن تكون مماثلة في المقدار، فقيل: يودّون أنّهم لم يبعثوا وبقوا مستوين مع الأرض في بطنها، وقيل: يودّون أن يدفنوا حينئذ كما كانوا قبل البعث، والأظهر عندي: أنّ المعنى التسوية في البروز والظهور، أي أن ترتفع الأرض فتسوّى في الارتفاع بأجسادهم، فلا يظهروا، وذلك كناية عن شدّة خوفهم وذلّهم، فينقبضون ويتضاءلون حتّى يؤدّوا أن يصيروا غير ظاهرين على الأرض، كما وصف أحد الأعراب يهجو قوما من طيّئ أنشده المبرّد في الكامل:

çإذا ما قيل أيّهم لأيّ‏... تشابهت المناكب والرّءوس‏é

وهذا أحسن في معنى الآية وأنسب بالكناية.

10. جملة ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ يجوز أن تكون مستأنفة والواو عاطفة لها على جملة ﴿يَوَدُّ﴾؛ ويجوز أن تكون حالية، أي يودّون لو تسوّى بهم الأرض في حال عدم كتمانهم، فكأنّهم لمّا رأوا استشهاد الرسل، ورأوا جزاء المشهود عليهم من الأمم السالفة، ورأوا عاقبة كذب المرسل إليهم حتّى احتيج إلى إشهاد رسلهم، علموا أنّ النّوبة مفضية إليهم، وخامرهم أن يكتموا الله أمرهم إذا سألهم الله، ولم تساعدهم نفوسهم على الاعتراف بالصدق، لما رأوا من عواقب ثبوت الكفر، من شدّة هلعهم، فوقعوا بين المقتضي والمانع، فتمنّوا أن يخفوا ولا يظهروا حتّى لا يسألوا فلا يضطرّوا إلى الاعتراف الموبق ولا إلى الكتمان المهلك.

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/130.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله سبحانه وتعالى أن كل ما يكون يوم القيامة من حساب، أدلته ثابتة من نطق الجوارح بما صنعت، ومن شهادة الأنبياء بالتبليغ والبيان، فالجرائم معها دليل وقوعها، والقانون الذي نظم العقاب وجرمها قائم بشهادة الذين أعلنوه وبينوه، ولذا قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ الاستفهام هنا للتنبيه، وبيان ما سيكون يوم القيامة من حساب يتبعه عقاب عادل، أو ثواب يتبعه جزاء سابغ وعطاء غير ممنون، والمعنى تنبهوا أي هؤلاء الذين يجحدون الأدلة القائمة، والرسالات الثابتة، وتصوروا حالكم، وأعمالكم تنطق بها ألسنتكم وجوارحكم، ومعكم النبيون يشهدون عليكم بالتبليغ والبيان، وأنه لم يكن لكم حجة في كفر، ولا معذرة في جحود، والشهيد هو الشاهد الناطق بالحق، المتحرى المستقصى الذي لا يترك حقا لم يبينه.

2. معنى قوله تعالى: ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ أنه يؤتى لكل أمة من الأمم بشهيد منها هو نبيها الذي بعث فيها ودعاها إلى الحق، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فكل نبيّ يشهد على قومه بالتبليغ والبيان، وما من أمة إلا كان لها نذير، فقد قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر]، وقال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء]

3. وقد اختلف في الإشارة في قوله تعالى: ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾، فقال بعض المفسرين: إن الإشارة في هؤلاء إلى النبيين السابقين، فالنبى صلّى الله عليه وآله وسلّم باعتباره خاتم النبيين، وأن رسالته خالدة إلى يوم القيامة، ولتكريم الله تعالى، يكون شاهدا على كل النبيين السابقين، والشهادة عليهم بمعنى أداء الشهادة بأنهم بلغوا، وكانت التعدية بعلى للإشارة إلى معنى المحافظة على أصول الشرائع السابقة لاشتمال القرآن الكريم عليها، ونشرها خالصة سائغة واضحة بينة للأجيال، هذا هو القول الأول، والقول الثاني أن المشار إليهم في النص الكريم هم أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهى أكثر الأمم عددا؛ لأن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم أكثر الأنبياء تابعا؛ إذ دينه لم يحرف ولم يبدل، فقد حفظت أصوله في القرآن الكريم، وهو نور الله تعالى الباقى إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر] وإن الكثيرين على الأول؛ لأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم له شهادتان إحداهما شهادته للرسالات السابقة بالصدق والبيان، وقد اطلع على هذه الشهادة المسلمون ببيان القرآن، والثانية شهادته على أمته، وقد جمع الشهادتين قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة] وإن تلك منزلة عالية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين به إيمانا صادقا الذين يذعنون للحق دائما، وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يستعظم أمر هذه الشهادة، فقد روى أحمد في مسنده، والبخارى في صحيحه، والترمذي والنسائي في سننهما، عن عبد الله بن مسعود أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: اقرأ على)، قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: نعم أحب أن أسمع من غيرى)، فقرأت سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾، فقال: (أمسك)، وفي رواية: (حسبك الآن)، فإذا عيناه تذرفان‏، وكأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لفرط إيمانه بالله تعالى تخوف يوم الحساب والعقاب، واستعظم تلك الشهادة التي وضعت في عنقه، وهى أعظم أمانة، فسالت عبرات عينيه صلّى الله عليه وآله وسلّم‏.

4. ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ يومئذ ـ هي ظرف مضاف إلى الظرف، ودخله التنوين على غير ما يقرره قياس النحويين، لبيان عظم ذلك الزمان الثاني وهوله، وأضيف الظرف إلى الظرف لتأكيد وجود ذلك الزمان، فهو يوم مؤكد الوقوع وهو على الكافرين عسير، ولشدته يحب ويتمنى الذين كفروا وعصوا الرسول محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم أو عصوا أي رسول بعث إليهم ـ وتكون اللام للاستغراق ـ أن يكونوا ترابا كالأرض؛ كما قال تعالى: ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النبأ]، وهذا معنى تسويته بالأرض، ويصح أن يكون المعنى أن يدفنوا ويعودوا إلى القبور، وتسوى بهم الأرض كما كانوا من قبل، ويصح أن يكون المراد ألا يبعثوا وأن يستمروا مقبورين، والأرض مسواة عليهم، والباء في قوله تعالى (بهم) على التخريجات السابقة التي تنتهى إلى معنى واحد، للملاصقة، أي يستمرون ملاصقين للأرض على أنهم جزء منها أو في داخلها.

5. هذا التمنى الذي تدل عليه (لو) سببه عصيانهم وكفرهم بالأنبياء، وشهادة النبيين عليهم بالتبليغ وشهادة جوارحهم عليهم بالارتكاب، وقد قال سبحانه من بعد ذلك: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾

6. ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ أي لا يكتمون يوم القيامة حديثا من أحاديث أنفسهم، فكل ما يجول بخاطرهم تنطق به ألسنتهم وجوارحهم، وإذا كذبت الألسنة صدقت الجوارح، وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ عطف على‏ ﴿يَوَدُّ﴾ في النص السابق، والمعنى أنهم يودون لو تسوى بهم الأرض، ولا يكتمون مع ذلك حديثا، أي حال التمنى هذه ربما كانت تسوغ لهم الكذب، ولكنهم مع ذلك لا يتمكنون منه، وإن كذبت الألسنة شهدت سائر الأعضاء.

7. وقيل إن الواو في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ للحال، والمعنى على هذا: أنهم يودون لو تسوى بهم الأرض، والحال أنهم مع ذلك لا يكتمون حديثا من أحوالهم في الدنيا، والمؤدى على التخريجين واحد، فلا مناص من ثبوت جرائمهم، وشهادة الأنبياء بالتبليغ، اللهم إنا نضرع إليك أن تجنبنا الزلل، وأن تغفر لنا خطايانا، وأن تغمرنا برحمتك يوم المطلع والحساب والعقاب، كما غمرتنا بها في الدنيا، فإنك الغفور الرحيم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1688.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾، يجمع الله الناس غدا للحساب والعقاب، وقبل كل شيء يشهد على كل قوم نبيهم بأنه قد بلغهم رسالة ربه، وعلمهم الحلال والحرام مباشرة، أو بواسطة أصحابه، أو التابعين لهم، أو العلماء والفقهاء، فالمراد بالشهيد الأول كل نبي سابق على محمد، وبالشهيد الثاني محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهؤلاء اشارة الى أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبعد من‏ قال ان هؤلاء اشارة الى جميع الأنبياء السابقين، وان محمدا يشهد عليهم، وهم يشهدون على أممهم.. لقد أبعد هذا القائل، لأن الشهادة انما تجوز وتسمع على من يجوز في حقه الإهمال لواجبه، وهذا محال في حق الأنبياء، فالشهادة عليهم كذلك.. وعند تفسير الآية 143 من سورة البقرة ذكرنا ان محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم يشهد على علماء أمته بأنه بلغهم الإسلام وأحكامه، وعلماء الأمة يشهدون عليها بأنهم قد بلغوها رسالة الإسلام على وجهها، وقال الشيخ محمد عبده في تفسير هذه الآية ما يتلخص بأن الله سبحانه سيقابل غدا ويقارن بين عقيدة كل أمة وأعمالها وأخلاقها، وبين عقيدة نبيها، فان كانت هي هي كانت الأمة من الأمم الناجية، وإلا فهي من الهالكين، وهذا التفسير من وحي ثورة الشيخ على البدع والتقاليد البغيضة.. وهو غير بعيد عن الواقع، فإن عملية هذه المقارنة إذا لم تقع بالذات في حضرة الخالق جل وعلا فان نتيجتها كائنة لا محالة.

2. ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾، المعنى ان الكفار يتمنون يوم القيامة، حيث ينكشف لهم الغطاء لو انهم لم يخلقوا، وانهم كانوا والأرض سواء، أي ترابا، كما في الآية 40 من سورة النبأ: ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾

3. ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾، هذا كلام مستأنف، ومعناه انهم لا يستطيعون كتمان ذنب من ذنوبهم التي اقترفوها، وأخفوها عن أعين الناس في الدنيا، لأن الله سبحانه محيط بهم وبأعمالهم، ولأن الملائكة وسمعهم وأبصارهم وألسنتهم وجلودهم وأيديهم وأرجلهم، كل هؤلاء تشهد عليهم بما كانوا يفعلون: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.. ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، اللهم رحمة بمن لا طاقة له بعدلك، وغوثا لمن لا نجاة له دون عفوك.

4. سؤال وإشكال: كيف تجمع بين قوله تعالى: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ وبين قوله: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾؟ والجواب: من الجائز أن يكون مرادهم انهم لم يكونوا مشركين في اعتقادهم، حتى تحقق لهم الآن شركهم وخطأهم.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/328.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ الآية، قد تقدم بعض الكلام في معنى الشهادة على الأعمال في تفسير قوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾، وسيجيء بعض آخر في محله المناسب له.

2. ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ﴾ الآية، نسبة المعصية إلى الرسول يشهد أن المراد بها معصية أوامره صلّى الله عليه وآله وسلّم الصادرة عن مقام ولايته لا معصية الله تعالى في أحكام الشريعة، وقوله: ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ كناية عن الموت بمعنى بطلان الوجود نظير قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾

3. ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ ظاهر السياق أنه معطوف على موضع قوله: ﴿يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وفائدته الدلالة بوجه على ما يعلل به تمنيهم الموت، وهو أنهم بارزون يومئذ لله لا يخفى عليه منهم شيء لظهور حالهم عليه تعالى بحضور أعمالهم، وشهادة أعضائهم وشهادة الأنبياء والملائكة وغيرهم عليهم، والله من ورائهم محيط فيودون عند ذلك أن لو لم يكونوا وليس لهم أن يكتموه تعالى حديثا مع ما يشاهدون من ظهور مساوي أعمالهم وقبائح أفعالهم، ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾ فسيجي‏ء إن شاء الله تعالى أن ذلك إنما هو لإيجاب ملكة الكذب التي حصلوها في الدنيا لا للإخفاء وكتمان الحديث يوم لا يخفى على الله منهم شيء.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/357.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَكَيْفَ﴾ بهؤلاء المتكبرين أهل الخيلاء والفخر والبخل وترك الإيمان كيف بهم يوم القيامة ﴿إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ يوم القيامة يشهد بما رأى وعلم منهم من خير أو شر ﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ يا محمد ﴿عَلَى هَؤُلَاءِ﴾ الموجودين في عهدك الذين شاهدتَهم وعلمتَ المطيع منهم والعاصي ﴿شَهِيدًا﴾ تشهد عليهم بسيئاتهم التي توجب عليهم العذاب، فلا ينفعهم جحد وإنكار ولا اعتذار ولا تقبل منهم توبة وما للظالمين من أنصار كيف بهم في هذه الحال.

2. ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ أي يوم ﴿إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ ﴿يَوَدُّ﴾ أي يحب ويرغب أو يتمنى في نفسه ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ يصيرون في بطن الأرض ويُعَفّى أثرهم كأنهم غير موجودين في بطنها ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ أراده منهم وهو يعم جواب السؤال عما قدموا وما قدموا من الكلام في الدنيا فلا يكتمون شيئاً، ولعله بعد شهادة الشهداء عليهم وانتباههم أنه لا يغني عنهم الإنكار شيئاً، والأمة: الجماعة الذين يجمعهم أمرٌ، قال تعالى: ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ﴾ [القصص: 23]

3. ﴿هَؤُلَاءِ﴾ إشارة إلى الحاضرين فهم أمة، وليس المراد أنه شهيد على من قبله من الأمم، ولا من سيوجد بعده صلّى الله عليه وآله وسلّم ولكن من في عهده وعلم حالهم، فهو شهيد عليهم بما علم منهم وشاهده، كما قال عيسى عليه السلام: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: 117] وهذا هو سبب استعمال اسم الإشارة هنا وفي (سورة النحل) ثم الأخيار ممن معه شهداء على من في عهدهم من التابعين وغيرهم، وهكذا الأخيار من التابعين شهداء على من شاهدوه من التابعين ومن بعدهم.

4. والحاصل: أن كل أمة يشهد عليهم خيارهم، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الحديد: 19] وقال تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]، والخيارُ عندنا: هم الخيار من آل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مثل: علي، والحسنين، وعلي بن الحسين، وزيد بن علي، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، ويحيى بن زيد.. وغيرهم.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/79.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ إنها المحكمة العادلة في يوم القيامة، التي يقف فيها الناس أمام الله بكل أعمالهم الخيّرة والشريرة ليحاسبهم على أعمالهم، وهو العالم بكل ما عملوه مما أسرّوه وأعلنوه، ولكنه يقدم إليهم صحائف أعمالهم وشهداء اختارهم في كل أمة، ليكونوا الشهداء على الناس في إقامة الحجة عليهم من الله في ما عملوه وما لم يعملوه، ومنهم الأنبياء والأوصياء والصديقون والعلماء والصالحون المبلّغون.. أما هذه الأمة المسلمة فإن الرسول محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي جعله الله شاهدا على أمته، لأنه بلّغ رسالته كما لم يبلّغها نبيّ، وجاهد من أجلها كما لم يجاهد رسول؛ وترك للأمة من بعده من يحفظ لها أمر الرسالة، ويركز لها قواعد الدين، فما ذا يعمل هؤلاء المنحرفون غدا، إذا وقف الشهداء بين يدي الله ليشهدوا، ووقف النبي أمام أمته ليشهد، ليبطلوا حجة كل منحرف وكافر ومنافق، كيف يجيبون الله؟ وبماذا يدافعون عن أنفسهم؟

2. وقد ذكر بعض المفسرين أن النبي يشهد على شهداء الأمم السابقة كما يشهد على أمته، وذلك بأن تكون الإشارة بكلمة (هؤلاء) إلى شهود الأمم السابقة، بمعنى أننا نجعلك شهيدا على شهداء الأمم من الأنبياء، وفي ضوء ذلك يكون كل نبي شاهدا على أعمال أمته جميعها في حياته وبعد مماته عن طريق المشاهدة الباطنية والروحانية، وهذا المعنى ينطبق على النبي‏ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن روحه الطاهرة ناظرة إلى أعمال أمته وجميع الأمم السابقة، وبهذا يمكنه أن يشهد على أعمالهم وأوضاعهم، ولكن هذا الرأي خلاف الظاهر لأن كلمة (هؤلاء) ظاهرة في المسلمين الذين كانوا يمثلون الحضور الوجودي أمام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا سيّما بلحاظ ما قبلها ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾، حيث إن النبي المرسل في كل أمة هو الشهيد عليها، بحيث تكون له صفة النبوة والشهادة، فلم يكن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في دلالة الآية ـ بدعا من الأنبياء في ذلك كله، كما أن الحوار الذي أداره الله في القرآن مع السيد المسيح عليه السّلام ينفي ذلك، وذلك هو قوله تعالى ـ في جواب سؤال الله له ـ: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ مما يدلّ على أن النبي لا يقوم بالشهادة بعد وفاته، فلا يتحمل مسئولية تقديم تقرير الله بذلك.

3. ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ ليس هناك مجال للدفاع، لأنهم لا يملكون أية حجة أو برهان يبررون من خلاله أعمالهم، فلا يبقى هناك إلا التمنيات المسحوقة بأن تبتلعهم الأرض، فلا يتعرضون للوقوف طويلا في هذا الموقف لما يواجههم من الإحراج والضيق والخوف ومن غضب من الإحراج والضيق والخوف ومن غضب الله، ولا يمكنهم في ذلك الموقف إلا أن يعترفوا بكل شيء، فلا يكتموا الله حديثا في كل أعمالهم الكبيرة والصغيرة، وقد روي عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام ـ في بعض خطبه ـ أنه قال عن يوم القيامة: (ختم على الأفواه فلا تكلّم وقد تكلمت الأيدي وشهدت الأرجل ونطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا)

4. وهكذا ينتهي هذا الفصل الذي بدأه الله بالدعوة إلى عبادته وتوحيده، والعمل في اتجاه هذا الخط، والتحذير من الكفر والإشراك به والتمرّد عليه، وختمه بالموقف الشديد الذي يواجه المنحرفين أمام الشهداء بين يدي الله؛ ليفكر الإنسان طويلا في قضية المصير، ليحدد موقفه على هذا الأساس.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/272.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تعقيبا على الآيات السابقة التي كانت تدور حول العقوبات والمثوبات المعدّة للعصاة والمطيعين، جاءت هذه الآية تشير إلى مسألة الشهود في يوم القيامة فتقول: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾، وهكذا يكون نبي كل أمّة شهيدا عليها، مضافا إلى شهادة أعضاء الإنسان وجوارحه، وشهادة الأرض التي عليها عاش، وشهادة ملائكة الله على أعماله وتصرفاته، ويكون نبيّ الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو آخر أنبياء الله ورسله وأعظمهم، شاهدا على أمّته أيضا، فكيف يستطيع العصاة مع هذه الشهود إنكار حقيقة من الحقائق، وتخليص أنفسهم من نتائج أعمالهم.

2. نظير هذا المضمون قد جاء أيضا في عدّة آيات قرآنية أخرى، منها الآية من سورة البقرة، والآية من سورة النحل، والآية من سورة الحج.

3. سؤال وإشكال: كيف تتمّ شهادة الأنبياء على أعمال أممهم، وكيف تكون؟ والجواب:

أ. إذا كانت كلمة (هؤلاء) إشارة إلى المسلمين كما جاء في تفسير مجمع البيان، فإن الجواب على هذا السؤال يكون واضحا، لأنّ كل نبيّ ما دام موجودا بين ظهراني أمّته فهو شاهد على أعمالهم، وبعده يكون أوصياؤه وخلفاؤه المعصومون هم الشهداء على أعمال تلك الأمّة، ولهذا جاء في حق المسيح عليه السّلام أنّه يقول في يوم القيامة في جواب سؤال الله سبحانه إيّاه: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾

ب. ولكن بعض المفسرين احتمل أن تكون لفظة (هؤلاء) إشارة إلى شهود الأمم السابقة، يعني أنّنا نجعلك أيّها النّبي شهيدا على شهداء الأمم من الأنبياء، وقد أشير في بعض الروايات إلى هذا التّفسير وعلى هذا يكون معنى الآية هكذا: إنّ كل نبيّ شاهد على أعمال أمّته جميعها في حياته وبعد مماته عن طريق المشاهدة الباطنية والروحانية، وهكذا الحال بالنسبة إلى رسول الإسلام، فإنّ روحه الطاهرة ناظرة ـ عن هذا الطريق أيضا ـ على أعمال أمّته وجميع الأمم السابقة، وبهذا الطريق يمكنه أن تشهد على أفعالهم وأعمالهم، بل وحتى الصلحاء من الأمّة والأبرار الأتقياء منها يمكنهم الاطلاع والحصول على مثل هذه المعرفة، فيكون المفهوم من كل ذلك وجود روح النّبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم من بدء الخلق، لأنّ معنى الشّهود هو العلم المقترن بالحضور، ولكن هذا التّفسير لا ينسجم مع ما نقل عن السيد المسيح، لأنّ الآية المذكورة تقول: إنّ المسيح لم يكن شاهدا على أمّته جمعاء، بل كان شاهدا عليها ما دام في الحياة.

ج. أمّا إذا أخذنا الشهادة بمعنى الشهادة العملية، يعنى أن تكون أعمال (فرد نموذجي) مقياسا ومعيارا لأعمال الآخرين كان التّفسير حينئذ خاليا عن أي إشكال، لأنّ كل نبيّ بما له من صفات متميزة وخصال ممتازة يعدّ خير معيار لأمّته، إذ يمكن معرفة الصالحين والطالحين بمشابهتهم أو عدم مشابهتهم له، وحيث إن النّبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم هو أعظم الأنبياء والرسل الإلهيين كانت صفاته وأعماله معيارا لشخصية كل الأنبياء والرسل.

4. سؤال وإشكال: هل جاءت الشهادة بهذا المعنى، أم لا؟ والجواب: مع الانتباه إلى أنّ أعمال الرجال النموذجيين وتصرفاتهم وأفكارهم تشهد عمليا على أنّه من الممكن أن يرقى إنسان ما إلى هذه الدرجة، ويطوي هذه المقامات والمراحل المعنوية لم يبد مثل هذا المعنى بعيدا في النظر.

5. عندئذ يندم الكفار الذين عارضوا الرّسول وعصوه، أي عندما رأوا بأمّ أعينهم تلك المحكمة الإلهية العادلة، وواجهوا الشهود الذين لا يمكن إنكار شهاداتهم، إنهم يندمون ندما بالغا لدرجة أنّهم يتمنون لو أنّهم كانوا ترابا أو سووا بالأرض كما يقول القرآن الكريم في الآية الثانية من الآيتين الحاضرتين إذ يقول سبحانه: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾، وقد ورد مثل هذا التعبير في آخر سورة النبأ إذ يقول تعالى: ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾

6. لكن لفظة ﴿لَوْ تُسَوَّى﴾ تشير إلى مطلب آخر أيضا، وهو: إنّ الكفار مضافا إلى أنّهم يتمنون أن يصيروا ترابا، يحبّون أن تضيع معالم قبورهم في الأرض أيضا وتسوى بالأرض حتى ينسوا بالمرّة، ولا يبقى لهم ذكر ولا خبر ولا أثر، إنّهم في هذه الحالة لا يمكنهم أن ينكروا أية حقيقة واقعة ولا أن يكتموا شيئا: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ لأنّه لا سبيل إلى الإنكار أو الكتمان مع كل تلكم الشهود.

7. نعم، لا ينافي هذا الكلام ما جاء في الآيات الأخر التي تقول: هناك من الكفار من يكتم الحقائق يوم القيامة أيضا ويكذبون‏ لأنّ كذبهم وكتمانهم واقع قبل إقامة الشهود وقيام الشهادة، وأمّا بعد ذلك فلا مجال لأي كتمان، ولا سبيل إلى أي إنكار، بل لا بدّ من الاعتراف بجميع الحقائق، وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام في بعض خطبه أنّه قال عن يوم القيامة: (ختم على الأفواه فلا تكلم وتكلمت الأيدي وشهدت الأرجل ونطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا)

8. هذا ويحتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من‏ ﴿لا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً﴾ أنّهم يتمنون لو أنّهم لم يكتموا في الدنيا أية حقيقة، خصوصا في ما يتعلق برسول الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلى هذا تكون هذه العبارة عطفا على جملة ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾، لكن هذا التّفسير لا ينجسم مع ظاهر (لا يكتمون) الذي هو فعل مضارع، ولو كان المراد ما ذكره هذا الفريق من المفسرين لوجب أن يقول: (لم يكتموا)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/240.

44. الصلاة والعقل

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈44⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: 43]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

سعد:

روي عن سعد بن أبى وقاص (ت 55 هـ) أنّه قال: نزلت في أربع آيات، صنع رجل من الأنصار، فأكلنا وشربنا حتى سكرنا، ثم افتخرنا، فرفع رجل لحي(1)، بعير، فغرز به أنف سعد، فكان سعد مغروز الأنف، وذلك قبل أن يحرم الخمر؛ فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾(2).

__________

(1) اللَّحْيُ: مَنبِت اللِّحْية من الإنسان وغيره.

(2) ابن أبي حاتم ٣/٩٥٨.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾، قال صلاة المساجد(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، قال النعاس(2).

3. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، قال نسخها: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ الآية [المائدة: ٩٠](3).

4. روي أنّه قال: كان قبل أن تحرم الخمر(4).

5. روي أنّه قال: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، قال نسختها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ﴾ [المائدة: ٦](5).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٥٩.

(2) عزاه السيوطي إلى عَبد بن حُمَيد.

(3) أبو داود (٣٦٧٢.

(4) ابن جرير ٧/٤٦.

(5) النسائي في الكبرى (ت: شعيب الأرناؤوط) ١٠/٦٥.

أبو رزين:

روي عن أبي رزين مسعود (ت 85 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، قال نزل هذا وهم يشربون الخمر، وكان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٧.

مسعود:

روي عن مسعود بن مالك أبي رزين (ت 85 هـ) أنّه قال: شربت الخمر بعد الآية التي في البقرة، والتي في النساء، فكانوا يشربونها حتى تحضر الصلاة، فإذا حضرت تركوها، حرمت في المائدة في قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾، فانتهى القوم عنها، فلم يعودوا فيها(1).

__________

(1) ابن المنذر ٢/٧١٩.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، نشاوى من الشراب، ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ يعني: ما تقرؤون في صلاتكم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٥٩.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: نهوا أن يصلوا وهم سكارى، ثم نسخها تحريم الخمر(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٧.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إن الله سبحانه نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى، يعني سكر النوم(1).

2. روي أنّه قال: لا تقم إلى الصلاة متكاسلا، ولا متناعسا، ولا متثاقلا، فإنها من خلالالنفاق، فإن الله نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى، يعني من النوم(2).

__________

(1) الكافي 3/299.

(2) تفسير العيّاشي 1/242.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، كانوا يجتنبون السكر عند حضور الصلوات، ثم نسخ في تحريم الخمر(1).

__________

(1) عبد الرزاق ١/١٦٣.

الزهري:

روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: ٢١٩]، فنسخها الله عز وجل بقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: ٩٠](1).

__________

(1) الناسخ والمنسوخ للزهري ص ٢٤.

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال في سورة النساء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾، وقال في سورة البقرة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾، فنسخت في المائدة، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(1).

__________

(1) ابن وهب في الجامع ٣/٧٠.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ سكر النوم(1).

__________

(1) الكافي 3/371.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ في صلاتكم(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٧٤.

الكاظم:

روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في قول الله: ﴿ولا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ هذا قبل أن يحرم الخمر(1)

2. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ قال: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، يعني سكر النوم، يقول: وبكم نعاس يمنعكم أن تعلموا ما تقولون في ركوعكم وسجودكم وتكبيركم، وليس كما يصف كثير من الناس يزعمون أن المؤمن يسكر من الشراب، والمؤمن لا يشرب مسكرا، ولا يسكر(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/242.

الهادي إلى الحق:

ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أما قوله سبحانه: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، يعني: سكر النوم؛ وذلك أن قوما من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، كانوا يصلون مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صلاة المغرب، ثم يجلسون ينتظرون العتمة، فإذا جاءت العتمة قام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلي بهم، فيقومون وراءه، وليس هم يدرون ما يقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، مما بهم من الغلبة والسكر والنوم؛ فنهاهم الله عن الصلاة وهم في ذلك، حتى يعلموا ما يقولون؛ لأن الله عز وجل لم يحل لأحد من خلقه خمرا قط.

2. ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾، فالسكر الذي نهي عن الصلاة معه وفيه هو: سكر النوم، وغلبته، وغشيانه لعقل من ينزل به؛ فنهى الله المؤمنين عن الصلاة، حتى يزول عنهم اسم النوم، ويصيروا إلى حد المتيقظين من الأنام، وترجع إليهم عقولهم، فيعرفون ما يقولون، وما يقرأون في الصلاة فيفعلون.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/226.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي: في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سؤال وإشكال: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾، وقد مضى تفسيرها إليكم، وقلت في آخر كلامك: (دليل على أن الله عز وجل قد أجاز شرب الخمر)؟ والجواب: ومعاذ الله، ما في هذا دليل على ترخيص في المسكر؛ وكيف يرخص في ذلك، وهو يقول تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90]، مع ما نزل فيه من الحد، وشدد فيه الرسول!!؟ ولكن السكر الذي نهى الله عن الصلاة فيه: سكر النوم؛ وذلك أن المسلمين كانوا يأتون من أعمالهم، وهم تعبون، فيحضرون الصلاة مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإذا صلوا المغرب وانتظروا العشاء مالت بهم أعينهم، فإذا نهض النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الصلاة قاموا بسنح النوم ووسنه وشدته يصلون؛ فلا يسمعون قراءة، ويختلط عليهم كثير من حدود صلاتهم؛ لغلبة النوم؛ فنهاهم الله عز وجل عن ذلك.. ولو كان هذا السكر: سكر الخمر، كما قلت ـ لكان مطلقا لهم ترك الصلاة؛ لأنه نهاهم ألا يقربوا الصلاة وهم سكارى، فقد أحل الخمر لهم، فإذا كان كذلك فقد جاز لهم ترك الصلاة أبدا حتى يصحوا؛ لأنه أمرهم: لا يقربوها وهم سكارى، فصار تركهم لها عند سكرهم فرضا من الله عز وجل عليهم، بأمره سبحانه لهم بذلك، وإطلاقه لهم، فهم غير معذبين، ولا مأثومين في تركها.. والله بريء من ذلك، متعال عنه؛ بل حظره عليهم، ومنعهم أشد المنع منه، وعذبهم على فعله؛ وإنما السكر الذي نهاهم الله عنه: سكر النوم، وأمرهم عند الصلاة بالتيقظ والانتباه، وإعادة الوضوء؛ فهذا تفسير الآية ومعناها.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/227.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾:

أ. قيل: لا تدنوا مكان الصلاة وأنتم سكارى، وكذلك الجنب لا يدنو مكان الصلاة؛ وهو قول عن ابن مسعود ‏.

ب. وقيل: قوله: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ نهي عن الصلاة في حال السكر؛ روي أن رجلا صنع طعاما فدعا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليّا، وسعد بن أبي وقاص، فأكلوا، وسقاهم خمرا، وذلك قبل أن تحرم؛ فحضرت صلاة المغرب، فأمهم رجل منهم فقرأ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [الكافرون: 1] بطرح اللاءات؛ فنزل قوله تعالى: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لا يصلّينّ أحدكم وهو لا يعقل صلاته)

2. في الآية دلالة: أن في الصلاة قولا فرضا، نهي عن قربانها في حال السكر؛ مخافة تركه، أو نهي عن قربانها في حال السكر؛ خوفا أن يدخل فيها قولا ليس منها؛ وفي ذلك دليل فساد الصلاة بالكلام عمدا كان أو خطأ؛ لأن السكران لا يفعل ذلك على العمد، ولكن على الخطأ، والأصل في هذا: أنه لم ينهه عن فعل الصلاة في حال السكر لنفس الصلاة، ولكن فيه نهي عن السكر، وكذلك‏ قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا صلاة للعبد الآبق، ولا للمرأة النّاشزة) ليس النهي فيه عن الصلاة، ولكن النهي‏ التي أمر بها؛ لأن الإباق والنشوز والسكر ليسوا بالذي يعملون في إسقاط ذلك الفرض وتلك العبادة.

3. في الآية دلالة أن السكران مخاطب بقوله: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ نهي‏ عن قربان الصلاة في حال السكر، فالنهي إنما وقع في حال السكر، فإذا كان مخاطبا عمل طلاقه ونفذت عقوده؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: 91] فلو لم يكن عليهم ذكر في حال السكر لم يكن ليصدهم عن ذكر الله معنى ولا ذكر عليهم، دل أنه مخاطب، ولهذا ما قال أبو يوسف: إنه إذا ارتد عن الإسلام يكون ارتداده ارتدادا.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾:

أ. منهم من حمل على مكان الصلاة؛ إذ الصلاة فعل، والفعل لا يقرب.

ب. ومنهم من حمل على الفعل؛ أي: لا تصلوا.

5. أي الوجهين أريد به فالآخر داخل فيه؛ لأنه إذا نهي عن حضور مكانها لحرمته فهي أعلى في الحرمة، وأحق في المنع، وأيد ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ والعلم بالقول يحتاج إليه في حق الفعل؛ لئلا يترك المفروض من الذكر فيفسد، أو يدخل المحرم فيه فيفسد، وفي ذلك دلالة أحد الوجهين، وفي حق العموم الوجهان جميعا، وهو على الخطأ يقول؛ فثبت أن الخطأ من القول في الصلاة مفسدا؛ إذ لو كان لا يفسد لم يكن سوى النهي، وفي التأخير نهي أيضا ولو أريد به الصلاة فإنما المكان لأجلها، فلا وجه للحضور دون إمكان الفعل للفعل، وعلى ذلك أمر الجنب، واستثناء عابري السبيل؛ ليكون‏ على فعل الصلاة بالتيمم؛ فيكون في الآية دلالة التيمم للجنب، أو المكان فيباح الدخول فيه على العبور فيه بالتيمم أيضا، فعلى ذلك عندنا الدخول للاغتسال فيه؛ إذ كان فيه بالتيمم؛ والله أعلم.

6. إذا أبيح للجنب على المنع عن دخول المسجد إلا بالتيمم؛ فثبت أن التيمم قد جعل له الطهارة، فله الصلاة به لعذر ثم في المروي دلالة عمن أمّ في المغرب ب ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [الكافرون: 1] على طرح اللاءات في حال السكر حتى نزل قوله تعالى: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ ـ أن كلام الكفر في حال السكر لا يكفر صاحبه؛ إذ خاطبهم باسم الإيمان؛ فلذلك لم يكن عند أبي حنيفة كافرا، على أن المخطئ لما يجرى على لسانه كلمة الكفر لا يصير كافرا في الحكم، والسكران يجرى على لسانه على الخطأ؛ دليله ما لا يذكره، وما كان من‏ أنه قال هو أن يكون مسافرا ولا يجد الماء فيتيمم‏، وعن ابن عباس قال هو المسافر.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/188.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ أي لا تقربوا الصلاة حتى تفيقوا من سكرة الموت المنام.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/242.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ أي سكارى من النوم والسكر في اللغة سد مجرى الماء.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/179.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ قولان:

أ. أحدهما: سكارى من الخمر، وهو قول ابن عباس، وقتادة، وقد روى عطاء ابن السائب عن عبد الله بن حبيب‏: أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا ودعا نفرا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأكلوا وشربوا حتى ثملوا، ثم قدّموا عمر فصلى بهم المغرب فقرأ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد وأنا عابد ما عبدتم لكم دينكم ولي دين فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾

ب. الثاني: وأنتم سكارى من النوم، وهو قول الضحاك، وأصل السكر: السكر، وهو سد مجرى الماء، فالسّكر من الشراب يسد طريق المعرفة.

2. سؤال وإشكال: كيف يجوز نهي السكران؟ والجواب: فيه جوابان:

أ. أحدهما: أنه قد يكون سكران من غير أن يخرج إلى حد لا يحتمل معه الأمر.

ب. الثاني: أنه نهي عن التعرض للسكر وعليه صلاة.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/490.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ظاهر الخطاب متوجه إلى المؤمنين كلهم بأن لا يقربوا الصلاة وهم سكارى يعني في حال سكرهم، يقال: قرب يقرب متعد، وقرب يقرب لازم، وقرب الماء يقربه إذا ورده، وقيل في معني السكر المذكور في الآية قولان:

أ. أحدهما: قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابراهيم: إنه السكر من الشراب، وقال مجاهد، والحسن، وقتادة نسخها تحريم الخمر.

ب. الثاني: قال الضحاك، هو سكر النوم خاصة، وأصل السكر من السكر، وهو سد مجرى الماء، يقال سكره يسكره، واسم الموضع السكر والسكر، لانسداد طريق المعرفة به، سكر يسكر سكراً وأسكره إسكاراً، وسكرة الموت غشيته.

2. سؤال وإشكال: كيف يجوز نهي السكران في حال سكره مع زوال عقله، وكونه بمنزلة الصبي والمجنون؟ والجواب: عنه جوابان:

أ. أحدهما: إنه قد يكون سكران من غير أن يخرج من نقص العقل إلى ما لا يحتمل الامر والنهي.

ب. الثاني: إنما نهوا عن التعرض للسكر مع أن عليهم صلاة يجب أن يؤدها في حال الصحو، وقال أبو علي: فيه جواب ثالث وهو أن النهي إنما دل على أن عليهم أن يعيدوها إن صلوها في حال السكر.

3. سؤال وإشكال: كيف يسوغ تأويل من ذهب إلى أن السكران مكلف أن ينتهي عن الصلاة في حال سكره؟ مع أن عمل المسلمين على خلافه، لأن من كان مكلفاً تلزمه الصلاة، والجواب: عنه جوابان:

أ. أحدهما: أنه منسوخ.

ب. والآخر: إنه نهي عن الصلاة مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في جماعة.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/205.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. السُّكْرُ: خلاف الصحو وأصله السَّكْر بفتح السين، وهو سد مجرى الماء سَكَرَه يَسْكرُه سكرًا، نحو: نصر ينصر نصرًا، واسم الموضع السِّكْر بكسر السين، وسمي السكر لانسداد طريق المعرفة به سكر سكرًا، وأسكر إسكارًا، ورجل سكران، وقوم سُكَارَى وسَكْرى.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: أول الآية نزلت في ناس من الصحابة كانوا يشربون الخمر، ويشهدون الصلاة وهم سُكارَى، فلا يدرون كم صلوا، وما يقولون في صلاتهم، فنزلت الآية، فكانوا يجتنبون الخمر في أوقات صلاتهم حتى نزل تحريم الخمر في سورة المائدة.

ب. وقيل: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر، فاجتمع ناس في دار عبد الرحمن فشربوا، فصلى بهم فقرأ: أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد، في قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ) فنزلت الآية، ذكره الأصم، وذكر أن عمر قال عند ذلك: اللهم إن الخمر تضر بالعقول والأموال فأنزل فيها أمرك، فأنزل الله تعالى هذه الآية في المائدة.

3. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:

أ. قيل: متصل بقوله: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ﴾ وكان من العبادة الصلاة، فبين شرائطها، ومنع منها في حال السكر والجنابة والحدث.

ب. وقيل: لما تقدم ذكر الأحكام في هذه السورة، ونقلهم عن أحكام الجاهلية إلى أحكام الإسلام وشرائعه كان من أحكام الجاهلية السكر وترك الغسل من الجنابة نقلهم عنها، وبين شرائع الإسلام لهم.

4. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ صدقوا الله ورسوله، و﴿يَا﴾: نداء، و﴿أَيِّ﴾: تنبيه، و﴿هَا﴾: إشارة، كأنه قيل: أنا ربكم أيها المؤمنون فاستمعوا.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾:

أ. قيل: لا تصلوا وأنتم سكارى عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد وأبي مسلم.

ب. وقيل: لا تقربوا مكان الصلاة وهو المساجد للصلاة وغيرها، كقوله: ﴿وَصَلَوَاتٌ﴾ أي مواضع الصلاة عن عبد الله وسعيد بن المسيب والضحاك وعكرمة وعطاء والنخعي والحسن.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾:

أ. قيل: نشاوى، وهو سكر الشراب عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وإبراهيم، قال الحسن ومجاهد وقتادة: ثم نسخها تحريم الخمر.

ب. وقيل: سكر النوم خاصة عن الضحاك، واستدلوا عليه بحديث عائشة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف لعله يدعو على نفسه وهو لا يدري)

7. تدل الآية الكريمة على:

أ. منع السكران والجنب عن الصلاة والمساجد.

ب. ارتفاع الحظر عند وجود الغاية، وهو الصحو في السكران والغسل في الجنب.

ج. الكلام في السكر:

أن السكر مِنْ فِعْلهِ تعالى لا صنع للعبد فيه، وليس بطبع للشراب موجب بدليل أنه لا يقع بحسب قصده ودواعيه، ولا ينتفي بحسب كراهته، وأما الطبع فلا يعقل، ولو كان فيه علة موجبة لكان يحصل في أول الشرب، والسكر فيه كالنوم والإغماء والجنون.

أنه تعالى يفعله عقيب الشرب للعادة كما يخلق الولد عند الوطء، والنبات عند إلقاء البذر، والشبع عند الأكل، والري عند الشرب، والإسهال عند الدواء، وكذلك تختلف العادات فيه.

أنه في حال السكر هل هو مخاطب أم لا؟ فالأكثر على أنه ليس بمكلف في حال سكره، وهو مذهب أصحاب الشافعي واختاره القاضي، ويجعلون عقوده وإقراراته بمنزلة أقوال الصبي، ومنهم من قال: إنه مكلف حتى يقع طلاقه وعتاقه، واتفقوا أنه يؤخذ بالغرامات المالية.

أنه يحد عند السكر على ماذا؟ فالمحققون يقولون: إنه يحد لشرب القدح المسكر إذا شربه والعقل ثابت، ومن يقول بتحريم القليل والكثير يقول: يحد على الشرب فلا حد على السكر بالاتفاق، ولأن الحد يجري مجرى العقوبة، والسكر فعل الله تعالى فلا يستحق عليه العقوبة.

كيفية السكر، فقد قيل: إنه الذي يختل معه عقله حتى لا يدري ما يقول عن أبي علي، ولذلك قال تعالى: ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ وقد استدل علي بن موسى القمي بهذه الآية على أن في الصلاة قراءة واجبة خلاف قول ابن علية.

أن هذا الخطاب متى يتوجه إليه؟

● فقد قيل: إنه خطاب ولا سكر فكأنه منع مما يؤدي إلى السكر، وعلى هذا الوجه قال السلف: إنه حرم السكر بهذه الآية، والخمر بالآية في سورة المائدة كما حكينا عن مجاهد وقتادة.

● وقيل: نهوا عن حال السكر وإن لم يختل العقل اختلالاً يؤثر في الأمر والنهي.

● وقيل: إنه بالنهي أوجب الإعادة عن أبي علي استدل بالآية على أن صلاة السكران لا تصح، والإجماع على أنه يلزمه القضاء.

ومنها: تصرفات السكران، فلا خلاف أنه يؤخذ بالاستهلاكات والقتل والحدود، ولا خلاف أن بيعه وشراءه وأقاريره لا تصح، واختلفوا في طلاقه وعتاقه، فعند أهل العراق يقع، وعند الشافعي لا يقع.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/637

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. قرب، يقرب: متعد، وقرب يقرب: لازم، وقرب الماء، يقربه: إذا ورده.

ب. أصل السكر: من السكر، وهو سد مجرى الماء، واسم الموضع السكر، فبالسكر ينسد طريق المعرفة، وسكرة الموت: غشيته، ورجل سكران: من قوم سكارى، وسكرى، والمرأة سكرى أيضا.

2. لما أمر سبحانه في الآية المتقدمة بالعبادة، ذكر عقيبها ما هو من أكبر العبادات، وهو الصلاة، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾:

أ. قيل: أي لا تصلوا وأنتم سكارى، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وابن زيد.

ب. وقيل: معناه لا تقربوا أماكن الصلاة: أي المساجد، للصلاة وغيرها، كقوله وصلوات: أي مواضع الصلوات، عن عبد الله، وسعيد بن المسيب، والضحاك، وعكرمة، والحسن، ويؤيد هذا قوله: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾، فإن العبور إنما يكون في الموضع دون الصلاة.

3. ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ أي نشاوى، واختلف فيه على قولين:

أ. أحدهما: إن المراد به سكر الشراب، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، قالوا: ثم نسخها تحريم الخمر، وروي ذلك عن موسى بن جعفر عليه السلام:

سؤال وإشكال: وقد يسأل عن هذا، فيقال: كيف يجوز نهي السكران في حال السكر، مع زوال العقل؟ والجواب: أجيب عنه بجوابين:

● أحدهما: إنه قد يكون سكران من غير أن يخرج من نقصان العقل إلى ما لا يحمل الأمر والنهي.

● والآخر: إن النهي إنما ورد عن التعرض للسكر في حالة وجوب أداء الصلاة عليهم.

● وأجاب أبو علي الجبائي بجواب ثالث، وهو: إن النهي إنما دل على أن إعادة الصلاة واجبة عليهم إن أدوها في حال سكر.

سؤال وإشكال: وقد سئل أيضا فقيل: إذا كان السكران مكلفا، فكيف يجوز أن ينهى عن الصلاة في حال سكره، مع أن عمل المسلمين على خلافه؟ والجواب: وأجيب عن ذلك بجوابين:

● أحدهما: إنه منسوخ.

● والآخر: إنهم لم يؤمروا بتركها، لكن أمروا بأن يصلوها في بيوتهم، ونهوا عن الصلاة مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في جماعته تعظيما له وتوقيرا.

ب. الثاني: إن المراد بقوله: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ سكر النوم خاصة، عن الضحاك، وروي ذلك عن أبي جعفر عليه السلام، ويعضد ذلك ما روته عائشة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (إذا نعس أحدكم وهو يصلي، فلينصرف، لعله يدعو على نفسه وهو لا يدري)

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾:

أ. قيل: أي حتى تميزوا ما تقولون من الكلام.

ب. وقيل: معناه حتى تحفظوا ما تتلون من القرآن.

5. في الآية دلالة على أن السكران لا تصح صلاته، وقد حصل الاجماع على أنه يلزمه القضاء، ولا يصح من السكران شئ من العقود، كالنكاح، والبيع، والشراء، وغير ذلك، ولا رفعها كالطلاق، والعتاق، وفي الطلاق خلاف بين الفريقين، فعند أبي حنيفة يقع طلاقه، وعند الشافعي لا يقع في أحد القولين، فأما ما يلزم به الحدود والقصاص: فعندنا أنه يلزمه جميع ذلك، فيقطع بالسرقة، ويحد بالقذف والزنا، لعموم الآيات المتناولة لذلك، ولاجماع الطائفة عليه.

6. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ جملة منصوبة الموضع على الحال، والعامل فيه ﴿تَقْرَبُوا﴾، وذو الحال الواو من ﴿تَقْرَبُوا﴾

ب. ﴿تَعْلَمُوا﴾ منصوب بإضمار أن، وعلامة النصب سقوط النون، ثم إنه مع أن المضمرة في موضع الجر بحتى، والجار والمجرور في موضع النصب بكونه مفعول ﴿تَقْرَبُوا﴾

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/80.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في معنى قوله تعالى: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾ قولان:

أ. أحدهما: لا تتعرّضوا بالسّكر في أوقات الصّلاة.. وهو أصحّ، لأن السّكران لا يعقل ما يخاطب به.

ب. الثاني: لا تدخلوا في الصّلاة في حال السّكر.

2. في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ قولان:

أ. أحدهما: من الخمر، قاله الجمهور.

ب. الثاني: من النّوم، قاله الضّحّاك، وفيه بعد.

3. هذه الآية اقتضت إباحة السّكر في غير أوقات الصّلاة، ثم نسخت بتحريم الخمر.

__________

(1) زاد المسير: 1/409.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

النوع العاشر من التكاليف المذكورة في هذه السورة، ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾، وذكروا في سبب النزول وجهين:

أ. الأول: أن جماعة من أفاضل الصحابة صنع لهم عبد الرحمن بن عوف طعاما وشرابا حين كانت الخمر مباحة فأكلوا وشربوا، فلما تملوا جاء وقت صلاة المغرب فقدموا أحدهم ليصلي بهم، فقرأ: أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد، فنزلت هذه الآية، فكانوا لا يشربون في أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها، فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون، ثم نزل تحريمها على الإطلاق في سورة المائدة، وعن عمر أنه لما بلغه ذلك قال اللهم إن الخمر تضر بالعقول والأموال، فأنزل فيها أمرك فصبحهم الوحي بآية المائدة.

ب. الثاني: قال ابن عباس: نزلت في جماعة من أكابر الصحابة قبل تحريم الخمر كانوا يشربونها ثم يأتون المسجد للصلاة مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فنهاهم الله عنه.

1. في لفظة الصلاة قولان:

أ. أحدهما: المراد منه المسجد، وهو قول ابن عباس وابن مسعود والحسن، وإليه ذهب الشافعي، وإطلاق لفظ الصلاة على المسجد محتمل، ويدل عليه وجهان:

الأول: أنه يكون من باب حذف المضاف، أي لا تقربوا موضع الصلاة، وحذف المضاف مجاز شائع.

الثاني: قوله: ﴿لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ﴾ [الحج: 40] والمراد بالصلوات مواضع الصلوات، فثبت أن إطلاق لفظ الصلاة والمراد به المسجد جائز.

ب. الثاني: وعليه الأكثرون: أن المراد بالصلاة في هذه الآية نفس الصلاة، أي لا تصلوا إذا كنتم سكارى.

2. فائدة الخلاف تظهر في حكم شرعي، وهو:

أ. أن على التقدير الأول يكون المعنى: لا تقربوا المسجد وأنتم سكارى ولا جنبا إلا عابري سبيل، وعلى هذا الوجه يكون الاستثناء دالا على أنه يجوز للجنب العبور في المسجد، وهو قول الشافعي.. قال أصحاب الشافعي: هذا القول أرجح، ويدل عليه وجوه:

الأول: أنه قال: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾ والقرب والبعد لا يصحان على نفس الصلاة على سبيل الحقيقة، إنما يصحان على المسجد.

الثاني: أنا لو حملناه على ما قلنا لكان الاستثناء صحيحا، أما لو حملناه على ما قلتم لم يكن صحيحا، لأن من لم يكن عابر سبيل وقد عجز عن استعمال الماء بسبب المرض الشديد، فإنه يجوز له الصلاة بالتيمم، وإذا كان كذلك كان حمل الآية على ذلك أولى.

الثالث: إنا إذا حملنا عابر السبيل على الجنب المسافر، فهذا إن كان واجدا للماء لم يجز له القرب من الصلاة ألبتة، فحينئذ يحتاج إلى إضمار هذا الاستثناء في الآية، وإن لم يكن واجدا للماء لم يجز له الصلاة إلا مع التيمم، فيفتقر إلى إضمار هذا الشرط في الآية، وأما على ما قلناه فانا لا نفتقر إلى إضمار شيء في الآية فكان قولنا أولى.

الرابع: أن الله تعالى ذكر حكم السفر وعدم الماء، وجواز التيمم بعد هذا، فلا يجوز حمل هذا على حكم مذكور في آية بعد هذه الآية، والذي يؤكده أن القراء كلهم استحبوا الوقف عند قوله: ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ ثم يستأنف قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ لأنه حكم آخر، وأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا لم نحتج فيه إلى هذه الإلحاقات فكان ما قلناه أولى.

ب. أما على القول الثاني فيكون المعنى: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، ولا تقربوها حال كونكم جنبا إلا عابري سبيل، والمراد بعابر السبيل المسافر، فيكون هذا الاستثناء دليلا على أنه يجوز للجنب الاقدام على الصلاة عند العجز عن الماء.. ولمن نصر هذا القول أن يقول: إن قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ يدل على أن المراد من قوله: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾ نفس الصلاة لأن المسجد ليس فيه قول مشروع يمنع السكر منه، أما الصلاة ففيها أقوال مخصوصة يمنع السكر منها، فكان حمل الآية على هذا أولى، وللقائل الأول ان يجيب بأن الظاهر أن الإنسان إنما يذهب إلى المسجد لأجل الصلاة، فما يخل بالصلاة كان كالمانع من الذهاب إلى المسجد فلهذا ذكر هذا المعنى.

3. السكارى: قال الواحدي: السكارى جمع سكران، وكل نعت على فعلان فإنه يجمع على: فعالي وفعالي، مثل كسالى وكسالى، وأصل السكر في اللغة سد الطريق، ومن ذلك سكر البثق وهو سده، وسكرت عينه سكرا إذا تحيرت، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا﴾ [الحجر: 15] أي غشيت فليس‏ ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقيقتها، ومن ذلك سكر الماء وهو رده على سننه في الجري، والسكر من الشراب وهو أن ينقطع عما عليه من النفاذ حال الصحو، فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في حال صحوه.

4. في لفظ السكارى في هذه الآية قولان:

أ. الأول: المراد منه السكر من الخمر وهو نقيض الصحو، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين.. وهو الصحيح، ويدل عليه وجهان:

الأول: أن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر، والأصل في الكلام الحقيقة، فأما حمله على السكر من العشق، أو من الغضب أو من الخوف، أو من النوم، فكل ذلك مجاز، وإنما يستعمل مقيدا، قال تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ﴾ [ق: 19] وقال: ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾ [الحج: 2]

الثاني: أن جميع المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر، وقد ثبت في أصول الفقه أن الآية إذا نزلت في واقعة معينة ولأجل سبب معين، امتنع أن لا يكون ذلك السبب مرادا بتلك الآية.

ب. الثاني: وهو قول الضحاك: وهو أنه ليس المراد منه سكر الخمر، إنما المراد منه سكر النوم، قال ولفظ السكر يستعمل في النوم فكان هذا اللفظ محتملا له، والدليل دل عليه فوجب المصير إليه.. والدليل دل عليه، وبيانه من وجوه:

الأول: أن قوله تعالى: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ ظاهره أنه تعالى نهاهم عن القرب من الصلاة حال صيرورتهم بحيث لا يعلمون ما يقولون، وتوجيه التكليف على مثل هذا الإنسان ممتنع بالعقل والنقل، أما العقل فلأن تكليف مثل هذا الإنسان يقتضي تكليف ما لا يطاق، وأما النقل فهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ)، ولا شك أن هذا السكران يكون مثل المجنون، فوجب ارتفاع التكليف عنه.

الثانية: قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا نعس أحدكم وهو في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإنه إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب ليستغفر فيسب نفسه) هذا تقرير قول الضحاك.

5. أما بيان أن اللفظ محتمل له فمن وجهين:

أ. الأول: ما ذكرنا: أن لفظ السكر في أصل اللغة عبارة عن سد الطريق، ولا شك أن عند النوم تمتلئ مجاري الروح من الأبخرة الغليظة فتنسد تلك المجاري بها، ولا ينفذ الروح الباصر والسامع إلى ظاهر البدن.

ب. الثاني: قول الفرزدق:

çمن السير والإدلاج يحسب انما... سقاه الكرى في كل منزلة خمراé

6. سؤال وإشكال: قول الضحاك كيف يتناوله النهي حال كونه سكران؟ والجواب: وهذا أيضا لا زم عليكم، لأنه يقال: كيف يتناوله النهي وهو نائم لا يفهم شيئا؟ ثم الجواب عنه: أن المراد من الآية النهي عن الشرب المؤدي إلى السكر المخل بالفهم حال وجوب الصلاة عليهم، فخرج اللفظ عن النهي عن الصلاة في حال السكر مع أن المراد منه النهي عن الشرب الموجب للسكر في وقت الصلاة، وأما الحديث الذي تمسك به فذاك لا يدل على أن السكر المذكور في الآية هو النوم.

7. اختلف في نسخ الآية الكريمة:

أ. قال بعضهم: هذه الآية منسوخة بآية المائدة.. والذي يمكن ادعاء النسخ فيه أنه يقال: نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول والحكم الممدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية، فهذا يقتضي جواز قربان الصلاة مع السكر إذا صار بحيث يعلم ما يقول، ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر بآية المائدة فقد رفع هذا الجواز، فثبت أن آية المائدة ناسخة لبعض مدلولات هذه الآية، هذا ما خطر ببالي في تقرير هذا النسخ.

ب. والجواب عنه: أنا بينا أن حاصل هذا النهي راجع إلى النهي عن الشرب الموجب للسكر عند القرب من الصلاة، وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه الا على سبيل الظن الضعيف، ومثل هذا لا يكون نسخا.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 10/86.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ خص الله تعالى بهذا الخطاب المؤمنين، لأنهم كانوا يقيمون الصلاة وقد أخذوا من الخمر وأتلفت عليهم أذهانهم فخصوا بهذا الخطاب، إذ كان الكفار لا يفعلونها صحاة ولا سكارى:

أ. روى أبو داوود عن عمر بن الخطاب قال: لما نزل تحريم الخمر قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في البقرة ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ قال: فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في النساء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، فكان منادي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا أقيمت الصلاة ينادي: ألا لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت هذه الآية: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ قال عمر: انتهينا.

ب. وقال سعيد بن جبير: كان الناس على أمر جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا، فكانوا يشربونها أول الإسلام حتى نزلت: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾، قالوا: نشربها للمنفعة لا للإثم، فشربها رجل فتقدم يصلي بهم فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، فقالوا: في غير عين الصلاة، فقال عمر: اللهم أنزل علينا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ﴾ الآية، فقال عمر: انتهينا، انتهينا، ثم طاف منادي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ألا إن الخمر قد حرمت.

2. وجه الاتصال والنظم بما قبله أنه قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾، ثم ذكر بعد الإيمان الصلاة التي هي رأس العبادات، ولذلك يقتل تاركها ولا يسقط فرضها، وانجر الكلام إلى ذكر شروطها التي لا تصح إلا بها.

3. الجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء على أن المراد بالسكر سكر الخمر، إلا الضحاك فإنه قال: المراد سكر النوم، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنه لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه)، وقال عبيدة السلماني: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ يعني إذا كنت حاقنا، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يصلين أحدكم وهو حاقن) في رواية (وهو ضام بين فخذيه)، وقول الضحاك وعبيدة صحيح المعنى، فإن المطلوب من المصلي الإقبال على الله تعالى بقلبه وترك الالتفات إلى غيره، والخلو عن كل ما يشوش عليه من نوم وحقنة وجوع، وكل ما يشغل البال ويغير الحال، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء)، فراعى صلّى الله عليه وآله وسلّم زوال كل مشوش يتعلق به الخاطر، حتى يقبل على عبادة ربه بفراغ قلبه وخالص لبه، فيخشع في صلاته.

4. يدخل في هذه الآية: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ على ما يأتي بيانه، وقال ابن عباس: إن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ منسوخ بآية المائدة: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا﴾ الآية، فأمروا على هذا القول بألا يصلوا سكارى، ثم أمروا بأن يصلوا على كل حال، وهذا قبل التحريم، وقال مجاهد: نسخت بتحريم الخمر، وكذلك قال عكرمة وقتادة، وهو الصحيح في الباب لحديث علي المذكور، وروي أن عمر بن الخطاب قال: أقيمت الصلاة فنادى منادي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يقربن الصلاة سكران، ذكره النحاس، وعلى قول الضحاك وعبيدة الآية محكمة لا نسخ فيها.

5. ﴿لَا تَقْرَبُوا﴾ إذا قيل: لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن منه، والخطاب لجماعة الامة الصاحين، وأما السكران إذا عدم الميز لسكره فليس بمخاطب في ذلك الوقت لذهاب عقله، وإنما هو مخاطب بامتثال ما يجب عليه، وبتكفير ما ضيع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر.

6. ﴿الصَّلَاةَ﴾ اختلف العلماء في المراد بالصلاة هنا، فقالت طائفة: هي العبادة المعروفة نفسها، وهو قول أبي حنيفة، ولذلك قال: ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾، وقالت طائفة: المراد مواضع الصلاة، وهو قول الشافعي، فحذف المضاف، وقد قال تعالى ﴿لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ﴾ فسمى مواضع الصلاة صلاة، ويدل على هذا التأويل قوله تعالى: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ هذا يقتضي جواز العبور للجنب في المسجد لا الصلاة فيه، وقال أبو حنيفة: المراد بقوله تعالى: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ المسافر إذا لم يجد الماء فإنه يتيمم ويصلي، وسيأتي بيانه، وقالت طائفة: المراد الموضع والصلاة معا، لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين، فكانا متلازمين.

7. ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ ابتداء وخبر، جملة في موضع الحال من ﴿تَقْرَبُوا﴾، و﴿سُكَارَى﴾ جمع سكران، مثل كسلان وكسالى، وقرأ النخعي (سكرى) بفتح السين على مثال فعلى، وهو تكسير سكران، وإنما كسر على سكرى لأن السكر آفة تلحق العقل فجرى مجرى صرعى وبابه، وقرأ الأعمش (سكرى) كحبلى فهو صفة مفردة، وجاز الإخبار بالصفة المفردة عن الجماعة على ما يستعملونه من الإخبار عن الجماعة بالواحد، والسكر: نقيض الصحو، يقال: سكر يسكر سكرا، من باب حمد يحمد، وسكرت عينه تسكر أي تحيرت، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا﴾، وسكرت الشق سددته، فالسكران قد انقطع عما كان عليه من العقل.

8. في هذه الآية دليل بل نص على أن الشرب كان مباحا في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر، وقال قوم السكر محرم في العقل وما أبيح في شي من الأديان، وحملوا السكر في هذه الآية على النوم، وقال القفال: (يحتمل أنه كان أبيح لهم من الشراب ما يحرك الطبع إلى السخاء والشجاعة والحمية)، وهذا المعنى موجود في أشعارهم، وقد قال حسان: (ونشربها فتتركنا ملوكا)، قال القفال: (فأما ما يزيل العقل حتى يصير صاحبه في حد الجنون والإغماء فما أبيح قصده، بل لو اتفق من غير قصد فيكون مرفوعا عن صاحبه)، هذا صحيح، وسيأتي بيانه في المائدة إن شاء الله تعالى.. وكان المسلمون لما نزلت هذه الآية يجتنبون الشرب أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها، فلم يزالوا على ذلك حتى نزل تحريمها في المائدة في قوله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾

9. ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ أي حتى تعلموه متيقنين فيه من غير غلط، والسكران لا يعلم ما يقول، ولذلك قال عثمان بن عفان: إن السكران لا يلزمه طلاقه، وروي عن ابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة، وهو قول الليث ابن سعد وإسحاق وأبي ثور والمزني، واختاره الطحاوي وقال: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه كالموسوس معتوه بالوسواس، ولا يختلفون أن من شرب البنج فذهب عقله أن طلاقه غير جائز، فكذلك من سكر من الشراب، وأجازت طائفة طلاقه، وروي عن عمر بن الخطاب وجماعة من التابعين، وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/200.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ جعل الخطاب خاصا بالمؤمنين، لأنهم كانوا يقربون الصلاة حال السكر، وأما الكفار: فهم لا يقربونها سكارى ولا غير سكارى، قوله: ﴿لَا تَقْرَبُوا﴾ قال أهل اللغة: إذا قيل لا تقرب بفتح الراء معناه: لا تدن منه، والمراد هنا: النهي عن التلبس بالصلاة وغشيانها، وبه قال جماعة من المفسرين، وإليه ذهب أبو حنيفة، وقال آخرون: المراد مواضع الصلاة، وبه قال الشافعي، وعلى هذا فلا بدّ من تقدير مضاف، ويقوي هذا قوله: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ وقالت طائفة: المراد: الصلاة ومواضعها معا، لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة، ولا يصلون إلا مجتمعين، فكانا متلازمين.

2. ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ الجملة في محل نصب على الحال، وسكارى: جمع سكران، مثل: كسالى جمع كسلان، وقرأ النخعي: سكارى بفتح السين، وهو تكسير سكران: وقرأ الأعمش: ﴿سُكَارَى﴾ كحبلى، صفة مفردة، وقد ذهب العلماء كافة إلى أن المراد بالسكر هنا: سكر الخمر، إلا الضحاك فإنه قال المراد: سكر النوم، وسيأتي بيان سبب نزول الآية، وبه يندفع ما يخالف الصواب من هذه الأقوال.

3. ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ هذا غاية النهي عن قربان الصلاة في حال السكر، أي: حتى يزول عنكم أثر السكر وتعلموا ما تقولونه، فإن السكران لا يعلم ما يقوله، وقد تمسك بهذا من قال إن طلاق السكران لا يقع، لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد، وبه قال عثمان بن عفان، وابن عباس، وطاووس وعطاء، والقاسم، وربيعة، وهو قول الليث بن سعد، وإسحاق، وأبي ثور، والمزني، واختاره الطحاوي وقال: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه كالموسوس، وأجازت طائفة وقوع طلاقه، وهو محكي عن عمر بن الخطاب، ومعاوية، وجماعة من التابعين، وهو قول أبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي، واختلف قول الشافعي في ذلك، وقال مالك: يلزمه الطلاق، والقود في الجراح، والقتل، ولا يلزمه النكاح، والبيع.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/541.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ﴾ بدون وظائفها كتطهُّر، فضلاً عن أن تقوموا إليها وتدخلوها مع سكر، كما قال تعالى: ﴿وَأَنتُمْ سُكَارَى﴾ بنوم أو خمر، وفي معنى ذلك ما يشغل القلب عنها أو عن وظائفها أو عمَّا يقال فيها، وأنت خبير بأنَّ خصوص سبب النزول لا ينافي عموم اللفظ.

2. ﴿حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾ في الصلاة ومقدِّماتها من ألفاظ ومعاني، ويجوز أن يكون المعنى: لا تقربوا المساجد، كقوله تعالى: ﴿لَّهُدِمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ﴾ [الحجِّ: 40]، وسمَّاها صلاة لأنَّها محلُّها، أو يقدَّر: لا تقربوا مواضع الصلاة، وهذا المعنى بوجهيه أنسب بقوله: ﴿لَا تَقْرَبُوا﴾؛ لأنَّ القرب حقيقة بين الجسمين، كالناس والمسجد، مجاز بين جسم وعرض كالناس والصلاة، ويجوز أن يكون المعنى النهي عن الإفراط في الشرب، وعلى كلِّ حال الآية نهي لمن لا يشرب الخمر ولمن صحا من شربها، لا للسكران، فلا دليل فيها على تكليف ما لا يطاق كامتثال السكران، و(حَتَّى) متعلِّق بمحذوف، أي: دوموا على انتفاء قربها حال السكر حتَّى تعلموا.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/189.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر في جماعة كانوا يشربونها ثم يصلّون، أي من مقتضى إيمانكم الحياء من الله، ومن الحياء منه أن لا تقوموا إلى الصلاة وأنتم سكارى لا تعلمون ما تخاطبونه، فالحياء من الله يوجب ذلك، وتصدير الكلام بحرفي النداء والتنبيه، للمبالغة في حملهم على العمل بموجب النهي، وتوجيه النهي إلى قربان الصلاة، مع أن المراد هو النهي عن إقامتها، للمبالغة في ذلك.

2. قال الحافظ ابن كثير: كان هذا النهي قبل تحريم الخمر، كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [البقرة: 219]، الآية، فإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تلاها على عمر، فقال: اللهم! بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه، فقال: اللهم! بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات، حتى نزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، إلى قوله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: 90 ـ 91]، فقال عمر: انتهينا، انتهينا، ولفظ أبي داود عن عمر بن الخطاب في قصة تحريم الخمر فذكر الحديث، وفيه: نزلت الآية التي في النساء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾، فكان منادي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا قامت الصلاة، ينادي: لا يقربن الصلاة سكران.

3. في الآية تحريم الصلاة على السكران حال سكره حتى يصحو، وبطلانها وبطلان الاقتداء به، وعلى الجنب حتى يغتسل إلا أن يكون مسافرا، فيباح له التيمم.

4. تمسك بالآية من قال إن طلاق السكران لا يقع لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد، وبه قال عثمان بن عفان وابن عباس وطاووس وعطاء والقاسم وربيعة والليث بن سعد وإسحاق وأبو ثور والمزنيّ واختاره الطحاويّ، والمسألة مبسوطة في (زاد المعاد) للإمام ابن القيّم.

5. استدلّ بأحد التأويلين السابقين على تحريم دخول المسجد على السكران، لما يتوقع منه من التلويث وفحش القول، فيقاس به كل ذي نجاسة يخشى منها التلويث والسباب ونحوه، كذا في (الإكليل)

6. استدلّ ابن الفرس بتوجيه الخطاب لهم في الآية على تكليف‏ السكران ودخوله تحت الخطاب، وفيه نظر، لأن الخطاب عام لكل مؤمن، وعلى تقدير أنه قصد به الذين صلوا في حال السكر، فإنما نزل بعد صحوهم، كذا في (الإكليل)

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/116.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال البقاعي في نظم الدرر: ولما وصف الوقوف بين يديه في يوم العرض والأهوال الذي أدت فيه سطوة الكبرياء والجلال إلى تمني العدم ومنعت فيه قوة يد القهر والخبر أن يكتم حديثا وتضمن وصفه أنه لا ينجو فيه إلا من كان طاهر القلب والجوارح بالإيمان به والطاعة لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وصف الوقوف بين يديه في الدنيا في مقام الأنس وحضرة القدس المنجي من هول الوقوف في ذلك اليوم والذي حظرت معاني اللطف والجمال فيه الالتفات إلى غيره وأمر بالطهارة في حال التزين به عن الخبائث فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ الخ وقال بعضهم في وجه الاتصال أنهم لما نهوا عما يؤدي إليه بغير قصد وقيد لما أمروا فيما تقدم بالعبادة أمروا هنا بالإخلاص في رأس العبادة.

2. قال محمد عبده: أمر الله تعالى في الآيات السابقة بعبادته وترك الشرك به وبالإحسان للوالدين وغيرهم وتوعد الذين لا يقومون بهذه الأوامر والنواهي وقد عرفنا من سور أخرى أن الله تعالى يأمر بالاستعانة بالصلاة على القيام بأمور الدين وتكاليفه كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة: 153] وقال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [البقرة: 238] وقال: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ [المعارج: 18 21] وقد كثر في القرآن الأمر بالصلاة لا بالصلاة هكذا مطلقا بل بإقامتها وإنما إقامتها القيام بها على الوجه الأكمل وهو أن ينبعث المؤمن إليها بباعث الشعور بعظمة الله وجلاله ويؤديها بالخشوع له تعالى فهذه الصلاة هي التي تعين على القيام بالأوامر وترك النواهي.

3. ولذلك جاء ذكرها ههنا عقب تلك الأوامر والنواهي الجامعة، وقد ذكرت الصلاة في القرآن بأساليب مختلفة وذكرت ههنا في سياق النهي عن الإتيان بها في حال السكر الذي لا يتأتى معه الخشوع والحضور مع الله تعالى بمناجاته بكتابه وذكره ودعائه فالمراد بالصلاة حقيقتها لا موضعها وهو المساجد كما قال الشافعية والنهي عن قربانها دون مطلق الإتيان بها لا يدل على إرادة المسجد إذ النهي عن قربان العمل معروف في الكلام العربي وفي التنزيل خاصة ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ [الإسراء: 32] والنهي عن العمل بهذه الصيغة يتضمن النهي عن مقدماته ومن مقدمات الصلاة الإقامة فقد سنها الله لنا لإعدادنا للدخول في الصلاة.

4. سؤال وإشكال: قال بعض المفرقين الذين يحملون القرآن على مذاهبهم المستحدثة أن الآية تدل على جواز بل وقوع التكليف بالمحال إذ وجه الأمر إلى السكران وهو لا يعي الخطاب، والجواب: من وجوه:

أ. أحدها: أن الخطاب موجه إلى المسلم قبل السكر بأن يجتنبه إذا ظن أنه ينتهي به إلى التلبس بالصلاة في أثنائه فهو أمر بالاحتياط واجتناب السكر في أكثر الأوقات، أقول سيأتي ما يؤيده من العبارة ولذلك قال العلماء إن هذه الآية تمهيد لتحريم السكر تحريما قطعيا لا هوادة فيه، فإن من يتقي أن يجيء عليه وقت الصلاة وهو سكران يترك الشرب عامة النهار وأول الليل لانتشار الصلوات الخمس في هذه المدة فالوقت الذي يبقى للسكر هو وقت النوم من بعد العشاء إلى السحر فيقلّ الشر فيه لمزاحمته للنوم الذي لابد منه وأما أول النهار من صلاة الفجر إلى وقت الظهيرة فهو وقت العمل والكسب لأكثر الناس ويقل أن يسكر فيه غير المترفين الذين لا عمل لهم وقد ورد أنهم كانوا بعد نزولها يشربون بعد العشاء فلا يصبحون إلا وقد زال السكر وصاروا يعلمون ما يقولون.

ب. ثانيها: أن الأمر موجه إلى جمهور المؤمنين لأنهم متكافلون مأمورون بمنع المنكر فعليهم أن يمنعوا السكران من الدخول في الصلاة فالأمر على حد: ﴿فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾ [النساء: 35] أي على أحد الأقوال إذ يدخل فيه الزوجان.

ج. ثالثها: أن السكر الذي يطلبه الغواة لا ينافي فهم الخطاب وهو النشوة والسرور ففي هذه الحالة يفهم السكران ويفهم ويصح أن يوجه إليه الخطاب ولكنه لا يضبط أعماله وأفكاره وأقواله بالتفصيل ولذلك قال تعالى: ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ فأما ما ينتهي إليه السكران مما لا يقصد فصاحبه لا يخاطب فيه وهو ما عرف به أبو حنيفة السكران إذ قال إنه من لا يفرق بين الأرض والسماء، وهناك قول آخر في معنى هذا القول، وهذا التعليل للنهي يفيد أن العلم بما يقوله الإنسان في الصلاة من تلاوة وذكر واجب أو شرط والعلم به فهمه ولهذا المعنى أجاز أبو حنيفة الصلاة بغير العربية لمن لا يحسنها أي إلى أن يحسنها أو يعجز.

5. هذا هو حاصل المعنى على القول بأن المراد بالصلاة حقيقتها كما هو الظاهر فإن أريد بها موضعها فالمراد تنزيه المساجد وهي بيوت الله عن اللغو والكلام الباطل الذي من شأنه أن يبدر من السكران.

6. روي عن سعيد بن المسيب والضحاك وعكرمة والحسن أن المراد بالصلاة هنا مواضعها وروي عن الشافعي أنه حمل اللفظ على الأمرين معا بناء على تجويزه الجمع بين الحقيقة والمجاز، وروي عن جعفر والضحاك وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس أن المراد بالسكر سكر النعاس وغلبة النوم ولعل من روى عنه ذلك شبه النعاس بالسكر وجعل حكمه كحكمه فظن الراوي أنه فسره به والعلة في قياسه عليه ظاهرة وفي حديث أنس عند البخاري مرفوعا: (إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول)،

7. حتى للغاية وفي بعض كلام محمد عبده ما يشعر بأنها للتعليل والظاهر الأول كحتى في الجملة الآتية وهو يدل على وجوب معرفة اللغة العربية على كل مسلم لفهم ما يقول في الصلاة.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/113.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن وصف سبحانه الوقوف بين يديه يوم العرض والأهوال التي تؤدى إلى تمنى الكافر العدم فيقول: يا ليتنى كنت ترابا، والتي تجعله لا يستطيع أن يكتم‏ الله حديثا، وذكر أنه لا ينجو في ذلك اليوم إلا من كان طاهر القلب والجوارح بالإيمان به والطاعة لرسوله ـ وصف في هذه الآية الوقوف بين يديه في مقام الأنس، وحضرة القدس، المنجى من هول الوقوف في ذلك اليوم، وطلب فيه استكمال القوى العقلية وتوجيهها إلى جانب العلى الأعلى بألا تكون مشغولة بذكرى غيره، طاهرة من الأنجاس والأخباث، لتكون على أتم العدّة للوقوف في ذلك الموقف الرهيب، مستشعرة تلك العظمة والجلال والكبرياء.

2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ أي لا تصلّوا حال السكر حتى تعلموا قبل الشروع فيها ما ستقرؤونه وما ستعملونه، ذاك أن حال السكر لا يتأتى معها الخشوع والخضوع والحضور مع الله بمناجاته بكتابه وذكره ودعائه.

3. هذا الخطاب موجه إلى المسلمين قبل السكر بأن يجتنبوه إذا ظنوا أنهم سيصلّون، ليحتاطوا فيجتنبوه في أكثر الأوقات، وقد كان هذا تمهيدا لتحريم السكر تحريما باتا لا هوادة فيه، إذ من يتقى أن يجيء عليه وقت الصلاة وهو سكران يترك الشرب عامة النهار وأول الليل لتفرّق الصلوات الخمس في هذه المدة، فلم يبق للسكر إلا وقت النوم من بعد العشاء إلى السحر فيقلّ الشراب لمزاحمة النوم له، وأول النهار من صلاة الفجر إلى وقت الظهيرة وقت الكسب والعمل لأكثر الناس، ويقل أن يسكر فيه إلا أصحاب البطالة والكسل، وقد ورد أنهم كانوا بعد نزولها يشربون بعد العشاء فلا يصبحون إلا وقد زال السكر وصاروا يعلمون ما يقولون.

4. يفترق المعنى بين الأسلوبين‏ ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ ولا تقربوا الصلاة سكارى إذ الأول يتضمن النهى عن السكر الذي يخشى أن يمتد إلى وقت الصلاة فيفضى إلى أدائها في أثنائه؛ وخلاصة المعنى عليه احذروا أن يكون السكر وصفا لكم عند حضور الصلاة فتصلوا وأنتم سكارى، فامتثال هذا النهى إنما يكون بترك السكر في وقت الصلاة وفيما يقرب منها، والثاني يتضمن النهى عن الصلاة حال السكر فحسب، وأما نهيهم عن الصلاة جنبا فلا يتضمن نهيهم عن الجنابة قبل الصلاة، لأنها من سنن الفطرة وإنما ينهاهم عن الصلاة في أثنائها حتى يغتسلوا ولهذا قال جنبا ولم يقل وأنتم جنب.

__________

(1) تفسير المراغى: 5/46.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بدأ الدرس بالأمر بعبادة الله والنهي عن إشراك شيء به.. والصلاة أمسّ الشعائر بمعنى العبادة، وفي الآية التالية بيان لبعض أحكامها، وأحكام الطهارة الممهدة لها.

2. إنها حلقة في سلسلة التربية الربانية للجماعة المسلمة ـ التي التقطها المنهج الإسلامي من سفح الجاهلية ـ وكانت الخمر إحدى تقاليد المجتمع الجاهلي الأصيلة الشاملة؛ وإحدى الظواهر المميزة لهذا المجتمع، كما أنها تكاد تكون ظاهرة مميزة لكل جاهلية في القديم والحديث أيضا.

3. الخمر كانت ظاهرة مميزة للمجتمع الروماني في أوج جاهليته؛ وللمجتمع الفارسي أيضا، وكذلك هي اليوم ظاهرة مميزة للمجتمع الأوربي والمجتمع الأمريكي في أوج جاهليته! والشأن أيضا كذلك في جاهلية المجتمع الإفريقي المتخلفة من الجاهلية الأولى! في السويد ـ وهي أرقى أو من أرقى أمم الجاهلية الحديثة ـ كانت كل عائلة في النصف الأول من القرن الماضي تعد الخمر الخاصة بها، وكان متوسط ما يستهلكه الفرد، حوالي عشرين لترا، وأحست الحكومة خطورة هذه الحال، وما ينشره من إدمان؛ فاتجهت إلى سياسة احتكار الخمور، وتحديد الاستهلاك الفردي، ومنع شرب الخمور في المحال العامة.. ولكنها عادت فخففت هذه القيود منذ أعوام قليلة! فأبيح شرب الخمر في المطاعم بشرط تناول الطعام، ثم أبيحت الخمر في عدد محدود من المحال العامة، حتى منتصف الليل فقط! وبعد ذلك يباح شرب (النبيذ والبيرة) فحسب! وإدمان الخمر عند المراهقين يتضاعف..!

4. أما في أمريكا، فقد حاولت الحكومة الأمريكية مرة القضاء على هذه الظاهرة فسنت قانونا في سنة 1919 سمي قانون (الجفاف)! من باب التهكم عليه، لأنه يمنع (الري) بالخمر! وقد ظل هذا القانون قائما مدة أربعة عشر عاما، حتى اضطرت الحكومة إلى إلغائه في سنة 1933، وكانت قد استخدمت جميع وسائل النشر والإذاعة والسينما والمحاضرات للدعاية ضد الخمر، ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليونا من الدولارات، وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على عشرة بلايين صفحة، وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاما لا يقل عن 250 مليون جنية، وقد أعدم فيها 300 نفس؛ وسجن كذلك 335، 532 نفسا، وبلغت الغرامات 16 مليون جنية، وصادرت من الأملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة بلايين جنية.. وبعد ذلك كله اضطرت إلى التراجع وإلغاء القانون‏.

5. فأما الإسلام فقضى على هذه الظاهرة العميقة في المجتمع الجاهلي.. ببضع آيات من القرآن، وهذا هو الفرق في علاج النفس البشرية، وفي علاج المجتمع الإنساني.. بين منهج الله، ومناهج الجاهلية قديما وحديثا على السواء! ولكي ندرك تغلغل هذه الظاهرة في المجتمع الجاهلي، يجب أن نعود إلى الشعر الجاهلي؛ حيث نجد (الخمر) عنصرا أساسيا من عناصر المادة الأدبية؛ كما أنه عنصر أساسي من عناصر الحياة كلها.

6. لقد بلغ من شيوع تجارة الخمر، أن أصبحت كلمة التجارة، مرادفة لبيع الخمر.. يقول لبيد:

çقد بت سامرها وغاية تاجر... وافيت إذ رفعت وعز مدامهاé

ويقول عمرو بن قميئة:

çإذ أسحب الريط والمروط إلى‏... أدني تجاري وأنفض اللمماé

ووصف مجالس الشراب، والمفاخرة بها تزحم الشعر الجاهلي، وتطبعه طابعا ظاهرا، يقول امرؤ القيس:

çوأصبحت ودعت الصبا غير أنني‏... أراقب خلّات من العيش أربعا

فمنهن قولي للندامى: ترفقوا... يداجون نشاجا من الخمر مترعا

ومنهن ركض الخيل ترجم بالقنا... يبادرن سربا آمنا أن يفزّعاé

ويقول طرفة بن العبد:

çفلولا ثلاث هن من عيشة الفتى‏... وجدك لم أحفل متى قام عوّدي‏

فمنهن سبقي العاذلات بشربة... كميت متى ما تعل بالماء تزبد

وما زال تشرابي الخمور ولذتي‏... وبذلي وإنفاقي طريفي وتالدي‏

إلى أن تحامتني العشيرة كلها... وأفردت إفراد البعير المعبدé

ويقول الأعشى:

çفقد أشرب الراح قد تعلمين‏... يوم المقام ويوم الظعن‏

وأشرب بالريف حتى يقال‏... قد طال بالريف ما قد دجن‏é

ويقول المنخل اليشكري:

çولقد شربت من المدا... مة بالصغير وبالكبير

فإذا سكرت فإنني‏... رب الخورنق والسدير

وإذا صحوت فإنني‏... رب الشويهة والبعيرé

وغير هذا كثير في الشعر الجاهلي.

7. ورواية الحوادث التي صاحبت مراحل تحريم الخمر في المجتمع المسلم، والرجال الذين كانوا أبطال هذه الحوادث.. تشي بمدى تغلغل هذه الظاهرة في الجاهلية العربية، وتكفي عن الوصف المطول المفصل، يقول عمر في قصة إسلامه.. في رواية.. (كنت صاحب خمر في الجاهلية، فقلت لو أذهب إلى فلان الخمار فأشرب..) وظل عمر يشرب الخمر في الإسلام، حتى إذا نزلت آية: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾.. قال: (اللهم بيّن لنا بيانا شافيا في الخمر).. واستمر، حتى إذا نزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾، قال اللهم بيّن لنا بيانا شافيا في الخمر! حتى إذا نزلت آية التحريم الصريحة: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾.. قال انتهينا انتهينا! وانتهى.

8. لا نحتاج إلى مزيد من الأمثلة والروايات؛ لندلل على تغلغل ظاهرة الخمر في المجتمع الجاهلي، فهي كانت والميسر، الظاهرتين البارزتين؛ المتداخلتين، في تقاليد هذا المجتمع، فما ذا صنع المنهج الرباني لمقاومة هذه الظاهرة المتغلغلة؟ ماذا صنع لمكافحة هذه الآفة، التي لا يقوم معها مجتمع جاد صالح مستقيم واع أبدا؟ ماذا صنع ليقف في وجه عادة أصيلة قديمة، تتعلق بها تقاليد اجتماعية؛ كما تتعلق بها مصالح اقتصادية؟ لقد عالج المنهج الرباني هذا كله ببضع آيات من القرآن؛ وعلى مراحل، وفي رفق وتؤدة، وكسب المعركة، دون حرب، ودون تضحيات، ودون إراقة دماء.. والذي أريق فقط هو دنان الخمر وزقاقها وجرعات منها كانت في أفواه الشاربين ـ حين سمعوا آية التحريم ـ فمجوها من أفواههم، ولم يبلعوها، كما سيجي‏ء:

أ. في مكة ـ حيث لم يكن للإسلام دولة ولا سلطان.. إلا سلطان القرآن ـ وردت في القرآن المكي تلميحة سريعة إلى نظرة الإسلام للخمر، تدرك من ثنايا العبارة، وهي مجرد إشارة: جاء في سورة النحل: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾.. فوضع (السكر) وهو الشراب المسكر الذي كانوا يتخذونه من ثمرات النخيل والأعناب، في مقابل الرزق الحسن! ملمحا بهذا التقابل إلى أن السكر شيء، والرزق (الحسن) شيء آخر.. وكانت مجرد لمسة من بعيد؛ للضمير المسلم الوليد! ولكن عادة الشراب، أو تقليد الشرابـ بمعنى أدق ـ فقد كان أعمق من عادة فردية، كان تقليدا اجتماعيا، له جذور اقتصادية.. كان أعمق من أن تؤثر فيه هذه اللمسة السريعة البعيدة.

ب. وفي المدينة حيث قامت للإسلام دولة وكان له سلطان.. لم يلجأ إلى تحريم الخمر بقوة الدولة وسيف السلطان، إنما كان أولا سلطان القرآن، وبدأ المنهج عمله في رفق وفي يسر، وفي خبرة بالنفس البشرية، والأوضاع الاجتماعية، بدأ المنهج عمله في رفق وفي يسر، وفي خبرة بالنفس البشرية، والأوضاع الاجتماعية، بدأ بآية البقرة ردا على أسئلة تدل على فجر اليقظة في الضمير المسلم ضد الخمر والميسر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ وكانت هي الطرقة الأولى، ذات الصوت المسموع.. في الحس الإسلامي، وفي الضمير الإسلامي، وفي المنطق الفقهي الإسلامي.. فمدار الحل والحرمة.. أو الكراهية.. على رجحان الإثم أو رجحان الخير، في أمر من الأمور.. وإذا كان إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما.. فهذا مفرق الطريق.

ج. ولكن الأمر كان أعمق من هذا.. وقال عمر: (اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر)، عمر! وهذا وحده يكفي لبيان عمق هذا التقليد في نفس العربي! ثم حدثت أحداث ـ كالتي رويناها ـ ونزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾، وأخذ المنهج البصير الرفيق يعمل، لقد كانت هذه هي المرحلة الوسيطة، بين التنفير من الخمر، لأن إثمها أكبر من نفعها، وبين التحريم البات، لأنها رجس من عمل الشيطان، وكانت وظيفة هذه المرحلة الوسيطة: هي (قطع عادة الشراب) أو (كسر الإدمان).. وذلك بحظر الشراب قرب أوقات الصلاة، وأوقات الصلاة موزعة على مدار النهار، وبينها فترات لا تكفي للشرابـ الذي يرضي المدمنين ـ ثم الإفاقة من السكر الغليظ! حتى يعلموا ما يقولون! فضلا على أن للشراب كذلك أوقاتا ومواعيد خاصة من الصبوح والغبوق.. صباحا ومساء.. وهذه تتخللها وتعقبها أوقات الصلاة.. وهنا يقف ضمير المسلم بين أداء الصلاة وبين لذة الشراب.. وكان هذا الضمير قد بلغ أن تكون الصلاة عنده عماد الحياة، ومع ذلك.. فقد قال عمر: (اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر)

د. ثم مضى الزمن، ووقعت الأحداث، وجاء الوعد المناسب ـ وفق ترتيب المنهج ـ للضربة الحاسمة، فنزلت الآيتان في المائدة: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾

9. وانتهى المسلمون كافة، وأريقت زقاق الخمر، وكسرت دنانها في كل مكان.. بمجرد سماع الأمر، ومج الذين كان في أفواههم جرعات من الخمر ما في أفواههم ـ حين سمعوا ولم يبلعوها وهي في أفواههم، وهم شاربون، لقد انتصر القرآن، وأفلح المنهج، وفرض سلطانه ـ دون أن يستخدم السلطان! ولكن كيف كان هذا؟ كيف تمت هذه المعجزة، التي لا نظير لها في تاريخ البشر؛ ولا مثيل لها في تاريخ التشريعات والقوانين والإجراءات الحكومية في أي مكان، ولا في أي زمان؟

10. لقد تمت المعجزة، لأن المنهج الرباني، أخذ النفس الإنسانية، بطريقته الخاصة.. أخذها بسلطان الله وخشيته ومراقبته، وبحضور الله ـ سبحانه ـ فيها حضورا لا تملك الغفلة عنه لحظة من زمان.. أخذها جملة لا تفاريق.. وعالج الفطرة بطريقة خالق الفطرة، لقد ملأ فراغها باهتمامات كبيرة لا تدع فيها فراغا تملؤه بنشوة الخمر، وخيالات السكر، وما يصاحبها من مفاخرات وخيلاء.. في الهواء، ملأ فراغها باهتمامات، منها: نقل هذه البشرية الضالة الشاردة كلها، من تيه الجاهلية الأجرد، وهجيرها المتلظى، وظلامها الدامس، وعبوديتها المذلة، وضيقها الخانق، إلى رياض الإسلام البديعة، وظلاله الندية، ونوره الوضي‏ء، وحريته الكريمة، وسعته التي تشمل الدنيا والآخرة! وملأ فراغها ـ وهذا هو الأهم ـ بالإيمان، بهذا الإحساس الندي الرضي الجميل البهيج، فلم تعد في حاجة إلى نشوة الخمر، تحلق بها في خيالات كاذبة وسمادير! وهي ترف بالإيمان المشع إلى الملأ الأعلى الوضي‏ء، في حناياها وأوصالها؛ وفي مسالكها ودروبها.. ينشر النور، والحياة، والنظافة، والطهر، واليقظة، والهمة، والاندفاع للخير الكبير والعمل الكبير، والخلافة في الأرض، على أصولها، التي قررها العليم الخبير، وعلى عهد الله وشرطه، وعلى هدى ونور.

11. إن الخمر ـ كالميسر، كبقية الملاهي، كالجنون بما يسمونه (الألعاب الرياضية) والإسراف في الاهتمام بمشاهدها.. كالجنون بالسرعة.. كالجنون بالسينما.. كالجنون (بالمودات) (والتقاليع).. كالجنون بمصارعة الثيران.. كالجنون ببقية التفاهات التي تغشى حياة القطعان البشرية في الجاهلية الحديثة اليوم، جاهلية الحضارة الصناعية! إن هذه كلها ليست إلا تعبيرا عن الخواء الروحي.. من الإيمان أولا.. ومن الاهتمامات الكبيرة التي تستنفد الطاقة ثانيا.. وليست إلا إعلانا عن إفلاس هذه الحضارة في إشباع الطاقات الفطرية بطريقة سوية، ذلك الخواء وهذا الإفلاس هما اللذان يقودان إلى الخمر والميسر لمل‏ء الفراغ، كما يقودان إلى كل أنواع الجنون التي ذكرنا.. وهما بذاتهما اللذان يقودان إلى (الجنون) المعروف، وإلى المرض النفسي والعصبي، وإلى الشذوذ.

12. إنها لم تكن كلمات.. هي التي حققت تلك المعجزة الفريدة.. إنما كان منهج، منهج هذه الكلمات متنه وأصله، منهج من صنع رب الناس، لا من صنع الناس! وهذا هو الفارق الأصيل بينه وبين كل ما يتخذه البشر من مناهج، لا تؤدي إلى كثير! إنه ليست المسألة أن يقال كلام! فالكلام كثير، وقد يكتب فلان من الفلاسفة، أو فلان من الشعراء، أو فلان من المفكرين، أو فلان من السلاطين! قد يكتب كلاما منمقا جميلا يبدو أنه يؤلف منهجا، أو مذهبا، أو فلسفة.. إلخ.. ولكن ضمائر الناس تتلقاه، بلا سلطان، لأنه‏ ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾! فمصدر الكلمة هو الذي يمنحها السلطان.. وذلك فوق ما في طبيعة المنهج البشري ذاته من ضعف ومن هوى ومن جهل ومن قصور! فمتى يدرك هذه الحقيقة البسيطة من يحاولون أن يضعوا لحياة الناس مناهج، غير منهج العليم الخبير؟ وأن يشرعوا للناس قواعد غير التي شرعها الحكيم البصير؟ وأن يقيموا للناس معالم لم يقمها الخلاق القدير؟ متى؟ متى ينتهون عن هذا الغرور؟

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/663.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يكاد يجمع المفسّرون والفقهاء، على أن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ من المنسوخ، وأن بقية الآية محكم لم ينسخ! ونحن على رأينا من أنه ليس في القرآن نسخ، وأن كلّ آية متلوّة فيه، عاملة غير معطلة، ولكن ماذا يقول القائلون بالنسخ في آية متماسكة النظم، متلاحمة البناء كهذه الآية: ينسخ بعضها، ويبقى بعضها من غير نسخ؟ ثم ماذا يقولون في فعل مسلط على أمرين بحكم واحد، ثم يسقط أحد الأمرين ويبقى الآخر؟ فأية قوة خارقة تدخل على هذا الفعل، فتفلت من سلطانه أحد الأمرين وتستبقى الآخر..؟

2. استمع إلى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾، فإن النهى عن مقاربة الصلاة تسلّط على حالين، حال السكر، وحال الجنابة.. وقد نصب قوله تعالى: ﴿وَلَا جُنُبًا﴾ بالعطف على قوله سبحانه: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ الذي هو جملة حالية في محل نصب، فكيف ينسخ النهى عن مقاربة الصلاة حال السكر، ولا ينسخ النهى عن مقاربتها حال الجنابة، والفعل مسلط عليهما معا؟

3. وندع هذا، ففيه مجال للقول والجدل، ونسأل: هل إذا أمر المسلمون بأمر إلهى، استجابوا له، واستقاموا عليه والتزموه؟ المفروض هو هذا، والمطلوب هو هذا أيضا، ولكن المفروض شيء، والواقع شيء.. والمطلوب شيء، والوفاء به شيء آخر، إن من شأن الناس ألا يكونوا على حال واحدة أبدا.. ففيهم المطيع، وفيهم العاصي، ومنهم المستقيم، وكثير منهم المعوجّ.. ﴿هُوَالَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾، ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾، هكذا هم الناس.. بل هكذا هو الإنسان.. يستقيم وينحرف، ويطيع ويعصى، ومن أجل هذا قام شرع الله، وقامت حدود الله، وكان الثواب، وكان العقاب! فالمسلمون إذا نهوا عن الخمر، مثلا، كان واجبا عليهم أن يمتثلوا أمر الله، وأن ينتهوا عما نهوا عنه.. ولكن الواجب ـ كما قلنا ـ شيء، والوفاء به شيء آخر، وقد شرب كثير من المسلمين الخمر، حتى في الصدر الأول للإسلام، وفي عهد الخلافة الراشدة.. وقصة أبى محجن الثقفي المجاهد في جيش سعد بن أبى وقاص معروفة.. فقد ضبط متلبسا بشربها، وأقام عليه سعد الحدّ أكثر من مرة.. ثم حبسه، ووضع القيد في رجله.. ثم التحم المسلمون مع الروم في معركة كاد يهزم فيها المسلمون، وعند ما رأى أبو محجن من محبسه أن الدائرة ستدور على المسلمين، احتال حتى خرج من محبسه وفك من قيوده، وركب فرس سعد، وقاتل قتالا مستبسلا عرفه له كل من شهد المعركة، وإن لم يعرف شخصه.. وانتهت الموقعة بانتصار المسلمين، كما انتهت بانتهاء أبى محجن عن شرب الخمر! والأمر لا يحتاج في هذا إلى شواهد.. فإن هذا المنكر ـ أي الخمر ـ لم يعتزله المسلمون جميعا، بل كان منهم في كل عصر، وفي كل بلد، من يشرب الخمر وتأخذه سكرتها، ويغشاه خمارها، حتى لا يكاد يفيق! ونعم، الخمر كبيرة، بل وكبيرة الكبائر.. آثم من يلمّ بها، أو يعاقرها! هذا حكم لا خلاف فيه بين المسلمين.

4. ولكن ما حكم من يشرب الخمر من المسلمين، ثم يريد أن يؤدّى (الصلاة)؟ أتحرم عليه الصلاة، ويحال بينه وبينها! إن القول بنسخ الآية ـ أو صدر الآية ـ لا يسقط عنه فريضة الصلاة، ولا يحول بينه وبينها، فالآية الناسخة لهذه الآية هي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ ـ هذا النسخ للآية السابقة ـ إذا أخذ به ـ لا يحول بين المسلم الذي شرب الخمر وبين أن يؤدى الصلاة، فالخمر جريمة، والصلاة قربة لله.. تلك سيئة، وهذه حسنة، ولا يمنع اقتراف السيئات من فعل الحسنات، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾، وكيف يحال بين المسلم العاصي، وبين أن يفعل القربات، التي تكفّر سيئاته، وتصحح إيمانه؟ وكيف بالصلاة، وهى عماد الإسلام وملاك أمره؟ وأنّى للمسلم العاصي أن يدخل مداخل الطاعة، ويحسب في الطائعين، بغير الصلاة، التي يقول الله سبحانه وتعالى فيها: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾؟ وإذ ننظر في قوله سبحانه: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ نجد أنه دعوة عامة للمسلمين جميعا أن يقيموا الصلاة، وأن حظ المسيئين منها أكثر من حظ المحسنين.. إذ كان المحسنون بإحسانهم، على الصحة والسلامة، لا تزيدهم الصلاة إلا إيمانا على إيمان، وهدى إلى هدى.. أما المسيئون.. فهم مرضى.. أصحاب آفات وعلل، ومرتكبو فواحش وآثام، فهم أشد الناس حاجة إلى الدواء الذي يذهب بدائهم هذا، ويطهرهم من الآثام التي أحاطت بهم.. وليس غير الصلاة، مطهرة للآثام، مغفرة للذنوب، مدعاة إلى الاستقامة والتقوى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾

5. إن الآية الناسخة إذن لا تنهى المسلم العاصي عن إتيان الصلاة، إذا كان مبتلى بشرب الخمر، ولكن كيف يؤدّى الصلاة وهو معاقر الخمر، مصاب بخمارها لا يدرى ما يقول؟ هنا يأتي قوله تعالى: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ وهنا تعطى الآية حكمها في هذه الحال.. وبهذا تكون عاملة غير منسوخة، فإن القول بنسخها ـ حكما لا تلاوة ـ يدعو إلى القول بأن شارب الخمر لا يصلى أبدا، سواء أكان يدرى ما يقول، أم لا يدرى.. وهذا ما لا يقول به أحد! ونسأل: ما داعية القول بنسخ هذه الآية؟ وما الحكمة في ضرب بعض القرآن ببعض؟ خاصة إذا كانت الآية تعطى حكما مطلوبا، لا نجده في الآية التي يقال إنها ناسخة لها؟ إذن فإن ذلك القول بالنسخ هنا لا مفهوم له أبدا.. بل إنه ليبدو لنا أشبه بالقتل العمد لنفس حرم الله قتلها! فالمسلم.. الذي يتأثّم بشرب الخمر.. منهى عن إتيان الصلاة حتى يفيق إفاقة تامة من السكر، ليعلم ما يقول، ولينتفع بهذا الموقف الذي يقفه بين يدى الله.

6. وهذا الانتقال السريع من الإثم إلى الطاعة، والانخلاع من متابعة الشيطان إلى ملاقاة اللهـ هذا الانتقال من شأنه أن يحدث في النفس هزّة مزلزلة، وأن يثير في كيان الإنسان انقلابا عاصفا، حين يرى تلك المفارقة العجيبة البعيدة بين الموقفين اللذين وقفهما، والذي لا يبعد أحدهما عن الآخر غير خطوة.. إنه في هذا الموقف ـ أكثر من غيرهـ يدرك فرق ما بين الضلال والهدى، والظلام والنور، ومتابعة الشيطان، ولقاء وجه الرحمن، إن هذا الموقف جدير به أن يحمل الإنسان ـ في قوة ـ على مخالفة هواه، والرجوع إلى الله، رجوعا لا يلتفت بعده إلى وراء أبدا!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/794.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية استئناف لبيان حكمين يتعلّقان بالصلاة، دعا إلى نزولها عقب الآيات الماضية أنّه آن الأوان لتشريع هذا الحكم في الخمر حينئذ، وإلى قرنه بحكم مقرّر يتعلّق بالصلاة أيضا، ويظهر أنّ سبب نزولها طرأ في أثناء نزول الآيات التي قبلها والتي بعدها، فوقعت في موقع وقت نزولها وجاءت كالمعترضة بين تلك الآيات، تضمّنت حكما أوّل يتعلّق بالصلاة ابتداء، وهو مقصود في ذاته أيضا بحسب الغاية، وهو قوله: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، ذلك أنّ الخمر كانت حلالا لم يحرّمها الله تعالى، فبقيت على الإباحة الأصلية، وفي المسلمين من يشربها، ونزل قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: 219] في أول مدّة الهجرة فقال فريق من المسلمين: نحن نشربها لمنافعها لا لإثمها، وقد علموا أنّ المراد من الإثم الحرج والمضرّة والمفسدة، وتلك الآية كانت إيذانا لهم بأنّ الخمر يوشك أن تكون حراما لأنّ ما يشتمل على الإثم متّصف بوصف مناسب للتحريم، ولكن الله أبقى إباحتها رحمة لهم في معتادهم، مع تهيئة النفوس إلى قبول تحريمها.

2. القرب هنا مستعمل في معناه المجازي وهو التلبّس بالفعل، لأنّ (قرب) حقيقة في الدنوّ من المكان أو الذات يقال: قرب منه ـ بضم الراء ـ وقربه ـ بكسر الراء ـ وهما بمعنى، ومن الناس من زعم أنّ مكسور الراء للقرب المجازي خاصّة، ولا يصحّ.

3. إنّما اختير هذا الفعل دون لا تصلّوا ونحوه للإشارة إلى أنّ تلك حالة منافية للصلاة، وصاحبها جدير بالابتعاد عن أفضل عمل في الإسلام، ومن هنا كانت مؤذنة بتغيّر شأن الخمر، والتنفير منها، لأنّ المخاطبين يومئذ هم أكمل الناس إيمانا وأعلقهم بالصلاة، فلا يرمقون شيئا يمنعهم من الصلاة إلّا بعين الاحتقار.

4. من المفسّرين من تأوّل الصلاة هنا بالمسجد من إطلاق اسم الحالّ على المحلّ كما في قوله تعالى: ﴿وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ﴾ [الحج: 40]، ونقل عن ابن عباس، وابن مسعود، والحسن قالوا: كان جماعة من‏ الصحابة يشربون الخمر ثم يأتون المسجد للصلاة مع رسول الله فنهاهم الله عن ذلك ولا يخفى بعده ومخالفته لمشهور الآثار.

5. ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ غاية للنهي وإيماء إلى علّته، واكتفى بقوله: ﴿تَقُولُونَ﴾ عن تفعلون لظهور أنّ ذلك الحدّ من السكر قد يفضي إلى اختلال أعمال الصلاة، إذ العمل يسرع إليه الاختلال باختلال العقل قبل اختلال القول، وفي الآية إيذان بأنّ السكر الخفيف لا يمنع الصلاة يومئذ؛ أو أريد من الغاية أنّها حالة انتهاء السكر فتبقى بعدها النشوة، وسكارى جمع سكران، والسكران من أخذ عقله في الانغلاق، مشتقّ من السّكر، وهو الغلق، ومنه سكر الحوض وسكر الباب و﴿سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا﴾ [الحجر: 15]

6. لمّا نزلت هذه الآية اجتنب المسلمون شرب الخمر في أوقات الصلوات فكانوا لا يشربون إلّا بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح، لبعد ما بين هاتين الصلاتين وبين ما تليانهما، ثم أكمل مع تحريم قربان الصلاة في حالة السكر تحريم قربانها بدون طهارة.

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/134.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أمر الله سبحانه وتعالى فيما سبق من قول حكيم بعبادته وحده، وألا يشرك العبد به شيئا، ثم أمر بعد ذلك بحسن المعاملة، بالأقربين، ثم بالناس أجمعين، وبالأخذ بيد الضعيف، وبإخلاص النية له سبحانه في القول والعمل، وأن الرياء ينافى الاتجاه إلى الله وحده، وفي هذه الآية الكريمة بين طريق المعاملة الكريمة، وتربية الإخلاص له سبحانه وتعالى، وهى الصلاة، وقد ذكرها بذكر ما يجب من مقدماتها، وهو تطهير الجسم والقلب، فقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾

2. ذكر المفسرون في معنى لا تقربوا الصلاة تأويلين:

أ. أحدهما: أن المعنى لا تقوموا بها، أو لا تغشوها واجتنبوها وأنتم سكارى، كما قال سبحانه: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾ [الإسراء]، وكما قال تعالى: ﴿ولا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلًا﴾

ب. الثاني: أن معنى قرب الصلاة قرب مواضعها، أي لا تقربوا مواضع الصلاة وأنتم سكارى، وإذا كان النهى عن قرب الموضع قائما، فهو بلا ريب متضمن النهى عن الفعل نفسه، فهذا التأويل يزيد المعنى فيه عن الأول بالنهى عن دخول السكران المسجد حتى يستفيق، وفي ذلك احترام للمسجد وتكريم لبيوت أذن الله تعالى أن يرفع ذكره فيها.

3. والنهى هنا نهى عن الصلاة في حال السكر؛ لأن ذلك يتنافى مع الخشوع والقصد وإخلاص النية في كل جزء من أجزائها لله تعالى، وقد حد النهى بنهاية معينة، وهى الاستفاقة وفهم ما يقول، ولذا قال سبحانه: ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ أي حتى تقصدوا قصدا حقيقيا بنية خالصة، عالمين موقفكم من الله تعالى، وعالمين بما يشير إليه لفظ التكبير، ولفظ التسبيح، ومعانى الفاتحة التي هي دعاء القرآن وضراعة المؤمن لربه، ومعانى الآيات التي تتلى في الصلاة، فهذا هو ما يقال في الصلاة، فليس العلم الذي هو الغاية التي ينتهى عندها هو مجرد الإدراك والفهم، وذهاب غيبوبة السكر، بل العلم هو هذا اليقين والإدراك العالى الذي به تقام الصلاة، ويكون حسن إقامتها.

4. سؤال وإشكال: كيف يخاطب السكران بهذا النهى؟ والجواب: أنه خطاب له وهو في وعيه بحيث يعمل على تجنب السكر في وقت الصلاة، ولا قرب وقتها، فكان النهى يتضمن الأمر بتجنب الشرب في أوقات الصلاة وما قبلها، بحيث يتحرى ألا يجيء وقت الصلاة إلا وهو مدرك إدراكا تاما، وإنه يؤيد هذا قوله: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ فإن هذا التعبير يفيد النهى عن القرب من الصلاة وهم بهذه الحال، فهو يفيد النهى عن السكر قبلها، حتى يكون صاحيا وقتها.

5. يترتب على هذا مراعاة أن يكون السكر في غير أوقات الصلاة، وأن يتأكد أن وقت الصلاة لا يدركه إلا وهو يعلم ما يقول، فلا يسكر الشخص قط في أثناء النهار؛ لأنه لا يمكن أن يضمن الصحو في وقت الصلاة، إذا شرب مسكرا في أثناء اليوم، ولا يتمكن من السكر إلا بعد العشاء، وإنه يجب أن يعلم أن الصحابة الذين كان يقع منهم الشرب أحيانا قبل التحريم الشافى، منهم من كان يتهجد في الليل، وإذا تردد بين الشرب والتهجد آثر صلاة الليل، وإن ذلك كله قبل التحريم القاطع المنهى لحال العفو عن الشرب، وقد قالوا: إن ذلك قبيل كان من التدرج حتى يألفوا اجتناب الخمر، ويستأنسوا بتحريمها تحريما قاطعا.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1691.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا الخطاب موجه للمسلمين قبل تبيين الحكم بتحريم الخمر الذي تعرضت له الآيتان 90 و91 من سورة المائدة، والآية 32 من الأعراف معطوفة على الآية 219 من البقرة.

2. النهي عن الصلاة حال السكر لا يدل على انه حلال في غير الصلاة ـ مثلا ـ إذا قلت: لا تنظر الى النساء، وأنت ماش في الطريق فلا يفهم من قولك هذا الاذن بالنظر إليهن في الصالونات.. وبكلمة ان الآية دلت على تحريم الصلاة حال السكر، وسكتت عن حكم السكر في غير هذه الحال.

3. اختلفوا: هل المراد بالصلاة نفس الصلاة، أو المسجد الذي تقع فيه‏ الصلاة، من باب اطلاق الحال على المحل، والكائن على المكان، ومنه اطلاق اسم القهوة على المكان الذي تشرب فيه، وأكثر المفسرين على المعنى الأول، وهو أظهر من ارادة المسجد.

4. اختلفوا أيضا: هل المراد بالسكر سكر الخمر، أو سكر النوم والنعاس؟ والظاهر من السكر الشراب، لا النعاس، جاء على لسان بعض الرواة ان جماعة من الصحابة اجتمعوا عند أحدهم، فصنع لهم طعاما وشرابا قبل أن يبين الله حكم الخمر، فأكلوا وشربوا، فلما ثملوا جاء وقت الصلاة، فقدموا أحدهم ليصلي بهم، فخلط في صلاته، وحرّف آية من القرآن، وقد تتبع الشيخ محمد جواد البلاغي‏ في تفسيره آلاء الرحمن، وأثبت كذب هذه الروايات بالأرقام، وتتلخص نتيجة بحثه الدقيق بأن الترمذي روى ان صاحب الدعوة هو عبد الرحمن بن عوف، وان عليا كان إمام الجماعة.. وروى أبو داود ان صاحب الدعوة رجل من الأنصار، وكان عبد الرحمن من جملة المدعوين، وابن جرير الطبري قال في تفسيره، والسيوطي في الدر المنثور: ان إمام الجماعة كان عبد الرحمن بن عوف، وفي الدر المنثور أيضا ان الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن وسعد، وان صاحب الدعوة هو علي، وفي مسند أحمد والنسائي ان عمر قال اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا، فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، وكما اضطربت الروايات في الداعي، والإمام والمأموم كذلك تناقضت وتضاربت في الآية التي حصل فيها التحريف، فرواية تقول: ان إمام الجماعة قال: أعبد ما تعبدون، وثانية تقول: بل قرأ ليس لي دين، وكذلك اختلفت في زمن النزول وسببه، وفوق ذلك كله أثبت صاحب آلاء الرحمن ان الراوي الأول الذي قال كان إمام الجماعة عليا، أثبت انه خارجي، ومن أعدى أعداء علي.

5. وعلى أية حال، فإن صح ان جماعة من الصحابة شربوا، وان إمامهم خلط في صلاته فإن هؤلاء هم الذين أشركوا بالله، وعبدوا الأوثان، وشربوا الخمر، وأكلوا الحرام في الجاهلية التي نشأوا فيها، وتربوا عليها.. وعلي بن أبي طالب ليس منهم، لأنه نشأ وترعرع في حجر الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو الذي تولى تربيته وتهذيبه منذ نعومة أظفاره، وصاغه كما يشاء ويريد.

6. ربّ قائل: ان قولك هذا من وحي العقيدة، لا من وحي الواقع، وأجيبه بأن الحكم الذي يعتمد على نشأة الشخص وتربيته هو من وحي الحق والواقع، لا من وحي العاطفة والعقيدة.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/330.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تقدم في الكلام على قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾، أن الآيات المتعرضة لأمر الخمر خمس طوائف، وإن ضم هذه الآيات بعضها إلى بعض يفيد أن هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا﴾ الآية نزلت بعد قوله تعالى: ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾، وقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ﴾، وقبل قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾، وهذه آخر الآيات نزولا.

2. يمكن بوجه أن يتصور الترتيب على خلاف هذا الذي ذكرناه فتكون النازلة أولا آية النحل ثم الأعراف ثم البقرة ثم النساء ثم المائدة فيكون ما يفيده هذا الترتيب من قصة النهي القطعي عن شرب الخمر على خلاف ما يفيده الترتيب السابق فيكون ما في سورة الأعراف نهيا من غير تفسير ثم الذي في سورة البقرة نهيا باتا لكن المسلمين كانوا يتعللون في الاجتناب حتى نهوا عنها نهيا جازما في حال الصلاة في سورة النساء، ثم نهيا مطلقا في جميع الحالات في سورة المائدة ولعلك إن تدبرت في مضامين الآيات رجحت الترتيب السابق على هذا الترتيب، ولم تجوز بعد النهي الصريح الذي في آية البقرة النهي الذي في آية النساء المختص بحال الصلاة فهذه الآية قبل آية البقرة، إلا أن نقول إن النهي عن الصلاة في حال السكر كناية عن الصلاة كسلان كما ورد في بعض الروايات الآتية.

3. أما وقوع الآية بين ما تقدمها وما تأخر عنها من الآيات فهي كالمتخللة المعترضة إلا أن هاهنا احتمالا ربما صحح هذا النحو من التخلل والاعتراض ـ وهو غير عزيز في القرآن ـ وهو جواز أن تتنزل عدة من الآيات ذات سياق واحد متصل منسجم تدريجا في خلال أيام ثم تمس الحاجة إلى نزول آية أو آيات ولما تمت الآيات النازلة على سياق واحد فتقع الآية بين الآيات كالمعترضة المتخللة وليست بأجنبية بحسب الحقيقة وإنما هي كالكلام بين الكلام لرفع توهم لازم الدفع، أو مس حاجة إلى إيراده نظير قوله تعالى: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ الآيات، انظر إلى موضع قوله: ﴿لَا تُحَرِّكْ﴾ إلى قوله: ﴿بَيَانَهُ﴾، وعلى هذا فلا حاجة إلى التكلف في بيان وجه ارتباط الآية بما قبلها، وارتباط ما بعدها بها، على أن القرآن إنما نزل نجوما، ولا موجب لهذا الارتباط إلا في السور النازلة دفعة أو الآيات الواضحة الاتصال الكاشف ذلك عن الارتباط بينها.

4. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلى قوله: ﴿مَا تَقُولُونَ﴾ المراد بالصلاة المسجد، والدليل عليه قوله: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾، والمقتضي لهذا التجوز قوله: ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ إذ لو قيل: لا تقربوا المسجد وأنتم سكارى لم يستقم تعليله بقوله: ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ أو أفاد التعليل معنى آخر غير مقصود مع أن المقصود إفادة أنكم في حال الصلاة تواجهون مقام العظمة والكبرياء وتخاطبون رب العالمين فلا يصلح لكم أن تسكروا وتبطلوا عقولكم برجس الخمر فلا تعلموا ما تقولون، وهذا المعنى كما ترى ـ يناسب النهي عن اقتراب الصلاة لكن الصلاة لما كانت أكثر ما تقع تقع في المسجد جماعة ـ على السنة ـ وكان من القصد أن تذكر أحكام الجنب في دخوله المسجد أوجز في المقال وسبك الكلام على ما ترى، وعلى هذا فقوله: ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ في مقام التعليل للنهي عن شرب الخمر بحيث يبقى سكرها إلى حال دخول الصلاة أي نهيناكم عنه لغاية أن تعلموا ما تقولون وليس غاية للحكم بمعنى أن لا تقربوا إلى أن تعلموا ما تقولون فإذا علمتم ما تقولون فلا بأس.

5. في تفسير العياشي، عن محمد بن الفضل عن أبي الحسن عليه السلام في قول الله: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ قال: (هذا قبل أن تحرم الخمر)، ينبغي أن تحمل الرواية على أن المراد بتحريم الخمر توضيح تحريمها، وإلا فهي مخالفة للكتاب فإن آية الأعراف تحرم الخمر بعنوان أنه إثم صريحا، وآية البقرة تصرح بأن في الخمر إثما كبيرا فقد حرمت الخمر في مكة قبل الهجرة لكون سورة الأعراف مكية ولم يختلف أحد في أن هذه الآية (آية النساء) مدنية، ومثل هذه الرواية عدة روايات من طرق أهل السنة تصرح بكون الآية نازلة قبل تحريم الخمر، ويمكن أن تكون الرواية ناظرة إلى كون المراد بالآية عن الصلاة كسلان، وفيه، عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال لا تقم إلى الصلاة متكاسلا ولا متناعسا ـ ولا متثاقلا فإنها من خلل النفاق ـ فإن الله نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة ـ وهم سكارى يعني من النوم.

6. وقوله: (فإنها من خلل النفاق) استفاد عليه السلام ذلك من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، فالمتمرد عن هذا الخطاب منافق غير مؤمن، وقوله: (يعني من النوم) يحتمل أن يكون من كلام الراوي ويحتمل أن يكون من كلامه عليه السلام ويكون تفسيرا للآية من قبيل بطن القرآن، ويمكن أن يكون من الظهر، وقد وردت روايات أخر في تفسيره بالنوم رواها العياشي في تفسيره عن الحلبي في روايتين، والكليني في الكافي بإسناده عن زيد الشحام عن الصادق عليه السلام، وبإسناده عن زرارة عن الباقر عليه السلام، وروى هذا المعنى أيضا البخاري في صحيحة عن أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/359.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾ لا تتأهبوا وتقاربوا أن تفعلوها، فلا تتوضئوا، ولا تدخلوا المسجد، ولا تؤذِّنوا، ولا تقيموا، ولا تصلُّوا، فهو من قسم الكناية.

1. ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ فاجتنبوا سبب السكر عند الصلاة، وليس هذا إباحة للسكر في غير وقت الصلاة، بل هو مسكوت عنه، كما لو قال لا تطف بالبيت وأنت عريان، فالنهيُّ موجهٌ إلى السكر كما أنه موجَّه إلى العري في هذا المثال.

2. ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ تعليلٌ للنهي عن السكر المانع من العلم بما يقولون في الصلاة من القراءة والأذكار، وفيها دلالة على وجوب إحضار الذهن لما يقول المصلي، ولعل ذلك في القدر الواجب من القراءة والأذكار.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/80.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جاء في أسباب النزول ـ للواحدي: نزلت ـ أي هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ ـ في أناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا يشربون الخمر ويحضرون الصلاة وهم نشاوى، فلا يدرون كم يصلون ولا ما يقولون في صلاتهم، وجاء فيه ـ بإسناده عن عطاء عن أبي عبد الرحمن، قال صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما ودعا أناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فطعموا وشربوا، وحضرت صلاة المغرب، فتقدم بعض القوم فصلى بهم المغرب، فقرأ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ فلم يقمها، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾

2. وقد اضطربت الروايات حول هذا المضمون في الداعي والإمام والمأموم، مما يوحي بأنها ليست في مستوى الوثاقة، كما أشار إلى ذلك الشيخ البلاغي في (تفسير آلاء الرحمن)

3. في هذه الآية حديث عن بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالصلاة، في ما يتصل بالأجواء الداخلية الروحية التي يجب أن تتوافر للمصلّي، وما يرتبط بالطهارة من الحدث كشرط من شروط صحة الصلاة، ففي الجانب الأول، وجّه الله المؤمنين إلى أن لا يقربوا الصلاة وهم سكارى حتى يعلموا ما يقولون، لأن حالة السكر تذهل الإنسان عن الوعي لكل الأشياء التي من حوله، حتى كلماته التي يتكلم بها لا تنطلق من حالة وعي، فقد يفعل الشيء وهو لا يعرف نتائجه، وقد يتكلم الكلمة وهو لا يعقل معناها، ولمّا كانت الصلاة ـ في مدلولها العبادي الروحي ـ عملا يتصل بالجانب الروحي للإنسان قبل أن يتصل بجسده، كان لا بد من الوعي العميق لأفعالها وأقوالها، مما يفرض على المصلي أن يعيش الحضور العقلي والروحي لموقفه الخاشع بين يدي الله، لتكون صلاته ـ كما ورد في الحديث ـ عروجا روحيا إلى الله، ومن الطبيعي أن ذلك لا ينسجم مع حالة الغياب عن الوعي التي يعيش الإنسان معها في سكرة بعيدة عن الواقع.

4. سؤال وإشكال: ما هو المقصود بكلمة (سكارى)؟ هل المراد منها معناها الظاهر وهو سكر الشراب؟ وحينئذ يبرز سؤال آخر: ما معنى توجيه‏ هذا الحديث عن الصلاة في حال السكر للمؤمنين الذين حرّم الله عليهم الخمر؟ فكيف يطرح القرآن هذه الفرضية التي لا تتناسب مع صفة الإيمان التي يناديهم بها؟ أو المراد منها (المعنى الكنائي) الذي يتحدث عن غياب الوعي الذي يشبه حال السكر ـ سواء في ذلك ـ حالة النعاس الشديد الذي يكاد يطبق الجفون على النوم الثقيل، أو حالة الذهول المسيطر على كيان الإنسان، انطلاقا من أزمة نفسية عنيفة تشغله عن كل ما حوله من القضايا والأشياء؟ وقد استعمل القرآن الكريم هذه الكلمة في هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: 2]، والجواب: هناك اتجاهان من خلال ما وردت به الأحاديث في تفسير معنى الكلمة:

أ. فهناك اتجاه يضع هذه الآية في التسلسل التدريجي لأسلوب معالجة حرمة الخمر وتقريبها إلى أجواء الناس الذين كانت الخمر عادة يومية لحياتهم، بحيث لا تكون مواجهتهم بالتحريم، بشكل حاسم، أمرا عمليا في إبعادهم عنها؛ فبدأ بالنهي عن الصلاة في حالة السكر، ليضيّق عليهم الفترة الزمنية التي يتناولون فيها الخمر، وليوحي إليهم بنتائجها السلبية على علاقة الإنسان بالله، ثم انطلقت الآيات الأخرى لتشدّد على الموضوع، بالطريقة التي تنتهي إلى التحريم الحاسم في نهاية المطاف، وهذا أسلوب قرآني درج عليه التشريع الإسلامي في تنزيل الأحكام تدريجيا وعلى دفعات، ولا بد من التنبيه على أن ذلك لا يعني الإقرار بما هم عليه من ممارسة السكر، لأن النهي عن فعل شيء في بعض الحالات، لا يعني الاعتراف بشرعية تلك الحالات، بل يترك الأمر مسكوتا عنه في إمكانية الرضا وعدم الرضا.

ب. وهناك اتجاه في بعض الأحاديث يفسر الكلمة بسكر النوم‏ وربما كان‏ هذا الاتجاه أقرب إلى قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ مما يوحي بأن الآية واردة في مجال معالجة الجو الروحي الواعي، الذي ينبغي للمصلي أن يعيشه في حال الصلاة، بحيث تكون هذه الفقرة دليلا على صرف اللفظ عن معناه الظاهر بإرادة السكر بمعناه المتصل بسكر الشراب، وعلى ضوء ذلك، فلا تختص الكلمة بسكر النوم، بل تمتد إلى كل حالة ذهول وغياب عن الوعي.

5. لا نجد هناك كبير فائدة في الدخول في عملية الترجيح بين الاتجاهين بشكل حاسم، ما دام كل منهما منسجما مع الهدف الأساس من النهي، وهو الوقوف بين يدي الله في الصلاة في حالة جيّدة من الحضور الواعي، الذي لا يبتعد فيه الإنسان عن وعي الكلمات التي يقولها، من حيث معناها، ومن حيث إيحاءاتها الروحية التي تتصل بموقفه أمام الله.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/275.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تستفاد من الآية الكريمة حرمة الصّلاة في حال السكر، أي لا يجوز للسكارى أن يقربوا الصّلاة لبطلان صلاتهم في حالة السكر، وفلسفة ذلك واضحة، فإن الصلاة حديث العبد إلى ربّه ومناجاته ودعاؤه، ولا بدّ أن يتمّ كل هذا في حالة الوعي الكامل، والسكارى أبعد ما يكونون عن هذه الحالة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾

2. سؤال وإشكال: أليس مفهوم الآية هو المنع من شرب المسكرات إذا بقي أثرها وسكرها إلى وقت الصلاة، وهو ينطوي على دليل‏جوازه في سائر الحالات؟ والجواب: الجواب الإجمالي هو: إنّ الإسلام استخدم لتطبيق الكثير من أحكامه أسلوب (التغيير التدريجي) فمثلا مسألة تحريم تعاطي الخمور هذه طبقها الإسلام في مراحل، فهو أوّلا أعطاه صفة المشروب الغير المحبّذ في قبال (الرزق الحسن) (كما في الآية من سورة النحل (ورزقا حسنا) ثمّ منع من الاقتراب إلى الصلاة إذا كان السكر الناشئ منها لا يزال باقيا (كما في الآية الكريمة) ثمّ قارن بين منافعه ومضاره ورجحان مضاره ومساوئه، كما في سورة البقرة الآية، وفي المرحلة الأخيرة نهى عن الخمر بصورة قاطعة وصريحة، كما في سورة المائدة الآية، وليس هناك من سبيل لتطهير المجتمع من جذور مفسدة اجتماعية أو خلقية متجذرة في أعماق المجتمع واقتلاعها من الجذور أفضل من هذا الأسلوب، وأجدى من هذا الطريق، وهو أن يهيأ الأفراد تدريجا، ثمّ يتمّ الإعلان عن الحكم النهائي.

3. الآية الكريمة لا تجيز بأي وجه من الوجوه شرب الخمر، بل هي تتحدث فقط عن مسألة الاقتراب إلى الصلاة في حال السكر، بينما التزمت الصمت بالنسبة إلى حكم شرب الخمر في غير هذا المورد حتى يحين موعد المرحلة النهائية للحكم، هذا مع الالتفات إلى أنّ أوقات الصلوات الخمس خاصّة في ذلك الزمان الذي كانت العادة فيه إقامة الصلوات الخمس في أوقاتها، بحكم أنّها كانت متقاربة كان الإتيان بالصلاة في حال الوعي يقتضي أن ينصرف الأشخاص عن تناول المسكرات في الفترات الواقعة بين أوقات الفرائض انصرافا كليا، لأنّ السكر كان يستمر غالبا إلى حين حلول وقت الفريضة وعلى هذا كان الحكم‏ المذكور في الآية الكريمة أشبه بالحكم النهائي والتحريم الأبدي المطلق.

4. الآية الكريمة فسّرت في روايات عديدة في كتب الشيعة والسنة بسكر النوم، يعني لا تقربوا الصلاة ما لم تطردوا النوم عن عيونكم كاملة لتعلموا ما تقولون، لكن يبدو للنظر أن هذا التّفسير مستفاد من مفهوم: ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ وإن لم يدخل في مصداق (السكارى)، وبعبارة أخرى، يستفاد من جملة: ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ المنع عن الصلاة في كل حالة لا يتمتع فيها الإنسان بالوعي الكامل، سواء كان بسبب حالة السكر، أو بسبب ما تبقى من النوم.

5. كما أنّه يستفاد من هذه الجملة أيضا أنّ الأفضل عدم إقامة الصلاة عند الكسل أو قلّة التوجه، لأنّ الحالة السابقة توجد في هذه الصورة بشكل ضعيف، ولعلّه لهذا السبب جاء في ما روي عن الإمام الباقر عليه السّلام من أنّه قال: (لا تقم إلى الصلاة متكاسلا، ولا متناعسا ولا متثاقلا وقد نهى الله عزّ وجلّ المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى..)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/244.

45. الجنابة والمساجد والصلاة

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈45⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ [النساء: 43]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾، هو الممر في المسجد(1).

2. روي أنّه كان يرخص للجنب أن يمر في المسجد مجتازا، وقال: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾(1).

__________

(1) عبد الرزاق ١/١٦٣.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾، نزلت هذه الآية في المسافر تصيبه الجنابة، فيتيمم، ويصلي، وفي لفظ قال: لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة، فلا يجد الماء، فيتيمم، ويصلي حتى يجد الماء(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾، قال إلا أن تكونوا مسافرين فلا تجدوا الماء، فتيمموا(2).

__________

(1) ابن أبي شيبة في المصنف ١/١٥٧.

(2) ابن جرير ٧/٥٠.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لا بأس للحائض والجنب أن يمرا في المسجد، ما لم يجلسا فيه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾، لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إذا وجدتم الماء، فإن لم تجدوا الماء فقد أحللت لكم أن تمسحوا بالأرض(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾، هو المسافر لا يجد ماء، فيتيمم، ويصلي(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب، ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ قال تمر به مرا، ولا تجلس(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٥.

(2) ابن جرير ٧/٥٠.

(3) ابن أبي شيبة ١/١٥٧.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾، هو الرجل يكون في السفر، فتصيبه الجنابة، فيتيمم ويصلي(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾، مسافرين لا تجدون ماء(2).

__________

(1) عبد الرزاق ١/١٦٣.

(2) عبد الرزاق في مصنفه (١٦١٥.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنه قيل له: الحائض والجنب يدخلان المسجد أم لا؟ قال: الحائض والجنب لا يدخلان المسجد إلا مجتازين، إن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾(1).

2. روي أنه قيل له: الحائض والجنب يدخلان المسجد أم لا؟ فقال: (لا يدخلان المسجد إلا مجتازين، إن الله يقول: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ ويأخذان من المسجد الشيء ولا يضعان فيه شيئا(2).

3. روي أنّه قال: إذا كان الرجل نائما في المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فاحتلم، فأصابته جنابة، فليتيمم وإلا يمر في المسجد إلا متيمما، ولا بأس أن يمر في سائر المساجد، ولا يجلس في شيء من المساجد(3).

__________

(1) علل الشرائع 2/288.

(2) تفسير العيّاشي 1/243.

(3) التهذيب 1/407.

ابن أبي حبيب:

روي عن يزيد بن أبي حبيب (ت 128 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾، إن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فكانت تصيبهم جنابة، ولا ماء عندهم، فيريدون الماء، ولا يجدون ممرا إلا في المسجد؛ فأنزل الله هذه الآية(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٧.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن الجنب، يجلس في المساجد؟ قال: لا، ولكن يمر فيها كلها إلا المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

2. روي أنّه سئل عن الجنب، يجلس في المسجد؟ قال: لا، ولكن يمر به، إلا المسجد الحرام ومسجد المدينة(2).

3. روي أنّه سئل عن الجنب والحائض، يتناولان من المسجد المتاع يكون فيه؟ قال: نعم، ولكن لا يضعان في المسجد شيئا(3).

__________

(1) الكافي 3/450.

(2) التهذيب 6/15.

(3) التهذيب 1/125.

الهادي إلى الحق:

ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾، عابر السبيل: مجيز الطريق من أبناء السبيل الذين قد وقع عليهم اسم السفر، وجاز لهم عند الله عز وجل القصر.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/227.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قيل: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ نهى الجنب أن يدخل المسجد ومكان الصلاة إلا عابري سبيل، إلا مجتازا.

2. ومن تأول الآية على المرور في المسجد فهو غير بعيد؛ يقول: إنما كره للجنب أن يستوطن المسجد، فأما المار لأمر يعرض له، فقد رخص له؛ ألا ترى أن الجنب رخص‏ بالتيمم وإذا أبيح للجنب دخول المسجد بالتيمم؛ فثبت أن التيمم قد جعل له الطهارة، فله الصلاة به لعذر.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/192.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾، أي ولا تغتسلوا إذا كنتم جنباً إلا قاطعي طريق حتى تغتسلوا بالماء، فهذه الآية تدل على أنه عز وجل أمر بالتيمم بعد النهي عن الصلاة في وقت الجنابة، كما نهى عن الصلاة في وقت سكر المنام، ثم بين بعد نهيه عن الصلاة في وقت الجنابة أنه يجب عليهم التيمم إذا لم يجدوا الماء وكانوا مرضى.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/242.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ والمراد بعابري السبيل المسافر يكون جنباً ولا يجد الماء حتى يتيمم.. وروينا عن أمير المؤمنين: ويجوز أن يكون المراد الجنب لا يقرب موضع الصلاة من المساجد مقيماً إلا ماراً مجتازاً.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/179.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ قولان:

أ. أحدهما: أراد سبيل المسافر إذا كان جنبا لا يصلي حتى يتيمم، وهذا قول ابن عباس في رواية أبي مجلز عنه، ومجاهد، والحكم، وابن زيد.

ب. الثاني: لا يقرب الجنب مواضع الصلاة من المساجد إلا مارّا مجتازا، وهذا قول ابن عباس في رواية الضحاك، وابن يسار عنه، وهو قول جابر، والحسن، والزهري، والنخعي.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/490.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ حمزة، والكسائي: (أو لمستم النساء) بغير ألف، الباقون (لامستم) بألف، فمن قرأ (لامستم) بالف قال معناه الجماع: وهو قول علي عليه السلام، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وأبو علي الجبائي، واختاره أبو حنيفة، ومن قرأ بلا الف أراد اللمس باليد وغيرها بما دون الجماع، ذهب إليه ابن مسعود، وعبيدة، وابن عمر، والشعبي، وابراهيم، وعطاء، واختاره الشافعي، والصحيح عندنا هو الأول، وهو اختيار الجبائي، والبلخي، والطبري، وغيرهم.

2. الملامسة واللمس معناهما واحد، لأنه لا يلمسها إلا وهي تلمسه، وقيل: ان الملامسة بمعنى اللمس، كما قيل: عافاه الله، وعاقبت اللص.

3. في سبب نزول هذه الآية قولان:

أ. أحدهما: قال ابراهيم: إنها نزلت في قوم من الصحابة أصابهم جراح.

ب. الثاني: قالت عائشة نزلت في قوم من الصحابة أعوزهم الماء.

4. ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ يقال: رجل جنب إذا اجنب، ورجل جنب أي غريب، ولا يثنى ولا يجمع، ويجمع أجناباً أي غرباء، وإنما نصب لأنه عطف على قوله: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ وهي جملة في موضع الحال، وقيل في معناه قولان.

أ. أحدهما: قال علي عليه السلام، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والحكم، وابن كثير، وابن زيد: إلا مسافرين فلكم أن تتيمموا.

ب. الثاني: قال ابن عباس في رواية أخرى، وجابر، والحسن، وسعيد بن جبير، وابراهيم، والزهري، وعطاء والجبائي: ان معناه لا تقربوا مواضع الصلاة من المساجد إلا مجتازين، وهو قول أبي جعفر عليه السلام، وحذف لدلالة الكلام عليه، وهو الأقوى، لأنه تعالى بين حكم الجنب في آخر هذه الآية إذا عدم الماء، فلو حملناه على ذلك لكان تكراراً، وإنما أراد أن يبين حكم الجنب في دخول المساجد في أول الآية، وحكمه إذا أراد الصلاة مع عدم الماء في آخرها.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/205.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الجنابة من الجنب وأصله البعد، ومنه الأجنبي، يقال: رجل جُنب وامرأة جنب، ورجلان جنب، وامرأتان جنب، ونساء جنب، ورجال جنب يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والجمع، والفعل منه: أَجْنب يجنب، وسمي جنبًا لأنه يجتنب حتى يتطهر.

ب. العبور أصله القطع، يقال: عبر النهر والطريق إذا قطعهما وجاراهما عبرًا وعبورًا، وقيل: منه سمي الشِّعْرَى العبور لقطعه المَجَرَّةَ.

2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة: عن زيد بن حبيب أن رجالاً من الأنصار كانت أثوابهم في المسجد، فيصيبهم جنابة ولا ماء عندهم فيريدون الماء ولا يجدون ممرًا إلا في المسجد فنزل قوله: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ الآية.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾:

أ. قيل: لا تصلوا جنبًا إلا مسافرين بالتيمم عن علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والحكم وابن زيد وأبي مسلم.

ب. وقيل: لا تقربوا مواضع الصلاة من المساجد جنبًا إلا مسافرين بالتيمم مجتازين عن ابن عباس بخلاف، وجابر والحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم والزهري وعطاء وأبي علي، وعابر سبيل أي مار في طريق.

4. ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ من الجنابة.

5. ﴿وَلَا جُنُبًا﴾ نصب على الحال تقديره: ولا تقربوا الصلاة في حال الجنابة، و﴿أَوْ﴾ بمعنى الواو في قوله: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾، ﴿تَعْلَمُوا﴾ نصب بـ ﴿حَتَّى﴾ ولو كان رفعًا، لقال: تعلمون، و﴿عَابِرِي﴾ أصله عابرين) ذهبت الخون للإضافة.

6. تدل الآية الكريمة على أحكام الجنابة، والكلام فيها على وجوه:

أ. فمنها: أسباب الجنابة، وهي أربعة: الإنزال على أي وجه كان، والإيلاج حتى يلتقي الختانان، وفيه اتفاق وكان في الصحابة من يخالف، ثم زال الخلاف، والحيض، والنفاس.

ب. ومنها: أحكام الجنب: لا يصلي، ولا يطوف، ولا يقرأ القرآن، ولا يمس المصحف، ولا يدخل المسجد، وإن اجتنب فيه تَيَمَّم، ثم يخرج، وهو قول أبي حنيفة، وقال الشافعي: يمر ولا يقعد.

ج. ومنها: تطهير البدن: فالآية تدل على وجوب غسل جميع البدن، والسنة وردت بذلك في قوله: (تحت كل شعرة جنابة، فبلوا الشعر وأنقوا البشر)

د. ومنها: أن الجنابة تبقى ما لم يغتسل، والتيمم لا يرفع الجنابة ولا الحدث.

هـ. ومنها: أن الجنب هل يتيمم إذا لم يجد الماء؟ وكان يجري في الصحابة خلاف فيه، فكان عمر وابن مسعود لا يريان التيمم، وباقي الصحابة يجوزون، ثم زال الخلاف، واستقر مذهب العلماء على جوازه.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/637

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. يقال رجل جنب: إذا أجنب، ويستوي فيه المذكر والمؤنث، الواحد والجمع، يقال: رجل جنب، قوم جنب، وامرأة جنب.

ب. العابر: من العبور، يقال عبرت النهر، والطريق، عبورا، إذا قطعته من هذا الجانب إلى الجانب الآخر.

2. في قوله تعالى: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ قولان:

أ. أحدهما: إن المراد به: لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين، فيجوز لكم أداؤها بالتيمم، وإن كان لا يرفع حكم الجنابة، فإن التيمم وإن كان يبيح الصلاة، فإنه لا يرفع الحدث، عن علي عليه السلام، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد.

ب. والآخر: إن معناه: لا تقربوا مواضع الصلاة من المساجد، وأنتم جنب، إلا مجتازين، عن جابر، والحسن، وعطاء، والزهري وإبراهيم، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.. وهذا القول أقوى لأنه سبحانه بين حكم الجنب في آخر الآية، إذا عدم الماء، فلو حملناه على ذلك، لكان تكرارا، وإنما أراد سبحانه أن يبين حكم الجنب في دخول المساجد، في أول الآية، ويبين حكمه في الصلاة عند عدم الماء، في آخر الآية.

3. ﴿عَابِرِي سَبِيلٍ﴾: أي مارين في طريق، ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ من الجنابة.

4. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿جُنُبًا﴾ إنما انتصب لكونه عطفا عليه، والمراد به الجمع.

ب. ﴿عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ منصوب على الاستثناء.

ج. ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ منصوب بإضمار أن.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/81.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا جُنُبًا﴾ قال ابن قتيبة: الجنابة: البعد، قال الزجّاج: يقال: رجل جنب، ورجلان جنب، ورجال جنب، كما يقال: رجل رضى، وقوم رضى، وفي تسمية الجنب بهذا الاسم قولان:

أ. أحدهما: لمجانبة مائه محلّه.

ب. الثاني: لما يلزمه من اجتناب الصّلاة، وقراءة القرآن، ومسّ المصحف، ودخول المسجد.

2. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن المعنى: لا تقربوا الصّلاة وأنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين غير واجدين للماء فتيمّموا، وتصلّوا، وهذا المعنى مروي عن عليّ، ومجاهد، والحكم، وقتادة، وابن زيد، ومقاتل، والفرّاء، والزجّاج.

ب. الثاني: لا تقربوا مواضع الصّلاة ـ وهي المساجد ـ وأنتم جنب إلّا مجتازين، ولا تقعدوا، وهذا المعنى مرويّ عن ابن مسعود، وأنس بن مالك، والحسن، وسعيد بن المسيّب، وعكرمة، وعطاء الخراسانيّ، والزّهريّ، وعمرو بن دينار، وأبي الضّحى، وأحمد، والشّافعيّ، وابن قتيبة، وعن ابن عباس، وسعيد بن جبير، كالقولين.

3. على القول الأوّل: (عابر السبيل): المسافر، وقربان الصّلاة: فعلها، وعلى الثاني: (عابر السبيل): المجتاز في المسجد، وقربان الصّلاة: دخول المسجد الذي تفعل فيه الصّلاة.

__________

(1) زاد المسير: 1/410.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ قوله: ﴿وَلَا جُنُبًا﴾ عطف على قوله: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ والواو هاهنا للحال، والتقدير: لا تقربوا الصلاة حال ما تكونون سكارى، وحال ما تكونون جنبا.

2. الجنب يستوي فيه الواحد والجمع، المذكر والمؤنث، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الاجناب، وقد ذكرنا أن أصل الجنابة البعد، وقيل للذي يجب عليه الغسل: جنب، لأنه يجتنب الصلاة والمسجد وقراءة القرآن حتى يتطهر.

3. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن هذا العبور المراد منه العبور في المسجد.

ب. الثاني: أن المراد بقوله: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ المسافرون، وبينا كيفية ترجيح أحدهما على الآخر.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 10/89.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا جُنُبًا﴾ عطف على موضع الجملة المنصوبة في قوله: ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا﴾ أي لا تصلوا وقد أجنبتم، ويقال: تجنبتم وأجنبتم وجنبتم بمعنى، ولفظ الجنب لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع، لأنه على وزن المصدر كالبعد والقرب، وربما خففوه فقالوا: جنب، وقد قرأه كذلك قوم، وقال الفراء: يقال جنب الرجل وأجنب من الجنابة، وقيل: يجمع الجنب في لغة على أجناب، مثل عنق وأعناق، وطنب وأطناب، ومن قال للواحد جانب قال في الجمع: جناب، كقولك: راكب وركاب، والأصل البعد، كأن الجنب بعد بخروج الماء الدافق عن حال الصلاة، قال:

çفلا تحرمي نائلا عن جنابة...فإني امرؤ وسط القباب غريبé

ورجل جنب: غريب، والجنابة مخالطة الرجل المرأة.

2. ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ يقال: عبرت الطريق أي قطعته من جانب إلى جانب، وعبرت النهر عبورا، وهذا عبر النهر أي شطه، ويقال: عبر بالضم، والمعبر ما يعبر عليه من سفينة أو قنطرة، وهذا عابر السبيل أي مار الطريق، وناقة عبر أسفار: لا تزال يسافر عليها ويقطع بها الفلاة والهاجرة لسرعة مشيها، قال الشاعر:

çعيرانة سرح اليدين شملة...عبر الهواجر كالهزف الخاضبé

وعبر القوم ماتوا، وأنشد:

çقضاء الله يغلب كل شي...ويلعب بالجزوع وبالصبور

فإن نعبر فإن لنا لمات...وإن نغبر فنحن على نذورé

يقول: إن متنا فلنا أقران، وإن بقينا فلا بد لنا من الموت، حتى كأن علينا في إتيانه نذورا.

3. اختلف العلماء في قوله: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ فقال علي وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم: عابر السبيل المسافر، ولا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم، وهذا قول أبي حنيفة، لأن الغالب في الماء لا يعدم في الحضر، فالحاضر يغتسل لوجود الماء، والمسافر يتيمم إذا لم يجده، قال ابن المنذر: وقال أصحاب الرأي في الجنب المسافر يمر على مسجد فيه عين ماء يتيمم الصعيد ويدخل المسجد ويستقي منها ثم يخرج الماء من المسجد، ورخصت طائفة في دخول الجنب المسجد، واحتج بعضهم بقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المؤمن ليس بنجس)، قال ابن المنذر: وبه نقول، وقال ابن عباس أيضا وابن مسعود وعكرمة والنخعي: عابر السبيل الخاطر المجتاز، وهو قول عمرو بن دينار ومالك والشافعي، وقالت طائفة: لا يمر الجنب في المسجد إلا ألا يجد بدا فيتيمم ويمر فيه، هكذا قال الثوري وإسحاق ابن راهويه، وقال أحمد وإسحاق في الجنب: إذا توضأ لا بأس أن يجلس في المسجد، حكاه ابن المنذر.

4. روى بعضهم في سبب الآية أن قوما من الأنصار كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد، فإذا أصاب أحدهم الجنابة اضطر إلى المرور في المسجد.. وهذا صحيح، يعضده ما رواه أبو داوود عن جسرة بنت دجاجة قالت: سمعت عائشة تقول: جاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: (وجهوا هذه البيوت عن المسجد)، ثم دخل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم فقال: (وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)

5. وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه إلا علي بن أبي طالب، ورواه عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما ينبغي لمسلم ولا يصلح أن يجنب في المسجد إلا أنا وعلي)، قال علماؤنا وهذا يجوز أن يكون ذلك، لأن بيت علي كان في المسجد، كما كان بيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في المسجد، وإن كان البيتان لم يكونا في المسجد ولكن كانا متصلين بالمسجد وأبوابهما كانت في المسجد فجعلهما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من المسجد فقال: (ما ينبغي لمسلم) الحديث، والذي يدل على أن بيت علي كان في المسجد ما رواه ابن شهاب عن سالم بن عبد الله قال: سأل رجل أبي عن علي وعثمان أيهما كان خيرا؟ فقال له عبد الله بن عمر: هذا بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم! وأشار إلى بيت علي إلى جنبه، لم يكن في المسجد غيرهما، وذكر الحديث، فلم يكونا يجنبان في المسجد وإنما كانا يجنبان في بيوتهما، وبيوتهما من المسجد إذ كان أبوابهما فيه، فكانا يستطرقانه في حال الجنابة إذا خرجا من بيوتهما، ويجوز أن يكون ذلك تخصيصا لهما، وقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خص بأشياء، فيكون هذا مما خص به، ثم خص النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عليا صلّى الله عليه وآله وسلّم فرخص له في ما لم يرخص فيه لغيره، وإن كانت أبواب بيوتهم في المسجد، فإنه كان في المسجد أبواب بيوت غير بيتيهما، حتى أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بسدها إلا باب علي، وروى عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (سدوا الأبواب إلا باب علي) فخصه صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن ترك بابه في المسجد، وكان يجنب في بيته وبيته في المسجد.

6. ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ نهى الله تعالى عن الصلاة إلا بعد الاغتسال، والاغتسال معنى معقول، ولفظه عند العرب معلوم، يعبر به عن إمرار اليد مع الماء على المغسول، ولذلك فرقت العرب بين قولهم: غسلت الثوب، وبين قولهم: أفضت عليه الماء وغمسته في الماء، إذا تقرر هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في الجنب يصب على جسده الماء أو ينغمس فيه ولا يتدلك، فالمشهور من مذهب مالك أنه لا بجزية حتى يتدلك، لأن الله تعالى أمر الجنب بالاغتسال، كما أمر المتوضئ بغسل وجهه ويديه، ولم يكن للمتوضئ بد من إمرار يديه مع الماء على وجهه ويديه، فكذلك جميع جسد الجنب ورأسه في حكم وجه المتوضئ ويديه، وهذا قول المزني واختياره، قال أبو الفرج عمرو بن محمد المالكي: وهذا هو المعقول من لفظ الغسل، لأن الاغتسال في اللغة هو الافتعال، ومن لم يمر يديه فلم يفعل غير صب الماء لا يسميه أهل اللسان غاسلا، بل يسمونه صابا للماء ومنغمسا فيه، قال: وعلى نحو هذا جاءت الآثار عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة) قال: وإنقاؤه والله أعلم ـ لا يكون إلا بتتبعه، على حد ما ذكرنا، قلت: لا حجة فيما استدل به من الحديث لوجهين:.

أ. أحدهما: أنه قد خولف في تأويله، قال سفيان بن عيينة: المراد بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنقوا البشرة) أراد غسل الفرج وتنظيفه، وأنه كنى بالبشرة عن الفرج، قال ابن وهب: ما رأيت] أحدا [أعلم بتفسير الأحاديث من ابن عيينة.

ب. الثاني: أن الحديث أخرجه أبو داوود في سننه وقال فيه: وهذا الحديث ضعيف، كذا في رواية ابن داسة، وفي رواية اللؤلؤي عنه: الحارث بن وجيه ضعيف، حديثه منكر، فسقط الاستدلال بالحديث، وبقي المعول على اللسان كما بينا.

7. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بأحكام الغسل، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/207.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا جُنُبًا﴾ عطف على محل الجملة الحالية، وهي قوله: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ والجنب: لا يؤنث، ولا يثنى، ولا يجمع، لأنه ملحق بالمصدر، كالبعد والقرب، قال الفراء: يقال جنب الرجل وأجنب من الجنابة؛ وقيل: يجمع الجنب في لغة على أجناب، مثل: عنق وأعناق، وطنب وأطناب.

2. ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ استثناء مفرّغ، أي: لا تقربوها في حال من الأحوال إلا في حال عبور السبيل، والمراد به هنا السفر، ويكون محل هذا الاستثناء المفرّغ النصب على الحال من ضمير لا تقربوا بعد تقييده بالحال الثانية، وهي قوله: ﴿وَلَا جُنُبًا﴾ لا بالحال الأولى، وهي قوله: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ فيصير المعنى: لا تقربوا الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال السفر، فإنه يجوز لكم أن تصلوا بالتيمم، وهذا قول عليّ، وابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، والحكم، وغيرهم، قالوا: لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم، لأن الماء قد يعدم في السفر لا في الحضر، فإن الغالب أنه لا يعدم، وقال ابن مسعود، وعكرمة، والنخعي، وعمرو بن دينار، ومالك، والشافعي: عابر السبيل: هو المجتاز في المسجد، وهو مرويّ عن ابن عباس، فيكون معنى الآية على هذا: لا تقربوا مواضع الصلاة: وهي المساجد في حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب، وفي القول الأول قوّة من جهة كون الصلاة فيه باقية عند عدم الماء بالتيمم، فإن هذا الحكم يكون في الحاضر إذا عدم الماء، كما يكون في المسافر، وفي القول الثاني قوّة من جهة عدم التكلف في معنى قوله: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ وضعف من جهة حمل الصلاة على مواضعها، وبالجملة فالحال الأولى، أعني قوله: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ تقوّي بقاء الصلاة على معناها الحقيقي من دون تقدير مضاف، وكذلك ما سيأتي من سبب نزول الآية يقوّي ذلك.

3. ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ يقوّي تقدير المضاف: أي لا تقربوا مواضع الصلاة، ويمكن أن يقال: إن بعض قيود النهي أعني: ﴿لَا تَقْرَبُوا﴾ وهو قوله: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي، وبعض قيود النهي وهو قوله: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ يدل على أن المراد: مواضع الصلاة، ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدالّ عليه، ويكون ذلك عليه، ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد، وهما: لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم في المسجد من جانب إلى جانب، وغاية ما يقال في هذا: أنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو جائز بتأويل مشهور، وقال ابن جرير بعد حكايته للقولين: الأولى قول من قال: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ إلا مجتازي طريق فيه، وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء، وهو جنب في قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ فكان معلوما بذلك، أي: أن قوله: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ لو كان معنيا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ معنى مفهوم.

4. وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك، فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري‏ سبيل، قال والعابر السبيل: المجتاز مرّا وقطعا، يقال منه: عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا، ومنه قيل: عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه؛ ومنه قيل للناقة القوية: هي عبر أسفار، لقوّتها على قطع الأسفار، قال ابن كثير: وهذا الذي نصره، يعني: ابن جرير، هو قول الجمهور، وهو الظاهر من الآية.

5. ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ غاية للنهي عن قربان الصلاة أو مواضعها حال الجنابة، والمعنى: لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا حال عبوركم السبيل.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/542.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا جُنُبًا﴾ عطفًا على جملة الحال، وهي: (أَنتُمْ سُكَارَى)، أي: لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبًا في حال ما ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ إلَّا مجتازي الطريق في السفر، وذلك إذا لم يجد الماء وتيمم، كما ذكر التيمُّمَ بعدُ، و(إِلَّا عَابِرِي) نعت (جُنُبًا)، أي: جنبًا غير عابري، أي: جنبًا مقيمين، ففي حال السفر تقربون الصلاة وأنتم جنب، وتصلُّون جنبًا بالتيمُّم لعدم الماء، فسمَّاهم جنبًا مع التيمُّم.

2. فالآية دليل لمن قال: التيمُّم مبيح للعبادة كالشافعيَّة، فيُتَيمَّم لِكُلِّ صلاة؛ فهو طهارة ضروريَّة لا رافع للحدث، كما تقول الحنفيَّة فلا يعاد التيمُّم إلَّا لحدوث ناقض أصله، فهو طهارة مطلقة، وهو الصحيح، والقولان في المذهب. ويجاب بأنَّ المعنى: حتَّى تتيمَّموا، يقدَّر بعد قوله: ﴿سَبِيلٍ﴾، وبأنَّه لا تتعيَّن الآية للصلاة بالجنابة والتيمُّم، لجواز أن يكون المعنى: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد إلَّا مجتازين فيها، فالآية في مرور الجنب في المسجد قبل التطهُّر، ومذهبنا (2) المنع، وهو مذهب أبي حنيفة، إلَّا أنَّه أجازه إذا كان فيه الماء أو الطريق ولا يوصل لذلك إلَّا بالعبور فيه، وأجازه الشافعيَّة مطلقًا، ولنا أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يأذن لجنب أن يجلس فيه أو يمرَّ إلَّا لعليٍّ، وكان بيته فيه، وأنَّه قال: (وجِّهوا هذه البيوت عن المسجد، فإنِّي لا أحلُّ المسجد لحائض ولا جنب)، ورخَّص لنفر من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد ولا طريق لهم غيره فخصَّ بهم لذلك، ولا يحلُّ لغيرهم بعدُ ولو كانت أبوابهم فيه، وقد قال أيضًا: (وَجِّهُوا) الحديث، ﴿حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ﴾ غاية لـ (جُنُبًا) باعتبار النهي عن القرب، أي: لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب حتَّى تغتسلوا من الجنابة.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/191.

(2) يقصد الإباضية

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا جُنُبًا﴾ عطف على قوله: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ إذ الجملة في موضع النصب على الحال، والجنب الذي أصابته الجنابة، يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والجمع، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب‏ ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ أي مارّين بلا لبث‏ ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ من الجنابة: أي لا تقربوا موضع الصلاة، وهو المسجد، وأنتم جنب، إلا مجتازين فيه، إما للخروج منه أو للدخول فيه.

2. من هذا التأويل احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد، ويجوز له المرور، وثمة تأويل آخر في قوله تعالى‏ ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ وهو أن المراد منه المسافرون، أي لا تقربوا الصلاة جنبا في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين، فيكون هذا الاستثناء دليلا على أنه يجوز للجنب الإقدام على الصلاة عند العجز عن الماء، وقد روى ابن أبي حاتم عن زر بن حبيش عن عليّ في هذه الآية، قال لا يقرب الصلاة لا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة، فلا يجد الماء، فيصلي حتى يجد الماء، ثم‏ رواه من وجه آخر عن عليّ: ورواه عن جماعة من السلف أيضا: أنه في السفر، قال ابن كثير: ويستشهد لهذا القول‏ بالحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل‏ السنن عن أبي ذر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم تجد الماء عشر حجج، فإذا وجدت الماء فأمسّه بشرتك فإن ذلك خير لك، وفي هذا التأويل بقاء لفظ الصلاة على معناه الحقيقيّ في الجملتين المتعاطفتين، وفي التأويل السابق تكون الصلاة، في الجملة الثانية محمولة على مواضعها، قال في (فتح البيان): وبالجملة، فالحال الأولى أعني قوله: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ تقوّي بقاء الصلاة على معناه الحقيقي، من دون تقدير مضاف، وسبب نزول الآية السابق يقوّي ذلك، وقوله: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ يقوّي تقدير المضاف، أي لا تقربوا مواضع الصلاة، ويمكن أن يقال: إن بعض قيود النهي (أعني لا تقربوا وهو قوله: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾) يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقيّ، وبعض قيود النهي وهو قوله: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ يدل على أن المراد مواضع الصلاة، ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه، ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد، وهما: لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب، وغاية ما يقال في هذا إنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو جائز بتأويل مشهور.

3. وقال ابن جرير بعد حكايته للتأويلين: وأولى القولين بالتأويل لذلك، تأويل من تأوله‏ ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾، إلا مجتازي طريق فيه، وذلك أنه قد بيّن حكم المسافر إذا عدم الماء، وهو جنب، في قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ إلى آخره، فكان معلوما بذلك أن قوله: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ لو كان معنيّا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ معنى مفهوم، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك، وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة، مصلين فيها، وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل، قال و(العابر السبيل) المجتازه مرّا وقطعا، يقال منه: عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا، ومه قيل: عبر فلان النهر إذا قطعه وجازه، ومنه قيل، للناقة القوية على الأسفار: هي عبر أسفار، وعبر أسفار، لقوتها على الأسفار، قال ابن كثير: وهذا الذي نصره (يعني ابن جرير) هو قول الجمهور وهو الظاهر من الآية، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضا.

4. قوله تعالى‏ ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ غاية للنهي عن قربان الصلاة ومواضعها، حال الجنابة، والمعنى: لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا، إلا حال عبوركم السبيل.

5. في قوله تعالى‏ ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ رد على من أباح جلوس الجنب مطلقا إذا توضأ، لأن الله تعالى جعل غاية التحريم الغسل، فلا يقوم مقامه الوضوء، كذا في (الإكليل)، وإنما يكون هذا حجة لو كانت الآية نصّا في تأويل واحد، وحيث تطرق الاحتمال لها، على ما رأيت، فلا، وقد تمسك المبيح، وهو الإمام أحمد، بما روى هو وسعيد بن منصور في (سننه) بسند صحيح، أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك، قال سعيد بن منصور في (سننه): حدثنا عبد العزيز بن محمد، هو الدراورديّ، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار قال رأيت رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يجلسون في المسجد وهم مجنبون، إذا توضؤوا وضوء الصلاة، قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.

6. قال العلامة أبو السعود: لعل تقديم الاستثناء على قوله: ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ للإيذان، من أول الأمر، بأن حكم النهي في هذه الصورة ليس على الإطلاق، كما في صورة السكر، تشويقا إلى البيان، وروما لزيادة تقرره في الأذهان، وقال أيضا: في الآية الكريمة إشارة إلى أن المصلي حقه أن يتحرز عما يليه ويشغل قلبه، وأن يزكي نفسه عما يدنسها، ولا يكتفي بأدنى مراتب التزكية، عند إمكان أعاليها.

7. أشعر قوله تعالى‏ ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ بالنهي عن الصلاة حال النعاس، كما روى الإمام أحمد والبخاريّ‏ والنسائيّ عن أنس قال قال رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف ولينم حتى يعلم ما يقول)، وفي رواية: فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه، وقد روى ابن جرير عن الضحاك في الآية قال: لم يعن بها سكر الخمر، وإنما عنى بها سكر النوم، قال ابن جرير: والصواب أن المراد سكر الشراب، قال الرازيّ: ويدل عليه وجهان:

أ. الأول: أن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر، والأصل في الكلام الحقيقة.

ب. الثاني: أن جميع المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر، وقد ثبت في أصول الفقه أن الآية إذا نزلت في واقعة معينة، ولأجل سبب معين، امتنع أن لا يكون ذلك السبب مرادا بتلك الآية.

8. قال الحافظ ابن كثير: قد يحتمل أن يكون المراد من الآية التعريض بالنهي عن السكر بالكلية، لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات، من الليل والنهار، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما وعلى هذا فيكون كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام، والمداومة على الطاعة لأجل ذلك.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/117.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا جُنُبًا﴾ عطف فيه قوله ولا جنبا على قوله وأنتم سكارى والمعنى لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا فجملة وأنتم سكارى حالية فهي في حيز النصب وفرق عبد القاهر في دلائل الإعجاز بين الحال المفردة والجملة الحالية فمعنى جاء زيد راكبا أن الركوب كان وصفا له حال المجيء فهو تابع للمجيء مقدر بقدره ومعنى جاء وهو راكب أن الركوب وصف ثابت في نفسه وقد جاء هو في حال تلبسه به، وقد تكون الجملة الحالية غير وصف لذي الحال كقولك جاء والشمس طالعة وقد يتقدم مضمونها فعل ذي الحال الذي جعلت قيدا له وقد يتأخر عنه وأما الحال المفردة فيعتبر فيها مقارنة فعل ذي الحال ولهذا قال بعض فقهاء الشافعية من قال لله علي أن أعتكف صائما وجب عليه أن يصوم لأجل الاعتكاف ولا يجزئه أن يعتكف في رمضان، ومن قال لله علي أن أعتكف وأنا صائم لا يلزمه صوم لأجل الاعتكاف بل يجزئه أن يعتكف في رمضان لأن مضمون الجملة الحالية لا يشترط أن يكون مقارنا لفعل ذي الحال كما يشترط ذلك في الحال المفردة.

2. هذا وإني لا أذكر أني رأيت للمفسرين بيانا لنكتة اختلاف الحالين في هذه الآية فلم لم يقل لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا أو لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ولا وأنتم جنب أو يجعل الأولى مفردة والثانية جملة، هل يقع هذا الاختلاف في تعبير القرآن اتفاقا أو لمجرد التفنن في العبارة؟ كلا إن النكتة ظاهرة لا تخفى على من كانت اللغة ملكة له وقد تخفى عمن تكون صناعة عنده لا يفهم دقائق نكتها إلا عند تذكر القواعد الصناعية التي تدل عليها وتدبرها، ومن كانت له الملكة والصناعة قد يفهم المراد في الجملة ويغفل عن إيضاحها بالقواعد الصناعية:

أ. إن التعبير بجملة ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ يتضمن النهي عن السكر الذي يخشى أن يمتد إلى وقت الصلاة فيفضي إلى أدائها في أثنائه فالمعنى احذروا أن يكون السكر وصفا لكم عند حضور الصلاة فتصلوا وأنتم سكارى فامتثال هذا النهي إنما يكون بترك السكر في وقت الصلاة بل وفيما يقرب من وقتها، وليس المعنى لا تصلوا حال كونكم سكارى، وعلى هذا لا يرد الاعتراض الذي أورده محمد عبده وأجاب عنه بثلاثة أجوبة وإنما كان يرد لو قال تعالى لا تقربوا الصلاة سكارى، أو يقال في دفعه هذا، والجواب الأول من تلك الأجوبة في معنى هذا ولكنه ليس مأخوذا من منطوق الآية ومدلول الجملة الحالية وإنما فهمنا منه أنه مأخوذ من توقف الامتثال على اجتناب السكر قبل الصلاة وصرح بأنه من باب الاحتياط.

ب. أما نهيهم عن الصلاة جنبا فلا يتضمن نهيهم عن الجنابة قبل الصلاة ولهذا لم يقل وأنتم جنب، فيا لله العجب من دقة عبارة القرآن الحكيم وبلاغتها واشتمالها على المعاني الكثيرة باختلاف التعبير فقد دلت الآية باختلاف الحالين على أن الشارع يريد صرف الناس عن السكر وتربيتهم على تركه بالتدريج لما فيه من الإثم والضرر ولا يريد صرفهم عن الجنابة لأنها من سنن الفطرة وإنما ينهاهم عن الصلاة في أثنائها حتى يغتسلوا فهذا النهي تمهيد لفرض الطهارة من الجنابة وكونها شرطا للصلاة وذلك النهي تمهيد لتحريم الخمر ألبتة في سياق إيجاب الفهم والتدبر لما في الصلاة من الأذكار والتلاوة.

3. الجنب قال محمد عبده يعرفه كل أحد، يعني من قراء العربية، لأنه مستعمل الآن عند الخاصة والعامة في المعنى الذي جاء به القرآن، ولكنه لم يذكر ما هي صيغته وما معنى أصل مادته، وقد استعملت العرب هذا اللفظ استعمال المصادر في الوصفية فقالوا هو جنب وهي جنب وهما جنب وهم جنب وثناه وجمعه بعضهم فقالوا جنبان وأجناب وجنوب، وقال أبو البقاء: هو مشتق من المجانبة بمعنى المباعدة، وليس بظاهر، وقد قالوا جانبه بمعنى سار إلى جنبه ومنه الصاحب بالجنب لرفيق السفر والأصل فيه أنه يركب بجانب رفيقه في الشقدف على البعير فيكون إشارة إلى المضاجعة التي هي أعم أسباب الجنابة، وعندي أن الجار الجنب هو من كان بيته بجانب بيتك وفاتني ذكرها في موضعه.

4. ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ أي لا تقربوا الصلاة جنبا في حال من الأحوال إلا حال كونكم عابري سبيل أي مجتازي طريق، وقيل إن (إلا) هنا صفة بمعنى غير، ولم يلتفت صاحب هذا القول إلى ما اشترطه ابن الحاجب لذلك من تعذر الاستثناء، ومن قال إن المراد بالصلاة هنا حقيقتها فسر عابر السبيل هنا بالمسافر ومن قال إن المراد بالصلاة مواضعها أي المساجد فسره بالمجتاز لحاجة قاله الأستاذ وغيره، وقد استدل الشافعية بالآية على جواز مرور الجنب في المسجد إذا كانت له حاجة وعلى تحريم المكث فيه عليه، وقد علمت أن الشافعي يجيز أن يراد بالصلاة هنا حقيقتها ومكانها معا وحينئذ يجعل استثناء العبور باعتبار المكان وإني لأستبعد التعبير عن السفر بعبور السبيل والسفر مذكور في الآية وفي غيرها من الآيات بلفظ السفر فالمتعين عندي في العبور ما قاله الشافعية وغيرهم من مفسري السلف وهو المرور بالمسجد لأنه من قرب الصلاة سواء أريد بها المكان وحده أم المكان والحقيقة معا أم الحقيقة وحدها لأن المكث في المسجد من مقدمات الصلاة فالمنع منه يدخل في النهي عن قرب الصلاة.

5. ويؤيد هذا ما هو معروف من كون بعض جيران المسجد النبوي كان لبيوتهم أبواب ومنافذ من المسجد فكانوا يعبرون منه إلى بيوتهم وكان كثير من فقراء الصحابة يقيمون في المسجد فلما نزلت الآية فهموا منها ولا بد أن إقامة الجنب في المسجد تعد من قرب الصلاة فلو لم يستثن عابري السبيل لكان على أولئك الجيران حرج في إلزامهم أن لا يخرجوا من بيوتهم قبل الاغتسال إذا كانوا جنبا، ولم يأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بسد تلك الأبواب والكوى إلا في آخر عمره الشريف.. بل ورد أن من أقام في المسجد ينتظر الصلاة فهو في صلاة.

6. ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ أي لا تقربوا الصلاة جنبا لا بأدائها ولا بالمكث في مكانها إلى أن تغتسلوا إلا ما رخص لكم فيه من عبور السبيل في المسجد، وحكمة الاغتسال من الجنابة كحكمة الوضوء وهي النظافة والطهارة كما سيأتي في آية الوضوء من سورة المائدة ولهاتين الطهارتين فوائد صحية وأدبية سنبينها هناك بالتفصيل إن شاء الله تعالى، والاغتسال عبارة عن إفاضة الماء على البدن كله ومن شأن الجنابة أن تحدث تهيجا في المجموع العصبي فيتأثر بها البدن كله ويعقبها فتور وضعف فيه يزيله الماء ولذلك جاء في الحديث الصحيح (إنما الماء من الماء) رواه مسلم.

7. وقد جهل هذا من اعترض على حكة التشريع وقال: لو كان الدين موافقا للعقل لما أوجب في الجنابة إلا غسل أعضاء التناسل، فأوجب الله تعالى فيما جعله غاية للنهي عن صلاة الجنب أن يتحرى الإنسان في صلاته النظافة والنشاط كما أوجب فيما جعله غاية للنهي عن صلاة السكران أن يتحرى فيها العلم والفهم وتدبر القرآن والذكر ويتوقف هذا على معرفة لغة القرآن فهي واجبة على كل مسلم كما تقدم، وهذا شيء من حكمة مشروعية الغسل.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/116.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ أي ولا تقربوا الصلاة جنبا في أي حال إلا حال كونكم عابرى سبيل: أي مجتازين الطريق، وقد روى‏ أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد وكان يصيبهم الجنابة ولا يحدون ممرّا إلا فيه فرخّص لهم في ذلك.

2. ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ أي لا تقربوا الصلاة جنبا إلى أن تغتسلوا، إلا ما رخص لكم فيه من عبور السبيل في المسجد، وحكمة الاغتسال من الجنابة أن الجنابة تحدث تهيجا في الأعصاب فيتأثر البدن كله ويحدث فتور وضعف فيه يزيله الاغتسال بالماء، ومن ثم‏ ورد في الحديث‏ (إنما الماء من الماء) رواه مسلم:

3. والخلاصة ـ إن الذين طلب الصلاة حال العلم والفهم وتدبر القرآن والذكر، وذلك يتوقف على الصحو وترك السكر، كما طلب أن يكون الجسم نظيفا نشيطا وذلك لا يكون إلا بإزالة الجنابة.

__________

(1) تفسير المراغى: 5/48.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ كما منعت الآية ـ الذين آمنوا ـ أن يقربوا الصلاة وهم سكارى ـ حتى يعلموا ما يقولون ـ كذلك منعتهم من الصلاة وهم جنب ـ إلا عابري سبيل ـ حتى يغتسلوا، وتختلف الأقوال في المقصود من‏ ﴿عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ كما تختلف في معنى قرب الصلاة المنهي عنه:

أ. فقول: إن المقصود هو عدم قرب المساجد، أو المكث فيها، لمن كان جنبا، حتى يغتسل، إلا أن يكون عابرا بالمسجد مجرد عبور، وقد كان جماعة من الصحابة أبواب بيوتهم تفتح في مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو طريقهم من وإلى هذه البيوت، فرخص لهم في المرور ـ وهم جنب ـ لا بالمكث في المسجد ـ ولا الصلاة بطبيعة الحال ـ إلا بعد الاغتسال.

ب. وقول: إن المقصود هو الصلاة ذاتها، والنهي عن أدائها للجنب ـ إلا بعد الاغتسال ـ ما لم يكن مسافرا، فيحل له عندئذ أن يقصد المسجد وأن يصلي ـ بلا اغتسال ـ ولكن بالتيمم، الذي يسد مسد الغسل ـ عندئذ ـ كما يسد مسد الوضوء.

القول الأول يبدو أظهر وأوجه، لأن الحالة الثانية ـ حالة السفر ـ ذكرت في الآية نفسها بعد ذلك، فتفسير عابري سبيل ـ بالمسافرين، ينشئ تكرارا للحكم في الآية الواحدة، لا ضرورة له:

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/669.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ هو عطف على قوله سبحانه: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ وهما ـ أي المتعاطفان ـ واقعان تحت حكم النهى في قوله تعالى‏ ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾ فكما لا يقرب شارب الخمر الصلاة حتى يفيق ويعلم ما يقول، كذلك لا يقرب الجنب الصلاة حتى يتطهر بالاغتسال..! أي لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها وأنتم جنب حتى تغتسلوا.

2. إن شأن الصلاة عظيم، وأمرها جليل، وإذ كان هذا شأنها وذلك أمرها، فإنه يجب ألا يدخل حماها، ولا يتلبّس بها إلّا من كان أهلا لأن يلقاها، وبأنس بها، ويتجاوب معها، ويستشعر جلال الله على سنا أضوائها.. والمخمور غير أهل لهذا اللقاء.. حتى يفيق ويتخلص خماره، ويعود إليه عازب عقله ويستردّ إنسانيته التي افتقدها مع سكرتهـ والجنب غير أهل هذا اللقاء أيضا.. حتى يغتسل ويتطهر، وينزع عنه بهذا الاغتسال ما تلبّس به من مشاعر الحيوانية، ليعود إنسانا، كما كان من قبل أن يتلبس بما تلبس به! والجنب، والجنابة: كناية عن مباشرة النساء.

3. ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ هو استثناء من الحكم الوارد على الجنب بألا يقرب الصّلاة حتى يغتسل.. فإن كان عابر سبيل، لا يجد ماء، فله حكم غير هذا الحكم، ستشير إليه الآية فيما بعد.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/799.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ عطف على جملة ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ لأنّا في محلّ الحال، وهذا النصب بعد العطف دليل بيّن على أنّ جملة الحال معتبرة في محلّ نصب، والجنب فعل، قيل: مصدر، وقيل: وصف مثل أجد، وقد تقدّم الكلام فيه آنفا عند قوله: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ [النساء: 36]، والمراد به المباعد للعبادة من الصلاة إذا قارف امرأته حتى يغتسل، ووصف جنب وصف بالمصدر فلذلك لم يجمع إذ أخبر به عن جمع، من قوله: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾

2. إطلاق الجنابة على هذا المعنى من عهد الجاهلية، فإنّ الاغتسال من الجنابة كان معروفا عندهم، ولعلّه من بقايا الحنيفية، أو ممّا أخذوه عن اليهود، فقد جاء الأمر بغسل الجنابة في (الاصحاح) 15 من سفر اللاويين من التوراة، وذكر ابن إسحاق ـ في (السيرة) ـ أنّ أبا سفيان، لما رجع مهزوما من بدر، حلف أن لا يمسّ رأسه غسل من جنابة حتّى يغزو محمّدا، ولم أقف على شيء من كلام العرب يدلّ على ذكر غسل الجنابة، والمعنى لا تصلّوا في حال الجنابة حتّى تغتسلوا إلخ.

3. المقصود من قوله: ﴿وَلَا جُنُبًا﴾ التمهيد للتخلّص إلى شرع التّيمّم، فإنّ حكم غسل الجنابة مقرّر من قبل، فذكره هنا إدماج، والتيمّم شرع في غزوة المريسيع على الصحيح، وكانت سنة ستّ أو سنة خمس على الأصحّ، وظاهر حديث مالك عن عائشة أنّ الآية التي نزلت في غزوة المريسيع هي آية التيمّم، فيظهر أن تكون هذه الآية التي في سورة النساء لأنّها لم يذكر منها إلّا التيمّم، ووقع في حديث عمرو عن عائشة أنّ الآية التي نزلت هي قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ التي في سورة المائدة، أخرجه البخاري وقد جزم القرطبي بأنّ الآية التي نزلت في غزوة المريسيع هي آية سورة النساء، قال لأنّ آية سورة المائدة تسمّى آية الوضوء، وكذلك الواحدي أورد في أسباب النزول حديث عائشة في سبب نزول آية سورة النساء، وقال ابن العربي (هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء لا نعلم أيّ الآيتين عنت عائشة)، وسورة المائدة قيل: نزلت قبل سورة النساء، وقيل بعدها، والخطب سهل، والأصحّ أنّ سورة النساء نزلت قبل سورة المائدة.

4. الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ استثناء من عموم الأحوال المستفاد من وقوع‏ ﴿جُنُبًا﴾، وهو حال نكرة، في سياق النفي، وعابر السبيل، في كلام العرب: المسافر حين سيره في سفره، مشتقّ من العبر وهو القطع والاجتياز، يقال: عبر النهر وعبر الطريق، ومن العلماء من فسّر ﴿عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ بمارّين في طريق، وقال: المراد منه طريق المسجد، بناء على تفسير الصلاة في قوله: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾ بالمسجد، وجعلوا الآية رخصة في مرور الجنب في المسجد إذا كان قصده المرور لا المكث، قاله الذين تأوّلوا الصلاة بالمسجد، ونسب أيضا إلى أنس بن مالك، وأبي عبيدة، وابن المسيّب، والضحّاك، وعطاء، ومجاهد، ومسروق، والنخعي، وزيد بن أسلم، وعمرو بن دينار، وعكرمة، وابن شهاب، وقتادة.

5. فائدة هذا الاستثناء ـ عند من فسّر ﴿تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾ بدخول المسجد، وفسّر ﴿عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ بالمارّين في المسجد ـ ظاهرة، وهو استثناء حقيقي من عموم أحوال الجنب باستثناء عابري السبيل، وعابر السبيل المأخوذ من الاستثناء مطلق، وهو عند أصحاب هذا المحمل باق على إطلاقه لا تقييد فيه، وأمّا عند الجمهور الذين حملوا الآية على ظاهرها في معنى تقربوا الصلاة، وفي معنى عابري السبيل فلا تظهر له فائدة، للاستغناء عنه بقوله بعده‏ ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ ولأنّ في عموم الحصر تخصيصا، فالذي يظهر لي أنّه إنّما قدّم هنا لأنّه غالب الأحوال التي تحول بين المرء وبين الاغتسال من جهة حاجة المسافر استبقاء الماء، ولندور عروض المرض، والاستثناء على محمل الجمهور يحتمل أن يكون متّصلا عند من يرى المتيمّم جنبا، ويرى التيمّم غير رافع للحدث، ولكنّه مبيح للصلاة للضرورة في الوقت، وهذا قول الشافعي، فهو عنده بدل ضروري يقدّر بقدر الضرورة، ودليله ظاهر الاستثناء، ويحتمل أن يكون منقطعا عند من يرى المتيمّم غير جنب، ويرى التيمّم رافعا للحدث حتّى ينتقض بناقض ويزول سببه، وهذا قول أبي حنيفة، فلذلك إذا تيمّم الجنب وصلّى وصار منه حدث ناقض للوضوء يتوضّألأنّ تيمّمه بدل عن الغسل مطلقا، وهذا هو الظاهر بحسب المعنى وليس في السنّة ما يقتضي خلافه، وعن مالك في ذلك قولان: فالمشهور من رواية ابن القاسم أنّ التيمّم مبيح للصلاة وليس رافعا للحدث، فلذلك لا يصلّي المتيمّم به إلّا فرضا واحدا، ولو تيمّم لجنابة لعذر يمنع من الغسل وانتقض وضوءه تيمّم عن الوضوء، وعن مالك، في رواية البغداديين: أنّ المريض الذي لا يقدر على مسّ الماء يتيمّم ويصلّي أكثر من صلاة، حتّى ينتقض تيمّمه بناقض الوضوء، وكذلك فيمن ذكر فوائت يصلّيها بتيمّم واحد، فعلى هذا ليس تجديد التيمّم لغيرهما إلّا لأنّه لا يدري لعلّه يجد الماء فكانت نيّة التيمّم غير جازمة في بقائه، ولم ينقل عن مالك قول بأنّ المتيمّم للجنابة بعذر مانع من الغسل إذا انتقض وضوءه يتوضأ.

6. وفي مفهوم هذا الاستثناء، عند القائلين بالمفاهيم من الجمهور، على هذا المحمل تفصيل، فعابر السبيل مطلق قيده قوله: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ وبقي عموم قوله: ﴿وَلَا جُنُبًا﴾ في غير عابر السبيل، لأنّ العامّ المخصوص يبقى عامّا فيما عدا ما خصّص، فخصّصه الشرط تخصيصا ثانيا في قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾، ثم إن كان قد تقرّر عند المسلمين أنّ الصلاة تقع بدون طهارة يبق قوله: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ مجملا لأنّهم يترقّبون بيان الحكم في قربان الصلاة على غير طهارة للمسافر، فيكون في قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ بيان لهذا الإجمال، وإن كان ذلك لم يخطر ببالهم فلا إجمال، ويكون قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ استئنافا لأحكام التيمّم.

7. وتقديم المستثنى في قوله: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ قبل تمام الكلام المقصود قصره‏ بقوله: ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ للاهتمام وهو جار على استعمال قليل، كقول موسى بن جابر الحنفي ـ أموي ـ:

çلا أشتهي يا قوم إلّا كارها... باب الأمير ولا دفاع الحاجب‏é

8. وقوله: ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ غاية للنهي عن الصلاة إذا كانوا جنبا، فهو تشريع للغسل من الجنابة وإيجاب له، لأنّ وجوب الصلاة لا يسقط بحال، فلمّا نهوا عن اقترابها بدون الغسل علم من ذلك فرض الغسل.

9. والحكمة في مشروعية الغسل النظافة، ونيط ذلك بأداء الصلاة ليكون المصلّي في حالة كمال الجسد، كما كان حينئذ في حال كمال الباطن بالمناجاة والخضوع، ومن أبدع الحكم الشرعية أنّها لم تنط وجوب التنظّف بحال الوسخ لأنّ مقدار الحال من الوسخ الذي يستدعي الاغتسال والتنظف ممّا تختلف فيه مدارك البشر في عوائدهم وأحوالهم، فنيط وجوب الغسل بحالة لا تنفكّ عن القوة البشرية في مدّة متعارف أعمار البشر، وهي حالة دفع فواضل القوة البشرية، وحيث كان بين تلك الحالة وبين شدّة القوّة تناسب تامّ، إذ بمقدار القوة تندفع فضلاتها، وكان أيضا بين شدّة القوة وبين ظهور الفضلات على ظاهر البدن المعبّر عنها بالوسخ تناسب تامّ، كان نوط الاغتسال بالجنابة إناطة بوصف ظاهر منضبط فجعل هو العلّة أو السبب، وكان مع ذلك محصّلا للمناسبة المقتضية للتشريع، وهي إزالة الأوساخ عند بلوغها مقدارا يناسب أن يزال مع جعل ذلك مرتبطا بأعظم عبادة وهي الصلاة، فصارت الطهارة عبادة كذلك، وكذلك القول في مشروعية الوضوء، على أنّ في الاغتسال من الجنابة حكمة أخرى، وهي تجديد نشاط المجموع العصبي الذي يعتريه فتور باستفراغ القوة المأخوذة من زبد الدم، حسبما تفطّن لذلك الأطباء فقضيت بهذا الانضباط حكم عظيمة.

10. دلّ إسناد الاغتسال إلى الذوات في قوله: ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ على أنّ الاغتسال هو إحاطة البدن بالماء، وهذا متّفق عليه، واختلف في وجوب الدلك أي إمرار اليد على أجزاء البدن: فشرطه مالك بناء على أنّه المعروف من معنى الغسل في (لسان العرب)، ولأنّ الوضوء لا يجزئ بدون ذلك باتّفاق، فكذلك الغسل، وقال جمهور العلماء: يجزئ في الغسل إحاطة البدن بالماء بالصبّ أو الانغماس؛ واحتجّوا بحديث ميمونة وعائشة في غسل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه أفاض الماء على جسده، ولا حجّة فيه لأنّهما لم تذكرا أنّه لم يتدلّك، ولكنّهما سكتتا عنه، فيجوز أن يكون سكوتهما لعلمهما بأنّه المتبادر، وهذا أيضا رواية عن مالك رواها عنه أبو الفرج، ومروان‏ بن محمد الطاطري، وهي ضعيفة.

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/135.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ والجنب هو من أتى النساء ولم يغتسل، وتكون المرأة أيضا جنبا، وهو يستعمل وصفا، وأصله مصدر، ولذلك يطلق على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، ولفظ جنب هنا المراد به الجمع، وهو عطف على الحال، وهو: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، والمعنى: النهى عن قرب الصلاة جنبا، كالنهى عن قرب الصلاة (وهم سكارى)، وإذا كان النهى في الأول مؤداه الأمر بتجنب السكر وقت الصلاة، فكذلك الأمر هنا مؤداه تجنب ما يكون سببا للجنابة وقت الصلاة.

2. ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾، قال بعضهم: إنه المسافر، لأن المسافر يعبر الطريق ولا يتوقف بل يسير، وقد استبعد الأستاذ الشيخ محمد عبده أن يعبر عن المسافر بـ (عابر سبيل) بل التعبير القرآني الشائع هو كلمة (على سفر)، وقالوا إن تفسير عابر السبيل بالمسافر هو على منهاج من يفسر ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾ بقربها هي وأما من قال إن المراد من قرب الصلاة قرب موضعها، المتضمن النهى عنها، فإنه يكون معنى عابر السبيل الذي يمر من المسجد لحاجة، فإن الجنب محرم عليه دخول المسجد إلا أن يكون عابر طريق فيه لحاجة، ولا يمكنه الوصول إلى حاجته إلا إذا مر من المسجد، وقد مر أن النهى عن قرب مكان الصلاة وهو جنب نهى ضمنى عن الصلاة ذاتها، ولذا أشرنا باختياره، ولقد روى أن عائشة قالت: (جاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: (وجهوا هذه البيوت عن المسجد)، فقبل توجيه البيوت كان بعض الذين بيوتهم تجاور المسجد لا ينفذون إلى الطريق إلا منه، وبعض فقراء الصحابة كانوا يقيمون في المسجد، ولهذا استثنى عابر السبيل منه لحاجته، لكيلا يكون على المؤمن حرج.

3. ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ بيان لغاية المنع بالنسبة للجنب، فكما أن المنع بالنسبة لمن هو في حال سكر هو أن يعلم ما يقول، فكذلك النهى لمن هو في حال جنابة نهايته هو الاغتسال، والاغتسال تعميم الجسم كله بالماء، وإن الاغتسال بعد الجنابة طهارة حسية، ونفسية، وتعويض بدنى، وإنعاش للأعصاب بعد أن أنهكت أو أجهدت، وإن الطهارة النفسية بالاغتسال لما في الاغتسال والاستعداد به للصلاة من تذكر لله تعالى وقت أن استحكمت الشهوة وتحكمت ونفذت، فتخلص نفسه من المادية التي كانت فيها وسيطرت عليها، وإذا تذكر الله طلب الولد والنسل والذرية الطيبة من زوجه الطاهرة، وأما الإنعاش للأعصاب، والتعويض البدنى، فإن هذين الأمرين يؤيدهما الحس والتجربة، ولا ينكرهما الطب.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1693.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾، قيل: المراد بعابري سبيل المسافرون، وان المعنى لا تقربوا الصلاة سكارى، ولا جنبا الا في حال السفر، ويلاحظ بأن الآية قد تعرضت لحكم المسافرين، حيث جاء فيها ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾، فإن فسرنا عابري سبيل بالمسافرين يلزم التكرار في كلام واحد بلا موجب، ثانيا: جاء في بعض الأحاديث تفسير ﴿عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ بالمرور في المسجد، وانه يحرم على الجنب أن يدخل المسجد الا عابرا، ما عدا المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، حيث لا يجوز للجنب أن يدخلهما إطلاقا، ولو عابرا.

2. قال أصحاب المذاهب الأربعة: متى عمّ الماء جميع البدن تحقق غسل الجنابة من غير فرق بين الابتداء من أعلى أو من أسفل البدن، وقسّم الإمامية غسل الجنابة الى نوعين: ترتيب وارتماس، والترتيب عندهم أن يصب المغتسل الماء على جسمه صبا، وأوجبوا في هذه الحال الابتداء بالرأس، ثم بالجنب الأيمن، ثم بالأيسر، فلو قدم المؤخر، أو اخّر المقدم بطل الغسل، أما الارتماس فهو غمس تمام الجسم تحت الماء دفعة واحدة، كالغسل في البحر والنهر وما اليهما.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/333.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ أي ولا تقربوا الصلاة جُنُباً ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ وقد قلنا: من معنى قرب الصلاة: الإستعدادُ لها، فالإستثناء هذا محمولٌ على حال الإستعداد لها والذهاب للتطهر، فالمعنى: إلا عابري سبيل توصُّلاً إلى الصلاة، وتقرباً إليها بالعبور لفعل شرطها، ولما كان دخول المسجد هو من مقدمات الصلاة تناوله قرب الصلاة، وكانت لهم بيوت موجهة أبوابها إلى المسجد، فكانوا يحتاجون المرور من المسجد، فربما توهَّموا أن ذلك منهيٌ عنه فقال: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ ليرخص لهم في المرور إلى خارج المسجد ليتطهروا، وتوجيه الأبواب إلى المسجد قد نسخ بسد الأبواب إلا باب علي عليه السلام، فما بقي ضرورة للعبور من المسجد، ولكن يبقى الحكم لحال الضرورة كمن احتلم في المسجد، وحديث (سد الأبواب إلا باب علي عليه السلام) له أسانيد عديدة، أوردها ابن حجر في (القول المسدد) وصحح بعض أسانيده، وصحح الحديث، ومن ألفاظه قولُ ابن عباس في أثناء حديث: (وسد أبواب المسجد غير باب علي، فكان يدخل المسجد وهو جنب وهو طريقه ليس له طريق غيره)

2. ويؤخذ من الآية وجوب تقديم الغسل على الوضوء، وعلى الأذان والإقامة، وقد فسر قوله تعالى: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ بالمسافر عادم الماء.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/81.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

جاء في أسباب النزول حول قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾، بإسناده عن عائشة أنها قالت‏: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأتى أناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبالناس معه وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: أجلست رسول الله والناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء، قالت: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، فجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلّا مكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على فخذي، فنام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله تعالى آية التيمم، فتيمّموا، فقال أسيد بن حضير، وهو أحد النقباء، ما هي بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر، قالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العقد تحته‏، ونلاحظ ـ على هذه الرواية ـ أنها واردة لتأكيد بركة آل أبي بكر في أمر لا علاقة لهم به، حيث إن المناسبة المذكورة لم تكن هي الأساس لنزول آية التيمم، بل هي موضوعها، مع ملاحظة أنّ القصة تتحدث عن أن الإقامة في المكان للبحث عن العقد كان بمبادرة من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا بضغط من‏ عائشة، فكيف يلوم المسلمون عائشة على ما لا دخل لها فيه لينقلوا إلى أبيها شكواهم منها ثم كيف يحبس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نفسه والناس ليفتش عن عقد في الوقت الذي يفقدون فيه الطهارة المائية من غير ضرورة، مع ملاحظة أن الآية تمثل وحدة في كل التفاصيل الشرعية، مما يوحي بأنها واردة في تشريع تلك الأحكام لا في الحديث عن التيمم وحده بشكل خاص.

1. في الجانب الثاني المتصل بالطهارة؛ نهى الله عن الصلاة في حال الجنابة، وفرض على الجنب الاغتسال، لأن الطهارة من الحدث الأكبر شرط في صحة الصلاة، فإذا اغتسل الجنب، أمكنه أن يبدأ الصلاة، لأن الجنابة قد تحدث في نفس الإنسان بعض الظلمة الروحية، أو بعض الشعور بالقذارة بلحاظ المني الذي يخرج منه من الموضع الذي يخرج منه البول، فكان تشريع الغسل كشرط للصلاة وأمثالها، من حيث الإيحاء بأجواء الطهارة التي يريد الله للإنسان أن يعيشها أمام الله عندما يريد أن يرتفع بروحه إليه، فيكون في طهارة بدنية تنسجم مع الحالة الروحية العميقة التي يعمل على الوصول‏ الصلاة متكاسلا ولا متناعسا ولا متثاقلا؛ فإنها من خلال النفاق، وقد نهى الله عز وجل المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى، يعني من النوم إليها من خلال الصلاة.

2. ثمّة ملاحظة وقعت مجالا للأخذ والرد، وهي كلمة ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾، فقد فسرها البعض بحالة السفر، والتزم المفسّر بأن للإنسان أن يصلي مع الجنابة بدون الاغتسال، ولكن المفسرين الآخرين عارضوها بأن هذا التعبير لا يستخدم غالبا في السفر؛ كما ان الصلاة مع الجنابة في حال السفر أو غيره قد تحدثت عنه الفقرة التالية، فلا معنى لأن يكون مقصودا من هذه الفقرة، لأنه تكرار لا معنى له؛ ولهذا فسّرها هؤلاء بعبور المسجد؛ فإنه لا يجوز للجنب أن يدخل المسجد إلا عابرا، وقد لوحظ على هذا التفسير بأن المسجد لم يذكر في الآية؛ وأجيب عن ذلك: بأن هذا مستوحى من الحديث عن الصلاة باعتبار أنها غالبا ما تكون في المسجد، فأمكن استيحاء المعنى من ذلك، والله العالم.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/280.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تستفاد من الآية الكريمة بطلان الصلاة في حال الجنابة الذي أشير إليه بعبارة ﴿وَلَا جُنُبًا﴾ ثمّ استثنى سبحانه من هذا الحكم بقوله: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ أي إذا فقدتم الماء في السفر جاز لكم أن تقيموا الصلاة (شريطة أن تتيمموا كما يجيء في ذيل الآية)، غير أن هناك تفسيرا آخر جاء لهذه الآية في الروايات والأخبار، هو أنّ المقصود من الصلاة في الآية هو محل الصلاة ـ أي المسجد ـ أي لا تدخلوا المساجد وأنتم على جنابة، ثمّ استثنى العبور في المسجد بقوله: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ يعني يجوز لكم العبور في المسجد وأنتم على جنابة وإن لم يجز لكم المكث واللبث فيه.

2. يستفاد من بعض الروايات أنّ جماعة من المسلمين، وصحابة النّبي كانوا قد بنوا بيوتهم حول المسجد النّبوي بحيث تفتح أبوابها في المسجد، فسمح لهم بأن يعبروا من المسجد وهم على جنابة دون أن يتوقفوا فيه، لكن لا بدّ أن ننتبه إلى أن هذا التّفسير يستلزم أن تكون لفظة الصلاة في الآية الكريمة قد أتت بمعنيين: أحدهما الصلاة نفسها، والآخر محل الصلاة، لوجود بيان حكمين مختلفين في الآية: أحدهما المنع والنهي عن الاقتراب إلى الصلاة في حالة السكر، والآخر الاجتناب عن دخول المساجد في حالة الجنابة (طبعا لا مانع ولا ضير في استعمال لفظة واحدة في معنيين أو أكثر كما قلنا في علم الأصول، ولكنّه خلاف الظاهر، وهو لا يجوز بدون قرينة، نعم يمكن أن تكون الروايات المذكورة قرينة على ذلك)

3. تستفاد من الآية الكريمة جواز الصلاة، أو عبور المسجد بعد الاغتسال، هو المبين بقوله: ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/246.

46. التيمم والأعذار المبيحة له

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈46⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [المائدة: 6]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾، المريض الذي قد أرخص له في التيمم هو الكسير، والجريح، فإذا أصابت الجنابة الكسير اغتسل، ولم يحل جبائره، والجريح لا يحل جراحته، إلا جراحة لا يخشى عليها(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾، اللمس: ما دون الجماع، والقبلة منه، وفيها الوضوء(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٩.

(2) عبد الرزاق في مصنفه ١/١٣٣.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: اللمس هو الجماع، ولكن الله كنى عنه(1).

2. روي أنّه قال: يعني: قوله: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾، تصيبه الجنابة، لا يجد الماء؛ يتيمم، فيصلي حتى يجد الماء(2).

3. روي أنّه قال: يتيمم لكل صلاة(3).

__________

(1) ابن أبي شيبة ١/١١٦.

(2) ابن أبي حاتم ٣/٩٦٢.

(3) ابن أبي شيبة ١/١٦٠.

عائشة:

روي عن عائشة (ت 57 هـ) أنّها قالت: هلكت قلادة لأسماء، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في طلبها، فحضرت الصلاة وليسوا على وضوء، ولم يجدوا ماء، فصلوا على غير وضوء، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فأنزل الله التيمم(1).

__________

(1) البخاري ٦/٤٦.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: رفعه، في قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾، إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله، أو القروح، أو الجدري، فيجنب، فيخاف إن اغتسل أن يموت؛ فليتيمم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾، المريض إذا خاف على نفسه تيمم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾، هو الرجل المجدور، أو به الجراح، أو القرح، يجنب، فيخاف إن اغتسل أن يموت؛ فيتيمم(3).

4. روي أنّه قال: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾، هو الجماع(4).

5. روي عن سعيد بن جبير، قال: كنا في حجرة ابن عباس، ومعنا عطاء بن أبي رباح، ونفر من الموالي، وعبيد بن عمير، ونفر من العرب، فتذاكرنا اللماس، فقلت أنا وعطاء والموالي: اللمس باليد، وقال عبيد بن عمير والعرب: هو الجماع، فدخلت على ابن عباس، فأخبرته، فقال: غلبت الموالي، وأصابت العرب، ثم قال إن اللمس والمس والمباشرة إلى الجماع ما هو، ولكن الله يكني بما شاء(5).

6. روي أنّ نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾، قال: أو جامعتم النساء، وهذيل تقول: اللمس باليد، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، قال أما سمعت لبيد بن ربيعة وهو يقول:

çيلمس الأحلاس في منزله... بيديه كاليهودي المصلé

وقال الأعشى(6):

çورادعة صفراء بالطيب عندنا... للمس الندامى من يد الدرع مفتقé

7. روي أنّه قال: إن أطيب الصعيد أرض الحرث(7).

8. روي أنّه قال: أنه سئل عن التيمم، فقال: إن الله قال في كتابه حين ذكر الوضوء: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة: ٦]، وقال في التيمم: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾، وقال: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: ٣٨]، فكانت السنة في القطع الكفين، إنما هو الوجه والكفان، يعني: التيمم(8).

9. روي أنّه قال: من السنة ألا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة، ثم يتيمم للأخرى(9).

__________

(1) الحاكم ١/١٦٥.

(2) ابن أبي حاتم ٣/٩٦٢.

(3) ابن أبي شيبة ١/١٠١.

(4) سعيد بن منصور (٦٤١.

(5) عبد الرزاق في مصنفه، وسعيد بن منصور ٦٤٠.

(6) الطستي ـ كما في مسائل نافع ابن الأزرق ص ١٩٧.

(7) ابن أبي شيبة ١/١٦١.

(8) الترمذي ١/١٨٢.

(9) الطبراني (١١٠٥٠.

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) أنّه قال: التيمم مسحتان: يضرب الرجل بيديه الأرض، يمسح بهما وجهه، ثم يضرب بهما مرة أخرى، فيمسح يديه إلى المرفقين(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٨٧.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال في المريض تصيبه الجنابة، فيخاف على نفسه: هو بمنزلة المسافر الذي لا يجد الماء، يتيمم(1).

__________

(1) ابن أبي شيبة ١/١٠١.

النخعي:

روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: نال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جراحة، ففشت فيهم، ثم ابتلوا بالجنابة، فشكوا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فنزلت: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ الآية كلها(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾، من القروح تكون في الذراعين(2).

3. روي أنّه قال: يتيمم لكل صلاة(3).

__________

(1) ابن جرير ٧/٧٥.

(2) ابن جرير ٧/٦٠.

(3) ابن جرير ٧/٩٥.

الشعبي:

روي عن الشعبي (ت 103 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في هذه الآية: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: ٦]، وفي هذه الآية: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ [المائدة: ٦] أمر أن يمسح في التيمم ما أمر أن يغسل في الوضوء، وأبطل ما أمر أن يمسح في الوضوء؛ الرأس، والرجلان(1).

2. روي عن ابن أبي خالد، قال: رأيت عامرا الشعبي وصف لنا التيمم: فضرب بيديه إلى الأرض ضربة، ثم نفضهما، ومسح وجهه، ثم ضرب أخرى، فجعل يلوي كفيه إحداهما على الأخرى، ولم يذكر أنه مسح الذراع(2).

3. روي أنّه قال: لا يصلى بالتيمم إلا صلاة واحدة(3).

__________

(1) عبد الرزاق ١/٢١٢.

(2) عبد الرزاق ١/٢١٣.

(3) ابن جرير ٧/٩٥.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾، نزلت في رجل من الأنصار كان مريضا، فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم يناوله، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذكر ذلك له؛ فأنزل الله هذه الآية(1).

2. روي أنّه قال: للمريض المجدور وشبهه رخصة في أن لا يتوضأ، وتلا: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾، ثم يقول: هي ما خفي من تأويل القرآن(2).

3. روي أنّه قال: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾، الغائط: الوادي(3).

__________

(1) ابن المنذر (١٨١٥.

(2) عبد الرزاق في مصنفه ١/٢٢٢.

(3) ابن جرير ٧/٦٣.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة للكفين(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٨٥.

سالم:

روي عن أيوب، قال سألت سالم بن عبد الله (ت 106 هـ) عن التيمم، فضرب بيديه على الأرض ضربة، فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه على الأرض ضربة أخرى، فمسح بهما يديه إلى المرفقين(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٨٩.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن التيمم، فقال: ضربة يمسح بها وجهه، ثم ضربة أخرى يمسح بها يديه إلى المرفقين(1).

2. روي عن ابن عون، قال سألت الحسن البصري عن التيمم، فضرب بيديه على الأرض، فمسح بهما وجهه، وضرب بيديه، فمسح بهما ذراعيه ظاهرهما وباطنهما(2).

3. روي أنّه قال: التيمم بمنزلة الوضوء(3).

4. روي أنّه قال: يصلي المتيمم بتيممه ما لم يحدث، فإن وجد الماء فليتوضأ(4).

5. روي أنّه قال: كان الرجل يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد، وكذلك المتيمم(4).

__________

(1) ابن جرير ٧/٨٩.

(2) ابن جرير ٧/٨٨.

(3) ابن جرير ٧/٩٥.

(4) ابن جرير ٧/٩٦.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنه قيل له: ما تقول في الرجل يتوضأ ثم يدعو الجارية، فتأخذ بيده حتى ينتهي إلى المسجد فإن من عندنا يزعمون أنها الملامسة؟ فقال: لا والله، ما بذلك بأس، وربما فعلته، وما يعني بهذا ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ إلا المواقعة دون الفرج(1).

2. روي أنّه سئل عن قوله: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ ما حد ذلك، فإن لم تجدوا بشراء أو بغير شراء، إن وجد قدر وضوئه بمائة ألف أو بألف وكم بلغ؟ قال: ذلك على قدر جدته(2).

3. روي أنّه سئل عن التيمم، فضرب بيديه على الأرض، ثم رفعهما فنفضهما، ثم مسح بهما جبهته وكفيه مرة واحدة(3).

__________

(1) التهذيب 1/22.

(2) تفسير العيّاشي 1/244.

(3) التهذيب 1/207.

مكحول:

روي عن مكحول الشامي (ت 116 هـ) أنه كان يقول: التيمم ضربة للوجه والكفين إلى الكوع، ويتأول مكحول القرآن في ذلك: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة: ٦]، وقوله في التيمم: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾، ولم يستثن فيه كما استثنى في الوضوء إلى المرافق، قال مكحول: قال الله: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: ٣٨]، فإنما تقطع يد السارق من مفصل الكوع(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٨٥.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: قلنا لسعيد بن جبير في قوله عز وجل: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾، قلت: ما رخصة المريض هاهنا؟ قال إذا كانت به قروح، أو جروح، أو كبر عليه الماء؛ يتيمم بالصعيد(1).

2. روي أنّه قال: ﴿صَعِيدًا طَيِّبًا﴾، قال الصعيد: الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾، فإن أعياك الماء، فلا يعيينك الصعيد أن تضع فيه كفيه، ثم تنفضهما، فتمسح بهما وجهك وكفيك، لا تعد ذلك بغسل الجنابة، ولا بوضوء صلاة، فمن تيمم الصعيد، فصلى، ثم قدر على الماء بعد ذلك؛ فعليه الغسل، وحسبه صلاته التي كان صلى، ومن كان معه ماءا يسيرا، فخشي الظمأ؛ فليتيمم بالصعيد، وليتبلغ بمائه الذي معه، وكان أهل العلم يأمرون بذلك(3).

4. روي أنّه قال: يتيمم لكل صلاة، ويتأول هذه الآية: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾(4).

__________

(1) سعيد بن منصور في سننه ٤/١٢٥٤.

(2) ابن جرير ٧/٨١.

(3) ابن المنذر ٢/٧٢٨.

(4) ابن جرير ٧/٩٥.

حماد:

روي عن حماد بن أبي سليمان (ت 120 هـ) أنّه قال: كل شيء وضعت يدك عليه فهو صعيد، حتى غبار يدك؛ فتيمم به(1).

__________

(1) ابن أبي شيبة ١/١٦١.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ والملامسة: الجماع(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ فالتّيمّم: التعمد.. والصّعيد: وجه الأرض.. والطّيب: النّظيف(1).

3. روي أنّه قال: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ فالغائط: الفتح من الأرض المتصوّب: أي المتحدر.. وأراد به الكناية عن حاجة ذي البطن(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 120.

الزهري:

روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: التيمم إلى الآباط(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٩٠.

عمرو:

روي عن عمرو بن قيس الملائي (ت 146 هـ) أنّه قال: الصعيد: التراب(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٨٢.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ملامسة النساء: الإيقاع بهن(1).

2. روي أنّه قال: اللمس: الجماع(2)

3. روي أنّه قال: هو الجماع، ولكن الله ستار يحب الستر، فلم يسم كما تسمون(2).

4. روي أنه قيل له: أتوضأ ثم أدعو الجارية فتمسك بيدي، فأقوم واصلي، أعلي وضوء؟ فقال: (لا)، قال: فإنهم يزعمون أنه اللمس؟ قال: لا والله، ما اللمس، إلا الوقاع، يعني الجماع، ثم قال: كان الإمام الباقر بعد ما كبر، يتوضأ، ثم يدعو الجارية فتأخذ بيده، فيقوم فيصلي(2).

5. روي أنّه قال: التيمم بالصعيد لمن لم يجد الماء كمن توضأ من غدير من ماء، أليس الله يقول: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ قيل له: فإن أصاب الماء وهو في آخر الوقت؟ قال: (قد مضت صلاته)، قيل له: فيصلي بالتيمم صلاة اخرى؟ قال: إذا رأى الماء وكان يقدر عليه انتقض التيمم(3).

6. روي أنّه سئل عن التيمم، قال: إن عمارا أصابته جنابة، فتمعك كما تتمعك الدابة، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يهزأبه: يا عمار، تمعكت كما تتمعك الدابة! فقلنا له: كيف التيمم؟ فوضع يديه على الأرض ثم رفعهما، فمسح وجهه ويديه فوق الكف قليلا(4).

__________

(1) التهذيب 7/461.

(2) تفسير العيّاشي 1/243.

(3) تفسير العيّاشي 1/244.

(4) التهذيب 1/207.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: قراءة، قال قلت لعطاء بن أبي رباح: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾، قال: أطيب ما حولك، قلت: مكان جرز غير بطح، أيجزئ عني؟ قال: نعم(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٨١.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾، نزلت في عبد الرحمن بن عوف، أصابته جنابة وهو جريح، فشق عليه الغسل، وخاف منه شرا، أو يكون به قرح أو جدري، فهو بهذه المنزلة، فذاك قوله سبحانه: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ يعني به: جرحا، فوجدتم الماء، فعليكم التيمم، وإن كنتم على سفر وأنتم أصحاء، نزلت في عائشة أم المؤمنين(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾، يعني به: جرحى، فوجدتم الماء، فعليكم التيمم، وإن كنتم على سفر وأنتم أصحاء(1).

3. روي أنّه قال: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾، يعني: الخلاء(2).

4. روي أنّه قال: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾، الصحيح الذي لا يجد الماء، والمريض الذي يجد الماء؛ [يتيمم](2).

5. روي أنّه قال: ﴿صَعِيدًا طَيِّبًا﴾، يعني: حلالا طيبا(2).

6. روي أنّه قال: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ إلى الكرسوع(3).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٧٤.

(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٧٥.

(3) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٧٥، والكرسوع: طَرَف رأس الزَّنْد ممّا يَلِي الخنْصَر.

الحكم:

روي عن الحكم بن أبان (ت 154 هـ) أنّه قال: ذكر سلمة بن وهرام صاحب طاووس: أن الله تبارك وتعالى إنما سمى نفسه العفو ليعفو، والغفور ليغفر(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٦٣.

الثوري:

روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾، تحروا، تعمدوا صعيدا طيبا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿صَعِيدًا طَيِّبًا﴾، حلالا لكم(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٨١.

(2) ابن أبي حاتم ٣/٩٦٣.

سعيد:

روي عن سعيد بن بشير (ت 168 هـ) أنّه قال في الآية: الطيب: ما أتت عليه الأمطار، وطهرته(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٦٣.

مالك:

روي عن مالك بن أنس (ت 179 هـ) أنّه سئل عن رجل جنب، أراد أن يتيمم، فلم يجد ترابا إلا تراب سبخة(1).. هل يتيمم بالسباخ؟ وهل تكره الصلاة في السباخ؟ قال مالك: لا بأس بالصلاة في السباخ، والتيمم منها؛ لأن الله ـ تبارك وتعالى ـ قال: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾، فكل ما كان صعيدا فهو يتيمم به، سباخا كان أو غيره(2).

__________

(1) السَبَخة: هي الأرضُ التي تعْلُوها المُلُوحة، ولا تكادُ تُنْبِت إلا بعضَ الشجَر، والسَّبَخَة أيضا ما يعلو الماءَ من طُحْلُب ونحوه.

(2) الموطأ ١/١٠٢.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال في الآية: المريض الذي لا يجد أحدا يأتيه بالماء، ولا يقدر عليه، وليس له خادم ولا عون، يتيمم ويصلي.. وقال: هذا كله قول أبي: إذا كان لا يستطيع أن يتناول الماء، وليس عنده من يأتيه به، لا يترك الصلاة، وهو أعذر من المسافر(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٦١.

الكاظم:

روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنّه سئل عن رجل احتاج إلى الوضوء للصلاة وهو لا يقدر على الماء، فوجد قدر ما يتوضأ به، بمائة درهم أو بألف درهم، وهو واجد لها يشتري ويتوضأ، أو يتيمم، فقال: لا، بل يشتري، قد أصابني مثل هذا فاشتريت وتوضأت، وما يشترى بذلك مال كثير(1).

__________

(1) التهذيب 1/406.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ الآية، أباح الله تعالى للمريض المقيم أن يتيمم، والآية ذكرت المرض عامّا، وأجمعوا أن المريض الذي لا يخاف أن يضر به الماء لا يتيمم، وإنما أجازوا أن يتيمم إذا خاف ضرر الماء إن هو توضأ به؛ فدل أن الله تعالى لما أباح للمريض التيمم لم يبح باسم المرض، ولكنه لمعنى في المرض؛ دليله ما ذكر أنه لم يبح لكل مريض، وإنما أبيح لمريض دون مريض، ولا يباح له التيمم في الأمصار، وإن كان اسم السفر موجودا؛ لعدم معنى السفر؛ فعلى ذلك إباحة التيمم للمريض إباحة لمعنى في المرض‏ كف من تراب ونحو هذا، فإذا ثبت أن المراد من المرض والسفر والغائط المعنى الذي فيه لا لعين المرض والسفر والغائط؛ لما ذكرنا؛ دل أن كل مريض يباح له التيمم، وإنما يباح لمريض دون مريض، وكذلك لم يبح لكل سفر وإنما يباح لسفر دون سفر، ومكان دون مكان، وهو المكان الذي يعدم الماء فيه ويفقد.

2. فعلى ذلك المراد من قوله: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ عين اللمس وهو الجماع، وكذلك روي عن ابن عباس قال الملامسة، والمباشرة، والإفضاء، والرفث، والجماع ـ نكاح‏، ولكن الله تعالى كنى، وعن الحسن‏، وعبيد بن عمير، وعطاء، قالوا: الملاسمة: الجماع.

3. سؤال وإشكال: فإن قيل: ما الحكمة في ذكر المرض والسفر والغائط والملامسة إذا كان المراد من ذكرها غيرها؟ والجواب: الحكمة في ذكرها هو أن المرض في أغلب أحواله يعجز المرء عن إصابة الماء، وكذلك السفر في أغلب أحواله يعجز صاحبه عن الماء، فخرج الذكر على‏ أغلب الأحوال، وكذلك من جاء من الغائط؛ الأغلب أنه إنما يجيء عن قضاء الحاجة؛ لأنهم كانوا لا يخرجون إلا لقضاء الحاجة، وكذلك الملامسة من الزوجين، الأغلب فيها قضاء الوطر والحاجة، فعلى الأغلب خرج الذكر وإن احتمل غيره، وهذا يدل على أن الاحتجاج بالظواهر والعموم بحق المخرج باطل؛ لما لا يجوز لأحد أن يحتج بظاهر هذه الآية أن يقول: على كل مريض، أو على كل مسافر إلا كذا.

4. ثم اللمس إن أريد به الجماع، فهو ممكن لوجهين:

أ. أحدهما: البلية بالقبلة، واللمس باليدين من الزوجين ظاهرا لا يحتمل ألّا يعرف به الرسول والأئمة من فعل العوام، فلو كان الوصف فيه لازما لا يحتمل ترك إظهار البيان حتى يلزم أكثر الأمة المنكر في فعل الصلاة

ب. الثاني: أن يكون الأمر بالمعروف في كل لمس ومس جرى الذكر به بين الذكور والإناث فهو بحق الكناية عن الجماع، وكذلك سائر الحروف المحتملة للكناية عنه؛ من نحو: المباشرة، والغشيان، ونحو ذلك، وبه قال كل من أجاز التيمم للجنب في حق الصلاة من الصحابة.

5. وإن أريد به غير الجماع مما قد يحتمل وجوها، فهو لا يجمع الكل، ولكن يرجع إلى خاص، وهو الذي في الغالب أن يكون ثم خروج وإن لم يكن، وهي المباشرة الفاحشة؛ دليله ذكر المرض والسفر على غير اقتران الحكم بنفسه؛ إذ هو اسمان لوجوه، فانصرفا إلى غاية ما له وقعت الرخصة من العجز والعدم، فمثله أمر الوضوء في الأول.

6. قوله عزّ وجل: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾:

أ. قيل: التيمم: القصد؛ يقال: تيممت الصعيد وأممته‏، لغتان‏.

ب. وقوله: ﴿فَتَيَمَّمُوا﴾: تعمدوا صعيدا طيبا.

7. إذا كان التيمم القصد والتعمد إلى الصعيد ـ لم يجز إلا بالنية؛ لأنه عزّ وجل أمر بالقصد إليه والتعمد، وذلك أمر بالنية؛ لأن القصد نية، وفي حرف حفصة وابن مسعود (فأموا صعيدا طيبا) أي: اقصدوا قصده.

8. والصعيد، قيل: هو وجه الأرض‏، وسمي: صعيدا؛ لما يصعد عليها، وقيل: الصعيد هو الأرض التي تنبت؛ ألا ترى أنه روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، إلّا السّبخة والمقبرة)، وقيل: إنها ملعونة؛ ولهذا قال‏ أبو يوسف: إن التيمم لا يجوز من الأرض السبخة؛ لأنها ليست‏ بطيب، والطيب ما ينبت، وأما أبو حنيفة فإنه قال الطيب: هو الطاهر الحلال، له أن يتيمم به إذا عدم الماء، الطيب: اسم ما حل في كل نوع؛ دليله أمر الوضوء أنه يغسل الذراعان وقت غسلهما بلا غسل كفين؛ إذ قد تقدم غسلهما، فالذراعان دخلتا في المسح بذكر اليد، وكذلك في الوضوء؛ لأن الكفين يغسلان قبل غسل الوجه، فالأمر بغسل اليد يقع على الذراعين وما وراء ذلك.

9. عن موسى بن عقبة، عن الأعرج‏، عن أبي الجهيم‏ قال: أقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من غائط أو بول، فسلمت عليه، فلم يردّ على السلام، فضرب باليد الحائط ضربة فمسح بها وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها يديه إلى المرفقين، ثم ردّ السلام‏، وهكذا يقول أصحابنا (2) بالضربتين: ضربة للوجه، وضربة للذراعين، والأصل: أنه إذا قال الله عزّ وجل في الوضوء: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾: أنه في وقت الأمر يفعل الغسل إلى المرافق غير مخاطب بغسل الكفين على حق غسل الذراع؛ إذ قد مضى غسل فرضها من قبل؛ فصارت الآية كأنها في غسل الذراع بالأمر بغسل اليد، وعرف بذلك غسل الكف لا بها، فمثله أمر التيمم؛ فصارت الآية كأنها في حق الذراع، ودخل الكف في ذلك بالخبر على أن أمر الطهارة فيما أضيفت إلى عضو أو بدن لم يحد لم يدخل كالمضاف إليه في الاشتراك بقضاء حقهما، نحو الجنابة، والوجه، والرأس، فكذلك أمر اليد في التيمم، لكن قصر عن التمام، بدلالة بيان السنة وعموم الفتيا، وما لا يشك في قضاء حكم الوضوء، وليس هو في بعض اليد فلا يجعل فيما ليس هو فيه بدله؛ إذ حقه التقصير عن كمال وظيفة الأصل، لا الزيادة عليه.

10. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا﴾ لما مضى من الذنوب‏ غَفُوراً لما يستقبل، والعفو: الصفح والمحو، والغفر: الستر، هو يعفو عنه، ويستر على صاحبه، أو يعفو من التجاوز؛ فيختلف اللفظ على إرادة معنى واحد.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/192.

(2) يقصد الحنفية

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ معنى قوله أو جاء أحد منكم من الغائط، هو المكان المستتر المنغاط، الذي لا يرى من دخله من الناس، وهذا تعريض يكفي من عقل عن ذكر الأفحاش.

2. ثم قال: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ يدل بذلك على وجوب الغسل على من لامس أنزل أو لم ينزل، كل ذلك لا بد فيه من الاغتسال، واجب فرض من الله على النساء والرجال، إلا أن السنة أتت عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه لا غسل على من قَبَّلَ أو ضَمَّ أو لمس أو شم، إلا أن يجري مني فيجب الغسل، أو مذي فيغسل موضعه فقط.

3. معنى قوله: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾، أي فاقصدوا تراباً طيباً، والتيمم فهو القصد في لغة العرب.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/242.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ والمرضى في هذا الموضع ما استضر فيه باستعمال الماء دون ما لم يستضر ويخشى منه التلف وزيادة في العلة ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ وهو أقل ما يطلق عليه اسم السفر وهو بريد فصاعداً ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ وهو الموضع المطمئن من الأرض كان الإنسان يأتيه لحاجته فكني عن الخارج مجازاً ثم كثر استعماله حتى صار كالحقيقة ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾، روينا عن أمير المؤمنين علي أن الملامسة المجامعة.

2. ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا﴾ أي تعمدوا الصعيد هو التراب المتصعد على وجه الأرض كذلك رويناه عن أمير المؤمنين علي قال ذو الرمة:

çكأنه الضحى يرمي الصعيد به... ديانه في عظام الرأس خرطومé

والطيب هو الحلال الطاهر.

3. ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ منه، والوجه الممسوح في التيمم هو المحدود في الغسل للوضوء ومسح اليدين مع المرفقين على حد غسلهما للوضوء، وكذلك الجنب يتيمم للصلاة إذا لم يجد الماء وهذه الآية في قوم من الصحابة أصابهم جراح وقيل إنها نزلت عند إعواز الماء في السفر.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/180.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: ما انطلق عليه اسم المرض من مستضرّ بالماء وغير مستضرّ، وهذا قول داود بن علي.

ب. الثاني: ما استضر فيه باستعمال الماء دون ما لم يستضر، وهذا قول مالك، وأحد قولي الشافعي.

ج. الثالث: ما خيف من استعمال الماء فيه التلف دون ما لم يخف، وهو القول الثاني من قولي الشافعي.

2. في قوله تعالى: ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: ما انطلق عليه اسم السفر من قليل وكثير، وهو قول داود.

ب. الثاني: مسافة يوم وليلة فصاعدا، وهو قول مالك، والشافعي رحمهما الله.

ج. الثالث: مسافة ثلاثة أيام، وهو مذهب أبي حنيفة.

3. ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ هو الموضع المطمئن من الأرض كان الإنسان يأتيه لحاجته، فكنى به عن الخارج مجازا، ثم كثر استعماله حتى صار كالحقيقة، والدليل على أن الغائط حقيقة في اسم المكان دون الخارج، قول الشاعر:

çأما أتاك عني الحديث‏...إذ أنا بالغائط أستغيث‏é

وصحت في الغائط يا خبيث‏

4. في قوله تعالى: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ قراءتان:

أ. إحداهما: لمستم بغير ألف، قرأ بها حمزة والكسائي.

ب. والأخرى: لا مستم، وهي قراءة الباقين.

5. في هذه الملامسة قولان:

أ. أحدهما: الجماع، وهو قول عليّ، وابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد.

ب. الثاني: أن الملامسة باليد والإفضاء ببعض الجسد، وهو قول ابن مسعود، وابن عمر، وعبيدة، والنخعي، والشعبي، وعطاء، وابن سيرين، وبه قال الشافعي.

6. في اختلاف القراءتين في لمستم أو لامستم قولان:

أ. أحدهما: أن‏ ﴿لَامَسْتُمُ﴾ أبلغ من (لمستم)

ب. الثاني: أن‏ ﴿لَامَسْتُمُ﴾ يقتضي وجوب الوضوء على اللامس والملموس، ولمستم يقتضي وجوبه على اللامس دون الملموس.

7. في قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه التعبد والتحري، وهو قول سفيان.

ب. الثاني: أنه القصد، وذكر أنها في قراءة ابن مسعود: فأتوا صعيدا طيبا.

8. في الصعيد أربعة أقاويل:

أ. أحدها: أنها الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غراس، وهو قول قتادة.

ب. الثاني: أنها الأرض المستوية، وهو قول ابن زيد.

ج. الثالث: هو التراب، وهو قول عليّ، وابن مسعود، والشافعي.

د. الرابع: أنه وجه الأرض ذات التراب والغبار، ومنه قول ذي الرّمة:

çكأنه بالضحى ترمي الصعيد به‏...دبّابة في عظام الرأس خرطوم‏é

9. في قوله تعالى: ﴿طَيِّبًا﴾ أربعة أقاويل:

أ. أحدها: حلالا، وهو قول سفيان.

ب. الثاني: طاهرا، وهو قول أبي جعفر الطبري.

ج. الثالث: تراب الحرث، وهو قول ابن عباس.

د. الرابع: أنه مكان حدر غير بطح، وهو قول ابن جريج.

10. ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾، فالوجه الممسوح في التيمم هو المحدود في غسل الوضوء، فأما مسح اليدين ففيه ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: الكفان إلى الزندين دون الذراعين، وهو قول عمار بن ياسر، ومكحول، وبه قال مالك في أحد قوليه، والشافعي في القديم.

ب. الثاني: الذراعان مع المرفقين، وهو قول ابن عمر، والحسن، والشعبي، وسالم بن عبد الله، والشافعي في الجديد.

ج. الثالث: إلى المنكبين والإبطين، وهو قول الزهري، وحكي نحوه عن أبي بكر.

11. اختلفوا في جواز التيمم في الجنابة على قولين:

أ. أحدهما: يجوز، وهو قول الجمهور.

ب. الثاني: لا يجوز وهو قول عمر، وابن مسعود، والنخعي.

12. اختلفوا في سبب نزول هذه الآية على قولين:

أ. أحدهما: نزلت في قوم من الصحابة أصابتهم جراح، وهذا قول النخعي.

ب. الثاني: أنها نزلت في إعواز الماء في السفر، وهو قول عائشة.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/491.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾:

أ. قيل: المرض الذي يجوز معه التيمم مرض الجراح، والكسير، وصاحب القروح، إذا خاف من مس الماء في قول ابن مسعود، والضحاك، والسدي، وابراهيم، ومجاهد، وقتادة،

ب. وقال الحسن، وابن جبير: هو المرض الذي لا يستطيع معه تناول الماء، ولا يكون هناك من يناوله، وكان الحسن لا يرخص للجريح التيمم.

ج. والمروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام جواز التيمم عند جميع ذلك.

2. ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ يعني الحدث المخصوص، وأصله المطمئن من الأرض، يقال: غائط وغيطان، والتغوط كناية عن الحدث في الغائط، والغوطة موضع كثير الماء والشجر بدمشق، وقوله: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ قد فسرناه، وعندنا (2) المراد به الجماع.

3. ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ فالتيمم التعمد، ومثله التأمم قال الأعشى:

çتيممت قيساً وكم دونه‏...من الأرض من مهمه ذي شزن‏é

يعني تعمدت، وقال سفيان: معنى تيمموا تعمدوا وتحروا، والصعيد وجه الأرض من غير نبات ولا شجر، في قول ابن زيد قال ذو الرمة:

çكأنه بالضحى ترمي الصعيد به‏...دبابة في عظام الراس خرطوم‏é

ومنه قوله: ﴿فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا﴾ فبين أن الصعيد قد يكون زلقا، والصعدات الطرقات، قال الزجاج: لا أعلم خلافا بين أهل اللغة بأن الصعيد وجه الأرض، سواء كان عليه تراب أو لم يكن، وهذا يدل عليه ما نقوله من أن التيمم يجوز بالحجارة سواء كان عليها تراب أو لم يكن.. وأصل الصعيد من الصعود، وهو ما تصعد على وجه الأرض من ترابها، والإصعاد في الماء بخلاف الانحدار، والصعود عقبة يشق صعودها، ومنه قوله: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾، وقيل: انه جبل في النار يؤخذ بصعوده، والصعدة هي القناة التي نبتت مستوية، لأنها تصعد في نباتها على استقامة، والصعداء تنفس بتوجع.

4. ﴿طَيِّبًا﴾ أي طاهراً، وقال سفيان: يعني حلالا.

5. ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ قيل في صفة التيمم ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، ذهب إليه ابن عمر، والحسن، والشعبي، والجبائي، وأكثر الفقهاء، وبه قال قوم من أصحابنا.

ب. الثاني: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الزندين، ذهب إليه عمار بن ياسر، ومكحول، واختاره الطبري، وهو مذهبنا، إذا كان التيمم بدلا من الجنابة، وان كان بدلا من الوضوء فيكفيه ضربة واحدة يمسح بها الوجه إلى طرف أنفه واليدين إلى الزندين.

ج. الثالث: قال أبو اليقظان، والزهري: انه إلى الإبطين، وقال قوم انه جائز أن يضرب بيديه على الرمل فيمسح بهما وجهه، وإن لم يعلق بهما شيء، وبه نقول.

6. يجوز للجنب أن يتيمم عندنا، وعند أكثر الفقهاء وأهل العلم، وبه قال عمار بن ياسر ورواه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وروي عن عمر، وابن مسعود، وابراهيم: أنه لا يجوز للجنب أن يتيمم، لقوله: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ وقد بينا نحن أن المراد بذلك النهي عن دخول المساجد، فكأنه قال ولا تقربوا المساجد للصلاة وأنتم سكارى‏ ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ لأن من لم يكن له طريق غير المسجد، أو أصابه الاحتلام في المسجد جاز له أن يجتاز فيه، ولا يلبث فيه، والسكران الذي زال عقله لا تصح صلاته، ويجب عليه قضاؤها، ولا يصح منه شيء من العقود ولا رفعها، كالنكاح، والطلاق، والعتق، والبيع، والشراء، وغير ذلك، وقضاء الصلاة يلزمه إجماعا، وأما ما يلزم به الحدود والقصاص فعندنا أن‏ جميع ذلك يلزمه، إن سرق قطع، وإن قذف جُلد، وإن زنا حد، وغير ذلك، لإجماع الفرقة المحققة على ذلك، ولعموم الآية المتناولة لذلك، ولا يلزم على ذلك تكليف من قطع رجل نفسه الصلاة قائماً، لأن ذلك تكليف ما لا يطاق، وإيجاب قضاء الصلاة على السكران ليس كذلك، وكذلك إقامة الحدود، لأن ذلك، تابع للشرع، وفيه خلاف.

7. يجوز أن يصلي صلوات الليل والنهار عندنا يتيمم واحد، وهو كالوضوء في هذا الباب، ما لم يحدث، أو يتمكن من استعمال الماء، وبه قال الحسن، وعطاء، وأبو حنيفة وأصحابه، وقال ابن عمر، والشعبي، وقتادة، وابراهيم، والشافعي‏ يجب التيمم لكل صلاة، ورووا ذلك عن علي عليه السلام، وذلك عندنا محمول على الاستحباب.

8. لا يجوز التيمم عندنا إلا عند تضيق الوقت، والخوف، من فوته، واختار ذلك البلخي، وقال الشافعي: لا يجوز إلا بعد دخول الوقت، وقال أبو حنيفة: يتيمم أي وقت شاء، وإن كان قبل الوقت فهو كالوضوء، ومسائل التيمم استوفيناها في المبسوط، والنهاية، ولا نطول بذكرها هاهنا.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾:

أ. قيل: أي يقبل منكم العفو، ويغفر لكم، لأن قبوله التيمم بدلا من الوضوء تسهيل علينا.

ب. وقيل: يعفو بمعني يصفح عنكم الذنوب، ويغفرها أي يسترها عليكم.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/208.

(2) يقصد الإمامية.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الغائط: المكان المطمئن من الأرض، ويقال: غائط وغيطان، والتغوط كناية عن الحدث في الغائط، والغوطة: موضع كثير الشجر والماء بدمشق، ثم كثر استعماله، حتى سمي الحدث غائط، قال محمد بن جرير: الغائط ما اتسع من الأودية، والفعل منه: غاط يَغُوط، مثل قعد يقعد، وتغوط: أتى الغائط.

ب. التيمم: القصد، قال الشاعر:

تيممت دارًا وَيمَّمْنَ دارا... وأبن فلا غرو أن أستطارا

وقال آخر:

وَمَا أَدْرِي إِذا يَممتُ أَرْضًا... أُرِيدُ الخَيْرَ أَيّهُما يَكونُ.

وقد صار في الشرع اسمًا لقصد مخصوص، وهو أن يقصد الصعيد ويستعمل التراب في أعضاء مخصوصة، وكذلك التأمم، والصعيد: أصله الصعود، وهو ما يصعد على وجه الأرض من ترابها من الإصعاد في الماء خلاف الانحدار، وقيل: الصعيد وجه الأرض.

2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. عن إبراهيم نزلت الآية في قوم من الصحابة أصابهم جراح.

ب. عن عائشة أنها نزلت في قوم من الصحابة أعوزهم الماء في السفر، وروي عنها قالت: كنت في سفر مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فحل عقدي، فأخرت به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأمر بالتماسه فلم يوجد، فأناخ رسول الله، وأناخ الناس، فباتوا ليلتهم تلك، فقال الناس: حبست عائشة الناس، وعاتبني أبو بكر، فلما أسفر الصبح لم يجد الناس الماء، فنزلت آية التيمم، ووجدنا العقد.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾:

أ. قيل: مرض الجريح والكسر وصاحب القرح إذا خاف من مس الماء عن ابن مسعود والضحاك والسدي وإبراهيم ومجاهد وقتادة.

ب. وقيل: مرضى لا يستطيعون تناول الماء ولم يكن ثَمَّ مَنْ يُناوله عن الحسن وابن زيد، وكان الحسن لا يرخص للجريح التيمم.

4. ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ يعني خارج المصر سواء كان السفر قليلاً أو كثيرًا إذا لم يجد الماء ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ﴾ يعني ﴿مِنَ الْغَائِطِ﴾:

أ. قيل: المكان المطمئن من الأرض.

ب. وقيل: الوادي عن مجاهد، وهو هاهنا كناية عن الحدث.

5. ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ﴾ ولمستم اختلف المفسرون في ذلك:

أ. فقيل: هما بمعنى الجماع عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وأبي علي، وروي عن علي نحوه، وروي أن العرب والموالي اختلفا فيه، فقالت العرب: المراد به الجماع، وقالت الموالي: المراد به مس المرأة، فارتفعت أصواتهم إلى ابن عباس فقال: غُلب الموالي، المراد به الجماع، والله كنى وسمى الجماع لمسًا؛ لأنه به يتوصل إلى الجماع، كما يسمى المطر سماء.

ب. وقيل: المراد به المس باليد وغيرها سواء جَاَمَع أو لم يجامع عن ابن مسعود وابن عمر والشعبي والنخعي وعطاء.

6. اختلف الصحابة في قوله تعالى: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ﴾ على قولين:

أ. منهم من حمل الآية على الجماع، وجوز للجنب التيمم.

ب. ومنهم من حمل الآية على اللمس باليد، ولم يجوز للجنب التيمم كعمر وابن مسعود، فمن حمله على المس باليد وجوز للجنب التيمم فقد خالف إجماعهم.

7. ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ يعني وجودًا يمكنه استعماله، ثم يكون ذلك لعدمه، ويكون لضرر يرجع إليه في نفسه أو ماله، بأن يباع بأكثر من ثمنه، يعني كثيرًا، ولعدم آلة ونحوها ﴿فَتَيَمَّمُوا﴾ قيل: تعمدوا وتحروا عن سفيان ﴿صَعِيدًا﴾:

أ. قيل: هو وجه الأرض من غير نبات ولا شجر عن ابن زيد.

ب. وقيل: الصعيد التراب عن أبي مسلم.

ج. وقيل: منبت دون السبخة التي لا تنبت كقوله: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾:

أ. قيل: ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين عن علي وجابر وابن عمر والحسن والشعبي وأبي علي، وهو قول أكثر الفقهاء أبي حنيفة والشافعي والثوري.

ب. وقيل: ضربة واحدة لهما عن سعيد بن المسيب والأوزاعي وإسحاق وأحمد.

ج. وقيل: ثلاث ضربات: ضربة للوجه، وضربة للكف، وضربة للذراعين عن ابن سيرين، واختلفوا فقيل: يمسح إلى المرفقين عن ابن عمر والحسن والشعبي وأكثر الفقهاء.

د. وقيل: إلى الزندين عن عمار ومكحول.

هـ. وقيل: إلى الإبطين عن الزهري.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾:

أ. قيل: يعفو عن سيئاتهم ويغفرها لهم، أي يستر عليهم ويترك معاجلتهم.

ب. وقيل: عَفُوٌّ: يسهل في وقت الضرورة، غفور لما يقع من التقصير.

10. تدل الآية الكريمة على:

أ. جواز التيمم للمريض والمسافر عند عدم الماء.

ب. أن للملامسة أثرا في انتقاض الطهارة.

ج. أن التيمم تخصيص الصعيد بعضوين.

د. الكلام في الملامسة.

بينا ما قيل: في الآية، ومنهم من حمله علي الجماع، ومنهم من حمله على المس باليد، الأول هو الأصح، وقد اختلفوا في المس باليد هل ينقض الوضوء أم لا على أقوال:

● أولها: إذا التقى بشرة الرجل والمرأة ينقض الوضوء يدًا كان أو غيره عن ابن مسعود والزهري وربيعة.

● ثانيها: اللمس باليد ينقض، وبغيره لا ينقض عن الأوزاعي.

● ثالثها: اللمس بالشهوة ينقض فقط عن مالك والليث وأحمد وإسحاق.

● رابعها: إن كانت مباشرة فاحشة نقضت كمس الفرج الفرج، وإن لم يكن كذلك لم ينقض عن أبي حنيفة وأبي يوسف.

● خامسها: أنه لا ينقض بحال عن ابن عباس والحسن وسفيان ومحمد بن الحسن وجماعة من الفقهاء.

● ومنها: الملامسة وراء الثوب، والأكثر على أنه لا ينقض الوضوء، ويحكى عن الليث وربيعة أنه ينقض، وعن مالك أنه إن كان رقيقًا ينقض.

هـ. الكلام في التيمم:

منها: من يجوز له التيمم.. فالمريض والمسافر، وقد بينا، فأما المسافر إذا خاف البرد ووجد الماء فإنه يتيمم، وفي المصر أيضًا عند أبي حنيفة، وقال صاحباه: لا يجوز، والمحبوس في المصر إذا لم يجد ماء تيمم.

ومنها: ما يجوز به التيمم.. قال أبو حنيفة: كل ما كان من جنس الأرض، وقال مالك: بالأرض وبما اتصل بها من الشجرة، وقال الأوزاعي والثوري: بالأرض وما عليها كالثلج والجمد، قال أبو يوسف: التراب والرمل، وبه قال الشافعي.

ومنها: صفة التيمم.. بينا أنه كم ضربة إلى أي موضع، وذكرنا الخلاف فيه، ولا خلاف أنه يعتبر النية فيه، وهل يشترط استعمال التراب عند أبي حنيفة ليس بشرط، وقال الشافعي: شرط، واختلفوا في الاستيعاب، وعن أبي حنيفة فيه روايتان، وللشافعي قولان.

ومنها: ما يتيمم لأجله.. اتفقوا أنه يجوز التيمم للصلاة إذا لم يجد الماء، ولا يجوز مع وجوده، واختلفوا في صلاة الجنازة والعيد، فعند مشايخنا يجوز مع وجود الماء؛ لأنه أوقات لا تقضى، وقال الشافعي: لا يجوز واختلفوا، فقال أبو حنيفة: يجوز قبل الوقت، وقال مالك والشافعي: لا يجوز.

ومنها: الصلاة بالتيمم.. فإذا تيمم يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والثوري، وقال الشافعي: يجب لكل صلاة، ويروى ذلك عن علي وابن عمر والشعبي وقتادة، وهل يجب طلب الماء، قال أبو حنيفة: لا، وقال الشافعي: نعم، وإن وجد ما يكفي لبعض أعضائه، قال أبو حنيفة: لا يتوضأ به ويتيمم، وقال الشافعي: يلزمه استعماله ثم يتيمم، واختلفوا فقيل: يجوز للمتيمم أن يؤم المتوضئين عن أبي حنيفة. وقيل: لا يجوز عن محمد.

ومنها: ما ينقض التيمم.. فكل حدث ينقض الوضوء ينقض التيمم، ورؤية الماء ينقض التيمم، فإن تيمم ثم وجد الماء فهو على أربعة أوجه: قبل الشروع في الصلاة يتوضأ ويصلي وينتقض تيممه بالاتفاق، وبعد الشروع فيها ينتقض عند أبي حنيفة خلافًا للشافعي، وبعد الخروج من الصلاة في الوقت لا يعيد عند الفقهاء، وقالت الزيدية: يعيد، وبعد الوقت لا يعيد بالاتفاق، وإذا كان المتيمم إمامًا وخلفه متوضئون فرأى واحدٌ الماءَ، قال أبو حنيفة: تبطل صلاته، وقال أبو يوسف: لا تبطل.

11. قراءات ووجوه:

أ. قرأ حمزة والكسائي (لَمَسْتُمُ) بغير ألف من اللمس، وقرأ الباقون ﴿لَامَسْتُمُ﴾ من الملامسة وهو الجماع، وعلى هذا الخلاف في سورة المائدة.

ب. ثم في الآية قراءات شاذة: منها: قراءة النخعي: (سكرى) والقراءة الظاهرة ﴿سُكَارَى﴾ بالألف وهما لغتان، وقرأ النخعي ﴿جُنُبًا﴾ بسكون النون، والقراءة الظاهرة برفعها وهما لغتان، وقرأ الزهري: من الغَيط) والظاهرة من الغائط بالألف وهما لغتان.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/637

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الغائط: أصله المطمئن من الأرض، يقال: غائط وغيطان، وكانوا يتبرزون هناك ليغيبوا عن عيون الناس، ثم كثر ذلك حتى قالوا للحدث غائط، وكنوا بالتغوط عن الحدث في الغائط، وقيل: إنهم كانوا يلقون النجو في هذا المكان، فسمي باسمه على سبيل المجاز، والغوطة: موضع كثير الماء والشجر بدمشق، وقال: مؤرج الغائط: قرارة من الأرض تحفها آكام تسترها، والفعل منه غاط يغوط، مثل عاد يعود.

ب. اللمس: يكون باليد، ثم اتسع فيه، فأوقع على غيره، وقالوا: التمس، وهو افتعل من اللمس، فأوقع على ما لا يقع عليه اللمس، قال:

çالعبد والهجين والفلنقس...ثلاثة فأيهم تلمسé

أراد: أيهم تطلب؟ وملتمس المعروف: طالبه، وليس هنا مماسة ولا مباشرة.

ج. التيمم: القصد، ومثله التأمم، قال الأعشى:

çتيممت قيسا وكم دونه...من الأرض من مهمه ذي شزنé

وقال آخر: (تيممت دارا ويممن دارا)، وقد صار في الشرع اسما لقصد مخصوص، وهو: أن يقصد الصعيد، ويستعمل التراب في أعضاء مخصوصة.

د. الصعيد: وجه الأرض من غير نبات، ولا شجر، وقال ذو الرمة: كأنه بالضحى ترمي الصعيد به...ذبابة في عظام الرأس خرطوم، وقال الزجاج: الصعيد ليس هو التراب، إنما هو وجه الأرض، ترابا كان أو غيره، وإنما سمي صعيدا، لأنه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾:

أ. قيل نزلت في رجل من الأنصار كان مريضا، ولم يستطع أن يقوم فيتوضأ، فالمرض الذي يجوز معه التيمم، مرض الجراح، والكسر، والقروح، إذا خاف أصحابها من مس الماء، عن ابن عباس، وابن مسعود، والسدي، والضحاك، ومجاهد، وقتادة.

ب. وقيل: هو المرض الذي لا يستطيع معه تناول الماء، ولا يكون هناك من يناوله، عن الحسن، وابن زيد، وكان الحسن لا يرخص للجريح التيمم.

ج. المروي عن السيدين الباقر والصادق عليه السلام، جواز التيمم في جميع ذلك.

3. ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ معناه: أو كنتم مسافرين، ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾، وهو كناية عن قضاء الحاجة، قيل: إن ﴿أَوْ﴾ ههنا بمعنى الواو كقوله سبحانه: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ بمعنى وجاء أحد منكم من الغائط، وذلك لأن المجئ من الغائط، ليس من جنس المرض والسفر، حتى يصح عطفه عليهما، فإنهما سبب لإباحة التيمم، والرخصة، والمجئ من الغائط، سبب لإيجاب الطهارة.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾:

أ. قيل: المراد به الجماع، عن علي عليه السلام، وابن عباس، ومجاهد، والسدي، وقتادة، واختاره أبو حنيفة، والجبائي.. وهو الصحيح، لان الله سبحانه بين حكم الجنب في حال وجود الماء بقوله: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾، ثم بين عند عدم الماء حكم المحدث بقوله: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾، فلا يجوز أن يدع بيان حكم الجنب عند عدم الماء، مع أنه جرى له ذكر في الآية، ويبين فيه حكم المحدث، ولم يجر له ذكر، فعلمنا أن المراد بقوله: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ﴾ الجماع، ليكون بيانا لحكم الجنب عند عدم الماء.

ب. وقيل: المراد به اللمس باليد وغيرها، عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، والشعبي، وعطا، واختاره الشافعي.

5. اللمس، والملامسة، معناهما واحد، لأنه لا يلمسها إلا وهي تلمسه، ويروى أن العرب والموالي اختلفوا فيه، فقالت الموالي: المراد به الجماع، وقال العرب: المراد به مس المرأة، فارتفعت أصواتهم إلى ابن عباس، فقال: غلب الموالي: المراد به الجماع، وسمي الجماع لمسا، لان به يتوصل إلى الجماع، كما يسمى المطر سماء.

6. ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ راجع إلى المرضى والمسافرين جميعا، أي مسافر لا يجد الماء، ومريض لا يجد من يوضؤه، أو يخاف الضرر من استعمال الماء، لان الأصل أن حال المرض يغلب فيها خوف الضرر من استعمال الماء، وحال السفر يغلب فيها عدم الماء.

7. ﴿فَتَيَمَّمُوا﴾ أي تعمدوا، وتحروا، واقصدوا ﴿صَعِيدًا﴾ قال الزجاج: لا أعلم خلافا بين أهل اللغة في أن الصعيد وجه الأرض، وهذا يوافق مذهب أصحابنا في أن التيمم يجوز بالحجر سواء كان عليه تراب، أو لم يكن.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿طَيِّبًا﴾:

أ. قيل: أي طاهرا.

ب. وقيل: حلالا، عن سفيان.

ج. وقيل: منبتا عن السبخة التي لا تنبت كقوله: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾

9. ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ هذا هو التيمم بالصعيد الطيب، واختلف في كيفية التيمم على أقوال:

أ. أحدها: إنه ضربة لليدين إلى المرفقين، وهو قول أكثر الفقهاء، وأبي حنيفة، والشافعي، وغيرهما، وبه قال قوم من أصحابنا (2).

ب. ثانيها: إنه ضربة للوجه، وضربة لليدين من الزندين، وإليه ذهب عمار بن ياسر، ومكحول، واختاره الطبري، وهو مذهبنا في التيمم، إذا كان بدلا من الجنابة، فإذا كان بدلا من الوضوء، كفاه ضربة واحدة، يمسح بها وجهه، من قصاص شعره، إلى طرف أنفه، ويديه من زنديه إلى أطراف أصابعهما، وهو المروي عن سعيد بن المسيب.

ج. ثالثها: إنه إلى الإبطين عن الزهري.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا﴾:

قيل: يقبل منكم العفو، لان في قبوله التيمم بدلا من الوضوء، تسهيل الامر علينا.

وقيل: عفوا كثير الصفح والتجاوز.

11. ﴿غَفُورًا﴾ كثير الستر لذنوب عباده.

12. قرأ أهل الكوفة غير عاصم: (أو لمستم) بغير ﴿أَلْفِ﴾ ههنا، وفي المائدة، وقرأ الباقون ﴿لَامَسْتُمُ﴾ بألف.. من قرأ (لمستم): إن هذا المعنى، جاء في التنزيل على فعلتم، في غير موضع، قال تعالى ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ﴾، ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾، وحجة من قرأ ﴿لَامَسْتُمُ﴾ إن فاعل قد جاء في معنى فعل، نحو عاقبت اللص، وطارقت النعل.

13. ﴿عَلَى سَفَرٍ﴾ في موضع نصب، عطفا على قوله: ﴿مَرْضَى﴾، وتقديره أو مسافرين.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/82.

(2) يقصد الإمامية.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن رجلا من الأنصار كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضّأ، ولم يكن له خادم، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذكر له ذلك، فنزلت: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ قاله مجاهد.

ب. الثاني: أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أصابتهم جراحات، ففشت فيهم وابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزلت‏ ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ الآية كلّها، قاله إبراهيم النّخعيّ.

2. قال القاضي أبو يعلى: وظاهر الآية يقتضي جواز التّيمم مع حصول المرض الذي يستضرّ معه باستعمال الماء، سواء كان يخاف التّلف، أو لا يخاف، وكذلك السّفر يجوز فيه التّيمم عند عدم الماء، سواء كان قصيرا، أو طويلا، وعدم الماء ليس بشرط في جواز التّيمم للمريض، وإنما الشّرط: حصول الضّرر، وأما السّفر، فعدم الماء شرط في إباحة التّيمم، وليس السّفر بشرط، وإنما ذكر السّفر، لأن الماء يعدم فيه غالبا.

3. ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ (أو) بمعنى الواو، لأنها لو لم تكن كذلك، لكان وجوب الطّهارة على المريض والمسافر غير متعلّق بالحدث، والغائط: المكان المطمئنّ من الأرض، فكنّى عن الحدث بمكانه، قاله ابن قتيبة، وكذلك قالوا للمزادة: راوية، وإنما الراوية للبعير الذي يسقى عليه، وقالوا للنّساء: ظعائن، وإنما الظّعائن: الهوادج، وكنّ يكنّ فيها، وسمّوا الحدث عذرة، لأنهم كانوا يلقون الحدث بأفنية الدّور.

4. ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: (أو لامستم) بألف هاهنا، وفي (المائدة) وقرأ حمزة، والكسائيّ، وخلف في اختياره، والمفضّل عن عاصم، والوليد بن عتبة، عن ابن عامر (أو لمستم) بغير ألف هاهنا، وفي (المائدة)

5. في المراد بالملامسة قولان:

أ. أحدهما: أنها الجماع، قاله عليّ، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة.

ب. الثاني: أنها الملامسة باليد، قاله ابن مسعود، وابن عمر، والشّعبيّ، وعبيدة، وعطاء، وابن سيرين، والنّخعيّ، والنّهديّ، والحكم، وحمّاد، قال أبو عليّ: اللّمس يكون باليد، وقد اتّسع فيه، فأوقع على غيره، فمن ذلك‏ ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ﴾ أي: عالجنا غيب السماء، ومنا من يسترقه فيلقيه إلى الكهنة، ويخبرهم به، فلما كان اللّمس يقع على غير المباشرة باليد، قال: ﴿فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ فخصّ اليد، لئلّا يلتبس بالوجه الآخر، كما قال: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ لأنّ الابن قد يتبنّى وليس من الصّلب‏.

6. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾:

أ. روي أن عائشة كانت مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في بعض أسفاره، فانقطع عقد لها، فأقام النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على التماسه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فنزلت هذه الآية، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر، أخرجه البخاريّ، ومسلم.

ب. وفي رواية أخرى أخرجها البخاريّ، ومسلم أيضا: أن عائشة استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رجالا في طلبها، فأدركتهم الصّلاة وليس معهم ماء، فصلّوا بغير وضوء، وشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزلت آية التّيمّم.

7. التّيمّم في اللغة: القصد، وقد ذكرناه في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ﴾، وأمّا الصعيد: فهو التراب، قاله عليّ، وابن مسعود، والفرّاء، وأبو عبيد، والزجّاج، وابن قتيبة، وقال الشّافعيّ: لا يقع اسم الصّعيد إلّا على تراب ذي غبار، وفي الطّيّب قولان:

أ. أحدهما: أنه الطّاهر.

ب. الثاني: الحلال.

8. فيما يجب مسحه من الأيدي ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه إلى الكوعين حيث يقطع السّارق، روى عمّار عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: التّيمّم ضربة للوجه والكفّين)، وبهذا قال سعيد بن المسيّب، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة، والأوزاعيّ، ومكحول، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وداود.

ب. الثاني: أنه إلى المرفقين، روى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنه تيمّم، فمسح ذراعيه، وبهذا قال ابن عمر، وابنه سالم، والحسن، وأبو حنيفة، والشّافعيّ، وعن الشّعبيّ كالقولين.

ج. الثالث: أنه يجب المسح من رؤوس الأنامل إلى الآباط، روى عمّار بن ياسر قال كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في سفر، فنزلت الرّخصة في المسح، فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا، وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط، وهذا قول الزّهريّ‏.

9. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا﴾ قال الخطّابيّ: (العفوّ): بناء للمبالغة، و(العفو): الصّفح عن الذنوب، وترك مجازاة المسيء، وقيل: إنه مأخوذ من عفت الريح الأثر: إذا درسته، وكأن العافي عن الذنوب يمحوه بصفحه عنه.

__________

(1) زاد المسير: 1/411.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر الله تعالى هاهنا أصنافا أربعة: المرضى، والمسافرين، والذين جاؤوا من الغائط، والذين لا مسوا النساء:

أ. فالقسمان الأولان: يلجئان إلى التيمم، وهما المرض والسفر.

ب. والقسمان الأخيران: يوجبان التطهر بالماء عند وجود الماء، وبالتيمم عند عدم الماء.

2. السبب الأول: وهو المرض، على ثلاثة أقسام:

أ. أحدها: أن يكون بحيث لو استعمل الماء لمات، كما في الجدري الشديد والقروح العظيمة.

ب. ثانيها: أن لا يموت باستعمال الماء ولكنه يجد الآلام العظيمة.

ج. ثالثها: أن لا يخاف الموت والآلام الشديدة، لكنه يخاف بقاء شين أو عيب على البدن.

3. جوز الفقهاء التيمم في القسمين الأولين، وما جوزوه في القسم الثالث وزعم الحسن البصري أنه لا يجوز التيمم في الكل إلا عند عدم الماء، بدليل أنه شرط جواز التيمم للمريض بعدم وجدان الماء، بدليل أنه قال في آخر الآية: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ وإذا كان هذا الشرط معتبرا في جواز التيمم، فعند فقدان هذا الشرط وجب أن لا يجوز التيمم، وهو أيضا قول ابن عباس، وكان يقول: لو شاء الله لابتلاه بأشد من ذلك، ودليل الفقهاء أنه تعالى جوز التيمم للمريض إذا لم يجد الماء، وليس فيه دلالة على منعه من التيمم عند وجوده، ثم قد دلت السنة على‏ جوازه، ويؤيده ما روي عن بعض الصحابة أنه أصابته جنابة وكان به جراحة عظيمة، فسأل بعضهم فأمره بالاغتسال، فلما اغتسل مات، فسمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: قتلوه قتلهم الله، فدل ذلك على جواز ما ذكرناه.

4. السبب الثاني: السفر: والآية تدل على أن المسافر إذا لم يجد الماء تيمم، طال سفره أو قصر لهذه الآية.

5. السبب الثالث: قوله: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ والغائط المكان المطمئن من الأرض وجمعه الغيطان، وكان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطا من الأرض يحجبه عن أعين الناس، ثم سمي الحدث بهذا الاسم تسمية للشيء باسم مكانه.

6. السبب الرابع: قوله: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾، واختلف المفسرون في اللمس المذكور هاهنا على قولين:

أ. أحدهما: أن المراد به الجماع، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وقول أبي حنيفة، لأن اللمس باليد لا ينقض الطهارة.. واحتج من قال المراد باللمس الجماع، بأن لفظ اللمس والمس وردا في القرآن بمعنى الجماع، قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ [البقرة: 237]، وقال في آية الظهار: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ [المجادلة: 3]،وعن ابن عباس أنه قال إن الله حيي كريم يعف ويكني، فعبر عن المباشرة بالملامسة، وأيضا الحدث نوعان: الأصغر، وهو المراد بقوله: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ فلو حملنا قوله: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ على الحدث الأصغر لما بقي للحدث الأكبر ذكر في الآية، فوجب حمله على الحدث الأكبر، وكل ما ذكروه عدول عن ظاهر اللفظ بغير دليل، فوجب أن لا يجوز، وأيضا فحكم الجنابة تقدم في قوله: ﴿وَلَا جُنُبًا﴾ فلو حملنا هذه الآية على الجنابة لزم التكرار.

ب. الثاني: أن المراد باللمس هاهنا التقاء البشرتين، سواء كان بجماع أو غيره وهو قول ابن مسعود وابن عمر والشعبي والنخعي وقول الشافعي، وهذا القول أرجح من الأول، وذلك لأن إحدى القراءتين هي قوله تعالى: (أو لمستم النساء) واللمس حقيقته المس باليد، فأما تخصيصه بالجماع فذاك مجاز، والأصل حمل الكلام على حقيقته، وأما القراءة الثانية وهي قوله: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ﴾ فهو مفاعلة من اللمس، وذلك ليس حقيقة في الجماع أيضا، بل يجب حمله على حقيقته أيضا، لئلا يقع التناقض بين المفهوم من القراءتين المتواترتين.

7. قال أهل الظاهر: إنما ينتقض وضوء اللامس لظاهر قوله: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ أما الملموس فلا، وقال الشافعي: بل ينتقض وضوءهما معا.

8. لما ذكر الله تعالى هذه الأسباب الأربعة قال: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾:

أ. قال الشافعي: إذا دخل وقت الصلاة فطلب الماء ولم يجده وتيمم وصلى، ثم دخل وقت الصلاة الثانية وجب عليه الطلب مرة أخرى، وحجة الشافعي قوله: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ وعدم الوجدان مشعر بسبق الطلب، فلا بد في كل مرة من سبق الطلب.

ب. وقال أبو حنيفة لا يجب.

9. سؤال وإشكال: قولنا: وجد، لا يشعر بسبق الطلب، بدليل قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى: 7، 8]، وقوله: ﴿وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ﴾ [الأعراف: 102]، وقوله: ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ فان الطلب على الله محال، والجواب: الطلب وإن كان في حقه تعالى محالا، إلا أنه لما أخرج محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم من بين قومه بما لم يكن لائقا لقومه صار ذلك كأنه طلبه، ولما أمر المكلفين بالطاعات ثم إنهم قصروا فيها صار كأنه طلب شيئا ثم لم يجده، فخرجت هذه اللفظة في هذه الآيات على سبيل التأويل من الوجه الذي ذكرناه.

10. أجمعوا على أنه لو وجد الماء لكنه يحتاج إليه لعطشه أو عطش حيوان محترم جاز له التيمم، أما إذا وجد من الماء ما لا يكفيه للوضوء، فهل يجب عليه أن يجمع بين استعمال ذلك القدر من الماء وبين التيمم؟ قد أوجبه الشافعي، متمسكا بظاهر لفظ الآية.

11. ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ التيمم في اللغة عبارة عن القصد، يقال: أممته وتيممته وتأممته، أي قصدته وأما الصعيد فهو فعيل بمعنى الصاعد، قال الزجاج: الصعيد وجه الأرض، ترابا كان أو غيره.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾:

أ. قال أبو حنيفة: لو فرضنا صخرا لا تراب عليه فضرب المتيمم يده عليه ومسح كان ذلك كافيا.. واحتج بظاهر هذه الآية فقال: التيمم هو القصد، والصعيد هو ما تصاعد من الأرض، فقوله: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ أي اقصدوا أرضا، فوجب أن يكون هذا القدر كافيا.

ب. وقال الشافعي: بل لا بد من تراب يلتصق بيده.. واحتج بوجهين:

الأول: أن هذه الآية هاهنا مطلقة، ولكنها في سورة المائدة مقيدة، وهي قوله سبحانه: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ [المائدة: 6] وكلمة (من) للتبعيض، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه، فان قيل: إن كلمة (من) لابتداء الغاية، قال الزمخشري: لا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب: إلا معنى التبعيض، ثم قال والإذعان للحق أحق من المراء.

الثاني: ما ذكره الواحدي، وهو أنه تعالى أوجب في هذه الآية كون الصعيد طيبا، والأرض الطيبة هي التي تنبت بدليل قوله: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ [الأعراف: 58] فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة، فكان قوله: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ أمرا بالتيمم بالتراب فقط، وظاهر الأمر للوجوب، أن قوله: ﴿صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ أمر بإيقاع التيمم بالصعيد الطيب، والصعيد الطيب هو الأرض التي لا سبخة فيها، ولا شك أن التيمم بهذا التراب جائز بالإجماع، فوجب حمل الصعيد الطيب عليه رعاية لقاعدة الاحتياط، لا سيما وقد خصص النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم التراب بهذه الصفة، فقال: (جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا)، وقال (التراب طهور المسلم إذا لم يجد الماء)

13. قوله تعالى: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ محمول عند كثير من المفسرين على الوجه واليدين إلى الكوعين، وعند أكثر الفقهاء يجب مسح اليدين إلى المرفقين، وحجتهم أن اسم اليد يتناول جملة هذا العضو إلى الإبطين، إلا أنا أخرجنا المرفقين منه بدلالة الإجماع، فبقي اللفظ متناولا للباقي.

14. ختم تعالى‏الآية بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ وهو كناية عن الترخيص، والتيسير، لأن من كان من عادته أنه يعفو عن المذنبين، فبأن يرخص للعاجزين كان أولى.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 10/89.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه آية التيمم، نزلت في عبد الرحمن بن عوف أصابته جنابة وهو جريح، فرخص له في أن يتيمم، ثم صارت الآية عامة في جميع الناس، وقيل: نزلت بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة المريسيع حين انقطع العقد لعائشة.

2. ﴿مَرْضَى﴾ المرض عبارة عن خروج البدن عن حد الاعتدال والاعتياد، إلى الاعوجاج والشذوذ، وهو على ضربين: كثير ويسير:

أ. فإذا كان كثيرا بحيث يخاف الموت لبرد الماء، أو للعلة التي به، أو يخاف فوت بعض الأعضاء، فهذا يتيمم بإجماع، إلا ما روي عن الحسن وعطاء أنه يتطهر وإن مات، وهذا مردود بقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾، وروى الدارقطني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ قال: إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله أو القروح أو الجدري فيجنب فيخاف أن يموت إن اغتسل، تيمم، وعن سعيد بن جبير أيضا عن ابن عباس قال: رخص للمريض في التيمم بالصعيد، وتيمم عمرو بن العاص لما خاف أن يهلك من شدة البرد ولم يأمره صلّى الله عليه وآله وسلّم بغسل ولا إعادة.

ب. فإن كان يسيرا إلا أنه يخاف معه حدوث علة أو زيادتها أو بطء برء فهؤلاء يتيممون بإجماع من المذهب، قال ابن عطية: فيما حفظت، قلت: قد ذكر الباجي فيه خلافا، قال القاضي أبو الحسن: مثل أن يخاف الصحيح نزلة أو حمى، وكذلك إن كان المريض يخاف زيادة مرض، وبنحو ذلك قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: لا يجوز له التيمم مع وجود الماء إلا أن يخاف التلف، ورواه القاضي أبو الحسن عن مالك، قال ابن العربي: قال الشافعي لا يباح التيمم للمريض إلا إذا خاف التلف، لأن زيادة المرض غير متحققة، لأنها قد تكون وقد لا تكون، ولا يجوز ترك الفرض المتيقن للخوف المشكوك، قلنا: قد ناقضت، فإنك قلت إذا خاف التلف من البر تيمم، فكما يبيح التيمم خوف التلف كذلك، يبيحه خوف المرض، لأن المرض محذور كما أن التلف محذور، قال: وعجبا للشافعي يقول: لو زاد الماء على قدر قيمته حبة لم يلزمه شراؤه صيانة للمال ويلزمه التيمم، وهو يخاف على بدنه المرض! وليس لهم عليه كلام يساوي سماعه، قلت: الصحيح من قول الشافعي فيما قال القشيري أبو نصر عبد الرحيم في تفسيره: والمرض الذي يباح له التيمم هو الذي يخاف فيه فوت الروح أو فوات بعض الأعضاء لو استعمل الماء، فإن خاف طول المرض فالقول الصحيح للشافعي: جواز التيمم، روى أبو داوود والدارقطني، عن يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن ابن جبير، عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال يا عمرو: صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ فضحك نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يقل شيئا، فدل هذا الحديث على إباحة التيمم مع الخوف لا مع اليقين، وفيه إطلاق اسم الجنب على المتيمم وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين، وهذا أحد القولين عندنا، وهو الصحيح وهو الذي أقرأه مالك في موطئة وقرى عليه إلى أن مات، والقول الثاني: أنه لا يصلي، لأنه أنقص فضيلة من المتوضئ، وحكم الإمام أن يكون أعلى رتبة، وقد روى الدارقطني من حديث جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يؤم المتيمم المتوضئين) إسناده ضعيف، وروى أبو داوود والدارقطني عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أخبر بذلك فقال: قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال وإنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب ـ شك موسى ـ على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده، قال الدارقطني: قال أبو بكر هذه سنة تفرد بها أهل مكة وحملها أهل الجزيرة، ولم يروه عن عطاء عن جابر غير الزبير بن خريق، وليس بالقوي، وخالفه الأوزاعي فرواه عن عطاء عن ابن عباس.

3. ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ يجوز التيمم بسبب السفر طال أو قصر عند عدم الماء، ولا يشترط أن يكون مما تقصر فيه الصلاة، هذا مذهب مالك وجمهور العلماء، وقال قوم: لا يتيمم إلا في سفر تقصر فيه الصلاة، واشترط آخرون أن يكون سفر طاعة، وهذا كله ضعيف.

4. أجمع العلماء على جواز التيمم في السفر حسبما ذكرنا، واختلفوا فيه في الحضر، فذهب مالك وأصحابه إلى أن التيمم في الحضر والسفر جائز، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وقال الشافعي: لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف، وهو قول الطبري، وقال الشافعي أيضا والليث والطبري: إذا عدم الماء في الحضر مع خوف الوقت الصحيح والسقيم تيمم وصلى ثم أعاد، وقال أبو يوسف وزفر: لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوف الوقت وقال الحسن وعطاء: لا يتيمم المريض إذا وجد الماء، لا غير المريض، وسبب الخلاف اختلافهم في مفهوم الآية، فقال مالك ومن تابعه: ذكر الله تعالى المرضى والمسافرين في شرط التيمم خرج على الأغلب فيمن لا يجد الماء، والحاضرون الأغلب عليهم وجوده فلذلك لم ينص عليهم، فكل من لم يجد الماء أو منعه منه مانع أو خاف فوات وقت الصلاة، تيمم المسافر بالنص، والحاضر بالمعنى، وكذلك المريض بالنص والصحيح بالمعنى، وأما من منعه في الحضر فقال: إن الله تعالى جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر، كالفطر وقصر الصلاة، ولم يبح التيمم إلا بشرطين، وهما المرض والسفر، فلا دخول للحاضر الصحيح في ذلك لخروجه من شرط الله تعالى، وأما قول الحسن وعطاء الذي منعه جملة مع وجود الماء فقال: إنما شرطه الله تعالى مع عدم الماء، لقوله تعالى: فلم تجدوا ماء فتيمموا فلم يبح التيمم لأحد إلا عند فقد الماء، وقال أبو عمر: ولولا قول الجمهور وما روي من الأثر لكان قول الحسن وعطاء صحيحا، والله أعلم، وقد أجاز رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم التيمم لعمرو بن العاص وهو مسافر إذ خاف الهلاك إن اغتسل بالماء، فالمريض أحرى بذلك، قلت: ومن الدليل على جواز التيمم في الحضر إذا خاف فوات الصلاة إن ذهب إلى الماء الكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله سبحانه: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ يعني المقيم إذا عدم الماء تيمم، نص عليه القشيري عبد الرحيم قال: ثم يقطع النظر في وجوب القضاء، لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر وفي القضاء قولان: قلت: وهكذا نص أصحابنا فيمن تيمم في الحضر، فهل يعيد إذا وجد الماء أم لا، المشهور من مذهب مالك أنه لا يعيد وهو الصحيح.

5. ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ الغائط أصله ما انخفض من الأرض، والجمع الغيطان أو الأغواط، وبه سمي غوطة دمشق، وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء حاجتها تسترا عن أعين الناس، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطا للمقارنة، وغاط في الأرض يغوط إذا غاب، وقرأ الزهري: (من الغيط) فيحتمل أن يكون أصله الغيط فخفف، كهين وميت وشبهه، ويحتمل أن يكون من الغوط، بدلالة قولهم تغوط إذا أتى الغائط، فقلبت واو الغوط ياء، كما قالوا في لا حول لا حيل.

6. ﴿أَوْ﴾ بمعنى الواو، أي إن كنتم مرضى أو على سفر وجاء أحد منكم من الغائط فتيمموا فالسبب الموجب للتيمم على هذا هو الحدث لا المرض والسفر، فدل على جواز التيمم في الحضر كما بيناه، والصحيح في ﴿أَوْ﴾ أنها على بابها عند أهل النظر، فلأو معناها، وللواو معناها، وهذا عندهم على الحذف، والمعنى وإن كنتم مرضى مرضا لا تقدرون فيه على مس الماء أو على سفر ولم تجدوا ماء واحتجتم إلى الماء، والله أعلم.

7. لفظ ﴿الْغَائِطِ﴾ يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى، وقد اختلف الناس في حصرها، وأنبل ما قيل في ذلك أنها ثلاثة أنواع، لا خلاف فيها في مذهبنا: زوال العقل، خارج معتاد، ملامسة، وعلى مذهب أبي حنيفة ما خرج من الجسد من النجاسات، ولا يراعى المخرج ولا يعد اللمس، وعلى مذهب الشافعي ومحمد ابن عبد الحكم ما خرج من السبيلين، ولا يراعى الاعتياد، ويعد اللمس، وإذا تقرر هذا فاعلم أن المسلمين أجمعوا على أن من زال عقله بإغماء أو جنون أو سكر فعليه الوضوء، واختلفوا في النوم هل حدث كسائر الا حداث؟ أو ليس بحدث أو مظنة حدث.

8. ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر ﴿لَامَسْتُمُ﴾، وقرأ حمزة والكسائي: (لمستم) وفي معناه ثلاثة أقوال: الأول: أن يكون لمستم جامعتم، الثاني: لمستم باشرتم، الثالث: يجمع الأمرين جميعا، و﴿لَامَسْتُمُ﴾ بمعناه عند أكثر الناس، إلا أنه حكي عن محمد بن يزيد أنه قال: الأولى في اللغة أن يكون ﴿لَامَسْتُمُ﴾ بمعنى قبلتم أو نظيره، لأن لكل واحد منهما فعلا، قال: (ولمستم) بمعنى غشيتم ومسستم، وليس للمرأة في هذا فعل، واختلف العلماء في حكم الآية على مذاهب خمسة:

أ. فقالت فرقة: الملامسة هنا مختصة باليد، والجنب لا ذكر له إلا مع الماء، فلم يدخل في المعنى المراد بقوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ الآية، فلا سبيل له إلى التيمم، وإنما يغتسل الجنب أو يدع الصلاة حتى يجد الماء، روي هذا القول عن عمر وابن مسعود، قال أبو عمر: ولم يقل بقول عمرو عبد الله في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي وحملة الآثار، وذلك والله أعلم لحديث عمار وعمر ان ابن حصين وحديث أبي ذر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في تيمم الجنب.

ب. وقال أبو حنيفة عكس هذا القول، فقال: الملامسة هنا مختصة باللمس الذي هو الجماع، فالجنب يتيمم واللامس بيده لم يجر له ذكر، فليس بحدث ولا هو ناقص لوضوئه، فإذا قبل الرجل امرأته للذة لم ينتقض وضوءه.

ج. وقال مالك: الملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم إذا التذ، فإذا لمسها بغير شهوة فلا وضوء، وبه قال أحمد وإسحاق، وهو مقتضى الآية.

د. وقال علي ابن زياد: وإن كان عليها ثوب كثيف فلا شي عليه، وإن كان خفيفا فعليه الوضوء.

هـ. وقال عبد الملك بن الماجشون: من تعمد مس امرأته بيده لملاعبة فليتوضأ التذ أو لم يلتذ، قال القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى: والذي تحقق من مذهب مالك وأصحابه أن الوضوء إنما يجب لقصده اللذة دون وجودها، فمن قصد اللذة بلمسه فقد وجب عليه الوضوء، التذ بذلك أو لم يلتذ، وهذا معنى ما في العتبية من رواية عيسى عن ابن القاسم، وأما الإنعاظ بمجرده فقد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يوجب وضوءا ولا غسل ذكر حتى يكون معه لمس أو مذي، وقال الشيخ أبو إسحاق: من أنعظ إنعاظا انتقض وضوءه، وهذا قول مالك في المدونة، وقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد تعلق نقض الطهر به، وهو قول ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة، وقال الأوزاعي: إذا كان اللمس باليد نقض الطهر، وإن كان بغير اليد لم ينقضه، لقوله تعالى: ﴿فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾

9. فهذه خمسة مذاهب أسدها مذهب مالك، وهو مروي عن عمر وابنه عبد الله، وهو قول عبد الله بن مسعود أن الملامسة ما دون الجماع، وأن الوضوء يجب بذلك، وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء، قال ابن العربي: وهو الظاهر من معنى الآية، فإن قوله في أولها: ﴿وَلَا جُنُبًا﴾ أفاد الجماع، وإن قوله: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ أفاد الحدث، وإن قوله: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ﴾ أفاد اللمس والقبل، فصارت ثلاث جمل لثلاثة أحكام، وهذه غاية في العلم والإعلام، ولو كان المراد باللمس الجماع كان تكرارا في الكلام.

10. سؤال وإشكال: فإن قيل: الملامسة من باب المفاعلة، ولا تكون إلا من اثنين، واللمس باليد إنما يكون من واحد، فثبت أن الملامسة هي الجماع، والجواب: الملامسة مقتضاها التقاء البشرتين، سواء كان ذلك من واحد أو من اثنين، لأن كل واحد منهما يوصف لامس وملموس، جواب آخر ـ وهو أن الملامسة قد تكون من واحد، ولذلك نهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن بيع الملامسة، والثوب ملموس وليس بلامس، وقد قال ابن عمر مخبرا عن نفسه (وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام)، وتقول العرب: عاقبت اللص وطارقت النعل، وهو كثير.

11. سؤال وإشكال: فإن قيل: لما ذكر الله سبحانه سبب الحدث، وهو المجيء من الغائط ذكر سبب الجنابة وهو الملامسة، فبين حكم الحدث والجنابة عند عدم الماء، كما أفاد بيان حكمهما عند وجود الماء، والجواب: لا نمنع حمل اللفظ على الجماع واللمس، ويفيد الحكمين كما بينا، وقد قرئ (لمستم) كما ذكرنا، وأما ما ذهب إليه الشافعي من لمس الرجل المرأة ببعض أعضائه لا حائل بينه وبينها لشهوة أو لغير شهوة وجب عليه الوضوء فهو ظاهر القرآن أيضا، وكذلك إن لمسته هي وجب عليه الوضوء، إلا الشعر، فإنه لا وضوء لمن مس شعر امرأته لشهوة كان أو لغير شهوة، وكذلك السن والظفر، فإن ذلك مخالف للبشرة، ولو احتاط فتوضأ إذا مس شعرها كان حسنا، ولو مسها بيده أو مسته بيدها من فوق الثوب فالتذ بذلك أو لم يلتذ لم يكن عليهما شي حتى يفضي إلى البشرة، وسواء في ذلك كان متعمدا أو ساهيا، كانت المرأة حية أو ميتة إذا كانت أجنبية، واختلف قوله إذا لمس صبية صغيرة أو عجوزا كبيرة بيده أو واحدة من ذوات محارمه ممن لا يحل له نكاحها، فمرة قال: ينتقض الوضوء، لقوله تعالى: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ فلم يفرق، والثاني لا ينقض، لأنه لا مدخل للشهوة فيهن، قال المروزي: قول الشافعي أشبه بظاهر الكتاب، لأن الله تعالى قال: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ ولم يقل بشهوة ولا من غير شهوة، وكذلك الذين أوجبوا الوضوء من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يشترطوا الشهوة، قال: وكذلك عامة التابعين.

12. ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ الأسباب التي لا يجد المسافر معها الماء هي إما عدمه جملة أو عدم بعضه، وإما أن يخاف فوات الرفيق، أو على الرحل بسبب طلبه، أو يخاف لصوصا أو سباعا، أو فوات الوقت، أو عطشا على نفسه أو على غيره، وكذلك لطبيخ يطبخه لمصلحة بدنه، فإذا كان أحد هذه الأشياء تيمم وصلى، ويترتب عدمه للمريض بألا يجد من يناوله، أو يخاف من ضرره، ويترتب أيضا عدمه للصحيح الحاضر بالغلاء الذي يعم جميع الأصناف، أو بأن يسجن أو يربط، وقال الحسن: يشتري الرجل الماء بماله كله ويبقى عديما، وهذا ضعيف، لأن دين الله يسر، وقالت طائفة: يشتريه ما لم يزد على القيمة الثلث فصاعدا، وقالت طائفة: يشتري قيمة الدرهم بالدرهمين والثلاث ونحو هذا، وهذا كله في مذهب مالك، وقيل لأشهب: أتشترى القربة بعشرة دراهم؟ فقال: ما أرى ذلك على الناس، وقال الشافعي بعدم الزيادة.

13. اختلف العلماء هل طلب الماء شرط في صحة التيمم أم لا؟ فظاهر مذهب مالك أن ذلك شرط، وهو قول الشافعي، وذهب القاضي أبو محمد بن نصر إلى أن ذلك ليس بشرط في صحة التيمم، وهو قول أبي حنيفة، وروي عن ابن عمر أنه كان يكون في السفر على غلوتين من طريقه فلا يعدل إليه، قال إسحاق: لا يلزمه الطلب إلا في موضعه، وذكر حديث ابن عمر، والأول أصح وهو المشهور من مذهب مالك في الموطأ لقوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ وهذا يقتضي أن التيمم لا يستعمل إلا بعد طلب الماء، وأيضا من جهة القياس أن هذا بدل مأمور به عند العجز عن مبدله، فلا يجزئ فعله إلا مع تيقن عدم مبدله، كالصوم مع العتق في الكفارة.

14. إذا ثبت هذا وعدم الماء، فلا يخلو أن يغلب على ظن المكلف اليأس من وجوده في الوقت، أو يغلب على ظنه وجوده ويقوى رجاؤه له، أو يتساوى عنده الأمران، فهذه ثلاثة أحوال:

أ. الأول: يستحب له التيمم والصلاة في أول الوقت: لأنه إذا فاتته فضيلة الماء فإنه يستحب له أن يحرز فضيلة أول الوقت.

ب. الثاني: يتيمم وسط الوقت، حكاه أصحاب مالك عنه، فيؤخر الصلاة رجاء إدراك فضيلة الماء ما لم تفته فضيلة أول الوقت، فإن فضيلة أول الوقت قد تدرك بوسطه لقربه منه.

ج. الثالث: يؤخر الصلاة إلى أن يجد الماء في آخر الوقت، لأن فضيلة الماء أعظم من فضيلة أول الوقت، لأن فضيلة أول الوقت مختلف فيها، وفضيلة الماء متفق عليها، وفضيلة أول الوقت يجوز تركها دون ضرورة ولا يجوز ترك فضيلة الماء إلا لضرورة، والوقت في ذلك هو آخر الوقت المختار، قاله ابن حبيب، ولو علم وجود الماء في آخر الوقت فتيمم في أوله وصلى فقد قال ابن القاسم: يجزئه، فإن وجد الماء أعاد في الوقت خاصة، وقال عبد الملك بن الماجشون: إن وجد الماء بعد أعاد أبدا.

15. الذي يراعى من وجود الماء أن يجد منه ما يكفيه لطهارته، فإن وجد أقل من كفايته تيمم ولم يستعمل ما وجد منه، وهذا قول مالك وأصحابه، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وهو قول أكثر العلماء، لأن الله تعالى جعل فرضه أحد الشيئين، إما الماء وإما التراب، فإن لم يكن الماء مغنيا عن التيمم كان غير موجود شرعا، لأن المطلوب من وجوده الكفاية، وقال الشافعي في القول الآخر: يستعمل ما معه من الماء ويتيمم، لأنه واجد ماء فلم يتحقق شرط التيمم، فإذا استعمله وفقد الماء تيمم لما لم يجد، واختلف قول الشافعي أيضا فيما إذا نسي الماء في رحله فتيمم، والصحيح أنه يعيد، لأنه إذا كان الماء عنده فهو واجد وإنما فرط، والقول الآخر لا يعيد، وهو قول مالك، لأنه إذا لم يعلمه فلم يجده.

16. أجاز أبو حنيفة الوضوء بالماء المتغير، لقوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ فقال: هذا نفي في نكرة، وهو يعم لغة، فيكون مفيدا جواز الوضوء بالماء المتغير وغير المتغير، لإطلاق اسم الماء عليه، قلنا: النفي في النكرة يعم كما قلتم، ولكن في الجنس، فهو عام في كل ماء كان من سماء أو نهر أو عين عذب أو ملح، فأما غير الجنس وهو المتغير فلا يدخل فيه، كما لا يدخل فيه ماء الباقلاء ولا ماء الورد.

17. أجمعوا على أن الوضوء والاغتسال لا يجوز بشيء من الأشربة سوى النبيذ عند عدم الماء، وقوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ يرده، والحديث الذي فيه ذكر الوضوء بالنبيذ رواه ابن مسعود، وليس بثابت، لأن الذي رواه أبو زيد، وهو مجهول لا يعرف بصحبة عبد الله، قاله ابن المنذر وغيره.

18. الماء الذي يبيح عدمه التيمم هو الطاهر المطهر الباقي على أو صاف خلقته، وقال بعض من ألف في أحكام القرآن لما قال تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من ماء، لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه، سواء كان مخالطا لغيره أو منفردا بنفسه، ولا يمتنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء، فلما كان كذلك لم يجز التيمم مع وجوده، وهذا مذهب الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه، واستدلوا على ذلك بأخبار ضعيفة يأتي ذكرها في سورة الْفُرْقَانَ، وهناك يأتي القول في الماء إن شاء الله تعالى.

19. ﴿فَتَيَمَّمُوا﴾ التيمم مما خصت به هذه الأمة توسعة عليها، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فضلنا على الناس بثلاث جعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا) وذكر الحديث، وقد تقدم ذكر نزوله، وذلك بسبب القلادة حسبما بيناه، وقد تقدم ذكر الأسباب التي تبيحه، والكلام ها هنا في معناه لغة وشرعا، وفي صفته وكيفيته وما يتيمم به وله، ومن يجوز له التيمم، وشروط التيمم إلى غير ذلك من أحكامه(2).

20. التيمم لغة هو القصد، تيممت الشيء قصدته، وتيممت الصعيد تعمدته، وتيممته برمحي وسهمي أي قصدته دون من سواه، وأنشد الخليل:

çيممته الرمح شزرا ثم قلت له...هذي البسالة لا لعب الزحاليقé

وقال امرؤ القيس:

çتيممتها من أذرعات وأهلها...بيثرب أدنى دارها نظر عالé

وقال أيضا:

çتيممت العين التي عند ضارج...يفيء عليها الظل عرمضها طاميé

وقال آخر:

çإني كذاك إذا ما ساءني بلد...يممت بعيري غيره بلداé

وقال أعشى باهلة:

çتيممت قيسا وكم دونه...من الأرض من مهمه ذي شزنé

وقال حميد بن ثور:

çسل الربع أنى يممت أم طارق...وهل عادة للربع أن يتكلماé

وللشافعي:

çعلمي معي حيثما يممت أحمله...بطني وعاء له لا بطن صندوقé

قال ابن السكيت: قوله تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ أي اقصدوا، ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب، وقال ابن الأنباري في قولهم: (قد تيمم الرجل) معناه قد مسح التراب على وجهه ويديه، قلت: وهذا هو التيمم الشرعي، إذا كان المقصود به القربة، ويممت المريض فتيمم للصلاة، ورجل ميمم يظفر بكل ما يطلب، عن الشيباني، وأنشد:

çإنا وجدنا أعصر بن سعد...ميمم البيت رفيع المجدé

وقال آخر:

çأزهر لم يولد بنجم الشح...ميمم البيت كريم السنحé

21. لفظ التيمم ذكره الله تعالى في كتابه في (البقرة) وفي هذه السورة و(المائدة) والتي في هذه السورة هي آية التيمم، قال القاضي أبو بكر ابن العربي: (هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء عند أحد، هما آيتان فيهما ذكر التيمم إحداهما في النساء والأخرى في المائدة، فلا نعلم أية آية عنت عائشة بقولها: فأنزل الله آية التيمم)، ثم قال: (وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم)، أما قوله: (فلا نعلم أية آية عنت عائشة) فهي هذه الآية على ما ذكرنا، والله أعلم، وقوله: (وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم) فصحيح ولا خلاف فيه بين أهل السير، لأنه معلوم أن غسل الجنابة لم يفترض قبل الوضوء، كما أنه معلوم عند جميع أهل السير أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم منذ افترضت عليه الصلاة بمكة لم يصل إلا بوضوء مثل وضوئنا اليوم فدل على أن آية الوضوء إنما نزلت ليكون فرضها المتقدم متلوا في التنزيل، وفي قوله: (فنزلت آية التيمم) ولم يقل آية الوضوء ما يبين أن الذي طرأ لهم من العلم في ذلك الوقت حكم التيمم لا حكم الوضوء، وهذا بين لا إشكال فيه.

22. التيمم يلزم كل مكلف لزمته الصلاة إذا عدم الماء ودخل، وقت الصلاة، وقال أبو حنيفة وصاحبا والمزني صاحب الشافعي: يجوز قبله، لأن طلب الماء عندهم ليس بشرط قياسا على النافلة، فلما جاز التيمم للنافلة دون طلب الماء جاز أيضا للفريضة، واستدلوا من السنة بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأبي ذر: (الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج)، فسمى صلّى الله عليه وآله وسلّم الصعيد وضوءا كما يسمى الماء، فحكمه إذا حكم الماء، والله أعلم، ودليلنا قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ ولا يقال: لم يجد الماء إلا لمن طلب ولم يجد، وقد تقدم هذا المعنى، ولأنها طهارة ضرورة كالمستحاضة، ولأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (فأينما أدركتك الصلاة تيممت وصليت)، وهو قول الشافعي وأحمد، وهو مروي عن علي وابن عمر وابن عباس.

23. أجمع العلماء على أن التيمم لا يرفع الجنابة ولا الحدث، وأن المتيمم لهما إذا وجد الماء عاد جنبا كما كان أو محدثا، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأبي ذر: (إذا وجدت الماء فأمسه جلدك) إلا شي روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، رواه ابن جريج وعبد الحميد بن جبير بن شيبة عنه، ورواه ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن حرملة عنه قال في الجنب المتيمم يجد الماء وهو على طهارته: لا يحتاج إلى غسل ولا وضوء حتى يحدث، وقد روي عنه فيمن تيمم وصلى ثم وجد الماء في الوقت أنه يتوضأ ويعيد تلك الصلاة، قال ابن عبد البر: وهذا تناقض وقلة روية، ولم يكن أبو سلمة عندهم يفقه كفقه أصحابه التابعين بالمدينة.

24. أجمعوا على أن من تيمم ثم وجد الماء قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه، وعليه استعمال الماء، والجمهور على أن من تيمم وصلى وفرغ من صلاته، وقد كان اجتهد طلبه الماء ولم يكن في رحله أن صلاته تامة، لأنه أدى فرضه كما أمر، فغير جائز أن توجب عليه الإعادة بغير حجة، ومنهم من استحب له أن يعيد في الوقت إذا توضأ واغتسل، وروي عن طاوس وعطاء والقاسم بن محمد ومكحول وابن سيرين والزهري وربيعة كلهم يقول: يعيد الصلاة، واستحب الأوزاعي ذلك وقال: ليس بواجب، لما رواه أبو سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة بالوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: (أصبت السنة وأجزأتك صلاتك) وقال للذي توضأ وأعاد: (لك الأجر مرتين)، أخرجه أبو داوود وقال: وغير ابن نافع يرويه عن الليث عن عميرة بن أبي ناجية عن بكر بن سوادة عن عطاء عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وذكر أبي سعيد في هذا الإسناد ليس بمحفوظ، وأخرجه الدارقطني وقال فيه: ثم وجد الماء بعد في الوقت.

25. ﴿صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ الصعيد: وجه الأرض كان عليه تراب أو لم يكن، قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج، قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ أي أرضا غليظة لا تنبت شيئا، وقال تعالى ﴿فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا﴾، ومنه قول ذي الرمة:

çكأنه بالضحى ترمي الصعيد به...دبابة في عظام الرأس خرطومé

وإنما سمي صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض، وجمع الصعيد صعدات، ومنه الحديث (إياكم والجلوس في الصعدات)، واختلف العلماء فيه من أجل تقييده بالطيب، فقالت طائفة: يتيمم بوجه الأرض كله ترابا كان أو رملا أو حجارة أو معدنا أو سبخة، هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والثوري والطبري.

26. ﴿طَيِّبًا﴾ معناه طاهرا، وقالت فرقة: ﴿طَيِّبًا﴾ حلالا، وهذا قلق، وقال الشافعي وأبو يوسف: الصعيد التراب المنبت وهو الطيب، قال الله تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ فلا يجوز التيمم عندهم على غيره، وقال الشافعي: لا يقع الصعيد إلا على تراب ذي غبار، وذكر عبد الرزاق عن ابن عباس أنه سئل أي الصعيد أطيب؟ فقال: الحرث، قال أبو عمر: وفي قول ابن عباس هذا ما يدل على أن الصعيد يكون غير أرض الحرث، وقال علي: هو التراب خاصة، وفي كتاب الخليل: تيمم بالصعيد، أي خذ من غباره، حكاه ابن فارس، وهو يقتضي التيمم بالتراب فإن الحجر الصلد لا غبار عليه، وقال الكيا الطبري واشترط الشافعي أن يعلق التراب باليد ويتيمم به نقلا إلى أعضاء التيمم، كالماء ينقل إلى أعضاء الوضوء، قال الكيا: ولا شك أن لفظ الصعيد ليس نصا فيما قال الشافعي، إلا أن قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا) بين ذلك، قلت: فاستدل أصحاب هذه المقالة بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وجعلت تربتها لنا طهورا) وقالوا: هذا من باب المطلق والمقيد وليس كذلك، وإنما هو من باب النص على بعض أشخاص العموم، كما قال تعالى: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ وقد ذكرناه في البقرة عند قوله ﴿وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل﴾، وقد حكى أهل اللغة أن الصعيد اسم لوجه الأرض كما ذكرنا، وهو نص القرآن كما بينا، وليس بعد بيان الله بيان، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم للجنب: عليك بالصعيد فإنه يكفيك.. فـ ﴿صَعِيدًا﴾ على هذا ظرف مكان، ومن جعله للتراب فهو مفعول به بتقدير حذف الباء أي بصعيد، و﴿طَيِّبًا﴾ نعت له، ومن جعل ﴿طَيِّبًا﴾ بمعنى حلالا نصبه على الحال أو المصدر.

27. إذا تقرر هذا فاعلم أن مكان الإجماع مما ذكرناه أن يتيمم الرجل على تراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب، ومكان الإجماع في المنع أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف والفضة والياقوت والزمرد والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما، أو على النجاسات، واختلف في غير هذا كالمعادن، فأجيز وهو مذهب مالك وغيره، ومنع وهو مذهب الشافعي وغيره، وقال ابن خويز منداد: ويجوز عند مالك التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض، واختلف عنه في التيمم على الثلج ففي المدونة والمبسوط جوازه، وفي غيرهما منعه، واختلف المذهب في التيمم على العود، فالجمهور على المنع، وفي مختصر الوقار أنه جائز، وقيل: بالفرق بين أن يكون منفصلا أو متصلا فأجيز على المتصل ومنع في المنفصل، وذكر الثعلبي أن مالكا قال: لو ضرب بيده على شجرة ثم مسح بها أجزأه، قال: وقال الأوزاعي والثوري: يجوز بالأرض وكل ما عليها من الشجر والحجر والمدر وغيرها، حتى قالا: لو ضرب بيده على الجمد والثلج أجزأه، قال ابن عطية: وأما التراب المنقول من طين أو غيره فجمهور المذهب على جواز التيمم به، وفي المذهب المنع وهو في غير المذهب أكثر، وأما ما طبخ كالجص والآجر ففيه في المذهب قولان: الإجازة والمنع، وفي التيمم على الجدار خلاف، قلت: والصحيح الجواز لحديث أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري قال: أقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد صلّى الله عليه وآله وسلّم، أخرجه البخاري، وهو دليل على صحة التيمم بغير التراب كما يقول مالك ومن وافقه، ويرد على الشافعي ومن تابعه في أن الممسوح به تراب طاهر ذو غبار يعلق باليد، وذكر النقاش عن ابن علية وابن كيسان أنهما أجازا التيمم بالمسك والزعفران، قال ابن عطية: وهذا خطأ بحت من جهات، قال أبو عمر: وجماعة العلماء على إجازة التيمم بالسباخ إلا إسحاق ابن راهويه، وروي عن ابن عباس فيمن أدركه التيمم وهو في طين قال يأخذ من الطين فيطلي به بعض جسده، فإذا جف تيمم به، وقال الثوري وأحمد: يجوز التيمم بغبار اللبد، قال الثعلبي: وأجاز أبو حنيفة التيمم بالكحل والزرنيخ والنورة والجص والجوهر المسحوق، قال: فإذا تيمم بسحالة الذهب والفضة والصفر والنحاس والرصاص لم يجزه، لأنه ليس من جنس الأرض.

28. ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ المسح لفظ مشترك يكون بمعنى الجماع، يقال: مسح الرجل المرأة إذا جامعها، والمسح: مسح الشيء بالسيف وقطعه به، ومسحت الإبل يومها إذا سارت، والمسحاء المرأة الرسحاء التي لا إست لها، وبفلان مسحة من جمال، والمراد هنا بالمسح عبارة عن جراليد على الممسوح خاصة، فإن كان بآلة فهو عبارة عن نقل الآلة إلى اليد وجرها على الممسوح، وهو مقتضى قوله تعالى في آية المائدة: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾، فقوله: ﴿مِنْهُ﴾ يدل على أنه لا بد من نقل التراب إلى محل التيمم، وهو مذهب الشافعي ولا نشترطه نحن، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما وضع يديه على الأرض ورفعهما نفخ فيهما، وفي رواية: نفض، وذلك يدل على عدم اشتراط الآلة، يوضحه تيممه على الجدار، قال الشافعي: لما لم يكن بد في مسح الرأس بالماء من بلل ينقل إلى الرأس، فكذلك المسح بالتراب لا بد من النقل، ولا خلاف في أن حكم الوجه في التيمم والوضوء الاستيعاب وتتبع مواضعه، وأجاز بعضهم ألا يتتبع كالغضون في الخفين وما بين الأصابع في الرأس، وهو في المذهب قول محمد بن مسلمة، حكاه ابن عطية، وقال الله تعالى: ﴿بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ فبدأ بالوجه قبل اليدين وبه قال الجمهور، ووقع في البخاري من حديث عمار في باب التيمم ضربة) ذكر اليدين قبل الوجه، وقاله بعض أهل العلم قياسا على تنكيس الوضوء،

29. اختلف العلماء أين يبلغ بالتيمم في اليدين، فقال ابن شهاب: إلى المناكب، وروي عن أبي بكر الصديق، وفي مصنف أبي داوود عن الأعمش أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مسح إلى أنصاف ذراعيه، قال ابن عطية: ولم يقل أحد بهذا الحديث فيما حفظت، وقيل: يبلغ به إلى المرفقين قياسا على الوضوء، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري وابن أبي سلمة والليث كلهم يرون بلوغ المرفقين بالتيمم فرضا واجبا، وبه قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وابن نافع، وإليه ذهب إسماعيل القاضي، قال ابن نافع: من تيمم إلى الكوعين أعاد الصلاة أبدا، وقال مالك في المدونة: يعيد في الوقت، وروى التيمم إلى المرفقين عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جابر بن عبد الله وابن عمر وبه كان يقول، قال الدارقطني: سئل قتادة عن التيمم في السفر فقال: كان ابن عمر يقول إلى المرفقين، وكان الحسن وإبراهيم النخعي يقولان إلى المرفقين، قال: وحدثني محدث عن الشعبي عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار بن ياسر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إلى المرفقين)، قال أبو إسحاق: فذكرته لأحمد بن حنبل فعجب منه وقال ما أحسنه!، وقالت طائفة: يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان، روي عن علي بن أبي طالب والأوزاعي وعطاء والشعبي في رواية، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداوود بن علي والطبري، وروي عن مالك وهو قول الشافعي في القديم، وقال مكحول: اجتمعت أنا والزهري فتذاكرنا التيمم فقال الزهري: المسح إلى الآباط، فقلت: عمن أخذت هذا؟ فقال: عن كتاب الله تعالى، إن الله تعالى يقول: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ فهي يد كلها، قلت له: فإن الله تعالى يقول: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ فمن أين تقطع اليد؟ قال: فخصمته، وحكي عن الدراوردي أن الكوعين فرض والآباط فضيلة، قال ابن عطية: هذا قول لا يعضده قياس ولا دليل، وإنما عمم قوم لفظ اليد فأوجبوه من المنكب: وقاس قوم على الوضوء فأوجبوه من المرافق وهاهنا جمهور الأمة، ووقف قوم مع الحديث في الكوعين، وقيس أيضا على القطع إذ هو حكم شرعي وتطهير كما هذا تطهير، ووقف قوم مع حديث عمار في الكفين، وهو قول الشعبي.

30. اختلف العلماء أيضا هل يكفي في التيمم ضربة واحدة أم لا؟ فذهب مالك في المدونة أن التيمم بضربتين: ضربة للوجه وضربة لليدين، وهو قول الأوزاعي والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم، والثوري والليث وابن أبي سلمة، ورواه جابر بن عبد الله وابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال ابن أبي الجهم: التيمم بضربة واحدة، وروي عن الأوزاعي في الأشهر عنه، وهو قول عطاء والشعبي في رواية، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وداوود والطبري، وهو أثبت ما روي في ذلك من حديث عمار، قال مالك في كتاب محمد: إن تيمم بضربة واحدة أجزأه، وقال ابن نافع: يعيد أبدا، قال أبو عمر وقال ابن أبي ليلى والحسن بن حي: ضربتان، يمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه، ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم غيرهما، قال أبو عمر: لما اختلفت الآثار في كيفية التيمم وتعارضت كان الواجب في ذلك الرجوع إلى ظاهر الكتاب، وهو يدل على ضربتين ضربة للوجه، ولليدين أخرى إلى المرفقين، قياسا على الوضوء واتباعا لفعل ابن عمر، فإنه من لا يدفع علمه بكتاب الله، ولو ثبت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك شي وجب الوقوف عنده، وبالله التوفيق.

31. ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ أي لم يزل كائنا يقبل العفو وهو السهل، ويغفر الذنب أي يستر عقوبته فلا يعاقب.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/239.

(2) اقتصرنا هنا على ما له علاقة بالتفسير

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ المرض: عبارة عن خروج البدن عن حدّ الاعتدال والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ، وهو على ضربين كثير ويسير، والمراد هنا: أن يخاف على نفسه التلف أو الضرر باستعمال الماء، أو كان ضعيفا في بدنه لا يقدر على الوصول إلى موضع الماء، وروي عن الحسن أنه يتطهر وإن مات، وهذا باطل يدفعه قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ وقوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ وقوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾

2. ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ فيه جواز التيمم لمن صدق عليه اسم المسافر، والخلاف مبسوط في كتب الفقه، وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط أن يكون سفر قصر، وقال قوم: لا بد من ذلك، وقد أجمع العلماء على جواز التيمم للمسافر، واختلفوا في الحاضر، فذهب مالك، وأصحابه، وأبو حنيفة، ومحمد: إلى أنه يجوز في الحضر والسفر، وقال الشافعي: لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف.

3. ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ هو المكان المنخفض، والمجي‏ء منه: كناية عن الحدث، والجمع: الغيطان والأغواط، وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء الحاجة تسترا عن أعين الناس، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطا توسعا، ويدخل في الغائط جميع الأحداث الناقضة للوضوء.

4. ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ قرأ نافع وابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: ﴿لَامَسْتُمُ﴾ وقرأ حمزة، والكسائي: لمستم قيل: المراد بها بما في القراءتين: الجماع؛ وقيل: المراد به: مطلق المباشرة؛ وقيل: إنه يجمع الأمرين جميعا، وقال محمد بن يزيد المبرد: الأولى في اللغة أن يكون‏ ﴿لَامَسْتُمُ﴾ بمعنى قبلتم ونحوه، ولمستم بمعنى غشيتم، واختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال، فقالت فرقة: الملامسة هنا مختصة باليد دون الجماع، قالوا: والجنب لا سبيل له إلى التيمم بل يغتسل أو يدع الصلاة حتى يجد الماء، وقد روي هذا عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، قال ابن عبد البر: لم يقل بقولهما في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي، وحملة الآثار، انتهى، وأيضا: الأحاديث الصحيحة تدفعه وتبطله، كحديث عمار، وعمران بن حصين، وأبي ذرّ في تيمم الجنب، وقال طائفة: هو الجماع كما في قوله: ﴿ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾، وقوله: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ وهو مرويّ عن عليّ، وأبيّ بن كعب، وابن عباس، ومجاهد، وطاووس والحسن، وعبيد بن عمير، وسعيد بن جبير، والشعبي، وقتادة، ومقاتل بن حبان، وأبي حنيفة، وقال مالك: الملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم إذا التذّ، فإن لمسها بغير شهوة فلا وضوء، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو غيرها من أعضاء الجسد انتقضت به الطهارة وإلا فلا، وحكاه القرطبي عن ابن مسعود، وابن عمر، والزهري، وربيعة، وقال الأوزاعي: إذا كان اللمس باليد نقض الطهر، وإن كان بغير اليد لم ينقضه لقوله تعالى: ﴿فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ وقد احتجوا بحجج تزعم كل طائفة أن حجتها تدل على أن الملامسة المذكورة في الآية هي ما ذهبت إليه، وليس الأمر كذلك، فقد اختلفت الصحابة ومن بعدهم في معنى الملامسة المذكورة في الآية، وعلى فرض أنها ظاهرة في الجماع، فقد ثبتت القراءة المروية عن حمزة والكسائي بلفظ أو لمستم وهي محتملة بلا شك ولا شبهة، ومع الاحتمال فلا تقوم الحجة بالمحتمل، وهذا الحكم تعمّ به البلوى ويثبت به التكليف العامّ، فلا يحل إثباته بمحتمل قط، وقد وقع النزاع في مفهومه، وإذا عرفت هذا فقد ثبتت السنة الصحيحة بوجوب التيمم على من اجتنب ولم يجد الماء، فكان الجنب داخلا في الآية بهذا الدليل، وعلى فرض عدم دخوله فالسنة تكفي في ذلك.

5. أما وجوب الوضوء أو التيمم على من لمس المرأة بيده أو بشيء من بدنه فلا يصح القول به استدلالا بهذه الآية لما عرفت من الاحتمال، وأما ما استدلوا به: من أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أتاه رجل فقال: يا رسول الله! ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها؟ وليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها، فأنزل الله‏ ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى‏ لِلذَّاكِرِينَ‏﴾، وأخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي من حديث معاذ، قالوا: فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها، ولا يخفاك أنه لا دلالة بهذا الحديث على محمل النزاع، فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما أمره بالوضوء ليأتي بالصلاة التي ذكرها الله سبحانه في هذه الآية، إذ لا صلاة إلا بوضوء، وأيضا فالحديث منقطع لأنه من رواية ابن أبي ليلى عن معاذ ولم يلقه، وإذا عرفت هذا، فالأصل: البراءة عن هذا الحكم، فلا يثبت إلا بدليل خالص عن الشوائب الموجبة لقصوره عن الحجة، وأيضا قد ثبت عن عائشة من طرق أنها قالت: (كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يتوضأ ثم يقبّل، ثم يصلّي ولا يتوضأ)، وقد روي هذه الحديث بألفاظ مختلفة، ورواه أحمد، وابن أبي شيبة، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وما قيل: من أنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن عروة، عن عائشة ولم يسمع من عروة، فقد رواه أحمد في مسنده من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ورواه ابن جرير من حديث ليث عن عطاء عن عائشة، ورواه أحمد أيضا، وأبو داود، والنسائي من حديث أبي روق الهمداني عن إبراهيم التيمي، عن عائشة، ورواه أيضا ابن جرير من حديث أم سلمة، ورواه أيضا من حديث زينب السهمية، ولفظ حديث أم سلمة: (أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقبّل ثم يصلّي ولا يتوضأ)، ورواه أحمد عن زينب السهمية عن عائشة، قوله: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ هذا القيد إن كان راجعا إلى جميع ما تقدم مما هو مذكور بعد الشرط، وهو المرض، والسفر، والمجي‏ء من الغائط، وملامسة النساء، كان فيه دليل على أن المرض والسفر بمجردهما لا يسوّغان التيمم، بل لا بد مع وجود أحد السببين من عدم الماء فلا يجوز للمريض أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء، ولا يجوز للمسافر أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء، ولكنه يشكل على هذا أن الصحيح كالمريض إذا لم يجد الماء تيمم، وكذلك المقيم كالمسافر إذا لم يجد الماء تيمم، فلا بد من فائدة في التنصيص على المرض والسفر؛ فقيل: وجه التنصيص عليهما أن المرض مظنة للعجز عن الوصول إلى الماء، وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب، وإن كان راجعا إلى الصورتين الأخيرتين، أعني: قوله: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ كما قال بعض المفسرين كان فيه إشكال، وهو أن من صدق عليه اسم المريض أو المسافر جاز له التيمم، وإن كان واجدا للماء قادرا على استعماله، وقد قيل: إنه رجع هذا القيد إلى الآخرين مع كونه معتبرا في الأوّلين لندرة وقوعه فيهما، وأنت خبير بأن هذا كلام ساقط وتوجيه بارد، وقال مالك ومن تابعه: ذكر الله المرض والسفر في شرط التيمم اعتبارا بالأغلب في من لم يجد الماء بخلاف الحاضر، فإن الغالب وجوده، فلذلك لم ينص الله سبحانه عليه.

6. الظاهر أن المرض بمجرّده مسوّغ للتيمم، وإن كان الماء موجودا إذا كان يتضرّر باستعماله في الحال أو في المآل، ولا تعتبر خشية التلف، فالله سبحانه يقول: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ ويقول: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (الدين يسر) ويقول: (يسّروا ولا تعسّروا) وقال: (قتلوه قتلهم الله) ويقول: (أمرت بالشريعة السّمحة) فإذا قلنا: إن قيد عدم وجود الماء راجع إلى الجميع، كان وجه التنصيص على المرض: هو أنه يجوز له التيمم والماء حاضر موجود إذا كان استعماله يضرّه، فيكون اعتبار ذلك القيد في حقه إذا كان استعماله لا يضرّه، فإن في مجرّد المرض مع عدم الضرر باستعمال الماء ما يكون مظنة لعجزه عن الطلب، لأنه يلحقه بالمرض نوع ضعف، وأما وجه التنصيص على المسافر فلا شك أن الضرب في الأرض مظنة لإعواز الماء في بعض البقاع دون بعض.

7. ﴿فَتَيَمَّمُوا﴾ التيمم لغة: القصد، يقال: تيممت الشيء: قصدته، وتيممت الصعيد: تعمدته، وتيممته بسهمي ورمحي: قصدته دون من سواه، وأنشد الخليل:

çيمّمته الرّمح شزرا ثمّ قلت له‏... هذي البسالة لا لعب الزّحاليق‏é

وقال امرؤ القيس:

çتيمّمتها من أذرعات وأهلها... بيثرب أدنى دارها نظر عالي‏é

وقال:

çتيمّمت العين التي عند ضارج‏... يفي‏ء عليها الظّلّ عرمضها طامي‏é

قال ابن السكيت: قوله: ﴿فَتَيَمَّمُوا﴾ أي: اقصدوا، ثم كثر استعمال هذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب، وقال ابن الأنباري في قولهم قد تيمم الرجل: معناه: قد مسح التراب على وجهه، وهذا خلط منهما للمعنى اللغوي بالمعنى الشرعي، فإن العرب لا تعرف التيمم بمعنى مسح الوجه واليدين، وإنما هو معنى شرعي فقط، وظاهر الأمر الوجوب، وهو مجمع على ذلك، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وتفاصيل التيمم وصفاته مبينة في السنة المطهرة، ومقالات أهل العلم مدوّنة في كتب الفقه.

8. ﴿صَعِيدًا﴾ الصعيد: وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو لم يكن، قاله الخليل، وابن الأعرابي، والزجاج، قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ أي: أرضا غليظة لا تنبت شيئا، وقال تعالى: ﴿فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا﴾ وقال ذو الرمة:

çكأنّه بالضّحى تزمي الصّعيد به‏... دبّابة في عظام الرّأس خرطوم‏é

وإنما سمى صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض، وجمع الصعيد: صعدات.

9. اختلف أهل العلم فيما يجزئ التيمم به، فقال مالك، وأبو حنيفة، والثوري، والطبري: إنه يجزئ بوجه الأرض كله ترابا كان أو رملا أو حجارة، وحملوا قوله: ﴿طَيِّبًا﴾ على الطاهر الذي ليس بنجس، وقال الشافعي، وأحمد، وأصحابهما: إنه لا يجزئ التيمم إلا بالتراب فقط، واستدلوا بقوله تعالى: ﴿صَعِيدًا زَلَقًا﴾ أي: ترابا أملس طيبا، وكذلك استدلوا بقوله: ﴿طَيِّبًا﴾ قالوا: والطيب: التراب الذي ينبت، وقد تنوزع في معنى الطيب، فقيل: الطاهر كما تقدم؛ وقيل: المنبت كما هنا؛ وقيل: الحلال، والمحتمل لا تقوم به حجة ولو لم يوجد في الشيء الذي يتيمم به إلا ما في الكتاب العزيز، لكان الحق ما قاله الأوّلون، لكن ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فضلنا الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلّها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء) وفي لفظ: (وجعل ترابها لنا طهورا) فهذا مبين لمعنى الصعيد المذكور في الآية، أو مخصص لعمومه، أو مقيد لإطلاقه، ويؤيد هذا ما حكاه ابن فارس عن كتاب الخليل: تيمم بالصعيد، أي: أخذ من غباره، انتهى، والحجر الصلد لا غبار له.

10. ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ هذا المسح مطلق، يتناول المسح بضربة أو ضربتين، ويتناول المسح إلى المرفقين، أو إلى الرسغين، وقد بينته السنة بيانا شافيا.

11. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ أي: عفا عنكم وغفر لكم تقصيركم، ورحمكم بالترخيص لكم والتوسعة عليكم.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/543.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى﴾ مرَضا يخاف معه التلفُ أو زيادة المرض، أو تأخير البرء، أو لم تكونوا مرضى ولكن خفتم حدوثه بالماء، أو انتتاف الشعر أو بياضه أو احمراره، ولو وجدتم الماء، أو مرضا مانعا عن الوصول إلى الماء، وأنتم جنب أو مُحدِثُون حدثًا أصفر.

2. ﴿أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ﴾ أو ثابتين على سفر لا تجدون فيه ماء ﴿اَو جَآءَ احَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَآئِطِ﴾ المكان المطمئنِّ، أو المكان البعيد الذي لا يَرى ما فيه إِلَّا من وقف عليه، وهو كناية عن البول وفضلة الطعام الخارجة من البطن، تسمية للحالِّ باسم المحلِّ، لقرينة أنَّ المجيء من المكان المطمئنِّ لا يوجب غسلا ولا تيمُّما عقلا ولا شرعًا، وكانوا قبل اتِّخاذ الكنف في الدور يبرزون إلى المطمئنِّ من الأرض لقضاء حاجة الإنسان سترًا.

3. ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ﴾ جامعتموهنَّ، وقالت الشافعيَّة: مسستم أبدانهنَّ بأيديكم أو غيرها، ويردُّه أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم يمسُّهنَّ ولا يعيد الوضوء، وإنَّما ينقض الوضوءَ مسُّ المحارم بالشهوة، أو مسُّ الأجنبيَّات مطلقًا عمدًا، أو مسُّ فرج الزوجة أو السُّرِّيَّة.

4. ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً﴾ لم تتمكَّنوا من استعماله ولو وجد، فهو عائد إلى المرض وما بعده كلِّه، كأنَّه قيل: وإن كنتم جنبًا مرضى أو على سفر، أو محدِثين أو ملامسي النساء، فلم تتمكَّنوا من استعمال الماء لفقده البتَّة، أو مع وجود ما يخصُّكم وحيوانكم طعامًا وشربًا، أو لعدم القدرة على استعماله ﴿فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا﴾ فاقصدوا ترابًا ﴿طَيِّبًا﴾ طاهرًا مُنبتًا، هذا مشهور المذهب، لقوله عزَّ وعلا: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّـيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبـِّهِ﴾ [الأعراف: 58]، أو طاهرًا ولو غير منبت لعموم حديث: (وترابها طهورًا)

5. ولا يجزي السبخة والدرُّ والياقوت ونحوه، والحجر والحصباء بلا تراب عندنا، خلافًا لأبي حنيفة وغيره، بدليل قوله تعالى: ﴿وَأَيْدِيكُم مِّـنْهُ﴾ [المائدة: 6]، فلا بدَّ من أن يلتصق منه شيء، وبدليل لصوق الماء بالعضو في أصل التيمُّم وهو الوضوء، وبيَّنت الآية بعدُ ـ كالأخرى ـ والحديثُ أنَّ المراد بقصد الطيِّب التمسُّح به، وأنَّ المسح إلى أصل الكفِّ؛ لأنَّها المراد عند إطلاق الكفِّ، كقطع السارق، أو المرفق كالوضوء، والبسط في الفروع.

6. ﴿فَامْسَحُواْ﴾ مسحًا يعلق معه شيء من التراب، كما أنَّ الماء في الوضوء والاغتسال يصل المغسول والممسوح، والماء أصل التيمُّم، وكما قال في سورة المائدة: ﴿مِنْهُ﴾ [الآية: 6]، أي: من التراب، وهذا مذهبنا، وعليه الشافعيُّ وأحمد، والهاء في (مِنْهُ) للتراب، وهو رواية عن أبي حنيفة، وقيل: يكفي المسح ولو لم يعلق باليد شيء من التراب بأن يتيمَّم فيما لا تراب فيه، أو يمسحها مثلاً، وقد قُيِّد برجوع الهاء إلى الحدث المعلوم من المقام، على أنَّ العلق باليد جريٌ على الغالب، أو على أنَّ (مِنْ) للابتداء.

7. ﴿بِوُجُوهِكُمْ﴾ كلِّها، ومنها ظاهر اللحية، ورخَّص بعض في بقاء قليل، كما أنَّ المسح في الماء في الوضوء لا يلزم فيه الاستيعاب، ويدلُّ للأوَّل اشتراط الاستيعاب في الوضوء، ووجوب المسح على موضع الخاتم في اليد أو غسله وإيصال الماء بين الأصابع.

8. ﴿وَأَيدِيكُم﴾ الأكفِّ إلى الرسغين، ظاهرًا وباطنًا، وهو المذهب، وعليه مكحول الدمشقي، وهو المتبادر، وإذا أريد غيره قُيِّد، كما قال الله جلَّ وعلا: ﴿إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة: 6] في الوضوء، وإلى المرفقين فيما روي عن ابن عمر أنَّهم تيمَّموا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إليهما، قلنا: ذلك استحباب، كإطالة الغرَّة في الوضوء، والشافعيُّ على ما قال ابن عمر، وإلى الإبط، وهو ضعيف، وإن صحَّ فيه حديثٌ حُمِلَ على إطالة الغرَّة، وبالإبط قال الزهريُّ، واحتجَّ الشافعيُّ بالقياس على الوضوء، وبه قال أبو حنيفة، والباء للإلصاق، أو صلة.

9. ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا﴾ عن المذنبين ﴿غَفُورًا﴾ ساترًا عليهم؛ ولذلك تسهَّل لكم بالتيمُّم.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/192.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ أي ولم تجدوا بقربكم ماء تستعملونه، ومنه فقد من يناوله إياه، أو خشيته الضرر به‏ ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ لا تجدونه فيه.

2. ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ أي أو كنتم محدثين، والغائط هو المكان المنخفض، فالمجي‏ء منه كناية عن الحدث، لأن المعتاد أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس، قال الخازن: كانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث، فكنوا به عن الحدث، وذلك أن الرجل منهم، كان إذا أراد قضاء الحاجة، طلب غائطا من الأرض، يعني مكانا منخفضا منها يحجبه عن أعين الناس، فسمي الحدث بهذا الاسم، فهو من باب تسمية الشيء باسم مكانه، انتهى، وإسناد المجي‏ء إلى واحد مبهم من المخاطبين دونهم، للتفادي عن التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا منه أو يستهجن التصريح به، كذا قاله أبو السعود، ثم قال وكذلك إيثار الكناية فيما عطف عليه من قوله عز وجل‏ ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ على التصريح بالجماع، قال الشهاب: وفي ذكر (أحد) دون غيره إشارة إلى أن الإنسان ينفرد عند قضاء الحاجة كما هو دأبه وأدبه.

3. ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ قال المهايميّ: أي فلا تستحيوا من الله، بل اعتذروا إليه‏ ﴿فَتَيَمَّمُوا﴾ أي اقصدوا ﴿صَعِيدًا﴾ أي ترابا أو وجه الأرض‏ ﴿طَيِّبًا﴾ أي طاهرا ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ تعليل للترخيص والتيسير، وتقرير لهما، فإن من عادته المستمرة أن يعفو عن الخاطئين ويغفر للمذنبين، لا بد أن يكون ميسرا لا معسرا.

4. سؤال وإشكال: الظاهر أن قوله تعالى‏ ﴿فَلَمْ تَجِدُوا﴾ راجع إلى جميع ما قبلها وحينئذ لا يجوز التيمم في الكل إلا عند عدم الماء، وأما ما قيل أنه راجع إلى قوله تعالى:‏ ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ لأنه قد وجد المانع هاهنا من تقييد السفر والمرض، بعدم الوجود للماء، وهو أن كل واحد منهما عذر مستقل في غير هذا الموضع كالصوم ـ فلا يفيد، لأن عدم الوجود معتبر فيهما لإباحة التيمم قطعا، إذ ليس السفر بمجرده مبيحا، وكذلك المرض، وأما ما يقال من أنه قد يباح للمريض التيمم مع وجود الماء إذا خشي الضرر به، فعدم الوجود في حقه إذن غير قيد، والجواب: أن هذا داخل تحت عدم الماء لأن من تعذر عليه استعماله هو، عادم له، إذ ليس المراد الوجود الذي لا ينفع، فمن كان يشاهد ماء في قعر بئر، يتعذر عليه الوصول إليه بوجه من الوجوه، فهو عادم له، وهكذا خوف السبيل الذي يسلك إلى الماء، وهكذا من كان يحتاجه للشرب فهو عادم له، ولئن سلمنا، تنزلا، أن المراد مطلق الوجود فنقول: المدعي أنه تعالى جوز التيمم للمريض إذا لم يجد الماء، وليس فيه دلالة على منعه من التيمم عند وجوده لعارض يمنعه من الماء.

5. سؤال وإشكال: من أين تستدلون حينئذ على إباحة تيممه؟ والجواب: من التحقيق الذي ذكرناه وهو أن المتعذر استعماله معدوم شرعا وكذا من قوله تعالى‏ ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29] وقوله: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195] وقوله: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، ومما أخرجه أبو داود وابن ماجة والدّارقطنيّ من حديث جابر قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أخبر بذلك، فقال: قتلوه، قتلهم الله؛ ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر (ويعصب) على جرحه، ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده، ومما رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم والدّارقطنيّ عن عمرو بن العاص قال احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت، أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول‏ ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ فضحك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يقل شيئا، فهذا وما قبله يدل على جواز العدول إلى التيمم لخشية الضرر، قال مجد الدين ابن تيمية: في حديث عمرو، من العلم، أن التمسك بالعمومات حجة صحيحة، وقد روى ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله تعالى‏ ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ قال نزلت في رجل من الأنصار كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم فيناوله، فأتى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكر ذلك له، فأنزل الله هذه الآية، قال ابن كثير: هذا مرسل.

6. ما يصدق عليه مفهوم عدم الوجود المقيد بالقيام إلى الصلاة، هو المعتبر في تسويغ التيمم، كما هو الظاهر من الآية، لا عدم الوجود مع طلب‏ مخصوص، كما قيل: إنه يطلب في كل جهة من الجهات الأربع في ميل أو ينتظر إلى آخر الوقت حتى لا يبقى إلا ما يسع الصلاة بعد التيمم، إذ لا دليل على ذلك، فإذا دخل الوقت المضروب للصلاة، وأراد المصلي القيام إليها فلم يجد حينئذ ما يتوضأ به، أو يغتسل في منزله أو مسجده، أو ما يقرب منهما، كان ذلك عذرا مسوّغا للتيمم، فليس المراد بعدم الوجود في ذلك أن لا يجده بعد الكشف والبحث وإحفاء السؤال، بل المراد أن لا يكون معه علم أو ظن بوجود شيء منه هنالك، ولم يتمكن في تلك الحالة من تحصيله بشراء أو نحوه، فهذا يصدق عليه أنه لم يجد الماء عند أهل اللغة، والواجب حمل كلام الله تعالى على ذلك، مع عدم وجود عرف شرعيّ، وقد وقع منه صلّى الله عليه وآله وسلّم ما يشعر بما ذكرناه، فإنه تيمم في المدينة من جدار، كما ثبت ذلك في الصحيحين‏ من دون أن يسأل ويطلب، ولم يصح عنه في الطلب شيء تقوم به الحجة، فهذا، كما يدل على وجوب الطلب، يدل على عدم وجوب انتظار آخر الوقت، ويدل على ذلك حديث الرجلين اللذين تيمما في سفر ثم وجدا الماء، فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر: فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ للذي لم يعد: أصبت السنة، أخرجه أبو داود والحاكم وغيرهما من حديث أبي سعيد، فإنه يردّ قول من قال بوجوب الانتظار إلى آخر الوقت على المتيمم، سواء كان مسافرا أو مقيما، كذا في (الروضة الندية)

7. قرئ في السبع (لامستم ولمستم) والملامسة واللمس يردان، لغة، بمعنى الجس باليد، وبمعنى الجماع، قال المجد في (القاموس) لمسه يلمسه‏ ويلمسه: مسّه بيده، والجارية جامعها، ثم قال والملامسة المماسة والمجامعة، ومن ثمة اختلف المفسرون والأئمة في المعنيّ بذلك هنا:

أ. فمن قائل بأن اللمس حقيقة في الجس باليد، مجاز في غيره، والأصل حمل الكلام على حقيقته لأنه الراجح، لا سيما على قراءة (لمستم) إذ لم يشتهر في الوقاع كالملامسة، وروي عن ابن مسعود من طرق متعددة أنه قال‏: الملامسة ما دون الجماع، وعنه‏: القبلة من المس وفيها الوضوء، رواهما ابن جرير، وروى الطبرانيّ بإسناده عن عبد الله بن مسعود قال يتوضأ الرجل من المباشرة، ومن اللمس بيده، ومن القبلة، وكان يقول في هذه الآية ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ هو الغمز، وروى ابن جرير عن نافع أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة، ويرى فيها الوضوء، ويقول: هي من اللّماس، وذكر ابن أبي حاتم أنه روي عن كثير من التابعين نحو ذلك، قالوا: ومما يؤيد بقاء اللمس على معناه الحقيقيّ قوله تعالى‏ ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ [الأنعام: 7] أي جسّوه، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ لماعز، حين أقر بالزنى، يعرّض له بالرجوع عن الإقرار: (لعلك قبلت أو لمست)؟ وفي الحديث الصحيح‏: واليد زناها اللمس، ومنه ما ثبت في الصحيحين‏: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى عن بيع الملامسة، وهو يرجع إلى الجس باليد، واستأنسوا أيضا بالحديث الذي رواه أحمد عن معاذ؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أتاه رجل فقال: يا رسول الله! ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها، فليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا أتاه منها غير أنه لم يجامعها، قال فأنزل الله عز وجل هذه الآية ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ [هود: 114] الآية، قال فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: توضأ ثم صلّ، قال معاذ: فقلت: يا رسول الله! أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال: بل للمؤمنين عامة، ورواه الترمذيّ‏ وقال: ليس بمتصل، والنسائيّ مرسلا، قالوا: فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها.

ب. ومن قائل: إن المعنيّ باللمس هنا الجماع، وذلك لوروده في غير هذه الآية بمعناه، فدل على أنه من كنايات التنزيل، قال تعالى‏ ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ [البقرة: 237]، وقال تعالى‏ ﴿إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ [الأحزاب: 49]، وقال في آية الظهار ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ [المجادلة: 3]، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ قال الجماع، وروى ابن جرير عنه، قال إن اللمس والمس والمباشرة: الجماع، ولكن الله يكني ما يشاء بما شاء، وقد صح من غير وجه عن ابن عباس أنه قال ذلك، وقد تقرر أن تفسيره أرجح من تفسير غيره، لاستجابة دعوة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه بتعليمه تأويل الكتاب‏، كما أسلفنا بيان ذلك في مقدمة التفسير.

8. ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ أن الواجب في التيمم عن وضوء أو غسل هو مسح الوجه واليدين فقط، وهذا إجماع، إلا أن في اليدين مذاهب للأئمة، فمن قائل بأنهما يمسحان إلى المرفقين، لأن لفظ اليدين يصدق في إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين وعلى ما يبلغ المرفقين، كما في آية الوضوء، وعلى ما يبلغ الكفين كما في آية السرقة ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾، وقالوا: وحمل ما أطلق هاهنا، على ما قيد في آية الوضوء، أولى لجامع الطهورية.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/123.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ولما كان الاغتسال من الجنابة يتعسر في بعض الأحوال ويتعذر في بعضها ومثله الوضوء وكانت الصلاة عبادة محتومة وفريضة موقوتة لا هوادة فيها ولا مندوحة عنها لأنها بتكرارها تذكر المرء إذا نسي مراقبة الله تعالى فتعده للتقوى بين لنا سبحانه الرخصة في ترك استعمال الماء والاستعاضة عنه بالتيمم فقال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ طويل أو قصير والشأن فيهما تعسر استعمال الماء ولا سيما في الحجاز وغيره من جزيرة العرب وقد يكون الماء ضارا بالمريض كبعض الأمراض الجلدية والقروح.

2. ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ أي أو أحدثتم حدثا أصغر وهو خروج شيء من أحد السبيلين (القبل والدبر) وعبر عنه بالمجيء من الغائط كناية كما هي سنة القرآن في النزاهة بالكناية عما لا يحسن التصريح به والغائط هو المكان المنخفض من الأرض كالوادي وأهل البوادي والقرى الصغيرة يقصدون بحاجتهم الأماكن المنخفضة لأجل الستر والاستخفاء عن الأبصار، ثم صار لفظ الغائط حقيقة عرفية في الحدث لكثرة الاستعمال، ويكنى عن الحدث في المدن الآهلة التي تتخذ فيها الكنف بكنايات أخرى، وملامسة النساء كناية عن غشيانهن والإفضاء إليهن وحقيقته اللمس المشترك من الجانبين ولو باليد فهو كالمباشرة وحقيقتها إصابة البشرة للبشرة وهي ظاهر الجلد.

3. قرأ حمزة والكسائي ﴿أو لمستم﴾ ولا تنافي قراءتهما ذلك التجوز المشهور وقال الشافعي إن الآية تدل على نقض الوضوء بلمس بشرة النساء إلا المحارم منهم وبه قال الزهري والأوزاعي.

4. ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ أي ففي هذه الحالات: المرض والسفر وفقد الماء عقب الحدث الأصغر الموجب للوضوء والحدث الأكبر الموجب للغسل تيمموا صعيدا طيبا أي اقصدوا وتحروا مكانا ما من صعيد الأرض أي وجهها طيبا أي طاهرا لا قذر فيه ولا وسخ فامسحوا هناك بوجوهكم وأيديكم تمثيلا لمعظم عمل الوضوء فصلوا، فقيد ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ للجائي من الغائط وملامس النساء على مذهب من يجعل القيد بعد الجمل للأخيرة ومذهب من يجعله للجميع إلا أن يمنع مانع والمانع هنا أنه لا يظهر وجه لاشتراط فقد الماء لتيمم المريض والمسافر دون الصحيح والمقيم.

5. قال محمد عبده: المعنى أن حكم المريض والمسافر إذا أرادا الصلاة كحكم المحدث حدثا أصغر أو ملامس النساء ولم يجد الماء فعلى كل هؤلاء التيمم فقط، هذا ما يفهمه القارئ من الآية نفسها إذا لم يكلف نفسه حملها على مذهب من وراء القرآن يجعلها بالتكلف حجة له منطبقة عليه، وقد طالعت في تفسيرها خمسة وعشرين تفسيرا فلم أجد فيها غناء ولا رأيت قولا فيها يسلم من التكلف ثم رجعت إلى المصحف وحده فوجدت المعنى واضحا جليا، فالقرآن أفصح الكلام وأبلغه وأظهره وهو لا يحتاج عند من يعرف العربية مفرداتها وأساليبها إلى تكلفات فنون النحو وغيره من فنون اللغة عند حافظي أحكامها من الكتب مع عدم تحصيل ملكة البلاغة إلى آخر ما أطال به في الإنكار على المفسرين الذين عدوا الآية مشكلة لأنها لم تنطبق على مذاهبهم انطباقا ظاهرا سالما من الركاكة وضعف التأليف والتكرار التي يتنزه عنها أعلى الكلام وأبلغه.

6. وإذا كان رحمه الله قد راجع خمسة وعشرين تفسيرا رجاء أن يجد فيها قولا لا تكلف فيه فأنا لم أراجع عند كتابة تفسيرها إلا روح المعاني وهو آخر التفاسير المتداولة تأليفا وصاحبه واسع الإطلاع فإذا به يقول: (الآية من معضلات القرآن) ووالله إن الآية ليست معضلة ولا مشكلة وليس في القرآن معضلات إلا عند المفتونين بالروايات والاصطلاحات وعند من اتخذوا المذاهب المحدثة بعد القرآن أصولا للدين يعرضون القرآن عليها عرضا فإذا وافقها بغير تكلف أو بتكلف قليل فرحوا وإلا عدوها من المشكلات والمعضلات، على أن القاعدة القطعية المعروفة عمن أنزل عليه القرآن صلّى الله عليه وآله وسلّم أن القرآن هو الأصل الأول لهذا الدين وأن حكم الله يلتمس فيه أولا فإن وجد فيه يؤخذ وعليه يعول ولا يحتاج معه إلى ما مأخذ آخر وإن لم يوجد التمس من سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على هذا أقر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم معاذا حين أرسله إلى اليمن وبهذا كان يتواصى الخلفاء والأئمة من الصحابة والتابعين وقد رأى القارئ أن معنى الآية واضح في نفسه لا تكلف فيه ولا إشكال ولله الحمد.

7. سيقول أدعياء العلم من المقلدين نعم إن الآية واضحة المعنى كاملة البلاغة على الوجه الذي قررتم ولكنها تقتضي عليه أن التيمم في السفر جائز ولو مع وجود الماء وهذا مخالف للمذاهب المعروفة عندنا فكيف يعقل أن يخفى معناها هذا على أولئك الفقهاء المحققين ويعقل أن يخالفوها من غير معارض لظاهرها أرجعوها إليه، ولنا أن نقول لمثل هؤلاء وإن كان المقلد لا يحاج لأنه لا علم له وكيف يعقل أن يكون أبلغ الكلام وأسلمه من التكلف والضعف معضلا مشكلا؟ وأي الأمرين أولى بالترجيح: الطعن ببلاغة القرآن وبيانه لحمله على كلام الفقهاء أم تجويز الخطأ على الفقهاء لأنهم لم يأخذوا بما دلّ عليه ظاهر الآية من غير تكلف وهو الموافق الملتئم مع غيره من رخص السفر التي منها قصر الصلاة وجمعها وإباحة الفطر في رمضان فهل يستنكر مع هذا أن يرخص للمسافر في ترك الغسل والوضوء وهما دون الصلاة والصيام في نظر الدين؟ أليس من المجرب أن الوضوء والغسل يشقان على المسافر الواجد للماء في هذا الزمان الذي سهلت فيه أسباب السفر في قطارات السكك الحديدية والبواخر؟ أفلا يتصور المنصف إن المشقة فيهما أشد على المسافرين على ظهور الإبل في مفاوز الحجاز وجبالها؟ هل يقول منصف إن صلاة الظهر أو العصر أربعا في السفر أسهل من الغسل أو الوضوء فيه؟ والسفر مظنة المشقة يشق فيه غالبا كل ما يؤتى في الحضر بسهولة وأشق ما يشق فيه الغسل والوضوء وإن كان الماء حاضرا مستغنى عنه، وأضرب لهم مثلا هذه الجواري المنشآت في البحر كالأعلام فإن الماء فيها كثير دائما وفي كل باخرة منها حمامات أي بيوت مخصوصة للاغتسال بالماء الساخن والماء البارد ولكنها خاصة بالأغنياء الذين يسافرون في الدرجة الأولى أو الثانية وهؤلاء الأغنياء منهم من يصيبه دوار شديد يتعذر عليه معه الاغتسال أو خفيف يشق معه الاغتسال ولا يتعذر فإذا كانت هذه السفن التي يوجد فيها من الماء المعد للاستحمام ما لم يكن يوجد مثله في بيت أحد من أهل المدينة زمن التنزيل يشق فيها الاغتسال أو يتعذر فما قولك في الاغتسال في قطارات سكك الحديد أو قوافل الجمال والبغال؟

8. ألا إن من أعجب العجب غفلة جماهير الفقهاء عن هذه الرخصة الصريحة في عبارة القرآن، التي هي أظهر وأولى من قصر الصلاة وترك الصيام، وأظهر في رفع الحرج والعسر الثابت بالنص وعليه مدار الأحكام، واحتمال ربط قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ بقوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ بعيد بل ممنوع البتة كما تقدم على أنهم لا يقولون به في المرضى لأن اشتراط فقد الماء في حقهم لا فائدة له لأن الأصحاء مثلهم فيه فيكون ذكرهم لغوا يتنزه عنه القرآن، ونقول إن ذكر المسافرين كذلك فإن المقيم إذا لم يجد الماء يتيمم بالإجماع فلولا أن السفر سبب للرخصة كالمرض لم يكن لذكره فائدة ولذلك عللوه بما هو ضعيف متكلف، وما ورد في سبب نزولها من فقد الماء في السفر أو المكث مدة على غير ماء لا ينافي ذلك.

9. رووا أنها نزلت في بعض أسفار النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد انقطع فيها عقد لعائشة فأقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على التماسه والناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأغلظ أبو بكر على عائشة وقال حبست رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فنزلت الآية فلما صلوا بالتيمم جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة فجعل يقول ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر، رواه الستة، وفي رواية يرحمك الله تعالى يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجا، فهذه الرواية وهي من وقائع الأحوال لا حكم لها في تغيير مدلول الآية ولا تنافي جعل الرخصة أوسع من الحال التي كانت سببا لها، ألا ترى أنها شملت المرضى ولم يذكر في هذه الواقعة أنه كان فيها مرضى شق عليهم استعمال الماء على تقدير وجوده وليس فيها دليل على أن كل الجيش كان فاقدا للماء ولا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جعل التيمم فيها خاصا بفاقدي الماء دون غيرهم ومثلها سائر الروايات المصرحة بالتيمم في السفر لفقد الماء التي هي عمدة الفقهاء، على أنها منقولة بالمعنى وهي وقائع أحوال مجملة لا تنهض دليلا ومفهومها مفهوم مخالفة وهو غير معتبر عند الجمهور ولا سيما في معارضة منطوق الآية، وإننا نرى رخصة قصر الصلاة قد قيدت بالخوف من فتنة الكافرين كما سيأتي في هذه السورة ونرى هؤلاء الفقهاء كلهم لم يعملوا فيها بمفهوم هذا الشرط المنصوص الذي كان سبب الرخصة أفلا يكون ما هنا أولى بأن لا يشترط فيه شرط ليس في كتاب الله؟

10. وروي في سبب النزول أيضا أن الصحابة نالتهم جراحة وابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزلت، وروي أيضا أنها نزلت فيمن اغتسل في السفر بمشقة.

11. وإذا ثبت أن التيمم رخصة للمسافر بلا شرط ولا قيد بطلت كل تلك التشديدات التي توسعوا في بنائها على اشتراط فقد الماء ومنها ما قالوه وجوب طلبه في السفر وما وضعوه لذلك من الحدود كحد القرب وحد الغوث، وأذكر أنني عند ما كنت أدرس شرح المنهاج في فقه الشافعية قرأت باب التيمم في شهرين كاملين لم أترك الدرس فيهما ليلة واحدة فهل ورد أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو أحد الصحابة تكلم في التيمم يومين أو ساعتين؟ وهل كان هذا التوسع في استنباط الأحكام والشروط والحدود سعة ورحمة على المؤمنين أم عسرا وحرجا عليهم وهو ما رفعه الله عنهم؟

12. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ العفو ذو العفو العظيم ويطلق العفو بمعنى اليسر والسهولة ومنه في التنزيل ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ وفي الحديث (قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق) أي أسقطتها تيسيرا عليكم، ومن عفوه تعالى أن أسقط في حال المرض والسفر وجوب الوضوء والغسل، ومن معاني العفو محو الشيء يقال عفت الريح الأثر ويقال عفا الأثر (لازم) أي امّحى ومنه العفو عن الذنب عفا عنه له ذنبه وعفا عن ذنبه أي محاه فلم يرتب عليه عقابا فالعفو أبلغ من المغفرة لأن المغفرة من الغفر وهو الستر وستر الذنب بعدم الحساب والعقاب عليه لا ينافي بقاء أثر خفي له ومعنى العفو ذهاب الأثر فالعفو عن الذنب جعله كأن لم يكن بأن لا يبقى له أثر في النفس لا ظاهر ولا خفي، فهذا التذييل للآية مبين منشأ الرخصة واليسر الذي فيها وهو عفو الله تعالى ومشعر بأن ما كان من الخطأ في صلاة السكارى كقولهم قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون مغفور لهم لا يؤاخذون عليه، وإننا نختم تفسير الآية بمسائل في أحكام التيمم لابد منها.

13. معنى التيمم اللغوي والشرعي قد علمت أن التيمم في الآية بمعنى القصد وهو المعنى اللغوي قال الأعشى:

çتيممت قيسا وكم دونه...من الأرض من مهمه ذي شزنé

ثم صار حقيقة شرعية في العمل المخصوص وهو ضرب اليدين بوجه الأرض ومسح الوجه واليدين بهما وصاروا يقولون تيمم بالتراب وقد جمع بعضهم بين المعنيين فقال:

çتيممتكم لما فقدت أولي النهى...ومن لم يجد ماء تيمم بالتربé

14. محل التيمم نص الآية أن محله الوجه واليدان ولكن اليد تطلق كثيرا على ما تزاول به الأعمال من الكف والأصابع وحدها الرسغ وإن شئت قلت المفصل الذي يربط الكف بالساعد وهي التي تقطع في حد السرقة، وتطلق على الذراع من أطراف الأصابع إلى المرفق، وتطلق على مجموع الذراع والعضد إلى الإبط والكتف ولذلك اختلف الناس في مسح اليدين على ثلاثة أقوال واختلفت الروايات فيه أيضا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والصحابة والتابعين وإننا نلخص ذلك مع بيان الراجح فنقول: جاء في الصحيحين من حديث عمار بن ياسر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له (إنما كان يكفيك هكذا) وضرب صلّى الله عليه وآله وسلّم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه وسيأتي نصه وسببه وما قيل فيه، وفي لفظ للدارقطني (إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين) وذكر النووي في شرح مسلم أن هذا مذهب عطاء ومكحول والأوزاعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر وعامة أصحاب الحديث، أقول وعليه الشيعة الإمامية أيضا، وروى الترمذي أن ابن عباس احتج له بإطلاق الأيدي في آية السرقة والاتفاق على أن المراد بهما الكفان ورد الحافظ ما أوله به النووي وروى الدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعا (التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين) وهذا هو عمدة جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية وغيرهم وفي إسناده علي بن ظبيان وثقه يحيى بن القطان وهشيم وغيرهما ولكن قال الحافظ ابن حجر هو ضعيف ضعفه ابن القطان وابن معين وغير واحد، وفي رواية من حديث عمار أن المسح إلى الإبطين وبها أخذ الزهري وستعلم ما فيها ولفظ حديث عمار في رواية الصحيحين وغيرهما عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى أن رجلا أتى عمر فقال إني أجنبت ولم أجد ماء فقال له لا تصل فقال عمار أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأصابتنا جنابة فلم نجد الماء فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنما كان يكفيك أن تضرب بيدك في الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك) فقال عمر اتق الله يا عمار فقالا إن شئت لم أحدث به فقال نوليك ما توليت أي بل نكلك إلى ما قلت ونرد إليك ما وليته نفسك وذلك إذن له برواية الحديث والإفتاء به وهذا هو المعتمد الذي لا حجة على غيره وله بوّب البخاري في صحيحه قال الحافظ في الفتح: قوله باب التيمم للوجه والكفين أي هو الواجب المجزئ وأتى بذلك بصيغة الجزم مع شهرة الخلاف فيه لقوة دليله فإن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهم وعمار وما عداهما فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه والراجح عدم رفعه فأما حديث أبي جهم فورد بذكر اليدين مجملا وأما حديث عمار فورد بذكر الكفين في الصحيحين وبذكر المرفقين في السنن وفي رواية إلى نصف الذراع وفي رواية إلى الآباط فأما رواية المرفقين وكذا نصف الذراع ففيها مقال وأما رواية الآباط فقال الشافعي وغيره إن كان ذلك وقع بأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فكل تيمم صح للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعده فهو ناسخ له وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمر به، ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين كون عمار كان يفتي بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك وراوي الحديث أعلم بالمراد به من غيره ولا سيما الصحابي المجتهد) انتهى كلام الحافظ ابن حجر وهو فصل الخطاب في المسألة.

15. التيمم ضربة واحدة ولا ترتيب فيه في المسألة روايتان وفي رواية شقيق لحديث عمار في الصحيحين التصريح بضربة واحدة فهي أقل ما يجزئ والجمهور من الفقهاء وأهل المذاهب على الضربتين قال الحافظ في الفتح: (قوله ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه كذا في جميع الروايات بالشك وفي رواية أبي داود تحرير ذلك من طريق أبي معاوية أيضا ولفظه ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين ثم مسح وجهه، وفيه الاكتفاء بضربة واحدة في التيمم ونقله ابن المنذر عن جماهير العلماء واختاره وفيه أن الترتيب غير مشروط في التيمم قال ابن دقيق العيد اختلف في لفظ هذا الحديث فوقع عند البخاري بلفظ) ثم) وفي سياقه اختصار ولمسلم بالواو ولفظه ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه وللإسماعيلي ما هو أصرح من ذلك، قلت ولفظه من طريق هارون الجمال عن أبي معاوية) إنما يكفيك أن تضرب بيديك على الأرض ثم تنفضهما ثم تمسح بيمينك على شمالك وشمالك على يمينك ثم تمسح على وجهك)

16. ما هو الصعيد؟ قال في القاموس والصعيد التراب أو وجه الأرض، وقال الثعالبي في فقه اللغة الصعيد تراب وجه الأرض، وفي المصباح الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره، قال الزجاج لا أعلم اختلافا بين أهل اللغة في ذلك، وقال في المصباح أيضا ويقال الصعيد في كلام العرب على وجوه: على التراب الذي على وجه الأرض وعلى وجه الأرض وعلى الطريق، أقول ولأجل هذا اختلف الفقهاء فقال بعضهم يجوز أن يضرب يديه على أي مكان طاهر من الأرض ويمسح وجهه ويديه، واستدلوا من الروايات بتيمم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في المدينة من جدار كما في الصحيحين من حديث أبي الجهم.. وقال بعضهم أنه لا يجزئ إلا بالتراب واستدلوا على ذلك بحديث (وجعلت تربتها لنا طهورا) وهو عند مسلم من حديث حذيفة مرفوعا وفي رواية ابن خزيمة بلفظ التراب، ومثلها حديث علي عند أحمد والبيهقي بإسناد حسن (وجعل التراب لنا طهورا) وجعلوا للتراب معنى مقصودا كما ستعلم في مسألة حكمة التيمم، وأجاب الأولون عن هذا اللفظ بأن لفظ التربة والتراب لا يؤخذ بمفهومه لأنه مفهوم لقب ذهب جمهور الأصوليين إلى عدم اعتباره فهو لا يخصص المنطوق وإنما قال به اثنان من الشافعية وواحد من المالكية وبعض الحنابلة، على أن التراب هو الأعم الأكثر من صعيد الأرض فخص بالذكر في بعض الروايات لأجل ذلك وجاءت بعض الروايات بلفظ الأرض كحديث جابر المرفوع في الصحيحين والنسائي (وجعلت لي الأرض طيبة وطهورا ومسجدا) واستدلوا بلفظ (منه) في سورة المائدة إذ قال: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ فقالوا إن هذا لا يتحقق إلا فيما ينفصل منه شيء، وعارضهم الآخرون بما تقدم ذكره من تيمم النبي من الجدار في المدينة ولهم أن يقولوا إنه ربما كان عليه غبار وفي رواية للشافعي أنه حكه بالعصا ثم مسح منه وفيها مقال على أن ما ينفصل منه شيء ليس خاصا بالتراب فأكثر مواد الأرض ينفصل منها شيء إذا ديست أو سحقت ومن التراب اللزج الذي ييبس فلا ينفصل منه شيء بضرب اليدين عليه إلا أن يداس كثيرا أو يدق، ويرى هؤلاء أن(من) في آية المائدة للابتداء لا للتبعيض وهو خلاف المتبادر وأقرب منه أن تكون لبيان ما هو الأكثر والأغلب ولو كان الغبار قيد لابد لذكر في آية النساء لأنها متقدمة في النزول على سورة المائدة وعمل الناس بإطلاقها زمنا طويلا، وهي التي تسمى آية التيمم.

17. وهذا التقييد فيه عسر ينافي الرخصة ونفي الحرج الذي عللت به في سورة المائدة فإن المسافر يعسر عليه أن يجد التراب الطاهر الذي ينفصل منه الغبار في كل مكان ولهذا رأيت بعض المستمسكين بهذا المذهب يحملون في أسفارهم أكياسا فيها تراب ناعم يتيممون منه والعمل بإطلاق الآية أوسع من ذلك وأيسر، ولم يفعل ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في غزوة تبوك مثلا وما كان يوجد التراب إلا في بعض طريقها، ولو كان الغبار مقصودا لما نفض النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كفيه بعد أن ضرب بهما الأرض كما في رواية شقيق لحديث عمار ولما أمر بنفخهما في رواية سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى له وهل يبقى بعد النفض والنفخ ما يكفي لإصابة الوجه واليدين من الضربة الواحدة؟ فجملة القول أن الدليل على اشتراط التراب أو الغبار غير قوي فيضرب المتيمم بيديه أي مكان طاهر من ظاهر الأرض حيث كان ويمسح فإن وجد مكانا فيه غبار واختاره للخروج من الخلاف فذاك ولكن ينبغي أن ينفض يديه أو ينفخهما من الغبار ولا يعكر وجهه به وإن عد بعضهم التعفير من حكمة التيمم فالسنة تخالفه.

18. التيمم عن الحدثين لفاقد الماء، المسافر والمقيم فيه سواء تقدم حديث عمار في السفر وحديث عمران بن حصين في الرجل الذي اعتزل الصلاة مع الجماعة للجنابة وفقد الماء وقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم له (عليك بالصعيد فإنه يكفيك) وهو في الصحيحين وسنن النسائي، وفي حديث أبي ذر عند أصحاب السنن مرفوعا وصححه الترمذي بلفظ (إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير) وفيها رواية شقيق لحديث عمار قال كنت عند عبد الله وأبي موسى فقال أبو موسى أرأيت يا أبا عبد الرحمن لو أن رجلا أجنب ولم يجد الماء شهرا كيف يصنع فقال لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرا فقال أبو موسى كيف بهذه الآية في سورة المائدة ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ قال عبد الله لو رخص لهم في هذه الآية لأوشك إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد، قال إنما كرهتم هذا لذا؟ قال نعم فقال أبو موسى لعبد الله ألم تسمع قول عمار لعمر بعثني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت بالصعيد كما تتمرغ الدابة ثم أتيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكرت له ذلك فقال (إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا) وضرب بكفه ضربة على الأرض ثم نفضها ثم مسح بها ظهر كفه وشماله أو ظهر شماله بكفه ثم مسح بهما وجهه، فقال عبد الله أو لم تر عمر لم يقنع بقول عمار؟ أقول بل قنع عمر بقول عمار كما تقدم ولكنه كان يكره التوسع في هذه الرخصة وكان عمر وعبد الله يريان أن التيمم إنما يكون عن الوضوء دون الجنابة ويريان أن المراد بالملامسة مس البشرة وأنه ينقض الوضوء وعليه الشافعية وروي أن عمر وعبد الله بن مسعود رجعا عن قولهما هذا ولم يحك ذلك عن غيرهما إلا عن إبراهيم النخعي من التابعين وقد انعقد الإجماع بعد ذلك على مشروعية التيمم للوضوء والجنابة وإن كيفيته لهما واحدة.

19. في كون المتيمم لا يعيد الصلاة إذا وجد الماء وهذا هو ظاهر الآية فإن الله تعالى أسقط عنه شرط الطهارة بالماء، وفي حديث أبي سعيد الخدري عند أبي داود والنسائي والدارمي والحاكم والدارقطني قال خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الآخر ثم أتيا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكرا له ذلك فقال للذي لم يعد: (أصبت السنة وأجزأئك صلاتك) وقال للذي توضأ وأعاد (لك الأجر مرتين)

20. الرواية في تيمم المسافر مع وجود الماء قد علمت أن هذا هو الظاهر المتبادر من الآية التي لا يظهر بدون تفسيرها بغير تكلف يخل ببلاغتها ولكنني لم أرد في ذلك رواية عملية صريحة إلا حديث الأصلع بن شريك في سبب نزول الآية، ففي الدر المنثور للحافظ السيوطي ما نصه: أخرج الحسن بن سفيان في مسنده والقاضي إسماعيل في الأحكام والطحاوي في مشكل الآثار والبغوي والبارودي في الصحابة والدارقطني والطبراني وأبو نعيم في المعرفة وابن مردويه والبيهقي في سننه والضياء المقدسي في المختارة عن الأسلع بن شريك قال كنت أرحل ناقة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأصابتني جنابة في ليلة باردة وأراد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الرحلة فكرهت أن أرحل ناقته وأنا على جنب وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض فأمرت رجلا من الأنصار في أرحالها ثم رضفت أحجارا فأسخنت بها ماء فاغتسلت ثم سمعت (لعله أدركت) رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه فقال (يا أسلع مالي أرى رحلتك تغيرت) قلت يا رسول الله لم أرحلها رحلها رجل من الأنصار، قال (ولم) قلت إني أصابتني جنابة فخشيت القر على نفسي فأمرته أن يرحلها ورضفت أحجارا فأسخنت بها ماء فاغتسلت به، فأنزل الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾، وأخرج ابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير والطبراني والبيهقي في سننه من وجه آخر عن الأسلع قال كنت أخدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأحل له فقال لي ذات ليلة (يا أسلع قم فارحل) فقلت يا رسول الله أصابتني جنابة فسكت عني ساعة حتى جاءه جبريل بآية الصعيد فقال (قم يا أسلع فتيمم) ثم أراني الأسلع كيف علمه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم التيمم فضرب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بكفيه الأرض فمسح وجهه ثم ضرب فدلك إحداهما بالأخرى ثم نفضهما ثم مسح بهما ذراعيه ظاهرهما وباطنهما.

21. وحديث الأسلع في التيمم بالضربتين في سنده الربيع بن بدر وهو ضعيف وممن رواه عنه الدارقطني، والروايات في التيمم في السفر قليلة وفي أكثرها ذكر فقد الماء فهذا هو الذي جعل الآية مشكلة أو معضلة عند المفسرين على أن أكثر تلك الروايات أو كلها على كونها وقائع أحوال منقولة بالمعنى ومن نظر في الآية نظرا مستقلا فهمها كما فهمناها قال السيد حسن صديق خان: قال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ وقد كثر الاختباط في تفسير هذه الآية والحق أن قيد عدم الوجود راجع إلى قوله: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ فتكون الأعذار ثلاثة السفر والمرض وعدم الوجود في الحضر، وهذا ظاهر على قول من قال إن القيد إذا وقع بعد جمل متصلة كان قيدا لأخرها وأما من قال إنه يكون قيدا للجميع إلا أن يمنع مانع فكذلك أيضا لأنه قد وجد المانع ههنا من تقييد السفر والمرض بعدم الوجود للماء وهو أن كل واحد منهما عذر مستقل في غير هذا الباب كالصوم ويؤيد هذا أحاديث التيمم التي وردت مطلقة ومقيدة بالحضر، اه من شرحه للروضة الندية وقد اتفق لي أن رأيته عند أحد الأصدقاء بعد كتابة تفسير الآية وإرساله من القسطنطينية إلى مصر ليطبع فيها فألحقته بهذه المسألة، ولا يخفى أن الاحتياط الأخذ بالعزيمة وعدم ترك الطهارة بالماء إلا لمشقة شديدة وناهيك بما في استعمال الماء من النظافة وحفظ الصحة والنشاط للعبادة كما سيأتي بيانه في تفسير آية الوضوء من سورة المائدة إن شاء الله تعالى، وإنني لم أتيمم في سفر من أسفاري قط على أنني وجدت في بعضها مشقة ما في الوضوء.

22. التيمم من الجراح والبرد: الجراح من المرض أو في معنى المرض فهو مظنة الضرر من استعمال الماء أو المشقة وقد ورد في أسباب نزول الآية أن بعض الصحابة فشت فيهم الجراح وأصابتهم الجنابة فنزلت آية التيمم فيهم كما تقدم، وفي حديث جابر عند أبي داود وابن ماجة والدارقطني وصححه ابن السكن قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أخبر بذلك فقال: (قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العيّ السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده) وقد تفرد بهذا الحديث الزبير بن خريق وليس بالقوي وروي من طرق أخرى فيها مقال، وعن عمرو بن العاص أنه لما بعث في غزوة ذاته السلاسل قال احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح فلما قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذكروا له ذلك فقال: (يا عمرو صليت بأصحابك صلاة الصبح وأنت جنب؟) فقلت ذكرت قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يقل شيئا رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وابن حبان والحاكم وأخرجه البخاري تعليقا، قال العلماء إن ضحك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أبلغ في إقرار ذلك من مجرد السكوت على أن سكوته حجة فإنه لا يقر على الباطل، واشترط العلماء في التيمم للبرد العجز عن تسخين الماء ولو بالأجرة وعن شراء الماء السخن بالثمن المعتدل.

23. التيمم كالوضوء في الوقت وقبله وفي استباحة عدة صلوات به لأنه بدل عن الوضوء فكان له حكمه، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يشترط لصحة التيمم دخول الوقت وأئمة الفقه الثلاثة والعترة يشترطون ذلك واستدلوا بآية الوضوء ولا دليل فيها واستدل بعضهم بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت) وحديث أبي أمامة مرفوعا: (جعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدا وطهورا فأينما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره) رواهما أحمد ولا دليل فيهما، وكذلك لا يقوم دليل على اشتراط التيمم لكل صلاة لأن ذلك يتوقف على النص ولا نص، وما قيل من أنه طهارة ضعيفة هو من الفلسفة المنقوضة.

24. في حكمة التيمم جرى جماهير العلماء على أن التيمم أمر تعبدي محض لا حكمة له إلا الإذعان والخضوع لأمر الله تعالى وذلك أن لأكثر العبادات منافع ظاهرة لفاعليها ومنها الوضوء والغسل فإذا هي فعلت لأجل فائدتها البدنية أو النفسية ولم يقصد بها مع ذلك الإذعان وطاعة الشارع الحكيم لم تكن عبادة ولذلك كان التحقيق أن النية واجبة في العبادات كلها ولا سيما الطهارة ومعنى النية قصد الامتثال والإخلاص لله في العمل لا ما ذكره بعضهم من الفلسفة، فالحكمة العليا للتيمم هي أن يأتي المكلف عند الصلاة بتمثيل بعض عمل الوضوء ليشير به إلى أنه إذا فاته ما في الوضوء أو الغسل من النظافة، فإنه لا يفوته ما فيه من معنى الطاعة، فالتيمم رمز لما في الطهارة المتروكة للضرورة من معنى الطاعة التي هي الأصل في طهارة النفس المقصودة من الدين أولا وبالذات والتي شرعت طهارة البدن لتكون عونا عليها ووسيلة لها فإن من يرضى لنفسه أن يعيش في الأوساخ والأقذار لا يكون عزيز النفس أبيّ الضيم كما يليق بالمؤمن، وسيأتي شرح هذا المعنى عند قوله تعالى في آية الوضوء من سورة المائدة: ﴿ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون﴾ [المائدة: 6]

25. ويلي هذه الحكمة حكمة أخرى عالية وهي ما في تمثيل عمل الطهارة بالإشارة من معنى الثبات والمواظبة والمحافظة فمن اعتاد ذلك يسهل عليه إتقان العمل وإتمامه ومن اعتاد ترك العمل المطلوب المؤقت في بعض أوقاته لعذر يوشك أن يتهاون به في بعض الأوقات لغير عذر بل لمحض الكسل فملكة المواظبة والمحافظة ركن من أركان التربية والنظام وترى مثل ذلك واضحا جليا في نظام الجندية الحديث فإن الجنود في مأمنهم داخل المعاقل والحصون يقيمون الخفراء عليهم آناء الليل والنهار في أوقات السلم والأمان لكيلا يقصروا في ذلك أيام الحرب، ولهم مثل ذلك أعمال كثيرة هم لها عاملون، كذلك نرى العمال في المعامل والبواخر يتعاهدون الآلات بالمسح والتنظيف في أوقات معينة كما يتعاهد الخدم في القصور والدور العامة والخاصة للأمراء والحكام وغيرهم من الذين يلتزمون النظام في معيشتهم الأماكن بالكنس والفرش والأثاث بالتنفيض والمسح في أوقات معينة وإن لم يكن هنالك وسخ ولا غبار، وبذلك تكون هذه المعاهد كلها وما فيها نظيفا دائما، وما من مكان تترك فيه هذه القاعدة العملية وتتبع قاعدة تنظيف الشيء عند طروء الوسخ أو الغبار عليه فقط إلا وترى الوسخ يلم به في أوقات كثيرة، فإذا تأملت هذا ظهر لك أن إباحة القيام للصلاة عند فقد الماء مثلا بدون الإتيان بعمل طهارتها ويذكر بها تضعف ملكة المواظبة حتى يصير العود إليها عند وجود الماء مستثقلا وإن في التيمم تقوية لتلك الملكة وتذكيرا بما لابد منه عند إمكانه بغير مشقة.

26. هذا ما ظهر لي ولم أسمعه قبل من أستاذ ولا رأيته في كتاب ولعلك تراه معقولا مقبولا لا تكلف فيه ثم إنني أنقل لك ما قاله العلماء في ذلك، قال العلامة ابن القيم في أعلام الموقعين:

أ. ومما يظن أنه على خلاف القياس باب التيمم قالوا إنه على خلاف القياس من وجهين: أحدها: أن التراب ملوث لا يزيل درنا ولا وسخا ولا يطهر البدن كما لا يطهر الثوب، والثاني: أنه شرع في عضوين من أعضاء الوضوء دون بقيتها وهذا خروج عن القياس الصحيح، ولعمر الله أنه خروج عن القياس الباطل المضاد للدين وهو على وفق القياس الصحيح فإن الله سبحانه جعل من الماء كل شيء حي وخلقنا من التراب فلنا مادتان الماء والتراب فجعل منهما نشأتنا وأقواتنا وبهما تطهرنا وتعبدنا فالتراب أصل ما خلق منه الناس، والماء حياة كل شيء وهما الأصل في الطبائع التي ركب عليها هذا العالم وجعل قوامه بهما وكان أصل ما يقع به تطهير الأشياء من الأدناس والأقذار هو الماء في الأمر المعتاد فلم يجز العدول عنه إلا في حال العدم أو العذر بمرض أو نحوه وكان النقل عنه إلى شقيقه وأخيه التراب أولى من غيره، وإن لوث ظاهرا فإنه يطهر باطنا ثم يقوي طهارة الباطن فيزيل دنس الظاهر أو يخففه، وهذا أمر يشهده من له بصر نافذ بحقائق الأعمال وارتباط الظاهر بالباطن وتأثر كل منهما بالآخر وانفعاله عنه.

ب. وأما كونه في عضوين ففي غاية الموافقة للقياس والحكمة فإن وضع التراب على الرؤوس مكروه في العادات وإنما يفعل عند المصائب والنوائب، والرجلان محل ملابسة التراب في أغلب الأحوال، وفي تتريب الوجه من الخضوع والتعظيم لله والذل له والانكسار ما هو أحب العبادات إليه وأنفعها للعبد ولذلك يستحب للساجد أن يترب وجهه لله وأن لا يقصد وقاية وجهه من التراب كما قال بعض الصحابة لمن رآه قد سجد وجعل بينه وبين التراب وقاية فقال ترب وجهك، وهذا المعنى لا يوجد في تتريب الرجلين، وأيضا فموافقة ذلك القياس من وجه آخر وهو أن التيمم جعل في العضوين المغسولين وسقط من العضوين الممسوحين فإن الرجلين تمسحان في الخف والرأس في العمامة فلما خفف عن المغسولين بالمسح خفف عن الممسوحين بالعفو إذ لو مسحا بالتراب لم يكن فيه تخفيف عنهما بل كان فيه انتقال من مسحهما بالماء إلى مسحهما بالتراب فظهر أن الذي جاءت به الشريعة هو أعدل الأمور وأكملها وهو الميزان الصحيح.

ج. وأما كون تيمم الجنب كتيمم المحدث فلما سقط مسح الرأس والرجلين بالتراب عن المحدث سقط مسح البدن كله بالتراب عنه بطريق الأولى إذ في ذلك من المشقة والحرج والعسر ما يناقض رخصة التيمم ويدخل أكرم المخلوقات على الله في سبه البهائم إذا تمرغ في التراب فالذي جاءت به الشريعة لا مزيد في الحسن والحكمة والعدل عليه ولله الحمد.

27. وقال الشعراني في الميزان في وجه قول الشافعي وأحمد لا يجوز التيمم إلا بالتراب أو برمل فيه غبار وقول أبي حنيفة ومالك بجوازه بالحجارة وجميع أجزاء الأرض حتى النبات عند مالك أقول وكذا الثلج والجليد في رواية ما نصه: (ووجه الأول قرب التراب من الروحانية لأن التراب هو ما يحصل من عكارة الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي فهو أقرب شيء إلى الماء بخلاف الحجر فإن أصله الزائد الصاعد على وجه الماء فلم يتخلص للمائية ولا للترابية فكان ضعيف الروحانية على كل حال بخلاف التراب، وسمعت سيدي عليّا الخواص رحمه الله يقول إنما لم يقل الشافعي وغيره بصحة التيمم بالحجر مع وجود التراب لبعد الحجر عن طبع الماء وروحانيته فلا يكاد يحيي العضو الممسوح ولو سحق لاسيما أعضاء أمثالنا التي ماتت من كثرة المعاصي والغفلات وأكل الشهوات، وسمعته مرة أخرى يقول نعم ما فعل الشافعي من تخصيص التيمم بالتراب لما فيه من قوة الروحانية به بعد فقد الماء لا سيما أعضاء من كثر منه الوقوع في الخطايا من أمثالنا فعلم أن وجوب استعمال التراب خاص بالأصاغر ووجوب استعمال الحجر خاص بالأكابر الذين لا يعصون ربهم لكن إن تيمّموا بالتراب زادوا روحانية وانتعاشا، وسمعته مرة أخرى: يقول وجه من قال يصح التيمم بالحجر مع وجود التراب كونه رأى أن أصل الحجر من الماء كما ورد في الصحيح أن رجلا قال يا رسول الله: جئت أسألك عن كل شيء؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كل شيء خلق من الماء) انتهى إلى أن قال الشعراني لكن لا ينبغي للمتورع التيمم بالحجر إلا بعد فقد التراب لأنه مرتبة ضعيفة بالنظر للتراب ثم أورد آية التقوى بقدر الاستطاعة والحديث الذي بمعناها ثم قال ونظير ما نحن فيه قول علمائنا في باب الحج إن من لا شعر برأسه يستحب إمرار الموسى عليه تشبيها بالحالقين فكذلك الأمر هنا فمن فقد التراب المعهود ضرب على الحجر تشبيها بالضاربين بالتراب)

28. وقال الشيخ أحمد المعروف بشاه ولي الله المحدث الدهلوي في كتابه حجة الله البالغة ما نصه: لما كان من سنة الله في شرائعه أن يسهل عليهم كل ما يستطيعونه وكان أحق أنواع التيسير أن يسقط ما فيه حرج إلى بدل لتطمئن نفوسهم ولا تختلف الخواطر عليهم بإهمال ما التزموه غاية الالتزام مرة واحدة ولا يألفوا ترك الطهارات أسقط الوضوء والغسل في المرض والسفر إلى التيمم، ولما كان ذلك كذلك نزل القضاء من الملأ الأعلى بإقامة التيمم مقام الوضوء والغسل وحصل له وجود تشبيهي أنه طهارة من الطهارات وهذا القضاء أحد الأمور العظام التي تميزت بها الملة المصطفوية من سائر الملل وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (جعلت تربيتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء) أقول إنما خص الأرض لأنها لا تكاد تفقد فهي أحق ما يرفع به الحرج ولأنها طهور في بعض الأشياء كالخف والسيف بدلا عن الغسل بالماء، ولأن فيه تذللا بمنزلة تعفير الوجه في التراب وهو يناسب طلب العفو، وإنما لم يفرق بين بدل الغسل والوضوء ولم يشرع التمرغ لأن من حق ما لا يعقل معناه بادي الرأي أن يجعل كالمؤثر بالخاصية دون المقدار فإنه هو الذي أطمأنت نفوسهم به في هذا الباب، ولأن التمرغ فيه بعض الحرج فلا يصلح رافعا للحرج بالكلية، وفي معنى المرض البرد الضار لحديث عمرو بن العاص، والسفر ليس بقيد إنما هو صورة لعدم وجدان الماء يتبادر إلى الذهن، وإنما لم يؤمر بمسح الرجل بالتراب لأن الرجل محل الأوساخ وإنما يؤمر بما ليس حاصلا ليحصل به التنبه.

29. أحسن ما أورده الشعراني التنظير بمسألة إمرار الموسى على رأس من لا شعر له عند التحلل من الإحرام، وأحسن ما قاله الدهلوي مسألة اطمئنان النفس بالبدل واتقاء أن يألفوا ترك الطهارة وهذا قريب من الوجه الثاني الذي أوردته أو شعبة منه على أنني ما رأيته إلا بعد أن قررت هذا المعنى مرارا وكتبته قبل الآن ولله الحمد أولا وآخرا وباطنا وظاهرا.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/119.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما كانت الصلاة فريضة موقوتة لا هوادة فيها لأنها تذكّر المرء ربه وتعدّه للتقوى، وكان الاغتسال من الجنابة يتعسر في بعض الحالات ويتعذر في بعضها الآخر، رخص سبحانه لنا في ترك استعمال الماء والاستعاضة عنه بالتيمم، فقال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ المراد بالمرض المرض الذي يخاف زيادته باستعمال الماء كبعض الأمراض الجلدية والقروح كالحصبة والجدرىّ أو نحو ذلك، والسفر يشمل الطويل والقصير، والمراد بالمجي‏ء من الغائط الحدث الأصغر بخروج شيء من أحد السبيلين (القبل والدبر) وملامسة النساء: غشيانهن، ففي هذه الحالات (المرض، السفر، فقد الماء عقب الحدث الأصغر الموجب للوضوء والحدث الأكبر الموجب للغسل) اقصدوا وتحروا صعيدا طيبا: أي وجها طاهرا من الأرض لا قذارة فيه ولا أوساخ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ثم صلّوا.

2. والخلاصة ـ إن حكم المريض والمسافر إذا أرادا الصلاة كحكم المحدث حدثا أصغر أو ملامس النساء ولم يجد الماء فعلى كل هؤلاء التيمم فقط قاله محمد عبده، لكن المعروف في المذاهب الأربعة أن شرط التيمم في السفر فقد الماء فلا يجوز مع وجوده، وهذا بخلاف ظاهر الآية.

3. من تأمل في رخص السفر التي منها قصر الصلاة وإباحة الفطر في رمضان لا يستنكر أن يرخص للمسافر في ترك الغسل والوضوء مع وجود الماء وهما دون الصلاة والصيام في نظر الدين، فالمشاهد أن الوضوء والغسل يشقان على المسافر الواجد للماء في هذا الزمان الذي سهلت فيه وسائل السفر في السكك الحديدية والبواخر، فكيف تكون المشقة للمسافرين على ظهور الإبل في مفاوز الحجاز وجبالها، فأشق ما يشق في السفر الغسل والوضوء وإن كان الماء حاضرا مستغنى عنه، ففي البواخر يوجد الماء وتوجد الحمامات للاغتسال بالماء الساخن والماء البارد ولكنها خاصة بالأغنياء الذين يركبون في الدرجة الأولى والثانية، وهؤلاء الأغنياء منهم من يصيبه دوار شديد يتعذر معه الاغتسال، أو خفيف يشق معه الاغتسال ولا يتعذر، فإذا كانت هذه السفن التي يوجد فيها الماء على هذه الحال يتعسر فيها الاغتسال أو يتعذر فكيف يكون الاغتسال في قطر السكك الحديدية أو في قوافل الجمال والبغال؟

4. ثم ذكر الله تعالى منشأ السهولة واليسر فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ العفو هنا التيسير والسهولة، ومنه قوله تعالى‏ ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم‏: (قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق)، أي أسقطتها تيسيرا عليكم، ومن عفوه وتسهيله أن أسقط في حال المرض والسفر وجوب الوضوء والغسل.

5. قال السيد حسن صديق خان في شرحه للروضة الندية: قد كثر الاختباط في تفسير هذه الآية: وإن كنتم مرضى أو على سفر إلخ، والحق أن قيد عدم وجود الماء راجع إلى قوله: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ فتكون الأعذار ثلاثة: السفر والمرض وعدم وجود الماء في الحضر، وهذا ظاهر على قول من يقول: إن القيد إذا وقع بعد جمل متصلة كان قيدا لآخرها، وأما على قول من يقول إنه يكون قيدا للجميع إلا أن يمنع مانع فكذلك أيضا لأنه قد وجد المانع هنا من تقييد السفر والمرض بعدم وجود الماء ـ وهو أن كل واحد منهما عذر مستقل في غير هذا الباب‏ كالصوم، ويؤيد هذا أحاديث التيمم التي وردت مطلقة وغير مقيدة بالحضر اه، ومنه تعلم أن رأيه كرأى محمد عبده من أن السفر وحده عذر كاف في التيمم وجد الماء أو لم يوجد.

__________

(1) تفسير المراغى: 5/49.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا النص يشمل حالة المسافر ـ عند ما يصيبه حدث أكبر فيكون جنبا في حاجة إلى الغسل أو حدث أصغر، فيكون في حاجة إلى الوضوء، لأداء الصلاة، والنص يسويه في هذه الحالة بمن كان مريضا، فألم به حدث أكبر أو أصغر، أو بمن جاء من الغائط (والغائط مكان منخفض كانوا يقضون حاجتهم فيه، فكنى عن الفعل بالمجي‏ء من مكان الفعل) فأصابه حدث أصغر يقتضي الوضوء، أو بمن لامس النساء.

2. في ﴿لا مستم النساء﴾.. أقوال كذلك: قول: إنه كناية عن الجماع.. فهو يستوجب الغسل، وقول: إنه يعني حقيقة اللمس.. لمس أي جزء من جسم الرجل لجسم المرأة.. وهو يستوجب الوضوء في بعض المذاهب، ولا يستوجبه في بعضها، بتفصيلات تطلب في كتب الفروع نذكر منها إجمالا:

أ. اللمس يوجب الوضوء إطلاقا.

ب. اللمس يوجب الوضوء إذا كان اللامس ممن تثور الشهوة في نفسه باللمس، وإذا كانت الملموسة ممن تثير الشهوة باللمس.

ج. اللمس يوجب الوضوء إذا أحس اللامس نفسه ـ حسب تقديره في كل حالة ـ أن اللمسة أثارت في نفسه حركة.

د. اللمس لا يوجب الوضوء إطلاقا، ولا العناق ولا التقبيل للزوجة.

3. ولكل قول سنده من أفعال أو من أقوال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.. على طريقة الاختلافات الفقهية في الفروع، والذي نرجحه في معنى‏ ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ أنه كناية عن الفعل الذي يستوجب الغسل، وبذلك نستغني هنا عن كل الخلافات في مسألة الوضوء، وفي جميع هذه الحالات المذكورة، سواء كانت الحالة تستوجب الغسل أو تستوجب الوضوء للصلاة، حين لا يوجد الماء ـ وكذلك حين يوجد ولكن استعماله يكون ضارا أو غير مقدور عليه ـ يغني عن الغسل والوضوء: التيمم، وقد جاء اسمه من نص الآية.

4. ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾، أي فاقصدوا صعيدا طيبا.. طاهرا.. والصعيد كل ما كان من جنس الأرض من تراب، أو حجر، أو حائط، ولو كان التراب مما على ظهر الدابة، أو في الفراش من ذرات التراب المتطاير، متى كان هناك تراب يتطاير عند ضرب اليدين به.

5. وطريقة التيمم: إما خبطة واحدة بالكفين على الصعيد الظاهر، ثم نفضهما، ثم مسح الوجه، ثم مسح اليدين إلى المرفقين بهما.. وإما خبطتان: خبطة يمسح بها الوجه، وخبطة يمسح بها الذراعان.. ولا داعي هنا لذكر الخلافات الفقهية الدقيقة فيما وراء هذا.. فهذا الدين يسر، وفي شرعية التيمم يتجلى معنى التيسير واضحا.

6. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾، وهو التعقيب الموحي بالتيسير، وبالعطف على الضعف، وبالمسامحة في القصور، والمغفرة في التقصير.

7. وقبل أن ننهي الحديث عن هذه الآية وعن هذا الدرس.. نقف أمام بضع لمسات في هذه الآية القصيرة:

8. نقف أمام (حكمة التيمم)، نحاول استيضاح ما ييسره لنا الله من حكمتها، إن بعض الباحثين في حكمة التشريعات والعبادات الإسلامية، يندفعون أحيانا في تعليل هذه الأحكام؛ بصورة توحي بأنهم استقصوا هذه الحكمة؛ فلم يعد وراء ما استقصوه شيء! وهذا منهج غير سليم في مواجهة النصوص القرآنية والأحكام التشريعية.. ما لم يكن قد نص على حكمتها نصا.. وأولى: أن نقول دائما: إن هذا ما استطعنا أن نستشرفه من حكمة النص أو الحكم، وأنه قد تكون دائما هنالك أسرار من الحكمة لم يؤذن لنا في استجلائها! وبذلك نضع عقلنا البشري ـ في مكانه ـ أمام النصوص والأحكام الإلهية، بدون إفراط ولا تفريط، أقول هذا، لأنّ بعضنا ـ ومنهم المخلصون ـ يحبون أن يقدموا النصوص والأحكام الإسلامية للناس، ومعها حكمة محددة، مستقاة مما عرفه البشر من واقعهم أو مما كشف عنه (العلم الحديث)! وهذا حسن ـ ولكن في حدود ـ هي الحدود التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة، وكثيرا ما ذكر عن حكمة الوضوء ـ قبل الصلاة ـ أنها النظافة، وقد يكون هذا المعنى مقصودا في الوضوء، ولكن الجزم بأنه هو.. وهو دون غيره.. هو المنهج غير السليم، وغير المأمون أيضا: فقد جاء وقت قال بعض المماحكين: لا حاجة بنا إلى هذه الطريقة البدائية: فالنظافة الآن موفورة، والناس‏ يجعلونها في برنامج حياتهم اليومي، فإذا كانت هذه هي (حكمة الوضوء) فلا داعي للوضوء إذن للصلاة! بل.. لا داعي للصلاة أيضا! وكثيرا ما ذكر عن (حكمة الصلاة).. تارة أنها حركات رياضية تشغل الجسم كله وتارة بأنها تعويد على النظام: أولا في مواقيتها، وثانيا في حركاتها، وثالثا في نظام الصفوف والإمامة.. إلخ، وتارة أنها الاتصال بالله في الدعاء والقراءة.. وهذا وذاك وذلك قد يكون مقصودا.. ولكن الجزم بأن هذا أو ذاك أو ذلك هو (حكمة الصلاة) يتجاوز المنهج السليم والحد المأمون.

9. وقد جاء حين من الدهر قال بعضهم فيه: إنه لا حاجة بنا إلى حركات الصلاة الرياضية، فالتدريبات الرياضية المنوعة كفيلة بهذا بعد أن أصبحت الرياضة فنا من الفنون! وقال بعضهم: ولا حاجة بنا إلى الصلاة لتعود النظام، فعندنا الجندية ـ مجال النظام الأكبر، وفيها غناء! وقال بعضهم: لا حاجة لتحتيم شكل هذه الصلاة، فالاتصال بالله يمكن أن يتم في خلوة ونجوة بعيدا عن حركات الجوارح، التي قد تعطل الاستشراف الروحي! وهكذا.. إذا رحنا (نحدد) حكمة كل عبادة، وحكمة كل حكم، ونعلله تعليلا وفق (العقل البشري) أو وفق (العلم الحديث) ثم نجزم بأن هذا هو المقصود.. فإننا نبعد كثيرا عن المنهج السليم في مواجهة نصوص الله وأحكامه، كما نبعد كذلك عن الحد المأمون، ونفتح الباب دائما للمماحكات، فوق ما تحتمله تعليلاتنا من خطأ جسيم، وبخاصة حين نربطها بالعلم، والعلم قلب لا يثبت على حال، وهو كل يوم في تصحيح وتعديل!

10. وهنا في موضوعنا الحاضر ـ موضوع التيمم ـ يبدو أن حكمة الوضوء أو الغسل، ليست هي (مجرد) النظافة، وإلا فإن البديل من أحدهما أو من كليهما، لا يحقق هذه (الحكمة)! فلا بد إذن من حكمة (أخرى) للوضوء أو الغسل، تكون متحققة كذلك في (التيمم)، ولا نريد نحن أن نقع في الغلطة نفسها فنجزم! ولكننا نقول فقط: إنها ـ ربما ـ كانت هي الاستعداد النفسي للقاء الله، بعمل ما، يفصل بين شواغل الحياة اليومية العادية، وبين اللقاء العظيم الكريم.. ومن ثم يقوم التيمم ـ في هذا الجانبـ مكان الغسل أو مكان الوضوء، ويبقى وراء هذا علم الله الكامل الشامل اللطيف؛ بدخائل النفوس، ومنحنياتها ودروبها، التي لا يعلمها إلا اللطيف الخبير.. ويبقى أن نتعلم نحن شيئا من الأدب مع الجليل العظيم العلي الكبير.

11. ونقف مرة أخرى أمام حرص المنهج الرباني على الصلاة؛ وعلى إقامتها في وجه جميع الأعذار والمعوقات، وتذليل هذه المعوّقات، والتيسير البادي في إحلال التيمم محل الوضوء، ومحل الغسل، أو محلهما معا، عند تعذر وجود الماء؛ أو عند التضرر بالماء (أو عند الحاجة إلى الماء القليل للشرب وضروريات الحياة) وكذلك عند السفر (حتى مع وجود الماء في أقوال)

12. إن هذا كله يدل ـ بالإضافة إلى ما سيأتي في السورة من بيان كيفية الصلاة عند الخوف ـ في ميدان القتال ـ على حرص شديد من المنهج الرباني، على الصلاة.. بحيث لا ينقطع المسلم عنها لسبب من الأسباب (ويبدو ذلك كذلك في المرض حيث تؤدى الصلاة من قعود، أو من اضطجاع، أو من نوم، وتؤدى بحركات من جفني العين عند ما يشق تحريك الجسم والأطراف!) إنها هذه الصلة بين العبد والرب، الصلة التي لا يحب الله للعبد أن ينقطع عنها، لأنه ـ سبحانه ـ يعلم ضرورتها لهذا العبد، فالله سبحانه غني عن العالمين، ولا يناله من عبادة العباد شيء، إلا صلاحهم هم، وإلا ما يجدون في الصلاة والاتصال بالله، من العون على تكاليفهم، والاسترواح لقلوبهم، والاطمئنان لأرواحهم، والإشراق في كيانهم؛ والشعور بأنهم في كنف الله، وقربه، ورعايته، بالطريقة التي تصلح لفطرتهم، والله أعلم بفطرتهم هذه، وبما يصلح لها وما يصلحها.. وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.

13. ونقف كذلك أمام بعض التعبيرات الرائقة في هذا النص القصير:

أ. ذلك حين يعبر عن قضاء الحاجة في الغائط بقوله: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾.. فلا يقول: إذا عملتم كذا وكذا.. بل يكتفي بالعودة من هذا المكان، كناية عما تم فيه! ومع هذا لا يسند الفعل إلى المخاطبين، فلا يقول: أو جئتم من الغائط، بل يقول: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ زيادة في أدب الخطاب، ولطف الكناية، ليكون هذا الأدب نموذجا للبشر حين يتخاطبون!

ب. وحين يعبر عما يكون بين الرجل والمرأة بقوله: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ والتعبير بالملامسة أرق وأحشم وأرقى ـ والملامسة قد تكون مقدمة للفعل أو تعبيرا عنه ـ وعلى أية حال فهو أدب يضربه الله للناس، في الحديث عن مثل هذه الشؤون، عند ما لا يكون هناك مقتض للتعبير المكشوف.

ج. وحين يعبر عن الصعيد الطاهر، بأنه الصعيد الطيب، ليشير إلى أن الطاهر طيب، وأن النجس خبيث، وهو إيحاء لطيف المدخل إلى النفوس، وسبحان خالق النفوس، العليم بهذه النفوس!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/669.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا استثناء من حكم عام، وهو الوضوء للصلاة قبل الدخول في الصلاة، والمستثنون من هذا الحكم هم أصحاب معاذير: افتضت رحمة الله بهم التخفيف عنهم، وأخذهم بحكم خاص، غير هذا الحكم العام الذي يجرى على من لا عذر لهم، وأصحاب المعاذير هنا هم:

أ. من كان مريضا.. أي المريض الذي يعجزه مرضه عن استعمال الماء.

ب. أو من كان على سفر.. سواء أكان السفر طويلا أم قصيرا، ما دام قد بعد عن أهله وبلده.

ج. من انتقض وضوؤه، بخروج شيء من أحد السبيلين.. ولو كان صحيحا سليما ـ إذا لم يجد الماء، أو وجده وأضرّ به استعماله، وهو المشار إليه بقوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾.. والغائط هو المكان المنخفض، وهو كناية عن قضاء الحاجة، حيث تقضى في مكان لا يقع تحت أعين الناس.

د. من كان جنبا.. ولو كان سليما معافى لا يضره استعمال الماء، ولكنه لا يجده.

2. فهؤلاء.. إذا لم يجدوا الماء أو وجدوه وأضرّ بهم استعماله، كان التيمم بديلا لهم من الماء، في أداء الصلاة، فالمريض، الذي يمنعه مرضه من استعمال الماء، له التيمم مع وجود الماء، وكذلك شأن المسافر، إذا كان معه من الماء ما لا يفيض عن حاجته في طعامه وشرابه.

3. والتيمم معناه القصد، والاتجاه، والصعيد ما ارتفع من الأرض، وصعد، والمراد بقوله تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ اختيار مكان طاهر من الأرض، ليمسح منه على الوجه واليدين، قبل الدخول في الصلاة، والإشارة إلى الصعيد، لمظنّة أنه بمنأى من الخبث والقذر، حيث يعلو عن استعمال الناس، والتلوث بالقذارات، فليس المراد مجرّد العلوّ لاختيار المكان الذي يمسح منه، وإنما القصد أن يكون طيبا طاهرا، ولهذا جاء قوله تعالى: ﴿صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ قيدا للصفة التي يكون عليها هذا الصعيد، وهو أن يكون طيبا، إذ قد يكون صعيدا، ولكنه ملوث بالخبث والقذر.

4. وهنا أمر نحبّ أن يشير إليه، وهو ما في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ حيث أطلق الجنابة، ولم يقيدها، إن كانت عن حلال أو حرام! وهذا يعنى أن (الزاني) جنب، وأنه حين يريد الصلاة ينبغي أن يتطهر بالاغتسال، أو التيمم، حسب الحكم الذي يقتضيه حاله، شأنه في ذلك شأن (الجنب) الذي واقع زوجه! أما جريمة (الزنا) التي اقترفها، فلها حكمها الخاص بها.. ولا متعلق لها بفريضة الصلاة المفروضة عليه، نقول هذا، لنشير به إلى ما سبق أن قررناه في شأن شارب الخمر، الذي إذا أراد أن يؤدى فريضة الصلاة، فإن له أن يؤديها، ولكن بعد أن، يفيق من‏ سكره ويعلم ما يقول.. تماما، كما يغتسل (الزاني) ويتطهر من الجنابة قبل الدخول في الصلاة.

5. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ نجد دعوة كريمة، من رب كريم، عفوّ غفور، يدعو هؤلاء المذنبين إليه.. من شاربى خمر، أو زناة، ليدخلوا في رحابه، وليرفعوا وجوههم إليه وليخبتوا له، ساجدين راكعين، عسى الله أن يتوب عليهم، ويغفر لهم.. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾، وما أوسع رحمة الله، وما أعظم فضله، إذ بسط يده بالعفو وبالمغفرة، قبل أن يسعى إليها الساعون، ويطلبها العصاة المذنبون.

6. سؤال وإشكال: هذا القيد الوارد على إباحة التيمم، عند عدم وجود الماء ـ هل هو منسحب إلى جميع أصحاب هذه الأعذار.. وهم المرضى، ومن كان على سفر، ومن جاء من الغائط، ومن لامس النساء؟ والجواب: كلّا.. فإن المريض سواء وجد الماء أو لم يجده، قد رخّص له في التيمم، وقام مرضه في دفع الحرج عنه مقام عدم وجود الماء.. وإلا لما كان لذكره هنا وجه.. فإن عدم وجود الماء هو عذر للصحيح أيضا، فلا وضوء عليه الصلاة، بل يجزيه التيمم، الذي هو طهارة له، والتي هي شرط للدخول في الصلاة.

7. سؤال وإشكال: أيلحق المسافر في الحكم بالمريض، فيباح له التيمم، سواء وجد الماء أم لم يجده، أم أنه يلحق بمن ذكر بعده، وهو من جاء من الغائط أو لامس النساء.. حيث لا يباح لهما التيمم إلا عند فقدان الماء؟ والجواب: هنا يطالعنا وجه من وجوه الإعجاز القرآني نلمحه في ترتيب أصحاب هذه الأعذار المبيحة للتيمم، حيث بدأ بالأقوى عذرا، فمن دونه، وهكذا:

أ. فالمريض.. صاحب عذر واضح في إباحة التيمم له، بحيث لا ينتقض هذا العذر بوجود الماء.

ب. أما المسافر.. فهو على حال دون المريض، ولكنه شبيه بالمريض في بعض ما يحيط به من أحوال.. فهو ضعيف لانقطاعه عن أهله، ولسوء تغذيته، ولمكابدته مشاق السفر.. فهو ـ والحال كذلك ـ في حكم المريض، وإن لم يكن مريضا، ولهذا جاء تاليا للمريض في ترتيبه بين أصحاب الأعذار، وعلى هذا، فإن له أن يأخذ بحكم المريض، فينتفع برخصة التيمم، مع وجود الماء، وهذا هو سرّ ذكره بين أصحاب الأعذار، ليكون السفر عذرا له، كما يكون فقدان الماء عذرا لغير المسافر.. كمن جاء من الغائط أو لامس النساء.

8. هذا، ولا نستطيع أن نرفع أبصارنا عن هذه الآية الكريمة دون أن نملا العين من هذا النظم العجيب الذي جاءت عليه، وهى تقرر أحكاما، وتصدر تشريعا.. الأمر الذي لا يلتفت معه كثيرا إلى الصياغة البلاغية، التي كثيرا ما تجوز على التحديد والتقنين المطلوبين لتقرير الأحكام.. ولكنه القرآن الكريم، وكلام ربّ العالمين، يجمع الحسن كلّه، ويستوفى الكمال جميعه، والذي شدّ أبصارنا وبصائرنا من نظم هذه الآية الكريمة هو قوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ فقد جاء هذا المقطع من الآية الكريمة مخالفا لنسق النظم الذي جاءت عليه الآية، فيما سبقه، أو لحقه منها ـ فالآية تخاطب المؤمنين في صيغة الجمع.. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ وينفرد هذا المقطع: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ بأنه حديث عن الغائب المفرد.. ولو جاء على نسق النظم في الآية كلها لجاء هكذا: (أو جئتم من الغائط)، فما سرّ هذا؟ وأكاد أنصرف عن بيان هذا السرّ، الذي يكاد لا يكون سرّا، بعد أن يواجهه المقطع المعدول عنه، والذي كان من المتوقع أن يحلّ محلّه.. هكذا: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾.. (أو جئتم من الغائط)، ولكن لا بأس من أن نكشف هذا السرّ بعد أن انكشف، إذ لا تزال وراءه أسرار كثيرة لم تنكشف لنا، ولعلها تنكشف لمن يطلبها ويمعن النظر فيها، ففي قوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ﴾ تنكير وإخفاء وستر لهذا الذي جاء من الغائط، بعد أن كان عريانا، يباشر عملا يحبّ أن يستره ولا يطلع أحد عليه، ثم هو من جهة أخرى احترام لحياء المخاطبين، حتى لكأنهم لا يفعلون هذا الفعل الذي هو ضرورة ملزمة لكل حىّ.. والذي هو عمل يأتيه كلّ إنسان.. ولكنه أدب الحديث، الذي يؤدّبنا الله سبحانه وتعالى به، ويطلعنا من كلماته على ما لم تعرف الحياة في أعلى مستوياتها من أدب كهذا الأدب السماوي الكريم!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/800.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ ذكر حالة الرخصة في ترك الاغتسال وترك الوضوء الذي لم يذكر في هذه السورة، وذكر في سورة المائدة، وهي نازلة قبل هذه السورة، فالمقصود بيان حكم التيمّم بحذافره، وفي جمع هذه الأشياء في نسق حصل هذا المقصود، وحصل أيضا تخصيص لعموم قوله: ﴿وَلَا جُنُبًا﴾ كما تقدّم.

2. ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ بيان للإجمال الواقع في قوله: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ إن كان فيه إجمال، وإلّا فهو استئناف حكم جديد كما تقدّم.

3. ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ زيادة على حكم التيمّم الواقع بدلا من الغسل، بذكر التيمّم الواقع بدلا عن الوضوء إيعابا لنوعي التيمّم، وغير ذلك من أسبابه يؤخذ بالقياس على المذكور، فالمريض أريد به الذي اختلّ نظام صحته بحيث صار الاغتسال يضرّه أو يزيد علّته، ﴿أَوْ جَاءَ﴾.. ﴿مِنَ الْغَائِطِ﴾ كناية عن قضاء الحاجة البشرية، شاع في كلامهم التكنّي بذلك لبشاعة الصريح، والغائط: المنخفض من الأرض، وما غاب عن البصر، يقال: غاط في الأرض ـ إذا غابـ يغوط، فهمزته منقلبة عن الواو، وكانت العرب يذهبون عند قضاء الحاجة إلى مكان منخفض من جهة الحي بعيد عن بيوت سكناهم، فيكنون عنه: يقولون ذهب إلى الغائط أو تغوّط، فكانت كناية لطيفة ثم استعملها الناس بعد ذلك كثيرا حتّى ساوت الحقيقة فسمجت، فصار الفقهاء يطلقونه على نفس الحدث ويعلّقونه بأفعال تناسب ذلك.

4. ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ قرئ‏ ﴿لَامَسْتُمُ﴾ ـ بصيغة المفاعلة ـ، وقرئ (لمستم) ـ بصيغة الفعل ـ كما سيأتي، وهما بمعنى واحد على التحقيق، ومن حاول التفصيل لم يأت بما فيه تحصيل، وأصل اللّمس المباشرة باليد أو بشيء من الجسد، وقد أطلق مجازا وكناية على الافتقاد، قال تعالى: ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ﴾ [الجن: 8] وعلى النزول، قال النابغة: (ليلتمسن بالجيش دار المحارب) وعلى قربان النساء، لأنّه مرادف المسّ، ومنه قولهم: (فلانة لا تردّ يد لامس)، ونظيره‏ ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ [البقرة: 237]، والملامسة هنا يحتمل أن يكون المراد منها ظاهرها، وهو الملامسة بمباشرة اليد أو بعض الجسد جسد المرأة، فيكون ذكر سببا ثانيا من أسباب الوضوء التي توجب التيمّم عند فقد الماء، وبذلك فسّره الشافعي، فجعل لمس الرجل بيده جسد امرأته موجبا للوضوء، وهو محمل بعيد، إذ لا يكون لمس الجسد موجبا للوضوء وإنّما الوضوء ممّا يخرج خروجا معتادا، فالمحمل الصحيح أنّ الملامسة كناية عن الجماع، وتعديد هذه الأسباب لجمع ما يغلب من موجبات الطهارة الصغرى والطهارة الكبرى، وإنّما لم يستغن عن‏ ﴿لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ بقوله آنفا ﴿وَلَا جُنُبًا﴾ لأنّ ذلك ذكر في معرض الأمر بالاغتسال، وهذا ذكر في معرض الإذن بالتيمّم الرخصة، والمقام مقام تشريع يناسبه عدم الاكتفاء بدلالة الالتزام، وبذلك يكون وجه لذكره وجيه، وأمّا على تأويل الشافعي ومن تابعه فلا يكون لذكر سبب ثان من أسباب الوضوء كبير أهمية، وإلى هذا مال الجمهور فلذلك لم يجب عند مالك وأبي حنيفة الوضوء من لمس الرجل امرأته ما لم يخرج منه شيء، إلّا أنّ مالكا قال إذا التذ اللامس أو قصد اللذّة انتقض وضوءه، وحمل الملامسة في هذه الآية على معنييها الكنائي والصريح، لكن هذا بشرط الالتذاذ، وبه قال جمع من السلف، وأرى مالكا اعتمد في هذا على الآثار المروية عن أئمّة السلف، ولا أراه جعله المراد من الآية.

5. ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ عطف على فعل الشرط، وهو قيد في المسافر، ومن جاء من الغائط، ومن لا مس النساء، أمّا المريض فلا يتقيّد تيمّمه بعدم وجدان الماء لأنّه يتيمّم مطلقا، وذلك معلوم بدلالة معنى المرض، فمفهوم القيد بالنسبة إليه معطّل بدلالة المعنى، ولا يكون المقصود من المريض الزمن، إذ لا يعدم الزمن مناولا يناوله الماء إلّا نادرا.

6. ﴿فَتَيَمَّمُوا﴾ جواب الشرط ـ والتيمّم القصد ـ والصعيد وجه الأرض، قال ذو الرمّة يصف خشفا من بقر الوحش نائما في الشمس لا يكاد يفيق:

çكأنّه بالضحى ترمي الصعيد به‏... دبّابة في عظام الرأس خرطوم‏é

7. والطيّب: الطاهر الذي لم تلوّثه نجاسة ولا قذر، فيشمل الصعيد التراب والرمل والحجارة، وإنّما عبّر بالصعيد ليصرف المسلمين عن هوس أن يتطلّبوا التراب أو الرمل‏ ممّا تحت وجه الأرض غلوّا في تحقيق طهارته.

8. شرع بهذه الآية حكم التيمّم أو قرّر شرعه السابق في سورة المائدة على الأصحّ، وكان شرع التيمم سنة ستّ في غزوة المريسيع(2).

9. التيمّم بدل جعله الشرع عن الطهارة، ولم أر لأحد من العلماء بيانا في حكمة جعل التيمّم عوضا عن الطهارة بالماء وكان ذلك من همّي زمنا طويلا وقت الطلب ثم انفتح لي حكمة ذلك، وأحسب أنّ حكمة تشريعه تقرير لزوم الطهارة في نفوس المؤمنين، وتقرير حرمة الصلاة، وترفيع شأنها في نفوسهم، فلم تترك لهم حالة يعدّون فيها أنفسهم مصلّين بدون طهارة تعظيما لمناجاة الله تعالى، فلذلك شرع لهم عملا يشبه الإيماء إلى الطهارة ليستشعروا أنفسهم متطهّرين، وجعل ذلك بمباشرة اليدين صعيد الأرض التي هي منبع الماء، ولأنّ التراب مستعمل في تطهير الآنية ونحوها، ينظّفون به ما علق لهم من الأقذار في ثيابهم وأبدانهم وما عونهم، وما الاستجمار إلّا ضرب من ذلك، مع ما في ذلك من تجديد طلب الماء لفاقده وتذكيره بأنّه مطالب به عند زوال مانعه، وإذ قد كان التيمّم طهارة رمزية اقتنعت الشريعة فيه بالوجه والكفين في الطهارتين الصغرى والكبرى، كما دلّ عليه حديث عمّار بن ياسر، ويؤيّد هذا المقصد أنّ المسلمين لما عدموا الماء في غزوة المريسيع صلّوا بدون وضوء فنزلت آية التيمّم.

10. هذا منتهى ما عرض لي من حكمة مشروعيّة التيمّم بعد طول البحث والتأمّل في حكمة مقنعة في النظر، وكنت أعدّ التيمّم هو النوع الوحيد بين الأحكام الشرعية في معنى التعبّد بنوعه، وأمّا التعبّد ببعض الكيفيات والمقادير من أنواع عبادات أخرى فكثير، مثل عدد الركعات في الصلوات، وكأنّ الشافعي لمّا اشترط أن يكون التيمّم بالتراب خاصّة وأن ينقل المتيمّم منه إلى وجهه ويديه، راعى فيه معنى التنظيف كما في الاستجمار، إلّا أنّ هذا القول لم ينقل عند أحد من السلف، وهو ما سبق إلى خاطر عمّار بن ياسر حين تمرّغ في التراب لمّا تعذّر عليه الاغتسال، فقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يكفيك من ذلك الوجه والكفّان)

11. ولأجل هذا أيضا اختلف السلف في حكم التيمّم، فقال عمر وابن مسعود: لا يقع التيمّم بدلا إلّا عن الوضوء دون الغسل، وأنّ الجنب لا يصلّي حتّى يغتسل سواء كان ذلك في الحضر أم في السفر، وقد تناظر في ذلك أبو موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود: روى البخاري في كتاب التيمّم قال أبو موسى لا بن مسعود: أرأيت إذا أجنب فلم يجد الماء كيف يصنع؟ قال عبد الله: لا يصلّي حتّى يجد الماء، فقال أبو موسى: فكيف تصنع بقول عمّار حين قال له النبي: كان يكفيك هكذا، فضرب بكفّيه الأرض ثم مسح بهما وجهه وكفّيه، قال ابن مسعود: ألم تر عمر لم يقنع منه بذلك، قال أبو موسى، فدعنا من قول عمّار، كيف تصنع بهذه الآية ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ فما درى عبد الله ما يقول، فقال: إنّا لو رخّصنا لهم في هذا لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمّم، ولا شك أنّ عمر، وابن مسعود، تأوّلا آية النساء فجعلا قوله: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ رخصة لمرور المسجد، وجعلا ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ مرادا به اللّمس الناقض للوضوء على نحو تأويل الشافعي، وخالف جميع علماء الأمّة عمر وابن مسعود في هذا، فقال الجمهور: يتيمّم فاقد الماء ومن يخاف على نفسه الهلاك أو المرض أو زيادة المرض ولو نزلة أو نزلة أو حمّى، وقال الشافعي: لا يتيمّم إلّا فاقد الماء أو من يخاف على نفسه التلف دون المرض أو زيادته، لأنّ زيادة المرض غير محقّقة، ويردّه أنّ كلا الأمرين غير محقّق الحصول، وأنّ الله لم يكلّف الخلق بما فيه مشقّة، وقد تيمّم عمرو بن العاص في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل وصلّى بالناس، (فذكروا ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فسأله فقال عمرو: إني سمعت الله يقول: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29] فضحك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم ينكر عليه‏.

12. ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ جعل التيمّم قاصرا على مسح الوجه‏ واليدين، وأسقط مسح ما سواهما من أعضاء الوضوء بله أعضاء الغسل، إذ ليس المقصود منه تطهيرا حسيّا، ولا تجديد النشاط، ولكن مجرّد استحضار استكمال الحالة للصلاة، وقد ظنّ بعض الصحابة أنّ هذا تيمّم بدل عن الوضوء، وأنّ التيمّم البدل عن الغسل لا يجزئ منه إلّا مسح سائر الجسد بالصعيد، فعلّمه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن التيمّم للجنابة مثل التيمّم للوضوء، فقد ثبت في (الصحيح) عن عمّار بن ياسر، قال كنت في سفر فأجنبت فتمعّكت في التراب (أي تمرّغت) وصلّيت فأتيت النبي فذكرت ذلك فقال (يكفيك الوجه والكفان)

13. الباء للتأكيد مثل: (وهزّي إليك بجذع النخلة) وقول النابغة ـ يرثي النعمان بن المنذر ـ:

çلك الخير إن وارت بك الأرض واحدا... وأصبح جدّ الناس يظلع عاثراé

أراد إن وارتك الأرض مواراة الدفن، والمعنى: فامسحوا وجوهكم وأيديكم، وقد ذكرت هذه الباء مع الممسوح في الوضوء ومع التيمّم للدلالة على تمكّن المسح لئلا تزيد رخصة على رخصة.

14. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ تذييل لحكم الرخصة إذ عفا عن المسلمين فلم يكلّفهم الغسل أو الوضوء عند المرض، ولا ترقّب وجود الماء عند عدمه، حتّى تكثر عليهم الصلوات فيعسر عليهم القضاء.

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/139.

(2) ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعض الناس يكون مريضا يشق عليه استعمال الماء، أو يكون على سفر يشق عليه الحصول على الماء، ولذلك شرع له التيمم، وهو طهارة روحية فقط، إذا عجز عن الطهارة الحسية بالماء.

2. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ هذا النص اشتمل على الأعذار التي تسوغ التيمم:

أ. وأول هذه الأعذار المرض، وهو الذي يضر معه استعمال الماء، أو يزيده الماء، أو يبطئ برءه، فإن الله يرخص لهذا المريض أن يتيمم بدل أن يتوضأ، أو يغتسل إذا كان الموجب لاستعمال الماء هو الجنابة.

ب. وثاني هذه الأعذار السفر، والسفر عادة يقل فيه الماء، فإذا لم يجده أصلا، أو كان ما معه من ماء يبقيه ليتقى به العطش في مجاهل الأرض، فإنه يكون له أن يتيمم بدل الوضوء والاغتسال، كل في موضعه وعند تحقق سببه الثالث عدم وجود الماء في الحضر من غير سفر، فإنه يسوغ التيمم، ومثل حال المرض ما إذا كان الماء باردا بردا شديدا، ولا يوجد معه ما يدفئ به الماء، ليتقى ضرره، فإنه يسوغ التيمم، وقد أقر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك، فقد كان عمرو بن العاص على سفر في غزوة، فأصابهم ما أوجب الاغتسال، وكان البرد شديدا، والماء شديد البرد، فتيمم خشية من استعمال الماء الشديد البرودة، وأبلغ ذلك للنبي فأقره‏ وإنه إذا كان المرض يجيز التيمم فتوقعه المؤكد أو الذي يغلب على الظن يبيح التيمم أيضا.

3. وبين سبحانه بالإشارة أسباب الوضوء أو التيمم فقال: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾، والغائط من الغيط، الأصل في معناه ما انخفض من الأرض، والجمع غيطان وأغواط، ولما كان ما يلفظ من باطن الإنسان عن طريقه‏ الطبيعي يكون في غوط الأرض عند الكثيرين من أهل البادية أطلق عليه ذلك الاسم، من قبيل إطلاق اسم المكان على ما يحل فيه، وهذا مجاز عربي اشتهر حتى صار حقيقة عرفية، والمجاز إذا اشتهر صار كالحقيقة لا يبحث له عن أصل، ولا عن علاقة، فصار يطلق ولو كان ذلك الملفوظ لا يلقى في غوط الأرض أو منخفضها.

4. وقوله تعالى: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ﴾، في قراءة: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ كناية عن الدخول بهن، فهو لا يعبر عن هذا المعنى إلا بهذه الكناية الظاهرة، ومثله المس يعبر به عن الدخول، فقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب‏]، وقال تعالى: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ [البقرة]، ففي هذه العبارات السامية وأمثالها، يكون المس المراد به الدخول، وقد جوز الشافعي الجمع بين الحقيقة والمجاز، فلم يمنع أن يراد باللمس معناه الحقيقي وهو مس بشرة الجسم، ومعناه المجازى أو الكنائى، وهو الدخول بالمرأة، ولذا نقض الوضوء عنده بمطلق لمس امرأة ليست ذات رحم محرم ما دامت قد بلغت البلوغ الطبيعي.

5. (أو) في قوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ قال بعض العلماء إنها بمعنى الواو، والمعنى على ذلك: وإن كنتم مرضى، أو على سفر، وجاء أحد منكم من الغائط، أو جامعتم النساء، فتيمموا صعيدا طيبا، والأولى أن تكون على معناها، ويكون الكلام على تقدير محذوف دل عليه ما بعده، وتأويل القول هكذا: وإن كنتم مرضى أو على سفر، وأصابتكم جنابة، أو ما ينقض الوضوء، فتيمموا، أو أصابكم ما ينقض الوضوء أو ما يحدث جنابة فلم تجدوا ماء فتيمموا، ويكون في الكلام تقسيم حسن أوله التيمم لأجل المرض أو السفر وشح الماء، والثاني التيمم في حال الإقامة إذا لم يوجد الماء، ويكون قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ متصلا بحال السلامة والإقامة، وهو معقول؛ إذ المرض يسوغ التيمم، ولو كان ماء، والمسافر قد يجد الماء ولكن يحتاج إليه للشرب، والإقامة التي لا يكون فيها الماء، ويكون فقده هو المبرر وحده.

6. ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ التيمم معناه في اللغة القصد، وأطلق شرعا على القصد إلى التراب لمسح الوجه واليدين به، ولذا قال: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾، أي اقصدوا ترابا على ظاهر الأرض طاهرا، فالصعيد هو سطح الأرض، والتيمم من التراب الثابت فيه، ومعنى الطيب الطاهر، فمادة التيمم تراب طاهر، والتيمم عبادة يتقدم بها إلى الصلاة، والأمر فيها تعبدى، لا يبحث عن علته، ولكن الطاعة فيه تدل على قوة الإيمان، وهو كيفما كان رمز لخلوص القلب وصفاء النفس بالاتجاه إلى الله تعالى، وينقض التيمم ما ينقض الوضوء، كما ينقضه وجود الماء والقدرة على استعماله قبل انتهاء وقت الصلاة أو قبل أدائها به، فإجماع العلماء أن على من وجد الماء أو قدر على استعماله قبل أداء الصلاة ـ نقض تيممه ووجب عليه الوضوء.

7. بين سبحانه وتعالى أركان التيمم فقال: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ أي امسحوا وجوهكم وأيديكم بالتراب، وقد اتفقوا على ضرورة مسح الوجه كله كالوضوء، والأكثرون على أن مسح اليدين إلى المرفقين، وهو المنصوص عليه في القرآن بالنسبة للوضوء، فقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة] والأكثرون بالنسبة للتيمم على أنه من ضربتين: إحداهما للوجه، والأخرى لليدين، ومسح اليدين يكون ظهرا وبطنا، ليعم المسح أجزاءهما.

8. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بهذا النص الكريم لبيان أن الله تعالى متصف بالعفو، فلا يختار لعباده إلا السهل اليسير الذي يسهل عليهم أداؤه من غير مشقة مرهقة، ويعفو عن التقصير في الواجبات الأصلية للأعذار، ويفتح باب الرخص، ويجب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه، ويجعل كل ما هو شاق مرهق في مرتبة العفو دائما، وهو الغفار كثير المغفرة لمن يتوب إليه، وقد أكد سبحانه هذين الوصفين بثلاثة أمور: أولا: (إن) فهي من أقوى ألفاظ التوكيد، و(كان) فهي تدل على استمرار عفوه ومغفرته سبحانه، وبالجملة الاسمية فلها فضل توكيد في المعنى الذي اشتملت عليه، اللهم اعف عنا واغفر لنا وارحمنا وأنت أرحم الراحمين.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1695.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اضطربت أقوال المفسرين في هذه الآية، حتى قال الشيخ محمد عبده: (طالعت في تفسيرها خمسة وعشرين تفسيرا، فلم أجد فيها غناء، ولا رأيت قولا يسلم من التكلف)، وقال الألوسي في روح البيان: (ان هذه الآية من المعضلات)، وراجعنا نحن حوالي عشرين تفسيرا للسنة والشيعة، وأكثر أصحابها نقل العديد من تفاسير الآية، فرأينا الأمر كما قال الشيخ محمد عبده، ولكن لم نر في الآية أية مشكلة أو معضلة، كما رأى الألوسي.. وبعد وثوقنا من معناها، وركوننا الى المراد منها حاولنا إيضاحه بالأسلوب التالي.

2. لقد ذكر سبحانه في الآية أربعة أصناف، وهم المرضى، والمسافرون، والذين جاؤوا من الغائط، والذين لامسوا النساء، وأوجب عليهم أن يلجئوا الى التيمم عند عدم وجود الماء، لأن الأمر بالتيمم وقع جوابا لفعل الشرط المتضمن للأصناف الأربعة.

3. ومن المتسالم عليه عند جميع المذاهب ان ظاهر القرآن لا يجوز الاعتماد عليه، بخاصة في استخراج الأحكام الشرعية إلا بعد الرجوع الى السنة النبوية، لأنها أحد مصادر الشريعة، كما أنها تفسير وبيان للقرآن بنص الآية 7 من سورة الحشر: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، وعليه، فإذا لم يوجد في السنة النبوية ما يصرف لفظ الآية عن ظاهره وجب العمل به، وإلا وجب العمل بما نستفيده من الكتاب والسنة مجتمعين، لأنهما يصدران من معين واحد، وهو الوحي.

4. ونتكلم فيما يلي عن كل واحد من الأصناف الأربعة الذين ذكرتهم الآية، ومنه يتضح الجواب عن هذا التساؤل: هل في السنة النبوية ما يتنافى مع ظاهر الآية بالنسبة الى كل واحد من هذه الأصناف؟

أ. المريض، وظاهر الآية يدل على انه يتيمم إذا لم يجد الماء، وقد أجمع الفقهاء على العمل بهذا الظاهر، لأن الصحيح يتيمم مع عدم وجود الماء فبالأولى‏ المريض.. وإذا وجد المريض الماء، وخاف الضرر من استعماله فهل يتيمم، أو يستعمل الماء، حتى مع خوف الضرر؟، وقد اتفق الفقهاء على ان المريض يتيمم مع وجود الماء إذا خاف من استعماله، واستدلوا بحديث: (لا ضرر ولا ضرار)، وبما روي ان بعض الصحابة أصابته جنابة، وكان به جراحة عظيمة، فسأل بعضهم، فأمره بالاغتسال، فلما اغتسل مات، وحين سمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك قال: قتلوه قتلهم الله، وعليه يكون قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ قيدا لجميع الأصناف المذكورة في الآية، دون استثناء.. هذا هو المعنى الذي دلت عليه عبارة الآية بالاصالة، لا بالتبع، أما المعنى الذي تدل عليه بالتبع لوجود ان الشرطية، والمعبر عنه بلسان الفقهاء وعلماء الأصول بمفهوم الشرط، أما هذا المعنى المفهوم بالتبع فإنه يوجب على كل واحد من الأصناف الأربعة أن يستعمل الماء إذا وجده، ولا يجوز له التيمم بحال، حتى ولو تضرر من استعماله.. ولكن قد علمت مما تقدم ان الفقهاء قد أجمعوا، وان السنة النبوية قد دلت على ان المريض يتيمم مع وجود الماء، وخوف الضرر من استعماله، وعليه فلا بد من إخراج المريض من هذا المعنى المفهوم بالتبع، وإبقاء الأصناف الثلاثة الذين يجب عليهم استعمال الماء بموجب هذا المفهوم التبعي، إذا وجدوا الماء، واختصارا ان الأصناف الأربعة يتيممون، مع عدم الماء، ما في ذلك خلاف ولا ريب، اما مع وجود الماء فيستعمله من لا يخاف الضرر على نفسه من استعماله، اما من مرض مرضا يخاف معه من استعمال الماء فيدعه ويتيمم.

ب. المسافر، وتدل الآية على انه يتيمم إذا لم يجد الماء، سواء أكان سفره طويلا، أم قصيرا، وهذا محل وفاق عند الجميع، ولكن اختلفوا في الحاضر غير المريض الذي لم يجد الماء: هل يتيمم ويصلي، أو تسقط عنه الصلاة من الأساس؟ قال أبو حنيفة: تسقط عنه الصلاة، لأن ظاهر الآية ان التيمم يسوغ في السفر، لا في الحضر، واتفقت بقية المذاهب على ان فاقد الماء يجب عليه أن يتيمم ويصلي، سواء أكان مسافرا، أم حاضرا، لأن جواز التيمم في السفر لا يمنع من جوازه في الحضر.. وقد تواتر عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ان الصعيد الطيب طهور المسلم، وان لم يجد الماء عشر سنين).. وقال أبو بكر المعروف بابن العربي في كتاب أحكام القرآن: (ان أبا حنيفة كثيرا ما يترك الظواهر والنصوص للاقيسة) سؤال وإشكال: إذا كان كل من المسافر والحاضر سواء في الحكم، من حيث وجوب استعمال الماء مع وجوده، والتيمم مع عدمه، فلما ذا نص القرآن على السفر بالذات؟ والجواب: أجابوا بأن الله سبحانه نص على السفر لأن الغالب فيه عدم وجود الماء، أما عدم الماء في الحضر فنادر.. وهذا الجواب قول على الله بالظن والاستحسان، لأنه لا يستند الى آية، أو رواية متواترة، أو حكم جازم من العقل.. ولذا نسكت عنه.

ج. ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾، الغائط كناية عما يخرج من السبيلين، وهو البول والعذرة والريح، فمن خرج منه شيء من ذلك، وأراد الصلاة فعليه أن يتوضأ ان وجد الماء، ويتيمم ان فقده اجماعا وسنة.

د. ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾، كناية عن الجماع، ومن طريقة القرآن أن يكني عنه، ولا يصرح، ففي الآية 187 من البقرة: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾، وفي الآية 222 منها: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ﴾، وفي الآية 237 منها أيضا: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾، وقال الشافعي: المراد بالمس في الآية مجرد الصاق الجسم بالجسم، ومهما يكن، فان من أجنب ووجد الماء، وأراد الصلاة فعليه أن يغتسل، وان فقد الماء تيمم بدلا من الغسل، وكل ما يوجب الوضوء يسميه الفقهاء الحدث الأصغر، وكل ما يوجب الغسل يسمونه الحدث الأكبر.

5. ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾، الصعيد الأرض، والطيب الطاهر، وهذه الآية في معنى الحديث الشريف: (خلقت لي الأرض مسجدا وطهورا)

6. ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾، اتفقت المذاهب كلها على ان التيمم لا يكون إلا في هذين العضوين، واختلفوا في تحديد ما يجب مسحه بالتراب من الوجه‏ واليدين:

أ. فقالت المذاهب الأربعة: يجب مسح جميع الوجه، ويدخل فيه اللحية، تماما كما هو الشأن في الوضوء، وقال الحنفية والشافعية: يجب مسح اليدين بالتراب الى المرافق كالوضوء.

ب. وقال الإمامية: يجب مسح بعض الوجه، لا كله، لأن الباء في قوله تعالى‏ ﴿بِوُجُوهِكُمْ﴾ للتبعيض، تماما كقوله: ﴿وامْسَحُوا برؤوسكم‏﴾ بالنسبة الى الوضوء، لأنها لو لم تكن للتبعيض تكون زائدة، والأصل عدم الزيادة، وقالوا: يجب مسح الكفين فقط.. والتفصيل في كتب الفقه.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/334.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ﴾ حين تريدون الصلاة ﴿مَرْضَى﴾ جمع مريض ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ وأقل السفر بريد حالتان المرض والسفر مظنة فقدان الماء ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ وهو المكان المنخفض من الأرض يستَتِر فيه لقضاء الحاجة فهو قد بال أو تغوط.

2. ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ فأنتم جنب ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ لتغتسلوا به من الجنابة إن كانت؛ ولتوضئوا به من أثر الحدث ﴿فَتَيَمَّمُوا﴾ اقصدوا ﴿صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ وتوجهوا إليه، وفي (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام): (والملامسة: الجماع، وفيه: فالتيمم: التعمُّد)

3. وفيه (والصعيد: وجه الأرض، والطيب: النظيف)، وفي (مفردات الراغب): (والصعيد: يقال لوجه الأرض)، وفي [الصحاح]: (الصعيد: التراب، وقال ثعلب: وجه الأرض؛ لقوله تعالى: ﴿فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا﴾ [الكهف: 40])، وفي (لسان العرب): (الصعيد: المرتفع من الأرض، وقيل: الأرض المرتفعة من الأرض المنخفضة، وقيل: ما لم يخالطه رمل ولا سبخة، وقيل: وجه الأرض؛ لقوله تعالى: ﴿فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا﴾ [الكهف: 40] وقال جرير:

çإذا تيم ثوت بصعيد أرض.. بكت من خبث لؤمهم الصعيدé

وقال في آخرين: (والأطيبين من التراب صعيداً)، وقيل: الصعيد: الأرض، وقيل: الأرض الطيبة، وقيل: هو كل تراب طيب، وفي (التنزيل): ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ وقال الفراء ـ في قوله ـ: ﴿صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [الكهف: 8] الصعيد: التراب، وقال غيره: هي الأرض المستوية، وقال الشافعي: لا يقع اسم صعيد إلا على تراب ذي غبار.. إلى قوله.. وقال أبو إسحاق: الصعيد: وجه الأرض.. إلى قوله.. لا أعلم خلافاً فيه أن الصعيد وجه الأرض..) إلخ.

4. هذه الأقوال متقاربة؛ لأن وجه الأرض: هو التراب، وليس منه الجبال قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية: 17 ـ 20] وقال تعالى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ إلى قوله: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾ [فصلت: 9 ـ 10] وغير ذلك، فوجه الأرض تراب، وإذا مسه الماء كان طيناً.

5. والإشكال في الطين هل يجزي للتيمم؟ الأحوط: استعماله إذا عدم الماء والتراب، وفي الحديث: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) قال الله ـ عزَّ وجل ـ: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ انتهى من حديثٍ في (مجموع الإمام زيد بن علي عليهما السلام) وفيه دلالةٌ على أن الصعيد من الأرض، فلا يصح التيمم بالأحجار والنورة ونحوها.

6. وتفسير الطيب: بالنظيف الطاهر، هو الأقوى، فأما اعتبار الإنبات فيه فلعله يصح بناء على أن الأصل في التراب الإنبات فإذا لم ينبت فهو فاسد فلا يوصف بالطيب، وأما الاحتجاج لذلك بقول الله تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ [الأعراف: 58] ففيه نظر؛ لأن طيب البلد باعتبار مصلحة السكان؛ ولذلك قال: ﴿وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ [الأعراف: 58] فجعله خبيثاً لفوات مصلحة أهله وإن كان منبتاً نباتاً نكداً، فالحاصل: أن خبث البلد وطيبها غير طيب التربة من حيث هي صعيد لا من حيث هي بلد، وقوله تعالى: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ أي منه كما يفيده التفريع على تيممه ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا﴾ كثير العفو، ومن العفو الترخيصُ بالعدول إلى الصعيد الطيب ﴿غَفُورًا﴾ كثير المغفرة، وفيه تشجيع على استعمال الرخصة عند ظهور وقتها، وترك المبالغة في الحذر من الخطأ؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ [الأحزاب: 5]

7. قال الشرفي في (المصابيح): (قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: دلت هذه الآية الكريمة على وجوب فراغ القلب للصلاة، وأن لا يقرَب الصلاةَ مَن به سَكَرُ النوم، أو كان ذاهلاً حتى لا يعلم ما يقول في صلاته، وعلى أن لا يصلي الصلاة مَن كان جنباً حتى يغتسل إلا أن يكون في سفر ولم يجد الماء، فإنه يتيمم كما صرحت به الآية الكريمة، وكذلك من جاء من الغائط أو لامس النساء ولم يجد الماء.

8. والمراد من الملامسة: الجماع، كما قال تعالى: ﴿إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ الآية [الأحزاب: 49] ونحوها: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ إلى قوله: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: 236 ـ 237] وعلى أن التيمم ليس إلا الوجه واليدين، وعلى أن الله جعل ذلك غفراناً ورحمة، أي تخفيفاً على عباده)

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/82.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم تحدثت الآية، في نطاق هذا الشرط، عن عدة حالات طارئة في حياة الإنسان، مما لا يستطيع معها الطهارة المائية من الوضوء أو الغسل؛ فأشارت إلى ان هناك بديلا لهذه الطهارة، وهي الطهارة الترابية المعبّر عنها بالتيمّم، فيمكن للمصلّي أن يعيش معها الشعور بالطهارة، تماما كما كان يعيشه مع الطهارة بالماء، وهذه الحالات أربع:

أ. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ فقد يعسر على المريض أن يتوضأ أو يغتسل بالماء، لأن ذلك قد يضر صحته، ومن الواضح أن جو الآية هو الذي يحدّد لنا أن المرض المذكور فيها هو المرض الذي يضر معه استعمال الماء، لأن المرض الذي لا يرتبط بذلك، لا معنى لأن يكون مبررا للامتناع عن الوضوء أو الغسل، بعد أن كان حال المريض والصحيح من هذه الناحية على حدّ سواء؛ فإن الأعذار لا بد أن تكون حالات تمنع عن الشيء الذي يطلب العذر عنه.

ب. ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ ربما كان السفر ملازما لعدم وجدان الماء، لا سيما في المناطق الصحراوية التي كانت محلّ ابتلاء الناس في بدايات التشريع؛ ولذلك يكون الحديث عنه من هذه الجهة، لا من حيث كونه عنوانا مستقلا في جواز التيمم.

ج. ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ الغائط هو المكان المنخفض من الأرض، وقد استعمل هذا اللفظ كناية عما يخرج من فضلات الإنسان من الدبر، لأن الناس غالبا ما كانوا يقصدون هذه المواضع للتغوّط فيها، وهذه هي إحدى الحالات التي يجب على الإنسان الوضوء بعدها، إذا أراد الصلاة أو غيرها مما يشترط فيه الطهارة.

د. ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ الظاهر أن ملامسة النساء هنا، كناية عن الجماع، وقد استعمل هذا اللفظ وما يرادفه من اللمس في هذا المعنى، وقد حمله بعض المفسرين على معناه اللغوي من اللمس، والتزم تبعا لذلك بانتقاض الوضوء بلمس الرجل للمرأة ببعض أعضائه، وقد عقّب هذه الحالات بكلمة ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ فلا يجوز للإنسان التيمم إلا في حالة فقدان الماء، إلا في المريض الذي قامت القرينة الداخلية ـ مما يسميه الأصوليون: (مناسبة الحكم للموضوع) ـ على أن المانع هو عدم القدرة على استعمال الماء لا عدم وجدانه، لأننا فهمنا من المرض، أنه الذي يضر معه استعمال الماء، كما أشرنا إليه آنفا، وقد حاول بعض المفسرين أن يجعل كلمة ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ شاملة لعدم القدرة الصحية، بأن يكون المراد من عدم الوجدان عدم القدرة عليه، وهو تفسير لا يقترب من ظهور اللفظ، ولا ضرورة له.

2. ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ التيمم: القصد، أي اقصدوا صعيدا طيبا، والصعيد: هو الأرض، وربما فسّره البعض بالتراب، ولكن الظاهر من قوله تعالى في آية أخرى: ﴿فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ ﴿عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا﴾ [الكهف: 40]، كما أن‏ الحديث الشريف: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) يؤكد ذلك؛ وبهذا احتجّ من أجاز التيمّم بالأرض الصخرية التي لا تراب عليها.

3. كلمة (الطيب) يمكن أن يراد بها الطاهر ـ كما هو الظاهر ـ وقد وسّعها البعض للمباح، ولكن هذا لا يفهم من اللفظ، لأن هذه الكلمة تستعمل لما يقابل القذر الذي تعافه النفس أو تستقذره، ونحن نقرّ بأن الإباحة شرط، ولكنه مستفاد من السنّة لا من القرآن بحسب ظاهره الأولي، إلا أن يقوم دليل على الاستعمال في الأعمّ.

4. ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ هذا هو معنى التيمم؛ مسحة للوجه ولليدين، وقد حددت كتب الفقه حدود الموضع الممسوح مع طبيعة الماسح وكيفية المسح، ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾، فإن الله يعفو ويغفر للمؤمنين الذين يقفون عند حدوده، في ما يأمر به وينهى عنه؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات وهو أرحم الراحمين.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/281.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تشير الآية إلى حكم التيمم لذوي الأعذار فتقول: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ وفي هذه العبارة من الآية قد اجتمعت ـ في الحقيقة ـ كل موارد التيمم، فالمورد الأوّل هو ما إذا كان في استعمال الماء ضرر على البدن، والمورد الآخر هو ما إذا تعذر على الإنسان الحصول على الماء (أم لم يمكن استعماله) وبقوله: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ إشارة إلى علل الاحتياج إلى التيمم وأسبابه، ومعناه إذا أحدثتم حدثا أو جامعتم النساء ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ أي لم تقدروا على تحصيل الماء أو استعماله‏ ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾

2. ثمّ إنّه سبحانه يبيّن طريقة التيمم بقوله: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾، ثمّ إنّه في ختام الآية يشير إلى حقيقة أنّ الحكم المذكور ضرب من التخفيف عنكم، لأنّ الله كثير الصفح كثير الستر لذنوب عبادة ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾

3. عبارة ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ المبدوة بفاء التفريع ترتبط بعبارة ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ يعني أنّكم إذا كنتم في سفر ولم تجدوا ماء للوضوء أو الغسل، فتحتاجون إلى التيمم، لأنّ الإنسان قلما تتفق له هذه الحالة وهو في البلد، ومن هنا يتبيّن بطلان ما قاله بعض المفسّرين ـ مثل صاحب المنار ـ من أن مجرّد السفر وحده كاف للتكليف بالتيمم بدل الوضوء حتى لو كان الشخص المسافر واجدا للماء، فإنّ فاء التفريع في قوله: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا﴾ يبطل هذا الكلام، لأنّ المفهوم منه هو أنّ السفر قد يوجب أحيانا عدم التمكن من الماء، وهنا لا مناص من التيمم، لا أنّ السفر بوحده يسوغ التيمم، والعجب أنّ الكاتب المذكور تحامل على فقهاء الإسلام في هذا المجال من دون مبرر لهذا التحامل.

4. كلمة (أو) في قوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ هي بمعنى (الواو) لأن مجرّد المرض أو السفر لا يوجب التيمم، بل يجب التيمم إذا تحققت موجبات التيمم أو الغسل في هذا الحال.

5. (العفة في البيان) المعهودة من القرآن دفعت بالقرآن في هذه الآية ـ كما في الآيات الكثيرة الأخرى ـ إلى أن يعبّر عن قضاء الحاجة بعبارة تفهم المراد من جانب، ولا تكون غريبة وغير مناسبة من جانب آخر إذ يقول: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾، وتوضيح ذلك أنّ (الغائط) ـ خلاف ما يفهم منه هذا اليوم ـ يعني في أصل اللغة المنخفض من الأرض الذي كان يقصده الإنسان وسكان الصحارى والمسافرون في تلك العهود لقضاء الحاجة فيه ليسترهم عن أعين الناظرين، وعلى هذا يكون معنى هذه الجملة هو: إذا عاد أحدكم من المكان المنخفض من الأرض الذي هو في جملته كناية عن قضاء الحاجة، والملفت للنظر أن القرآن استعمل لفظة (أحد منكم) بدل ضمير الجمع المخاطب المصدر بالفعل أي (جئتم) ليحافظ على خصيصة (عفة البيان) التي تجلى بها القرآن الكريم أكثر فأكثر، وهكذا الحال عندما يتحدّث عن الجماع فإنّ القرآن يشير إلى هذا الموضوع بعبارة ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ ولفظة اللمس كناية جميلة عن المقاربة الجنسية.

6. سنتحدث بتفصيل حول بقية خصوصيات التيمم عند تفسير قوله تعالى: ﴿صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ في سورة المائدة إن شاء الله.

7. سؤال وإشكال: ما الفائدة من ضرب اليدين بالتراب ومسح الجبين وظهر اليدين بهما خاصّة أنّنا نعلم أن كثيرا من الأتربة ملوثة، وناقلة للميكروبات والجراثيم؟ والجواب: هذه الأسئلة نشير إلى نقطتين مهمتين:

أ. الأولى: الفائدة الخلقية، فإن التيمم إحدى العبادات، وتتجلى فيها روح العبادة بكل معنى الكلمة، لأن الإنسان يمس جبهته التي هي أشرف الأعضاء في بدنه بيديه المتربتين ليظهر بذلك خضوعه لله وتواضعه في حضرته ولسان حاله يقول: يا ربّي إنّ جبهتي وكذا يداي خاضعات أمامك إلى أبعد حدود الخضوع والتواضع، ثمّ يتوجه عقيب هذا العمل إلى القيام بالصلاة وسائر العبادات‏ المشروطة بالغسل والوضوء، وبهذا الطريق يزرع التيمم في نفس الإنسان روح الخضوع لله، وينمي فيه صفة التواضع في حضرة ذي الجلال، ويدرّبه على العبودية له سبحانه، والشكر لأنعمه تعالى.

ب. الثّانية: الفائدة الصحية، فقد ثبت اليوم بأنّ التراب بحكم احتوائه على كميات كبيرة من البكتريا تزيل التلوثات، إن البكتريات الموجودة في التراب والتي تعمل على تحليل الموارد العضوية وإبادة كل أنواع العفونة، توجد ـ في الأغلب ـ بوفرة في سطح الأرض، والأعماق القريبة التي يمكن لها الانتفاع بنور الشمس والهواء بصورة أكثر، ولهذا عندما تدفن جثث الأموات من البشر أو الحيوان في الأرض، وكذا ما يشابهها من المواد العضوية، نجدها تتحلل في مدّة قصيرة تقريبا وتتلاشى بؤر التعفن على أثر هجوم البكتريات عليها، ومن المسلّم أنّ هذه الخاصّية لو لم تكن في التربة لتحولت الكرة الأرضية في مدّة قصيرة إلى بؤرة عفونة قاتلة، إنّ للتربة خاصّية تشبه مواد (الأنتوبيوتيك) التي لها أثر فعال جدّا في قتل وإبادة الميكروبات، وعلى هذا لا يكون التراب عاريا عن التلوث فقط، بل هو مطهر فعال للتلوثات، ويمكنه ـ من هذه الجهة ـ أن يحل محل الماء بفارق واحد، هو أن الماء يحلل الميكروبات، ويذهب بها معه، في حين أن مفعول التراب يقتصر على قتل الميكروبات فقط.

8. يجب الانتباه إلى أنّ التراب الذي يستعمل في التيمم يجب أن يكون طاهرا نظيفا، كما أشار اليه القرآن الكريم في تعبيره الجميل إذا يقول: ﴿طَيِّبًا﴾، والجدير بالانتباه أنّ التعبير بـ (الصعيد) المشتق من (الصعود) يشير إلى أن أفضل أنواع التربة الذي ينبغي أن تختاره للتيمم هو التربية الموجودة في سطح الأرض، يعني تلك التربة التي هي عرضة لأشعة الشمس والمليئة بالهواء والبكتريا المبيدة للميكروبات، فإذا كانت تلك التربة المستعملة في التيمم طيبة وطاهرة أيضا كان التيمم بها ينطوي على الآثار المذكورة من دون أن يكون فيه أي ضرر أو أية مضاعفات، (وسنتحدث في هذا المجال أيضا عند تفسير المقطع الأخير من الآية في سورة المائدة)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/247.

47. الضلالة وأسبابها ومظاهرها

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈47⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ [النساء: 44 ـ 45]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود، إذا كلم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لوى لسانه، وقال: أرعنا سمعك ـ يا محمد ـ حتى نفهمك، ثم طعن في الإسلام وعابه؛ فأنزل الله فيه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ﴾ إلى قوله: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿الضَّلَالَةِ﴾، أي: الكفر(2).

__________

(1) البيهقي في دلائل النبوة ٢/٥٣٣ ـ ٥٣٤.

(2) ابن أبي حاتم ٣/٩٦٤.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ﴾ [البقرة: ١٧٥]، يقول: اختاروا الضلالة(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٦٤.

أبو مالك:

روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا﴾ يعني: حظا ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾ قال من التوراة(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٦٤.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: كان كردم بن زيد حليف كعب بن الأشرف، وأسامة بن حبيب، ورافع بن أبي رافع، وبحر بن عمرو، وحيي بن أخطب، ورفاعة بن زيد يأتون رجالا من الأنصار، يخالطونهم، وينصحون لهم من أصحاب محمد، فيقولون: لا تنفقوا أموالكم؛ فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة؛ فإنكم لا تدرون ما يكون، فأنزل الله تعالى: ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا﴾(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٦٤.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾، قال هم أعداء الله اليهود، اشتروا الضلالة، يقول: استحبوها(1).

__________

(1) ابن المنذر ٢/٧٣٠.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا﴾ يعني: حظا، ألم تر إلى فعل الذين أعطوا نصيبا، يعني: حظا ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾ يعني: التوراة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿يَشْتَرُونَ﴾ يعني: يختارون... ﴿الضَّلَالَةِ﴾، يعني: باعوا إيمانا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يبعث بتكذيب بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد بعثته، ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ يعني: أن تخطؤوا قصد طريق الهدى كما أخطأوا الهدى(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ يعني: بعداوتهم إياكم، يعني: اليهود، ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا﴾ فلا ولي أفضل من الله عز وجل، ﴿وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا﴾ فلا ناصر أفضل من الله ـ جل ذكره ـ(2).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٧٥.

(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٧٦.

وهيب:

روي عن وهيب بن الورد (ت 153 هـ) أنّه قال: قال قال الله عز وجل: ابن آدم، اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت؛ فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظلمت فاصبر، وارض بنصرتي، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٦٥.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا﴾:

أ. يقول: أعطوا حظّا من علم الكتاب، وهم علماؤهم، يشترون الضلالة بعلم الكتاب.

ب. ويحتمل: يشترون الضلالة بالهدى، وكذلك قيل في حرف حفصة على ما ذكر في‏ غير هذه الآية.

2. قوله تعالى: ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾:

أ. وذلك أنهم كانوا آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يبعث، فلما لم يبعث على هواهم، كفروا به؛ كقوله تعالى: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: 89]

ب. ويحتمل: يشترون ضلالة غيرهم بالتحريف، والرشاء، ونحو ذلك؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 36] وقوله: ﴿اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا﴾ [العنكبوت: 12]

3. ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ حرف التعجب عن أمر قد بلغه؛ فيخرج مخرج التذكير، أو لم يبلغه؛ فيخرج مخرج التعليم

4. قوله عزّ وجل: ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ يحتمل وجهين:

أ. ﴿وَيُرِيدُونَ﴾ أي: يتمنون أن تضلوا السبيل؛ لتدوم لهم الرئاسة والسياسة؛ إذ كانت لهم الرئاسة على من كان على دينهم؛ ولم يكن لهم ذلك على من لم يكن على دينهم؛ فتمنوا أن يكونوا على دينهم؛ لتكون لهم الرئاسة عليهم.

ب. وقيل: ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ أي: يأمرونهم ويدعونهم إلى دينهم؛ لما ذكرنا من طلب المنافع، وإبقاء الرئاسة

5. قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾:

أ. كأنهم يطلبون موالاة المؤمنين، ويظهرون لهم الموافقة، فنهي الله تعالى المؤمنين عن موالاتهم؛ كقوله تعالى: ﴿لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا﴾ [آل عمران: 118] إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾.. الآية، فأخبر الله تعالى المؤمنين أنه أعلم بأعدائكم منكم.

ب. ويحتمل أن يكون المؤمنون استنصروهم، واستعانوا بهم في أمر، فأخبر عزّ وجل أنهم أعداؤكم، وهو أعلم بهم منكم.

6. قوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾:

أ. أي: كفي به وليّا ومعينا، وكفي به ناصرا.

ب. ويحتمل قوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ مما أعطاكم من أعطاكم، أي: لا ولى أفضل من الله تعالى ولا ناصرا أفضل منه، منه البراهين والحجج.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/197.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ﴾ أي أنهم بجحدهم صفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتبهم قد صاروا كمشتري الضلالة بالهدى وقيل إنهم كانوا يعطون أحبارهم أموالهم على ما كانوا يضعونه من التكذيب بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ويرشون على كتمانه بنبوته وصفته في التوراة، روينا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: لعن الله الراشي والمرتشي والرائش) وهو المتوسط بينهما.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/180.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ﴾ ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: أنهم قد صاروا لجحودهم صفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كمشتري الضلالة بالهدى.

ب. الثاني: أنهم كانوا يعطون أحبارهم أموالهم على ما كانوا يصنعونه من التكذيب بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ج. الثالث: أنهم كانوا يأخذون الرشا، وقد روى ثابت البناني عن أنس بن مالك: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لعن الراشي، والمرتشي، والرائش، وهو المتوسط بينهما.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/493.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. ذكر ابن عباس، وقتادة، وعكرمة: أن الآية نزلت في قوم من اليهود، وكانوا يستبدلون الضلالة بالهدى، لتكذيبهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بدلا من التصديق به، مع قيام الحجة عليهم بما ثبت من صفته عندهم، فكأنهم اشتروا الضلالة بالهدى.

ب. وقال أبو علي الجبائي، وغيره: كانت اليهود تعطي أحبارها كثيراً من أموالهم على ما كانوا يصفونه لهم، فجعل ذلك اشتراء منهم، وقال الزجاج: كانوا يأخذون الرشا.

2. وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التأكيد للأحكام التي يجب العمل بها، بالتحذير ممن يدعو إلى خلافها، ويكذب بها.

3. ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ قال الزجاج، معناه: ألم تخبر في جميع القرآن؟ وقال غيره: ألم تعلم؟ وقال الرماني، معناه: رؤية البصر، والمرئي هو الدين، وإنما دخلت (إلى)، لأن الكلام يتضمن معنى التعجب، كقولك: ألم تر إلى زيد ما أكرمه؟ تقديره: ألم تر عجباً بانتهاء رؤيتك إلى زيد؟ ثم بين ذلك بقوله: ما أكرمه، ومثله قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾، كأنه قال ألم تر عجباً بانتهاء رؤيتك إلى تدبير ربك كيف مد الظل؟ قال: ومن فسره على: ألم تخبر، ألم تعلم، فإنما ذهب إلى ما يؤول المعنى إليه، لأن الخبر والعلم لا يصلح فيهما (إلى) كما يصلح مع الرؤية.

4. ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ معناه: يريد هؤلاء اليهود أن تضلوا: معشر المؤمنين، أي تزلوا عن قصد الطريق، ومحجة الحق فتكذبوا بمحمد فتكونون ضلالا، وفي ذلك تحذير للمؤمنين أن يستنصحوا أحداً من أعداء الإسلام في شيء من أمورهم لدينهم ودنياهم.

5. ثم‏ بين تعالى أنه أعلم منكم بعداوة اليهود لكم أيها المؤمنون، فانتهوا إلى طاعتي، وامتثال أوامري فيما نهيتكم عنه من استنصاحهم في دينكم، فاني أعلم بباطنهم منكم، وما هم عليه من الغش، والحسد، والعداوة، وقيل: معناه: والله يجازيهم على عداوتهم، كقولك: إني أعلم ما تفعل أي اجازيك عليه.

6. ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ معناه: إن ولاية الله لكم، ونصرته إياكم، تغنيكم عن غيره من هؤلاء اليهود ومن جرى مجراهم، ممن تطمعون في نصرته.

7. دخلت الباء في قوله: (بالله) لأحد أمرين:

أ. أحدهما: للتأكيد، لأن الاسم في‏ ﴿كَفَى اللهُ﴾ كان يتصل اتصال الفاعل، فلما دخلت الباء صار يتصل اتصال المضاف واتصال الفاعل، ليعلم أن الكفاية منه ليست كالكفاية من غيره في المرتبة، وعظم المنزلة، فضوعف لفظها لمضاعفة معناها.

ب. الثاني: لأنه دخله معنى: اكتفوا بالله، ذكره الزجاج، وموضعه رفع بلا خلاف.

8. العداوة والابعاد من حال النصرة، وضدها الولاية، وهي التقرب من حال النصرة، وأما البغض فهو إرادة الاستخفاف والاهانة، وضده المحبة وهي إرادة الإعظام والكرامة.

9. الكفاية بلوغ الغاية في مقدار الحاجة، كفى يكفي كفاية فهو كاف، والاكتفاء الاجتزاء بشيء دون شيء، ومثله الاستغناء.

10. النصرة الزيادة في القوة للغلبة، ومثلها المعونة، وضدها الخذلان، ولا يكون ذلك إلا عقوبة، لأن منع المعونة مع الحاجة عقوبة.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/210.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الرؤية: إدراك المرئي، ثم قد يُدْرِك بحاسة إذا كان الرائي جسمًا، وقد يدرك لا بحاسة وهو القديم تعالى، والرؤية تطلق ويراد به العلم قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ﴾ والاشتراء: الاستبدال.

ب. الكفاية: بلوغ النهاية في مقدار الحاجة، كفى يكفي كفاية فهو كافٍ، والاكتفاء: الاجتزاء بشيء عن شيء، ونظيره الاستغناء.

ج. النصرة: زيادة القوة ومثله المعونة، ونقيضه الخذلان.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

قيل: نزلت الآية في قوم من اليهود عن ابن عباس وعكرمة وقتادة.

وقيل: في رفاعة بن زيد ومالك بن دُحَيْمٍ، كانا يعيبان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ابن عباس بخلاف.

3. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:

أ. قيل: إنه اتصل بقوله: ﴿وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ﴾ ثم اعترض الأمر والنهي والوعد والوعيد، ثم رجع الكلام إلى اليهود الَّذِينَ يكتمون أمره.

ب. وقيل: لما ذكر الأحكام الذي أوجب العمل بها اتصل بالتحذير ممن يدعو إلى خلاف ذلك والتكذيب به عن علي بن عيسى.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾:

أ. قيل: ألم تعلم؟

ب. وقيل: ألم ينته علمك إلى هَؤُلَاءِ؟

ج. وقيل: ألا تتعجب من هَؤُلَاءِ.

5. ﴿إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا﴾ أُعطوا ﴿نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ حظًا من علم الكتاب:

أ. قيل: هم اليهود عن ابن عباس وغيره.

ب. وقيل: أهل الكتاب عن الأصم.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ﴾:

أ. قيل: يستبدلون الضلالة بالهدى، يكذبون النبي بدلاً من التصديق الذي أمروا به.

ب. وقيل: كانوا يعطون أحبارهم بعض أموالهم على ما يصفونه لهم، فجعل ذلك اشتراء منهم عن أبي علي.

ج. وقيل: كانوا يأخذون الرِّشَا عن الزجاج.

7. ﴿وَيُرِيدُونَ﴾ يعني هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أوتوا الكتاب ﴿أَنْ تَضِلُّوا﴾ أن تزولوا عن الدين أيها المؤمنون ﴿السَّبِيلَ﴾ أي عن السبيل، وهو طريق الحق الذي هو الإسلام.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾:

أ. قيل: الله أعلم بعداوة هَؤُلَاءِ اليهود لكم أيها المؤمنون، فلا تستنصحوهم وانتهوا إلى أمري في دينكم.

ب. وقيل: هو أعلم بهم فيعلمكم ما هم عليه من العداوة لتحذروهم.

9. ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا﴾ يلي حفظكم ويصرف عنكم كيدهم ﴿وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا﴾ أي حسبه ناصرًا لكم على أعدائكم.

10. تدل الآية الكريمة على:

أ. ذم طائفة من أهل الكتاب استبدلوا الضلالة بالهدى، والآية وإن وردت فيهم، فإنها تتناول كل من اختار الضلالة وترك الهدى.

ب. أنهم مختارون لأفعالهم، لولا ذلك لما صح وصفهم بأنهم اشتروا الضلالة، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في الاستطاعة والمخلوق.

ج. أن إرادة القبيح قبيحة، ولذلك قلنا: لا يجوز أن يريد تعالى القبائح، كما لا يجوز أن يفعل القبائح، ولذلك ذمهم على إرادتهم تلك.

د. أنه تعالى لا يريد الضلال؛ لأنه ذمهم على تلك الإرادة، ولا يجوز أن يذمهم على إرادة، وتلك الإرادة تقع منه.

هـ. أن الواجب على العبد التوكل على الله وتفويض أمره إليه؛ فإنه يكفي به ناصرًا ومعينًا.

11. قراءة العامة ﴿يُضِلُّوا﴾ بكسر الضاد، وعن الحسن بفتحها على ما لم يسم فاعله.

12. مسائل لغوية ونحوية:

أ. قلنا: إنما دخلت ﴿إِلَى﴾ في ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ليتضمن الكلام معنى التعجب كقولك: ألم تر إلى زيد ما أكرمه، كأنك تقول: ألم تر عجبًا بانتهاء رؤيتك إلى زيد، ثم بينه بقوله: ما أكرمه!، والمرئي هو ﴿الَّذِينَ﴾

ب. في دخول الباء في قوله: ﴿وَكَفَى بِاللهِ﴾ قولان:

الأول: لتأكيد الاتصال.

الثاني: لأنه دخله معنى اكتفوا بِاللهِ عن الزجاج، وموضعه رفع بالاتفاق، وتقديره كفى الله ناصرًا ونصيرًا، قيل: يعني مِنْ نَصيرٍ.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/646

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. العداوة: الابعاد من حال النصرة، وضدها الولاية؟ وهي التقريب من حال النصرة، وأما البغض فهو إرادة الاستخفاف والإهانة، وضدها المحبة: وهي إرادة الاعظام، والكرامة.

ب. الكفاية: بلوغ الغاية في مقدار الحاجة، كفى، يكفي، كفاية، فهو كاف، والاكتفاء: الاجتزاء بالشئ دون الشئ، ومثله الاستغناء.

ج. النصرة: الزيادة في القوة للغلبة، ومثلها المعونة، وضدها: الخذلان، ولا يكون ذلك إلا عقوبة، لان منع المعونة من يحتاج إليها، عقوبة.

2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة: نزلت في رفاعة بن زيد بن السائب، ومالك بن دخشم، كانا إذا تكلم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لويا لسانهما، وعاباه، عن ابن عباس.

3. لما ذكر سبحانه الاحكام التي أوجب العمل بها، وصلها بالتحذير مما دعا إلى خلافها فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ أي ألم ينته علمك إلى الذين أعطوا حظا من علم الكتاب، يعني التوراة، وهم اليهود، عن ابن عباس.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ﴾:

أ. قيل: أي يستبدلون الضلالة بالهدى، ويكذبون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بدلا من التصديق.

ب. وقيل: كانت اليهود تعطي أحبارها كثيرا من أموالهم، على ما كانوا يضعونه لهم، فجعل ذلك اشتراء منهم، عن أبي علي الجبائي.

ج. وقيل: كانوا يأخذون الرشى، عن الزجاج.

5. ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ أي يريد هؤلاء اليهود أن تزلوا أيها المؤمنون عن طريق الحق، وهو الدين والإسلام، فتكذبوا بمحمد، فتكونوا ضلالا، وفي ذلك تحذير للمؤمنين أن يستنصحوا أحدا من أعداء الدين، في شئ من أمورهم الدينية والدنيوية.

6. ثم أخبر سبحانه بأنه أعلم بعداوة اليهود فقال: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ أيها المؤمنون، فانتهوا إلى إطاعتي فيما نهيتكم عنه، من استنصاحهم في دينكم، فإني أعلم بباطنهم منكم، وما هو عليه من الغش، والحسد، والعداوة لكم.

7. ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ معناه: إن ولاية الله لكم، ونصرته إياكم، تغنيكم عن نصرة هؤلاء اليهود، ومن جرى مجراهم، ممن تطمعون في نصرته.

8. في دخول الباء في قوله: ﴿بِاللَّهِ﴾ قولان: أحدهما، إنه لتأكيد الاتصال، والثاني: إنه دخله معنى اكتفوا بالله، ذكره الزجاج، وموضعه رفع بالاتفاق.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/84.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلفوا فيمن نزل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ على ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنها نزلت في رفاعة بن زيد بن التّابوت.

ب. الثاني: أنها نزلت في رجلين كانا إذا تكلّم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لويا ألسنتهما وعاباه، روي القولان عن ابن عباس.

ج. الثالث: أنها نزلت في اليهود، قاله قتادة.

2. في النّصيب الذي أوتوه قولان:

أ. أحدهما: أنه علم نبوّة محمّد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ب. الثاني: العلم بما في كتابهم دون العمل.

3. ﴿يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ﴾ قال ابن قتيبة: هذا من الاختصار، والمعنى: يشترون الضّلالة بالهدى، ومثله‏ ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ﴾ أي: تركنا عليه ثناء حسنا، فحذف الثّناء لعلم المخاطب، وفي معنى اشترائهم الضّلالة أربعة أقوال:

أ. أحدها: أنه استبدالهم الضّلالة بالإيمان، قاله أبو صالح، عن ابن عباس.

ب. الثاني: أنه استبدالهم التكذيب بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد ظهوره بإيمانهم به قبل ظهوره، قاله مقاتل.

ج. الثالث: أنه إيثارهم التكذيب بالنبيّ لأخذ الرّشوة، وثبوت الرّئاسة لهم، قاله الزجّاج.

د. الرابع: أنه إعطاؤهم أحبارهم أموالهم على ما يصنعونه من التكذيب بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ذكره الماورديّ.

4. ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا﴾ خطاب للمؤمنين، والمراد بالسّبيل: طريق الهدى، ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ فهو يعلمكم ما هم عليه، فلا تستنصحوهم، وهم اليهود، ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا﴾ لكم، فمن كان وليّه، لم يضرّه عدوّه، قال الخطّابيّ: (الوليّ): النّاصر، و(الوليّ): المتولّي للأمر، والقائم به، وأصله من الولي، وهو القرب، و(النّصير): فعيل بمعنى فاعل.

__________

(1) زاد المسير: 1/416.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى من أول هذه السورة إلى هذا الموضع أنواعا كثيرة من التكاليف والأحكام الشرعية، قطع هاهنا ببيان الأحكام الشرعية، وذكر أحوال أعداء الدين وأقاصيص المتقدمين، لأن البقاء في النوع الواحد من العلم مما يكل الطبع ويكدر الخاطر، فأما الانتقال من نوع من العلوم إلى نوع آخر، فإنه ينشط الخاطر ويقوي القريحة.

2. ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ معناه: ألم ينته علمك إلى هؤلاء، وقد ذكرنا ما فيه عند قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة: 258] وحاصل الكلام أن العلم اليقيني يشبه الرؤية، فيجوز جعل الرؤية استعارة عن مثل هذا العلم.

3. الذين أوتوا نصيبا من الكتاب: هم اليهود، ويدل عليه وجوه:

أ. الأول: أن قوله بعد هذه الآية: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ [النساء: 46] متعلق بهذه الآية.

ب. الثاني: روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في حبرين من أحبار اليهود، كانا يأتيان رأس المنافقان عبد الله بن أبي ورهطه فيثبطونهم عن الإسلام.

ج. الثالث: ان عداوة اليهود كانت أكثر من عداوة النصارى بنص القرآن، فكانت إحالة هذا المعنى على اليهود أولى.

4. لم يقل تعالى: انهم أوتوا علم الكتاب، بل قال: ﴿أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ لأنهم عرفوا من التوراة نبوة موسى عليه السلام، ولم يعرفوا منها نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فأما الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وعرفوا الأمرين، فوصفهم الله بأن معهم علم الكتاب، فقال: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: 43]

5. وصفهم الله تعالى بأمرين: الضلال والإضلال، أما الضلال فهو قوله: ﴿يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ﴾ وفيه وجوه:

أ. الأول: قال الزجاج: يؤثرون تكذيب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ليأخذوا الرشا على ذلك ويحصل لهم الرياسة، وإنما ذكر ذلك بلفظ الاشتراء لأن من اشترى شيئا آثره.

ب. الثاني: ان في الآية إضمارا، وتأويله: يشترون الضلالة بالهدى كقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: 16] أي يستبدلون الضلالة بالهدى، ولا إضمار على قول الزجاج.

ج. الثالث: المراد بهذه الآية عوام اليهود، فإنهم كانوا يعطون أحبارهم بعض أموالهم ويطلبون منهم أن ينصروا اليهودية ويتعصبوا لها، فكانوا جارين مجرى من يشتري بماله الشبهة والضلالة، ولا إضمار على هذا التأويل أيضا، ولكن الأولى أن تكون الآية نازلة في علمائهم.

6. ثم لما وصفهم تعالى بالضلال وصفهم بعد ذلك بالإضلال فقال: ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ يعني أنهم يتوصلون إلى إضلال المؤمنين والتلبيس عليهم، لكي يخرجوا عن الإسلام، ولا ترى حالة أسوأ ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين أعني الضلال والإضلال.

7. ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ أي هو سبحانه أعلم بكنه ما في قلوبهم وصدورهم من العداوة والبغضاء.

8. ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ والمعنى أنه تعالى لما بين شدة عداوتهم للمسلمين، بين أن الله تعالى ولي المسلمين وناصرهم، ومن كان الله وليا له وناصرا له لم تضره عداوة الخلق.

9. سؤال وإشكال: ولاية الله لعبده عبارة عن نصرته له، فذكر النصير بعد ذكر الولي تكرار، والجواب: ان الولي المتصرف في الشيء، والمتصرف في الشيء لا يجب أن يكون ناصرا له فزال التكرار.

10. سؤال وإشكال: لم لم يقل: وكفى بالله وليا ونصيرا؟ وما الفائدة في تكرير قوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾، والجواب: أن التكرار في مثل هذا المقام يكون أشد تأثيرا في القلب وأكثر مبالغة.

11. سؤال وإشكال: ما فائدة الباء في قوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا﴾؟ والجواب: ذكروا وجوها.

أ. الأول: لو قيل: كفى الله، كان يتصل الفعل بالفاعل، ثم هاهنا زيدت الباء إيذانا بأن الكفاية من الله ليست كالكفاية من غيره في الرتبة وعظم المنزلة.

ب. الثاني: قال ابن السراج: تقدير الكلام: كفى اكتفاؤك بالله وليا، ولما ذكرت (كفى) دل على الاكتفاء، لأنه من لفظه، كما تقول: من كذب كان شرا له، أي كان الكذب شرا له، فأضمرته لدلالة الفعل عليه.

ج. الثالث: يخطر ببالي أن الباء في الأصل للإلصاق، وذلك إنما يحسن في المؤثر الذي لا واسطة بينه وبين التأثير، ولو قيل: كفى الله، دل ذلك على كونه تعالى فاعلا لهذه الكفاية، ولكن لا يدل ذلك على أنه تعالى يفعل بواسطة أو بغير واسطة، فإذا ذكرت حرف الباء دل على أنه يفعل بغير واسطة، بل هو تعالى يتكفل بتحصيل هذا المطلوب ابتداء من غير واسطة أحد، كما قال: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 10/92.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ الآية، نزلت في يهود المدينة وما والاها، قال ابن إسحاق: وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود، إذا كلم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لوى لسانه وقال: أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك، ثم طعن في الإسلام وعابه فأنزل الله تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ إلى قوله: ﴿قَلِيلًا﴾

2. معنى ﴿يَشْتَرُونَ﴾ يستبدلون فهو في موضع نصب على الحال، وفي الكلام حذف تقديره يشترون الضلالة بالهدى، كما قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ قاله القتبي وغيره، ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ عطف عليه، والمعنى تضلوا طريق الحق، وقرأ الحسن: ﴿تَضِلُّوا﴾ بفتح الضاد أي عن السبيل.

3. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ يريد منكم، فلا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم، ويجوز أن يكون ﴿أَعْلَمُ﴾ بمعنى عليم، كقوله تعالى ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ أي هين.

4. ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا﴾ الباء زائدة، زيدت لأن المعنى اكتفوا بالله فهو يكفيكم أعداءكم، و﴿وَلِيًّا﴾ و﴿نَصِيرًا﴾ نصب على البيان، وإن شئت على الحال.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/242.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ألم تبصر بعينيك، أو ألم تعلم، فذلك تعجيب، والخطاب له صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وخطاب سيِّد القوم خطاب لهم، أو ذلك خطاب لِكُلِّ من يصلح له، ولتضمُّنه معنى الانتهاء تعدَّى بـ (إِلَى) في قوله: ﴿إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ﴾ وهم أحبار اليهود، ومنهم حبران يأتيان رأس المنافقين عبد الله بن أُبَيٍّ ورهطه يثبِّطانهم عن الإسلام، وهما رفاعة بن زيد، ومالك بن دخشم، وكانا إذا تكلَّم صلّى الله عليه وآله وسلّم لَوَيَا لسانهما وعاباه.

2. ﴿نَصِيبًا﴾ قليلاً ﴿مِّنَ الْكِتَابِ﴾، من علم التوراة أو جنس الكتاب، وقيل: القرآن ولو أنكره اليهود؛ لأنَّه حقٌّ في قلوبهم.

3. ﴿يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ﴾ يأخذونها إعراضًا عن الهدى، وهو الإيمان بمحمَّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن، وقد أمكن لهم، أو كأنَّه كان في أيديهم ـ لقوَّة أدلَّته ـ فاشتروا الضلالة به، أو كان في أيديهم تحقيقًا وتركوه لها، ﴿فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ به﴾ [البقرة: 89]، أو اشتراء الضلالة: أخذ الرشا، وتحريف التوراة.

4. ﴿وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ﴾ أيُّها المؤمنون كما ضَلُّوا، لم يكتفوا بضلال أنفسهم، ﴿السَّبِيلَ﴾ سبيل الحقِّ، أي: أن تفقدوه، ولهذا التضمين تعدَّى، أو عن السبيل، فهو مفعول به غير صريح.

5. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ﴾ منكم ﴿بِأَعْدَآئِكُمْ﴾ وهم هؤلاء اليهود، فلا تأمنوهم على شيء من دين أو دنيا، واحذروهم ﴿وَكَفَىٰ بِاللهِ وَلِيًّا﴾ يلي أمركم بالإرشاد إلى المصالح والتحذير عن المضارِّ ﴿وَكَفَىٰ بِاللهِ نَصِيرًا﴾ لكم، والوليُّ هو المتصرِّف في شيء، ولا يجب أن يكون ناصرًا؛ فلا تكرير بذكر (نصير)

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/194.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال الرازي في وجه الاتصال بين هذه الآيات وما قبلها: (اعلم أنه تعالى لما ذكر من أول هذه السورة إلى هذا الموضع أنواعا كثيرة من التكاليف والأحكام الشرعية قطع ههنا ببيان الأحكام الشرعية وذكر أحوال أعداء الدين وأقاصيص المتقدمين لأن البقاء في النوع الواحد من العلم مما يكل الطبع ويكدر الخاطر فأما الانتقال من نوع من العلوم إلى نوع آخر فإنه ينشط الخاطر ويقوي القريحة)، وقال النيسابوري الذي اختصر التفسير الكبير للرازي في تفسيره: (ثم إنه سبحانه لما ذكر من أول السورة إلى هنا أحكاما كثيرة عدل إلى ذكر طرف من آثار المتقدمين وأحوالهم لأن الانتقال من أسلوب إلى أسلوب مما يزيد هزة وجدة).. غلط المفسران كلاهما في قولهما أن الكلام انتقال إلى ذكر أحوال المتقدمين وإنما هو انتقال إلى ذلك أحوال المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من أهل الكتاب فكأنهما توهما أن الآية نزلت في زمنهما وما قالاه في الانتقال من أسلوب إلى آخر صحيح وهو أعم مما نحن فيه وقال محمد عبده: الكلام انتقال من الأحكام وما عليها من الوعد والوعيد إلى بيان حال بعض الأمم من حيث أخذهم بأحكام دينهم وعدمه ليذكر الذين خوطبوا بالأحكام المتقدمة بأن الله تعالى مهيمن عليهم كما هيمن على من قبلهم فإذا هم قصروا يأخذهم بالعقاب الذي رتبه على ترك أحكام دينه في الدنيا والآخرة، والمنتظر من المؤمنين بعد ذكر الأحكام الماضية وما قرنت به من الوعد والوعيد أن يأخذوا بها على الوجه الموصل إلى إصلاح النفس وهو أثرها المراد منها وذلك بأن يؤخذ بها في صورتها ومعناها لا في صورتها فقط، ولكن جرت سنّة الله في الأمم أن يكتفي بعض الناس من الدين ببعض الظواهر والرسوم الدينية، كما جرى عليه بعض اليهود في القرابين وأحكام الطهارة الظاهرة، وهذا لا يكفي في اتباع الدين والقيام به على الوجه المصلح للنفوس كما أراد الله من التشريع، فأراد الله تعالى بعد بيان بعض الأحكام التي لها رسوم ظاهرة كالغسل والتيمم أن يذكر المسلمين بحال بعض الأمم التي هذا شأنها وكون هذا لم يغن عنها من الله شيئا ولم ينالوا به مرضاته ولم يكونوا به أهلا لكرامته ووعده.

2. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ قال ابن جرير نزلت في طائفة من اليهود وروي ذلك عن ابن عباس وغيره ويرى بعضهم أن أهل الكتاب فيها أعم.

3. الرؤية في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ قلبية علمية كما قال ابن جرير وقيل بمعنى النظر، والمعنى ألم ينته علمك أيها الرسول أولم تنظر إلى هؤلاء الذين أعطوا نصيبا أي حظا وطائفة من الكتاب الإلهي كيف حرموا هدايته واستبدلوا بها ضدها فهم يشترون الضلالة باختيارها لأنفسهم بدلا من الهداية ويريدون أن تضلوا أيها المسلمون السبيل أي طريق الحق القويم كما ضلوا فهم يكيدون لكم ليردوكم عن دينكم إن استطاعوا.

4. التعبير بالنصيب يدل على أنهم لم يحفظوا كتابهم كله وذلك أنهم لم يحفظوه في زمن إنزاله عن ظهر قلب كما حفظنا القرآن ولم يكتبوا منه نسخا متعددة في العصر الأول كما فعلنا، حتى إذا ما فقد بعضها قام مقامه البعض الآخر، بل كان عند اليهود نسخة واحدة من التوراة هي التي كتبها موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ففقدت كما بينا ذلك في تفسير الآية الأولى من سورة آل عمران، وفيه بحث تاريخ كتابتها وحقيقة الموجود الآن منها وبحث الإنجيل كذلك، ويؤيد ذلك قوله تعالى في كل من اليهود والنصارى ﴿فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ وسيأتي في سورة المائدة فهو تصريح بمفهوم ما هنا، يقول هنا إنهم أوتوا نصيبا أي حظا ويقول هناك إنهم نسوا حظا، فالكلام يريد ويصدق بعضه بعضا والتعبير بأوتوا الكتاب في موضع آخر لا يعارضه لأن الكتاب للجنس ومن لم يعرف هذه الحقيقة من المفسرين قال إن المراد بالكتاب علمه.

5. قال محمد عبده: قال ﴿أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ لأنهم لم يأخذوا الكتاب كله بل تركوا كثيرا من أحكامه لم يعملوا بها وزادوا عليها، والزيادة فيه كالنقص منه، فالتوراة تنهاهم عن الكذب وإيذاء الناس وأكل الربا مثلا وكانوا يفعلون ذلك وزاد لهم علماؤهم ورؤساؤهم كثيرا من الأحكام والرسوم والتقاليد الدينية فهم يتمسكون بها وليست من التوراة ولا مما يعرفونه عن موسى عليه السلام، وهم يدعون اتباعه في الدين، فالأمر المحقق الذي لا شك فيه هو أنهم يعملون ببعض أحكام التوراة وقد أهملوا سائرها ففي مقام الاحتجاج بالعمل بالدين وعدمه يذكر الواقع وهو أنهم لم يؤتوا الكتاب كله إذ لم يعملوا به كله وإنما عملوا ببعضه، وفي مقام الاحتجاج عليهم بالإيمان بالنبي والقرآن يناديهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا﴾ الخ كما ترى في الآية التالية لهذه الآية ومثلها كثير.

6. هذا ما قرره الأستاذ في الدرس ولما انتهى إلى هنا قلت: أليس التعبير بالنصيب إشارة أو نصا على أنهم لم يحفظوا الكتاب كله بل فقدوا حظا ونصيبا آخر منه؟ فقال بلى فأجاز ما فهمته وأقره وكنت بينت هذا من قبل في الكلام على شريعة حمورابي ونسبتها إلى التوراة، وما هي التوراة.. فالذي لم يعملوا به من التوراة على ما اختاره محمد عبده يكون قسمين: أحدهما ما أضاعوه ونسوه وثانيهما ما حفظوا حكمه وتركوا العمل به وهو كثير أيضا.

7. وقال بعض المفسرين إن المراد بما أضاعوه من الكتاب نعت نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم وجعل بعضهم اشتراء الضلالة هو بذل المال لتأييد اليهودية والكيد للإسلام ومقاومته كان بعض عوام اليهود يعطون أحبارهم المال ليستعينوا به على ذلك.

8. ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ أي والله أعلم منكم بأعدائكم ذواتهم كالمنافقين الذين تظنون أنهم منكم وما هم منكم وأحوالهم وأعمالهم التي يكيدون بها لكم في الخفاء وما يغشونكم به في الجهر بإبراز الخديعة في معرض النصيحة وإظهار الولاء لكم والرغبة في نصركم.

9. ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ لكم يتولى شؤونكم بإرشادكم إلى ما فيه خيركم وفوزكم وينصركم على أعدائكم بتوفيقكم للعمل بأسباب النصر من الاجتماع والتعاون والتناصر وإعداد جميع ما يستطاع من وسائل القوة فلا تغتروا بولاية غيره ولا تطلبوا النصر إلا منه باتباع سننه في نظام الاجتماع وهدايته في القرآن ومنها عدم الاعتماد على الأعداء وأهل الأثرة الذين لا يعملون إلا لمصلحة أنفسهم كاليهود، وكفى بالله وليا أبلغ من كفى الله وليا أو كفت ولاية الله لأن الكفاية تعلقت بذاته من حيث ولايته.

10. قد كان اليهود في الحجاز كالمشركين أشد عداوة للمسلمين ومقاومة لهم كما أخبرنا العليم الخبير في سورية وفلسطين ثم الأندلس ليسلموا بعدلهم من ظلم النصارى لهم في تلك البلاد فكانوا مغبوطين بالفتح الإسلامي وقد كانوا يظلمون قبله وبعده في جميع بقاع الأرض غير الإسلامية، حتى كان ما كان بكيدهم وسعيهم من هدم صروح استبداد الباباوات والملوك المستعبدين لهم في أوربا وإدالة الحكومات المدنية من حكم الكنيسة، فظلوا يظلمون في روسية وأسبانية لأن السلطة فيهما دينية وقد كادوا ولا يزالون يكيدون لهدم نفوذ الديانة النصرانية من هاتين المملكتين باسم الحرية والمدنية ونفوذ الجمعية الماسونية كما فعلوا في فرنسة، وإن لهم يدا فيما كان في روسية من الانقلاب وفيما تتمخض به أسبانية الآن، فهم يقاومون كل سلطة دينية تقف في وجههم لأجل تكوين سلطة دينية لهم وقد كانت لهم يد في الانقلاب العثماني لا لأنهم كانوا مظلومين أو مضطهدين في المملكة العثمانية فإنهم كانوا آمن الناس من الظلم فيها حتى أنهم كانوا يفرّون إليها لاجئين من ظلم روسية وغيرها وإنما يريدون أن يملكوا بيت المقدس وما حوله ليقيموا فيها ملك إسرائيل وكانت الحكومة العثمانية تعارضهم في امتلاك الأرض هناك فلا يملكون شيئا منها إلا بالحيلة والرشوة ولهم مطامع أخرى مالية في هذه البلاد فهم الآن يظهرون المساعدة للحكومة العثمانية الجديدة لتساعدهم على ما يبتغون فإذا لم تنتهي الأمة العثمانية لكيدهم وتوقف حكومتها عند حدود المصلحة العامة في مساعدتهم فإن الخطر من نفوذهم عظيم وقريب فإنهم قوم اعتادوا الربا الفاحش فلا يبذلون دانقا من المساعدة إلا لينالوا مثقالا أو قنطارا من الجزاء، وإذا كانوا بكيدهم وأموالهم قد جعلوا الدولة الفرنسية ككرة اللاعب في أيديهم فأزالوا منها سلطة الكنيسة وحملوها على عقوقها وكانت تدعى بنت الكنيسة البكر وحملوها على الظلم في الجزائر وهي التي تفاخر الأمم والدول بالعدل والمساواة، عملوا فيها عملهم وهي في الذروة العليا من العلم والمدنية والسياسة والثروة والقوة أفلا يقدرون على أكثر منه في الحكومة العثمانية وهي على ما نعلم من الجهل والضعف والحاجة إلى المال؟؟ وطمعهم فيها أشد، وخطره أعظم، فإن بيت المقدس له شأن عظيم عند المسلمين والنصارى كافة فإذا تغلب اليهود فيه ليقيموا فيه ملك إسرائيل ويجعلوا المسجد الأقصى (هيكل سليمان) وهو قبلتهم معبدا خالصا لهم يوشك أن تشتعل نيران الفتن ويقع ما نتوقع من الخطر، وفي الأحاديث المنبئة عن فتن آخر الزمان ما هو صريح في ذلك فيجب أن تجتهد الأمة العثمانية في درء ذلك ومدافعة سيله بقدر الاستطاعة لئلا يقع في ابان ضعفها فيكون قاضيا على سلطتها ونسأل الله السلامة.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/136.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ كلام مستأنف، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المسلمين، والنصيب: الحظّ، والمراد: اليهود أوتوا نصيبا من التوراة.

2. ﴿يَشْتَرُونَ﴾ جملة حالية، والمراد بالاشتراء: الاستبدال، وقد تقدم تحقيق معناه، والمعنى: أن اليهود استبدلوا الضلالة، وهي البقاء على اليهودية بعد وضوح الحجة على صحة نبوّة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم.

3. قوله: ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ عطف على قوله: ﴿يَشْتَرُونَ﴾ مشارك له في بيان سوء صنيعهم، وضعف اختيارهم، أي: لم يكتفوا بما جنوه على أنفسهم من استبدال الضلالة بالهدى، بل أرادوا مع ضلالهم: أن يتوصلوا بكتمهم وجحدهم إلى أن تضلوا أنتم أيها المؤمنون السبيل المستقيم الذي هو سبيل الحق.

4. ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ أيها المؤمنون وما يريدونه بكم من الإضلال، والجملة اعتراضية، ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا﴾ لكم‏ ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ ينصركم في مواطن الحرب، فاكتفوا بولايته ونصره، ولا تتولوا غيره؛ ولا تستنصروه، والباء في قوله: ﴿بِاللَّهِ﴾ في الموضعين: زائدة.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/548.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ من رؤية القلب، وضمن معنى الانتهاء، أي: ألم ينته علمك إليهم، أو من رؤية البصر، أو: ألم تنظر ﴿إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ أي حظّا من علم التوراة، وهم أحبار اليهود، قال العلامة أبو السعود: المراد بالذي أوتوه، ما بيّن لهم فيها من الأحكام والعلوم التي من جملتها ما علموه من نعوت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وحقية الإسلام، والتعبير عنه بالنصيب، المنبئ عن كونه حقّا من حقوقهم، التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها للإيذان بكمال ركاكة آرائهم حيث ضيعوه تضييعا، وتنوينه تفخيميّ مؤيد للتشنيع عليهم، والتعجيب من حالهم، فالتعبير عنهم بالموصول للتنبيه بما في حيز الصلة على كمال شناعتهم، والإشعار بمكان ما طوي ذكره في المعاملة المحكية عنهم من الهدى الذي هو أحد العوضين‏.

2. ﴿يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ﴾ وهو البقاء على اليهودية، بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوّة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنه هو النبيّ المبشّر به في التوراة والإنجيل، أي يأخذون الضلالة ويتركون ما أوتوه من الهدى ليشتروا ثمنا قليلا من حطام الدنيا، وإنما طوى ذكر المتروك لغاية ظهور الأمر، لا سيما بعد الإشعار المذكور، والتعبير عن ذلك بالاشتراء، الذي هو عبارة عن استبدال السلعة بالثمن، أي أخذها بدلا منه، أخذا ناشئا عن الرغبة فيها والإعراض عنه ـ للإيذان بكمال رغبتهم في الضلالة، التي حقها أن يعرض عنها كلّ الإعراض، وإعراضهم عن الهداية التي يتنافس فيها المتنافسون، وفيه من التسجيل على نهاية سخافة عقولهم، وغاية ركاكة آرائهم ـ ما لا يخفى، حيث صورت حالهم بصورة ما لا يكاد يتعاطاه أحد ممن له أدنى تمييز، قاله أبو السعود.

3. ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ أي لا يكتفون بضلال أنفسهم بل يريدون بما فعلوا، من كتمان نعوته صلّى الله عليه وآله وسلّم، أن تضلوا أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوا، ويودون لو تكفرون بما أنزل عليكم من الهدى والعلم النافع.

4. ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ﴾ أي منكم‏ ﴿بِأَعْدَائِكُمْ﴾ أي وقد أخبركم بعداوتهم لكم، وما يريدون بكم، فاحذروهم، ولا تستنصحوهم في أموركم، ولا تستشيروهم‏ ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا﴾ يلي أموركم‏ ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ ينصركم، أي: فثقوا بولايته ونصرته دونهم، ولا تتولوا غيره، أو: ولا تبالوا بهم وبما يسومونكم من السوء، فإنه تعالى يكفيكم مكرهم وشرهم، ففيه وعد ووعيد.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/138.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن ذكر الله سبحانه في سابق الآيات كثيرا من الأحكام الشرعية ووعد فاعلها بجزيل الثواب، وأوعد تاركها بشديد العقاب، انتقل هنا إلى ذكر حال بعض الأمم‏ الذين تركوا أحكام دينهم وحرّفوا كتابهم واشتروا الضلالة بالهدى، لينبه الذين خوطبوا بالأحكام المتقدمة إلى أن الله مهيمن عليهم كما هيمن على من قبلهم، فإذا هم قصّروا أخذهم بالعقاب الذي رتبه على ترك أحكام دينه في الدنيا والآخرة، والمؤمنون بالله حقا بعد أن سمعوا الوعد والوعيد المتقدمين لا بد أن يأخذوا بهذه الأحكام على الوجه الموصّل إلى إصلاح الأنفس، وذلك هو الأثر المطلوب منها، ولن يكون ذلك إلا إذا أخذت بصورها ومعانيها، لا بأخذها بصورها الظاهرة فحسب.

2. وقد اكتفى بعض الأمم من الدين ببعض رسومه الظاهرة فقط كبعض اليهود الذين كانوا يكتفون ببعض القرابين وأحكام الدين الظاهرة، وهذا لا يكفى في اتباع الدين والقيام به على الوجه المصلح للنفوس كما أراده الله، فأرشدنا سبحانه إلى أن عمل الرسوم الظاهرة في الدين كالغسل والتيمم لا يغنى عنهم شيئا إذا لم يطهروا القلوب حتى ينالوا مرضاته ويكونوا أهلا لكرامته، ولا يكون حالهم كحال بعض من سبقهم من الأمم.

3. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ أي ألم تنظر إلى هؤلاء الذين أعطوا طائفة من الكتاب الإلهي كيف حرموا هدايته واستبدلوا بها ضدها، فهم يختارون الضلالة لأنفسهم ويريدون أن تضلوا أيها المؤمنون طريق الحق القويم كما ضلوا هم، فهم دائبون على الكيد لكم، ليردوكم عن دينكم إن استطاعوا.

4. التعبير بالشراء دون الاختيار للإيماء إلى أنهم كانوا فرحين بما عملوا، ظانين أن الخير كل الخير فيما صنعوا، والتعبير بالنصيب يدل على أنهم لم يحفظوا كتابهم كله، إذ هم لم يستظهروه زمن التنزيل كما حفظ القرآن ولم يكتبوا منه نسخا متعددة في العصر الأول كما فعلنا حتى إذا ما فقد بعضها قام مقامه بعض آخر، بل كان عند اليهود نسخة من التوراة هي التي كتبها موسى عليه السلام ففقدت، ويؤيد هذا قوله تعالى‏ ﴿فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾

5. والخلاصة ـ إنهم لم يأخذوا الكتاب كله، بل تركوا كثيرا من أحكامه لم يعملوا بها وزادوا عليها، والزيادة فيه كالنقص منه، فالتوراة تنهاهم عن الكذب وإيذاء الناس وأكل الربا وكانوا يفعلون ذلك، وزاد لهم علماؤهم ورؤساؤهم كثيرا من الأحكام والرسوم الدينية فتمسكوا بها وهى ليست من التوراة ولا مما يعرفونه عن موسى عليه السلام، فالذى لم يعملوا به من التوراة قسمان: أحدهما ما أضاعوه ونسوه، وثانيهما ما حفظوا حكمه وتركوا العمل به، وهو كثير أيضا.

6. ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ أي والله أعلم منكم بمن هم أعداؤكم فأنتم تظنون في المنافقين أنهم منكم وما هم منكم، فهم يكيدون لكم في الخفاء ويغشّونكم في الجهر، فيبرزون الخديعة في معرض النصيحة، ويظهرون لكم الولاء والرغبة والنصرة، والله أعلم بما في قلوبهم من العداوة والبغضاء.

7. ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ فهو الذي يرشدكم إلى ما فيه خيركم وفلا حكم، وهو الذي ينصركم على أعدائكم بتوفيقكم لصالح العمل والهداية لأسباب النصر من الاجتماع والتعاون وسائر الوسائل التي تؤدى إلى القوة، فلا تطلبوا الولاية من غيره ولا النصرة من سواه، وعليكم باتباع السنن التي وضعها في هذه الحياة، ومنها عدم الاستعانة بالأعداء الذين لا يعملون إلا لمصالحهم الخاصة كاليهود وغيرهم.

__________

(1) تفسير المراغى: 5/51.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ابتداء من هذا الدرس في السورة، تبدأ المعركة التي يخوضها القرآن بالجماعة المسلمة، في مواجهة الجاهلية المحيطة بها ـ واليهود من أهل الكتاب خاصة ـ تلك المعركة التي شهدنا مواقعها ومجالاتها في سورتي البقرة وآل عمران من قبل.. وهي هي.. والمعسكرات المعادية هي هي كذلك! المعسكرات التي تحدثنا عنها في تقديم سورة البقرة، وفي تقديم سورة آل عمران‏، وفي تقديم هذه السورة كذلك‏.

2. ابتداء من هذا الدرس تبدأ المعركة الخارجية، معركة الجماعة المسلمة مع المعسكرات المعادية من حولها، ولكن هذا في الحقيقة ليس بدء المعركة، فكل ما سبق في السورة من التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والعائلية والأخلاقية؛ ومحو الملامح الجاهلية ـ في المجتمع المسلم الذي التقطه المنهج الرباني من سفح الجاهلية ـ وتخطيط وتثبيت الملامح الإسلامية الجديدة في هذا المجتمع.. كل ذلك لم يكن بعيدا عن المعركة الخارجية مع أعداء الجماعة المسلمة في المدينة خاصة؛ وفي الجزيرة عامة.. إنما كان التمهيد الحقيقي لها، والاستعداد الحقيقي لمواجهتها.. كانت تلك معركة البناء، بناء هذا المجتمع الجديد، على أسس المنهج الإسلامي الجديد؛ كي يستطيع أن يواجه المجتمعات المعادية من حوله، ويتفوق عليها.

3. وكما رأينا في سورتي البقرة وآل عمران العناية تتجه أولا إلى بناء هذا المجتمع من داخله، بناء عقيدته وتصوراته، وأخلاقه ومشاعره، وتشريعاته وأوضاعه، إلى جانب تعليم الجماعة المسلمة كل شيء عن طبيعة أعدائها، ووسائلهم، وتحذيرها من كيدهم ومكرهم، وتوجيهها إلى المعركة معهم بقلوب مطمئنة، وعيون مفتوحة، وإرادات محشودة، ومعرفة بطبيعة المعركة وطبيعة الأعداء.. كذلك نجد الأمر هنا في هذه السورة، سواء بسواء.

4. لقد كان القرآن فيها جميعا، يخوض المعركة بالجماعة المسلمة، في كل جبهة.. كان يخوضها في الضمائر والمشاعر، حيث ينشئ فيها عقيدة جديدة، ومعرفة بربها جديدة، وتصورا للوجود جديدا، ويقيم فيها موازين جديدة، وينشئ فيها قيما جديدة؛ ويستنقذ فطرتها من ركام الجاهلية؛ ويمحو ملامح الجاهلية في النفس والمجتمع؛ وينشئ ويثبت ملامح الإسلام الوضيئة الجميلة.. ثم يقودها في المعركة مع أعدائها المتربصين بها في الداخل والخارج.. اليهود والمنافقين والمشركين.. وهي على أتم استعداد للقائهم، والتفوق عليهم؛ بمتانة بنائها الداخلي الجديد: الاعتقادي والأخلاقي والاجتماعي والتنظيمي سواء.

5. لقد كان التفوق الحقيقي للمجتمع المسلم على المجتمعات الجاهلية من حوله ـ بما فيها مجتمع اليهود القائم في قلب المدينة ـ هو تفوقه في البناء الروحي والخلقي والاجتماعي والتنظيمي ـ بفضل المنهج القرآني الرباني ـ قبل أن يكون تفوقا عسكريا أو اقتصاديا أو ماديا على العموم! بل هو لم يكن قط تفوقا عسكريا واقتصاديا ـ ماديا ـ فقد كان أعداء المعسكر الإسلامي دائما أكثر عددا، وأقوى عدة، وأغنى مالا، وأوفر مقدرات مادية على العموم! سواء في داخل الجزيرة العربية، أو في خارجها في زمن الفتوحات الكبرى بعد ذلك.. ولكن التفوق الحقيقي كان في ذلك البناء الروحي والخلقي والاجتماعي ـ ومن ثم السياسي والقيادي ـ الذي أسسه الإسلام بمنهجه الرباني المتفرد.

6. وبهذا التفوق الساحق على الجاهلية في بنائها الروحي والخلقي والاجتماعي ـ ومن ثم السياسي والقيادي ـ اجتاح الإسلام الجاهلية.. اجتاحها أولا في الجزيرة العربية، واجتاحها ثانيا في الإمبراطوريتين العظيمتين الممتدتين حوله: إمبراطوريتي كسرى وقيصر.. ثم بعد ذلك في جوانب الأرض الأخرى، سواء كان معه جيش وسيف، أم كان معه مصحف وأذان! ولولا هذا التفوق الساحق ما وقعت تلك الخارقة التي لم يعرف لها التاريخ نظيرا، حتى في الاكتساحات العسكرية التاريخية الشهيرة، كزحف التتار في التاريخ القديم، وزحف الجيوش الهتلرية في التاريخ الحديث.

7. ميلاد إنسان جديد غير الذي تعرفه الأرض على وجه اليقين والتأكيد، ومن ثم صبغ البلاد التي غمرها هذا المد بصبغته؛ وترك عليها طابعه الخاص؛ وطغى هذا المد على رواسب الحضارات التي عاشت عشرات القرون من قبل في بعض البلاد، كالحضارة الفرعونية في مصر، وحضارة البابليين والأشوريين في العراق، وحضارة الفينيقيين والسريان في الشام، لأنه كان أعمق جذورا في الفطرة البشرية؛ وأوسع مجالا في النفس الإنسانية، وأضخم قواعد وأشمل اتجاهات في حياة بني الإنسان، من كل تلك الحضارات.

8. وغلبة اللغة الإسلامية واستقرارها في هذه البلاد، ظاهرة عجيبة، لم تستوف ما تستحقه من البحث والدراسة والتأمل، وهي في نظري أعجب من غلبة العقيدة واستقرارها، إذ أن اللغة من العمق في الكينونة البشرية ومن التشابك مع الحياة الاجتماعية، بحيث يعد تغييرها على هذا النحو معجزة كاملة! وليس الأمر في هذا هو أمر (اللغة العربية)، فاللغة العربية كانت قائمة؛ ولكنها لم تصنع هذه المعجزة في أي مكان على ظهر الأرض ـ قبل الإسلام ـ ومن ثم سميتها (اللغة الإسلامية) فالقوة الجديدة التي تولدت في اللغة العربية، وأظهرت هذه المعجزة على يديها، كانت هي (الإسلام) قطعا! وكذلك اتجهت العبقريات الكامنة في البلاد المفتوحة (المفتوحة للحرية والنور والطلاقة) اتجهت إلى التعبير عن ذاتها ـ لا بلغاتها الأصلية ـ ولكن باللغة الجديدة، لغة هذا الدين، اللغة الإسلامية، وأنتجت بهذه اللغة في كل حقل من حقول الثقافة نتاجا تبدو فيه الأصالة؛ ولا يلوح عليه الاحتباس من معاناة التعبير في لغة غريبة ـ غير اللغة الأم ـ لقد أصبحت اللغة الإسلامية هي اللغة الأم فعلا لهذه العبقريات.. ذلك أن الرصيد الذي حملته هذه اللغة كان من الضخامة أولا؛ ومن ملاصقة الفطرة ثانيا؛ بحيث كان أقرب إلى النفوس وأعمق فيها، من ثقافاتها القديمة، ومن لغاتها القديمة أيضا! لقد كان هذا الرصيد هو رصيد العقيدة والتصور؛ ورصيد البناء الروحي والعقلي والخلقي والاجتماعي الذي أنشأه المنهج الإسلامي في فترة وجيزة، وكان من الضخامة والعمق واللصوق بالفطرة، بحيث أمد اللغة ـ لغة الإسلام ـ بسلطان لا يقاوم، كما أمد الجيوش ـ جيوش الإسلام ـ بسلطان لا يقاوم كذلك! وبغير هذا التفسير يصعب أن نعلل تلك الظاهرة التاريخية الفريدة، وعلى أية حال فهذا موضوع يطول شرحه، فحسبنا منه هذه اللمحة في سياق الظلال.

9. منذ هذا الدرس في هذه السورة تبدأ المعركة مع المعسكرات المعادية المتربصة بالجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة.. ففي هذا الدرس تعجيب من حال اليهود وتصرفاتهم في مواجهة الدين الجديد والجماعة التي تمثله، وفي الدرس الذي يليه بيان لوظيفة الجماعة المسلمة، وطبيعة منهجها، وحد الإسلام، وشرط الإيمان، الذي يتميز به منهجها وحياتها ونظامها.. وفي الدرس الذي يليه دعوة لهذه الجماعة للذود عن منهجها ووضعها ووجودها؛ وكشف للمنافقين المندسين فيها؛ وبيان لطبيعة الموت والحياة وقدر الله الذي يجري بهما؛ وهو جزء من تربية هذه الجماعة، وإعدادها لوظيفتها وللمعركة مع أعدائها.. وفي الدرس الذي يليه مزيد من الحديث عن المنافقين؛ وتحذير للجماعة المسلمة من الانقسام في شأنهم، أو الدفاع عن تصرفاتهم، ثم تفصيل للإجراءات التي تواجه بها الجماعة المسلمة شتى المعسكرات من حولها ـ أي لقواعد قانون المعاملات الدولية ـ وفي الدرس الذي يليه نجد نموذجا لرفعة الإسلام في معاملته ليهودي فرد في المجتمع الإسلامي!.. والدرس الذي يليه جولة مع الشرك والمشركين، وتوهين للأسس التي يقوم عليها المجتمع المشرك في الجزيرة.. ويتوسط هذه المعركة لمحة من التنظيم الداخلي، ترتبط بأوائل السورة في شأن الأسرة.. ثم يجيء الدرس الأخير ـ في هذا الجزء ـ خاصا بالنفاق والمنافقين؛ يهبط بهم إلى الدرك الأسفل من النار! وهذه الإشارات الخاطفة تبين لنا طبيعة مجالات المعركة وجوانبها المتعددة ـ في الداخل والخارج.. وطبيعة التوافق والتكامل، بين المعركة الداخلية والمعركة الخارجية في حياة المجتمع الإسلامي الأول.. وهي هي بذاتها معركة الأمة المسلمة اليوم وغدا في أساسها وحقيقتها.

10. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ إنه التعجيب الأول من سلسلة التعجيبات الكثيرة ـ من موقف أهل الكتاب ـ من اليهود ـ يوجه الخطاب فيه إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أو إلى كل من يرى هذا الموقف العجيب المستنكر: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾، لقد كان من شأن أن يؤتوا نصيبا من الكتاب.. الهداية.. فقد آتاهم الله التوراة، على يدي موسى عليه السلام، لتكون هداية لهم من ضلالتهم الأولى.. ولكنهم يدعون هذا النصيب، يدعون الهداية، ويشترون الضلالة!

11. والتعبير بالشراء يعني القصد والنية في المبادلة! ففي أيديهم الهدى ولكنهم يتركونه ويأخذون الضلالة، فكأنما هي صفقة عن علم وعن قصد وعمد، لا عن جهل أو خطأ أو سهو! وهو أمر عجيب مستنكر، يستحق التعجيب منه والاستنكار.

12. ولكنهم لا يقفون عند هذا الأمر العجيب المستنكر، بل هم يريدون أن يضلوا المهتدين، يريدون أن يضلوا المسلمين.. بشتى الوسائل وشتى الطرق، التي سبق ذكرها في سورتي البقرة وآل عمران؛ والتي سيجي‏ء طرف منها في هذه السورة كذلك.. فهم لا يكتفون بضلال أنفسهم الذي يشترونه؛ بل يحاولون طمس معالم الهدى من حولهم؛ حتى لا يكون هناك هدى ولا مهتدون!

13. وفي هذه اللمسة الأولى، والثانية، تنبيه للمسلمين وتحذير؛ من ألاعيب اليهود وتدبيرهم.. ويا له من تدبير! وإثارة كذلك لنفوس المسلمين ضد الذين يريدون لهم الضلالة بعد الهدى، وقد كان المسلمون يعتزون بهذا الهدى؛ ويعادون من يحاول ردهم عنه إلى جاهليتهم التي عرفوها وعرفوا الإسلام، فكرهوها وأحبوا الإسلام! وكرهوا كل من يحاول ردهم إليها في قليل أو كثير.. وكان القرآن يخاطبهم هكذا، عن علم من الله، بما في صدورهم من هذا الأمر الكبير.

14. ومن ثم يعقب على إبراز هذه المحاولة من اليهود، بالتصريح بأن هؤلاء أعداء للمسلمين، وبتطمين الجماعة المسلمة إلى ولاية الله ونصره، إزاء تلك المحاولة: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾، وهكذا يصرح العداء ويستعلن، بين الجماعة المسلمة واليهود في المدينة.. وتتحدد الخطوط، وقد كان التعجيب من أهل الكتاب عامة ـ وكان المفهوم أن المعنيين هم يهود المدينة ـ ولكن السياق لا يكتفي بهذا المفهوم، بل يمضي فيعين اليهود.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/672.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سؤال وإشكال: الذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم اليهود، والمراد بالنصيب من الكتاب، بعضه، أي بعض التوراة، التي جاءهم بها موسى عليه السلام، فكيف يكون اليهود قد أوتوا نصيبا من الكتاب مع أن الكتاب كله بين أيديهم؟ والله سبحانه وتعالى يقول فيهم: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾، ويقول سبحانه: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ كيف يكون هذا؟ والجواب:

أ. أولا: أن الكتاب ـ وهو التوراة ـ الذي بين أيدى اليهود، قد حرّف وبدّل، بما أحدثوا فيه من منكرات، وبما ألقوا إليه من أهواءهم، ومختلقاتهم.. فالذى بقي في أيديهم من التوراة، هو بعض التوراة، لا التوراة كما أنزلت عليهم.

ب. وثانيا: أن ما بقي في أيديهم من التوراة لم يستقيموا عليه، فما صادف من أحكامها هوى في أنفسهم أخذوا به، وما كان على غير ما يحبّون تأوّلوا له، وحرفوه عن وجهه إلى الوجه الذي يريدون.. وقد نعى الله ذلك عليهم بقوله سبحانه: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾، فالذى يمسك به اليهود من التوراة هو بعض التوراة، لا التوراة.

2. وفي التعبير بلفظ ﴿أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ بدلا من (آتيناهم الكتاب) إبعاد لهم عن هذا المقام الكريم، مقام الخطاب من الله رب العالمين، لأنهم ـ وقد فعلوا ما فعلوا من منكرات ـ ليسوا أهلا لأن يوجّه إليهم خطاب من الله رب العالمين.. فوجّه إليهم الخطاب مجهول الجهة التي تخاطبهم، حتى لكأنهم في مواجهة الوجود كلّه، يطلع عليهم من كل أفق منه من يستنكر ما هم فيه من ضلال، ويحمّق موقفهم من رسل الله وكتبه.. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾، فكأنّ ألسنة الخلق كلّها تتنادى مشيرة إلى هذا الضلال والسّفه الذي يركب هؤلاء الحمقى السفهاء من الناس، إذ يشترون الضلالة بالهدى، والباطل بالحق، والشر بالخير.. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾

3. وفي قوله تعالى: ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ خطاب للمسلمين، بعد أن كان الخطاب موجها إلى النبيّ الكريم، وفي هذا، تكريم للنبىّ ـ صلوات الله وسلامه عليهـ ورفع لمقامه الكريم، من أن يكون لهؤلاء الضالين، ومفترياتهم، أثر في سلامة دينه، وصحة معتقدة، ووثاقة إيمانه بربّه، وإن كان في ذلك ما يخشى منه على المسلمين، في التشويش عليهم، والوسوسة بالباطل لهم.

4. ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ ـ فضح لليهود، ولما في قلوبهم من بغضة وشنآن للمسلمين، وأنهم هم العدوّ، الذين يكيدون لدين الله، ولرسول الله، وللمؤمنين بالله.. وفيهم يقول الله سبحانه: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾.. وفيهم يقول سبحانه أيضا: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾

5. وفي قوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ حماية ربّانية وحراسة رحمانية للمؤمنين، مما يكيد لهم اليهود، وما يدبّرون من سوء.. فالله سبحانه وتعالى، هو ولىّ المؤمنين، يدفع عنهم هذا الكيد، ويفسده.. ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ وإن الله سبحانه ليتولّى المؤمنين وينصرهم، إذا هم أخذوا حذرهم، وتنبهوا إلى عدوّهم، وتحصنوا من كيده ومكره، بإيمانهم بالله، واحترازهم من عدوّهم: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/804.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ استئناف كلام راجع إلى مهيع الآيات التي سبقت من قوله: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: 36] فإنّه بعد نذارة المشركين وجّه الإنذار لأهل الكتاب، ووقعت آيات تحريم الخمر وقت الصلاة، وآيات مشروعية الطهارة لها فيما بينهما، وفيه مناسبة للأمر بترك الخمر في أوقات الصلوات والأمر بالطهارة، لأنّ ذلك من الهدى الذي لم يسبق لليهود نظيره، فهم يحسدون المسلمين عليه، لأنّهم حرموا من مثله وفرطوا في هدى عظيم، وأرادوا إضلال المسلمين عداء منهم.

2. جملة ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ـ الى ـ ﴿الْكِتَابِ﴾ جملة يقصد منها التعجيب، والاستفهام فيها تقريري عن نفي فعل لا يودّ المخاطب انتفاءه عنه، ليكون ذلك محرّضا على الإقرار بأنه‏ فعل، وهو مفيد مع ذلك للتعجيب، وتقدّم نظيرها في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ في سورة آل عمران.

3. جملة ﴿يَشْتَرُونَ﴾ حالية فهي قيد لجملة ﴿أَلَمْ تَرَ﴾، وحالة اشترائهم الضلالة وإن كانت غير مشاهدة بالبصر فقد نزّلت منزلة المشاهد المرئيّ، لأنّ شهرة الشيء وتحقّقه تجعله بمنزلة المرئيّ.

4. والنصيب تقدّم عند قوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾ [النساء: 7] في هذه السورة، وفي اختياره هنا إلقاء احتمال قلّته في نفوس السامعين، وإلّا لقيل: أوتوا الكتاب، وهذا نظير قوله تعالى بعد هذا ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: 141]، أي نصيب من الفتح أو من النصر.

5. والمراد بالكتاب التوراة، لأنّ اليهود هم الذين كانوا مختلطين مع المسلمين بالمدينة، ولم يكن فيها أحد من النصارى، والاشتراء مجاز في الاختيار والسعي لتحصيل الشيء، لأنّ المشتري هو آخذ الشيء المرغوب فيه من المتبايعين، والبائع هو باذل الشيء المرغوب فيه لحاجته إلى ثمنه، هكذا اعتبر أهل العرف الذي بنيت عليه اللغة وإلّا فإنّ كلا المتبايعين مشتر وشار، فلا جرم أن أطلق الاشتراء مجازا على الاختيار، وقد تقدّم نظيره في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ في سورة البقرة، وهذا يدلّ على أنّهم اقتحموا الضلالة عن عمد لضعف إيمانهم بكتابهم وقلّة جدوى علمهم عليهم.

6. ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ أي يريدون للمؤمنين الضلالة لئلا يفضلوهم بالاهتداء، كقوله: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ [البقرة: 109]، فالإرادة هنا بمعنى المحبّة كقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ ولك أن تجعل الإرادة على الغالب في معناها وهو الباعث النفساني على العمل، أي يسعون لأن تضلّوا، وذلك بإلقاء الشبه والسعي في صرف المسلمين عن الإيمان، وقد تقدّم آنفا قوله تعالى: ﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 27]

7. جملة ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ معترضة، وهي تعريض؛ فإنّ إرادتهم الضلالة للمؤمنين عن عداوة وحسد، وجملة ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ [النساء: 45] تذييل لتطمئنّ نفوس المؤمنين بنصر الله، لأنّ الإخبار عن اليهود بأنّهم يريدون ضلال المسلمين، وأنّهم أعداء للمسلمين، من شأنه أن يلقي الروع في قلوب المسلمين، إذ كان اليهود المحاورون للمسلمين ذوي عدد وعدد، وبيدهم الأموال، وهم مبثوثون في المدينة وما حولها: من قينقاع وقريظة والنضير وخيبر، فعداوتهم، وسوء نواياهم، ليسا بالأمر الذي يستهان به؛ فكان قوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا﴾ مناسبا لقوله: ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾، أي إذا كانوا مضمرين لكم السوء فالله وليّكم يهديكم ويتولّى أموركم شأن الوليّ مع مولاه، وكان قوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ مناسبا لقوله: ﴿بِأَعْدَائِكُمْ﴾، أي فالله ينصركم.

8. فعل‏ ﴿كَفَى﴾ في قوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ مستعمل في تقوية اتّصاف فاعله بوصف يدلّ عليه التمييز المذكور بعده، أي أنّ فاعل‏ ﴿كَفَى﴾ أجدر من يتّصف بذلك الوصف، ولأجل الدلالة على هذا غلب في الكلام إدخال باء على فاعل فعل كفى، وهي باء زائدة لتوكيد الكفاية، بحيث يحصل إبهام يشوّق السامع إلى معرفة تفصيله، فيأتون باسم يميّز نوع تلك النسبة ليتمكّن المعنى في ذهن السامع، وقد يجيء فاعل‏ ﴿كَفَى﴾ غير مجرور بالباء، كقول عبد بني الحسحاس: (كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا)، وجعل الزجّاج الباء هنا غير زائدة وقال: ضمّن فعل كفى معنى اكتف، واستحسنه ابن هشام، وشذّت زيادة الباء في المفعول، كقول كعب بن مالك أو حسّان بن ثابت:

çفكفى بنا فضلا على من غيرنا... حبّ النبي محمّد إيّاناé

وجزم الواحدي في شرح قول المتنبّي:

çكفى بجسمي نحولا أنّني رجل‏... لو لا مخاطبتي إيّاك لم ترني‏é

بأنه شذوذ، ولا تزاد الباء في فاعل‏ ﴿كَفَى﴾ بمعنى أجزأ، ولا التي بمعنى وقّى، فرقا بين استعمال كفى المجازي واستعمالها الحقيقي الذي هو معنى الاكتفاء بذات الشيء نحو: (كفاني ولم أطلب قليل من المال‏)

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/143.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى وجوب الإخلاص لله سبحانه وتعالى فيما يؤدى العبد من فرائض، وما يقوم به من صدقات، وأشار إلى أن الرياء يمحق فعل الخير، ويقرب العبد من الشرك، بل إن الرياء في العبادات هو الشرك الخفى، ثم بين سبحانه وتعالى مقام أهل الإيمان ممن سبقوهم، ومقام صاحب الرسالة في الشهادة على كل من سبقوه، فرسالته هي الحق، وأنه لا يصح لمؤمن أن يستمع لما يكذب به الضالون من أهل الكتاب، وقال سبحانه في ذلك: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ﴾

2. ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ هذا تعبير قرآنى قد تكرر في كثير من آي القرآن الكريم، وأصل الصيغة للاستفهام، وهو موجه إلى عدم الرؤية، والاستفهام إنكارى لنفى وقوع ما دخل عليه، فإذا قال القائل: أفعل فلان كذا..!؟ يستنكر نسبة الفعل إليه، فمعناه نفى الفعل مع توبيخ من نسب إليه ذلك، أو تنبيه السامع إلى النفي لأن معناه حينئذ: ما وقع من فلان هذا الفعل، وما كان يعقل أن يقع منه، والاستفهام هنا متجه إلى أمر منفى، ويقول العلماء إن نفى النفي إثبات، فيكون معنى النص: قد رأيت ونظرت ببصيرتك وبصرك إلى عمل الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، وفي هذا التعبير تنبيه إلى تأكد العلم بحال هؤلاء الذين تراهم من أهل الكتاب، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم أوتوا نصيبا أي مقدارا من الكتاب ولم يؤتوا الكتاب كله؛ لأنهم نسوا حظا مما ذكروا به، ولأن الأحداث التي توالت عليهم من غارات التتار ومظالم الرومان، قد جعلت أجزاء من كتبهم تتقطع سلسلة سندها، ويذهب عنهم علمها، وهم فوق ذلك لم يعملوا بأحكام ما وصل إليهم، فهم قد وصل إليهم بعض الكتاب، وحرفوا ذلك الذي وصل إليهم، وأولوه على غير معناه، وأهملوا العمل بأكثره، فهم لم يؤتوا علما وتفسيرا وعملا إلا أقله!

3. وموضع التنبيه والغرابة ليس هو وصفهم، وإن كان في ذاته أمرا أعجبا، إنما موضعه أنهم يبتغون الضلالة ويطلبونها ولو دفعوا فيها أغلى الأثمان، وهو الهدى، ولا يطلبونها لأنفسهم، بل يريدون أن يكون غيرهم مثلهم في ضلالهم، ولذا قال سبحانه وتعالى: ﴿يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ أي تبعدوا عن الطريق المستقيم الذي هو صراط الله تعالى الذي قال فيه تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام‏]

4. هنا يرد بحثان لغويان:

أ. أحدهما: أنه ذكر هنا المطلوب وهو الضلالة، ولم يذكر المتروك كما في بعض الآيات الكريمة: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة] والجواب عن ذلك أن ذكر المطلوب وهو الضلالة من غير ذكر المتروك وهو الهدى، أو ذكر المبيع من غير ذكر الثمن، فيه ما يدل على أنهم يطلبون الضلالة في ذاتها، فالبعد عن الحق مطلب لهم وغاية، لأنهم مردوا على الباطل لا يستمرءون غيره ولا يبتغون سواه! ويدل على هذا أن هناك قراءة بالياء فى‏ ﴿أَنْ تَضِلُّوا﴾ وتكون الآية على هذه القراءة: (ويريدون أن يضلوا) أي أنهم يبتغون الباطل ويريدونه ولا يقعون فيه عن جهل وعماية، بل عن قصد وإرادة، وذلك شر ما تبتلى به النفس.

ب. الثاني: أن (ال) في السبيل للعهد، لا للاستغراق، والسبيل الحق معروف بين لا عوج فيه، وهو وحده الموصل إلى الحق؛ لأنه الطريق المستقيم، ولأنه صراط العزيز الحميد، وإن هؤلاء هم أعداء أهل الإيمان حقا وصدقا؛ لأنهم يبتغون الضلالة لأنفسهم، ويبتغون الضلالة لغيرهم من المؤمنين.

5. ولقد قال سبحانه مقررا عداوتهم: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ في هذا النص السادس تحذير للمؤمنين من هؤلاء الذين أوتوا حظا من الكتاب، وهم يطلبون الضلالة ويبتغونها لأنفسهم وللمؤمنين، لأنهم يحسدونهم، ولأنهم يريدون لهم الخذلان والضلال وأن يكونوا قوما بورا،! وقد أشار بالنص الكريم إلى أنهم أعداء المؤمنين، وإن كانوا يخفون ما لا يبدون.

6. ولذا قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ أي أن الله جلت قدرته أعلم منكم بأعدائكم، لأنكم تعلمون ما يبدو من أفعالهم وما يظهر على ألسنتهم، والله سبحانه وتعالى يعلم ما تخفى الصدور، وقد قال تعالى في آية أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران‏]

7. ومع أن هؤلاء أعداؤكم فلا تخافوهم ولكن احذروهم، ولا تتخذوا منهم أولياء توالونهم، بأن تتخذوا ولايتهم ولاية لكم بأن تنضووا تحتها، ولا تستنصروا بهم لأنهم يريدون لكم الخذلان لا النصر، ومن اعتز بغير الله ذل، ومن استنصر بعدوه خذل، وقال سبحانه: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ ويكفى المؤمن في الاعتزاز أن يكون الله وليه، لا ينضوى إلا تحت لواء أهل دينه، ولا يدخل في ولاية غير ولايتهم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المائدة]، وكما أنه يكفى المؤمن أن يكون الله وليه، فإنه يكفيه أيضا أن يكون الله تعالى ناصره: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران‏]

8. وهنا بحثان لغويان:

أ. أولهما: أن النحويين يقررون أن الباء في قوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾ زائدة في الإعراب، ولكن ليست زائدة في المعنى؛ إذ هي تشير إلى تضمن الاكتفاء بولاية الله وعونه ونصرته، وكان المعنى: اكتفوا بولاية الله ونصرته، وكفاكم الله الولاية والنصرة والمعونة.

ب. الثاني: تكرار كلمة ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾ وذلك لإلقاء الاطمئنان في قلوب المؤمنين، فإن التكرار فيه توكيد، وفيه الإشعار بعظمة الله جل جلاله الذي يتولى ولايتهم ونصرتهم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1698.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾، يدل سياق الكلام على ان المراد بالذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم اليهود، حيث وصفهم الله بالضلال أولا في قوله: ﴿يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ﴾، ثم بالإضلال ثانيا في قوله: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا﴾، ثم بتحريف الكلم عن مواضعه في قوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾

2. وما عرف التاريخ قوما أشد عنادا للحق، وعداء للخير من اليهود، فقد كانوا ضالين مضلين محرفين يوم كانوا أذلاء محكومين، أما اليوم، وبعد أن خلق لهم الاستعمار دولة القراصنة والسفاحين، فلم يقفوا عند الضلال والإضلال والتحريف، بل صاروا رمزا للشر العالمي، وسلاحا فتاكا يملكه كل مستعمر ومتآمر على العباد والبلاد، ومقياسا يميز قوى الشر والغدر عن قوى الخير والتحرر.. فما من دولة استعمارية في هذا العصر تهدف الى استعباد الشعوب الا وتلجأ الى إسرائيل لتحقق أهدافها ومراميها، وما من فئة مستغلة باغية في الشرق والغرب الا تستعين في حماية مصالحها بهذه العصابة الغاشمة الآثمة، ولكن الدلائل التي ظهرت في فييتنام تبشر، ولله الحمد، بتهيئة السبيل وتمهيده لإنسان جديد يعرف كيف يقضي على أعداء الحق والانسانية.. ان انسان اليوم في فييتنام ـ نحن الآن في سنة 1968 ـ وانسان الغد في كل مكان يختلف تماما عن انسان الأمس.. انه يميز بين المخلص والخائن، ولا يخفى عليه هذا، حتى ولو تقنّع بألف قناع وقناع، يميز بينهما، ويضع كلا في مرتبته والمكان الذي يستحقه، وعندها يعيش الناس بلا مشاكل وقنابل.. وقد أثبتت الحوادث وبخاصة نكبة 5 حزيران 67 ان مشاكلنا نحن العرب والمسلمين لم يكن لها من مصدر الا وجود غير الأكفاء في مركز القوة، وهذا أمر عارض يزول مع الأيام.

3. ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾، الله يعلم، ونحن أيضا نعلم ان اليهود ومن يساندهم أعداء الحق والانسانية، ولم يعد هذا خافيا على أحد بعد أن أصبحت الصهيونية ودولة إسرائيل رمزا للشر العالمي، ولكن الكثير منا لا يعرف المنافقين العملاء، لأنهم يختفون بثوب الأخيار، ويموهون على البسطاء.. ولهؤلاء يوم يظهرون فيه على حقيقتهم، ويتولى الله خزيهم، واستئصال شأفتهم في أيدي المؤمنين والأحرار الطيبين.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/337.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. آيات متعرضة لحال أهل الكتاب، وتفصيل لمظالمهم وخياناتهم في دين الله، وأوضح ما تنطبق على اليهود، وهي ذات سياق واحد متصل، والآية الأخيرة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ الآية، وإن ذكر بعضهم أنها مكية، واستثناها في آيتين من سورة النساء المدنية، وهي هذه الآية، وقوله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ الآية: على ما في المجمع لكن الآية ظاهرة الارتباط بما قبلها من الآيات، وكذا آية الاستفتاء فإنها في الإرث، وقد شرع في المدينة، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ الآية، قد تقدم في الكلام على الآيات أنها مرتبطة بعض الارتباط بهذه الآيات، وقد سمعت القول في نزول تلك الآيات في حق اليهود.

2. بالجملة يلوح من هذه الآيات أن اليهود كانوا يلقون إلى المؤمنين المودة ويظهرون لهم النصح فيفتنونهم بذلك، ويأمرونهم بالبخل والإمساك عن الإنفاق ليمنعوا بذلك سعيهم عن النجاح، وجدهم في التقدم والتعالي، وهذا لازم كون تلك الآيات نازلة في حق اليهود أو في حق من كان يسار اليهود ويصادقهم ثم تنحرف عن الحق بتحريفهم، ويميل إلى حيث يميلونه فيبخل ثم يأمر بالبخل، وهذا هو الذي يستفاد من قوله: ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ إلى آخر الآية.

3. فمعنى الآيتين ـ والله أعلم ـ أن ما نبينه لكم تصديق ما بيناه لكم من حال الممسك عن الإنفاق في سبيل الله بالاختيال والفخر والبخل والرئاء إنك ترى اليهود الذين‏ أوتوا نصيبا من الكتاب أي حظا منه لا جميعه كما يدعون لأنفسهم يشترون الضلالة ويختارونها على الهدى، ويريدون أن تضلوا السبيل فإنهم وإن لقوكم ببشر الوجه، وظهروا لكم في زي الصلاح، واتصلوا بكم اتصال الأولياء الناصرين فذكروا لكم ما ربما استحسنته طباعكم، واستصوبته قلوبكم لكنهم ما يريدون إلا ضلالكم عن السبيل كما اختاروا لأنفسهم الضلالة، والله أعلم منكم بأعدائكم، وهم أعداؤكم فلا يغرنكم ظاهر ما تشاهدون من حالهم فإياكم أن تطيعوا أمرهم أو تصغوا إلى أقوالهم المزوقة وإلقاءاتهم المزخرفة وأنتم تقدرون أنهم أولياؤكم وأنصاركم، فأنتم لا تحتاجون إلى ولايتهم الكاذبة، ونصرتهم المرجوة وكفى بالله وليا، وكفى بالله نصيرا، فأي حاجة مع ولايته ونصرته إلى ولايتهم ونصرتهم.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/363.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ﴾ كلمة تعجب من قصة هؤلاء اليهود ﴿الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا﴾ من التوراة، أي علموا نصيباً منها، أي بعضاً وكان من حقهم أن ينتفعوا بذلك البعض، ويكونوا أبعد عن السعي بالفساد، ولكنهم على العكس من ذلك يستبدلون الضلالة بدل أن يهتدوا بما علموه، ويريدون من المؤمنين أن يضلوا ويغووا عن سبيل الله.

2. ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ ﴿وَاللَّهُ﴾ وليكم وهو ﴿أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ فلن يضركم كيدهم ومحاولتهم لإفسادكم؛ لأن الله كاف لمن تولاه لا يحتاج غيره ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ﴾ [الزمر: 37] لأن الله وليه ومتولي هدايته ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ لأوليائه فلن يضروكم بالقهر وإبطال عزة الإسلام.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/85.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ينطلق القرآن إلى واقع حياة المسلمين في مجتمعهم الذي يعيش فيه غيرهم؛ من اليهود الذين أوتوا الكتاب ـ وهو التوراة ـ، ولكنهم حرّفوه عن معانيه الحقيقية، ووقفوا وجها لوجه أمام النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأتباعه، ليعلنوا عليهم الحرب سرا وجهرا، وكان من بين أساليبهم استعمال التوراة كسلاح ديني، يحاولون من خلاله تضليل المسلمين وخلق أجواء الشك في داخلهم، ليبعدوهم بذلك عن حالة الإيمان والطمأنينة، فيكون ذلك سببا في تهديم القاعدة الداخلية للإسلام في المجتمع الإسلامي.

2. وينطلق القرآن، ليحدد ملامح هؤلاء وليكشف أساليبهم المتلوّنة، وليخلق في داخل الوعي الإسلامي طرق المواجهة الواعية التي تعرف كيف تتعامل مع أعدائها، كما تعرف كيف تتعامل مع أصدقائها فلا يختلط عليها العدو مع الصديق، ولا يشتبه عليها أسلوب التعامل مع الأعداء بأسلوب التعامل مع الأصدقاء، فإن الله يريد للمؤمن أن ينفتح على الحياة من موقع وضوح الرؤية للناس وللأشياء، لأن الإنسان الذي يتعامل مع القضايا بوضوح سيبقى في طريق النور، ولن يضلّ السبيل في أي مجال من المجالات.

3. وهكذا وجَّه الله الخطاب إلى النبي، ليكون هو الذي يفتح عيون الناس على الحقيقة؛ ثم خاطب المسلمين، ليوحي إليهم بأنه يخاطبهم من خلال رسول الله، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لا ينطلق معهم من خلال ذاته، بل من خلال رسالته، التي تحتويهم جميعا.

4. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ فهم لم يحصلوا على الكتاب كله، بل على نصيب منه؛ لم يعيشوا معه في أفكارهم ومشاعرهم، ولم يندمجوا مع خططه ومعانيه الروحية، بل أخذوه بأطراف ألسنتهم، ليستغلوا ذلك في أطماعهم وشهواتهم.

5. ﴿يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ وتلك هي ملامحهم؛ فإنهم لا يسيرون في خط الهدف الباحث عن الحقيقة، ليرتبطوا بها، ولينقلوا خطواتهم مع خطوات الآخرين السائرين في هدى الله، ليزدادوا هدى بهداهم، بل إنهم يسيرون ـ على العكس من ذلك ـ في خطوات الضلال؛ فقد حدّدوا لأنفسهم هذا الاتجاه، انطلاقا من أطماعهم وشهواتهم، وبدأوا يبحثون عن الوسائل التي تمكنهم من الوصول إلى ما يريدون، فاشتروا الضلالة بكل ألوانها ووسائلها وأهدافها، وانحرفوا عن الهدى الذي شاهدوه نصب أعينهم، ولم يقتصروا في ذلك على أنفسهم، بل عملوا على أن يضللوا الآخرين الذين اتبعوا الهدى فكرا وعملا، وهكذا خاطب الله المسلمين وحذّرهم أن ينتبهوا إلى ذلك كله، فيعرفوا ملامحهم ويتعرفوا إلى مقاصدهم في تضليلهم.

6. ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ فلا تنظروا ـ أيها المؤمنون ـ إلى ظواهر أحوالهم فتنخدعوا بها، وذلك لما يحاول هؤلاء أن يصوروه لكم من مظاهر المودّة والمحبة، لتستسلموا إليهم في أساليب خداعهم وتضليلهم، بل انظروا إلى عمق مشاعرهم وتفكيرهم، من خلال ما يظهره الله لكم من أمرهم، ويعرّفكم إياه من حالهم، فإن الله أعلم منكم ببواطن الأشخاص، لأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهو أعلم بأعدائكم، فلا توالوهم ولا تركنوا إليهم، لأن وليكم الله الذي لا وليّ غيره، وناصركم الله الذي لا ناصر أقوى منه، ومن كان الله وليه ونصيره، فإنه يكفيه‏ كل شيء، وينصره على كل شيء، ولا يحوجه إلى أعداء الله لينصروه وليكفوه مما يهمه من أمور الحياة.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/284.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآيات يخاطب الله سبحانه نبيّه الكريم بعبارة حاكية عن التعجب والاستغراب قائلا: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ أي عجيب أمر هؤلاء الذين أتوا نصيبا من الكتاب السماوي، ولكنهم بدل أن يقوموا بهداية الآخرين وإرشادهم في ضوء ما أوتوا من الهدى، فإنّهم يشترون الضلالة لأنفسهم ويريدون أن تضلوا أنتم أيضا، وبهذا الطريق فإنّ ما نزل لهدايتهم وهداية الآخرين تحول إلى وسيلة لضلالهم وإضلال الآخرين بسوء نيّتهم، لأنّهم لم يكونوا أبدا بصدد الحقيقة، بل كانوا ينظرون إلى كل شيء بمنظار النفاق والحسد والمادية السوداء.

2. ثمّ يقول سبحانه: إنّ هؤلاء وإن تظاهروا بمظهر الأصدقاء لكم إلّا أنّهم أعداؤكم الحقيقيون‏ ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾، وأية عداوة أشدّ وأكثر من أن يكرهوا هدايتكم ويخالفوا سعادتكم، تارة باللسان وتارة عن طريق إظهار النصح، وثالثة عن طريق الذم، ويجتهدون في تحقيق أهدافهم المشؤومة في كل ظرف وزمان بنحو خاص، وشكل معين، ولكن لا تخافوا عداوتهم أبدا ولا تستوحشوا لمواقفهم المعادية فلستم وحدكم في الميدان، فكفاكم أنّ الله قائدكم ووليكم وناصركم: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾، لأنّه لا يمكنهم أن يفعلوا شيئا، فإذا تجاهلتم أحاديثهم ووساوسهم لم يبق أي مجال للخوف والقلق.

3. ثمّ إنّه يستفاد من عبارة: ﴿أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ أنّ ما كان عندهم من الكتاب لم يكن كل ما في الكتاب السماوي (التوراة) بل كان بعضه وقسما منه، وهذا يتفق مع حقائق التاريخ المسلمة أيضا، تلك الحقائق التي تؤكد ضياع أو تحريف أقسام من التوراة الحقيقية مع مضي الزمن.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/252.

48. اليهود والتحريف والمعصية

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈48⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 46]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾، يعني: يحرفون حدود الله في التوراة(1).

2. روي أنّه قال: كانت اليهود يأتون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويسألونه عن الأمر، فيخبرهم، فيرى أنهم يأخذون بقوله، فإذا انصرفوا من عنده حرفوا كلامه(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾، قال يقولون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: اسمع، لا سمعت(3).

4. روي أنّه قال: وفي قوله: ﴿وَرَاعِنَا﴾، قال كانوا يقولون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: راعنا سمعك، وإنما (راعنا) كقولك: عاطنا(3).

5. روي أنّه قال: وفي قوله: ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾، قال تحريفا بالكذب(3).

6. روي أنّه قال: كلم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رؤساء من أحبار يهود، منهم عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد، فقال لهم: (يا معشر يهود، اتقوا الله، وأسلموا، فوالله، إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق)، فقالوا: ما نعرف ذلك، يا محمد، فأنزل الله فيهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا﴾ الآية(4).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٦٥.

(2) تفسير الثعلبي ٣/٣٢٣.

(3) ابن جرير ١/٣٧٦.

(4) البيهقي في دلائل النبوة ٢/٥٣٤، وابن جرير ٧/١١٨.

النخعي:

روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنّه قال: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾، قال كان ينزل عليهم: يا بني رسلي، يا بني أحباري، قال فحرفوه، وجعلوه: يا بني أبكاري(1).

__________

(1) ابن المنذر ٢/٧٣١.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ كان الرجل من المشركين يقول: أرعني سمعك، يلوي بذلك لسانه، يعني: يحرف معناه(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٠٧.

الشعبي:

روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾، ليُّهم تحريفهم إياه عن مواضعه (1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٦٧.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾، تبديل اليهود التوراة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾، قالوا: سمعنا ما تقول، ولا نطعيك(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾، غير مقبول ما تقول(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَرَاعِنَا﴾ خلافا لقولك، يا محمد(4).

5. روي أنّه قال: ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾، خلافا يلوون به ألسنتهم(5).

6. روي أنّه قال: ﴿وَانْظُرْنَا﴾، أفهمنا، بين لنا(4).

7. روي أنّه قال: ﴿وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا﴾، يقولون: أفهمنا، لا تعجل علينا، سوف نتبعك، إن شاء الله(6).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٠٣.

(2) ابن جرير ٧/١٠٤، وابن المنذر ٢/٧٣٢.

(3) ابن جرير ٧/١٠٥.

(4) تفسير مجاهد ص ٢٨٣.

(5) ابن المنذر ٢/٧٣١.

(6) ابن أبي حاتم ٣/٩٦٨.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت ـ وكان من عظماء اليهود ـ إذا كلم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لوى لسانه، وقال: أرعنا سمعك، يا محمد؛ حتى نفهمك، ثم طعن في الإسلام، وعابه؛ فأنزل الله تعالى فيهم: ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَانْظُرْنَا﴾، اسمع منا(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٦٧.

(2) ابن جرير ٧/١٠٩.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ حرفوا كلام الله، وهو الذي وضعوا من قبل أنفسهم من الكتاب، ثم ادعوا أنه من كتاب الله(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾، غير مسمع منا ما تحب(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ كما تقول: اسمع غير مسموع منك(2).

4. روي أنّه قال: ﴿وَرَاعِنَا﴾ الراعن من القول: السخري منه(3).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين ١/٣٧٧.

(2) عبد الرزاق ١/١٦٣.

(3) ابن أبي حاتم ٣/٩٦٦.

عطاء:

روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) أنّه قال: ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾، يلوي بذلك لسانه، ويطعن في الدين(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٦٧.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كانت اليهود يقولون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: راعنا سمعك، يستهزئون بذلك، فكانت اليهود قبيحة، فقال الله ـ جل ثناؤه ـ: ﴿رَاعِنَا﴾ سمعك؛ ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ واللي: تحريكهم ألسنتهم بذلك، ﴿وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، لا يؤمنون هم إلا قليلا(2).

__________

(1) عبد الرزاق ١/١٦٣، وابن جرير ٧/١٠٧.

(2) عبد الرزاق ١/١٦٤، وابن جرير ٧/١١١.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾ معناه يقلّبون ويغيّرون الكلم والكلم جماعة كلمة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ معناه سمعنا قولك، وعصينا أمرك.. ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ معناه غير مقبول(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 120.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع، كقولك: اسمع غير صاغر(1).

2. روي أنّه قال: في قوله: ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ بالكلام، شبه الاستهزاء، ﴿وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ في دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٠٦، وابن المنذر ٢/٧٣٣.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم(1).

__________

(1) عبد الرزاق ١/١٦٤، وابن المنذر ٢/٧٣٧.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾، سمعنا للقرآن الذي جاء من الله، ﴿وَأَطَعْنَا﴾ أقروا لله أن يطيعوه في أمره ونهيه(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٦٧.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ يعني: اليهود ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ يعني بالتحريف: نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾: عن بيانه في التوراة، ليا بألسنتهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَيَقُولُونَ﴾ للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿سَمِعْنَا﴾ قولك، ﴿وَعَصَيْنَا﴾ أمرك، فلا نطيعك(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَأَسْمِعْ﴾ منا يا محمد نحدثك، ﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ منك قولك، يا محمد؛ غير مقبول ما تقول(1).

4. روي أنّه قال: ﴿وَرَاعِنَا﴾، يعني: أرعنا سمعك(1).

5. روي أنّه قال: ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾، يعني: دين الإسلام، يقولون: إن دين محمد ليس بشيء، ولكن الذي نحن عليه هو الدين(1).

6. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا﴾ قولك، ﴿وَأَطَعْنَا﴾ أمرك، ﴿وَأَسْمِعْ﴾ منا، ﴿وَانْظُرْنَا﴾ حتى نحدثك، يا محمد؛ ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ من التحريف، والطعن في الدين، ومن: راعنا، ﴿وَأَقْوَمُ﴾ يعني: وأصوب من قولهم الذي قالوا(2).

7. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، والقليل الذي آمنوا به، إذ يعلمون أن الله ربهم، وهو خالقهم، ورازقهم، ويكفرون بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبما جاء به(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٧٦.

(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٧٧.

ابن إسحاق:

روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ﴿وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾، أي: أرعنا سمعك(1).

__________

(1) ابن المنذر ٢/٧٣٤.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾، لا يضعونه على ما أنزله الله(1).

2. روي أنّه قال: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾، قالوا: سمعنا، ونحن لا نطيعك(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾، هذا قول أهل الكتاب؛ يهود ـ كهيئة ما تقول للإنسان: اسمع لا سمعت ـ أذى لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وشتما له، واستهزاء به(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾، (راعنا) طعنهم في الدين، وليهم بألسنتهم ليبطلوه ويكذبوه، قال والراعن: الخطأ من الكلام(4).

5. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ﴾، يقولون: اسمع منا، فإنا قد سمعنا وأطعنا، ﴿وَانْظُرْنَا﴾ فلا تعجل علينا(4).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٦٥.

(2) ابن جرير ٧/١٠٤.

(3) ابن جرير ٧/١٠٥.

(4) ابن جرير ٧/١٠٨.

الكاظم:

روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنّه قال: كانت هذه اللفظة: (راعنا) من ألفاظ المسلمين الذين يخاطبون بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يقولون: (راعنا) أي ارع أحوالنا، واسمع منا كما نسمع منك، وكان في لغة اليهود معناه: اسمع لا سمعت، فلما سمع اليهود المسلمين يخاطبون بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (راعنا)، ويخاطبون بها، قالوا: كنا نشتم محمدا إلى الآن سرا، فتعالوا الآن نشتمه جهرا، وكانوا يخاطبون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويقولون: (راعنا) يريدون شتمه، ففطن لهم سعد بن معاذ الأنصارى، فقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله، أراكم تريدون سب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جهرا توهمونا أنكم تجرون في مخاطبته مجرانا، والله لا أسمعها من أحد منكم إلا ضربت عنقه، ولولا أني أكره أن أقدم عليكم قبل التقدم والاستئذان له ولأخيه ووصيه الإمام علي القيم بأمور الامة نائبا عنه فيها، لضربت عنق من قد سمعته منكم يقول هذا، فأنزل الله: يا محمد ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ وأنزل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا﴾ فإنها لفظة يتوصل بها أعداؤكم من اليهود إلى سب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وسبكم وشتمكم ﴿وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ أي سمعنا وأطعنا، قولوا بهذه اللفظة، لا بلفظة راعنا، فإنه ليس فيها ما في قولكم: راعنا، ولا يمكنهم أن يتوصلوا إلى الشتم كما يمكنهم بقولهم راعنا ﴿وَاسْمَعُوا﴾ ما قال لكم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قولا وأطيعوه ﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾ يعني اليهود الشاتمين لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وجيع في الدنيا إن عادوا لشتمهم، وفي الآخرة بالخلود في النار(1).

__________

(1) تفسير القمّي 1/140.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي: في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سؤال وإشكال: سألت عن قوله تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾، فقلت: كيف يحرفون الكلم عن مواضعه، وما معنى تحريفهم له؟ والجواب: هل يكون ـ يرحمك الله ـ تحريف هو أشد من تحريفهم لما أنزل الله في التوراة، من ذكر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما كان فيها من صفته، والأمر بطاعته، والدلالة عليه؛ فحرفوا كلام الله فيه وبدلوه، وغيروه وكتموه؛ فهذا أشد تحريف، وأوضح ما يعرف من الحيف.. ومن التحريف أيضا: الكذب على المؤمنين، وتغيير كلامهم، وإدخال الفساد في ذلك بالظلم لهم.

2. ومن التحريف: ألا يسمعوا شيئا من ذكر الله سبحانه، ولا من كلام نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا حرفوه وخرجوه على غير معناه، وأوهموا الناس فيه غير ما أنزله؛ لأن اليهود أشرار الخلق، وأعداهم لله ولرسوله، وأقساهم قلوبا، وأشدهم كفرا وحقدا على المؤمنين؛ لا تخشع قلوبهم لذكر الله، إلا اليسير من الكثير؛ وذلك قول الله سبحانه: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [المائدة: 82]

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/228.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله عزّ وجل: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾، وفي حرف ابن‏ مسعود: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾، ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ على الاستئناف، والابتداء خبر، وفي حرف غيره: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ ـ معناه والله أعلم: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا، لا ذكر للنصارى في ذلك، وفي حرف ابن مسعود ذكر النصارى في الذين أوتوا نصيبا، وفي حرف حفصة: (من الذين هادوا من يحرف الكلم عن مواضعه)

2. ثم تحريف الكلم يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: تغيير المعاني وتبديل التأويل على جهالهم؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ﴾ الآية [آل عمران: 78]

ب. ويحتمل: تغيير اللفظ والكتابة نفسها؛ كقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 79]

3. قوله عزّ وجل: ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ قيل: سمعنا قولك، وعصينا أمرك.

4. قوله عزّ وجل: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾:‏

أ. قيل: اسمع قولنا غير مسمع، أي: غير مجيب.

ب. وقيل: اسمع قولنا غير مسمع لا سمعت؛ على السب.

ج. وقيل في قوله تعالى: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ أي: اسمع يا محمد منا قولنا غير مسمع منك قولك، ولا مقبول ما تقول‏.

5. قوله: ﴿وعَصَيْنا﴾ الإسرار به منهم أظهره الله تعالى عليهم؛ ليكون آية للرسالة.

6. قوله عزّ وجل: ﴿وَرَاعِنَا﴾:

أ. قيل: يقولون لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: راعنا سمعك.

ب. وقيل: ﴿وَرَاعِنَا﴾: أرعنا حقوقنا؛ وهو من الرعاية.

7. قوله عزّ وجل: ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ أي: تحريفا، والتحريف ما ذكرنا؛ كقوله تعالى: ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾ الآية [آل عمران: 78]

8. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ أي: لو قالوا: سمعنا قولك، وأطعنا أمرك، وانظرنا فلا تعجل علينا ننظر.

9. وقيل في قوله: ﴿وَانْظُرْنَا﴾: أفهمنا.

10. قوله عزّ وجل: ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ مما قالوا: سمعنا قولك وعصينا أمرك، لكان خيرا لهم في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا: فدوام الرئاسة التي خافوا فوتها لو أطاعوه واتبعوه؛ إذ قد من: أعدل وأصوب لما ذكرنا.

11. ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ واللعن: هو الطرد، طردهم الله عزّ وجل من رحمته ودينه، لما علم منهم أنهم لا يؤمنون باختيارهم الكفر.

12. قوله عزّ وجل: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾:

أ. قيل: والقليل من أسلم؛ من نحو ابن سلام وأصحابه وغيرهم‏.

ب. وقيل: قوله تعالى: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ منهم، أو لا يؤمنون إلا بالقليل من‏ الكتب والأنبياء، عليهم السلام‏؛ كقوله تعالى: ﴿نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ [النساء: 150]

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/198.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾، يريد عز وجل أنهم عليهم لعنة الله يحرفون الكلام عن معانيه، ويصرفونه على غير ما يلفظون به وفيه، فيقولون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سمعنا واعتقاهم عصينا، ويقولون له اسمع واعتقادهم لا سمعت، ويقولون راعنا واعتقادهم فيما روي راعناً بالتنوين من الرعونة التي هي الحمق والسفه، وهم عليهم لعنة الله أحق بالحمق والسفه والجهل، والخبث وضعف التدبير والعقل.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/243.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ أي اسمع لا سمعت أو اسمع غير مقبول منك ﴿وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ قيل إن هذه الكلمة كانت سبباً في لعنهم فأطلع الله نبيه عليها فنهاهم عنها فكانت تجري الهزاء والكبر.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/180.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ قولان:

أ. أحدهما: معناه: اسمع لا سمعت، وهو قول ابن عباس، وابن زيد.

ب. الثاني: أنه غير مقبول منك، وهو قول الحسن، ومجاهد.

2. في قوله تعالى: ﴿وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أن هذه الكلمة كانت سبّا في لغتهم، فأطلع الله نبيّه عليها فنهاهم عنها.

ب. الثاني: أنها كانت تجري مجرى الهزء.

ج. الثالث: أنها كانت تخرج مخرج الكبر.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/494.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قيل في معنى قوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: قال الفراء، والزجاج، والرماني: ان يكون تبيينا للذين‏ ﴿أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ ويكون العامل فيه (أوتوا) وهو في صلة الذين، ويجوز ألا يكون في الصلة، كما تقول: انظر إلى النفر من قومك ما صنعوا.

ب. الثاني: أن يكون على الاستئناف، والتقدير: (من الذين هادوا) فريق (يحرفون الكلم) كما قال ذو الرمة:

çفضلوا ومنهم دمعه سابق له‏...وآخر يثني دمعة العين بالمهل‏é

وأنشد سيبويه:

çوما الدهر إلا تارتان فمنهما...أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح‏é

وقال آخر:

çلو قلت ما في قومها لم تيثم‏...يفضلها في حسب وميسم‏é

أي أحد يفضلها وقال النابغة:

çكأنك من جمال بني أقيش‏...يقعقع خلف رجليه بشن‏é

يريد كأنك جمل من جمال بني أقيش، قال الفراء: المحذوف (من) والتقدير: من الذين هادوا من يحرفون الكلم كما يقولون: منا يقول ذاك ومنا لا يقوله، قال والعرب تضمر (من) في مبتدأ الكلام بمن، لأن من بعض لما هي منه، كما قال: ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ وقال: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ وأنشد بيت ذي الرمة الذي قدمناه، قال ولا يجوز إضمار (من) في شيء من الصفات على هذا المعنى إلا في من لما قلناه، وضعف البيت الذي أنشدناه: (لو قلت ما في قومها لم تيثم) وهي لغة هوازن، وتأثم رواية أخرى، وقال: انما جاز (في) لأنك تجد (في) تضارع معنى (من) لأنه بعض ما أضيف، لأنك تقول: فينا الصالحون وفينادون ذلك، كأنك قلت: منا، ولا يجوز: في الدار يقول ذلك، وتريد: من يقول ذاك، لأنه إنما يجوز إذا أضفت (في) إلى جنس المتروك، وقال أبو العباس، والزجاج ما قاله الفراء لا يجوز، لأن (من) تحتاج إلى صلة أو صفة تقوم مقام الصلة، فلا يحسن حذف الموصول مع بقاء الصلة، كما لا يحسن حذف بعض الكلمة، وإنما قال: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ لأنه ليس جميع اليهود حرفوا، وإنما حرف أحبارهم وعلماؤهم.

2. ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ يعني يغيرونها عن تأويلها، والكلم جمع كلمة، وقال مجاهد: يعني بالكلم التوراة.

3. ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ يعني اليهود يقولون: سمعناه قولك يا محمد، ويقولون سراً عصينا.

4. ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ اخبار من الله تعالى عن اليهود الذين كانوا حوالي المدينة في عصره، لأنهم كانوا يسبون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويؤذونه بالقبيح من القول، ويقولون له: اسمع منا غير مسمع، كما يقول القائل لغيره إذا سبه بالقبيح: اسمع لا أسمعك الله، ذكره ابن عباس، وابن زيد، وقال مجاهد، والحسن: ان تأويل ذلك اسمع غير مقبول منك، أي غير مجاب.

5. في قوله تعالى: ﴿وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أن هذه اللفظة كانت سباً في لغتهم، فأعلم الله نبيه ذلك ونهاهم عنها،

ب. الثاني: انها كانت تجري منهم على وجه الاستهزاء والسخرية.

ج. الثالث: انها كانت تجري منهم على حد الكبر، كما يقول القائل: انصت لكلامنا، وتفهم عنا، وإنما راعنا من المراعاة التي هي المراقبة.

6. ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ يعني تحريكا منهم ألسنتهم بتحريف منهم لمعناه إلى المكروه، وأصل اللي الفتل، تقول: لويت العود ألويه لياً، ولويت الغريم إذا مطلته، واللوى من الرمل ـ مقصور ـ مسترقه، ولواء الجيش ممدود، واللوية ما تتحف به المرأة ضيفها لتولي بقبله إليها، وألوى بهم الدهر إذا أفناهم، ولوي البقل إذا اصفر ولم يستحكم يبسه.

7. اللسان آلة الكلام، واللسان اللغة، ومنه قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ ولسن فلان فلاناً بلسنه إذا أخذه بلسانه، ورجل لسن: بين اللسن، ولسان الميزان، ولسان القوم: متكلمهم، وشيء ملسن إذا كان طرفه كطرف اللسان، وقوله: ﴿وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ فالأصل الطعن بالرمح ونحوه، والطعن باللسان كالطعن بالرمح، ومنه تطاعنوا في الحرب، وأطعنوا مطاعنة وطعناناً، وطعن يطعن ويطعن طعناً.

8. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا﴾ يعني هؤلاء اليهود ﴿سَمِعْنَا﴾ يا محمد قولك‏ ﴿وَأَطَعْنَا﴾ أمرك، وقبلنا ما جئنا به‏ ﴿وَأَسْمِعْ﴾ منا ﴿وَانْظُرْنَا﴾ بمعنى انتظرنا نفسهم عنك ما تقول لنا ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ﴾ يعني أعدل وأصوب في القول، مأخوذاً من الاستقامة، ومنه قوله: ﴿وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ بمعنى وأصوب.

9. ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ يعني أبعدهم الله من ثوابه.

10. ثم أخبر تعالى، فقال: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ في المستقبل‏ ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ منهم فإنهم آمنوا، وقال البلخي: معناه لا يؤمنون إلا ايماناً قليلا كما قال الشاعر:

çفألفيته غير مستعتب‏...ولا ذاكر الله إلا قليلاé

يريد إلا ذكراً قليلا، وسقط التنوين من ذاكر لاجتماع الساكنين، وقال أبو روق: إلا قليلا ايمانهم قولهم: الله خالقنا ورازقنا، وليس لعن الله لهم بمانع لهم من الايمان، وقدرتهم عليه، لأنه إنما لعنهم الله لما كفروا فاستحقوا ذلك، ولو تركوا الكفر وآمنوا، لزال عنهم استحقاق اللعن‏.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/212.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. التحريف والتبديل والتغيير نظائر، والتحريف قد يكون في اللفظ وقد يكون في المعنى.

ب. اللَّيُّ: الفَتْلُ، لويت العود ليًا، ولويت الغريم: مطلته؛ لفتله عن حقه، وأصله لَوْيٌ؛ لأنه من لَوَيتُ قلبت الواو ياء لأن ما بعدها ياء، وأدغم الياء في الياء.

ج. الطعن بالرمح، ومنه طعن اللسان، ويقال: تطاعنوا في الحرب، وفلان يطعن في فلان مأخوذ منه.

2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة: عن ابن عباس نزلت في ناس من اليهود كانوا يأتون النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم فيخبرهم، ويرى أنهم يأخذون بقوله، فإذا انصرفوا حرفوا كلامه.

3. بين الله تعالى تعالى في هذه الآية الكريمة صفة من تقدم ذكرهم فقال سبحانه ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ أي مَن تقدم ذكرهم بأنهم اشتروا الضلالة من اليهود على الاستئناف: أي: من اليهود فرقة وطائفة ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾ يبدلون التوراة عن معانيها، وتحريفهم:

أ. قيل: ما أزالوه عن جهته وكتموه من تنزيله عداوة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وحسدًا له.. وهو جائز؛ لأنهم طائفة قليلون يجوز عليهم التواطؤ فيغيرون التنزيل.

ب. وقيل: يحرفون بسوء التأويل والتقديم والتأخير عن أبي علي وجماعة.

4. ﴿وَيَقُولُونَ﴾ يعني هَؤُلَاءِ اليهود يقولون للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عند تلاوة كتاب الله وبيان شرائع الإسلام ﴿سَمِعْنَا﴾ قولك ﴿وَعَصَيْنَا﴾ أمرك، وهذا:

أ. يحتمل أنهم قالوا ذلك عند غيبتهم عنه.

ب. ويحتمل أنهم قالوا بحضرته معتمدين على احتمال كلامهم معنيين، فيقصدون الاستخفاف ولا يظهرون.

ج. ويحتمل أنهم قالوا في وقت أمن من سطوة المؤمنين، فإن الأحوال كانت تختلف.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾:

أ. قيل: اسمع غير مسمع منك.

ب. وقيل: اسمع غير مجاب لك ولا مقبول منك عن الحسن ومجاهد كأنه قيل: غير مسمع إجابتك، أو غير مجاب إلى ما تدعونا إليه.

ج. وقيل: هو دعاء كقولهم: اسمع لا سَمِعْتَ عن ابن عباسٍ وابن زيد، وأرادوا الدعاء عليه بالصمم عن أبي مسلم وأبي علي.

د. وقيل: كانوا يقصدون الاستخفاف، ثم يقولون لعوامهم: لو كان نبيًا لكان يُعْلِمُهُ الله بما نقول، وإذا سمعه المسلمون قالوا: نريد غير مُسْمَع بمكروه وأذى.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَرَاعِنَا﴾:

أ. قيل: كانت هذه اللفظة سبًّا في لعنهم فأطلع الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم على ذلك، ونهاهم عن إطلاقه.

ب. وقيل: كان يجري منهم على حد الهُزْءِ والسخرية.

ج. وقيل: كانوا يقولون ذلك على حد التكبر، كما يقال: أنصت لكلامنا وتفهم عنا.

د. وقيل: كانوا يريدون بذلك راعنا، يعني يرعى مواشينا استخفافًا عن أبي علي والقاضي.

7. ﴿لَيًّا﴾، يعني يلوون ألسنتهم بذلك الكلام استخفافًا وهزءًا ﴿وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾:

أ. قيل: أي قَدْحًا في الإسلام.

ب. وقيل: قد جادلوا في نبوتك بقولهم: لو كان نبيًّا لعرف مرادنا.

8. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ﴾ يعني هَؤُلَاءِ اليهود ﴿قَالُوا﴾ للرسول ﴿سَمِعْنَا﴾ كلامك ﴿وَأَطَعْنَا﴾ أمرك ﴿وَأَسْمِعْ﴾ قولنا ﴿وَانْظُرْنَا﴾:

أ. قيل: انظر إلينا عن أبي مسلم.

ب. وقيل: انتظرنا نفهم عنك عن الأصم.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾:

أ. قيل: أي لو قالوا هذا بدل ما قالوا لكان خيرًا، يعني أنفع عاجلاً وآجلاً ﴿وَأَقْوَمُ﴾ أي أعدل وأصوب في الكلام من الكفر والطعن في الدين.

ب. وقيل: لكان خيرًا لهم في كتمان أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ج. وقيل: كان خيرًا لهم مما عابوا به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ﴾:

أ. قيل: أخزاهم الله.

ب. وقيل: حكم ببعدهم عن الجنة.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾:

أ. قيل: أي ذلك الخزي واللعن بسبب كفرهم.

ب. وقيل: لعنهم الله بكفرهم أي خذلهم الله لكفرهم، أن لم يكن لهم لطف من الله ولا معونة.

12. ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ إخبار عن أحوالهم في المستقبل أنهم لا يصدِّقون ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾:

أ. قيل: لا يؤمن منهم بك إلا القليل عن أبي علي وأبي مسلم.

ب. وقيل: هو عبد الله بن سلام ونحوه.

ج. وقيل: لا يصدقون بكتابهم إلا بالقليل منه.

د. وقيل: لا يؤمنون إلا إيمانًا قليلاً، وهو إيمانهم بأن الله خالقهم ورازقهم، وإيمانهم بموسى والتوراة.

13. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن مِنْ اليهود مَنْ حَرَّفَ، والظاهر تحريف اللفظ، لكن الأكثر من شيوخنا حملوه على تحريف التأويل؛ لامتناع التواطؤ في التحريف وامتناع التحريف على ما تواتر نقله، كما يمتنع في القرآن إلا أن في هذا نظرا، فإن كان نقل التوراة كنقل القرآن فكلامهم ظاهر، فلا بد من حمله على ما قالوا، وإن لم يكن كذلك فغير ممتنع أن يقع منهم التحريف، وأبو علي حمله على أنهم حرفوا على عوامهم بسوء التأويل.

ب. أن كل لفظ يوهم معنى فاسدًا فإنه لا يجوز إطلاقه، وإن كان يحتمل معنى صحيحًا أيضًا.

ج. معجزة لنبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث أخبر عن سرائرهم، ولا شك أن الله أطلعه عليه.

د. لعن اليهود وأنهم استحقوا ذلك بكفرهم، فتدل على جزاء الأعمال خلاف قول الْمُجْبِرَةِ.

14. قراءة العامة ﴿الْكَلِمُ﴾ وعن علي الكلام) فالأول على جميع ما حرفوه، والثاني على صفته، وأنه الرجم، والكلم جماعة الكلمة.

15. مسائل لغوية ونحوية:

أ. في معنى ﴿مِنَ﴾ ههنا، وبأي شيء يتصل قولان:

أحدهما: أن يتصل بـ ﴿الَّذِينَ﴾، ويكون بيانًا له عن أبي مسلم، ويكون العامل فيه ﴿أُوتُوا﴾ وهو في صلة ﴿الَّذِينَ﴾، وتقديره: ألم تر إلى الَّذِينَ أوتوا نصيبًا من الكتاب من الَّذِينَ هادوا، ويجوز ألا يكون في الصلة كما تقول: انظر إلى النفر من قومك ما صنعوا.

الثاني: أن يكون على الاستئناف عن الأصم وجماعة، وتقديره: الَّذِينَ هادوا قوم يحرفون، وهو قول الزجاج، وقيل: فيه محذوف تقديره: من الَّذِينَ هادوا مَن يحرفون فحذف ﴿مِنَ﴾ عن الفراء، وأنكر أبو العباس والزجاج ذلك؛ لأن ﴿مِنَ﴾ يحتاج إلى صلة، أو صفة تقوم مقام الصلة فلا يحسن ذلك كما لا يحسن حذف بعض الكلمة.

ب. ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ﴾ نصبت ﴿غَيْرُ﴾ على الحال، ومعناه: اسمع لا سمعت.

ج. ﴿وَرَاعِنَا﴾ من نَوَّنَها جعل كلمة الأمر موضعه كقولك رويدًا وهنيئًا مريئًا، ومن لم ينون جعلها عن المراعاة كقوله: قاضِنَا، إذا أَمَرْتَ من المقاضاة.

د. ﴿لَيًّا﴾ نصب على المصدر تقديره: يلوون ألسنتهم ليًا.

هـ. ﴿وَطَعْنًا﴾ نصب على المصدر، أي يطعنون في الدين طعنًا.

و. ﴿خَيْرًا﴾ نصب لأنه خبر ﴿كَانَ﴾ تقديره: لكان ذلك القول خيرًا لهم وأَقْوَمَ.

ز. ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ تقديره: لا يؤمنون قليلاً، فهو مفعول به إلا أن ﴿إِلَّا﴾ دخلت فينتفي الإيمان إلا قليلاً.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/648

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. أصل اللي: الفتل، يقال: لويت العود، ألويه، ليا، ولويت الغريم: إذا مطلته، واللوية: ما تتحف به المرأة ضيفها، لتلوي بقلبه إليها، وألوى بهم الدهر: إذا أفناهم، ولوى البقل: إذا اصفر ولم يستحكم يبسه.

ب. الألسنة: جمع اللسان، وهو آلة الكلام، واللسان: اللغة، ومنه قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ وتقول: لسنته ألسنه: إذا أخذته بلسانك، قال طرفة:

çوإذا تلسنني ألسنها...إنني لست بموهون فقرé

وأصل الطعن بالرمح، ونحوه، الطعن باللسان.

2. بين الله تعالى صفة من تقدم ذكرهم، فقال: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ أي ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، من اليهود، فيكون قوله: ﴿يُحَرِّفُونَ﴾ الكلم في موضع الحال، وإن جعلته كلاما مستأنفا، فمعناه: من اليهود فريق.

3. ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ أي يبدلون كلمات الله وأحكامه عن مواضعها، وقال مجاهد: يعني بالكلم التوراة، وذلك أنهم كتموا ما في التوراة من صفة النبي.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾:

أ. قيل: معناه: يقولون مكانه بألسنتهم: سمعنا، وفي قلوبهم: عصينا.

ب. وقيل: معناه سمعنا قولك، وعصينا أمرك.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾:

أ. قيل: أي ويقول هؤلاء اليهود للنبي: إسمع منا غير مسمع، كما يقول القائل لغيره إذا سبه بالقبيح: اسمع لا أسمعك الله، عن ابن عباس، وابن زيد.

ب. وقيل: بل تأويله: إسمع غير مجاب لك، ولا مقبول منك، عن الحسن، ومجاهد.

6. هذا كله إخبار من الله عن اليهود الذين كانوا حوالي المدينة في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنهم كانوا يسبونه ويؤذونه بالسئ من القول.

7. ﴿وَرَاعِنَا﴾ قد ذكرنا معناه في سورة البقرة، وقيل: إنه كان سبا للنبي تواضعوا عليه، ويقال: كانوا يقولونه استهزاء وسخرية: ويقال: إنهم كانوا يقولونه على وجه التجبر، كما يقول القائل لغيره، انصت لكلامنا، وتفهم عنا، وإنما يكون هو من المراعاة التي هي المراقبة.

8. ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ أي تحريكا منهم لألسنتهم، بتحريف منهم لمعناه إلى المكروه، ﴿وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ أي وقيعة فيه، ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا﴾ قولك، ﴿وَأَطَعْنَا﴾ أمرك، وقبلنا ما جئتنا به، ﴿وَأَسْمِعْ﴾ منا، ﴿وَانْظُرْنَا﴾ أي انتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا، ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ يعني: أنفع لهم عاجلا وآجلا، ﴿وَأَقْوَمُ﴾ أي أعدل وأصوب في الكلام، من الطعن والكفر، في الدين، ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ أي طردهم عن ثوابه ورحمته، لسبب كفرهم.

9. ثم أخبر الله عنهم فقال: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ في المستقبل ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾:

أ. قيل: منهم، فخرج مخبره على وفق خبره، فلم يؤمن منهم إلا عبد الله بن سلام، وأصحابه، وهم نفر قليل.

ب. ويقال: معناه لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا: أي ضعيفا، لا إخلاص فيه، ولكنهم عصموا دماءهم وأموالهم به.

ج. ويجوز أن يكون المعنى: فلا يؤمنون إلا بقليل مما يجب الايمان به.

10. مسائل لغوية ونحوية:

أ. قيل في ﴿مِنَ﴾ ههنا واتصاله وجهان:

أحدهما: إنه تبيين لـ ﴿الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾، فيكون العامل، فيه ﴿أُوتُوا﴾، وهو في صلة ﴿الَّذِينَ﴾، ويجوز أن لا يكون في الصلة كما تقول: أنظر إلى النفر من قومك ما صنعوا.

الثاني: أن يكون على الاستئناف، والتقدير: من الذين هادوا فريق يحرفون الكلم، فألقي الموصوف لدلالة الصفة عليه، كما قال ذو الرمة:

çفظلوا ومنهم دمعه سابق له...وآخر يثني دمعة العين بالمهلé

وأنشد سيبويه:

çوما الدهر إلا تارتان فمنهما...أموت وأخرى أبتغي العيش أكدحé

وقال الفراء: المحذوف من الموصولة، والتقدير من الذين هادوا، من يحرفون الكلم، كما يقولون منا يقول ذلك، ومنا لا يقوله، قال: والعرب تضمر من في مبتدأ الكلام بـ ﴿مِنَ﴾، لان من بعض لما هي منه كما قال تعالى: ﴿وما منا إلا له مقام معلوم وإن منكم إلا واردها﴾، وأنكر المبرد والزجاج هذا القول، قالا: لان من يحتاج إلى صلة، أو صفة تقوم مقام الصلة، فلا يحسن حذف الموصول مع بقاء الصلة، كما لا يحسن حذف بعض الكلمة.

ب. ﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ نصب على الحال.

ج. ﴿وَرَاعِنَا﴾ من نونها جعلها كلمة الامر، كقولك رويدا وهنيئا، ومن لم ينون جعلها من المراعاة كما تقول قاضنا.

د. ﴿لَيًّا﴾ مصدر وضع موضع الحال، وكذلك قوله: ﴿وَطَعْنًا﴾، وتقديره يلوون ألسنتهم ليا، ويطعنون في الدين طعنا، إلا قليلا، تقديره يؤمنون، وهم قليل، فيكون ﴿قَلِيلًا﴾ منتصبا على الحال، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف تقديره إيمانا قليلا، كما قال الشاعر:

çفألفيته غير مستعتب...ولا ذاكر الله إلا قليلاé

يريد إلا ذكرا قليلا، وسقط التنوين من ذاكر، لاجتماع الساكنين.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/85.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ قال مقاتل: نزلت في رفاعة بن زيد، ومالك ابن الضّيف، وكعب بن أسيد، وكلّهم يهود، وفي (من) قولان، ذكرهما الزجّاج:

أ. أحدهما: أنها من صلة الذين أوتوا الكتاب، فيكون المعنى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا.

ب. الثاني: أنها مستأنفة، فالمعنى: من الذين هادوا قوم يحرّفون، فيكون قوله: يحرّفون، صفة، ويكون الموصوف محذوفا، وأنشد سيبويه:

çوما الدّهر إلّا تارتان فمنهما... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح‏é

والمعنى: فمنهما تارة أموت فيها، قال أبو عليّ الفارسيّ: والمعنى: وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا، أي: إنّ الله ينصر عليهم.

2. (التّحريف)، هو التّغيير، و﴿الْكَلِمُ﴾ جمع كلمة، وقيل: إن (الكلام) مأخوذ من (الكلم)، وهو الجرح الذي يشقّ الجلد واللحم، فسمّي الكلام كلاما، لأنه يشقّ الأسماع بوصوله إليها، وقيل: بل لتشقيقه المعاني المطلوبة في أنواع الخطاب.

3. في معنى تحريفهم الكلم قولان:

أ. أحدهما: أنهم كانوا يسألون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الشيء، فإذا خرجوا، حرّفوا كلامه، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: أنه تبديلهم التّوراة، قاله مجاهد.

4. ﴿عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾، أي: عن أماكنه ووجوهه، ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ قال مجاهد: سمعنا قولك، وعصينا أمرك.

5. في قوله تعالى: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنّ معناه: اسمع لا سمعت، قاله ابن عباس، وابن زيد، وابن قتيبة.

ب. الثاني: أنّ معناه: اسمع غير مقبول ما تقول، قاله الحسن، ومجاهد.

6. ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ قال قتادة: (الليّ): تحريك ألسنتهم بذلك، وقال ابن قتيبة معنى (ليّا بألسنتهم): أنهم يحرّفون (راعنا) عن طريق المراعاة، والانتظار إلى السّبّ والرّعونة، قال ابن عباس: ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ ممّا بدّلوا ﴿وَأَقْوَمُ﴾ أي أعدل‏ ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ بمحمّد.

7. في قوله تعالى: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ قولان:

أ. أحدهما: فلا يؤمن منهم إلا قليل، وهم عبد الله بن سلّام، ومن تبعه، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، قاله قتادة، والزجّاج، قال مقاتل: وهو اعتقادهم أن الله خلقهم ورزقهم.

__________

(1) زاد المسير: 1/416.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما حكى الله تعالى عنهم أنهم يشترون الضلالة شرح كيفية تلك الضلالة وهي أمور:

أ. أحدها: أنهم كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه.

ب. النوع الثاني: من ضلالاتهم: ما ذكره الله تعالى بقوله: ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ وفيه وجهان:

الأول: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا أمرهم بشيء قالوا في الظاهر: سمعنا، وقالوا في أنفسهم: وعصينا.

الثاني: أنهم كانوا يظهرون قولهم: سمعنا وعصينا، إظهارا للمخالفة، واستحقارا للأمر.

ج. النوع الثالث: من ضلالتهم قوله: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾، وهذه الكلمة ذو وجهين يحتمل المدح والتعظيم، ويحتمل الاهانة والشتم، أما أنه يحتمل المدح فهو أن يكون المراد اسمع غير مسمع مكروها، وأما أنه محتمل للشتم والذم فذاك من وجوه:

الأول: أنهم كانوا يقولون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اسمع، ويقولون في أنفسهم: لا سمعت، فقوله: ﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ معناه: غير سامع، فان السامع مسمع، والمسمع سامع.

الثاني: غير مسمع، أي غير مقبول منك، ولا تجاب إلى ما تدعو إليه، ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك، فكأنك ما أسمعت شيئا.

الثالث: اسمع غير مسمع كلاما ترضاه، ومتى كان كذلك فان الإنسان لا يسمعه لنبو سمعه عنه، فثبت بما ذكرنا أن هذه الكلمة محتملة للذم والمدح، فكانوا يذكرونها لغرض الشتم.

د. النوع الرابع: من ضلالاتهم قولهم: ﴿وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾:

أما تفسير ﴿رَاعِنَا﴾ فقد ذكرناه في سورة البقرة وفيه وجوه:

● الأول: أن هذه كلمة كانت تجري بينهم على جهة الهزء والسخرية، فلذلك نهى المسلمون أن يتلفظوا بها في حضرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

● الثاني: قوله: ﴿رَاعِنَا﴾ معناه ارعنا سمعك، أي اصرف سمعك إلى كلامنا وانصت لحديثنا وتفهم، وهذا مما لا يخاطب به الأنبياء عليهم السلام، بل إنما يخاطبون بالإجلال والتعظيم.

● الثالث: كانوا يقولون راعنا ويوهمونه في ظاهر الأمر أنهم يريدون أرعنا سمعك، وكانوا يريدون سبه بالرعونة في لغتهم.

● الرابع: أنهم كانوا يلوون ألسنتهم حتى يصير قولهم: ﴿رَاعِنَا﴾ راعينا، وكانوا يريدون أنك كنت ترعى أغناما لنا.

قوله: ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ قال الواحدي: أصل (ليا) لويا، لأنه من لويت، ولكن الواو أدغمت في الياء لسبقها بالسكون، ومثله الطي وفي تفسيره وجوه:

● الأول: قال الفراء كانوا يقولون: راعنا ويريدون به الشتم، فذاك هو اللي، وكذلك قولهم: ﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ وأرادوا به لا سمعت، فهذا هو اللي.

● الثاني: أنهم كانوا يصلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير على سبيل النفاق.

● الثالث: لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عن ذكر هذا الكلام على سبيل السخرية، كما جرت عادة من يهزأ بإنسان بمثل هذا الأفعال، ثم بين تعالى أنهم إنما يقدمون على هذه الأشياء لطعنهم في الدين، لأنهم كانوا يقولون لأصحابهم: إنما نشتمه ولا يعرف، ولو كان نبيا لعرف ذلك، فأظهر الله تعالى ذلك فعرفه خبث ضمائرهم، فانقلب ما فعلوه طعنا في نبوته دلالة قاطعة على نبوته، لأن الاخبار عن الغيب معجز.

2. في متعلق قوله تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾ وجوه:

أ. الأول: أن يكون بيانا للذين أوتوا نصيبا من الكتاب، والتقدير: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا.

ب. الثاني: أن يتعلق بقوله: ﴿نَصِيرًا﴾ والتقدير: وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا، وهو كقوله: ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ [الأنبياء: 77]

ج. الثالث: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، و﴿يُحَرِّفُونَ﴾ صفته، تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم، فحذف الموصوف وأقيم الوصف مكانه.

د. الرابع: أنه تعالى لما قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ﴾ [النساء: 44] بقي ذلك مجملا من وجهين، فكأنه قيل: ومن ذلك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب؟ فأجيب، وقيل: من الذين هادوا، ثم قيل: وكيف يشترون الضلالة؟ فأجيب، وقيل: يحرفون الكلم.

3. سؤال وإشكال: الجمع المؤنث، فكان ينبغي أن يقال: يحرفون الكلم عن مواضعها، والجواب: قال الواحدي: هذا جمع حروفه أقل من حروف واحده، وكل جمع يكون كذلك فإنه يجوز تذكيره، ويمكن أن يقال: كون الجمع مؤنثا ليس أمرا حقيقيا، بل هو أمر لفظي، فكان التذكير والتأنيث فيه جائزا وقرئ، يحرفون الكلم.

4. في كيفية التحريف وجوه:

أ. أحدها: أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر مثل تحريفهم اسم (ربعة) عن موضعه في التوراة بوضعهم (آدم طويل) مكانه، ونحو تحريفهم (الرجم) بوضعهم (الحد) بدله ونظيره قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 79]، سؤال وإشكال: كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب؟ والجواب: لعله يقال: القوم كانوا قليلين، والعلماء بالكتاب كانوا في غاية القلة فقدروا على هذا التحريف.

ب. الثاني: أن المراد بالتحريف: إلقاء الشبه الباطلة، والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم، وهذا هو الأصح.

ج. الثالث: أنهم كانوا يدخلون على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به، فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه.

5. ذكر الله تعالى هاهنا: ﴿عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ وفي المائدة ﴿مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ [المائدة: 41] والفرق أنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الباطلة، فههنا قوله: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ معناه: أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص، وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب، وأما الآية المذكورة في سورة المائدة، فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين، فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة، وكانوا يخرجون اللفظ أيضا من الكتاب، فقوله: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾ إشارة إلى التأويل الباطل وقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ إشارة إلى إخراجه عن الكتاب.

6. سؤال وإشكال: كيف جاؤوا بالقول المحتمل للوجهين بعد ما حرفوا، وقالوا سمعنا وعصينا؟ والجواب: من وجهين:

أ. الأول: أنا حكينا عن بعض المفسرين أنه قال إنهم ما كانوا يظهرون قولهم: ﴿وَعَصَيْنَا﴾ بل كانوا يقولونه في أنفسهم.

ب. الثاني: هب أنهم أظهروا ذلك إلا أن جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان، ولا يواجهونه بالسب والشتم.

7. ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ﴾ والمعنى أنهم لو قالوا بدل قولهم: سمعنا وعصينا، سمعنا وأطعنا لعلمهم بصدقك ولإظهارك الدلائل والبينات مرات بعد مرات، وبدل قولهم: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ قولهم واسمع، وبدل قولهم: ﴿رَاعِنَا﴾ قولهم: ﴿انْظُرْنَا﴾ أي اسمع منا ما نقول، وانظرنا حتى نتفهم عنك لكان خيرا لهم عند الله وأقوم، أي أعدل وأصوب، ومنه يقال: رمح قويم أي مستقيم، وقومت الشيء من عوج فتقوم.

8. ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ والمراد أنه تعالى إنما لعنهم بسبب كفرهم.

9. في قوله تعالى: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن القليل صفة للقوم، والمعنى فلا يؤمن منهم‏ إلا أقوام قليلون، ثم منهم من قال كان ذلك القليل عبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل: هم الذين علم الله منهم أنهم يؤمنون بعد ذلك.

ب. الثاني: أن القليل صفة للايمان، والتقدير فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، فإنهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة وموسى ولكنهم كانوا يكفرون بسائر الأنبياء، ورجح أبو علي الفارسي هذا القول على الأول، قال لأن (قليلا) لفظ مفرد، ولو أريد به ناس لجمع نحو قوله: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ [الشعراء: 54] ويمكن أن يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفردا، والمراد به الجمع قال تعالى: ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69] وقال: ﴿وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ [المعارج: 10، 11] فدل عود الذكر مجموعا إلى القبيلين على أنه أريد بهما الكثرة.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 10/93.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ قال الزجاج: إن جعلت ﴿مِنْ﴾ متعلقة بما قبل فلا يوقف على قوله: ﴿نَصِيرًا﴾، وإن جعلت منقطعة فيجوز الوقف على ﴿نَصِيرًا﴾ والتقدير من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم، ثم حذف، وهذا مذهب سيبويه، وأنشد النحويون:

çلو قلت ما في قومها لم تيثم...يفضلها في حسب ومبسمé

قالوا: المعنى لو قلت ما في قومها أحد يفضلها، ثم حذف، وقال الفراء المحذوف ﴿مِنْ﴾ المعنى: من الذين هادوا من يحرفون، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ أي من له، وقال ذو الرمة:

çفظلوا ومنهم دمعه سابق له...وآخر يذري عبرة العين بالهملé

يريد ومنهم من دمعه، فحذف الموصول، وأنكره المبرد والزجاج، لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة.

2. قرأ أبو عبد الرحمن السلمي وإبراهيم النخعي (الكلام)، قال النحاس: و﴿الْكَلِمُ﴾ في هذا أولى، لأنهم إنما يحرفون كلم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو ما عندهم في التوراة وليس يحرفون جميع الكلام.

3. معنى ﴿يُحَرِّفُونَ﴾ يتأولونه على غير تأويله، وذمهم الله تعالى بذلك لأنهم يفعلونه متعمدين، وقيل: ﴿عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ يعني صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

4. ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ أي سمعنا قولك وعصينا أمرك، ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ قال ابن عباس: كانوا يقولون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: اسمع لا سمعت، هذا مرادهم ـ لعنهم الله ـ وهم يظهرون أنهم يريدون اسمع غير مسمع مكروها ولا أذى، وقال الحسن ومجاهد: معناه غير مسمع منك، أي مقبول ولا مجاب إلى ما تقول، قال النحاس: ولو كان كذلك لكان غير مسموع منك، وتقدم القول في ﴿رَاعِنَا﴾

5. معنى ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ أي يلوون ألسنتهم عن الحق أي يميلونها إلى ما في قلوبهم، واصل اللي القتل، وهو نصب على المصدر، وإن شئت كان مفعولا من أجله، وأصله لويا ثم أدغمت الواو في الياء.

6. ﴿وَطَعْنًا﴾ معطوف عليه أي يطعنون في الذين، أي يقولون لأصحابهم لو كان نبيا لدرى أننا نسبه، فأظهر الله تعالى نبيه على ذلك فكان من علامات نبوته، ونهاهم عن هذا القول.

7. معنى ﴿أَقْوَمُ﴾ أصوب لهم في الرأي ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي إلا إيمانا قليلا لا يستحقون به اسم الإيمان، وقيل: معناه لا يؤمنون إلا قليلا منهم، وهذا بعيد لأنه تعالى قد أخبر عنهم أنه لعنهم بكفرهم.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/244.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ قال الزجاج: إن جعلت متعلقة بما قبل فلا يوقف على قوله: ﴿نَصِيرًا﴾ وإن جعلت منقطعة، فيجوز الوقف على نصيرا، والتقدير: من الذين هادوا قوم يحرّفون، ثم حذف، وهذا مذهب سيبويه، ومثله قول الشاعر:

çلو قلت ما في قومها لم أيثم‏... يفضلها في حسب وميسم‏é

قالوا: المعنى: لو قلت ما في قومها أحد يفضلها، ثم حذف، وقال الفراء: المحذوف لفظ من، أي: من الذين هادوا من يحرّفون الكلم كقوله: ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ أي من له، ومنه قول ذي الرمة:

çفظلّوا ومنهم دمعه سابق له‏... وآخر يذري عبرة العين بالهمل‏é

أي: من دمعه، وأنكره المبرّد والزجاج، لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة؛ وقيل: إن قوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ بيان لقوله: ﴿الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾، والتحريف: الإمالة والإزالة، أي: يميلونه، ويزيلونه عن مواضعه، ويجعلون مكانه غيره؛ أو المراد: أنهم يتأوّلونه على غير تأويله، وذمهم الله عزّ وجلّ بذلك، لأنهم يفعلونه عنادا وبغيا، وتأثيرا لغرض الدنيا.

2. ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ أي: سمعنا قولك، وعصينا أمرك، ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ أي: اسمع حال كونك غير مسمع، وهو يحتمل أن يكون دعاء على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ والمعنى: اسمع لا سمعت، ويحتمل أن يكون المعنى: اسمع غير مسمع مكروها، أو اسمع غير مسمع جوابا، وقد تقدم الكلام في راعنا.

3. معنى: ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ أنهم يلوونها عن الحق، أي: يميلونها إلى ما في قلوبهم، وأصل اللّي: القتل، وهو منتصب على المصدر، ويجوز أن يكون مفعولا لأجله.

4. ﴿وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ معطوف على ليا، أي: يطعنون في الدين بقولهم: لو كان نبيا لعلم أنا نسبه، فأطلع الله سبحانه نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم على ذلك‏.

5. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا﴾ قولك: ﴿وَأَطَعْنَا﴾ أمرك‏ ﴿وَأَسْمِعْ﴾ ما نقول‏ ﴿وَانْظُرْنَا﴾ أي: لو قالوا هذا مكان قولهم راعنا ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ مما قالوه، ﴿وَأَقْوَمُ﴾ أي: أعدل وأولى من قولهم الأوّل، وهو قولهم: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا﴾ لما في هذا من المخالفة وسوء الأدب، واحتمال الذم في راعنا.

6. ﴿وَلَكِنْ﴾ لم يسلكوا المسلك الحسن، ويأتوا بما هو خير لهم وأقوم، ولهذا: ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي: إلا إيمانا قليلا، وهو الإيمان ببعض الكتب دون بعض، وببعض الرسل دون بعض.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/549.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُواْ﴾ أي: نصيرًا لكم على الذين هادوا؛ فـ (مِنْ) بمعنى على، أو تضمَّن (نَصِيرًا) معنى مانعًا، وذلك كقوله تعالى : ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَآ﴾ [الأنبياء: 77]، وقوله تعالى : ﴿فَمَنْ يَّنصُرُنَا مِنم بَأْسِ اللهِ﴾ [غافر: 29]، أو ذلك بيان لـ (الَّذِينَ) أو الأعداء.

2. ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ حال أو نعت لمبتدأ محذوف، خبره (مِنَ الَّذِينَ)، أي: من الذين هادوا قوم يحرِّفون الكلم عن مواضعه، أي: يميلونه عن مواضعه، كتحويل صفته صلّى الله عليه وآله وسلّم والحُكْم في التوراة: إلى أسود وطويل جدًّا، أو قصير جدًّا، وإلى جعد الشعر، ونحو ذلك عن عكسه، وإلى الجلد عن الرجم، والتفسير بغير المراد، وإلقاء الشُّبَه، والمحو، وقولُه في المائدة: ﴿مِنم بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ [المائدة: 41] أدلُّ مِمَّا هنا على ثبوت مَقَارِّ الكلمة واشتهارها.

3. ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا﴾ قولك ﴿وَعَصَيْنَا﴾ أمرك ونهيك ﴿وَاسْمَعْ﴾ قولنا أو كلامنا ﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ حال كونك مدعوًّا عليك بِـ (لا سمعتَ)، لموت أو صمم، وفيه أنَّ الإنشاء لا يفاد بالمفرد وهو (غَيْرَ مُسْمَعٍ)، إذ ليس جملة، اللهمَّ إلَّا بتوسُّط (اسْمَعْ)، أو حال كونك غَيْرَ مُسْمَعٍ دعوا بـ (لا سمعت)، فتوهَّموا أو تجاهلوا أنَّ دعوتهم مستجابة، أو حال كونك غير مسمع كلامًا تدعو إليه فإنَّا لا نجيبك إليه، أو حال كونك غير مسمع كلاما لأنَّه يصمُّ عنه أذناك لكراهته، أو اسمع كلامًا غير مسمع لكراهته، أو حال كونك غير مسمع ما تكره، وهذا منافقة، كقولهم: (رَاعِنَا)، وذلك من التوجيه البديعيِّ، وهو جعل الكلام ذا وجهين، كقوله:

çخاطَ لي عمرو قباء...ليت عينيه سواءé

احتمل أن تبصر العين العوراء، وأن تعمى الباصرة، لأنَّه أعور.

4. ﴿وَرَاعِنَا﴾ اعتبرنا نكلِّمك، ونفهم كلامك، ومرَّ في سورة البقرة، أو كلمة عبرانيَّة أو سريانيَّة بمعنى الحمق، أو أنت راعي ماشيتنا، فحذفوا الياء، وذلك شتم، ﴿لَيًّا﴾ صرفًا، الأصل: (لَوْيًا) قلبت الواو وأدغمت في الياء، ﴿بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ إلى الحقِّ ظاهرًا عن الباطل سرًّا ﴿وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ أي: لأجل اللَّيِّ والطعن، أو حال كونهم لاوين وطاعنين، أو ذوي ليٍّ وطعن، أو حال كونهم ليًّا وطعنًا مبالغة.

5. ﴿وَلَوَ اَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعنَا﴾ كلامك ﴿وَأَطَعْنَا﴾ أمرك ونهيك ﴿وَاسْمَعْ﴾ كلامنا ﴿وَانظُرْنَا﴾ كي نفهم ﴿لَكَانَ﴾ قولهم هذا ﴿خَيْرًا لَّهُمْ﴾ نفعًا أو أحسن، أي: حَسَنًا، وقولهم السابق قبيح ﴿وَأَقْوَمَ﴾ أعدل، أي: عدلاً، أو (خَيْرًا) و(أَقْوَمَ) باقيان على التفضيل باعتبار اعتقادهم.

6. ﴿وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ أبعدهم عن الهدى بكفرهم السابق، فالذنب يجلب ذنبًا وعقابًا، ﴿فَلَا يُومِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ زمانًا قليلاً ويرجعون للكفر عنادًا، وذلك في قلوبهم، وفيما بينهم، وفي السرِّ، أو إلَّا إيمانًا قليلاً، وهو إيمان ببعض الرسل وبعض آيات القرآن ولا ينفعهم، أو أريد بالقلَّة العدم، أي: إلَّا إيمانًا معدومًا، فهو من أبلغ نفي، كما تقول: قلَّمَا فعل زيد كذا، تريد أنَّه لا يفعله البتَّة، أو النصب على الاستثناء من الواو، أي: إِلَّا قليلاً منهم آمنوا أو سيؤمنون.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/195.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ بيان للموصول وهو ﴿الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ فإن متناول لأهل الكتابين، وقد وسط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناء ببيان محل التشنيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين منهم، وتحذيرهم عن مخالطتهم، والاهتمام بحملهم على الثقة بالله عز وجل، والاكتفاء بولايته ونصرته.

2. ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ هو وما عطف عليه بيان لاشترائهم المذكور، وتفصيل لفنون ضلالهم، فقد روعيت في النظم الكريم طريقة التفسير بعد الإبهام، والتفصيل إثر الإجمال، روما لزيادة تقرير يقتضيه الحال، أفاده أبو السعود، قال ابن كثير: قوله: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ أي يتناولونه على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله عز وجل، قصدا منهم وافتراء، وقال الرازيّ: في كيفية التحريف وجوه:

أ. أحدها: إنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر، ثم قال

ب. الثاني: أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ من معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا، بالآيات المخالفة لمذاهبهم، وهذا هو الأصح.

ج. الثالث: أنهم كانوا يدخلون على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به، فإذا خرجوا من عنده حرّفوا كلامه.

3. وقال ابن القيّم في (إغاثة اللهفان): قد اختلف في التوراة التي بأيديهم، هل هي مبدلة أم التبديل وقع في التأويل دون التنزيل؟ على ثلاثة أقوال: قالت طائفة: كلها أو أكثرها مبدل، وغلا بعضهم حتى قال يجوز الاستجمار بها، وقالت طائفة من أئمة الحديث والفقه الكلام: إنما وقع التبديل في التأويل، قال البخاريّ‏ في (صحيحه): يحرفون يزيلون، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله، ولكنهم يتأولونه على غير تأويله، وهو اختيار الرازيّ أيضا، وسمعت شيخنا يقول: وقع النزاع بين الفضلاء، فأجاز هذا المذهب ووهّى غيره، فأنكر عليه، فأظهر خمسة عشر نقلا به، ومن حجة هؤلاء، أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها، وانتشرت جنوبا وشمالا، ولا يعلم عدد نسخها إلا الله، فيمتنع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ، حتى لا تبقى في الأرض‏ نسخة إلا مبدلة، وهذا مما يحيله العقل، قالوا: وقد قال الله لنبيه‏ ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ قالوا: وقد اتفقوا على ترك فريضة الرجم، ولم يمكنهم تغييرها من التوراة، ولذا لما قرؤوها على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وضع القارئ يده على آية الرجم، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفعها فإذا هي تلوح تحتها، وتوسطت طائفة فقالوا: قد زيد فيها وغيّر أشياء يسيرة جدا، واختاره شيخنا في (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) قال وهذا كما في التوراة عندهم: إن الله سبحانه قال لإبراهيم: اذبح ابنك بكرك أو وحيدك، إسحاق، ثم قال قلت والزيادة باطلة من وجوه عشرة، ثم ساقها فارجع إليه، وقد نقلها عنه هنا الإمام صدّيق خان، فانظره في تفسيره (فتح الرحمن)

4. سؤال وإشكال: كيف قيل هاهنا ﴿عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ وفي المائدة ﴿مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾؟ والجواب:

أ. قال الزمخشريّ: أما ﴿عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ فعلى ما فسرنا من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها، بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه، وأما ﴿مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ فالمعنى أنه كانت له مواضع، هو قمن بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقارّه، والمعنيان متقاربان.

ب. وقال الرازي: ذكر الله تعالى هاهنا ﴿عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ وفي المائدة ﴿مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ والفرق: أنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الباطلة، فههنا قوله: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ معناه أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص، وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب، وأما الآية المذكورة في سورة المائدة، فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين، فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة وكانوا يخرجون اللفظ أيضا من الكتاب، فقوله: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾ إشارة إلى التأويل الباطل، وقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ إشارة إلى إخراجه عن الكتاب.

ج. وقال الناصر في (الانتصاف): الظاهر أن الكلم المحرف إنما أريد به، في هذه الصورة مثل‏ ﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ و﴿رَاعِنَا﴾ ولم يقصد هاهنا تبديل الأحكام، وتوسطها بين الكلمتين، بين قوله: ﴿يُحَرِّفُونَ﴾ وبين قوله: ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ والمراد أيضا تحريف مشاهد بيّن على أن المحرف هما وأمثالهما، وأما في سورة المائدة فالظاهر، والله أعلم، أن المراد فيها ب ﴿الْكَلِمُ﴾ الأحكام، وتحريفها تبديلها، كتبديلهم الرجم بالجلد، ألا تراه عقبه بقوله: ﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا﴾؟ ولاختلاف المراد بالكلم في السورتين، قيل في سورة المائدة: يحرفون الكلم من بعد مواضعه، أي ينقلونه عن الموضع الذي وضعه الله فيه، فصار وطنه ومستقره، إلى غير الموضع، فبقي كالغريب المتأسف عليه الذي يقال فيه هذا غريب من بعد مواضعه ومقارّه، ولا يوجد هذا المعنى في مثل‏ ﴿رَاعِنَا﴾ و﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ وإن وجد على بعد فليس الوضع اللغويّ مما يعبأ بانتقاله عن موضعه كالوضع الشرعيّ، ولولا اشتمال هذا النقل على الهزء والسخرية لما عظم أمره، فلذلك جاء هنا ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ غير مقرون بما قرن به الأول من صورة التأسف.

5. وقال أبو السعود: والمراد بالتحريف هاهنا، إما ما في التوراة خاصة وإما ما هو أعم منه، ومما سيحكى عنهم من الكلمات المعهودة الصادرة عنهم في أثناء المحاورة مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا مساغ لإرادة تلك الكلمات خاصة بأن يجعل عطف قوله تعالى‏ ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ وما بعده، على ما قبله عطفا تفسيريا، لأنه يستدعي اختصاص حكم الشرطية الآتية وما بعدها بهنّ من غير تعرض لتحريفهم التوراة، مع أنه معظم جناياتهم المعدودة فقولهم‏ ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ ينبغي أن يجري على إطلاقه من غير تقييد بزمان أو مكان ولا تخصيص بمادة دون مادة، بل وأن يحمل على ما هو أعم من القول الحقيقيّ ومما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم، أي يقول في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أو لا، بلسان المقال أو الحال: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ عنادا أو تحقيقا للمخالفة.

6. قال ابن كثير: ويقولون سمعنا أي: سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه، هكذا فسره مجاهد وابن زيد، وهو المراد، وهذا أبلغ في كفرهم وعنادهم وأنهم يتولون عن كتاب الله بعد ما عقلوه وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة.

7. ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ عطف على‏ ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ داخل تحت القول أي: ويقولون ذلك في أثناء مخاطبته صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة، وهو كلام ذو وجهين محتمل للشر، بأن يحمل على معنى‏ ﴿أَسْمَعُ﴾، حال كونك غير مسمع كلاما أصلا، بصمم أو موت، أي مدعوّا عليك بلا سمعت، أو غير مسمع كلاما ترضاه، وللخير بأن يحمل على: اسمع منا غير مسمع مكروها، كانوا يخاطبون به النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم استهزاء به (عليهم اللعنة) مظهرين له إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون المعنى الأول مطمئنون به.

8. ﴿وَرَاعِنَا﴾ عطف على ما قبله، أي ويقولون في أثناء خطابهم له صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا أيضا، وهي كلمة ذات وجهين أيضا محتملة للخير بحملها على معنى ارقبنا وانظرنا نكلمك، وللشر بحملها على شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابّون بها، أو على السب بالرعونة أي الحمق، وبالجملة فكانوا، سخرية بالدين وهزؤا برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام.

9. ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ أي فتلا بها وصرفا للكلام من وجه إلى وجه وتحريفا، أي يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون‏ ﴿رَاعِنَا﴾ موضع‏ ﴿انْظُرْنَا﴾ و﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ موضع (لا أسمعت مكروها) أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا.

10. سؤال وإشكال: كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾؟ والجواب: جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء، ويجوز أن يقولوه فيما بينهم ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به، كذا في الكشاف.

11. أصل‏ ﴿لَيًّا﴾ لويا لأنه من لويت أدغمت الواو في الياء لسبقها بالسكون، ومثله (الطيّ) ﴿وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ أي قدحا فيه بالاستهزاء والسخرية وانتصابهما على العلّية لـ ﴿يَقُولُونَ﴾ باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين، أي يقولون ذلك لصرف الكلام عن وجهه إلى السب والطعن في الدين، أو على الحالية، أي: لاوين وطاعنين في الدين، أفاده أبو السعود.

12. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا﴾ أي عند ما سمعوا ما يتلى عليهم من أوامره تعالى: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ أي بدل قولهم‏ ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ والقول هنا كسابقه أعم من أن يكون بلسان المقال أو بلسان الحال‏ ﴿وَاسْمَعْ﴾ أي لو قالوا عند مخاطبة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بدل قولهم‏ ﴿وَاسْمَعْ﴾ فقط بلا زيادة ﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ المحتمل للشرّ ﴿وَانْظُرْنَا﴾ يعني بدل قولهم‏ ﴿رَاعِنَا﴾ المحتمل للمعنى الفاسد كما سلف‏ ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ﴾ في الدنيا بحقن دمائهم وأموالهم وعلوّ رتبتهم بإحاطة الكتب السماوية، وفي الآخرة بضعف الثواب، أفاده المهايميّ.

13. قال أبو السعود: وصيغة التفضيل إما على بابها واعتبار أصل الفضل في المفضل عليه بناء على اعتقادهم، أو بطريق التهكم، وإما بمعنى اسم الفاعل‏ ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ أي: ولكن لم يقولوا ذلك واستمروا على كفرهم فطردهم الله عن رحمته وأبعدهم عن الهدى، بسبب كفرهم‏ ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ منصوب على الاستثناء من‏ ﴿لَعَنَهُمُ﴾ أي ولكن لعنهم الله إلا فريقا قليلا منهم، آمنوا فلم يلعنوا، أو على الوصفية لمصدر محذوف، أي: إلا إيمانا قليلا أي ضعيفا ركيكا لا يعبأ به، فإنهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة وموسى، ويكفرونه ببقية المرسلين وكتبهم المنزلة، ورجّح أبو علي الفارسيّ هذا، قال لأن‏ ﴿قَلِيلًا﴾ لفظ مفرد: ولو أريد به (ناس) لجمع نحو قوله: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ [الشعراء: 54] ويمكن أن يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفردا، والمراد به الجمع قال تعالى: ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69]، وقال: ﴿وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ [المعارج: 10] يبصرونهم، أفاده الرازيّ، وقد جوز على هذا أن يراد بالقلة العدم بالكلية، كقوله:

çقليل التشكي للمهم يصيبه‏... كثير الهوى شتى النوى والمسالك‏é

أي هو كثير الهم مختلف الوجوه والطرق لا يقف أمله على فن واحد بل يتجاوزه إلى فنون مختلفة، صبور على النوائب لا يكاد يتشكى منها، فاستعمل لفظ (قليل) وأراد به نفي الكل، أو منصوب على الاستثناء من فاعل (لا يؤمنون) أي: فلا يؤمن منهم إلا نفر قليل، وأما قول الخفاجيّ: كان الوجه فيه الرفع على البدل لأنه من كلام غير موجب، وأبي السعود: بأنه فيه نسبة القراء إلى الاتفاق على غير المختار ـ فمردود بأن النصب عربيّ جيد، وقد قرئ به في السبع في (قليل) من قوله تعالى: ﴿مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 66] وفي (امرأتك) من قوله تعالى: ﴿وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ﴾ [هود: 81] كما قاله ابن هشام في التوضيح.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/139.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ هذا بيان للذين أوتوا نصيبا من الكتاب واتصفوا بالضلالة والإضلال وقوله: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ الخ جمل معترضة بين البيان والمبين، أو هو بيان لعدائكم والاعتراض ما بينهما، أو متعلق بنصيرا أي ينصركم من الذين هادوا، أو التقدير من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم كما قال الشاعر:

çوما الدهر إلا تارتان فمنهما...أموت وأخرى ابتغي العيش أكدحé

أي فمنهما تارة أموت فيها الخ ومثله كثير، والأول أظهر.

2. تحريف الكلم عن مواضعه هو إمالته وتنحيته عنها كان يزيلوه بالمرة أو يضعوه في مكان غير مكانه من الكتاب أو المراد بمواضعه معانيه كان يفسروه بغير ما يدل عليه قال محمد عبده التحريف يطلق على معنيين:

أ. أحدهما: تأويل القول بحمله على غير معناه الذي وضع له وهو المتبادر لأنه هو الذي حملهم على مجاحدة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنكار نبوته وهم يعلمون، إذ أولوا ولا يزالون يؤولون البشارات به إلى اليوم كما يؤولون ما ورد في المسيح ويحملونه على شخص آخر لا يزالون ينتظرون.

ب. ثانيهما: أخذ كلمة أو طائفة من الكلم من موضع من الكتاب ووضعها في موضع آخر وقد حصل مثل هذا التشويش في كتب اليهود: خلطوا فيما يؤثر عن موسى عليه السلام ما كتب بعده بزمن طويل وكذلك وقع في كلام غيره من الأنبياء وقد اعترف بهذا بعض المتأخرين من أهل الكتاب وإنما كان هذا منهم بقصد الإصلاح، وهذا النوع من التحريف لا يضر المسلمين ولم يكن هو الحامل على إنكار ما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

3. هذا ما قرره محمد عبده في الدرس وكتبت في مذكرتي عند كتابته كأنه وجد عندهم قراطيس متفرقة أي بعد أن فقدت النسخة التي كتبها موسى عليه السلام فأرادوا أن يؤلفوا بين الموجود فجاء فيه ذلك الخلط، وهذا سبب ما جاء في أسفار التوراة من الزيادة والتكرار، وقد أثبت العلماء تحريف كتب العهد العتيق والعهد الجديد بالشواهد الكثيرة وفي كتاب (إظهار الحق) للشيخ رحمة الله الهندي مئة شاهد على التحريف اللفظي والمعنوي فيها الأول ثلاثة أقسام تبديل الألفاظ وزيادتها ونقصانها.

4. فمن الشواهد على الزيادة ما جاء في سفر التكوين (31: 36) (وهؤلاء الملوك الذين ملكوا في أرض سادوم قبل أن ملك ملك لبني إسرائيل) ولا يمكن أن يكون هذا من كلام موسى عليه السلام لأنه لم يكن لبني إسرائيل ملك في تلك الأرض إلا من بعده وكان أول ملوكهم شاول وهو بعد موسى بثلاثة قرون ونصف، وقد قال آدم كلارك أحد مفسري التوراة: أظن ظنا قويا قريبا من اليقين أن هذه الآيات (أي من 32 39) كانت مكتوبة على حاشية نسخة صحيحة من التوراة فظن الناقل أنها جزء المتن فأدخلها فيه! ومنها في سفر تثنية الاشتراع (14: 3) يائير بن منسي أخذ كل كورة أرجوب إلى تخم الجشوريين والمعكيين ودعاها على اسمه باشان حوّوث يائير إلى هذا اليوم)، قال هورن في المجلد الأول من تفسيره بعد إيراد هذه الفقرة والفقرة السابقة: (هاتان الفقرتان لا يمكن أن يكونا من كلام موسى عليه السلام لأن الأولى دالة على أن مصنف هذا الكتاب (سفر التكوين أو التوراة كلها) وجد بعد زمان قامت فيه سلطنة بني إسرائيل، والفقرة الثانية دالة على أن مصنفه كان بعد زمان إقامة اليهود في فلسطين) إلى آخر ما قاله ومنه أن هاتين الفقرتين ثقل على الكتاب ولا سيما الثانية.

5. وقد صرح هؤلاء المفسرون بأن عزرا الكاتب قد زاد بعض العبارات في التوراة وصرحوا في بعضها بأنهم لا يعرفون من زادها ولكنهم يجزمون بأنها ليست مما كتبه موسى، وكثرة الألفاظ البابلية في التوراة تدل على أنها كتبت بعد سبي البابليين لبني إسرائيل وهنالك شواهد على تحريف سائر كتبهم تراجع في الكتب المؤلفة لبيان ذلك.

6. ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا﴾ أي ويقول هؤلاء للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سمعنا قولك وعصينا أمرك روي عن مجاهد أنهم قالوا سمعنا قولك ولكن لا نطيعك، ويقولون له أيضا: ﴿اسمع غير مسمع﴾ قال المفسرون إن هذا دعاء عليه زاده الله تكريما وتشريفا ومعناه لا سمعت أو لا أسمعك الله، وهذا في مكان الدعاء المعتاد من المتأدبين للمخاطب: لا سمعت مكروها، أو لا سمعت أذى، وقيل معناه غير مقبول ما تقول وهذا مروي عن مجاهد، وقال محمد عبده: يحتمل أن يكون المعنى واسمع شيئا لا يستحق أن يسمع، وأما ﴿رَاعِنَا﴾ فقد روي أن اليهود كانوا يتسابون بكلمة (راعينا) العبرانية أو السريانية فسمعوا بعض المؤمنين يقولون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم راعنا من المراعاة أو بمعنى أرعنا سمعك فافترصوها وصاروا يلوون ألسنتهم بالكلمة ويصرفونها إلى المعنى الآخر.

7. ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ فيجعلونها في الظاهر راعنا وبِلَيِّ اللسان وإمالته (راعينا) ينوون بذلك الشتم والسخرية أو جعله راعنا من رعاء الشاء أو من الرعن والرعونة، قال في الكشاف: فإن قلت: كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعدما صرحوا وقالوا سمعنا وعصينا، قلت: جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسبّ ودعاء السوء ويجوز أن يقولوه فيما بينهم ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ولكنهم لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به اه، وقد تقدم شرح ذلك في تفسير: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ [البقرة: 103] من سورة البقرة وبينا هنالك أن محمد عبده لم يرتض ما قالوه في كون هذه الكلمة سبّا بالعبرانية واختار في تعليل النهي عنها أنها لما كانت من المراعاة وهي تقتضي المشاركة نهوا عنها تأديبا لهم إذ لا يليق أن يقولوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ارعنا نرعك كما هو معنى المشاركة كما نهوا أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض قال: وهناك وجه آخر يقال في اللغة: راعى الحمار الحمر، إذا رعى معها فكان اليهود يحرفون الكلمة إلى هذا المعنى وإن كان فيها سبّ لأنفسهم على حد (اقتلوني ومالكا)، ومن تحريف اللسان وليه في خطابهم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قولهم في التحية (السام عليكم) يوهمون بفتل اللسان وجمجمته أنهم يقولون السلام عليكم وقد ثبت هذا في الصحيح وأنه كان عليه السلام بعد العلم بذلك يجيبهم بقوله: (وعليكم) أي كل أحد يموت.

8. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ﴾ أي لو أنهم قالوا سمعنا قولك وأطعنا أمرك، واسمع ما نقول وانظرنا أي أمهلنا وانتظرنا ولا تعجل علينا، يقال نظره بمعنى انتظره وهو كثير في القرآن، أو انظر إلينا نظر رعاية ورفق لكان خيرا لهم وأقوم مما قالوه لما فيه من الأدب والفائدة وحسن العاقبة.

9. ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ أي خذلهم وأبعدهم عن الصواب بسبب كفرهم أي مضت سنته في طباع البشر وأخلاقهم أن يمنع الكفر صاحبه من مثل هذه الروية والأدب، ويجعله طريدا لا يدلي إلى الخير والرحمة بحبل ولا سبب.

10. ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ من الإيمان لا يعتد به إذ لا يصلح عمل صاحبه ولا يزكي نفسه ولا يرقى عقله ولو كان إيمانهم بكتابهم ونبيهم كاملا لكان خير هاد لهم إلى الإيمان بمن جاء مصدقا لما معهم من الكتاب ومهيمنا عليه يبين ما نسوا منه وما حرفوا فيه، ثم إنه جاء بإصلاح جديد في إتمام مكارم الأخلاق ونظام الاجتماع وسائر مقاصد الدين فمن كان على شيء من الخبر وجاءه زيادة فيه لا يكون إلا مغبوطا بها حريصا على الاستفادة منها أو لا يؤمنون إلا قليلا منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه فإن الأمة مهما فسدت لا يعم الفساد جميع أفرادها بل تغلب سلامة الفطرة على أناس يكونون هم السابقين إلى كل إصلاح جديد، هكذا كان وهكذا يكون فهي سنة من سنن الله في الاجتماع، وقد نبهنا من قبل على دقة القرآن في الحكم على الأمم إذ يحكم على الأكثر فإذا عم الحكم يستثنى وهي دقة لم تعهد في كلام البشر.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/141.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ هذا بيان للمراد من الذين أوتوا الكتاب بأنهم يهود ونصارى، وقوله: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ﴾ وقوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾ جملتان معترضتان بين البيان والمبيّن.

2. ثم بين المراد من اشترائهم الضلالة بالهدى فقال: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ التحريف يطلق على معنيين:

أ. أحدهما تأويل القول بحمله على غير معناه الذي وضع له، كما يؤوّلون البشارات التي وردت في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويؤولون ما ورد في المسيح ويحملونه على شخص آخر ولا يزالون ينتظرونه‏ إلى اليوم.

ب. وثانيهما أخذ كلمة أو طائفة من الكلم من موضع من الكتاب ووضعها في موضع آخر، وقد حصل هذا في كتب اليهود، خلطوا ما يؤثر عن موسى بما كتب بعده بزمن طويل، وكذلك ما وقع في كلام غيره من أنبيائهم، اعترف بهذا بعض العلماء من أهل الكتاب، وقد كانوا يقصدون بهذا التحريف الإصلاح في زعمهم، وسبب هذا النوع من التحريف أنه وجدت عندهم قراطيس متفرقة من التوراة بعد فقد النسخة التي كتبها موسى عليه السلام وأرادوا أن يؤلفوا بينها فجاء فيها ذلك الخلط بالزيادة والتكرار، كما أثبت ذلك بعض الباحثين من المسلمين كالشيخ رحمة الله الهندي في كتابه [إظهار الحق‏] وأورد له من الشواهد ما لا يحصى.

3. ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا﴾ أي ويقول هؤلاء اليهود للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: سمعنا قولك وعصينا أمرك، وقد روى عن مجاهد أنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، سمعنا قولك ولكن لا نطيعك، وكذلك كانوا يقولون له‏ ﴿اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ يدعون عليه، على معنى لا أسمعك الله، في الموضع الذي يقول فيه المتأدبون للمخاطبين (لا سمعت أذى أو لا سمعت مكروها)، وكذلك كانوا يقولون له: راعنا، وقد روى أن اليهود كانوا يتسابون بكلمة (راعينا) العبرانية فسمعوا بعض المؤمنين يقولون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: راعنا من المراعاة فافترصوها، وصاروا يلوون ألسنتهم بالكلمة ويصرفونها إلى المعنى الآخر.

4. ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ أي هم يلوون ألسنتهم فيجعلونها في الظاهر راعنا وبلىّ اللسان وإمالته (راعينا) قصدا منهم للسّباب والشتم والسخرية، أو جعله راعيا من رعاة الغنم أو من الرعونة، ومن تحريف اللسان وليّه خطابهم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتحيته بقولهم (السام ـ الموت ـ عليكم) يوهمون بفتل اللسان وجمجمته أنهم يقولون له (السلام عليكم) وقد ثبت هذا في صحيح الأحاديث، كما ثبت‏ أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد أن علم عنهم ذلك كان يحييهم بقوله (وعليكم) أي كل أحد يموت.

5. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ﴾ أي ولو أنهم‏ قالوا سمعنا قولك وأطعنا أمرك، لعلمهم بصدقك ولوجود الأدلة والبينات المتظاهرة على ذلك، وكذلك لو قالوا: اسمع منا ما نقول وانظرنا: أي أمهلنا وانتظرنا ولا تعجل علينا حتى نتفهم عنك ما تقول، لكان ذلك خيرا لهم وأصوب مما قالوه، لما فيه من الأدب والفائدة وحسن العاقبة.

6. ثم بين عاقبة أمرهم فقال: ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ أي ولكن خذلهم الله وأبعدهم عن الطاعة بسبب كفرهم، إذا مضت سنة الله في البشر بأن الكفر يمنع صاحبه من التفكر والتروّى والأدب في الخطاب، ويجعله بعيدا من الخير والرحمة، فلا يمتّ إليهما بسبب، ولا يصل إليهما برحم ولا نسب.

7. ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي فهم لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا يعتدّ به، فهو لا يصلح عملا ولا يطهر نفسا ولا يرقى عقلا، ولو كان إيمانهم بنبيهم وكتابهم إيمانا كاملا لهداهم إلى التصديق بمن جاء مصدقا لما معهم من الكتاب، وبين لهم ما نسوا منه وما حرفوا فيه، كما جاءهم بمكارم الأخلاق والنظم الكاملة في الاجتماع والتشريع، وبما إن اتبعوه كانوا على الهدى والرشاد، وعلى الحق والسداد.

__________

(1) تفسير المراغى: 5/53.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وصف الله تعالى حالهم وتصرفاتهم وسوء أدبهم مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذه الفترة التي يبدو أنها كانت في أوائل سنوات الهجرة، قبل أن تخضد شوكتهم في المدينة: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾

2. لقد بلغ من التوائهم، وسوء أدبهم مع الله عزّ وجل: أن يحرفوا الكلام عن المقصود به، والأرجح أن ذلك يعني تأويلهم لعبارات التوراة بغير المقصود منها، وذلك كي ينفوا ما فيها من دلائل على الرسالة الأخيرة؛ ومن أحكام كذلك وتشريعات يصدقها الكتاب الأخير؛ وتدل وحدتها في الكتابين على المصدر الواحد؛ وتبعا لهذا على صحة رسالة النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتحريف الكلم عن المقصود به، ليوافق الأهواء، ظاهرة ملحوظة في كل رجال دين ينحرفون عن دينهم، ويتخذونه حرفة وصناعة، يوافقون بها أهواء ذوي السلطان في كل زمان؛ وأهواء الجماهير التي تريد التفلت من الدين.. واليهود أبرع من يصنع ذلك، وإن كان في زماننا هذا من محترفي دين المسلمين من ينافسون ـ في هذه الخصلة ـ اليهود!

3. ثم بلغ من التوائهم وسوء أدبهم مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقولوا له: سمعنا يا محمد ما تقول، ولكننا عصينا! فلا نؤمن ولا نتبع ولا نطيع! ـ مما يدل على أن هذه الآيات نزلت في وقت مبكر، حيث‏ كانت لليهود هذه الجرأة على مواجهة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم يضيفون إلى التبجح سوء الأدب والخلق والالتواء أيضا، إذ يقولون للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا﴾، ففي ظاهر اللفظ أنهم يقولون: اسمع ـ غير مأمور بالسمع (وهي صيغة تأدب) ـ وراعنا: أي: انظر إلينا نظرة رعاية لحالنا أو نظرة اهتمام لوضعنا، بما أنهم أهل كتاب، فلا ينبغي أن يدعوا إلى الإسلام كالمشركين! أما في الليّ الذي يلوونه، فهم يقصدون: اسمع ـ لا سمعت، ولا كنت سامعا! ـ (أخزاهم الله)، وراعنا يميلونها إلى وصف (الرعونة)! وهكذا.. تبجح وسوء أدب، والتواء ومداهنة، وتحريف للكلم عن مواضعه وعن معانيه، إنها يهود!

4. وبعد أن يحكي القرآن هذا عنهم؛ يقرر المنهج اللائق بأهل الكتاب؛ والأدب الجدير بمن أوتوا نصيبا منه، ويطمعهم ـ بعد ذلك كله ـ في الهداية والجزاء الحسن والفضل والخير من الله، لو ثابوا إلى الطريق القويم، وذلك مع بيان حقيقة طبيعتهم، وأنها هكذا كانت وهكذا تكون: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، فهم لا يواجهون الحق بهذه الصراحة وهذه النصاعة وهذه الاستقامة، ولو أنهم واجهوه هكذا بالألفاظ الصريحة التي لا التواء فيها: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا﴾، لكان هذا خيرا لهم، وأقوم لطبيعتهم وأنفسهم وحالهم، ولكن واقع الأمر أنهم ـ بسبب كفرهم ـ مطرودون من هداية الله.

5. وصدق قول الله.. فلم يدخل في الإسلام ـ في تاريخه الطويل ـ إلا القليل من اليهود، ممن قسم الله لهم الخير، وأراد لهم الهدى؛ باجتهادهم للخير وسعيهم للهدى، أما كتلة اليهود، فقد ظلت طوال أربعة عشر قرنا، حربا على الإسلام والمسلمين، منذ أن جاورهم الإسلام في المدينة إلى اللحظة الحاضرة، وكيدهم للإسلام كان هو الكيد الواصب الذي لا ينقطع، العنيد الذي لا يكف، المنوع الأشكال والألوان والفنون، منذ ذلك الحين! وما من كيد كاده أحد للإسلام في تاريخه كله ـ بما في ذلك كيد الصليبية العالمية والاستعمار بشتى أشكاله ـ إلا كان من ورائه اليهود، أو كان لليهود فيه نصيب! بعد ذلك يتجه الخطاب إلى الذين أوتوا الكتابـ اليهود ـ دعوة إلى الكتاب المصدق لما بين أيديهم؛ وتهديدا لهم بالمسخ واللعن المتوقعين من وراء عنادهم وأفاعيلهم، ودمغا لهم بالشرك والانحراف عن التوحيد الخالص، الذي عليه دينهم، والله لا يغفر أن يشرك به.. وفي الوقت ذاته بيان عام لحدود المغفرة الواسعة؛ وبشاعة الشرك حتى إنه ليخرج من هذه الحدود:

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/676.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ يكشف عن تلبيسات اليهود، وموارد نفاقهم.. إنهم ينافقون بالكلمة وبالعمل معا، تلتوى ألسنتهم بالكلمات فتزيلها عن معانيها التي لها، وتعبث أيديهم بالعمل فتموّهه وتزيفه، وتجعل ظاهره غير باطنه، كما يطلى المعدن الخسيس بسراب خادع من معدن كريم.

2. يقولون للنبىّ بأفواههم: (سمعنا) ويقولون بقلوبهم: (وعصينا)، ويقولون (اسمع) بصوت مسموع، ويتبعون ذلك بصوت خافت: (غير مسمع) يدعون على النبيّ بالصم.. ويقولون: (راعنا) أي انظر إلينا، يقولونها في تخابث تضطرب به ألسنتهم فتخرج الكلمة مشوّهة، عليها شبهة الضلال الذي يجده السامع لكلمة (راعنا) بالتنوين، صفة من الرعونة والطيش.. وهكذا يلقون النبي والمسلمين بتلك الكلمات المنافقة، التي تلبس أثوابا من الزيف والخداع!

3. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ﴾! خيرا يصيبونه في أنفسهم، إذ يستقيم بهم على طريق الخير، ويهديهم إلى سواء السبيل.. ولكن طبيعة القوم لا تعطى غير هذا الباطل، ولا تنضح إلا بهذا الزّيف المنكر من القول.. إذ (لعنهم الله بكفرهم).. ﴿وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ يستنقذه من هذا الضلال الذي يتخبط فيه، ويلقى به في لجج الهلاك، وسوء المصير.

4. وفي قوله تعالى: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾.. ما يفضح هذا الإيمان الذي هم عليه.. فهم أهل كتاب.. ومن شأن أهل الكتاب أن يكونوا مؤمنين، وهم مؤمنون، ولكن إيمانهم مشوب بالضلال، متلبّس بالكفر، فهم مؤمنون وكافرون، ولا يجتمع الإيمان والكفر إلا في قلب منافق، فالنفاق هو الوصف الذي هو أولى بهم، وهم أحقّ به.. ولهذا كان النفاق والمنافقون، من الصفات والسمات التي غلبت عليهم، فيما تحدث به القرآن عن هذا الحق اللئيم وأهله.

5. وفي القرآن الكريم يوصف اليهود بأنهم كافرون.. هكذا، وصفا مطلقا، كما يقول سبحانه: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ وكما يقول سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ وفي القرآن الكريم آيات تصف اليهود بأنهم مؤمنون، ولكنّ هذا الوصف يقيّد دائما بأنه إيمان سطحى، لا يمسك من بالإيمان إلا بظاهره، كما يقول سبحانه في هذه الآية: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾.. وكما يقول سبحانه: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، فهم كافرون كفرا قاطعا، وهم مؤمنون إيمانا ظاهرا.. وذلك هو النفاق في أسوأ صورة وأبشعها.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/807.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ يجوز أن يكون هذا كلاما مستأنفا، و﴿مِنْ﴾ تبعيضية، وهي خبر لمبتدإ محذوف دلّت عليه صفته وهي جملة ﴿يُحَرِّفُونَ﴾ والتقدير: قوم يحرّفون الكلم، وحذف المبتدإ في مثل هذا شائع في كلام العرب اجتزاء بالصفة عن الموصوف وذلك إذا كان المبتدأ موصوفا بجملة أو ظرف، وكان بعض اسم مجرور بحرف‏ ﴿مِنْ﴾، وذلك الاسم مقدّم على المبتدإ، ومن كلمات العرب المأثورة قولهم: (منّا ظعن ومنّا أقام) أي منّا فريق ظعن ومنّا فريق أقام، ومنه قول ذي الرمّة:

çفظلّوا ومنهم دمعه غالب له‏... وآخر يذري دمعة العين بالهمل‏é

أي ومنهم فريق، بدليل قوله في العطف وآخر، وقول تميم بن مقيل:

çوما الدّهر إلّا تارتان فمنهما... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح‏é

2. وقد دلّ ضمير الجمع في قوله: ﴿يُحَرِّفُونَ﴾ أنّ هذا صنيع فريق منهم، وقد قيل: إنّ المراد به رفاعة بن زيد بن التّابوت من اليهود، ولعلّ قائل هذا يعني أنّه من جملة هؤلاء الفريق، إذ لا يجوز أن يكون المراد واحدا ويؤتى بضمير الجماعة، وليس المقام مقام إخفاء حتّى يكون على حدّ قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما بال أقوام يشترطون) إلخ.

3. ويجوز أن يكون‏ ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ صفة للذين أوتوا نصيبا من الكتاب، وتكون‏ ﴿مِنْ﴾ بيانيّة أي هم الذين هادوا، فتكون جملة ﴿يُحَرِّفُونَ﴾ حالا من قوله: ﴿الَّذِينَ هَادُوا﴾، وعلى الوجهين فقد أثبتت لهم أوصاف التحريف والضلالة ومحبّة ضلال المسلمين.

4. والتحريف: الميل بالشيء إلى الحرف وهو جانب الشيء وحافته، وسيأتي عند قوله تعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ في سورة المائدة، وهو هنا مستعمل في الميل عن سواء المعنى وصريحه إلى التأويل الباطل، كما يقال: تنكّب عن الصراط، وعن الطريق، إذا أخطأ الصواب وصار إلى سوء الفهم أو التضليل، فهو على هذا تحريف مراد الله في التوراة إلى تأويلات باطلة، كما يفعل أهل الأهواء في تحريف معاني القرآن‏ بالتأويلات الفاسدة، ويجوز أن يكون التحريف مشتقّا من الحرف وهو الكلمة والكتابة، فيكون مرادا به تغيير كلمات التوراة وتبديلها بكلمات أخرى لتوافق أهواء أهل الشهوات في تأييد ما هم عليه من فاسد الأعمال، والظاهر أنّ كلا الأمرين قد ارتكبه اليهود في كتابهم، وما ينقل عن ابن عبّاس أنّ التحريف فساد التأويل ولا يعمد قوم على تغيير كتابهم، ناظر إلى غالب أحوالهم، فعلى الاحتمال الأول يكون استعمال‏ ﴿عَنْ﴾ في قوله: ﴿عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ مجازا، ولا مجاوزة ولا مواضع، وعلى الثاني يكون حقيقة إذ التحريف حينئذ نقل وإزالة.

5. وقوله: ﴿وَيَقُولُونَ﴾ عطف على‏ ﴿يُحَرِّفُونَ﴾ ذكر سوء أفعالهم وسوء أقوالهم، وهي أقوالهم التي يواجهون بها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: يقولون سمعنا دعوتك وعصيناك، وذلك إظهار لتمسّكهم بدينهم ليزول طمع الرسول في إيمانهم، ولذلك لم يروا في قولهم هذا أذى للرسول فأعقبوه بقولهم له: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ إظهار للتأدب معه.

6. معنى‏ ﴿اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ‏﴾ أنّهم يقولون للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عند مراجعته في أمر الإسلام: اسمع منّا، ويعقّبون ذلك بقولهم: ﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ يوهمون أنّهم قصدوا الظاهر المتبادر من قولهم: غير مسمع، أي غير مأمور بأن تسمع، في معنى قول العرب: (افعل غير مأمور)، وقيل معناه: غير مسمع مكروها، فلعلّ العرب كانوا يقولون: أسمعه بمعنى سبّه، والحاصل أنّ هذه الكلمة كانت معروفة الإطلاق بين العرب في معنى الكرامة والتلطّف، إطلاقا متعارفا، ولكنّهم لمّا قالوها للرسول أرادوا بها معنى آخر انتحلوه لها من شيء يسمح به تركيبها الوضعي، أي أن لا يسمع صوتا من متكلّم، لأن يصير أصمّ، أو أن لا يستجاب دعاؤه، والذي دلّ على أنّهم أرادوا ذلك قوله بعد: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا﴾ ـ إلى قوله: ـ ﴿اسْمَعْ وانْظُرْنا﴾ فأزال لهم كلمة (غير مسمع)، وقصدهم من إيراد كلام ذي وجهين أن يرضوا الرسول والمؤمنين ويرضوا أنفسهم بسوء نيتهم مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ويرضوا قومهم، فلا يجدوا عليهم حجّة.

7. وقولهم: ﴿وَرَاعِنَا﴾ أتوا بلفظ ظاهره طلب المراعاة، أي الرفق، والمراعاة مفاعلة مستعملة في المبالغة في الرعي على وجه الكناية الشائعة التي ساوت الأصل، ذلك لأنّ الرعي من لوازمه الرفق بالمرعيّ، وطلب الخصب له، ودفع العادية عنه، وهم يريدون بـ ﴿رَاعِنَا﴾ كلمة في العبرانية تدلّ على ما تدلّ عليه كلمة الرعونة في العربية، وقد روي أنّها كلمة راعونا وأنّ معناها الرعونة فلعلّهم كانوا يأتون بها، يوهمون أنّهم يعظّمون‏ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بضمير الجماعة، ويدلّ لذلك أنّ الله نهى المسلمين عن متابعتهم إيّاهم في ذلك اغترارا فقال في سورة البقرة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾

8. اللّيّ: أصله الانعطاف والانثناء، ومنه ﴿وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾، وهو يحتمل الحقيقة في كلتا الكلمتين: اللّي، والألسنة، أي أنّهم يثنون ألسنتهم ليكون الكلام مشبها لغتين بأن يشبعوا حركات، أو يقصروا مشبعات، أو يفخّموا مرقّقا، أو يرقّقوا مفخما، ليعطي اللفظ في السمع صورة تشبه صورة كلمة أخرى، فإنّه قد تخرج كلمة من زنة إلى زنة، ومن لغة إلى لغة بمثل هذا، ويحتمل أن يراد بلفظ (اللي) مجازه، وب (الألسنة) مجازه: فالليّ بمعنى تغيير الكلمة، والألسنة مجاز على الكلام، أي يأتون في كلامهم بما هو غير متمحّض لمعنى الخير.

9. انتصب (ليّا) على المفعول المطلق لـ ﴿يَقُولُونَ﴾، لأنّ الليّ كيفية من كيفيات القول، وانتصب‏ ﴿طَعْناً فِي الدِّينِ‏﴾ على المفعول لأجله، فهو من عطف بعض المفاعيل على بعض آخر، ولا ضير فيه، ولك أن تجعلهما معا مفعولين مطلقين أو مفعولين لأجلهما، وإنما كان قولهم‏ ﴿طَعْناً فِي الدِّينِ﴾، لأنّهم أضمروا في كلامهم قصدا خبيثا فكانوا يقولون لإخوانهم، ومن يليهم من حديثي العهد بالإيمان: لو كان محمّد رسولا لعلم ما أردنا بقولنا، فلذلك فضحهم الله بهذه الآية ونظائرها.

10. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ أي لو قالوا ما هو قبول للإسلام لكان خيرا، وقوله: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ يشبه أنّه ممّا جرى مجرى المثل بقول من أمر بشيء وامتثله (سمّع وطاعة)، أي شأني سمع وطاعة، وهو ممّا التزم فيه حذف المبتدإ لأنّه جرى مجرى المثل، وسيجيء في سورة النور قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾

11. ﴿وَأَقْوَمُ﴾ تفضيل مشتقّ من القيام الذي هو بمعنى الوضوح والظهور، كقولهم: قام الدليل على كذا، وقامت حجّة فلان، وإنّما كان أقوم لأنّه دالّ على معنى لا احتمال فيه، بخلاف قولهم.

12. والاستدراك في قوله: ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ ناشئ عن قوله: ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾، أي ولكن أثر اللّعنة حاق بهم فحرموا ما هو خير فلا ترشح نفوسهم إلّا بآثار ما هو كمين فيها من فعل سيّئ وقول بذاء لا يستطيعون صرف أنفسهم عن ذلك.

13. معنى‏ ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أنهم لا يؤمنون أبدا فهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه، وأطلق القلّة على العدم، وفسّر به قول تأبّط شرّا:

çقليل التشكّي للمهمّ يصيبه‏... كثير الهوى شتّى النّوى والمسالك‏é

قال الجاحظ في (كتاب البيان) عند قول عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يصف أرض نصيبين (كثيرة العقارب قليلة الأقارب)، يضعون (قليلا) في موضع (ليس)، كقولهم: فلان قليل الحياء، ليس مرادهم أن هناك حياء وإن قلّ.. ومنه قول العرب: قلّ رجل يقول ذلك، يريدون أنّه غير موجود، وقال الزمخشري عند قوله تعالى: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾: (والمعنى نفي التذكير، والقلّة مستعمل في معنى النفي)، وإنّما استعملت العرب القلّة عوضا عن النفي لضرب من الاحتراز والاقتصاد، فكأنّ المتكلّم يخشى أن يتلقّى عموم نفيه بالإنكار فيتنازل عنه إلى إثبات قليل وهو يريد النفي.

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/146.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ هذه طائفة من أعمال اليهود في استماعهم لدعوة النبيّ إلى الحق، وإلى صراط الله المستقيم، وقد ذكر سبحانه أن منهم فريقا يحرفون الكلم عن مواضعه، فقوله تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ﴾ فيه مبتدأ محذوف يقدر بفريق، والتحريف معناه الإمالة وجعل الكلام محتملا غير معناه، جاء في مفردات الراغب الأصفهانى: تحريف الكلام أن جعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين، قال عزّ وجل: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ ومن بعد مواضعه: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة]، وهذا الفريق ليس تحريفه هو التحريف العام الذي وقع من اليهود في تأويل كتبهم وإهمال كثير منها، وإخفائهم التبشير بالنبى صلّى الله عليه وآله وسلّم، إنما تحريفهم هو حمل كلام النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على غير وجهه، وجعله يحتمل ما لا يراد به، كما سنبين، هذا الفريق هو الذي قال الله تعالى فيه: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة]

2. فهذا الفريق لا يكتفى بما فعله أسلافه وما يتحمل وزره الذين يعلمون الكتاب المنزل من قبل ويكتمونه، بل إنه يجعل كلام النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم منحرفا في أذهانهم الملتوية عن حقيقة معناه، ويتهكمون عليه، ويحملونه بأغراضهم الفاسدة ما لا يحتمل من المعاني ولا يكتفون بذلك التحريف، بل يجمعون معه النطق بالعصيان عند السماع، وقد قال الله سبحانه عن تلقيهم لأحكام الشرع التي يبينها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ وإن حال هؤلاء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، كما حرف أسلافهم كتبهم، إنهم إذا سمعوا ما أنزل على الرسول لا يستمعون ليتبعوا الحق إن ظهرت بيناته، بل يستمعون على نية الرد، والاستمرار في العناد، وسد كل أبواب الهداية لكيلا تصل إلى قلوبهم، فإذا سمعوا الرسول يدعو إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، جمجموا في أنفسهم‏ أو غمزوا به فيما بينهم قائلين: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ أي سمعنا قولك ووعيناه، وعصينا ما تدعونا إليه، وإن كان الحق الذي لا مرية فيه، ولا توجد نفس أوغلت فى‏ العناد بأكثر من ذلك! وإنهم يردفون ذلك القول العاصى الذي يرددونه فيما بينهم بكلام من جنسه فيقولون: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾

3. ﴿وَأَسْمِعْ﴾ المراد به اسمع صدى دعوتك لنا وردنا عليها، وقد ذكر الزمخشري أن كلمة ﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ تحتمل ثلاثة وجوه:

أ. أولها: أن يكون المعنى الدعاء على النبيّ الكريم بأن يصاب بالصمم فلا يسمع، أو لا يسمع خيرا قط، والوجه

ب. الثاني: أن يكون المعنى غير مسمع كلامك فلا يجاب ولا يقبل، والوجه

ج. الثالث: ما ذكره بقوله: (ويجوز أن يكون غير مسمع مفعول اسمع أي اسمع كلاما غير مسمع إياك؛ لأن أذنيك لا تعيه نبوا عنه)، وإنا نختار ما عليه أكثر المفسرين، وهو أن يكون مرادهم لعنهم الله الدعوة عليه، صلّى الله عليه وآله وسلّم بعدم السماع، وذلك هو الذي يتفق مع ما عرف عنهم من حقد وحسد للناس على ما آتاهم الله من فضل، وما أودعت نفوسهم من بغض للناس وكره لهم، لحسبانهم أنهم المستحقون للتكريم والرفعة وحدهم بزعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، زادهم الله خزيا في الدنيا، وعذابا في الآخرة، وزاد الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم وشريعته رفعة وتكريما وإعزازا.

4. وإن هؤلاء لعنهم الله يلوون ألسنتهم طعنا في الدين، ولذلك حكى الله عنهم ذلك فقال: ﴿وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ بدل أن يعبروا في خطابهم بقولهم: (انظرنا) نظرة رعاية ومحبة طالبين منه الإقبال عليهم، وإن كان ذلك موجودا، يقولون‏ ﴿وَرَاعِنَا﴾ يفتلون بها ألسنتهم ويحولونها عن المعنى الظاهر لها إلى معنى غير قويم ولا مستقيم، وهو رمى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالرعونة والسفه، ويطعنون بذلك في الدين الذي يدعو إليه، والحق الذي ينفذه، وقد جاء في مفردات الراغب في تفسير قولهم: ﴿وَرَاعِنَا﴾ (قال الله تعالى: ﴿لَا تَقُولُوا رَاعِنَا﴾ [البقرة]، ﴿وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ كان ذلك قولا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على سبيل التهكم يقصدون رميه بالرعونة، ويوهمون أنهم يقولون: ﴿رَاعِنَا﴾ أي (احفظنا) فهم ينطقون بالكلمة على أن النون من بنية الكلمة، وليس ضمير المتكلمين، وذلك لي اللسان وفتله، والطعن في الدين.

5. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ﴾ هذا بيان لما كان ينبغي والمعنى: لو ثبت لهم أنهم قالوا سمعنا الحق واتبعناه، وكلام الرسول وأطعناه، ولو قالوا للرسول اسمع إجابتنا دعوة الحق، وانظر إلينا نظرة إقبال وعطف ورعاية من غير أن يلووا ألسنتهم، ويحرفوا القول عن موضعه، وما يدل عليه بظاهره، لكان ذلك خيرا لهم؛ إذ يفتح باب الهداية في قلوبهم ولا يطمس عليها، ولا يكون ذلك الخزى والذل في الدنيا، أدامه الله تعالى عليهم وبدلهم من أمنهم خوفا، إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا، ولكان ذلك خيرا لهم.

6. ﴿وَأَقْوَمُ﴾ أي كان هذا هو الأمر القويم الذي يجب أن يسلكه العقلاء طلاب الهداية، وأفعل التفضيل ليس على بابه، ومعناه أن يكونوا بلغوا من الاستقامة أقصاه، ولكنهم ضلوا ضلالا بعيدا.

7. ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ استدراك مما كان ينبغي لهم، أي أنهم لم يفعلوا ما ينبغي لأن الله تعالى لعنهم بأن طردهم من رحمته، فبعدوا عن الهداية بسبب إصرارهم على الكفر، وهم بذلك دخلوا في الكفر بإرادتهم، وأوغلوا فيه حتى صار الكفر بالنبوات ديدنهم، فغلقت أبواب الحق عليهم وطمس الله على بصائرهم، فلم تر الحق ولم تذعن له، فلا يؤمنون، أي ليس الإيمان من شأنهم بعد أن كان منهم ما كان، ولكن الله تعالى بعدله وحكمته لا ينفى الإيمان عنهم نفيا مطلقا، بل يقرر أن منهم من يؤمن، ولكنه عدد قليل.

8. ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي إلا عددا قليلا لا يدخل في عموم اللعنة التي كتبها الله تعالى عليهم في جملتهم، وهذا كقوله في آية: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة] ـ هدانا الله تعالى إلى الحق.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1701.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ﴾ ـ وهم الذين يريدون اخضاع العباد والبلاد لسياستهم ـ: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾، وفي الآية 75 من البقرة: ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ تماما كما فعلوا بقرار الأمم المتحدة بوجوب انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في 5 حزيران سنة 1967، وفسروه بوجوب المفاوضة مع العرب‏ وعرقلوا بذلك مهمة (غونار يارينغ) المبعوث الدولي لتنفيذ القرار.. وكل كلام لا يتفق مع مقاصدهم الشريرة يحرفونه عن مواضعه، حتى ولو عقلوا وعلموا أنه من عند الله، فلقد حرفوا التوراة من قبل، ووضعوا مكان آيات العدل والرحمة الأمر بالسلب والنهب، وقتل النساء والأطفال، قال في تفسير المنار عند تعرضه لتفسير هذه الآية: (أثبت العلماء تحريف كتب العهد العتيق، والعهد الجديد بالشواهد الكثيرة، وفي كتاب اظهار الحق للشيخ رحمة الله الهندي مائة شاهد على التحريف اللفظي والمعنوي فيها)، ثم ذكر صاحب تفسير المنار بعض الشواهد لهذا التحريف، وألف الشيخ جواد البلاغي كتابا قيما جامعا في هذا الموضوع، أسماه الرحلة المدرسية.

2. لقد دعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يهود الحجاز مرارا الى اتباع الحق، وعدم تحريف الكلام، فكانوا يصرون على العناد: ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾، أي غير مسموع منك، ولا مجاب لك فيما تدعونا اليه.. وليس هذا بغريب من عناصر الشر، ومصادر الفساد.

3. ﴿وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾، قال المفسرون: ان اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: راعنا، وهم لا يريدون المعنى الظاهر من هذه الكلمة، وهو مراقبتهم والإصغاء اليهم، وإنما أرادوا الرعونة والحمق، وهذا هو اللي والطعن في الدين، وسبق الكلام عن لفظة راعنا في تفسير الآية 104 من سورة البقرة.

4. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ﴾، ولأن هذا القول أعدل وأفضل، وأقوم وأسلم أعرضوا عنه، ولم يتفوهوا به، قال الرازي في تفسير هذه الآية: (المعنى انهم لو قالوا بدل قولهم‏ ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ سمعنا وأطعنا، لأنهم يعلمون بصدقك، وبدل قولهم‏ ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ واسمع فقط، وبدل قولهم‏ ﴿رَاعِنَا﴾ انظرنا، أي تمهل علينا حتى نفهم عنك، لو قالوا هذا لكان خيرا لهم عند الله وأقوم، أي أعدل وأصوب)

5. ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾، وتمردهم على الحق، وتعصبهم للباطل، ولعنة الله هي غضبه وسخطه‏ ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، لقد دخل الناس في الإسلام أفواجا من جميع الطوائف والأديان على مدى التاريخ إلا اليهود، فما أسلم منهم إلا قليل كعبد الله بن سلام، وبعض أصحابه، بل حاربوا الإسلام والمسلمين، وما زالوا يكيدون له بكل الوسائل والدسائس، وهذا من أقوى الأدلة على ان الإسلام حق وصدق.. والغريب ان قادة الإسلام ودعاته لم يستدلوا على عظمته وانسانيته بعداء اليهود الذين قالوا: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ عدائهم للإسلام، ولكل من قال لا إله إلا الله.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/339.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. (من) في قوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾، بيانيه، وهو بيان لقوله في الآية السابقة: ﴿الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾، أو لقوله: ﴿بِأَعْدَائِكُمْ﴾، وربما قيل: إن قوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ خبر لمبتدإ محذوف وهو الموصوف المحذوف لقوله: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾، والتقدير: من الذين هادوا قوم يحرفون، أو من الذين هادوا من يحرفون، قالوا: وحذف الموصوف شائع كقول ذي الرمة:

çفظلوا ومنهم دمعه سابق له‏... وآخر يشني دمعة العين بالمهل‏é

يريد: ومنهم قوم دمعه أو ومنهم من دمعه وقد وصف الله تعالى هذه الطائفة بتحريف الكلم عن مواضعه، وذلك إما بتغيير مواضع الألفاظ بالتقديم والتأخير والإسقاط والزيادة كما ينسب إلى التوراة الموجودة، وإما بتفسير ما ورد عن موسى عليه السلام في التوراة وعن سائر الأنبياء بغير ما قصد منه من المعنى الحق كما أولوا ما ورد في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من بشارات التوراة، ومن قبل أولوا ما ورد في المسيح عليه السلام من البشارة، وقالوا: إن الموعود لم يجيء بعد، وهم ينتظرون قدومه إلى اليوم.

2. ومن الممكن أن يكون المراد بتحريف الكلم عن مواضعه ما سيذكره تعالى بقوله: ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾، فتكون هذه الجمل معطوفة على قوله: ﴿يُحَرِّفُونَ﴾، ويكون المراد حينئذ من تحريف الكلم عن مواضعه استعمال القول بوضعه في غير المحل الذي ينبغي أن‏ يوضع فيه، فقول القائل: سمعنا من حقه أن يوضع في موضع الطاعة فيقال: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ لا أن يقال: سمعنا وعصينا، أو يوضع: سمعنا موضع التهكم والاستهزاء، وكذا قول القائل: اسمع ينبغي أن يقال فيه: اسمع أسمعك الله لا أن يقال: ﴿اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ‏﴾ أي لا أسمعك الله وراعنا، وهو يفيد في لغة اليهود معنى اسمع غير مسمع.

3. وقوله: ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ أصل اللي الفتل أي يميلون بألسنتهم فيظهرون الباطل من كلامهم في صورة الحق، والإزراء والإهانة في صور التأدب والاحترام فإن المؤمنين كانوا يخاطبون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين ما كانوا يكلمونه بقولهم: راعنا يا رسول الله، ومعناه: أنظرنا واسمع منا حتى نوفي غرضنا من كلامنا، فاغتنمت اليهود ذلك فكانوا يخاطبون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بقولهم: راعنا وهم يريدون به ما عندهم من المعنى المستهجن غير الحري بمقامه صلّى الله عليه وآله وسلّم فذموا به في هذه الآية، وهو قوله تعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ ثم فسره بقوله: ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ ثم عطف عليه كعطف التفسير قوله: ﴿وَرَاعِنَا﴾ ثم ذكر أن هذا الفعال المذموم منهم لي بالألسن، وطعن في الدين فقال: ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ والمصدران في موضع الحال والتقدير: لاوين بألسنتهم، وطاعنين في الدين.

4. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ﴾ كون هذا القول منهم وهو مشتمل على أدب الدين، والخضوع للحق خيرا وأقوم مما قالوه (مع اشتماله على اللي والطعن المذمومين ولا خير فيه ولا قوام) مبني على مقايسة الأثر الحق الذي في هذا الكلام الحق على ما يظنونه من الأثر في كلامهم وإن لم يكن له ذلك بحسب الحقيقة، فالمقايسة بين الأثر الحق وبين الأثر المظنون حقا، والمعنى: أنهم لو قالوا: سمعنا وأطعنا، لكان فيه من الخير والقوام أكثر مما يقدرون في أنفسهم لهذا اللي والطعن فالكلام يجري مجرى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾

5. ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ تأييس للسامعين من أن تقول اليهود سمعنا وأطعنا فإنه كلمة إيمان وهؤلاء ملعونون لا يوفقون للإيمان، ولذلك قيل: لو أنهم قالوا، الدال على التمني المشعر بالاستحالة.

6. الظاهر أن الباء في قوله: ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ للسببية دون الآية، فإن الكفر يمكن‏ أن يزاح بالإيمان فهو لا يوجب بما هو كفر لعنة تمنع عن الإيمان منعا قاطعا لكنهم لما كفروا (وسيشرح الله تعالى في آخر السورة حال كفرهم) لعنهم الله بسبب ذلك لعنا ألزم الكفر عليهم إلزاما لا يؤمنون بذلك إلا قليلا فافهم ذلك.

7. أما قوله: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ فقد قيل: إن‏ ﴿قَلِيلًا﴾ حال، والتقدير: إلا وهم قليل أي لا يؤمنون إلا في حال هم قليل، وربما قيل: إن‏ ﴿قَلِيلًا﴾ صفة لموصوف محذوف، والتقدير: فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، وهذا الوجه كسابقه لا بأس به لكن يجب أن يزاد فيه أن اتصاف الإيمان بالقلة إنما هو من قبيل الوصف بحال المتعلق أي إيمانا المؤمن به قليل.

8. ما ذكره بعض المفسرين أن المراد به قليل الإيمان في مقابل كاملة، وذكر أن المعنى: فلا يؤمنون إلا قليلا من الإيمان لا يعتد به إذ لا يصلح عمل صاحبه، ولا يزكي نفسه، ولا يرقي عقله فقد أخطأ، فإن الإيمان إنما يتصف بالمستقر والمستودع، والكامل والناقص في درجات ومراتب مختلفة، وأما القلة وتقابلها الكثرة فلا يتصف بهما، وخاصة في مثل القرآن الذي هو أبلغ الكلام، على أن المراد بالإيمان المذكور في الآية إما حقيقة الإيمان القلبي في مقابل النفاق أو صورة الإيمان التي ربما يطلق عليها الإسلام، واعتباره على أي معنى من معانيه، والاعتناء به في الإسلام مما لا ريب فيه، والآيات القرآنية ناصة فيه، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾، مع أن الذي يستثني الله تعالى منه قوله: ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾، كان يكفي فيه أقل درجات الإيمان أو الإسلام الظاهري بحفظهم الظاهر بقولهم: سمعنا وأطعنا كسائر المسلمين.

9. والذي أوقعه في هذا الخطإ ما توهمه أن لعنه تعالى إياهم بكفرهم لا يجوز أن يتخلف عن التأثير بإيمان بعضهم فقدر أن القلة وصف الإيمان وهي ما لا يعتد به من الإيمان حتى يستقيم قوله: ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾، وقد غفل عن أن هذه الخطابات وما تشتمل عليه من صفات الذم والمؤاخذات والتوبيخات كل ذلك متوجهة إلى المجتمعات من حيث الاجتماع، فالذي لحقه اللعن والغضب والمؤاخذات العامة الأخرى إنما هو المجتمع اليهودي من حيث إنه مجتمع مكون فلا يؤمنون ولا يسعدون ولا يفلحون، وهو كذلك إلى هذا اليوم وهم على ذلك إلى يوم القيامة، وأما الاستثناء فإنما هو بالنسبة إلى الأفراد، وخروج بعض الأفراد من الحكم المحتوم على المجتمع ليس نقضا لذلك الحكم، والمحوج إلى هذا الاستثناء أن الأفراد بوجه هم المجتمع فقوله: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ حيث نفي فيه الإيمان عن الأفراد ـ وإن كان ذلك نفيا عنهم من حيث جهة الاجتماع ـ وكان يمكن فيه أن يتوهم أن الحكم شامل لكل واحد واحد منهم بحيث لا يتخلص منه أحد استثني فقيل: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ فالآية تجري مجرى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/365.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ هؤلاء الذين ذكروا بالتعجيب من قصتهم هم ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ أي من اليهود الذين عادَتُهم أن يسعوا في الأرض فساداً ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ ﴿الْكَلِمُ﴾ من بيان الحق، يحرفونه: يحولونه إلى غير محله، ليستطيعوا لبس الحق بالباطل، وتضييع فائدة سياق الكلام التي بها يتضح المراد ولا يمكن فيه جدال.

2. ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ يقولون ﴿سَمِعْنَا﴾ قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أو ما تلاه من القرآن ﴿وَعَصَيْنَا﴾ تمرداً وعناداً واستخفافاً بكلام الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ وهذا من كلماتهم، ومعناها: الدعاء عليه بالصمم، ولكنها مغلَّفة باحتمال الدعاء له بأن لا يسمع قولاً يسوءه ﴿وَرَاعِنَا﴾ وهذه كلمة يقولونها للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿رَاعِنَا﴾ يوهمون أنه طلب المراعاة، ولهم فيها مقصد فاسد، قال الشرفي في (المصابيح): (قال الحسين بن القاسم عليهما السلام: يقولون: ﴿رَاعِنَا﴾ واعتقادهم: راعناً بالتنوين، من الرُّعونة التي هي الحمق والسفه لعنهم الله تعالى)

3. ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ ﴿لَيًّا﴾ أصل اللي: الفتل، وهو هنا: تحويل الكلام إلى المعنى الفاسد ﴿وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ من حيث يزعمون أنه لو كان نبيئاً لافتضحوا وانكشف زيفهم ومقاصدهم الفاسدة، أو لنَزل بهم العذاب، كقولهم في أنفسهم: ﴿لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ﴾ [المجادلة: 8] فقد افتضحوا ﴿حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [المجادلة: 8]

4. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ﴾ ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ من تلك الكلمات المذمومة التي هي وبال عليهم ﴿وَأَقْوَمُ﴾ لأن هذا كلام قيّم لا عوج فيه بخلاف كلامهم المذكور آنفاً.

5. ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ طردهم من رحمته بسبب كفرهم، وهذا الطرد: سلب التوفيق وخذلانهم بسبب كفرهم، ولذلك لا يؤمنون ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ من الإيمان ببعض ما في التوراة لفساد قلوبهم، ونصب ﴿قَلِيلًا﴾ على أنه قائم مقام المفعول المطلق ولو كان الاستثناء من فاعل ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ لرفع على البدل؛ لأنه أرجح في مثل هذا مثل: ﴿مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/85.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ هؤلاء هم اليهود الذين هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، وقد حدثنا الله عنهم أنهم لا يواجهون القضايا من موقع مداليلها الحقيقية بصراحة ووضوح، ولا يستقيمون في تعاملهم مع المبادئ والأشخاص والكلمات؛ بل يعملون على تحريف الأمور ـ ولا سيما الكلمات التي توحي بالمبادئ الصحيحة ـ عن مواضعها، بما يتناسب مع شهواتهم وأهدافهم، ولهذا، فإن على المؤمنين أن يحذروا منهم، حتى في الحالات التي يتحدثون فيها بكلام الله، لأنهم سوف يستغلّون أجواء قداسة الكلمات، وشعور الآخرين بأنهم ـ أي اليهود ـ يعرفون من كلام الله ما لا يعرفه غيرهم؛ وبذلك يضلّلون الناس باسم الهدى، وهم لا يشعرون، وهذا أسلوب قرآنيّ يريد الله من خلاله ـ أن يوحي للمؤمنين بأن يدرسوا طبيعة الأشخاص من مواقع تاريخهم وانتماءاتهم وعلاقاتهم ومواقفهم، قبل الاستماع إليهم، ليعرفوا من ذلك نوعية الأساليب التي يتبعونها في الدعوة والمعاملة والموقف، ليحذروا مما يمكن أن يكون موقفا للحذر في ذلك كله.

2. ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ تلك هي حالهم في مواجهتهم للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فقد كانوا يقولون: سمعنا وأخذنا علما بما تقول، ولكننا لن نطيعك في ذلك كله، فكأنهم يحاولون بذلك أن يثيروا حالة من الاستهزاء في إقرارهم بالسماع، ويضيفون إلى ذلك قولهم: (اسمع، لا أسمعك الله)؛ وهو معنى قولهم: راعنا في لغة اليهود؛ وكانوا يستعملونها للتمويه، فهم يريدون منها المعنى بحسب لغتهم، ولكن المسلمين يفهمون منها أنظرنا ـ من المراعاة ـ حتى‏ يستوعبوا الكلام، وكانوا يلوون ألسنتهم بالكلام، فيظهرون الباطل في صورة الحق، ويوحون بالازدراء والسخرية والاستهزاء، ويطعنون بالدين بذلك الأسلوب وبغيره.

3. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ﴾ إنهم لا يطلبون لأنفسهم الخير، فلا ينفتحون على دعوة الخير الموجهة إليهم بقلوب مفتوحة وأفكار واعية، لأنهم أغلقوا مسامع قلوبهم وأفكارهم عن الخير كله، ولو طلبوا لأنفسهم الخير، لكان قولهم عندما يسمعون كلام الله: سمعنا وأطعنا، ولكان قولهم بدل كلمة (راعنا): اسمع وأنظرنا، حتى نتعرف عمق الكلام وسعته، ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ منهم، أو إلّا قليلا من الإيمان، في ما ألزمهم الله به من مسئوليات الكفر ونتائجه؛ والله العالم.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/288.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تعقيبا على الآيات السابقة تشرح هذه الآية صفات جماعة من أعداء الإسلام، وتشير إلى جانب من أعمالهم ومواقفهم، فتقول أوّلا: إنّ أحد أعمال هذه الجماعة هو تحريف الحقائق، وتغيير حقيقة الأوامر الإلهية: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ أي أنّ جماعة من اليهود يحرفون الكلمات عن مواضعها، وهذا التحريف قد يكون له جانب لفظي، وقد يكون له جانب معنوي وعملي، أمّا العبارات اللاحقة فتفيد أن المراد من التحريف في المقام هو التحريف اللفظي وتغيير العبارة، لأنّه تعالى يقول بعد هذه الجملة: ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ يعني بدل أن يقولوا (سمعنا وأطعنا) يقولون (سمعنا وعصينا) وهذا يشبه تماما كلام من يقول مستهزء: (منك الأمر ومنّا عدم السماع)، هذا والعبارات الأخرى في هذه الآية خير شاهد على هذا القول.

2. ثمّ يشير إلى قسم آخر من أحاديثهم العدائية المزيجة بروح التحدي والصلافة حيث يقول: إنّهم يقولون: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ وبهذا الطريق يتوسل هذا الفريق للحفاظ على جماعة من المغفلين، ـ مضافا إلى سلاح تحريف الحقائق والخيانة في إبلاغ الكتب السماوية التي كانت تشكل الوسيلة الحقيقية لنجاة ذلك الفريق وشعبهم من مخالب الطغاة الظلمة مثل فرعون ـ يتوسلون بسلاح الاستهزاء والسخرية الذي هو سلاح الأنانيين والمغرورين ووسيلة العتاة والمعاندين، وربّما استخدموا مضافا إلى كل ذلك عبارات كان المسلمون المخلصون يرددونها أمام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مع تغييرات في معانيها تكميلا لاستهزائهم وسخريتهم، مثل جملة (راعنا) التي معناها (تفقدنا وأمهلنا) وكان المسلمون الصادقون في صدر الإسلام ومطلع الدّعوة المحمّدية يرددونها أمام النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليتمكنوا من سماع صوت النّبي وكلامه بنحو أفضل، ولكن هذا الفريق من اليهود كانوا يتوسلون بهذه الجملة لإيذاء النّبي ويسيئون استخدامها ويكررونها أمام النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم يقصدون منها معناها العبري الذي هو (سمعنا غير مسمع) أو (أسمعنا لا سمعت) أو معناه العربي الآخر، وهو ما يرجع إلى الرعونة الذي يعني الحمق، قصدا منهم إلى أن عمل النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان ـ والعياذ بالله ـ خداع الناس واستغلال سذاجتهم، وقد كان هذا كله بهدف إزاحة الحقائق عن محورها الأصلي بألسنتهم‏ والطعن في الدين الحق، والشريعة الحقة.

3. ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾، واللي على وزن الحي بمعنى الفتل، مثل فتل الحبل وما شابهه، ويأتي أيضا بمعنى التغيير والتحريف.

4. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ﴾ أي أنّهم إن سلكوا الطريق المستقيم وتركوا كل ذلك اللجاج والعناد، ومعاداة الحق، وسوء الأدب، والجرأة والقحة وقالوا: سمعنا كلام الله وأطعنا، فاستمع إلى كلامنا وأمهلنا لكي ندرك الحقائق إدراكا كاملا، لكان ذلك من مصلحتهم، وكان في ذلك منفعتهم، وأكثر انسجاما وتوافقا مع العدل والمنطق والعدل والأدب.

5. ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، أي أنّهم لن يتخلوا عن هذا السلوك الشائن بسرعة، كيف؟ وقد ابتعدوا عن رحمة الله بسبب ما هم عليه من كفر وتمرد وطغيان، وماتت أفئدتهم وتحجرت بحيث صار من المتعذر أن تخضع للحق، وأن تحيا من رقدتها بهذه السرعة، اللهم إلّا بعضهم ممن يمتلك فؤادا طاهرا وعقلا يقظا، فهؤلاء هم المستعدون للقبول بالحقائق، والاستماع إلى نداء الحق والإيمان به.

6. وقد اعتبر جماعة هذه الجملة من مغيبات القرآن وإخباراته الغيبية، لأنّه ـ كما يخبر القرآن الكريم في هذه الآية ـ لم يؤمن من اليهود طوال التاريخ الإسلامي ولم يذعن للحق إلّا جماعة قليله، وأمّا غيرهم ـ وهم الأكثرية الساحقة ـ فقد بقوا ـ وإلى الآن ـ على عدائهم الشديد، وخصومتهم للإسلام، ولم يزالوا يكيدون له المكائد، ويحيكون ضده المؤامرات.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/254.

49. أهل الكتاب والطمس واللعن

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈49⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ [النساء: 47]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ قال طمسها أن تعمى، ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ يقول: نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم؛ فيمشون القهقرى، ويجعل لأحدهم عينين في قفاه(1).

2. روي أنّ نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قول الله عز وجل: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾، قال: من قبل أن نمسخها على غير خلقها، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت وهو يقول(2):

çمن يطمس الله عينيه فليس له... نور يبين به شمسا ولا قمراé

3. روي أنّه قال: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾: نجعلها كخف البعير(3).

__________

(1) ابن جرير ٧/١١٢.

(2) الطستي ـ كما في مسائل نافع ـ.

(3) تفسير الثعلبي ٣/٣٢٤.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: الطمس: أن يرتدوا كفارا فلا يهتدوا أبدا(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/٣٢٤.

النخعي:

روي عن عيسى بن المغيرة، قال تذاكرنا عند إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) إسلام كعب الأحبار فقال: أسلم كعب في زمان عمر، أقبل وهو يريد بيت المقدس، فمر على المدينة، فخرج إليه عمر، فقال: يا كعب، أسلم، قال ألستم تقرؤون في كتابكم: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة: ٥]!؟ وأنا قد حملت التوراة، فتركه، ثم خرج حتى انتهى إلى حمص، فسمع رجلا من أهلها يقرأ هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾، قال كعب: يا رب، آمنت، يا رب، أسلمت، مخافة أن تصيبه هذه الآية، ثم رجع، فأتى أهله باليمن، ثم جاء بهم مسلمين(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/١١٨.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: الطمس: أن يرتدوا كفارا، فلا يهتدوا أبدا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾: نعميها(2).

3. روي أنّه قال: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾، أن نجعلهم قردة وخنازير(3).

__________

(1) ابن المنذر ٢/٧٣٧.

(2) تفسير الثعلبي ٣/٣٢٤.

(3) ابن المنذر ٢/٧٣٨.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ يقول: عن صراط الحق، ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ قال في الضلالة(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/١١٣.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: نطمسها عن الحق، ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾: على ضلالتها(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾، يقول: أو نجعلهم قردة(2).

__________

(1) عبد الرزاق ١/١٦٣.

(2) عبد الرزاق ١/١٦٤.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾، قال نحول وجوهها قبل ظهورها(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾، أي: نجعلهم قردة(1).

__________

(1) عبد الرزاق ١/١٦٣.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا﴾ معناه نسوّيها حتّى تعود كأقفائهم(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 120.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾، يقول: فيعميها عن الحق، قال يرجعها كفارا، ويجعلهم قردة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾، أو نجعلهم قردة(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/١١٤ دون قوله: ويجعلهم قردة، وابن أبي حاتم ٣/٩٦٩.

(2) ابن جرير ٧/١٢٠، وعلَّقه ابن أبي حاتم ٣/٩٧٠.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ثم خوفهم، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يعني: كعب بن الأشرف، يعني: الذين أعطوا التوراة، ﴿آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا﴾ يعني: بما أنزل الله من القرآن على محمد ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ يقول: تصديق محمد معكم في التوراة أنه نبي رسول(1).

2. روي أنّه قال: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ يقول: نحول الملة عن الهدى والبصيرة التي كانوا عليها من إيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يبعث، ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ بعد الهدى الذي كانوا عليه كفارا ضلالا(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا﴾، يقول: أمره كائن لا بد، هذا وعيد(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٧٧.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾، قال من حيث جاءت أدبارها، أي: رجعت إلى الشام، من حيث جاءت ردوا إليه(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٦٩.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله: ﴿آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾: أراد سبحانه من أهل الكتاب الإيمان به، وبكتابه ورسله.

2. ومعنى ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾: لما في توراتكم من ذكر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وصفته، والأمر بطاعته؛ لأن الله عز وجل قد ذكره لهم في كتابه، وأخبرهم أنه سيرسله، وأمرهم بطاعته، وبين لهم صفته؛ فإذا لم يؤمنوا بما قد ذكر لهم في كتابهم ـ فلم يصدقوا بشيء مما في توراتهم، وكذلك لو لم يرسل محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم على ما أخبرهم ووعدهم لكان ذلك خلفا لوعده؛ فكان إرساله لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم تصديقا لما ذكر في التوراة من نبوته، وكذلك يلزمهم إذا كذبوا بما في التوراة من بعد إثباته وتبيينه ـ فقد كذبوا بكل ما في التوراة من وحي، وأمر ونهي، ووعد ووعيد، وإذا كذبوا بذلك فقد باينوا بالكفر، وجاهروا به؛ وسواء جحدوا شيئا واحدا مما أمروا به، أو جحدوا جميع ما أنزل إليهم، وما حكم الله به وأمر فيهم.

3. ومعنى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ هو: الخذلان لهم، والإذلال والهوان، وإنزال المصائب بهم، والمسخ لهم، والتغيير لخلقهم.

4. ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾، واللعنة من الله عز وجل فهي: العقوبة والعذاب، وأراد سبحانه: ينزل بهم كما أنزل بأصحاب السبت، من المسخ لهم، والتغيير لخلقهم، وأصحاب السبت هم: الذين خالفوا أمره في الحيتان، فمسخهم الله قردة وخنازير.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/229.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ دلت هذه الآية أن المجوس ليسوا من أهل الكتاب؛ ولا ممن أوتوا الكتاب؛ لأنه قال عزّ وجل: ﴿آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ أي: موافقا لما معكم وليس عند المجوس كتاب حتى يكون المنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مصدقا لما معهم.

2. ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ أي: موافقا لما معكم، وإنما كان موافقا لما معهم بالمعاني المدرجة فيه والأحكام، لا بالنظم واللسان؛ لأنه معلوم أن ما معهم من الكتاب مخالف للقرآن نظما ولسانا، وكذلك سائر كتب الله تعالى موافق بعضها بعضا معاني وأحكاما، وإن كانت مختلفة في النظم واللسان؛ دل أنها من عند الله تعالى نزلت؛ إذ لو كانت من عند غير الله كانت مختلفة؛ ألا ترى أنه قال: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82] ففيه دليل لقول أبي حنيفة حيث أجاز الصلاة بالقراءة الفارسية؛ لأن تغير النظم واختلاف اللسان لم يوجب تغير المعاني واختلاف الأحكام، حيث أخبر عزّ وجل أنه موافق لما معهم، وهو في اللسان والنظم مختلف، والمعنى موافق.

3. ثم يحتمل قوله: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾:

أ. بصفته، ونعته، ونبوته، ومبعثه، وزمانه، فيه فيما معكم، لا يخالف في شيء من ذلك.

ب. ويحتمل: أنه هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي آمنتم به قبل أن يبعث، فكيف كفرتم بالله!؟

4. قوله عزّ وجل: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ الآية:

أ. قيل: لما نزلت هذه الآية قدم عبد الله بن سلام على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأسلم، وقال: يا رسول الله، ما كنت أرى أني أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي‏.

ب. وقيل: طمسها: أن تعمى أبصارها، وردها على أدبارها.

ج. وقيل: طمس الوجوه: أن تعمى، وترد عن بصيرتها، وذلك أنهم كانوا مؤمنين بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مستيقنين بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه نبي الله، يجدونه في كتبهم، يقول: حققوا إيمانكم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبكتابه من قبل أن نضلكم عن هداكم؛ فتصيروا ضلّالا؛ فلا تعلمون ما كنتم تعملون.

د. ويحتمل أن تكون الآية خرجت على الوعيد، وهي على التمثيل، لا على التحقيق.

هـ. ويحتمل: على التحقيق؛ كقوله تعالى: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾

و. ويحتمل أن يكون هذا في الآخرة.

ز. وقوله ـ عزّ وجل أيضا ـ: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ يحتمل الحقيقة؛ فيرجع إلى يوم القيامة، فيذهب عنه جميع محاسن الوجه، أو نطمس وجوه الحق عنه بمعاندته، فيبصر الحق بغير صورته والباطل بغير صورته بعد أن كانوا رأوا كل شيء بصورته في كتبهم المنزلة أو نطمس وجوههم عند أتباعهم الذين لأجلهم غيّروا وحرفوا بما يطلعهم على خيانتهم، ويظهر لهم تبديلهم، وقد فعل بحمد الله تعالى.

ح. وقد يحتمل الوعيد: أن يفعل بهم إن لم يؤمنوا حقيقة ذلك؛ كفعله بأصحاب السبت، تغير الجوهر، ثم لعل أولئك قد أسلموا، أو نزل بهم ولم يذكر.

5. قوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾:

أ. أي: كان بأمر الله عزّ وجل مفعولا، كما يقال: الجنة رحمة الله، والمطر رحمة الله، أي: برحمة الله، فعلى ذلك معنى قوله ـ سبحانه ـ: ﴿أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ أي: بأمر الله كان مفعولا.

ب. ويحتمل قوله: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾، أي: عذاب الله نازلا بهم.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/201.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ يريد عز وجل آمنوا من قبل العذاب الذي نطمس ونمحو به وجوههم حتى نردها مثل أدبارها، أي مثل أقفيتها، لأن الوجه إذا محي بالنار ومقامع الحديد رجع مثل القفا ليس فيه أنف ولا عين ولا حاجب، ولكن على قامت مقام مثل لأنهما من حروف الخفض.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/243.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يعني من اليهود والنصارى ﴿ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا﴾ يعني من القرآن ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ يعني من كتبكم.

2. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾، وطمس الوجوه هو محو آثارها حتى تصير كالأقفاء ونجعل عيونها في أقفائها فتمشي القهقرى ويجوز نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها أي في إضلالها ذماً لها بأنها لا تفلح أبداً.

3. ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ أي نمسخهم قردة.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/180.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يعني اليهود والنصارى، ﴿آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا﴾ يعني القرآن، ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ يعني كتبكم.

2. في قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن طمس الوجوه هو محو آثارها حتى تصير كالأقفاء ونجعل عيونها في أقفائها حتى تمشي القهقرى، وهو قول ابن عباس، وقتادة.

ب. الثاني: أن نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها، أي في ضلالها ذمّا لها بأنها لا تصلح أبدا، وهذا قول الحسن، والضحاك، ومجاهد، وابن أبي نجيح، والسدي.

3. ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ أي نمسخهم قردة، وهو قول الحسن، وقتادة، والسدي.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/494.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية خطاب لأهل الكتاب: اليهود، والنصارى أمرهم الله بأن يؤمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وما أنزل عليه من القرآن، وغيره من الأحكام مصدقاً لما معهم من التوراة والإنجيل اللذين تضمنا صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وصحة ما جاء به.

2. في قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ أربعة أقوال:

أ. أحدها: قال ابن عباس وعطية العوفي وقتادة: معناه نمحو آثارها حتى تصير كالقفا، ونجعل عيونها في قفاها، فتمشي القهقري.

ب. الثاني: قال الحسن، ومجاهد، والضحاك، وابن أبي نجيح، والسدي، ورواه أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام: أن معناه نطمسها عن الهدى، فنردها على أدبارها في ضلالتها ذماً لها بأنها لا تصلح أبداً، وهم وإن كانوا في‏ الضلالة في الحال فتوعدهم بأنهم متى لم يؤمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ازدادوا بذلك ضلالا إلى ضلالتهم وإياساً لهم أن يؤمنوا فيما بعد.

ج. الثالث: قال الفراء، واختاره البلخي، والحسين بن علي المغربي: إن معناه نجعل في وجوههم الشعر كوجه القرود.

د. الرابع: قال قوم: معناه أن يردهم إلى الشام من الحجاز الذي هو مسكنهم، وهو أضعف الوجوه، لأنه ترك للظاهر، وخلاف أقوال المفسرين.

3. الأدبار: جمع دبر.

4. سؤال وإشكال: كيف يجوز تأويل من قال نجعلها كالاقفاء، وهذا لم يجز على ما توعد به؟ والجواب: عنه جوابان:

أ. أحدهما: لأنه آمن من جماعة من أولئك الكفار كعبد الله بن سلام وثعلبة بن شعبة وأسد بن ربيعة، وأسد بن عبيد، ومخيرق‏، وغيرهم، وأسلم كعب في أيام عمر حين سمع هذه الآية، فأما من لم يؤمن منهم فإنه يفعل به ذلك في الآخرة على أنه تعالى قال أو نلعنهم، والمعنى أنه يفعل أحدهما، ولقد لعنهم الله بذلك، وقوله: ﴿كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ يعني المسخ الذي جرى عليهم، ذكره البلخي.

ب. الثاني: أن الوعيد يقع بهم في الآخرة، لأن الله تعالى لم يذكر أنه يفعل بهم ذلك في الدنيا تعجيلا للعقوبة ذكره البلخي أيضاً، والجبائي.

5. الطمس هو الدثر، وهو عفو الأثر، والطامس، والداثر، والدارس، بمعنى واحد، وطمست أعلام الطريق تطمس طموساً: إذا دثرت، قال كعب بن زهير:

çمن كل نضاحة الذفري إذا غرقت‏...عُرضتها طامس الاعلام مجهول‏é

6. الأدبار جمع دبر، وأصله من الدّبر يقولون دبره يدبره ودبراً فهو دابر: إذا صار خلفه، والدبر: خلاف القبل، والدابر: التابع، ومنه قوله: ﴿وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ﴾ أي تبع النهار، فأما أدبر فمعناه ولّى، والدبور: الريح، لأنها تدبر الكعبة إلى جهة المشرق، والدبار الهلاك، ودابرة الطائر: الإصبع التي من خلف، والدبر: النحل، والدبر: المال الكثير، والتدبير، لأنه احكام ادبار الأمور، وهي عواقبها.

7. ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ قال السدي، وقتادة، والحسن: معناه نمسخهم قردة وإنما كنى عنهم بقوله: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ بعد أن خاطبهم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ﴾ لأمرين:

أ. أحدهما: التصرف في الخطاب، والانتقال من مواجهة إلى كناية كما قال: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ﴾ فخاطب ثم قال: ﴿وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ فكنى.

ب. الثاني: أن يعود الضمير على أصحاب الوجوه، لأنه بمنزلة المذكور.

8. في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ قولان:

أ. أحدهما: ان كل أمر من أمور الله من وعد أو وعيد أو مخبر خبر فإنه يكون على ما أخبر به، ذكره الجبائي.

ب. الثاني: ان معناه‏ ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ أي الذي يأمر به بقوله: (كن) وذلك يدل على أن كلامه محدث، وقال البلخي: معناه أنه إذا أراد شيئاً من طريق الإجبار، والاضطرار كان واقعاً لا محالة، لا يدفعه دافع، كقبض الأرواح، وقلب الأرض وإرسال الحجارة، والمسخ وغير ذلك، فأما ما يأمر به على وجه الاختيار، فقد يقع، وقد لا يقع، ولا يكون في ذلك مغالبة له لأنه تعالى لو أراد إلجاءه إلى ما أمره به لقدر عليه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/216.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الطمس والمَحْوُ والدَّثْرُ نظائر، وهو عَفْوُ الأثر، والطامس والدارس والداثر نظائر، وطمسنا أعلام الطريق نَطْمِسُ طموسا.

ب. أصل الأدبار الدبر من قولهم دبره يدبره دبرًا، وهو دابر له إذا صار خلفه، والدُّبُرُ خلاف القُبُلِ، والدابر: التابع، ومنه ﴿وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ﴾ أي تبع النهار، والدبر: النحل؛ لأن قوته من جهة دبره، ومنه التدبير؛ لأنه إحكام عواقب الأمور وأدبارها.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. عن ابن عباس قال: كلم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جماعة من اليهود من أحبارهم منهم عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد، وعبد الله بن سلام، وغيرهم فقال: اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أني جئتكم بالحق)، فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد فنزلت الآية.

ب. وقيل: لما نزلت هذه الآية أتى عبد الله بن سلام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأسلم، وقال: ما كنت أرى أن أَصِلَ إليك حتى يتحول وجهي في قفاي، وسمع كعب من عمر هذه الآية فقال: يارب آمنت، يارب أسلمت.

3. لما تقدم ذكر أهل الكتاب عقبه بذكر التخويف والتحذير فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ أي أُعطوا علم الكتاب:

أ. قيل: خطاب لليهود.

ب. وقيل: لأهل الكتاب.

4. ﴿آمَنُوا﴾ صدقوا ﴿بِمَا نَزَّلْنَا﴾ يعني القرآن ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾:

أ. قيل: تصديق التوراة بأنه حق.

ب. وقيل: محققًا بصفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في التوراة موافقًا له.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ على قولين:

أ. منهم من حمل على الطمس في الخِلْقَةِ.. واختلفوا:

فقيل: بمحو آثارها حتى تصير كالأقفاء، ويجعل عيونها في أقفائها، فيمشي القهقرى عن ابن عباس وعطية العوفي وقتادة، وقال ابن عباس: نجعلها كخف البعير وحافر الدابة.

وقيل: من قبل أن نمحو وجوهكم، ونصيرها في أدبارها كالأقفية في الآخرة عقوبة عن أبي علي وأبي مسلم.

وقيل: نمحو الحواس التي في وجوهكم فتصير كالأقفاء عن القتبي.

وقيل: نجعل الوجوه منابت الشعر كوجوه القردة عن الفراء.

وقيل: المراد بالوجه العين، يعني نجعل عينها من قبل الأقفاء عن قتادة والضحاك.

وقيل: من قبل أن نغير خلقهم بالمسخ.

ب. ومنهم من حمل على غيره وجعله توسعًا.. واختلفوا:

فقيل: نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها، أي في ضلالتها ذمًا لها؛ بأنها لا تفلح أبدًا عن الحسن ومجاهد والضحاك والسدي.

وقيل: يعقبهم العمى فيما يدينون به فيتحيرون ويزولون عن المعرفة عن الأصم، فوعدهم إما بنزول عقاب يفضحهم، أو حيرة في الدين.

وقيل: حتى يمحو آثارهم من وجوههم، أو نواحيهم التي هم بها فنردها على أدبارها، حتى يعودوا إلى حيث جاءوا، وهو الشام، وحمله على إجلاء بني النضير إلى أريحا من الشام عن ابن زيد.

6. سؤال وإشكال: على القول الأول وهو الحقيقة كيف أوعد ولم يفعل؟ والجواب: فيه أجوبة:

أ. أحدها: أنه يفعل بهم في الآخرة عن أبي علي.

ب. ثانيها: أن هذا الوعيد باق منتظر لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل قيام الساعة عن المبرد.

ج. ثالثها: أن هذا كان وعيدا لهم لو لم يؤمن واحد منهم، فأمَا وقد آمن جماعة منهم فرفع عن الباقي، فممن أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن شعبة، وأسد بن شعبة، وأسد بن عبيد، ومخَيريق وغيرهم، وأسلم كعب أيام عمر.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾:

أ. قيل: أي نخزيهم ونعذبهم عاجلاً عن أبي مسلم.

ب. وقيل: نمسخهم قردة عن الحسن وقتادة والسدي.

8. إنما قال: نلعنهم، وقد تقدم خطابهم لأحد وجهين:

أ. أجدهما: للتصرف في الكلام، كقوله: ﴿وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ فجعلهم مرة كالحاضر ومرة كالغيب.

ب. الثاني: أن يعود الضمير على أصحاب الوجوه أنه بمنزلة المذكور.

9. ﴿كَمَا لَعَنَّا﴾ أخزينا وعاقبنا ﴿أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾:

أ. قيل: الَّذِينَ اعتدوا في السبت.

ب. وقيل: اليهود؛ لأنهم يعظمون السبت.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُا اللهِ مَفْعُولاً﴾:

أ. قيل: كان أمر من أمور الله مِنْ وعد أو وعيد أو خبر، فإنه يكون كما وعد وأخبر عن أبي علي.

ب. وقيل: كان مأمورًا لله مفعولاً أي الذي يأمره بقوله: كن.

ج. وقيل: إن جميع ما يفعله الله كائن لا محالة، والأمر عبارة عن الفعل.

د. وقيل: جميع أوامره مفعولة؛ لأن كلامه محدث، قيل: أبديتم للرسول وللمؤمنين وما وعدهم من النصر فلا تطمعوا في إبطاله عن الأصم، فالأمر هو وعد الله بالنصر.

11. تدل الآية الكريمة على:

أ. أنهم وإن كفروا يسمون بأنهم أهل الكتاب.

ب. أن القرآن مصدق لجميع كتب الله، وذلك لوجهين: إما من حيث موافقته لصفته صلّى الله عليه وآله وسلّم في تلك الكتب، أو لتصديقه إياه بأنه حق.

ج. وعيد غير معين، وربما يكون ذلك أبلغ وأصلح.

د. أن ذلك الوعيد طمس ومسخ.

هـ. أن لفظة ﴿قَبْل﴾ تستعمل من الشيء أنه قبل غيره، ولم يوجد ذلك الغير، ولا خلاف أن استعماله يصح لذلك، يقال: إنه تعالى قبل خلقه، ثم اختلفوا أنه حقيقة أو مجاز، فعند أبي علي أنه حقيقة، وعند أبي هاشم أنه توسع وحقيقة، ﴿قَبْلِ﴾ و﴿بَعْدِ﴾ لا يصح إلا في شيئين يشتركان في الوجود ويتقدم أحدهما ويتأخر الآخر، وقال علي بن موسى القمي: تدل أنه إذا قال: عبده حر قبل أن يدخل هذه الدار يعتق في الحال؛ لوجود الصفة، وإن لم يقع الدخول، قال القاضي: وهذا يبعد؛ لأن مع فقد الدخول لا يقال فيما تقدم: إنه قبله.

و. يدل آخر الآية على أن وعيده واقع لا محالة فتدل على بطلان قول الكلابية في الكلام.

12. قراءة العامة ﴿نَطْمِسَ﴾ بكسر الميم، وقرأ أبو رجاء العطاردي بضم الميم، وهما لغتان.

13. مسائل لغوية ونحوية:

أ. الهاء في (نردها) و﴿أَدْبَارِهَا﴾ تعود علي الوجوه تقديره: نطمس وجوهًا فنرد الوجوه على أدبارها.

ب. ﴿مُصَدِّقًا﴾ نصب على الحال، وهو يرجع إلى ما أنزلنا، أي دون المأمورين، ولو كان لهم لقال: آمنوا بما نزلنا مصدقين لما معكم ﴿مَا﴾ بمعنى الذي.

ج. (نردها) عطف على ﴿نَطْمِسَ﴾، ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ ليس ﴿أَوْ﴾ للشك قيل: معناه الواو، وقيل: نفعل بهم هذا وهذا.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/651

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الطمس: هو عفو الأثر، والطامس، والداثر، والدارس، بمعنى.

ب. الأدبار: جمع دبر، وأصله من الدبر، يقال: دبره، يدبره، دبرا، فهو دابر، إذا صار خلفه، والدابر: التابع، وقوله: ﴿والليل إذا أدبر﴾ معناه تبع النهار، والتدبير: إحكام أدبار الأمور: وهي عواقبها.

2. خاطب الله أهل الكتاب بالتخويف والتحذير فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ أي أعطوا علم الكتاب، ﴿آمَنُوا﴾ أي صدقوا ﴿بِمَا نَزَّلْنَا﴾ يعني: بما نزلناه على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من القرآن، وغيره من أحكام الدين، ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ من التوراة والإنجيل، اللذين تضمنا صفة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وصحة ما جاء به.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ على أقوال:

أ. أحدها: إن معناه من قبل أن نمحو آثار وجوهكم حتى تصير كالأقفية، ونجعل عيونها في أقفيتها، فتمشي القهقري، عن ابن عباس، وعطية العوفي.. سؤال وإشكال: على هذا القول كيف أوعد سبحانه، ولم يفعل؟ والجواب: على وجوه:

أحدها: إن هذا الوعيد كان متوجها إليهم لو لم يؤمن واحد منهم، فلما آمن جماعة منهم، كعبد الله بن سلام، وثعلبة بن شعبة، وأسد بن ربيعة، وأسعد بن عبيدة، ومخريق، وغيرهم، وأسلم كعب في أيام عمر، رفع العذاب عن الباقين، ويفعل بهم ذلك في الآخرة، على أنه سبحانه قال: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا﴾ والمعنى أنه يفعل أحدهما، وقد لعنهم الله بذلك.

ثانيها: إن الوعيد يقع بهم في الآخرة، لأنه لم يذكر أنه يفعل بهم ذلك في الدنيا، تعجيلا للعقوبة، ذكره البلخي، والجبائي.

ثالثها: إن هذا الوعيد باق منتظر لهم، ولا بد من أن يطمس الله وجوه اليهود، قبل قيام الساعة، بأن يمسخها، عن المبرد.

ب. ثانيها: إن المعنى: أن نطمسها عن الهدى، فنردها على أدبارها في ضلالتها، ذما لها بأنها لا تفلح أبدا، عن الحسن، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ورواه أبو الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام.

ج. ثالثها: إن معناه: نجعل في وجوههم الشعر، كوجوه القرود، عن الفراء، وأبي القاسم البلخي، والحسين بن علي المغربي.

د. رابعها: إن المراد: حتى نمحو آثارهم من وجوههم: أي نواحيهم التي هم بها، وهي الحجاز الذي هو مسكنهم، ونردها على أدبارها حتى يعودوا إلى حيث جاؤوا وهو الشام، وحمله على إجلاء بني النضير إلى أريحا، وأذرعات، من الشام، عن ابن زيد،وهذا أضعف الوجوه، لأنه ترك للظاهر.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾:

أ. قيل: أي نخزيهم ونعذبهم عاجلا، عن أبي مسلم.

ب. وقيل: معناه نمسخهم قردة.

5. ﴿كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ يعني الذين اعتدوا في السبت، عن السدي، وقتادة، والحسن، وإنما قال سبحانه: ﴿نَلْعَنَهُمْ﴾ بلفظ الغيبة، وقد تقدم خطابهم لأحد أمرين:

أ. إما للتصرف في الكلام كقوله: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ﴾ فخاطب، ثم قال: ﴿وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ فكنى عنهم.

ب. وإما لأن الضمير عائد إلى أصحاب الوجوه، لأنهم في حكم المذكورين.

6. في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ قولان:

أ. أحدهما: إن كل أمر من أمور الله سبحانه، من وعد، أو وعيد، أو خبر، فإنه يكون على ما أخبر به، عن الجبائي.

ب. والآخر: إن معناه أن الذي يأمر به بقول كن كائن لا محالة.

7. في قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ دلالة على أن لفظة ﴿قَبْلِ﴾ تستعمل في الشيء، أنه قبل غيره، ولم يوجد ذلك لغيره، ولا خلاف في أن استعماله يصح، ولذلك يقال: (كان الله سبحانه قبل خلقه)

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/87.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا﴾ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم دعا قوما من أحبار اليهود، منهم عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد إلى الإسلام، وقال لهم: إنكم لتعلمون أنّ الذي جئت به حقّ، فقالوا: ما نعرف ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.

2. في الذين أوتوا الكتاب قولان:

أ. أحدهما: أنهم اليهود، قاله الجمهور.

ب. الثاني: اليهود والنّصارى، ذكره الماورديّ.

3. على الأوّل يكون الكتاب: التّوراة، وعلى الثاني: التّوراة والإنجيل، والمراد بما نزّلنا: القرآن، وقد سبق في (البقرة) بيان تصديقه لما معهم.

4. في طمس الوجوه في قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه إعماء العيون، قاله ابن عباس، وقتادة، والضّحّاك.

ب. الثاني: أنه طمس ما فيها من عين، وأنف، وحاجب، وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس، واختيار ابن قتيبة.

ج. الثالث: أنه ردّها عن طريق الهدى، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن، ومجاهد، والضّحاك، والسّدّيّ، وقال مقاتل: من قبل أن نطمس وجوها، أي: نحوّل الملّة عن الهدى والبصيرة، فعلى هذا القول يكون ذكر الوجه مجازا، والمراد: البصيرة والقلوب، وعلى القولين قبله يكون المراد بالوجه: العضو المعروف.

5. في قوله تعالى: ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ خمسة أقوال:

أ. أحدها: نصيرها في الأقفاء، ونجعل عيونها في الأقفاء، هذا قول ابن عباس، وعطيّة.

ب. الثاني: نصيّرها كالأقفاء، ليس فيها فم، ولا حاجب، ولا عين، وهذا قول قوم، منهم ابن قتيبة.

ج. الثالث: نجعل الوجه منبتا للشّعر، كالقرود، هذا قول الفرّاء.

د. الرابع: ننفيها مدبرة عن ديارها ومواضعها، وإلى نحوه ذهب ابن زيد، قال ابن جرير: فيكون المعنى: من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها، وناحيتهم التي هم بها نزول، (فنردّها على أدبارها) من حيث جاؤوا بديّا من الشّام.

هـ. الخامس: نردّها في الضّلالة، وهذا قول الحسن، ومجاهد، والضّحّاك، والسّدّيّ، ومقاتل.

6. ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ يعود إلى أصحاب الوجوه، وفي معنى لعن أصحاب السّبت قولان:

أ. أحدهما: مسخهم قردة، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل.

ب. الثاني: طردهم في التّيه حتى هلك فيه أكثرهم، ذكره الماورديّ، قوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ قال ابن جرير: الأمر هاهنا بمعنى المأمور، سمّي باسم الأمر لحدوثه عنه.

__________

(1) زاد المسير: 1/417.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن حكى الله تعالى عن اليهود أنواع مكرهم وإيذائهم أمرهم بالإيمان وقرن بهذا الأمر الوعيد الشديد على الترك.

2. سؤال وإشكال: لقائل أن يقول: كان يجب أن يأمرهم بالنظر والتفكر في الدلائل الدالة على صحة نبوته، حتى يكون إيمانهم استدلاليا، فلما أمرهم بذلك الايمان ابتداء فكأنه تعالى أمرهم بالإيمان على سبيل التقليد، والجواب: أن هذا الخطاب مختص بالذين أوتوا الكتاب، وهذا صفة من كان عالما بجميع التوراة، ألا ترى أنه قال في الآية الأولى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ [النساء: 44] ولم يقل: ألم تر إلى الذين أوتوا الكتاب، لأنهم ما كانوا عالمين بكل ما في التوراة، ومن كان كذلك فإنه يكون عالما بالدلائل الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن التوراة كانت مشتملة على تلك الدلائل، ولهذا قال تعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ أي مصدقا للآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وإذا كان العلم حاصلا كان ذلك الكفر محض العناد، فلا جرم حسن منه تعالى أن يأمرهم بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم جزما، وأن يقرن الوعيد الشديد بذلك.

3. الطمس: المحو، تقول العرب في وصف المفازة، إنها طامسة الأعلام وطمس الطريق وطمس إذا درس، وقد طمس الله على بصره إذا أزاله وأبطله، وطمست الريح الأثر إذا محته، وطمست الكتاب محوته، وذكروا في الطمس المذكور في هذه الآية قولين:

أ. أحدهما: حمل اللفظ على حقيقته وهو طمس الوجوه.. والمراد من طمس الوجوه محو تخطيط صورها، فان الوجه إنما يتميز عن سائر الأعضاء بما فيه من الحواس، فإذا أزيلت ومحيت كان ذلك طمسا، ومعنى قوله: ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ رد الوجوه‏ إلى ناحية القفا، وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة، لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة، فان هذا الوعيد مختص بيوم القيامة على ما سنقيم الدلالة عليه، ومما يقرره قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾ [الانشقاق: 10] فإنه إذا ردت الوجوه إلى القفا أوتوا الكتاب من وراء ظهورهم، لأن في تلك الجهة العيون والأفواه التي بها يدرك الكتاب ويقرأ باللسان.

ب. الثاني: حمل اللفظ على مجازه.. وذكروا فيه وجوها:

الأول: قال الحسن: المراد نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها، أي على ضلالتها، والمقصود بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات، ونظيره قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ [الأنفال: 24] وتحقيق القول فيه أن الإنسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس، ثم عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات، فقد أمه عالم المعقولات، ووراءه عالم المحسوسات فالمخذول هو الذي يرد من قدامه إلى خلفه كما قال تعالى في صفتهم: ﴿ناكسورؤوسهم‏﴾ [السجدة: 12]

الثاني: يحتمل أن يكون المراد بالطمس القلب والتغيير، وبالوجوه: رؤساؤهم ووجهاؤهم، والمعنى من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب منهم الإقبال والوجاهة ونكسوهم الصغار والأدبار والمذلة.

الثالث: قال عبد الرحمن بن زيد: هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى، وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام، فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام، كما جاؤوا منها بدءا.

4. طمس الوجوه على التأويل الثاني يحتمل معنيين:

أ. أحدهما: تقبيح صورتهم يقال: طمس الله صورته كقوله: قبح الله وجهه.

ب. الثاني: إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها.

5. سؤال وإشكال: إنه تعالى هددهم بطمس الوجوه على القول الثاني فلا إشكال ألبتة، وان فسرناه على القول الأول وهو حمله على ظاهره، والجواب: من وجوه:

أ. الأول: أنه تعالى ما جعل الوعيد هو الطمس بعينه، بل جعل الوعيد إما الطمس أو اللعن فإنه قال: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ وقد فعل أحدهما وهو اللعن وهو قوله: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ وظاهره ليس هو المسخ.

ب. الثاني: قوله تعالى: ﴿آمَنُوا﴾ تكليف متوجه عليهم في جميع مدة حياتهم، فلزم أن يكون قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ واقعا في الآخرة، فصار التقدير: آمنوا من قبل أن يجيء وقت نطمس فيه وجوهكم وهو ما بعد الموت.

ج. الثالث: أنا قد بينا أن قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ خطاب مع جميع علمائهم، فكان التهديد بهذا الطمس مشروطا بأن لا يأتي أحد منهم بالإيمان، وهذا الشرط لم يوجد لأنه آمن عبد الله بن سلام وجمع كثير من أصحابه، ففات المشروط بفوات الشرط، ويقال: لما نزلت هذه الآية أتى عبد الله بن سلام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يأتي أهله فأسلم، وقال: يا رسول الله كنت أرى أن لا أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي.

د. الرابع: أنه تعالى لم يقل: من قبل أن نطمس وجوهكم، بل قال: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ وعندنا أنه لا بد من طمس في اليهود أو مسخ قبل قيام الساعة، ومما يدل على أن المراد ليس طمس وجوههم بأعيا بهم، بل طمس وجوه غيرهم من أبناء جنسهم قوله: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ فذكرهم على سبيل المغايبة، ولو كان المراد أولئك المخاطبين لذكرهم على سبيل الخطاب، وحمل الآية على طريقة الالتفات وإن كان جائزا إلا أن الأظهر ما ذكرناه.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾:

أ. قال مقاتل وغيره: نمسخهم قردة كما فعلنا ذلك بأوائلهم.

ب. وقال أكثر المحققين: الأظهر حمل الآية على اللعن المتعارف، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾ [المائدة: 60] ففصل تعالى هاهنا بين اللعن وبين مسخهم قردة وخنازير.

7. سؤال وإشكال: الى من يرجع الضمير في قوله: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾؟ والجواب: الى الوجوه إن أريد الوجهاء أو لأصحاب الوجوه، لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم، أو يرجع إلى الذين أوتوا على طريقة الالتفات.

8. سؤال وإشكال: قد كان اللعن والطمس حاصلين قبل الوعيد على الفعل فلا بد وأن يتحدا، والجواب: أن لعنه تعالى لهم من بعد هذا الوعيد يكون أزيد تأثيرا في الخزي فيصح ذلك فيه.

9. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ خطاب مشافهة، وقوله: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ خطاب مغايبة، فكيف يليق أحدهما بالآخر؟ والجواب: منهم من حمل ذلك على طريقة الالتفات كما في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ [يونس: 22] ومنهم من قال هذا تنبيه على أن التهديد حاصل في غيرهم ممن يكذبون من أبناء جنسهم، وعندي فيه احتمال آخر: وهو أن اللعن هو الطرد والابعاد، وذكر البعيد لا يكون إلا بالمغايبة، فلما لعنهم ذكرهم بعبارة الغيبة.

10. ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ قال ابن عباس: يريد لا راد لحكمه ولا ناقض لأمره، على معنى أنه لا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله، كما تقول في الشيء الذي لا شك في حصوله: هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد، وإنما قال: وكان) إخبارا عن جريان عادة الله في الأنبياء المتقدمين أنه مهما أخبرهم بانزال العذاب عليهم فعل ذلك لا محالة، فكأنه قيل لهم: أنتم تعلمون أنه كان تهديد الله في الأمم السالفة واقعا لا محالة، فاحترزوا الآن وكونوا على حذر من هذا الوعيد.

11. احتج الجبائي بهذه الآية على أن كلام الله محدث فقال: قوله: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ يقتضي أن أمره مفعول، والمخلوق والمصنوع والمفعول واحد، فدل هذا على أن أمر الله مخلوق مصنوع، وهذا في غاية السقوط لأن الأمر في اللغة جاء بمعنى الشأن والطريقة والفعل قال تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ [هود: 97] والمراد هاهنا ذاك.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 10/96.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا﴾ قال ابن إسحاق: كلم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رؤساء من أحبار يهود منهم عبد الله بن صوريا الأعور وكعب بن أسد فقال لهم: (يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق) قالوا: ما نعرف ذلك يا محمد، وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر، فأنزل الله تعالى فيهم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ إلى آخر الآية.

2. ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ نصب على الحال، ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ الطمس استئصال أثر الشيء، ومنه قوله تعالى: ﴿فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ﴾، ونطمس ونطمس بكسر الميم وضمها في المستقبل لغتان، ويقال في الكلام: طسم يطسم ويطسم بمعنى طمس، يقال: طمس الأثر وطسم أي امحى، كله لغات، ومنه قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾ أي أهلكها، عن ابن عرفة، ويقال: طمسته فطمس لازم ومتعد، وطمس الله بصره، وهو مطموس البصر إذا ذهب أثر العين، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ﴾ يقول أعميناهم.

3. اختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية، هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين، أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق؟ قولان، روي عن أبي بن كعب أنه قال: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ﴾ من قبل أن نضلكم إضلالا لا تهتدون بعده، يذهب إلى أنه تمثيل وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة، وقال قتادة: معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء، أي يذهب بالأنف والشفاه والأعين والحواجب، هذا معناه عند أهل اللغة، وروي عن ابن عباس وعطية العوفي: أن الطمس أن تزال العينان خاصة وترد في القفا، فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشي القهقرى، وقال مالك رحمه الله: كان أول إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا﴾ فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه وقال: والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي، وكذلك فعل عبد الله بن سلام، لما نزلت هذه الآية وسمعها أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال: يا رسول الله، ما كنت أدرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي، فإن قيل: كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم، فقيل: إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين، وقال المبرد: الوعيد باق منتظر، وقال: لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة.

4. ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ أي أصحاب الوجوه ﴿كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ أي نمسخهم قردة وخنازير، عن الحسن وقتادة، وقيل: هو خروج من الخطاب إلى الغيبة.

5. ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا﴾ أي كائنا موجودا، ويراد بالأمر المأمور فهو مصدر وقع موقع المفعول، فالمعنى أنه متى أراده أوجده، وقيل: معناه أن كل أمر أخبر بكونه فهو كائن على ما أخبر به.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/245.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ ذكر سبحانه أوّلا أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، وهنا ذكر أنهم أوتوا الكتاب، والمراد: أنهم أوتوا نصيبا منه، لأنهم لم يعملوا بجميع ما فيه، بل حرّفوا وبدّلوا، ﴿مُصَدِّقًا﴾ منتصب على الحال.

2. الطمس: استئصال أثر الشيء، ومنه‏ ﴿فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ﴾ يقال: نطمس بكسر الميم وضمها: لغتان في المستقبل، ويقال: طمس الأثر، أي: محاه كله، ومنه‏ ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾ أي: أهلكها ويقال: هو مطموس البصر، ومنه‏ ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ﴾ أي: أعميناهم، واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية هل هو حقيقة؟ فيجعل الوجه كالقفا، فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين؛ أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق؟ فذهب إلى الأوّل طائفة، وذهب إلى الآخر آخرون، وعلى الأوّل فالمراد بقوله: ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ نجعلها قفا، أي: نذهب بآثار الوجه، وتخطيطه، حتى يصير على هيئة القفا؛ وقيل: إنه بعد الطمس يردّها إلى موضع القفا، والقفا إلى مواضعها، وهذا هو ألصق بالمعنى الذي يفيده قوله: ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ فإن قيل: كيف جاز أن يهدّدهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم؟ فقيل: إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين، وقال المبرد: الوعيد باق منتظر، وقال: لا بدّ من طمس في اليهود، ومسخ قبل يوم القيامة.

3. ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ الضمير عائد إلى أصحاب الوجوه، قيل: المراد باللعن هنا المسخ لأجل تشبيهه بلعن أصحاب السبت، وكان لعن أصحاب السبت مسخهم قردة وخنازير؛ وقيل: المراد نفس اللعنة وهم ملعونون بكل لسان، والمراد وقوع أحد الأمرين: إما الطمس، أو اللعن، وقد وقع اللعن، ولكنه يقوّي الأوّل تشبيه هذا اللعن بلعن أهل السبت.

4. ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ أي: كائنا موجودا لا محالة، أو يراد بالأمر المأمور، والمعنى: أنه متى أراده كان، كقوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/549.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا﴾ أي: القرآن ﴿مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم﴾ من التوراة والإنجيل ﴿مِن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ﴾ في الدُّنيا والآخرة ﴿وُجُوهًا﴾ بمحو ما فيها من حواجب وعيون وأنوف وأفواه، فتكون كالقفا، لا أنف ولا فم ولا عين ولا حاجب، فقوله: ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ﴾ بيان للإجمال، قيل: أي: نصيِّرها على صورة الأقفاء، أو المعنى: نجعل الوجوه مكان الأقفاء، والأقفاء مكان الوجوه، وفي كلٍّ من ذلك تشويه عظيم يوجب الغمَّ الشديد، والأوَّل أشدُّ، أو المعنى: من قبل أن نزيل عزَّتها ووجاهتها ونكسوها الذلَّ والإدبار، أو من قبل أن نقبِّحها، أو من قبل أن نردَّها إلى حيث كانت، وهو أريحا وأدرعات من الشام، إذ كانوا فيها قديمًا فجاؤوا إلى الحجاز، وقد لحقهم ذلك إذ أجلى النضير إلى الشام، فطمس آثارهم من الحجاز وبلاد العرب، أو من قبل أن نغيِّر أحوالهم بالطبع على قلوبهم إلى الضلال، أو من قبل أن نُذِلَّ رؤساءهم، ولَمَّا دخل عمر الشام في خلافته قرأ قارئ هذه الآية ليلاً، فسمعها كعب الأحبار وقد جاء من اليمن يريد بيت المقدس، فبادر إلى عمر صبحًا وهو في حمص، سافر إليها من المدينة فأسلم، أو جدَّد إسلامًا له سابقًا ضعيفًا، وقال: (بتُّ خائفًا أن أُطمس أو أمسخ)، كما قال الله جلَّ وعلا، وقد قيل: رجع إلى أهله باليمن فجاءهم، وأسلموا قبل وصول بيت المقدس.

2. ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ نخزي أصحاب الوجوه المدلول عليهم بالوجه، أو نخزي الوجوه، أي: الرؤساء، أو نخزي الذين أوتوا الكتاب، التفاتًا من الخطاب إلى الغيبة، وذلك الخزي بالمسخ قردة وخنازير، ﴿كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ بالمسخ، وكذلك روي أنَّه لَمَّا نزلت وسمعها عبد الله بن سلَام قادمًا من الشام بادر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يأتي أهله في المدينة، وقال: (يا رسول الله، ما كنت أرى أن أصل إليك حتَّى يتحوَّل وجهي في قفاي)، أو: نلعنهم على لسانك كما لعنَّا أصحاب السبت على لسان داود عليه السلام ، وهو أظهر، لقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلُ انَبِّـئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَالِكَ مَثُوبَةً﴾ الآية، فجمع بين اللعن والمسخ، فتبيَّن أنَّه غير المسخ، وعلى التفسير بالمسخ فشرطه عدم الإيمان، وقد آمن عبد الله بن سلام وأصحابه فلم يكن مسخ، رفع الله المسخ بإيمان البعض، كما يردُّ الله العذابَ عن قومٍ لرجلٍ فيهم أو لأطفالِ المحاضر، أو المراد أنهم استحقُّوا الطمس، لا وعيد به، فلم يتخلَّف وعيد، وقيل: سيكون المسخ، وهو بعيد؛ لأنَّ الذين باشروا الكفر على عهده صلّى الله عليه وآله وسلّم أحقُّ به، وأجيب بأنَّ عادة الله الانتقام من أخلاف اليهود بما فعلوا من اتِّبَاع أسلافهم، قال المبرِّد: (لَا بُدَّ من طمس ومسخ في اليهود قبل قيام الساعة)

3. ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللهِ﴾ قضاؤه كلُّه ﴿مَفْعُولاً﴾ لا يبطل ولا يتبدَّل ولا يتغيَّر.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/197.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا﴾ يعني القرآن‏ ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ أي موافقا للتوراة ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم، وقال العوفيّ عن ابن عباس: طمسها أن تعمى‏ ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ أي فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها جزاء على الكفر، فالفاء للتسبيب، أو ننكسها بعد الطمس فنردها إلى موضع الأقفاء والأقفاء إلى موضعها، وقد اكتفى بذكر أشدهما، فالفاء للتعقيب، قال الرازيّ: وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة، لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة.

2. ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ أي: أو نفعل بهم أبلغ من ذلك، وهو أن نطردهم عن الإنسانية بالمسخ الكليّ جزاء على اعتدائهم بترك الإيمان، كما أخزينا به أوائلهم أصحاب السبت جزاء على اعتدائهم على السبت بالحيلة على الاصطياد، فمسخناهم قردة، ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ أي ما أمر به‏ ﴿مَفْعُولًا﴾ أي نافذا كائنا لا محالة.

3. هذا وفي الآية تأويل آخر، وهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه، وهو صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلالة، يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم، قال ابن كثير: وهذا كما قال بعضهم في قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: 8 ـ 9]: أي هذا مثل سوء ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى، قال مجاهد: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾، يقول: عن صراط الحق، ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ أي في الضلال، قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس والحسن نحو هذا، قال السديّ: فنردّها على أدبارها: فنمنعها عن الحق، نرجعها كفارا، قال الرازيّ: والمقصود على هذا بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات، ونظيره قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: 24]، تحقيق القول فيه أن الإنسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس، ثم إنه عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات، فقدامه عالم المعقولات، ووراءه عالم المحسوسات، فالمخذول هو الذي يرد عن قدامه إلى خلفه، كما قال تعالى في صفتهم: ﴿ناكسو رؤوسهم‏﴾ [السجدة: 12]

4. ثم قال الرازيّ: قال عبد الرحمن بن زيد: هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى، وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام، فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وأريحاء، من أرض الشام، كما جاؤوا منها و(طمس الوجوه) على هذا التأويل يحتمل معنيين:

أ. أحدهما: تقبيح صورتهم، يقال: طمس الله صورته، كقوله: قبح الله وجهه.

ب. الثاني: إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها.

ج. وثمة تأويل آخر، وهو: أن المراد بالوجوه الوجهاء، على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير، أي من قبل أن نغيّر أحوال وجهائهم، فنسلب إقبالهم ووجاهتهم، ونكسوهم صغارا وإدبارا.

5. قال بعضهم: الأظهر حمل قوله: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾.. على اللعن المتعارف، قال ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾ [المائدة: 60]، ففصل تعالى بين اللعن وبين مسخهم قردة وخنازير.

6. لا يخفى أن جميع ما ذكر من التأويلات، غير الأول، لا يساعده مقام تشديد الوعيد، وتعميم التهديد، فإن المتبادر من اللفظ الحقيقة، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر إرادتها، ولا تعذر هنا، كما أن المتبادر من اللعن، المشبه بلعن أصحاب السبت، هو المسخ، وهو الذي تقتضيه بلاغة التنزيل، إذ فيه الترقي إلى الوعيد الأفظع، ولا ننكر أن تكون هذه التأويلات مما يشمله لفظ الآية، وإنما البحث في دعوى إرادتها دون سابقها، فالحق أن المتبادر من النظم الكريم هو الأول لأنه أدخل في الزجر، ويؤيده ما روي، أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ولفظه بعد إسناده: عن أبي إدريس عائذ الله الخولانيّ قال كان أبو مسلم الجليليّ معلم كعب، وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال فبعثه إليه ينظر أهو هو؟ قال كعب: فركبت حتى أتيت المدينة، فإذا تال يقرأ القرآن، يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾، فاغتسلت، وإني لأمسّ وجهي مخافة أن أطمس، ثم أسلمت، وروى، من غير طريق، نحوه أيضا.

7. سؤال وإشكال: قرينة المجاز عدم وقوع المتوعد به، والجواب: أن عدم وقوعه لا يعين إرادة المجاز، إذ ليس في الآية دلالة على تحتم وقوعه إن لم يؤمنوا، ولو فهم منها هذا فهما أوليّا لكان إيمانهم بعدها إيمان إلجاء واضطرار، وهو ينافي التكليف الشرعيّ، إذ لم تجر سنته تعالى بهذا، بل النظم الكريم في هذا المقام محتمل ابتداء للقطع بوقوع المتوعد به، ولوقوعه معلقا بأمره تعالى ومشيئته بذلك، وهو المراد، كما ينبئ عنه قوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ [الأحزاب: 37]: أي ما يأمر به، ويريد وقوعه، وإذا كان الوعيد منوطا بأمره سبحانه، فله أن يمضيه على حقيقته وله أن يصرفه لما هو أعلم به، إلا أن ورود نظم الآية بهذا الخطاب المتبادر في الوقوع غير المعلق، ليكون أدخل في الترهيب، ومزجرة عن مخالفة الأمر، هكذا ظهر لنا الآن، وهو أقرب مما نحاه المفسرون هنا من أن العقاب منتظر، أو، أنه مشروط بعدم الإيمان، إلى غير ذلك، فقد زيفها جميعها العلامة أبو السعود، ثم اختار أن المراد من الوعيد الأخرويّ، قال لأنه لم يتضح وقوعه، وهذا فيه بعد أيضا، لنبوّ مثل هذا الخطاب عن إرادة الوعيد الأخرويّ، لا سيما والجملة الثانية التي هددوا بها، أعني لعنهم كأصحاب السبت، كان عقابها دنيويّا، فالوجه ما قررناه، وما أشبه هذه الآية، في وعيديها، بآية يس، أعني قوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ﴾ [يس: 66 ـ 67]، بل هذه عندي تفسير لتلك، والقرآن يفسر بعضه بعضا، فبرح الخفاء والحمد لله.

8. الضمير في (نلعنهم) لأصحاب الوجوه: أو (للذين) على طريقة الالتفات أو (للوجوه) إن أريد بها الوجهاء.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/144.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. خاطبهم في هذه الآية بالذين أوتوا الكتاب كما تقدم آنفا في تفسير أوتوا نصيبا من الكتاب فذاك نعي عليهم بما أضاعوا وحرفوا، وهذا إلزام لهم بما حفظوا وعرفوا، يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ الإلهي أي جنسه على ألسنة أنبيائهم أو التوراة خاصة.

2. ﴿آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ منه من تقرير التوحيد الخالص واتقاء الشرك كله صغيره وكبيره وإثبات النبوة والرسالة وما يغذي ذلك الإيمان ويقويه من ترك الفواحش والمنكرات وعمل الصالحات أي مصدقا لما معكم من أصول الدين وأركانه التي هي المقصد من إرسال جميع الرسل لا يختلفون فيها وإنما يختلفون في طرق حمل الناس عليها وهدايتهم بها وترقيتهم في معارجها بحسب سنة الله في ارتقاء البشر بالتدريج جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن كما أن العدل هو المقصد من جميع الحكومات وإنما تختلف الدول في القوانين المقررة له باختلاف أحوال الأمم، فليس من العقل ولا الصواب أن تنكر الأمة تغيير حاكم جديد لبعض ما كان عليه من قبله إذا كان يوافقه في جعله مقررا للعدل مقيما لميزانه بين الناس كما كان أو أكمل، وفي هذه الحال يسمى مصدقا لما قبله لا مكذبا ولا مخالفا، فالقرآن قرر نبوة موسى وداود وسليمان وعيسى وصدّقهم فيما جاؤوا به عن الله تعالى ووبخ الأقوام المدعين لأتباعهم على إضاعتهم لبعض ما جاؤوا به وتحريفهم للبعض الآخر، وعلى عدم الاهتداء والعمل بما هو محفوظ عندهم، حتى أن أكثرهم هدموا الأساس الأعظم للدين وهو التوحيد فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا كما سيأتي في سورة التوبة ويذكر أيضا في تفسير الآية الآتية فتصديق القرآن لما معهم لا ينافي ما نعاه عليهم من الإضاعة والنسيان والتحريف والتفريط.

3. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ أي آمنوا من قبل أن ننزل بكم هذا العقاب وهو طمس الوجوه وردها على أدبارها، فالطمس في اللغة هو إزالة الأثر بمحوه أو إخفائه كما تطمس آثار الدار وأعلام الطرق بنقل حجارتها أو بالرمال تسفوها الرياح عليها ومنه: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾ [يونس: 10] أي أزلها وأهلكها والطمس على الأعين في قوله: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ﴾ [يس: 66] يصدق بإزالة نورها وبغؤورها ومحو حدقتها وكذلك طمس النجوم، والوجه يطلق على وجه البدن ووجه النفس وهو ما تتوجه إليه من المقاصد ومنه ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ﴾ [آل عمران: 20] وقوله: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [لقمان: 31] وقوله: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ [الروم: 30] والأدبار جمع دبر) بضمتين) وهو الخلف والقفا، والارتداد على الأدبار هو الرجوع إلى الوراء يستعمل في الحسيات والمعنويات فمن الأول الارتداد على الأدبار في القتال وهو الفرار منه ومن الثاني: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: 25] فظاهر معنى العبارة هنا: آمنوا بما نزّلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم إليها في كيد الإسلام ونردها خاسئة خاسرة إلى الوراء بإظهار الإسلام ونصره عليكم وفضيحتكم فيما تأتونه باسم الدين والعلم الذي جاء به الأنبياء، وقد كان لهم عند نزول الآية شيء من المكانة والمعرفة والقوة.

4. هذا ما نفسرها به على جعل الطمس والردّ على الأدبار معنويين وبه قال مجاهد ولكن أوجز فقال: نطمس وجوها عن الصراط الحق فنردها على أدبارها في الضلالة، وقال السدي: نزلت في مالك بن الصيف ورفاعة بن زيد بن التابوت من بني قينقاع قال ومعناه فنعميها عن الحق ونرجعها كفارا، وقال الضحاك يعني أن نردهم عن الهدى والبصيرة فقد ردهم على أدبارهم فكفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وما جاء به، وظاهر كلام هؤلاء أن المخاطبين بهذه الآية هم الذين كانوا على ما يعتقدون أنه الحق من التوراة وإنهم كانوا معذورين عند الله فيما هم عليه كأنهم الذين قال فيهم ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف: 159] فحذّرهم من إرجاء الإيمان والتسويف به أن يطول عليهم العهد فيصعب عليهم الإيمان ويضعف استعدادهم لقبوله بتعلق قومهم بهم وغرورهم بجاههم فيهم، وجعل ذلك بعضهم حسيا ظاهريا فقال المعنى نطمس آثارهم من الحجاز ونردّهم على أدبارهم بالجلاء إلى فلسطين والشام وهي بلادهم التي جاؤوا الحجاز منها ورواه ابن زيد عن أبيه، وروي عن ابن عباس أن المراد جعل وجوههم في أقفيتهم وفهم من رواه عنه أنه تهديد بالمسخ وقالوا إنه يكون في آخر الزمان أو في الآخرة أو هو مقيد بعدم إيمان أحد من أولئك المخاطبين وقد آمن بعضهم.

5. والوجه الذي قررناه أولا هو الذي اختاره محمد عبده في الدرس فقال: طمس الوجه أن يعرض له ما يغطيه فيمنع صاحبه أن يتوجه إلى مقصده ومتى بطل التوجه الصحيح إلى المقصد امتنع السعي إليه المؤدي إلى الوصول وذلك هو الخذلان والخيبة، أي آمنوا قبل أن نعمي عليكم السبيل بما نبصر المؤمنين بشؤونكم ونغريهم بكم فتردون على أدباركم بأن يكون سعيكم إلى غير خيركم، وأورد الرازي وجوها أخرى منها أن المراد بالوجوه الوجهاء الرؤساء أي قبل أن نزيل وجاهتهم وعزهم، ومنها أن المراد بطمس الوجوه تقبيح صورتها كما يقال طمس الله وجهه وقبّح الله وجهه بمعنى تقبيح صورتها، يعني أن ذلك يكون بما يلاقونه من الذل والكآبة عندما يغلبون على أمرهم.

6. ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ قال بعضهم إنه هدّدهم بالطمس أو اللعن وهو الطرد وأما من جعله بمعنى الخذلان أو الإخراج من المدينة وجوارها إلى الشام فيقول إن الأول قد حصل حتما ولا نزاع في ذلك، وقال محمد عبده: ورد في أهل السبت أن الله أهلكهم فمعنى اللعنة هنا الإهلاك بقرينة التشبيه وبه صرح أبو مسلم ويحتمل أن يكون معنى اللعن هنا عذاب الآخرة والمعنى آمنوا قبل أن تقعوا في إحدى الهاويتين الخيبة والخذلان وفساد الأمر وذهاب العزة باستيلاء المؤمنين عليكم وقد كان ذلك في طائفة منهم أجلوا من ديارهم وخذلوا في كل أمرهم أو الهلاك وقد وقع بقتل طائفة أخرى وهلاكها: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ أي واقعا أي شأنه أن يفعل حتما والمراد هنا أمر التكوين المعبر عنه بقوله عز وجل: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/144.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الطمس: إزالة الأثر بمحوه أو إخفائه كما تطمس آثار الدار وأعلام الطرق، إما بأن تنقل حجارتها، وإما بأن تسفوها الرياح، ومنه الطمس على الأموال في قوله: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾ أي أزلها وأهلكها، والطمس على‏ الأعين في قوله: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ﴾ إما إزالة نورها وإما محو حدقتها.

2. الوجه تارة يراد به الوجه المعروف، وتارة وجه النفس وهو ما تتوجه إليه من المقاصد كما قال تعالى‏ ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ﴾ وقال: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ﴾ وقال: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾

3. الأدبار واحدها دبر، وهو الخلف والقفا، والارتداد: هو الرجوع إلى الوراء، إما في الحسيات وإما في المعاني، ومن الأول الارتداد والفرار في القتال، ومن الثاني قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾

4. بعد أن نعى الله تعالى على أهل الكتاب في الآية السالفة اشتراءهم الضلالة بالهدى بتحريفهم بعض الكتاب وإضاعة بعضه الآخر: ألزمهم هنا بالعمل بما عرفوا وحفظوا بأن يؤمنوا بالقرآن، ذلك أن إيمانهم بالتوراة يستدعى الإيمان بما يصدّقها، وحذّرهم من مخالفة ذلك، وتوعدهم بالويل والثبور، وعظائم الأمور.

5. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ أي أيها اليهود والنصارى آمنوا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معكم، من تقرير التوحيد والابتعاد عن الشرك، وما يقوّى ذلك الإيمان من ترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتلك هي أصول الدين وأركانه، والمقصد الاسمى من إرسال جميع الرسل، ولا خلاف بينهم في ذلك، وإنما الخلاف في التفاصيل وطرق حمل الناس عليها، وهدايتهم بها، وترقيتهم في معارج الفلاح بحسب السنن التي وضعها الله في ارتقاء البشر، بتعاقب الأجيال، واختلاف الأزمان.

6. انظر إلى الحكومات المختلفة المتعاقبة تجد أن رائدها العدل، ولكن الوسائل الموصلة إليه تختلف باختلاف الأمم والبيئة والزمان والمكان، فتغيير الحاكم الجديد لبعض ما كان عليه من قبله ليس ببدع ولا مستنكر إذا كان مقصده إقامة ميزان العدل فيما بين الناس، وحينئذ يسمى مصدقا لما قبله، لا مكذبا ولا مخالفا.

7. والقرآن قرر نبوة داود وسليمان وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام فيما جاؤوا به ووبّخ المدعين اتباعهم على إضاعتهم بعض ما جاؤوا به وتحريف بعضه الآخر، وعلى عدم الاهتداء والعمل بما هو محفوظ عندهم، حتى إن أكثرهم هدموا الأسس التي جاء بها الأنبياء، ومن أعظمها التوحيد، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا.

8. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ أي آمنوا قبل أن يحل بكم العقاب من طمس الوجوه والرد على الأدبار: أي من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم بها من كيد الإسلام، ونردها خاسرة إلى الوراء بإظهار الإسلام ونصره عليكم، وقد كان لهم عند نزول الآية شيء من المكانة والقوة والعلم والمعرفة، وجعل بعضهم الرد على الأدبار حسيا فقال: نردهم على أدبارهم بالجلاء إلى فلسطين والشام، وهى بلادهم التي جاؤوا منها، وخلاصة المعنى ـ آمنوا قبل أن نعمّى عليكم السبيل بما نبصّر المؤمنين بشئونكم ونغريهم بكم، فتردّوا على أدباركم بأن يكون سعيكم إلى غير الخير لكم.

9. ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ أي آمنوا قبل أن تقعوا في الخيبة والخذلان وذهاب العزة باستيلاء المؤمنين عليكم وإجلائكم من دياركم كما حدث لطائفة منكم، أو بالهلاك كما وقع بقتل طائفة أخرى وهلاكها.

10. ثم هددهم وتوعدهم فقال: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ المراد من الأمر الأمر التكوينىّ المعبر عنه بقوله عزّ من قائل‏ ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي إنما أمره بإيقاع شيء ما نافذ لا محالة، ومن هذا ما أوعدتم به، قال ابن عباس: يريد لا رادّ لحكمه ولا ناقض لأمره، فلا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله، كما تقول في الشيء الذي لا شك في حصوله: هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد، والخلاصة ـ إنه يقول لهم: أنتم تعلمون أن وعيد الله للأمم السالفة قد وقع ولا محالة، فاحترسوا وكونوا على حذر من وعيده لكم.

__________

(1) تفسير المراغى: 5/55.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾، فهم أوتوا الكتاب، فليس غريبا عليهم هذا الهدى، والله الذي آتاهم الكتاب هو الذي يدعوهم إلى الإيمان بما أنزل مصدقا لما معهم، فليس غريبا عليهم كذلك، وهو مصدق لما معهم، ولو كان الإيمان بالبينة، أو بالأسباب الظاهرة، لآمنت يهود أول من آمن، ولكن يهود كانت لها مصالح ومطامح، وكانت لها أحقاد وعناد، وكانت هي بطبعها منحرفة صلبة الرقبة.. كما تعبر عنهم التوراة بأنهم: (شعب صلب الرقبة!)، ومن ثم لم تؤمن، ومن ثم يجيئها التهديد العنيف القاسي: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾

2. وطمس الوجوه إزالة معالمها المميزة لآدميتها؛ وردها على أدبارها، دفعها لأن تمشي القهقرى.. وقد يكون المقصود هو التهديد بمعناه المادي؛ الذي يفقدهم آدميتهم ويردهم يمشون على أدبارهم؛ ويكون كذلك اللعن الذي أصاب أصحاب السبت (وهم الذين احتالوا على صيد السمك يوم السبت، وهو محرم عليهم في شريعتهم) هو مسخهم بالفعل قردة وخنازير.. كما قد يكون المقصود طمس معالم الهدى والبصيرة في نفوسهم، وردهم إلى كفرهم وجاهليتهم، قبل أن يؤتيهم الله الكتاب، والكفر بعد الإيمان، والهدى بعد الضلال، طمس للوجوه والبصائر، وارتداد على الأدبار دونه كل ارتداد.

3. وسواء كان هذا هو المقصود أو ذاك.. فهو التهديد الرعيب العنيف؛ الذي يليق بطبيعة يهود الجاسية الغليظة؛ كما يليق بفعالهم اللئيمة الخبيثة! وقد كان ممن ارتدع بهذا التهديد: كعب الأحبار فأسلم.

4. والتعقيب على هذا التهديد: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾، فيه توكيد للتهديد، يناسب كذلك طبيعة اليهود! ثم يجيء تعقيب يتضمن تهديدا آخر في الآخرة، تهديدا بعدم المغفرة لجريمة الشرك، مع فتح أبواب الرحمة الإلهية كلها لما دون ذلك من الذنوب:

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/677.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن فضح الله اليهود، الذين أوتوا الكتاب، فمكروا بآيات الله، بما حرّفوا وبدّلوا فيهـ دعاهم الله إلى ترك ما هم فيه من ضلال وزيغ، وأن يؤمنوا بالله وبالكتاب الذي في أيديهم إيمانا خالصا، فإنهم إن فعلوا ذلك‏ لم يكن بينهم وبين الإيمان بالكتاب الذي نزله الله على (محمد) حجاز يفصل بينهم وبين الإيمان بهذا الكتاب.. لأنه من عند الله، كما أن كتابهم من عند الله، وهو مصدق لما معهم فيما جاء به من شرائع وأحكام، فإذا آمنوا بكتابهم، ولم يؤمنوا بالكتاب الذي نزل على محمد، فهم غير مؤمنين، لأن الكتابين في حكم كتاب واحد.. والإيمان بأحد الكتابين والكفر بالآخر ينقض هذا الإيمان.. وقد أنكر الله عليهم دعوى الإيمان التي يدّعونها، حين يقولون، إنهم على كتابهم الذي في أيديهم.. فقال تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾، وقال سبحانه وتعالى فيهم أيضا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ وفيهم يقول سبحانه وتعالى أيضا: ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَالْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾

2. في قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ وعيد لليهود، ونذير راصد لهم باللعنة من عند الله، إن لم يؤمنوا بمحمد، وبما أنزل الله عليه، وهذه اللعنة حين تقع عليهم، فإنها لا تبقى على شيء من آدميتهم.. بل إنها ستقلب كيانهم البشرى، وتحيلهم خلقا آخر، يكون مثلة، بين المخلوقات، فإذا كان كل مخلوق له وجه وظهر، فهؤلاء سيكون وجههم وظهرهم سواء! وانظر إلى إنسان استدارت رأسه، فكان الوجه من خلف، والقفا من أمام! كيف تبدو صورته؟ وكيف يستقيم حاله؟ وكيف يمشى إذا أراد المشي؟ وكيف يأكل إذا أراد الأكل؟ بل كيف ينام إذا أراد أن ينام؟ ما أشقى مثل هذا الكائن الذي تخالفت أعضاؤه، وتضاربت جوارحه!

3. وهذه العقوبة هي الجزاء الوفاق لما ارتكبوا من جرائم وآثام، إنهم أعطوا الناس وجها، وعاشوا فيما بينهم وبين أنفسهم بوجه.. والوجه الذي تعاملوا به مع الناس هو هذا الوجه الظاهر الذي يراهم الناس عليه، أما الوجه الآخر، فقد أخفوا أمره عن الناس، وحجبوه عن أن يواجهوهم به ـ فكان أن توعدهم الله بكشف هذا الوجه المنافق، وفضحه للناس، فلا يبقى لهم إلا هذا الوجه الذي جعلوه وراءهم، في هذا الوضع المقلوب! هذا هو الجزاء الذي ينتظرهم، إن لم يستقيموا على طريق الحق، ويؤمنوا كما آمن الناس، إيمانا خالصا من النفاق!

4. فإن لم يكن في هذا الجزاء ما يردعهم، ويردّ إليهم شارد عقولهم.. فهناك جزاء آخر أقسى وأشد.. وإنه لجزاء يعرفونه في آبائهم وأجدادهم، الذين اعتدوا في السبت، فمسخهم الله، وجعلهم قردة في أجساد بشر! أو بشرا في طباع قردة! وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾

5. وقوله تعالى: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ هو نذير بالعقوبة الثانية، بعد النذير بالعقوبة الأولى، وما أصاب أصحاب السبت معروف لهم! فما ذا ينتظرون بعد هذا؟ أيظنون أن الله مخلف وعيده لهم.. لأنهم ـ كما زعموا ـ أبناء الله وأحباؤه؟ وكيف وقد وقع هذا العقاب بآبائهم، وأخذهم الله به؟ أم يظنون أن الله إذا أراد أمرا بهم، وساق شرا إليهم ـ أهناك من يدفع ما أراده الله بهم؟ فلينتظروا، وسوف يرون ما الله فاعل بهم.. ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/809.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ أقبل على خطاب أهل الكتاب الذين أريد بهم اليهود بعد أن ذكر من عجائب ضلالهم، وإقامة الحجّة عليهم، ما فيه وازع لهم لو كان بهم وزع، وكذلك شأن القرآن أن لا يفلت فرصة تعنّ من فرص الموعظة والهدى إلّا انتهزها، وكذلك شأن الناصحين من الحكماء والخطباء أن يتوسّموا أحوال تأثّر نفوس المخاطبين ومظانّ ارعوائها عن الباطل، وتبصّرها في الحق، فينجدوها حينئذ بقوارع الموعظة والإرشاد، كما أشار إليه الحريري في المقامة إذ قال: (فلمّا ألحدوا الميت، وفات قول ليت، أشرف شيخ من رباوة، متأبّطا لهراوة، فقال: لمثل هذا فليعمل العاملون) إلخ، لذلك جي‏ء بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ الآية ـ عقب ما تقدّم ـ.

2. وهذا موجب اختلاف الصلة هنا عن الصلة في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: 23] لأنّ ذلك جاء في مقام التعجيب والتوبيخ فناسبته صلة مؤذنة بتهوين شأن علمهم بما أوتوه من الكتاب، وما هنا جاء في مقام الترغيب فناسبته صلة تؤذن بأنّهم شرّفوا بإيتاء التوراة لتثير هممهم للاتّسام بميسم الراسخين في جريان أعمالهم على وفق ما يناسب ذلك، وليس بين الصلتين اختلاف في الواقع لأنّهم أوتوا الكتاب كلّه‏ حقيقة باعتبار كونه بين أيديهم، وأوتوا نصيبا منه باعتبار جريان أعمالهم على خلاف ما جاء به كتابهم، فالذي لم يعملوا به منه كأنّهم لم يؤتوه.

3. وجي‏ء بالصلتين في قوله: ﴿بِمَا نَزَّلْنَا﴾ وقوله: (بما معكم) دون الاسمين العلمين، وهما: القرآن والتوراة: لما في قوله: ﴿بِمَا نَزَّلْنَا﴾ من التذكير بعظم شأن القرآن أنّه منزل بإنزال الله، ولما في قوله: ﴿لِمَا مَعَكُمْ﴾ من التعريض بهم في أنّ التوراة كتاب مستصحب عندهم لا يعلمون منه حقّ علمه ولا يعملون بما فيه، على حدّ قوله: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة: 5]

4. وقوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ تهديد أو وعيد، ومعنى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ﴾ أي آمنوا في زمن يبتدئ من قبل الطمس، أي من قبل زمن الطمس على الوجوه، وهذا تهديد بأن يحلّ بهم أمر عظيم، وهو يحتمل الحمل على حقيقة الطمس بأن يسلّط الله عليهم ما يفسد به محيّاهم فإنّ قدرة الله صالحة لذلك، ويحتمل أن يكون الطمس مجازا على إزالة ما به كمال الإنسان من استقامة المدارك فإنّ الوجوه مجامع الحواسّ.

5. والتهديد لا يقتضي وقوع المهدّد به، وفي الحديث‏ (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله وجهه وجه حمار)، وأصل الطمس إزالة الآثار الماثلة، قال كعب: (عرضتها طامس الأعلام مجهول)، وقد يطلق الطمس مجازا على إبطال خصائص الشيء المألوفة منه، ومنه طمس القلوب أي إبطال آثار التميّز والمعرفة منها.

6. وقوله: ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ عطف لمجرد التعقيب لا للتسبّب؛ أي من قبل أن يحصل الأمران: الطمس والردّ على الأدبار، أي تنكيس الرؤوس إلى الوراء:

أ. وإن كان الطمس هنا مجازا وهو الظاهر، فهو وعيد بزوال وجاهة اليهود في بلاد العرب، ورميهم بالمذلّة بعد أن كانوا هناك أعزّة ذوي مال وعدّة، فقد كان منهم السموأل قبل البعثة، ومنهم أبو رافع تاجر أهل الحجاز، ومنهم كعب بن الأشرف، سيّد جهته في عصر الهجرة.

ب. والردّ على الأدبار على هذا الوجه: يحتمل أن يكون مجازا بمعنى القهقرى، أي إصارتهم إلى بئس المصير؛ ويحتمل أن يكون حقيقة وهو ردّ هم من حيث أتوا، أي‏ إجلاؤهم من بلاد العرب إلى الشام.

7. والفاء على هذا الوجه للتعقيب والتسبّب معا، والكلام وعيد، والوعيد حاصل، فقد رماهم الله بالذلّ، ثم أجلاهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأجلاهم عمر بن الخطاب إلى أذرعات.

8. وقوله: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ أريد باللعن هنا الخزي، فهو غير الطمس، فإن كان الطمس مرادا به المسخ فاللعن مراد به الذلّ، وإن كان الطمس مرادا به الذلّ فاللعن مراد به المسخ.

9. ﴿أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ هم الذين في قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ وقد تقدّم في سورة البقرة.

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/149.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يقرن الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم طلب التوبة والإيمان بحال المذنبين ولو كانوا قد أسرفوا على أنفسهم، كما قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر]، فباب الإيمان والتوبة مفتوح للعصاة والكافرين، وإن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وإن أولئك اليهود الذين كانوا في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا يزالون على عهدهم، قد أسرفوا في عصيانهم، ولجوا حتى لقد كان قائلهم يقول إذا سمع دعوة الحق: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ [النساء] ويلوون ألسنتهم استهزاء عند سماع الهدى النبوى! ولا لجاجة في الكفر أكثر من الاستهزاء بالداعى إلى الإيمان!

2. ومع هذه الحال فيهم وجه الله سبحانه وتعالى الدعوة إلى الإيمان منذرا لمن لا يجيب، ومرغبا من يجد باب الهداية مفتوحا في قلبه، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ النداء لأهل الكتاب كما ترى، والتعبير بالموصول للإشارة إلى أن إعطاء علم الكتاب لهم كان يوجب أن يؤمنوا، لا أن يعرضوا ويعاندوا ويلجوا في العناد.

3. في النص الكريم تحريض على الإيمان بثلاثة أمور:

أ. أولها: أنهم أوتوا علم الكتاب وعلم النبوات، وأنهم يعلمون الوحى الإلهي والكتاب الذي نزل على نبيهم، والأنبياء قبله، وإن ذلك كله يوجب المسارعة إلى تلبية داعى الحق إذا دعوا، وألا تأخذهم العصبية الدينية، كما تأخذ أهل الشرك العصبية الجاهلية.

ب. ثانيها: أن هذا الإيمان هو التصديق بما نزل الله تعالى على نبيه، والله هو الذي أنزل على نبيكم أو أنبيائكم شرائعه، وهو الذي نزل الشريعة التي تدعوكم إلى الإيمان، ووحدة المنزل توجب الإيمان بكل ما أنزل، وإلا كنتم تؤمنون ببعض وتكفرون ببعض.

ج. ثالثها: أن هذا الذي يدعوكم رب العالمين إلى الإيمان به، هو يصدق ما معكم من الحق؛ لأن البشارة برسوله عندكم، وقد كنتم تستفتحون به على الذين كفروا، ولأن الفضائل الدينية والاجتماعية قد اتفقت فيما يدعو إليه النبيّ مع ما دعا إليه أنبياؤكم من قبل، فالوحدة الدينية قائمة بوحدة المنزل، وبوحدة الحق الذي يدعوكم إليه رب العالمين.

4. سؤال وإشكال: في الآيات السابقة، ذكر سبحانه في غير هذا المقام أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به، وفي هذه الآية يناديهم بأنهم‏ ﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾؟ والجواب: إن نسيانهم حظا مما ذكروا به، وتركهم نصيبا منه، لا يمنع الحكم بأنهم أوتوا الكتاب؛ لأنه نزل على أنبيائهم السابقين كاملا غير منقوص، فهم أعطوه ثم نقصوه، والخطاب لهم على أساس ما أوتوه، لا ما حرفوه، ولعله كان من أحبارهم من يعلم علم الكتاب كله، بل إن ذلك يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة]، وقد يكون معنى الكتاب هنا جنسه، وهو يشمل ما بقى عندهم معلنا معرفا، وإن كان ناقصا محرفا.

5. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ هذا إنذار بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة إن لم يؤمنوا، وقد جاء في مفردات الأصفهانى في معنى الطمس ما نصه: (الطمس إزالة الأثر بالمحو، قال تعالى: ﴿فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ﴾ [المرسلات‏]، ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾ [يونس‏] أي أزل صورتها، ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ﴾ [يس‏] أي أزلنا ضوءها وصورتها كما يطمس الأثر.

6. وقوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾، منهم من قال عنى ذلك في الدنيا، وهو أن يصير على وجوههم الشعر، فتصير صورهم كصور القردة والكلاب، ومنهم من قال ذلك هو في الآخرة إشارة إلى ما قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾ [الانشقاق‏]، وهو أن تصير عيونهم في قفاهم، وقيل معناه يردهم عن الهداية إلى الضلال، كقوله تعالى: ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ﴾ [الجاثية: 23]، وقيل عنى بالوجوه الأعيان والرؤساء، ومعناه نجعل رؤساءهم أذنابا وذلك أعظم البوار)، هذا هو التفسير اللغوي لمعنى الطمس، وقد حاول الأصفهانى تخريج الآية التي نتكلم في معناها على ما ارتأى من وجوه، فصرنا حيارى في أيها نختار، لو اقتصرنا على ما قال.

7. قبل أن نبين ما نراه معنى للنص الكريم نبين معنى الأدبار وردها: الأدبار جمع مفرده (دبر)، هو الخلف، أو ما اشتملت عليه أجزاء الجسم الخلفية، والارتداد على الأدبار يكون في القتال يوم الزحف يجعل الوجوه في موضع الأدبار فرارا أو جبنا، بمعنى أنه كان يجب أن يستقبل المقاتلين بوجهه فينقلب إلى جهة دبره، وقد يكون الارتداد على الأدبار معنويا كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ [محمد]

8. إن الذي يبدو لنا من ظاهر النص أنه يراد به سحقهم في القتال، وحملهم على أن يولوا الأدبار، فتكون وجوههم غير بادية بصورها، بعد أن كانوا مقبلين بها، فأزالها السيف والخوف، وجعل صورتها مختفية، وأقفيتهم هي البادية الواضحة، فكأن صورة الوجوه قد زالت وحلت محلها صورة الأدبار، وعلى ذلك يكون المعنى أنكم استرسلتم في غيكم وضلالكم، ومع ذلك نطالبكم بالهداية والإيمان قبل أن ينزل الله سبحانه وتعالى غضبه عليكم في الدنيا إذ تماديتم، وذلك بتسليط المؤمنين بالحق عليكم، فيذيقونكم بأس القتال فتفرون، وتختفى وجوهكم، وترد إلى مواضع الأدبار، فلا ترى إلا أدباركم، وإذا لم يكتب الله سحقكم وحملكم على تولى الأدبار، فإنكم ستلعنون كما لعن أصحاب السبت، وتطردون من رحمته، ويكتب عليكم الذل إلى يوم القيامة.

9. ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ اللعن الطرد من الرحمة وإنزال العذاب، وقد كان في شريعة بنى إسرائيل ألا يعملوا في يوم السبت ليستريحوا وينصرفوا للعبادة، والتعاون الاجتماعى، ولكن رغبتهم في المال وشرههم إليه كان يحمل بعضهم على العمل، فإنه كانت قرية كبيرة تطل على البحر، قد اختبرها الله تعالى، فكانت في يوم السبت تأتيهم الحيتان ظاهرة في هذا اليوم الذي ينقطعون فيه عن العمل، ولا تأتيهم في اليوم الذي يعملون فيه، ليحملهم الله تعالى على الطاعة للأوامر الإلهية، وليدركوا سر الله في خلق الكون، وأنه فعال لما يريد، وهذا قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف‏]: وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة] فالله سبحانه عاقب الذين اعتدوا في السبت بأن سلط عليهم نزوات أهوائهم وشهواتهم، وبها ضربت عليهم الذلة، ولعنهم الله تعالى، فكذلك هؤلاء الذين عاندوا وكفروا، وذلك أمر قدره الله عليهم فهم ملعونون في كل الأجيال‏ والأزمان.

10. ولذا قال سبحانه: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ أي قد ثبت وتقرر أن أمر الله تعالى فيما يخبر به، مقدر واقع لا محالة، فلا مناص منه، فهؤلاء الذين عاندوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لهم أحد العذابين: إما سحقهم بالقتال الذي يولون فيه الأدبار، وإما ضرب الذلة عليهم ولعنهم من الناس أجمعين، وإن ذلك محقق بعون الله، وقد قال الزمخشري في هذا المقام: قد حصل اللعن، فهم ملعونون بكل لسان! والظاهر اللعن المتعارف دون المسخ، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾ [المائدة]

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1705.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾، ظاهر الخطاب يشمل اليهود والنصارى، لأنهم جميعا من أهل الكتاب.. وقيل: الخطاب مختص باليهود بقرينة السياق، والمراد بما أنزلنا القرآن الكريم، فإنه مصدق للتوراة كما نزلت على موسى عليه السلام، وللانجيل كما نزل على عيسى عليه السلام.

2. لقد دعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اليهود الى الإسلام باعتباره حقا من عند الله، وقدم لهم الدلائل والبينات مرات بعد مرات.. ولكن ما لليهود والحق وبراهينه؟ انهم لا يدينون إلا بالربح والمال، ولن يجدوا الربح العاجل في الإسلام، ولا في التوراة، وإنما يجدونه في الاحتكار والربا، وفي السلب والنهب، والغش والخداع، والدعارة والقمار، واثارة الفتن والحروب، وما الى هذه من المفاسد والموبقات: ومن أجل هذا سبقوا في هذا الميدان الأولين والآخرين، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يعلم هذا حق العلم، ولكنه دعاهم لالقاء الحجة فقط: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾

3. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾، رأينا لهذه الآية أربعة تفاسير متناقضة، وأرجحها فيما نرى تفسير الشيخ محمد عبده، ويتلخص بأن الطمس كناية عن أن الله سبحانه يعمي عليهم السبيل، بحيث لا يستطيعون التوجه الى مقاصدهم، تماما كالذين يردّون الى الوراء كلما أرادوا التقدم الى الأمام.

4. ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾، وأصحاب السبت قوم من اليهود حرفوا الدين، وتعدوا حدود الله، فخذلهم وانتقم منهم في الدنيا قبل الآخرة.. وفي هذه الآية هدد الله خلفهم بأنهم إذا لم يرتدعوا عن الضلال والإضلال والتحريف فإنه تعالى يخذلهم، كما خذل أسلافهم.. وفي كثير من التفاسير، ومنها تفسير الرازي ومجمع البيان والبحر المحيط قرأت جملة انقلها بالحرف، وهي (عندنا انه لا بد من طمس أو مسخ في اليهود قبل قيام الساعة).. اللهم آمين رب العالمين.

5. ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ لا رادّ لحكمه، ولا ناقض لأمره الذي يقول للشيء كن فيكون.. اللهم عجل هذا الأمر الذي يجعل دينك الأعلى، وحزبك الأقوى.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/341.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا﴾ إلخ‏ الطمس‏ محو أثر الشيء، والوجه‏ ما يستقبلك من الشيء ويظهر منه، وهو من الإنسان الجانب المقدم الظاهر من الرأس وما يستقبلك منه، ويستعمل في الأمور المعنوية كما يستعمل في الأمور الحسية، والأدبار جمع دبر بضمتين وهو القفا، والمراد بأصحاب السبت قوم من اليهود كانوا يعدون في السبت فلعنهم الله ومسخهم، قال تعالى: ﴿وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ‏﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾

2. وقد كانت الآيات السابقة ـ كما عرفت ـ متعرضة لحال اليهود أو لحال طائفة من اليهود، وانجر القول إلى أنهم بإزاء ما خانوا الله ورسوله، وأفسدوا صالح دينهم ابتلوا بلعنة من الله لحق جمعهم، وسلبهم التوفيق للإيمان إلا قليلا فعم الخطاب لجميع أهل الكتاب ـ على ما يفيده قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ ـ ودعاهم إلى الإيمان بالكتاب الذي نزله مصدقا لما معهم، وأوعدهم بالسخط الذي يلحقهم لو تمردوا واستكبروا من غير عذر من طمس أو لعن يتبعانهم اتباعا لا ريب فيه.

3. وذلك ما ذكره بقوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾، فطمس الوجوه محو هذه الوجوه التي يتوجه بها البشر نحو مقاصدها الحيوية مما فيه سعادة الإنسان المترقبة والمرجوة لكن لا المحو الذي يوجب فناء الوجوه وزوالها وبطلان آثارها بل محوا يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها فهي تقصد مقاصدها على الفطرة التي فطر عليها لكن لما كانت منصوبة إلى الأقفية ومردودة على الأدبار لا تقصد إلا ما خلفته وراءها، ولا تمشي إليه إلا القهقرى.

4. وهذا الإنسان ـ وهو بالطبع والفطرة متوجه نحو ما يراه خيرا وسعادة لنفسه ـ كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه، وصلاحا لدينه أو لدنياه لم ينل إلا شرا وفسادا، وكلما بالغ في التقدم زاد في التأخر، وليس يفلح أبدا.

5. وأما لعنهم كلعن أصحاب السبت فظاهره المسخ على ما تقدم من آيات أصحاب السبت التي تخبر عن مسخهم قردة، وعلى هذا فلفظة ﴿أَوْ﴾ في قوله: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾، على ظاهرها من إفادة الترديد، والفرق بين الوعيدين أن الأول أعني الطمس يوجب تغيير مقاصد المغضوب عليهم من غير تغيير الخلقة إلا في بعض كيفياتها، والثاني أعني اللعن كلعن أصحاب السبت يوجب تغيير المقصد بتغيير الخلقة الإنسانية إلى خلقة حيوانية كالقردة، فهؤلاء إن تمردوا عن الامتثال ـ وسوف يتمردون على ما تفيده خاتمة الآية ـ كان لهم إحدى سخطتين: إما طمس الوجوه، وإما اللعن كلعن أصحاب السبت.

6. لكن الآية تدل على أن هذه السخطة لا تعمهم جميعهم حيث قال: ﴿وُجُوهًا﴾ فأتى بالجمع المنكر، ولو كان المراد هو الجميع لم ينكر، ولتنكير الوجوه وعدم تعيينه نكتة أخرى هي أن المقام لما كان مقام الإيعاد والتهديد، وهو إيعاد للجماعة بشر لا يحلق إلا ببعضهم كان إبهام الأفراد الذين يقع عليهم السخط الإلهي أوقع في الإنذار والتخويف لأن وصفهم على إبهامه يقبل الانطباق على كل واحد واحد من القوم فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب البئيس، وهذه الصناعة شائعة في اللسان في مقام التهديد والتخويف.

7. في قوله تعالى: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾، حيث أرجع فيه ضمير (هم) الموضوع لأولي العقل إلى قوله: ﴿وُجُوهًا﴾ كما هو الظاهر تلويحا أو تصريحا بأن المراد بالوجوه الأشخاص من حيث استقبالهم مقاصدهم، وبذلك يضعف احتمال أن يكون المراد بطمس الوجوه وردها على أدبارها تحويل وجوه الأبدان إلى الأقفية كما قال به بعضهم، ويقوى بذلك احتمال أن المراد من تحويل الوجوه إلى الأدبار تحويل النفوس من حال استقامة الفكر، وإدراك الواقعيات على واقعيتها إلى حال الاعوجاج والانحطاط الفكري بحيث لا يشاهد حقا إلا أعرض عنه واشمأز منه، ولا باطلا إلا مال إليه وتولع به، وهذا نوع من التصرف الإلهي مقتا ونقمة نظير ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾

8. فتبين مما مر أن المراد بطمس الوجوه في الآية نوع تصرف إلهي في النفوس يوجب تغيير طباعها من مطاوعة الحق وتجنب الباطل إلى اتباع الباطل والاحتراز عن الحق في باب الإيمان بالله وآياته كما يؤيده صدر الآية: ﴿آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ﴾ إلخ، وكذا تبين أن المراد باللعن المذكور فيها المسخ.

9. وربما قيل:

أ. إن المراد بالطمس تحويل وجوه قوم إلى أقفيتهم ويكون ذلك في آخر الزمان أو يوم القيامة، وفيه: أن قوله: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ ينافي ذلك كما تقدم بيانه.

ب. وربما قيل: إن المراد بالطمس الخذلان الدنيوي فلا يزالون على ذلة ونكبة لا يقصدون غاية ذات سعادة إلا بدلها الله عليهم سرابا لا خير فيه، وفيه: أنه وإن كان لا يبعد كل البعد لكن صدر الآية ـ كما تقدم ـ ينافيه.

ج. وربما قيل: إن المراد به إجلاؤهم وردهم ثانيا إلى حيث خرجوا منه، وقد أخرجوا من الحجاز إلى أرض الشام وفلسطين، وقد جاؤوا منهما، وفيه أن صدر الآية بسياقه يؤيد غير ذلك كما عرفته.

د. نعم من الممكن أن يقال: إن المراد به تقليب أفئدتهم، وطمس وجوه باطنهم من الحق إلى نحو الباطل فلا يفلحون بالإيمان بالله وآياته، ثم إن الدين الحق لما كان هو الصراط الذي لا ينجح إنسان في سعادة حياته الدنيا إلا بركوبه والاستواء عليه، وليس للناكب عنه إلا الوقوع في كانون الفساد، والسقوط في مهابط الهلاك، قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ﴾ ولازم هذه الحقيقة أن طمس الوجوه عن المعارف الحقة الدينية طمس لها عن حقائق سعادة الحياة الدنيا بجميع أقسامها فالمحروم من سعادة الدين محروم من سعادة الدنيا من استقرار الحال وتمهد الأمن وسؤدد الاستقلال والملك، وكل ما يطيب به العيش، ويدر به ضرع العمل‏ اللهم إلا على قدر ما نسرب المواد الدينية في مجتمعهم وعلى هذا فلا بأس بالجمع بين الوجوه المذكورة جلها أو كلها.

10. قوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ إشارة إلى أن الأمر لا محالة واقع، وقد وقع على ما ذكره الله في كتابه من لعنهم وإنزال السخط عليهم، وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة، وغير ذلك في آيات كثيرة.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/368.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تتصاعد أجواء التحذير والتهديد لهؤلاء الذين أوتوا الكتاب، بعد أن استنفدت أساليب الإقناع والعتاب، فيأتي النداء حاسما بالاستسلام لدعوات الإيمان التي تحمل في داخلها الحجة المقنعة لهم؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ فهذا الكتاب الذي نزّله الله على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، جاء مصدقا لما معهم من الكتاب، ومنسجما مع الأجواء الروحية والفكرية المهيمنة عليه، مما يدل على وحدة المصدر والطريق والهدف؛ الأمر الذي يفتح لهم أبواب القناعة.

2. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾، فإن لم يفعلوا وساروا في طريق التمرّد والتحدّي، فإن الله سوف يطمس وجوههم فيردّها على أدبارها؛ وذلك كناية عن العقاب الذي يغيّر كل ملامحهم، حتى يتساوى وجه الإنسان مع ظهره، وقد جاء عن بعض المفسرين أن المعنى: أن نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها في ضلالتها ذمّا لها بأنها لا تفلح أبدا، وقيل: إن معناه نجعل في وجوههم الشعر كوجوه القرود، وقيل: إن المراد حتى نمحو آثارهم في وجوههم أي نواحيهم التي هم بها، وهي الحجاز الذي هو مسكنهم ونردّها على أدبارها حتى يعودوا إلى حيث جازوا وهو الشام.

3. ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ أو يلعنهم كما لعن أصحاب السبت فيمسخهم قردة وخنازير، ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ في ما يتوعّد به أو يهدّد المنحرفين عنه والمعاندين لرسله ورسالاته.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/290.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ خطاب للعلماء بالتوراة؛ لأن الحجة عليهم أعظم لعلمهم بما في (التوراة) من صفات محمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وما فيها مما جاء به القرآن من أخبار الأولين وغير ذلك؛ ولأن فسادهم إن لم يؤمنوا بالقرآن أعظم؛ لأن لهم أتباعاً يغترون بكفرهم ﴿آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا﴾ بالقرآن ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ من التوراة أو من كتب الله جملة.

2. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ وعيدٌ إن لم يؤمنوا بطمس وجوه منهم، وليس عاماً ولكنه تخويف لكل واحد أن يكون وجهه من الوجوه التي يطمسها الله، وطمسها إزالة صورتها فلا يبقى أنف ولا شفتان ولا عينان ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ بإدخال صورة الوجه إلى جهة القفا حتى تكون على القفا مبالغة في طمسها.

3. ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ لعناً خاصاً بأن نخزيهم ﴿كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ كما أخزيناهم، ويحتمل: نجعلهم قردة كما جعلنا أصحاب السبت المذكورين في (سورة الأعراف) وفي (البقرة) وهذا أظهر، قال في (المصابيح): (وقيل: لما نزلت هذه الآية، أتى عبد الله بن سلام إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي، وسمع كعب بن عمر هذه الآية، فقال: يا رب آمنت، يا رب أسلمت)، فظهر: أن هذه الوجوه هي وجوه علماء (بني إسرائيل) الذين آمنوا، فكانت تطمس لو لم يؤمنوا ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ وهو ما قضى أنه يفعله أو ما شاء أن يفعله ﴿مَفْعُولًا﴾ فهو واقع لا يتخلف؛ لأن الله على كل شيء قدير.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/87.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تعقيبا على البحث السابق في الآية المتقدمة حول أهل الكتاب، وجه الخطاب في هذه الآية إليهم أنفسهم، إذ قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ أي آمنوا بالقرآن الكريم الذي تجدونه موافقا لما جاء في كتبكم من العلامات والبشائر، ولا شك أنّكم أولى من غيركم ـ ولديكم مثل هذه الأدلة والعلائم ـ بالإيمان بهذا الدين الطاهر.

2. ثمّ إن الله سبحانه يهددهم بأنّ عليهم أن يخضعوا للحقّ ويذعنوا له قبل أن يصابوا بإحدى عقوبتين.

أ. الأولى: أن تنمحي صورهم كاملة، وأن تذهب عنهم جوارحهم وأعضاؤهم التي يرون ويسمعون ويدركون بها الحق، كلّها ثمّ تقلب وجوههم إلى خلف كما يقول سبحانه: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ﴾ ﴿وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾، ولعلّنا لسنا بحاجة إلى أن نذكر بأنّ المراد من هذه العبارة هو تعطل عقولهم وحواسهم من حيث عدم رؤية حقائق الحياة وإدراكها، والانحراف عن الصراط المستقيم كما جاء في حديث عن الإمام الباقر عليه السّلام من أنّ المراد: (نطمسها عن الهدى فنردّها على أدبارها في ضلالتها ذمّا لها بأنّها لا تفلح أبدا)، توضيح ذلك أنّ أهل الكتاب، وبخاصّة اليهود منهم، عندما أعرضوا عن الإذعان بالحق رغم كل تلك العلائم والبراهين، وعاندوا تعنتا واستكبارا وأظهروا مواقفهم المعاندة في أكثر من ساحة، صار العناد والزور طبيعتهم الثانية شيئا فشيئا، وكأن أفكارهم قد مسخت وكأن عيونهم قد عميت وآذانهم قد صمت، ومثل هؤلاء من الطبيعي أن يتقهقروا في طريق الحياة بدل أن يتقدموا، وأن يرتدوا على الأدبار بدل أن يتحركوا إلى الأمام، وهذا هو جزاء كل من ينكر الحق عنادا وعتوا، وهذا في الحقيقة يشبه ما أشرنا اليه في مطلع سورة البقرة الآية، وعلى هذا، فإن المراد من (الطمس وعفو الأثر والرّد على العقب) في الآية الكريمة هو المحو الفكري والروحي، والتأخر المعنوي.

ب. الثانية: هي اللعن والطرد من رحمته تعالى إذ قال: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾

3. سؤال وإشكال: ما الفرق بين هذين التهديدين، حتى يفصل بينهما بـ (أو)؟ والجواب:

أ. ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ التهديد الأوّل ينطوي على جانب معنوي، والتهديد الثّاني ينطوي على جانب ظاهري ومسخ جسمي، وذلك بقرينة أن الله قال في هذه الآية: ﴿كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ ونحن نعلم أن أصحاب السبت ـ كما يتّضح من مراجعة الأعراف ـ قد مسخوا مسخا ظاهريا وجسديا.

ب. وذهب آخرون إلى أن هذا اللعن والطرد من رحمة الله ينطوي أيضا على جانب معنوي بفارق واحد، هو أنّ التهديد الأوّل إشارة إلى الانحراف والضلال والتقهقر الذي أصابهم، والتهديد الثّاني إشارة إلى معنى الهلاك والفناء (الذي هو أحد معاني اللعن)، خلاصة القول: إنّ أهل الكتاب بإصرارهم على مخالفة الحق يسقطون ويتقهقرون أو يهلكون.

4. سؤال وإشكال: هل تحقق التهديد في شأن هؤلاء، أم لا؟ والجواب: لا شك أنّ التهديد الأوّل قد تحقق في شأن كثير منهم، وأمّا التهديد الثّاني فقد تحقق في بعضهم، ولقد هلك كثير منهم في الحروب الإسلامية، وذهبت شوكتهم وقدرتهم، وإنّ تأريخ العالم ليشهد كيف تعرضوا بعد ذلك لكثير من الضغوطات في البلاد المختلفة، وفقدوا الكثير من أفرادهم وعناصرهم، وخسروا الكثير من طاقاتهم، ولا يزالون إلى الآن يعيشون في ظروف صعبة وأحوال قاسية.

5. ثمّ إنّ الله يختم هذه الآية بقوله: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ ليؤكّد هذه التهديدات، فإنّه لا توجد قوّة في الأرض تستطيع أن تقف في وجه إرادة الله ومشيئته.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/257.

50. المغفرة والشرك والمشيئة الإلهية

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈50⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 48]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: أحب آية إلي في القرآن: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ما في القرآن آية أحب إلي من قوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾(2).

__________

(1) الترمذي (٣٠٣٧.

(2) التوحيد: 409/8.

هريرة:

روي أن رجلا قرأ هذه السورة، حتى أتى على هذه الآية: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾، قال أبو هريرة (ت 58 هـ): هذه في القرآن كله؛ ما أوعد الله أهل الصلاة في عمل عملوه من العذاب فقد أتى عليه هذا كله، وقول رجل لمملوكه: لأفعلن بك كذا وكذا إن شاء الله(1).

__________

(1) ابن الأعرابي في معجمه ٣/١٠١٨.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى وحشي بن حرب قاتل حمزة يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه: يا محمد، كيف تدعوني وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى ﴿يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾ [الفرقان: ٦٨ ـ ٦٩]، وأنا صنعت ذلك!؟ فهل تجد لي من رخصة؟ فأنزل الله: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: ٧٠]، فقال وحشي: هذا شرط شديد؛ ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا﴾، فلعلي لا أقدر على هذا، فأنزل الله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، فقال وحشي: هذا أرى بعد مشيئة، فلا أدري يغفر لي أم لا، فهل غير هذا؟ فأنزل الله: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ الآية [الزمر: ٥٣]، قال وحشي: هذا، نعم، فأسلم، فقال الناس: يا رسول الله، إنا أصبنا ما أصاب وحشي، قال: هي للمسلمين عامة(1)

2. روي عن أبي الجوزاء، قال اختلفت إلى ابن عباس ثلاث عشرة سنة، فما من شيء من القرآن إلا سألته عنه، ورسولي يختلف إلى عائشة، فما سمعته ولا سمعت أحدا من العلماء يقول: إن الله يقول لذنب: لا أغفره(2).

3. روي أنّه قال: في هذه الآية: إن الله حرم المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشئيته، فلم يؤيسهم من المغفرة(3).

__________

(1) الطبراني في الكبير ١١/١٩٧.

(2) ابن جرير ٧/٥١١.

(3) ابن أبي حاتم ٣/٩٧٠.

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لما نزلت: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ الآية [الزمر: ٥٣] قام رجل، فقال: والشرك، يا نبي الله؟ فكره ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية(1).

2. روي أنّه قال: كنا معشر أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، حتى نزلت هذه الآية: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، فأمسكنا عن الشهادة(2).

3. روي أنّه قال: كنا لا نشك فيمن أوجب الله له النار في كتاب الله، حتى نزلت علينا هذه الآية: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، فلما سمعنا هذا كففنا عن الشهادة، وأرجينا الأمور إلى الله(3).

4. روي أنّه قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر، حتى سمعنا من نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، وقال: (إني ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا، ثم نطقنا بعد، ورجونا(4).

5. روي أنّه قال: كنا نوجب على أهل الكبائر، حتى نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، قال فنهانا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن نوجب لأحد من الموحدين النار(5).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٢٢.

(2) ابن جرير ٧/١٢٢ – ١٢٣، وابن أبي حاتم ٣/٩٧١.

(3) ابن أبي حاتم ٣/٩٧٠.

(4) البزار ١٢/١٨٦.

(5) الطبراني في الكبير ١٣/١٦٠.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: سيأتي على الناس زمان تخرب صدورهم من القرآن، وتبلى كما تبلى ثيابهم، لا يجدون له حلاوة، ولا لذاذة، إن قصروا عما أمروا به قالوا: إن الله غفور رحيم، وإن عملوا ما نهوا عنه قالوا: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾، أمرهم كله طمع، ليس معه خوف، لبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب، أفضلهم في أنفسهم المداهن(1).

__________

(1) ابن عساكر في تاريخ دمشق ١٧/١٨١.

بكر:

روي عن بكر بن عبد الله (ت 106 هـ) أنّه قال: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، ثنيا(1)، من ربنا على جميع القرآن(2).

__________

(1) الثُّنْيا: اسم لما استُثْني.

(2) ابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله ١/١٢٤.

لاحق:

روي عن أبي مجلز لاحق بن حميد (ت 109 هـ) أنّه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا﴾ الآية [الزمر: ٥٣] قام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على المنبر، فتلاها على الناس، فقام إليه رجل، فقال: والشرك بالله؟ فسكت، مرتين أو ثلاثا؛ فنزلت هذه الآية: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، فأثبتت هذه في الزمر، وأثبتت هذه في النساء(1).

__________

(1) ابن المنذر (١٨٥٦.

عطاء:

روي عن عمر بن ذر أنّه قال: ذكرت لعطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) الكف عن تناول أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلا ذكرهم بصالح ما ذكرهم الله، وأن لا يتناولهم بنقص أحدهم، ولا طعن عليه، وأن لا يشهد على أحد من أهل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وصدق رسول الله، وأقر بما جاء به من الله؛ أنه كافر، وأنهم مؤمنون، من عمل منهم حسنة رجونا له ثواب الله، وأحببنا ذلك منه، ومن تناول منهم معصية الله كرهنا ما عمل به من معصية الله، وكان ذلك ذنبا يغفره الله، أو يعاقب عليه إن شاء؛ فإن الله عز وجل يقول: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، فذلك إلى الله، قال: هذا الذي أحببت أباك عليه، وهو الذي تفرق عنه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يرحمهم الله، ويغفر لنا ولهم(1).

__________

(1) أبو نعيم في حلية الأولياء ٥/١١٠.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال بعد أن ذكر قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾: وسأبين لمن ضل عن هذه الآية كيف تفسيرها: إن قول الله جل وعلا: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، الذين يشاء لهم المغفرة: الذين أنزل فيهم: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [النساء: 31]، فمن وعد الله من أهل القبلة النار بكبيرة أتاها؛ فإن الله تعالى قال: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [الرعد: 31]، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾ [مريم: 61]، وقال تعالى: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [ق: 29]، فسلهم عن أصحاب الموجبات: هل وعدهم الله تعالى النار عليها أم لا؟ فإن شهدوا أن الله تعالى قد وعدهم النار عليها، فقل: أتشهدون أن الله سبحانه وتعالى سينجز وعده، أم في شك أنتم، لا تدرون: هل ينجز الله وعده أم لا؟ وسلهم عمن شهد الله عليه والملائكة، فإن الله عز وجل قال: ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 166]؛ فارضوا بما شهد الله به، واشهدوا عليه ولا ترتابوا، فإن الله جل وعلا قال: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا﴾ [النساء: 122]، فمن حدثكم حديثا بخلاف القرآن فلا تصدقوه واتهموه، وليكن قول الله عز وجل أشفى لقلوبكم من قولهم: إن أصحاب الموجبات في المشيئة؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذ بكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء﴾ [المائدة: 8]؛ فمن يشاء أن يغفر له من هؤلاء ـ يترك اليهودية والنصرانية، وكذلك من شاء أن يغفر له من أهل القبلة ـ يترك الموجبات لا يعمل بها، فإن عمل بشيء منها ثم تاب إلى الله تعالى قبل أن يموت ـ فإن الله تعالى قال: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ﴾ [إبراهيم: 27]، فمن مات مؤمنا دخل قبره مؤمنا، وبعثه الله عز وجل يوم القيامة مؤمنا(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/231.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾: نزلت في وحشي بن حرب وأصحابه، وذلك أنه لما قتل حمزة كان قد جعل له على قتله أن يعتق، فلم يوف له بذلك، فلما قدم مكة ندم على صنيعه هو وأصحابه، فكتبوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنا قد ندمنا على الذي صنعنا، وإنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول وأنت بمكة: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ الآيات [الفرقان: ٦٨]، وقد دعونا مع الله إلها آخر، وقتلنا النفس التي حرم الله، وزنينا، فلولا هذه الآيات لاتبعناك، فنزلت: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا﴾ الآيتين [الفرقان: ٧٠ ـ ٧١]، فبعث بهما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إليهم، فلما قرأوا كتبوا إليه: إن هذا شرط شديد، نخاف أن لا نعمل عملا صالحا، فنزل: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، فبعث بها إليهم، فبعثوا إليه: إنا نخاف أن لا نكون من أهل المشيئة، فنزلت: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ﴾ [الزمر: ٥٣]، فبعث بها إليهم، فدخلوا في الإسلام، ورجعوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقبل منهم، ثم قال لوحشي: أخبرني كيف قتلت حمزة؟ فلما أخبره قال: ويحك، غيب وجهك عني)، فلحق وحشي بالشام، فكان بها إلى أن مات(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/٣٢٤.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنه قيل له: دخلت الكبائر في الاستثناء؟ قال: نعم(1).

2. روي أنه قيل له: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ هل﴾ تدخل الكبائر في المشيئة؟، فقال: (نعم، ذاك إليه عز وجل، إن شاء عاقب) عليها، وإن شاء عفا(2).

3. روي أنّه سئل عن أدنى ما يكون به الإنسان مشركا، قال: من ابتدع رأيا فأحب عليه أو أبغض(3).

4. روي أنّه سئل عن قوله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ قال: دخل في الاستثناء كل شيء، وفي رواية اخرى عنه عليه السلام: دخل الكبائر في الاستثناء(3).

__________

(1) تفسير القمّي 1/140.

(2) من لا يحضره الفقيه 3/376.

(3) تفسير العياشي 1/246.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ فيموت عليه، يعني: اليهود، ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾ الشرك ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ لمن مات موحدا، فمشيئته ـ تبارك وتعالى ـ لأهل التوحيد(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٧٧.

الرسّي:

ذكر الإمام القاسم الرسي (ت 246 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾، تأويل ذلك: أن الله قادر على ما شاء، من مغفرة أو تعذيب لمن خلق وأنشأ، وليس ذلك خبرا من الأخبار: أنه غير معذب لمن وعده بالنار؛ لأنه جل ثناؤه لو لم يعذب من وعده بالعذاب، من أهل الكبائر ـ لكان في ذلك خلف وإكذاب لما وعد به في ذلك من الميعاد.

2. وفيما ذكر سبحانه من وفاء ميعاده ووعده بذلك: ما يقول سبحانه في كتابه: ﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [الرعد: 31]، وليس بين قوله سبحانه: ﴿لَا يَغْفِرُ﴾، وبين ﴿يُعَذِّبُ﴾ فرق؛ لأن من لا يغفر له فقد عذبه، ومن عذبه فلم يغفر له.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/230.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ أجمع الناس أن الله، وإن شاء عفا عنهم، وأما إطماع المغفرة في الشرك:

أ. فإنه لا يجوز في العقل؛ لأن من اعتقد دينا إنما يعتقده‏ للأبد، وليس كل من ارتكب ذنبا يرتكبه للأبد؛ بل إنما يرتكبه لقضاء شهوة، والتكفير يكون مقابلة الجزاء من حسنات أو عقوبات؛ كقوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ الآية [النساء: 31]

ب. ووجه آخر: قال الله عزّ وجل: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ وهذا كناية عن الأنفس المغفورات، لا عن الآثام التي تغفر، لم يجز صرف التخصيص إلى الآثام بالآية المكنى بها عن الأنفس، وفي آيات الوعيد تحقيق في الذين جاء بهم، وفيما جاء عامّا؛ فبان لا صرف في ذلك، فهو أولى.

2. وبعد، فإنه عزّ وجل قال: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ والصغائر عندكم مغفورة بالحكمة لا بالوعد، والآية في التعريف، ولا قوة إلا بالله.

3. وقوله تعالى أيضا: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ فمعلوم: أنه فيما يلزمه حتى يختم به، لا فيما يتوب عنه؛ أيد ذلك قوله: ﴿إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ﴾ الآية، وغير واحدة من الآيات التي جاءت في الكفرة لما آمنوا، والله أعلم؛ فصار كأنه قال لا يغفر أن يشرك به إذا لم يتب عنه، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وإن لم يتب منه، فلو كان شيئا مما دونه لا يحتمل في الحكمة المغفرة لضمه إلى الممتنع عن الاحتمال، لا أن ألحقه بالمحتمل له فيما كان معلوما أن القصد فيه إلى بيان ما فيه الرجاء والإياس، وأيد ذلك‏ قوله تعالى: ﴿لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87] فلو كان يلزم الإياس لما دونه ليجب الوصف له بالكفر؛ إذ الإياس لهم بالكفر وفي تحقيقه تحقيقه، فأي الوجهين لزم تبعه الآخر في حق الإياس، لا في وجود فعله؛ إذ قد يوجد فعل الرجاء في الكفرة، ثبت أن ذلك في الحكم والتحقيق، لا في وجود الفعل، وبالله التوفيق.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/203.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال الفراء قوله: ﴿أَنْ يُشْرَكَ﴾ في موضع النصب، وتقديره‏ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ﴾ الشرك قال ويحتمل أن يكون موضعه الجر وتقديره ولا يغفر الذنب مع الشرك، وقال قوم: الفرق بين قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾، وبين قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ﴾ الشرك به من وجهين:

أ. أحدهما: أن (أن (تدل على الاستقبال.

ب. والآخر: ذكره الرماني أنها تدل على وجه الفعل في الارادة، ونحوها، إذ كان قد يريد الإنسان الكفر مع ظنه أنه ايمان، كما يريد النصارى عبادة المسيح.

2. لا يجوز ارادته أن يكفر مع التوهم انه ايمان وكذلك لا يريد الضر مع التوهم أنه نفع، ولا يجوز ارادته أن يضر مع التوهم أنه نفع، وكذلك أمره بالخطإ مع التوهم أنه صواب، ولا يجوز أمره أن يخطئ مع التوهم أنه صواب، وهذا عندي ليس بصحيح، لأن الشرك مذموم على كل حال سواء علمه فاعله كذلك، أو لم يعلم، ألا ترى أن النصارى يستحقون اللعنة والبراءة على ما يعتقدونه من التثليث وإن اعتقدوا هم صحته، فالفرق الاول هو الجيد.

3. وظاهر الآية يدل على أن الله تعالى لا يغفر الشرك أصلا، لكن أجمعت الأمة على أنه لا يغفره مع عدم التوبة، فأما إذا تاب منه فإنه يغفره، وإن كان عندنا غفران الشرك مع التوبة تفضلا، وعند المعتزلة هو واجب، وهذه الآية من آكد ما دل على أن الله تعالى يعفو عن المذنبين من غير توبة ووجه الدلالة منها أنها نفى أن يغفر الشرك إلا مع التوبة وأثبت أنه يغفر ما دونه، فيجب أن يكون مع عدم التوبة، لأنه إن كان ما دونه، لا يغفره إلا مع التوبة، فقد صار ما دون الشرك مثل الشرك، فلا معنى‏ للنفي، والإثبات، وكان ينبغي أن يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ﴾ المعاصي إلا بالتوبة ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول الحكيم أنا لا أعطي الكثير من مالي تفضلا، واعطي القليل إذا استحق علي، لأنه كان يجب أن يقول: أنا لا أعطي شيئاً من مالي إلا إذا استحق علي كيف وفي الآية ذكر العظيم الذي هو الشرك، وذكر ما هو دونه؟ والفرق بينهما بالنفي والإثبات، فلا يجوز ألا يكون بينهما فرق من جهة المعنى.

4. سؤال وإشكال: نحن نقول: إنه يغفر ما دون الشرك من الصغائر من غير توبة، والجواب: هذا فاسد من وجهين:

أ. أحدهما: انه تخصيص، لأن ما دون الشرك يقع على الكبير والصغير، والله تعالى أطلق أنه يغفر ما دونه، فلا يجوز تخصيصه من غير دليل.

ب. الثاني: ان الصغائر تقع محبطة فلا يجوز المؤاخذة بها عند الخصم وما هذا حكمه لا يجوز تعليقة بالمشيئة وقد علق الله تعالى غفران ما دون الشرك بالمشيئة، لأنه قال: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾

5. سؤال وإشكال: تعليقه بالمشيئة يدل على أنه لا يغفر ما دون الشرك قطعاً، والجواب: المشيئة دخلت في المغفور له لا فيما يغفر، بل الظاهر يقتضي انه يغفر ما دون الشرك قطعاً، لكن لمن يشاء من عباده، وبذلك تسقط شبهة من قال القطع على غفران ما دون الشرك من غير توبة، إغراء بالقبيح الذي هو دون الشرك، لأنه إنما يكون إغراء لو قطع على أنه يغفر ذلك لكل أحد، فأما إذا علق غفرانه لمن يشاء، فلا إغراء لأنه لا أحد إلا وهو يجوز أن يغفر له، كما يجوز أن يؤاخذ به فالزجر حاصل على كل حال، ومتى عارضوا هذه الآية بآيات الوعيد كقوله: ﴿وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا﴾ وقوله: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا﴾ وقوله: ﴿إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ كان لنا أن نقول: العموم لا صيغة له، فمن أين لكم أن المراد به جميع العصاة ثم نقول نحن نخص آياتكم بهذه الآية ونحملها على الكفار، فمتى قالوا لنا: بل نحن نحمل‏ آياتكم على أصحاب الصغائر، فقد تعارضت الآيات ووقفنا وجوزنا العفو بمجرد العقل، وهو غرضنا وقد استوفينا ما في ذلك في الأصول في باب الوعيد من أراده وقف عليه من هناك.

6. ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ معناه من يشرك بالله، فقد كذب، لأنه يقول: إن عبادته يستحقها غير الله، وذلك افتراء، وكذب.

7. ﴿إِثْمًا عَظِيمًا﴾ نصب على المصدر فكأنه قال افترى، وأثم (اثماً عظيماً) لأن افترى بمعنى أثم، فلذلك نصب المصدر به، وقال ابن عمر: لما نزل قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ ظن أنه تعالى يغفر الشرك أيضاً، فانزل الله هذه الآية، وقال ابن عمر: ما كنا نشك معشر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قاتل المؤمن، وآكل مال اليتيم وشاهد الزور، وقاطع الرحم، حتى نزلت هذه الآية فأمسكنا عن هذه الشهادة، وهذا يدل على أن الصحابة كانت تقول بما نذهب إليه من جواز العفو عن فساق أهل الملة من غير توبة، بخلاف ما يذهب إليه أصحاب الوعيد من المعتزلة، والخوارج، وغيرهم.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/219.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. افترى: اختلق وكذب، وأصله من خلق الأديم، يقال: فَرَيتُ الأديم: قطعته، وخلقته قدرته، وسواء قولك: فريت وافتريت، وهو من الباب الذي فعلت وافتعلت بمعنى.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت في وحشي وأصحابه، فإنه لما قَتَلَ أصحابه ورجع مكة، فكتبوا بذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزلت الآية، عن الكلبي.

ب. وقيل: نزلت في اليهود فلا يغفر لليهود، ويغفر ما دون ذلك لأهل التوحيد عن مقاتل.

ج. وقيل: لما نزل: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا﴾ قرأها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على المنبر، فقام وجل وقال: والشرك بِاللهِ، فسكت، فقام مرتين أو ثلاثًا، فنزلت هذه الآية عن ابن عمر، وعن ابن عمر أيضًا كنا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا مات الرجل منا على كبيرة شهدنا له بالنار حتى نزلت هذه الآية، فأمسكنا عن الشهادات.

3. بين الله تعالى الإياس لمن تقدم ذكرهم من الكفار عن رحمته، فقال سبحاته ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ فيه قولان:

أ. قيل: لا يغفر الشرك مطلقًا، سؤال وإشكال: متى قيل: ليس يغفره بالتوبة، والجواب:

أن التوبة تزيل عن صاحبها إطلاق الصفة به، فإذا خرج من كونه مشركًا حسن أن يطلق مع الإيجاز الذي فيه، والتغليظ الذي يوجبه إطلاق القول.

وقيل: لما علم بالعقل والشرع أن التوبة تزيل العقوبة صارت الآية مخصوصة.

ب. الثاني: أنه لا يغفر شيئًا من ذنوبه لأجل شركه، و﴿أَنْ﴾ بمعنى مِنْ أجل، كأنه قيل: من أَجْلِ الشرك منعوا غفران ما دونه؛ لأن مع الشرك لا يغفر شيئًا من الذنوب، كما يغفر للمؤمن من الصغائر إذا اجتنبوا الكبائر عن أبي مسلم.

4. ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ فعلق غفران ما دون الشرك بالمشيئة، فصارت الآية مجملة، فما لم يرد شرع بأنه يشاء مغفرة بعضهم لا يقطع عليه.

5. سؤال وإشكال: هل قلتم: إنه وعد بغفران الكبائر؟ والجواب: لأربعة أوجه:

أ. أولها: أنه مقيد بمن يشاء.

ب. الثاني: أنه يكون إغراء بالقبيح.

ج. الثالث: أنه مجمل.

د. الرابع: أنه أخبر في آي أخر أنه يغفر لأصحاب الصغائر وأصحاب التوبة ولا يغفر لمن سواهم، كما ورد به القرآن في القتل والزنا والربا وسائر آي الوعيد.

6. سؤال وإشكال: متى يستحق المغفرة قد وجب له ذلك عقلاً فما فائدة الخبر؟ والجواب: ورد مؤكدًا ومصلحة، فهو بمنزلة سائر الأدلة في التوحيد ومعجزات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾:

أ. قيل: ما دون الشرك يغفره لمن يشاء قيل: من الكبائر والصغائر.

ب. وقيل: من الصغائر.

ج. وقيل: ما دون ذلك من الذنوب يغفره بالتوبة.

8. المعنيّ بقوله: ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ التائبون، وأراد به يغفر الشرك وما دونه بالتوبة، ونظيره ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ وأجمعت الأمة، المراد اثنتين فما فوقهما عن أبي مسلم.

9. تلخيص الكلام لا يغفر للمشرك الشرك، وما دونه لأجل شركه وإن تاب منه، فإذا ترك الشرك، وتاب من الذنوب غفر له الشرك وما دونه.

10. ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى﴾:

أ. قيل: اختلق وكذب ﴿إِثْمًا﴾ وزرًا ﴿عَظِيمًا﴾ بجحوده وحدانية الله وشركه به.

ب. وقيل: فقد اكتسب بكذبه في ذلك إثمًا عظيمًا عن أبي مسلم.

11. تدل الآية الكريمة على:

أ. أنه تعالى لا يغفر الشرك، والمراد إذا لم يتب؛ لأن العقل والشرع دل أنه يغفره بالتوبة، ولأنه أتى بأقصى ما قدر عليه، ولأنه بمنزلة الاعتذار، وقد نطق القرآن بذلك في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ﴾ ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ﴾

ب. أن كل كفر شرك؛ لإجماعهم على أنه لا يغفر الشرك لإجماعهم إلا بتوبة، ولو كان الكفر دون الشرك لصح أن يغفر.

ج. أن الكفر لا يقع إلا كبيرة وأنه قط لا يزيد ثواب صاحبه على عقاب الكفر حتى يصير مغفورًا لذلك أطلق الوعيد، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ ولا ثواب أعظم من ثواب النبوة.

د. يدل قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ أن في الذنوب ما يغفره وفيها ما لا يغفره، ولو كان الكل سواء لم يكن لقوله: ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ فائدة، ثم أيّ البعض يغفره، مجمل يحتاج إلى بيان، عن الحسن أنه الصغائر وتلا ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ فكأنه جعل ذلك بيانًا لهذه الآية، والمجمل ينبئ عن المفسر.

هـ. أن الكفر قد يكون كلامًا فيبطل قول من يقول: إن الكفر قد يدخل في أفعال القلوب فقط.

و. استدلت المرجئة بهذه الآية وجعلوها عمدتهم، وأقوى ما يتعلقون به في ذلك وجهان:

أحدهما: أنه نفى غفران الشرك، وإنما أراد غفرانه تفضلاً؛ لأنه يغفر عند الوجوب فوجب أن يكون قوله: ﴿وَيَغْفِرْ﴾ يريد تفضلاً حتَّى يصح التقابل.

ثانيها: أنه علقه بالمشيئة، وهذا يقتضي نفي الوجوب والتخيير في المغفرة.

ز. الجواب عما ذكرته المرجئة:

عن الأول: أنه مجرد دعوى، من قال: لا أعطي أحدًا، وأعطي زيدًا، لا يدل أن ما يعطيه تفضل على أنا بينا على المعنيين اللذين ذكرنا حُسْنَ التقابل وما قيل فيه.

عن الثاني: أن تعليقه بالمشيئة لا يدل على أنه غير واجب كقوله تعالى: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ وإنما نبه بالآية على قدرته ورحمته.

12. ﴿أَنْ يُشْرَكَ﴾ أن مع الفعل بمعنى المصدر تقديره: إن الله لا يغفر الشرك.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/655

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. افترى: اختلق وكذب، وأصله من خلق الأديم، يقال: فريت الأديم، أفريه، فريا، إذا قطعته على وجه الإصلاح، وأفريته: إذا قطعته على وجه الإفساد.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قال الكلبي: نزلت في المشركين: وحشي وأصحابه، وذلك أنه لما قتل حمزة، وكان قد جعل له على قتله أن يعتق، فلم يوف له بذلك، فلما قدم مكة، ندم على صنيعه، هو وأصحابه، فكتبوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنا قد ندمنا على الذي صنعناه، وليس يمنعنا عن الاسلام إلا أنا سمعناك تقول، وأنت بمكة: ﴿الذين لا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون﴾ الآيتان، وقد دعونا مع الله إلها آخر، وقتلنا النفس التي حرم الله وزنينا، فلولا هذه لاتبعناك فنزلت الآية: ﴿إلا من تاب وعمل عملا صالحا﴾ الآيتين، فبعث بهما رسول الله إلى وحشي وأصحابه، فلما قرأهما، كتبوا إليه: إن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحا، فلا نكون من أهل هذه الآية، فنزلت ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ﴾ الآية، فبعث بها إليهم فقرأوها، فبعثوا إليه إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزلت: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾، فبعث بها إليهم، فلما قرأوها دخل هو وأصحابه في الاسلام، ورجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقبل منهم، ثم قال لوحشي: أخبرني كيف قتلت حمزة؟ فلما أخبره، قال: ويحك غيب شخصك عني! فلحق وحشي بعد ذلك بالشام، وكان بها إلى أن مات.

ب. وقال أبو مجلز عن ابن عمر: نزلت في المؤمنين وذلك أنه لما نزلت ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا﴾ الآية، قام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على المنبر، فتلاها على الناس، فقام إليه رجل فقال: والشرك بالله؟ فسكت، ثم قام إليه مرتين أو ثلاثا، فنزلت ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية، أثبت هذه في الزمر، وهذه في النساء.

ج. وروى مطرف بن الشخير عن عمر بن الخطاب، قال: كنا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا مات الرجل منا على كبيرة، شهدنا بأنه من أهل النار، حتى نزلت الآية، فأمسكنا عن الشهادات.

3. آيس الله تعالى الكفار من رحمته، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ معناه إن الله لا يغفر أن يشرك به أحد، ولا يغفر ذنب الشرك لاحد، ويغفر ما دونه من الذنوب، لمن يريد.

4. قال المحققون: هذه الآية أرجى آية في القرآن، لان فيها إدخال ما دون الشرك، من جميع المعاصي في مشيئة الغفران، وقف الله المؤمنين الموحدين بهذه الآية بين الخوف والرجاء وبين العدل والفضل، وذلك صفة المؤمن، ولذلك قال الصادق عليه السلام: (لو وزن رجاء المؤمن وخوفه لاعتدلا)، ويؤيده قوله سبحانه: ﴿ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون﴾، وروي عن ابن عباس أنه قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء، خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس، وغربت، قوله سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾، و﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾، و﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾، و﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾، و﴿﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، و﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾، في الموضعين، و﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ﴾

5. بيان وجه الاستدلال بهذه الآية على أن الله تعالى يغفر الذنوب من غير توبة أنه نفى غفران الشرك، ولم ينف غفرانه على كل حال، بل نفى أن يغفر من غير توبة، لان الأمة أجمعت على أن الله يغفر بالتوبة، وإن كان الغفران مع التوبة عند المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ على وجه الوجوب، وعندنا (2) على وجه التفضل، فعلى هذا، يجب أن يكون المراد بقوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ أنه يغفر ما دون الشرك من الذنوب بغير توبة لمن يشاء من المذنبين غير الكافرين.

6. إنما قلنا ذلك، لان موضوع الكلام الذي يدخله النفي والاثبات، وينضم إليه الأعلى والأدون، أن يخالف الثاني الأول، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول الرجل: أنا لا أدخل على الأمير إلا إذا دعاني، وأدخل على من دونه إذا دعاني وإنما يكون الكلام مفيدا إذا قال وأدخل على من دونه وإن لم يدعني، ولا معنى لقول من يقول من المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ إن في حمل الآية على ظاهرها، وإدخال ما دون الشرك في المشيئة، إغراء على المعصية، لان الاغراء إنما يحصل بالقطع على الغفران، فأما إذا كان الغفران متعلقا بالمشيئة فلا إغراء فيه، بل يكون العبد به واقفا بين الخوف والرجاء، على الصفة التي وصف الله بها عباده المرتضين، في قوله تعالى: ﴿يدعون ربهم خوفا وطمعا ويحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه﴾، وبهذا وردت الأخبار الكثيرة من طريق الخاص والعام، وانعقد عليه إجماع سلف أهل الاسلام.

7. سؤال وإشكال: في غفران ذنوب البعض دون البعض، ميلا ومحاباة، ولا يجوز الميل والمحاباة على الله، والجواب: إن الله متفضل بالغفران، وللمتفضل أن يتفضل على قوم دون قوم، وإنسان دون انسان، وهو عادل في تعذيب من يعذبه، وليس يمنع العقل ولا الشرع من الفضل والعدل.

8. سؤال وإشكال: إن لفظة ﴿مَا دُونَ ذَلِكَ﴾، وإن كانت عامة في الذنوب التي هي دون الشرك، فإنما نخصها ونحملها على الصغائر، أو ما يقع منه التوبة، لأجل عموم ظاهر آيات الوعيد، والجواب: إنا نعكس عليكم ذلك، فنقول: بل قد خصصوا ظاهر تلك الآيات لعموم ظاهر هذه الآية، وهذا أولى لما روي عن بعض السلف أنه قال: (إن هذه الآية استثناء على جميع القرآن) يريد به والله أعلم جميع آيات الوعيد، وأيضا فإن الصغائر تقع عندكم محبطة، ولا تجوز المؤاخذة بها، وما هذا حكمه، فكيف يعلق بالمشيئة، فإن أحدا لا يقول إني أفعل الواجب إن شئت، وأرد الوديعة إن شئت.

9. ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى﴾ أي فقد كذب بقوله إن العبادة يستحقها غير الله، وأثم ﴿إِثْمًا عَظِيمًا﴾ أي غير مغفور، وجاءت الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية)

10. ﴿إِثْمًا عَظِيمًا﴾: منصوب على المصدر، لان ﴿افْتَرَى﴾ بمعنى: أثم، وهذا كما تقول: حمدته شكرا.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/89.

(2) يقصد الإمامية.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ قال ابن عمر: لمّا نزلت ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: والشّرك؟ فكره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك، فنزلت هذه، وقد سبق معنى الإشراك.

2. المراد من الآية: لا يغفر لمشرك مات على شركه، وفي قوله تعالى: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ نعمة عظيمة من وجهين:

أ. أحدهما: أنها تقتضي أنّ كلّ ميّت على ذنب دون الشّرك لا يقطع عليه بالعذاب، وإن مات مصرّا.

ب. الثاني: أنّ تعليقه بالمشيئة فيه نفع للمسلمين، وهو أن يكونوا على خوف وطمع.

__________

(1) زاد المسير: 1/418.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما هدد الله تعالى اليهود على الكفر، وبين أن ذلك التهديد لا بد من وقوعه لا محالة بين أن مثل هذا التهديد من خواص الكفر، فأما سائر الذنوب التي هي مغايرة للكفر فليست حالها كذلك، بل هو سبحانه قد يعفو عنها، فلا جرم قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾

2. هذه الآية دالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع، ويدل عليه وجهان:

أ. الأول: أن الآية دالة على أن ما سوى الشرك مغفور، فلو كانت اليهودية مغايرة للشرك لوجب أن تكون مغفورة بحكم هذه الآية، وبالإجماع هي غير مغفورة، فدل على أنها داخلة تحت اسم الشرك.

ب. الثاني: أن اتصال هذه الآية بما قبلها إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود، فلولا أن اليهودية داخلة تحت اسم الشرك، وإلا لم يكن الأمر كذلك.

3. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا﴾ إلى قوله: ﴿وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [الحج: 17] عطف المشرك على اليهودي، وذلك يقتضي المغايرة، والجواب: المغايرة حاصلة بسبب المفهوم اللغوي، والاتحاد حاصل بسبب المفهوم الشرعي، ولا بد من المصير إلى ما ذكرناه دفعا للتناقض.

4. اختلف في قتل المسلم بالذمي:

أ. قال الشافعي: المسلم لا يقتل بالذمي.. حجة الشافعي أن الذمي مشرك لما ذكرناه، والمشرك مباح الدم لقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾، فكان الذمي مباح الدم على الوجه الذي ذكرناه ومباح الدم هو الذي لا يجب القصاص على قاتله، ولا يتوجه النهي عن قتله ترك العمل بهذا الدليل في حق النهي، فوجب أن يبقى معمولا به في سقوط القصاص عن قاتله.

ب. وقال أبو حنيفة: يقتل.

5. هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر، والاستدلال بها من وجوه:

أ. الأول: أن قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ معناه لا يغفر الشرك على سبيل التفضل لأنه بالإجماع لا يغفر على سبيل الوجوب، وذلك عند ما يتوب المشرك عن شركه، فإذا كان قوله: إن الله لا يغفر الشرك هو أنه لا يغفره على سبيل التفضل، وجب أن يكون قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾ هو أن يغفره على سبيل التفضل، حتى يكون النفي والإثبات متواردين على معنى واحد، ألا ترى أنه لو قال فلان لا يعطي أحدا تفضلا، ويعطي زائدا فإنه يفهم منه أنه يعطيه تفضلا، حتى لو صرح وقال: لا يعطي أحدا شيئا على سبيل التفضل ويعطي أزيد على سبيل الوجوب، فكل عاقل يحكم بركاكة هذا الكلام، فثبت أن قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ على سبيل التفضل، إذا ثبت هذا فنقول: وجب أن يكون المراد منه أصحاب الكبائر قبل التوبة، لأن عند المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ غفران الصغيرة وغفران الكبيرة بعد التوبة واجب عقلا، فلا يمكن حمل الآية عليه، فإذا تقرر ذلك لم يبق إلا حمل الآية على غفران الكبيرة قبل التوبة وهو المطلوب.

ب. الثاني: أنه تعالى قسم المنهيات على قسمين: الشرك وما سوى الشرك، ثم إن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة، والكبيرة بعد التوبة والصغيرة، ثم حكم على الشرك بأنه غير مغفور قطعا، وعلى ما سواه بأنه مغفور قطعا، لكن في حق من يشاء، فصار تقدير الآية أنه تعالى يغفر كل ما سوى الشرك، لكن في حق من شاء، ولما دلت الآية على أن كل ما سوى الشرك مغفور، وجب أن تكون الكبيرة قبل التوبة أيضا مغفورة.

ج. الثالث: أنه تعالى قال: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ فعلق هذا الغفران بالمشيئة، وغفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة مقطوع به، وغير معلق على‏ المشيئة، فوجب أن يكون الغفران المذكور في هذه الآية هو غفران الكبيرة قبل التوبة وهو المطلوب، واعترضوا على هذا الوجه الأخير بأن تعليق الأمر بالمشيئة لا ينافي وجوبه، ألا ترى أنه تعالى قال بعد هذه الآية: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 49] ثم إنا نعلم أنه تعالى لا يزكي إلا من كان أهلا للتزكية، وإلا كان كذبا، والكذب على الله محال، فكذا هاهنا.

6. ليس للمعتزلة ـ ومن وافقهم ـ على هذه الوجوه كلام يلتفت إليه إلا المعارضة بعمومات الوعيد، ونحن نعارضها بعمومات الوعد، والكلام فيه على الاستقصاء مذكور في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 81] فلا فائدة في الإعادة، وروى الواحدي في البسيط باسناده عن ابن عمر قال كنا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا مات الرجل منا على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار، حتى نزلت هذه الآية فأمسكنا عن الشهادات، وقال ابن عباس: إني لأرجو كما لا ينفع مع الشرك عمل، كذلك لا يضر مع التوحيد ذنب، ذكر ذلك عند عمر بن الخطاب فسكت عمر، وروي مرفوعا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (اتسموا بالإيمان وأقروا به فكما لا يخرج إحسان المشرك المشرك من إشراكه كذلك لا تخرج ذنوب المؤمن المؤمن من إيمانه)

7. روي عن ابن عباس انه قال لما قتل وحشي حمزة يوم أحد، وكانوا قد وعدوه بالاعتاق ان هو فعل ذلك، ثم أنهم ما وفوا له بذلك، فعند ذلك ندم هو وأصحابه فكتبوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بذنبهم، وانه لا يمنعهم عن الدخول في الإسلام إلا قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ [الفرقان: 68] فقالوا: قد ارتكبنا كل ما في الآية، فنزل قوله: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا﴾ [الفرقان: 70] فقالوا: هذا شرط شديد نخاف أن لا نقوم به، فنزل قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ فقالوا: نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته، فنزل‏ ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ [الزمر: 53] فدخلوا عند ذلك في الإسلام، سؤال وإشكال: طعن القاضي في هذه الرواية وقال: ان من يريد الايمان لا يجوز منه المراجعة على هذا الحد، ولأن قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: 53] لو كان على إطلاقه لكان ذلك إغراء لهم بالثبات على ما هم عليه، والجواب: لا يبعد أن يقال: انهم استعظموا قتل حمزة وإيذاء الرسول إلى ذلك الحد، فوقعت الشبهة في قلوبهم أن ذلك هل يغفر لهم أم لا، فلهذا المعنى حصلت المراجعة، وقوله: هذا إغراء بالقبيح، فهو انه إنما يتم على مذهبه، أما على قولنا: انه تعالى فعال لما يريد، فالسؤال ساقط.

8. ثم قال: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ أي اختلق ذنبا غير مغفور، يقال: افترى فلان الكذب إذا اعتمله واختلقه، وأصله من الفري بمعنى القطع.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 10/98.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تلا ﴿إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ فقال له رجل: يا رسول الله والشرك! فنزل ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، وهذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأمة.

2. ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ من المتشابه الذي قد تكلم العلماء فيه، فقال محمد بن جرير الطبري: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه ذنبه، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله تعالى، وقال بعضهم: قد بين الله تعالى ذلك بقوله: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ فاعلم أنه يشاء أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر ولا يغفرها لمن أتى الكبائر، وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة للتي في آخر الْفُرْقَانَ، قال زيد بن ثابت: نزلت سورة النساء بعد الْفُرْقَانَ بستة أشهر، والصحيح أن لا نسخ، لأن النسخ في الاخبار يستحيل، وسيأتي بيان الجمع بين الآي في هذه السورة وفي الْفُرْقَانَ إن شاء الله تعالى، وفي الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ قال: هذا حديث حسن غريب.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/246.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ هذا الحكم يشمل جميع طوائف الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، ولا يختص بكفار أهل الحرب، لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالوا: ثالث ثلاثة، لا خلاف بين المسلمين أن المشرك إذا مات على شركه لم يكن من أهل المغفرة التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما تقتضيه مشيئته؛ وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين فداخلون تحت المشيئة، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.

2. قال ابن جرير: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عزّ وجلّ، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، ما لم تكن كبيرته شركا بالله عزّ وجلّ، وظاهره: أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلا منه ورحمة، وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة، وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة، وقد تقدّم قوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ وهي تدل: على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر، فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/551.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جعل الوليد لعبده وحشي بن حرب أن يعتقه إن قتل حمزة يوم أحد، فقتله فلم يعتقه، فكتب من مكَّة هو وأصحابه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ندمنا، ومنعنا من الإسلام ما تقرأه حين كنت بمكة ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا ـ اخَرَ﴾ الآية [الفرقان: 68]، وقد فعلنا ذلك كلَّه)، فنزل: ﴿اِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا﴾ الآيتين بعدها، فكتب بهما صلّى الله عليه وآله وسلّم إليهم، فكتبوا إليه: (إنَّا نخاف أن لا نعمل عملاً صالحًا) فنزل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُّشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَنْ يَّشَآءُ﴾ فبعثها إليهم فبعثوا إليه: (إنَّا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته تعالى)، فنزل: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا﴾ الآية [الزمر: 53]، فبعثها إليهم، فأسلموا، فجاؤوا من مكَّة، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (كيف قتلت حمزة؟)، فقال: (كمنت له بجنب صخرة ولا يعلم بي، فاستقبلته بخنجر خرج من ظهره)، فقال له: (ويحك! غيِّب وجهك عنِّي)!، فلحق بالشام، فقيل: مات في خمر ولم يرتدَّ.

2. معنى قولهم: (نخاف أن لا نعمل صالحًا) نخاف أن لا نقتصر على العمل الصالح، بل تارة عملاً صالحًا وآخر سيِّئًا، وتوهَّموا أنَّه من تاب لا تغفر له معصية فعلها بعد توبته، فأوحى الله أنَّ الله لا يغفر الإشراك لمن أشرك ولم يتب، حتَّى إنَّه لو كان في المسلم خصلةُ شركٍ لم ينتبه لها لم يغفر له ولم يقبل عمله الصالح، ولا اجتنابه الكبائر والصغائر، إِلَّا إن كان يقول: (اللهم إنِّي أعوذ بك أنْ أشرك بك، وأنا أعلم، وأستغفرك لِمَا لا أعلم)، أو: (اللهم اغفر لي الشرك وما دونه)

3. ويغفر الله ما دون ذلك الإشراك لمن يشاء، ككبيرة نسيها ولم ينو الإصرار، ولو حقًّا لمخلوق، فتخرج من حسناته، أو يخلِّصها عنه ولده أو غيره، ومثل أن تعدَّ حسناته وسيِّئاته عند أصحابنا المشارقة فتغلبها الحسنات، أو الآية من باب التنازع، أي: أنَّ الله لا يغفر له أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، والهاء في (له) لمن يشاء، وكأنَّه قيل: إنَّ الله لا يغفر الإشراك لمن يشاء، وهو من قضى أن لا يتوب من شركه، ويغفر ما دون الإشراك لمن يشاء، وهو من قضى أن يتوب أو نسي ذنبه بحيث لا يطلق عليه اسم المصرِّ، أو من الحذف من الأوَّل لدلالة الأخير، أي: لا يغفر أنْ يشرك به لمن يشاء، وقال أبو عمَّار: ﴿مَا دُونَ ذَالِكَ﴾: الصغائر؛ لأنَّها تغفر لمن اجتنب الكبائر، ولو بلا قصد توبة منها ما لم يصرَّ عليها؛ لقوله تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [النساء: 31]، فليس في آيتنا هذه ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ﴾ إلخ أنَّ الكبيرة تغفر بلا توبة.

4. والآية حجَّة على الخوارج، إذ قالوا: إنَّ كلَّ ذنب شرك، أو كلَّ كبيرة شرك، وهم الصفريَّة والنجديَّة والأزارقة، قال السعد في حاشية الكشاف: (لَمَّا كانت الآية نازلة في شأن التائب دلَّ سبب النزول على أنَّ المراد بقوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَنْ يَّشَآءُ﴾: لمن يكون تائبًا من ذنبه، فلا يفيد جواز المغفرة بدون التوبة) اهـ، يعني ردًّا لهذه الآية إلى سائر آيات التوبة، فلا يعترض بأنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، بل قيَّد آيةً بغيرها.

5. والآية نزلت بسبب تائب، كما روي أنَّ شيخًا من العرب قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنِّي شيخ منهمك في الذنوب إِلَّا أنِّي لم أشرك بالله شيئًا منذ عرفته وآمنت به، ولم أتَّخذ من دونه وليًّا، ولم أوقع المعاصي جرأة على الله ومكابرة له، وما توهَّمت طرفة عين أنِّي أعجز الله هربًا، وإنِّي لَنادِمٌ تائبٌ مستغفرٌ، فما ترى حالي عند الله؟)، فنزلت.

6. ﴿وَمَنْ يُّشْرِكْ بِاللهِ﴾ في اعتقاد، أو قول مع اعتقاد، أو فعل مع اعتقاد، ﴿فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ أعظم من كلِّ ذنب، إلَّا الإيَّاس من قبول التوبة من شيء ما، فإنَّه أعظم من ذلك الشيء، وإلَّا كتم نبيٍّ وحيًا فإنَّه أعظم من ذلك كلِّه، إلَّا أنَّه لم يكتم نبيٌّ قطُّ حاشاهم، صلَّى الله وسلَّم عليهم، والافتراء: القطع، وهو حقيقة في الكذب وفي فعل ما لا يصلح، وقيل: مجاز مرسل، أو استعارة فيما لا يصلح.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/199.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ قال أبو السعود: كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله من الوعيد، وتأكيد وجوب الامتثال بالأمر بالإيمان، ببيان استحالة المغفرة بدونه، فإنهم كانوا يفعلون ما يفعلون من التحريف ويطمعون في المغفرة، كما في قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى﴾ (أي على التحريف) ﴿وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا﴾، والمراد بالشرك مطلق الكفر المنتظم لكفر اليهود انتظاما أوليّا، فإن الشرع قد نص على إشراك أهل الكتاب قاطبة، وقضى بخلود أصناف الكفرة في النار، ونزوله في حق اليهود، كما قال مقاتل، وهو الأنسب بسياق النظم الكريم، وسياقه لا يقتضي اختصاصه بكفرهم، بل يكفي اندراجه فيه قطعا، بل لا وجه له أصلا، لاقتضائه جواز مغفرة ما دون كفرهم في الشدة من أنواع الكفر، أي لا يغفر الكفر لمن اتصف به بلا توبة وإيمان، لأن الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب الكفر، وجواز مغفرته بلا إيمان مما يؤدي إلى فتحه، ولأن ظلمات الكفر والمعاصي إنما يسترها نور الإيمان، فمن لم يكن له إيمان لم يغفر له شيء من الكفر والمعاصي.

2. قال الشهاب: الشرك يكون بمعنى اعتقاد أن لله شريكا، وبمعنى الكفر مطلقا، وهو المراد هنا، وقد صرح به في قوله تعالى في سورة (البينة) بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [البينة: 6] فلا يبقى شبهة في عمومه.

3. وقال الرازيّ: هذه الآية دالة على أن اليهوديّ يسمى مشركا، في عرف الشرع، ويدل عليه وجهان:

أ. الأول: أن الآية دالة على أن ما سوى الشرك مغفور، فلو كانت اليهودية مغايرة للشرك لوجب أن تكون مغفورة بحكم هذه الآية، وبالإجماع هي غير مغفورة، فدل على أنها داخلة تحت اسم الشرك.

ب. الثاني: إن اتصال هذه الآية بما قبلها، إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود، فلو لا أن اليهودية داخلة تحت اسم الشرك، وإلا لم يكن الأمر كذلك، فإن قيل: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا﴾ إلى قوله: ﴿وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [الحج: 17]، فعطف المشرك على اليهوديّ، وذلك يقتضي المغايرة ـ قلنا المغايرة حاصلة بسبب المفهوم اللغويّ، والاتحاد حاصل بسبب المفهوم الشرعيّ، ولا بد من المصير إلا ما ذكرناه، دفعا للتناقض.

4. قال أبو البقاء: الشرك أنواع: شرك الاستقلال وهو إثبات إلهين مستقلين، كشرك المجوس، وشرك التبعيض، وهو تركيب الإله من آلهة كشرك النصارى، وشرك التقريب، وهو عبادة غير الله ليقرب إلى الله زلفى، كشرك متقدمي الجاهلية، وشرك التقليد، وهو عبادة غير الله تبعا للغير، كشرك متأخري الجاهلية، وشرك الأسباب، وهو إسناد التأثير للأسباب العادية، كشرك الفلاسفة والطبائعيين ومن تبعهم على ذلك، وشرك الأغراض، وهو العمل لغير الله، فحكم الأربعة الأولى الكفر بإجماع، وحكم السادس المعصية من غير كفر بإجماع، وحكم الخامس التفصيل، فمن قال في الأسباب العادية إنها تؤثر بطبعها فقد حكى الإجماع على كفره، ومن قال إنها تؤثر بقوة أودعها الله فيها فهو فاسق.

5. ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾ أي ما دون الشرك من المعاصي، صغيرة كانت أو كبيرة ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ تفضلا منه وإحسانا، قال ابن جرير: وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز وجل، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن كبيرته شركا بالله عز وجل، وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلا منه ورحمة، وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة، وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة، وقد تقدم قوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [النساء: 31]، وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر، فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته، ولذا قال الرازيّ: هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر، ثم جوّد وجوه الاستدلال، ومنها: أن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة، ومنها أن غفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة مقطوع به وغير معلق على المشيئة، فوجب أن يكون الغفران المذكور، في هذه الآية، هو غفران الكبيرة قبل التوبة، وهو المطلوب.

6. أول الزمخشريّ هذه الآية على مذهبه: بأن الفعل المنفيّ والمثبت جميعا، موجّهان إلى قوله تعالى‏ ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ على قاعدة التنازع، كأنه قيل: إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك، على أن المراد بالأول من لم يتب وبالثاني من تاب، قال ونظيره قولك: إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء، تريد لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله، ويبذل القنطار لمن يستأهله.

7. قال ناصر الدين في (الانتصاف): عقيدة أهل السنة أن الشرك غير مغفور البتة، وما دونه من الكبائر مغفور لمن يشاء الله أن يغفره له، هذا مع عدم التوبة، وأما مع التوبة فكلاهما مغفور، والآية إنما وردت فيمن لم يتب ولم يذكر فيها توبة كما ترى، فلذلك أطلق الله تعالى نفي مغفرة الشرك وأثبت مغفرة ما دونه مقرونة بالمشيئة، كما ترى، فهذا وجه انطباق الآية على عقيدة أهل السنة، وأما القدرية فإنهم يظنون التسوية بين الشرك وبين ما دونه من الكبائر، في أن كل واحد من النوعين لا يغفر بدون التوبة، ولا شاء الله أن يغفرهما إلا للتائبين، فإذا عرض الزمخشريّ هذا المعتقد على هذه الآية ردته ونبت عنه، إذ المغفرة منفية فيها عن الشرك وثابتة لما دونه مقرونة بالمشيئة فأما أن يكون المراد فيهما من لم يتب، فلا وجه للتفصيل بينهما بتعليق المغفرة في أحدهما بالمشيئة وتعليقها بالآخر مطلقا، إذ هما سيّان في استحالة المغفرة، وأما أن يكون المراد فيهما التائب فقد قال في‏ الشرك إنّه‏ ﴿لَا يَغْفِرُ﴾ والتائب من الشرك مغفور له، وعند ذلك أخذ الزمخشريّ يقطع أحدهما عن الآخر، فيجعل المراد مع الشرك عدم التوبة ومع الكبائر التوبة، حتى تنزل الآية على وفق معتقده فيحملها أمرين لا تحمل واحد منهما:

أ. أحدهما: إضافة التوبة إلى المشيئة وهي غير مذكورة ولا دليل عليها فيما ذكر، وأيضا لو كانت مرادة لكانت هي السبب الموجب للمغفرة على زعمهم عقلا، ولا يمكن تعلق المشيئة بخلافها على ظنهم في العقل، فكيف يليق السكوت عن ذكر ما هو العمدة والموجب، وذكر ما لا مدخل له على هذا المعتقد الردي‏ء؟

ب. الثاني: أنه بعد تقريره التوبة احتكم فقدرها على أحد القسمين دون الآخر، وما هذا إلا من جعل القرآن تبعا للرأي، نعوذ بالله من ذلك.. وأما القدرية فهم بهذا المعتقد يقع عليه بهم المثل السائر (السيد يعطي والعبد يمنع)، لأن الله تعالى يصرح كرمه بالمغفرة للمصرّ على الكبائر، إن شاء، وهم يدفعون في وجه هذا التصريح ويحيلون المغفرة بناء على قاعدة الأصلح والصلاح، التي هي بالفساد أجدر وأحق.

8. وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة:

أ. الأول: عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية، وقال: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ﴾ [المائدة: 72]، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه، أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز، إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا، فظلم العباد بعضهم بعضا، القصاص لا محالة)، رواه الإمام أحمد، وقد تفرد به.

ب. الثاني: عن أنس بن مالك عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: الظلم ثلاثة؛ فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يترك الله منه شيئا، فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، وقال: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]، وأما الظلم الذي يغفره‏ الله، فظلم العباد لأنفسهم، فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه، فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدين لبعضهم من بعض)، رواه أبو بكر البزار في مسنده.

ج. الثالث: عن معاوية قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا)، رواه الإمام أحمد والنسائيّ.

د. الرابع: عن أبي ذر: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: ما من عبد قال لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق (ثلاثا) ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر، قال فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر، وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول: وإن رغم أنف أبي ذر، أخرجه الإمام أحمد والشيخان، وفي رواية لهما عن أبي ذر: قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (قال لي جبريل: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت: يا جبريل! وإن سرق وإن زنى؟ قال نعم، قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال نعم، قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال نعم، وإن شرب الخمر)

هـ. الخامس: عن جابر قال: جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله! ما الموجبتان؟ قال من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك به دخل النار)، أخرجه مسلم‏ وعبد بن حميد في مسنده.

و. السادس: عن أبي سعيد الخدريّ‏ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة)، رواه الإمام أحمد.

ز. السابع: عن ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: قال الله عز وجل: من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي)، رواه الطبرانيّ.

ح. الثامن: عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له، ومن توعده على عمل عقابا، فهو فيه بالخيار، رواه البزار وأبو يعلى.

ط. التاسع: عن ابن عمر، قال كنا، معشر أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، حتى نزلت هذه الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، فأمسكنا عن الشهادة، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وفي رواية لابن أبي حاتم: فلما سمعناها كففنا عن الشهادة وأرجينا الأمور إلى الله عز وجل.

ي. العاشر: عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال ما في القرآن أحبّ إليّ من هذه الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، رواه الترمذيّ‏ وقال: حديث حسن غريب.

ك. الحادي عشر: عن أنس قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة)، رواه الترمذيّ‏ وقال: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وروى نحوه الإمام أحمد عن أبي ذرّ ولفظه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، (قال: إن الله عز وجل يقول: يا عبدي! ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك، ويا عبدي! إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي، لقيتك بقرابها مغفرة)، والأحاديث في ذلك متوافرة، ويكفي هذا المقدار.

9. ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ أي افترى واختلق، مرتكبا إثما لا يقادر قدره، ويستحقر دونه جميع الآثام، فلا تتعلق به المغفرة قطعا.

10. ذكر هنا الكثير من النقول عن ابن القيم وابن تيمية، وبعض المسائل المرتبطة بالحكم بالشرك والتكفير، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، ولا بهذه الآية الكريمة.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/147.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. روى ابن المنذر عن أبي مجلز قال لما نزل قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53] قام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه رجل فقال والشرك بالله فسكت ثم قام إليه فقال يا رسول الله والشرك بالله؟ فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ وروى ابن جرير نحوه عن ابن عمر، وروى ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري في رجل شكا ابن أخيه للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه لا ينتهي عن الحرام، وذكر الفخر الرازي أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة إذ أراد أن يسلم وخاف أن لا يقبل إسلامه وذكر في ذلك محاورة ومراجعة عزاها إلى ابن عباس وهي لا تصح فلا حاجة إلى إيرادها.

2. قال محمد عبده: قالوا إن سبب نزول هذه الآية قصة وحشي وأنه ندم على قتله لما أخلفه مولاه ما وعده من عتقه وراجع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في إسلامه فكأنهم يثبتون أن الله جلّت عظمته كان يداعب وحشيا وأصحابه ويستميلهم بآية بعد آية ولا حاجة إلى هذا كله فالكلام ملتئم بعضه مع بعض فهو بعد ما ذكر من شأن اليهود وأن عمدتهم في تكذيب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تحريف أحبارهم للكتاب وإتباعهم لهم في أمر الدين كما قال في آية أخرى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 31] وورد في تفسيرها المرفوع أنهم كانوا يتبعونهم في التحليل والتحريم من غير رجوع إلى أصل الكتاب، فهذه الآية تشير إلى أنهم وقعوا في الشرك المشار إليه في الآية الأخرى إذ الشرك بالله يتحقق باعتماد الإنسان على غير الله مع الله في طلب النجاة من رزايا الدنيا ومصائبها أو من العذاب في الآخرة كما يتحقق بالأخذ بقول بعض الناس في التشريع كالعبادات والعقائد والحلال والحرام وإثبات الشرك لليهود هنا وفي تلك الآية لا ينافي تسميتهم أهل الكتاب الذي يدخل فيه الإيمان بالله والأنبياء فإنه قال في الآية السابقة: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي إيمانا لا يعتد به إذ لا يقي صاحبه من الشرك.

3. قد بينا في مواضع كثيرة من التفسير حقيقة الشرك في الألوهية وهو الشعور بسلطة وتأثير وراء الأسباب والسنن الكونية لغير الله تعالى وكل قول وعمل ينشأ عن ذلك الشعور، والشرك في الربوبية وهو الأخذ بشئ من أحكام الدين والحلال والحرام عن بعض البشر دون الوحي وهذا النوع من الشرك هو الذي أشار محمد عبده إلى تفسير النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لآية التوبة به وهي قوله تعالى في أهل الكتاب كلهم: ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو، سبحانه وتعالى عما يشركون﴾ [التوبة: 32] فسر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اتخاذهم أربابا بطاعتهم واتباعهم في أحكام الحلال والحرام كما ذكرنا غير مرة، فهذا إثبات لطروء الشرك على أهل الكتاب وإن لم يجعل ذلك عنوانا لهم في القرآن لأنه ليس من أصل دينهم وليميزهم عن مشركي الوثنيين، وبينا أيضا أن الشرك في الألوهية والربوبية قد سرى منذ قرون كثيرة إلى بعض المسلمين حتى عرفت طوائف منهم بنبذ الإسلام البتة.

4. بإثبات الشرك لأهل الكتاب تظهر مناسبة وضع هذه الآية بين هذه الآيات في محاجتهم ودعوتهم إلى الإسلام كأنه يقول لا يغرنكم انتماؤكم إلى الكتب والأنبياء وقد هدمتم أساس دينهم بالشرك الذي لا يغفره الله بحال من الأحوال.

5. أما الحكمة في عدم مغفرة الشرك فهي أن الدين إنما شرع لتزكية نفوس الناس وتطهير أرواحهم وترقية عقولهم والشرك هو منتهى ما تهبط إليه عقول البشر وأفكارهم ونفوسهم ومنه تتولد جميع الرذائل والخسائس التي تفسد البشر في أفرادهم وجمعياتهم لأنه عبارة عن رفعهم لأفراد منهم أو لبعض المخلوقات التي هي دونهم أو مثلهم إلى مرتبة يقدسونها ويخضعون لها ويذلون بدافع الشعور بأنها ذات سلطة عليا فوق سنن الكون وأسبابه وأن إرضاءها وطاعتها هو عين طاعة الله تعالى أو شعبة منها لذاتها فهذه الخلة الدنيئة هي التي كانت سبب استبداد رؤساء الدين والدنيا بالأقوام والأمم واستعبادهم إياهم وتصرفهم في أنفسهم وأموالهم ومصالحهم ومنافعهم تصرف السيد المالك القاهر بالعبد الذليل الحقير وناهيك بما كان لذلك من الأخلاق السافلة والرذائل الفاشية من الذل والمهانة والدناءة والتملق والكذب والنفاق وغير ذلك.

6. والتوحيد الذي يناقض الشرك هو عبارة عن إعتاق الإنسان من رقّ العبودية لكل أحد من البشر وكل شيء من الأشياء السماوية والأرضية وجعله حرا كريما عزيزا لا يخضع خضوع عبودية مطلقة إلا لمن خضعت لسننه الكائنات، بما أقامه فيها من النظام في ربط الأسباب بالمسببات، فلسننه الحكيمة يخضع، ولشريعته العادلة المنزّلة يتبع، وإنما خضوعه هذا خضوع لعقله ووجدانه، لا لأمثاله في البشرية وأقرانه، وأما طاعته للحكام فهي طاعة للشرع الذي رضيه لنفسه، والنظام الذي يرى فيه مصلحته ومصلحة جنسه، لا تقديسا لسلطة ذاتية لهم، ولا ذلا واستخذاء لأشخاصهم، فإن استقاموا على الشريعة أعانهم، وإن زاغوا عنها استعان بالأمة فقومهم.

7. وأما سعادة الآخرة أو شقاؤها فهو أشد وأبقى، والمدار فيهما على التوحيد والشرك أيضا، أو روح الموحدين تكون راقية عالية لا تهبط بها الذنوب العارضة إلى الحضيض الذي تهوي فيه أرواح المشركين، فمهما عمل المشرك من الصالحات تبقى روحه سافلة مظلمة بالذل والعبودية والخضوع لغير الله تعالى، فلا ترتقي بعملها إلى المستوى الذي تنعم فيه أرواح الموحدين العالية في أجسادهم الشريفة، ومهما أذنب الموحدون فإن ذنوبهم لا تحيط بأرواحهم، وظلمتها لا تعم قلوبهم، لأنهم بتوحيد الله ومعرفته وعز الإيمان ورفعته يغلب خيرهم على شرهم، ولا يطول الأمد وهم في غفلتهم عن ربهم، بل هم كما قال تعالى: ﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201] يسرعون إلى التوبة، وإتباع الحسنة السيئة ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114]

8. فإذا ذهب أثر السيئة من النفس كان ذلك هو الغفران، فكل سيئات الموحدين قابلة للمغفرة، ولذلك قال تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ أي يغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده المذنبين وإنما مشيئته موافقة لحكمته، وجارية على مقتضى سننه، كما بينا ذلك في مواضع كثيرة من التفسير.

9. وقد أشرنا إليها آنفا بقولنا ومهما أذنب الموحدون.. وهو بيان لما يشاء غفرانه ولسننه في ذلك، وأما سنته تعالى فيما لا يغفره من الذنوب فتظهر من المقابلة، وتلك هي الذنوب التي لا يتوب منها صاحبها ولا يتبعها بالحسنات التي تزيل أثرها السيئ من النفس حتى يترتب عليه أثره السيئ في الدنيا ثم في الآخرة، فإن العقاب على الذنوب عبارة عن ترتيب آثارها في النفس عليها كما تؤثر الحرارة في الزئبق في الأنبوبة فيتمدد ويرتفع، وتؤثر فيه البرودة فيتقلص وينخفض، فهذا مثال سنته تعالى في تأثير الأعمال الصالحة والسيئة في نفوس البشر وجزائهم عليها كما بينا ذلك مرارا في التفسير وغيره.

10. وقد اضطرب في فهم الآية على بلاغتها وظهورها أصحاب المقالات والمذاهب الذين جعلوا القرآن عضين فلم يأخذوه بجملته ويفسروا بعضه ببعض كالجمع بين المشيئة والحكمة والنظام بل نظروا في كل جملة على حدتها وحاولوا حملها على مقالاتهم كالمرجئة والمعتزلة والخوارج وغيرهم، فهذا يقول إن الشرك وغير الشرك سواء في كونهما لا يغفران إلا بعد التوبة، وهذا يقول إنها دالة على عدم وجوب العقاب على الذنوب وجواز غفرانها كلها ما اجتنب الشرك، وذاك يقول إنها تكون على هذا مغرية بالمعاصي مجرئة عليها، والآية فوق ذلك تحدد ما يترتب عليه العقاب في الدنيا والآخرة حتما لإفساده للنفوس البشرية وهو الشرك، وتبين أن ما عداه لا يصل إلى درجته في إفساد النفس فمغفرته ممكنة تتعلق بها المشيئة الإلهية، فمنه ما يكون تأثيره السيئ في النفس قويا يقتضي العقاب، ومنه ما يكون ضعيفا يغفر بالتأثير المضاد له من صالح الأعمال.

11. ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ هذه الجملة تشعر بعلة عدم غفران الشرك والمعنى ومن يشرك بالله واجب الوجود قيوم السماوات والأرض القائم بنفسه الذي قام به كل شيء بأن يجعل لغيره شركة ما معه دع الإلحاد بإنكار سلطته التي هي مصدر النظام البديع في الكون سواء كانت تلك الشركة بالتأثير في الإيجاد والإمداد أو بالتشريع والتحليل والتحريم من يشرك به في ذلك فقد افترى إثما عظيما أي اخترع ذنبا مفسدا عظيم الفحش والضرر، سيئ المبدأ والأثر، تستصغر في جنب عظمته جميع الذنوب والآثام، فيكون جديرا بأن لا يغفر وإن كان ما دونه قد يمحوه الغفران، والافتراء افتعال من فرى يفري وأصل معناه القطع، ويطلق على الكذب والإفساد لأن قطع الشيء الصحيح مفسد له والشرك بالقول لا يكون إلا كذبا وبالفعل لا يكون إلا فسادا، قال الراغب: الفري قطع الجلد للخرز والإصلاح والإفراء (قطعه) للإفساد والافتراء فيهما وفي الإفساد أكثر ولذلك استعمل في القرآن في الكذب والشرك والظلم، وذكر الآية وغيرها من الشواهد.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/147.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن هدد سبحانه اليهود على الكفر وتوعدهم عليه بأشد الوعيد كطمس الوجوه والرد على الأدبار، ثم بين أن ذلك الوعيد واقع لا محالة بقوله: وكان أمر الله مفعولا، ذكر هنا أن هذا الوعيد وشديد التهديد إنما هو لجريمة الكفر، فأما سائر الذنوب سواه فالله قد يغفرها ويتجاوز عن زلاتها.

2. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الشرك بالله ضربان:

أ. شرك في الألوهية، وهو الشعور بسلطة وراء الأسباب والسنن الكونية لغير الله تعالى.

ب. شرك في الربوبية، وهو الأخذ بشيء من أحكام الدين بالتحليل والتحريم عن بعض البشر دون الوحى، وهذا ما أشار إليه الكتاب الكريم بقوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ وقد فسر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اتخاذهم أربابا بطاعتهم واتباعهم في أحكام الحلال والحرام.

3. وقد سرى الشرك في الألوهية والربوبية إلى بعض المسلمين منذ قرون كثيرة، وفي الآية إيماء إلى تسمية أهل الكتاب بالمشركين، وكأنه يقول لهم: لا يغرّنكم انتماؤكم إلى الكتب والأنبياء، وقد هدمتم أساس الدين بالشرك الذي لا يغفره الله بحال.

4. والحكمة في عدم مغفرة الشرك أن الدين إنما شرع لتزكية النفوس وتطهير الأرواح وترقية العقول، والشرك ينافى كل هذا، لأنه منتهى ما تهبط إليه العقول، ومنه تتولد سائر الرذائل التي تفسد الأفراد والجماعات، فبه يرفعون من دونهم أو من هم مثلهم إلى مرتبة التقديس والخضوع لهم، باعتبار أن السلطة العليا بأيديهم، وأن إرضاءهم وطاعتهم هو إرضاء لله وطاعة له، وبالتوحيد يعتق المرء من رق العبودية لأحد من البشر أو لشيء من الأشياء السماوية أو الأرضية، ويكون حرا كريما لا يخضع إلا لمن خضعت لسننه الكائنات، بما أقامه من ربط الأسباب بالمسببات.

5. والخلاصة ـ إن أرواح الموحدين تكون راقية لا تهبط بها الذنوب إلى الحضيض الذي تهوى إليه أرواح المشركين، إذ مهما عمل المشرك من الطيبات، فإن روحه تبقى مظلمة بالعبودية والخضوع لغير الله، ومهما أذنب الموحدون، فإن ذنوبهم لا تحيط بأرواحهم، إذ خيرهم يغلب شرهم، ولا يبعد بهم الأمد وهم في غفلة عن ربهم كما قال تعالى‏ ﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ فهم يسرعون إلى التوبة ويتبعون السيئة بالحسنة حتى يذهب أثرها من النفس، وذلك هو غفرانها.

6. ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ أي ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده الذين أذنبوا، ومشيئة الله تعالى تكون وفق حكمته، وعلى مقتضى سنته في خليقته، وقد جرت سنته بألا يغفر الذنوب التي لا يتوب صاحبها، ولا يتبعها بالحسنات التي تزيل آثارها من نفس فاعلها، وقصارى ذلك ـ إن الشرك لإفساده للنفوس يترتب عليه العقاب حتما في الدنيا والآخرة، وما عداه لا يصل إلى درجته في إفساد النفوس، فمغفرته ممكنة تتعلق بها المشيئة الإلهية، فمنه ما يكون تأثيره السيئ في النفوس قويا، ومنه ما يكون ضعيفا يغفر بالتأثير بصالح العمل.

7. ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ أي ومن يجعل لغير الله شركة مع الله قيّوم السماوات والأرض ـ سواء أكانت الشركة بالإيجاد أو بالتحليل والتحريم ـ فقد اخترع ذنبا عظيم الضرر، تستصغر في جنب عظمته جميع الذنوب والآثام، فهو جدير بألا يغفر، وما دونه قد يمحى بالغفران.

__________

(1) تفسير المراغى: 5/58.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سياق الآية هكذا يتضمن اتهام اليهود بالشرك؛ ودعوتهم إلى الإيمان الخالص والتوحيد، ولا يذكر هنا القول أو الفعل الذي يعده عليهم شركا.. وقد ورد في مواضع أخرى تفصيل لهذا، فقد روى القرآن عنهم قولهم: (عزير ابن الله) كقول النصارى (المسيح ابن الله)، وهو شرك لا شك فيه! كذلك روى عن هؤلاء وهؤلاء أنهم‏ ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾.. وهم لم يكونوا يعبدون الأحبار والرهبان، إنما كانوا ـ فقط ـ يقرون لهم بحق التشريع، حق التحليل والتحريم، الحق الخاص بالله، والذي هو من خصائص الألوهية، ومن ثم اعتبرهم القرآن مشركين.

2. ولهذا الاعتبار قيمة خاصة في التصور الإسلامي الصحيح لحد الإسلام وشرط الإيمان ـ كما سيجي‏ء في سياق السورة بالتفصيل، وعلى أية حال فاليهود على عهد الرسالة المحمدية كانت عقائدهم في الجزيرة حافلة بالوثنيات، منحرفة عن التوحيد، والتهديد هنا موجه إليهم بأن الله يغفر ما دون الشرك ـ لمن يشاء ـ ولكنه لا يتسامح في إثم الشرك العظيم، ولا مغفرة عنده لمن لقيه مشركا به؛ لم يرجع في الدنيا عن شركه.

3. إن الشرك انقطاع ما بين الله والعباد، فلا يبقى لهم معه أمل في مغفرة، إذا خرجوا من هذه الدنيا وهم مشركون، مقطوعو الصلة بالله رب العالمين، وما تشرك النفس بالله، وتبقى على هذا الشرك حتى تخرج من الدنيا ـ وأمامها دلائل التوحيد في صفحة الكون وفي هداية الرسل ـ ما تفعل النفس هذا وفيها عنصر من عناصر الخير والصلاحية، إنما تفعله وقد فسدت فسادا لا رجعة فيه! وتلفت فطرتها التي برأها الله عليها، وارتدت أسفل سافلين، وتهيأت بذاتها لحياة الجحيم!

4. أما ما وراء هذا الإثم المبين الواضح الظاهر، والظلم العظيم الوقح الجاهر.. أما ما وراء ذلك من الذنوب ـ والكبائر ـ فإن الله يغفره ـ لمن يشاء ـ فهو داخل في حدود المغفرة ـ بتوبة أو من غير توبة كما تقول بعض الروايات المأثورة الواردة ـ ما دام العبد يشعر بالله؛ ويرجو مغفرته؛ ويستيقن أنه قادر على أن يغفر له؛ وأن عفوه لا يقصر عن ذنبه.. وهذا منتهى الأمد في تصوير الرحمة التي لا تنفد ولا تحد؛ والمغفرة التي لا يوصد لها باب؛ ولا يقف عليها بوّاب(2).

5. روى الطبراني ـ بإسناده ـ عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (قال الله عزّ وجل: من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي، ما لم يشرك بي شيئا)، وفي هذا الحديث الأخير لمحة كاشفة.. فالمهم هو شعور القلب بالله على حقيقته ـ سبحانه ـ ومن وراء هذا الشعور الخير، والرجاء، والخوف، والحياء.. فإذا وقع الذنب، فمن ورائه هذه السمات تؤهل للتقوى وتؤهل للمغفرة.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/679.

(2) ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ ـ ما يسأل عنه.. وهو: هل أهل الكتاب هؤلاء مشركون، حتى تجيء هذه الآية في سياق الحديث عنهم، وفضح نفاقهم؟ والجواب: إنهم ـ كما وصفهم، القرآن في كثير من آياته ـ كافرون، ومنافقون، ومؤمنون.. يجمعون بين الإيمان والكفر، أما الشرك فهو الصفة الغالبة التي أطلقها القرآن على كفار قريش، الذين لم ينكروا وجود الله، ولكنهم عبدوا أصناما لهم من دون الله، وقالوا: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ ومع هذا، فإن بين الكافرين من أهل الكتاب، والمشركين من العرب صلة جامعة، هي الخروج عن سواء السبيل، والتنكّب عن طريق الحق! وإذ جرى ذكر الكافرين المنافقين من أهل الكتاب، وما توعدهم‏ الله به إن لم يؤمنوا، إيمانا كاملا ـ حسن أن يجرى ذكر قرنائهم من مشركى العرب، وأن يلتقى بعضهم ببعض، ويواجه بعضهم بعضا، بهذه الوجوه المنكرة وما بأيديهم من آثام.. وفي ذلك ما فيه من إثارة الذعر والفزع، فيما يرى كل واحد من الفريقين في وجه صاحبه، من وبال ونكال.. إنها حال أشبه بتلك الحال التي يثيرها اجتماع المجرمين ـ على اختلاف جرائمهم ـ في ساحة العدل والقصاص، من صور الإيلام، والأسى، والفزع، التي تشتمل على أصحاب هذا الموقف جميعا!

2. والشرك عدوان على الله، وإنزال بقدره، حين يسوّى بينه وبين المعبودين، من جماد، وحيوان، وإنسان! ولهذا كان الشرك أعظم من الكفر، إذ الكافر ـ مع إنكاره للهـ حين يتعرف على الله لا يراه على تلك الصورة التي يراه عليها المشرك، ولا ينزل بقدره إلى هذا المستوي المهين! ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾

3. فالشرك كبيرة الكبائر، لا يغفر الله لمرتكيها، ولا يدخله مدخل عباده، الداخلين في رحمته ومغفرته، ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾، ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ﴾

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/812.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يجوز أن تكون هذه الجملة متعلقة بما قبلها من تهديد اليهود بعقاب في الدنيا، فالكلام مسوق لترغيب اليهود في الإسلام، وإعلامهم بأنّهم بحيث يتجاوز الله عنهم عند حصول إيمانهم، ولو كان عذاب الطمس نازلا عليهم، فالمراد بالغفران التجاوز في الدنيا عن المؤاخذة لهم بعظم كفرهم وذنوبهم، أي يرفع العذاب عنهم، وتتضمّن الآية تهديدا للمشركين بعذاب الدنيا يحلّ بهم فلا ينفعهم الإيمان بعد حلول العذاب، كما قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ﴾ [يونس: 98] الآية، وعلى هذا الوجه يكون حرف‏ ﴿إِنَّ﴾ في موقع التعليل والتسبّب، أي آمنوا بالقرآن من قبل أن ينزل بكم العذاب، لأنّ الله يغفر ما دون الإشراك به، كقوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: 33]، أي ليعذّبهم عذاب الدنيا، ثم قال: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ﴾ [الأنفال: 34]، أي في الدنيا، وهو عذاب الجوع والسيف، وقوله: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الدخان: 10، 11]، أي دخان عام المجاعة في قريش، ثم قال: ﴿إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ﴾ [الدخان: 15، 16] أي بطشة يوم بدر.

ب. أو يكون المراد بالغفران التسامح، فإنّ الإسلام قبل من أهل الكتابين الدخول تحت ذمّة الإسلام دون الدخول في دين الإسلام، وذلك حكم الجزية، ولم يرض من المشركين إلّا بالإيمان دون الجزية، لقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة: 5]، وقال في شأن أهل الكتاب‏ ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: 29]

ج. ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة، وقعت اعتراضا بين قوارع أهل الكتاب ومواعظهم، فيكون حرف‏ ﴿إِنَّ﴾ لتوكيد الخبر لقصد دفع احتمال المجاز أو المبالغة في الوعيد، وهو إمّا تمهيد لما بعده لتشنيع جرم الشرك بالله ليكون تمهيدا لتشنيع حال الذين فضّلوا الشرك على الإيمان، وإظهارا لمقدار التعجيب من شأنهم الآتي في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ [النساء: 51]، أي فكيف ترضون بحال من لا يرضى الله عنه، والمغفرة على هذا الوجه يصحّ حملها على معنى التجاوز الدنيوي، وعلى معنى التجاوز في الآخرة على وجه الإجمال.

د. وإمّا أن يكون استئناف تعليم حكم في مغفرة ذنوب العصاة: ابتدئ بمحكم وهو قوله: ﴿لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾، وذيّل بمتشابه وهو قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾؛ فالمغفرة مراد منها التجاوز في الآخرة، قال القرطبي (فهذا من المتشابه الذي تكلّم العلماء فيه) وهو يريد أنّ ظاهرها يقتضي أمورا مشكلة:

أ. الأول: أنّ يقتضي أنّ الله قد يغفر الكفر الذي ليس بشرك ككفر اليهود.

ب. الثاني: أنّه يغفر لمرتكب الذنوب ولو لم يتب.

ج. الثالث: أنّه قد لا يغفر للكافر بعد إيمانه وللمذنب بعد توبته، لأنّه وكل الغفران إلى المشيئة، وهي تلاقي الوقوع والانتفاء.

2. كلّ هذه الثلاثة قد جاءت الأدلّة المتظافرة على خلافها، واتّفقت الأمّة على مخالفة ظاهرها، فكانت الآية من المتشابه عند جميع المسلمين، قال ابن عطية: (وهذه الآية هي الحاكمة ببيان ما تعارض من آيات الوعد والوعيد، وتلخيص الكلام فيها أن يقال: الناس أربعة أصناف: كافر مات على كفره، فهذا مخلّد في النار بإجماع، ومؤمن محسن لم يذنب قط ومات على ذلك فهو في الجنة محتوم عليه حسب الوعد في الله بإجماع وتائب مات على توبته فهذا عند أهل السنّة وجمهور فقهاء الأمّة لا حق بالمؤمنين المحسن، ومذنب مات قبل توبته فهذا هو موضع الخلاف: فقالت المرجئة: هو في الجنّة بإيمانه ولا تضره سيّئاته، وجعلوا آيات الوعيد كلّها مخصّصة بالكفار وآيات الوعد عامّة في المؤمنين؛ وقالت المعتزلة: إذا كان صاحب كبيرة فهو في‏ النار لا محالة؛ وقالت الخوارج: إذا كان صاحب كبيرة أو صغيرة فهو في النار مخلّد ولا إيمان له، وجعلوا آيات الوعد كلّها مخصّصة بالمؤمن المحسن والمؤمن التائب، وجعلوا آيات الوعيد عامّة في العصاة كفارا أو مؤمنين؛ وقال أهل السنّة: آيات الوعد ظاهرة العموم ولا يصحّ نفوذ كلّها لوجهه بسبب تعارضها كقوله تعالى: ﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [الليل: 15، 16] وقوله: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ [الجن: 23]، فلا بدّ أن نقول: إنّ آيات الوعد لفظها لفظ العموم، والمراد به الخصوص: في المؤمن المحسن، وفيمن سبق في علم الله تعالى العفو عنه دون تعذيب من العصاة، وأنّ آيات الوعيد لفظها عموم والمراد به الخصوص في الكفرة، وفيمن سبق علمه تعالى أنّه يعذّبه من العصاة، وآية ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ جلت الشكّ وذلك أنّ قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾ مبطل للمعتزلة، وقوله: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ رادّ على المرجئة دالّ على أنّ غفران ما دون الشرك لقوم دون قوم) ولعلّه بنى كلامه على تأويل الشرك به بما يشمل الكفر كلّه، أو بناه على أنّ اليهود أشركوا فقالوا: عزير ابن الله، والنصارى أشركوا فقالوا: المسيح ابن الله، وهو تأويل الشافعي فيما نسبه إليه فخر الدين، وهو تأويل بعيد، فالإشراك له معناه في الشريعة، والكفر دونه له معناه.

3. والمعتزلة تأوّلوا الآية بما أشار إليه في (الكشّاف): بأنّ قوله: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ معمول يتنازعه‏ ﴿لَا يَغْفِرُ﴾ المنفي‏ ﴿وَيَغْفِرْ﴾ المثبت، وتحقيق كلامه أن يكون المعنى عليه: إنّ الله لا يغفر الشرك لمن يشاء ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء، ويصير معنى لا يغفر لمن يشاء أنّه لا يشاء المغفرة له إذ لو شاء المغفرة له لغفر له، لأنّ مشيئة الله الممكن لا يمنعها شيء، وهي لا تتعلّق بالمستحيل، فلمّا قال: ﴿لَا يَغْفِرُ﴾ علمنا أنّ‏ ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ معناه لا يشاء أن يغفر، فيكون الكلام من قبيل الكناية، مثل قولهم: لا أعرفنّك تفعل كذا، أي لا تفعل فأعرفك فاعلا، وهذا التأويل تعسّف بيّن، وأحسب أنّ تأويل الخوارج قريب من هذا.

4. أمّا المرجئة فتأوّلوا بما نقله عنهم ابن عطية: أنّ مفعول‏ ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ محذوف دلّ عليه قوله: ﴿أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾، أي ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء الإيمان، أي لمن آمن، وهي تعسّفات تكره القرآن على خدمة مذاهبهم.

5. وعندي أنّ هذه الآية، إن كانت مرادا بها الإعلام بأحوال مغفرة الذنوب فهي آية اقتصر فيها على بيان المقصود، وهو تهويل شأن الإشراك، وأجمل ما عداه إجمالا عجيبا، بأن أدخلت صوره كلّها في قوله: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ المقتضي مغفرة لفريق مبهم ومؤاخذة لفريق‏ مبهم، والحوالة في بيان هذا المجمل على الأدلّة الأخرى المستقراة من الكتاب والسنّة، ولو كانت هذه الآية ممّا نزل في أوّل البعثة لأمكن أن يقال: إنّ ما بعدها من الآيات نسخ ما تضمّنته، ولا يهولنا أنّها خبر لأنّها خبر مقصود منه حكم تكليفي، ولكنّها نزلت بعد معظم القرآن، فتعيّن أنّها تنظر إلى كلّ ما تقدّمها، وبذلك يستغني جميع طوائف المسلمين عن التعسّف في تأويلها كلّ بما يساعد نحلته، وتصبح صالحة لمحامل الجميع، والمرجع في تأويلها إلى الأدلّة المبيّنة، وعلى هذا يتعيّن حمل الإشراك على معناه المتعارف في القرآن والشريعة المخالف لمعنى التوحيد، خلاف تأويل الشافعي الإشراك بما يشمل اليهودية والنصرانية، ولعلّه نظر فيه إلى قول ابن عمر في تحريم تزوّج اليهودية والنصرانية بأنّهما مشركتان.. وقال: أيّ شرك أعظم من أن يدعى الله ابن، وأدلّة الشريعة صريحة في اختلاف مفهوم هذين الوصفين، وكون طائفة من اليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، لا يقتضي جعلهم مشركين إذ لم يدّعوا مع ذلك لهذين إلهية تشارك الله تعالى، واختلاف الأحكام التكليفية بين الكفرين دليل على أن لا يراد بهذا اللفظ مفهوم مطلق الكفر، على أنه ماذا يغني هذا التأويل إذا كان بعض الكفرة لا يقول بإلهية غير الله مثل معظم اليهود.

6. وقد اتّفق المسلمون كلّهم على أنّ التوبة من الكفر، أي الإيمان، يوجب مغفرته سواء كان كفر إشراك أم كفرا بالإسلام، لا شكّ في ذلك، إمّا بوعد الله عند أهل السنّة، أو بالوجوب العقلي عند المعتزلة؛ وأنّ الموت على الكفر مطلقا لا يغفر بلا شكّ، إمّا بوعيد الله، أو بالوجوب العقلي؛ وأنّ المذنب إذا تاب يغفر ذنبه قطعا، إمّا بوعد الله أو بالوجوب العقلي، واختلف في المذنب إذا مات على ذنبه ولم يتب أو لم يكن له من الحسنات ما يغطّي على ذنوبه، فقال أهل السنّة: يعاقب ولا يخلّد في العذاب بنصّ الشريعة، لا بالوجوب، وهو معنى المشيئة، فقد شاء الله ذلك وعرّفنا مشيئته بأدلّة الكتاب والسنّة، وقال المعتزلة والخوارج: هو في النار خالدا بالوجوب العقلي، وقال المرجئة: لا يعاقب بحال، وكلّ هاته الأقسام داخل في إجمال‏ ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾

7. وقوله: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ زيادة في تشنيع حال الشرك، والافتراء: الكذب الذي لا شبهة للكاذب فيه، لأنّه مشتقّ من القرى، وهو قطع الجلد، وهذا مثل ما أطلقوا عليه لفظ الاختلاق من الخلق، وهو قطع الجلد، وتقدّم عند قوله‏ تعالى: ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ في سورة آل عمران، والإثم العظيم: الفاحشة الشديدة.

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/151.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ اشتملت الآية السابقة على دعوة أهل الكتاب، وأنه إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وعلى إنذار شديد في الدنيا بإجلائهم وقتلهم، أو لعنهم من الناس أجمعين، وفي هذا النص الكريم فتح لباب المغفرة التي كتبها الله على نفسه لعباده؛ لأنه كتب على نفسه الرحمة، ومعنى النص: إن الله تعالى ليس من شأنه أن يغفر لمن يشرك به في العبادة أو في الربوبية؛ لأن الشرك انحراف شديد لا يقبل الغفران، إلا أن يعود إلى التوحيد المطلق بعد الإشراك، والإشراك نوعان: إشراك في الإنشاء والتكوين أو العبادة؛ كأولئك الذين يعتقدون أن الكواكب لها دخل في الإنشاء، وكأولئك الذين يعبدون غير الله، وإن كانوا يعتقدون أن الله تعالى وحده هو الذي خلق وأنشأ وكون، ويعبدون الأوثان لأنها في زعمهم تقربهم إلى الله زلفى، والنوع الثاني من الإشراك أن يتركوا كتب الله تعالى، ويعرضوا عنها، ويتخذوا دينهم من الأحبار، ولو غيروا فيه وبدلوا، زاعمين أنهم لا يتكلمون إلا عن الله تعالى، وإن كان الكتاب يخالف قولهم، ومن هؤلاء من أشار الله تعالى إليهم بقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَسُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏﴾ [التوبة] فهذا نوع من الإشراك لا يقل خطرا عن الشرك في العبادة؛ لأن الله وحده هو الذي أنشأ الكون، وهو وحده الذي يشرع لعباده، وبين لهم أوامره ونواهيه، وليس لأحد أن يتكلم عنه إلا أن يكون رسولا منه إلى العالمين، فمن اتخذ غير الرسول طريقا لمعرفة شرع الله من غير كتاب الرسول وكلامه فقد أشرك بالله.

2. وقد ذكر سبحانه أنه لا يغفر ذلك، وأكد عدم الغفران لهذه الحال بـ (إن) التي تفيد التوكيد، فلا يرجو مشرك غفرانا، أيا كان نوع الشرك، إلا أن يقلع عنه، فإن الله تعالى غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا.

3. وقد ذكر سبحانه أنه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، وما دون الشرك يكون من مرتكب الكبيرة أو الصغيرة من أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن آمن بالأنبياء السابقين قبل أن تنسخ شريعتهم بالشريعة المحمدية، فإن هؤلاء قد وعد سبحانه وتعالى فضلا منه ومنة على عباده أن يغفر لهم ما يشاء لمن يشاء من عباده، ذلك أن من يرتكب الكبيرة إن تاب عنها غفرها الله تعالى، وإن لم يتب ولم تحط الخطايا بنفسه، وله حسنات، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وفي ميزان الله تعالى العادل يوم القيامة توزن الحسنات والسيئات، فمن ثقلت كفة حسناته فأولئك هم المفلحون، ومشيئة الله تعالى هي مشيئة الحكيم الخبير، الذي يضع كل أمر في موضعه، ولا يظلم ربك أحدا.

4. ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ الافتراء هنا معناه الكذب الشديد الذي يؤدى إلى الفساد، جاء في مفردات الراغب: الفرى قطع الجلد للخرز والإصلاح، والإفراء للإفساد، والافتراء فيهما، وفي الإفساد أكثر، وكذلك استعمل في القرآن في الكذب والشرك والظلم نحو: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ فمعنى‏ ﴿فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ فقد كذب كذبا فيه ظلم وفيه إفساد وضلال، وكان ذلك كله إثما عظيما، فالشرك يتضمن الكذب على الله تعالى بادعاء شريك له تعالى، ويتضمن ظلما؛ لأنه اعتداء على المستحق للعبادة وحده، وهو فساد في النفوس، و(افترى) هنا تضمن قولا كذبا، وفعلا ظالما، وتضمن أعظم ذنب في الوجود؛ لأنه اعتداء على رب العالمين، وقد يقول قائل إن الافتراء أكثر ما يكون باللسان، فكيف يقال: ﴿فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾؟ والجواب عن ذلك أن الافتراء بالنسبة للشرك لما تضمنه من أفعال، اعتبر في ذاته ارتكابا لأعظم ذنب في الوجود، اللهم جنبنا الشرك ما ظهر منه وما خفى، واجعلنا من عبادك المخلصين.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1709.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، وقبل الشروع بتفسير الآية نمهد بأمرين يتصلان بها اتصالا وثيقا:

أ. ينقسم الشرك الى نوعين: شرك في الألوهية، كمن يعتقد بتعدد الخالق والرازق، وشرك في الطاعة، كمن يؤمن بإله واحد نظريا، ولكن يطيع المخلوق في معصية الخالق، والكفر أيضا على نوعين: كفر في الألوهية وجحودها من رأس، وكفر في الطاعة، كمن يؤمن بإله واحد، ثم يعصيه تهاونا، ومنه كفران النعم، وعدم شكر المنعم، والمراد بالشرك في الآية النوعان الأولان من الشرك والكفر، أي الايمان بتعدد الآلهة، وعدم الايمان بشيء إطلاقا.

ب. إذا ورد كلام عام يحكم حكما ايجابيا على عديد من الأفراد، وورد أيضا كلام خاص ينفي حكم الخاص عن بعض الأفراد التي تناولها العام، وكان الكلامان من مصدر واحد، ان كان الأمر كذلك وجب حمل العام على الخاص، أي استثناء ما دل عليه الخاص مما دل عليه العام، وللتوضيح نضرب هذا المثال: قال تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾، فقد دلت الآية على ان كل سارق تقطع يده، حتى أيام المجاعة، ثم جاء الحديث الشريف يقول: (لا يقطع السارق في عام مسنت) أي مجاعة، فوجب، والحال هذه، أن نقيد آية السرقة العامة بحديث المجاعة، والحكم بأن كل سارق يقطع الا أيام المجاعة.

2. وبعد ان تمهد معنا هذا نقارن بين ثلاث آيات، ومن نتيجة المقارنة يتضح المراد من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾، جاء في الآية 53 الزمر: ﴿قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَالْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، فلفظ هذه الآية عام، ومعناها واضح، وهو ان الله يغفر كل ذنب، حتى الشرك، ولكن آية ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ لفظها خاص، ومعناها واضح أيضا، وهو ان الله لا يغفر الشرك، فوجب استثناء المشرك من آية الزمر جمعا بين الآيتين، ثم جاءت آية ثالثة تقول: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾، فهذه الآية أخرجت التائب من آية ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ﴾ تماما كما أخرجت هي المشرك من آية الزمر، فتحصل معنا من مقارنة الآيات الثلاث، وعطف بعضها على بعض ان من تاب من الشرك غفر الله له، لأنه كفّر عن ذنبه، وان من مات على الشرك فلا نجاة له، لأنه فوّت الفرصة على نفسه، ولأن الصفح عنه إغراء بالشرك والخضوع لغير الحق والعدل.. هذا، الى ان العفو عن المشرك، معناه ان الله يقول لمن أساء: أحسنت.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

3. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ يشعر بأن أي ذنب ـ غير الشرك ـ يرتكبه الإنسان يجوز أن يغفره الله قبل التوبة، لأن غفران الذنب مع التوبة ثابت بنص الكتاب والسنة، فيختص قوله: ﴿يَغْفِرْ﴾ بالمؤمن المذنب غير التائب.. وبكلمة ان الآية تدل على ان الصفح عن ذنب المؤمن لا ينحصر بالتوبة فقط، بل قد يصفح الله عن ذنوب المؤمنين، دون أن يتوبوا؟ والجواب: اتفق المسلمون على أن من مات على توبة قبل الله منه للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، واختلفوا في المسلم المذنب إذا مات قبل التوبة.

أ. قال الخوارج: هو مخلد في النار، تماما كالكافر، سواء أكان ذنبه كبيرا أم صغيرا.

ب. وقالت طائفة من المرجئة: هو في الجنة من غير عقاب، إذ لا يضر مع الايمان معصية، ولا ينفع مع الكفر طاعة بزعمهم.

ج. وقال الشيعة والسنة: لا يخلد في النار، ويترك ذنبه لمشيئة الله، فإن شاء غفر، وادخله الجنة منذ اللحظة الأولى، وان شاء عذّبه بمقدار ما يستحق، ثم أدخله الجنة.

4. والذي نراه نحن لا يختلف كثيرا عن قول السنة والشيعة، ونقرره بهذا الأسلوب: ان الله سبحانه لا يشاء الغفران عبثا، ومن غير حكمة تستدعيه، والحكمة الموجبة للغفران لا تنحصر بالتوبة، فقد تكون الشفاعة، أو غيرها، وليس من الضروري أن نعلمها بالتفصيل، بل يكفي العلم بأن الله حكيم وكفى، وعليه فلا مانع في نظر العقل أن يغفر الله ذنوب المؤمن، وان لم يتب.. وسبق منا كلام يتعلق بهذا البحث عند تفسير الآية 81 من سورة البقرة، فقرة مرتكب الكبيرة.

5. ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾، لأنه آمن بالمستحيل، ومن الأدلة على ان الله واحد انه لو وجد إلهان: فلا يخلو: إما أن يكون أحدهما قادرا على تدبير العالم، واما ان لا يكون، فان كان قادرا كان وجود الثاني عبثا، ولزوم ما لا يلزم، وان لم يكن قادرا فلا يصلح للالوهية، لعجزه من جهة، وعدم الفائدة من وجوده من جهة ثانية، وخير الأدلة كلها ما استدلّ به سبحانه على وحدانية ذاته بذاته، حيث‏ قال: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ ـ 22 الأنبياء)، أي لو كان في السماء والأرض آلهة سوى الله لما استقامتا، ولفسد من فيهما وما فيهما، ولم ينتظم أمر من الأمور، ذلك انه لو وجد إلهان لكان كل منهما قادرا، ومن شأن القادر أن يكون مريدا ضد ما يريده الآخر، وعليه فإذا أراد أحدهما خلق شيء، وأراد الآخر خلافه، فاما أن يحصل مرادهما معا، فيلزم اجتماع الوجود والعدم، وهو محال، واما أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر، فيكون هذا الآخر عاجزا ومغلوبا على أمره.. وبديهة ان العاجز لا يكون إلها، وفي الآية 91 المؤمنون: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾، ومن الأمثلة الشائعة (حصانان لا يربطان على معلف واحد)، وقال علي أمير المؤمنين لولده الحسن عليه السلام: (واعلم يا بني انه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ورأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته)

6. سؤال وإشكال: هل القول: ان الله واحد، ولكنه ذو أقانيم ثلاثة: أب وابن وروح القدس هو من باب التوحيد، أو من باب تعدد الآلهة؟ والجواب: هذا يتوقف على بيان المراد من الأقانيم، فان أريد منها الصفات كالرحمن والرحيم فهو من التوحيد، وان أريد منها الشخص فهو من التعدد، وقال سعيد الخوري الشرتوني في أقرب الموارد: (أقانيم جمع أقنوم، ومعناه الأصل والشخص)، وعلى هذا يكون من تعدد الآلهة، لا من التوحيد، ويؤيده ان لفظ الأب والابن، يستدعيان التعدد والتغاير في الشخص والذات.. بالاضافة الى ان الصور والتماثيل في المعابد الخاصة للسيدة العذراء عليه السلام تعبر بوضوح عن التعدد، لأنها تحمل بين يديها طفلا يرمز الى السيد المسيح عليه السلام.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/342.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ ظاهر السياق أن الآية في مقام التعليل للحكم المذكور في الآية السابقة أعني قوله: ﴿آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ﴾ إلخ، فيعود المعنى إلى مثل قولنا: فإنكم إن لم تؤمنوا به كنتم بذلك مشركين، والله لا يغفر أن يشرك به فيحل عليكم غضبه وعقوبته فيطمس وجوهكم بردها على أدبارها أو يلعنكم فنتيجة عدم المغفرة هذه ترتب آثار الشرك الدنيوية من طمس أو لعن عليه، وهذا هو الفرق بين مضمون هذه الآية، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾، فإن هذه الآية (آية 48)، تهدد بآثار الشرك الدنيوية، وتلك (آية 116)، تهدد بآثاره الأخروية، وذلك بحسب الانطباق على المورد وإن كانتا بحسب الإطلاق كلتاهما شاملتين لجميع الآثار.

2. ومغفرته سبحانه وعدم مغفرته لا يقع شيء منهما وقوعا جزافيا، بل على وفق الحكمة، وهو العزيز الحكيم، فأما عدم مغفرته للشرك فإن الخلقة إنما تثبت على ما فيها من الرحمة على أساس العبودية والربوبية، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، ولا عبودية مع شرك، وأما مغفرته لسائر المعاصي والذنوب التي دون الشرك فلشفاعة من جعل له الشفاعة من الأنبياء الأولياء والملائكة والأعمال الصالحة على ما مر تفصيله في بحث الشفاعة.

3. وأما التوبة فالآية غير متعرضة لشأنها من حيث خصوص مورد الآية لأن موردها عدم الإيمان ولا توبة معه، على أن التوبة يغفر معها جميع الذنوب حتى الشرك، قال تعالى: ﴿قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَالْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى‏ رَبِّكُمْ‏﴾

4. والمراد بالشرك في الآية ما يعم الكفر لا محالة فإن الكافر أيضا لا يغفر له البتة وإن لم يصدق عليه المشرك بعنوان التسمية بناء على أن أهل الكتاب لا يسمون في القرآن مشركين وإن كان كفرهم بالقرآن وبما جاء به النبي شركا منهم أشركوا به (راجع تفسير آية 221 من البقرة)، وإذا لم يؤمن أهل الكتاب بما نزل الله مصدقا لما معهم فقد كفروا به، وأشركوا ما في أيديهم بالله سبحانه فإنه شيء لا يريده الله على الصفة التي أخذوه بها فالمؤمن بموسى عليه السلام إذا كفر بالمسيح عليه السلام فقد كفر بالله وأشرك به موسى، ولعل ما ذكرناه هو النكتة لقوله تعالى: ﴿أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ دون أن يقول: المشرك أو المشركين.

5. وقوله تعالى: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ تقييد للكلام لدفع توهم أن لأحد من الناس تأثيرا فيه تعالى يوجب به عليه المغفرة فيحكم عليه تعالى حاكم أو يقهره قاهر، وتعليق الأمور الثابتة في القرآن على المشيئة كثير والوجه في كلها أو جلها دفع ما ذكرناه من التوهم كقوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾، على أن من الحكمة ألا يغفر لكل مذنب ذنبه وإلا لغا الأمر والنهي، وبطل التشريع، وفسد أمر التربية الإلهية، وإليه الإشارة بقوله: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾، ومن هنا يظهر أن كل واحد من المعاصي لا بد أن لا يغفر بعض أفراده وإلا لغا النهي عنه، وهذا لا ينافي عموم لسان آيات أسباب المغفرة فإن الكلام في الوقوع دون الوعد على وجه الإطلاق، ومن المعاصي ما يصدر عمن لا يغفر له بشرك ونحوه.

6. فمعنى الآية أنه تعالى لا يغفر الشرك من كافر ولا مشرك، ويغفر سائر الذنوب دون الشرك بشفاعة شافع من عباده أو عمل صالح، وليس هو تعالى مقهورا أن يغفر كل ذنب من هذه الذنوب لكل مذنب بل له أن يغفر وله أن لا يغفر، كل ذلك لحكمة.

7. في المجمع، عن الكلبي: في الآية: نزلت في المشركين وحشي وأصحابه، وذلك أنه لما قتل حمزة، وكان قد جعل له على قتله أن يعتق فلم يوف له بذلك.. إلى آخر الأثر سبق ذكره.. وقد ذكر هذه الرواية الرازي في تفسيره عن ابن عباس‏، والتأمل في موارد هذه الآيات التي تذكر الرواية أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يراجع بها وحشيا لا يدع للمتأمل شكا في أن الرواية موضوعة، قد أراد واضعها أن يقدر أن وحشيا وأصحابه مغفور لهم، وإن ارتكبوا من المعاصي كل كبيرة وصغيرة فقد التقط آيات كثيرة من مواضع مختلفة من القرآن فالاستثناء من موضع، والمستثنى من موضع مع أن كلا منها واقعة في محل محفوفة بأطراف لها معها ارتباط واتصال، وللمجموع سياق لا يحتمل التقطيع والتفصيل فقطعها ثم رتبها ونضدها نضدا يناسب هذه المراجعة العجيبة بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين وحشي، ولقد أجاد بعض المفسرين حيث قال بعد الإشارة إلى الرواية: (كأنهم يثبتون أن الله سبحانه كان يداعب وحشيا)، فواضع الرواية لم يرد إلا أن يشرف وحشيا بمغفرة محتومة مختومة لا يضره معها أي ذنب أذنب وأي فظيعة أتى بها، وعقب ذلك ارتفاع المجازاة على المعاصي، ولازمه ارتفاع التكاليف عن البشر على ما يراه النصرانية بل أشنع فإنهم إنما رفعوا التكاليف بتفدية مثل عيسى المسيح، وهذا يرفعه اتباعا لهوى وحشي.

8. ووحشي هذا هو عبد لابن مطعم قتل حمزة بأحد ثم لحق مكة ثم أسلم بعد أخذ الطائف، وقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: غيب شخصك عني فلحق بالشام وسكن حمصا واشتغل في عهد عمر بالكتابة في الديوان، ثم أخرج منه لكونه يدمن الخمر، وقد جلد لذلك غير مرة، ثم مات في خلافة عثمان، قتله الخمر على ما روي، وروى ابن عبد البر في الاستيعاب بإسناده عن ابن إسحاق عن عبد الله بن الفضل عن سليمان بن يسار عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت أنا وعبد الله بن عدي بن الخيار ـ فمررنا بحمص وبها وحشي، فقلنا: لو أتيناه وسألناه عن قتله حمزة كيف قتله، فلقينا رجلا ونحن نسأل عنه فقال: إنه رجل قد غلبت عليه الخمر ـ فإن تجداه صاحيا تجداه رجلا عربيا ـ يحدثكما ما شئتما من حديث، وإن تجداه على‏ غير ذلك فانصرفا عنه، قال فأقبلنا حتى انتهينا إليه، الحديث‏، وفيه ذكر كيفية قتله حمزة يوم أحد.

9. في المجمع، روى مطرف بن شخير عن عمر بن الخطاب قال: كنا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ إذا مات الرجل منا على كبيرة ـ شهدنا بأنه من أهل النار ـ حتى نزلت الآية فأمسكنا عن الشهادات.. وفي الدر المنثور، أخرج ابن المنذر من طريق المعتمر بن سليمان عن سليمان بن عتبة البارقي قال: حدثنا إسماعيل بن ثوبان قال: شهدت في المسجد قبل الداء الأعظم فسمعتهم يقولون: ﴿مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً﴾ إلى آخر الآية ـ فقال المهاجرون والأنصار: قد أوجب له النار ـ فلما نزلت: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ قالوا: ما شاء الله، يصنع الله ما يشاء.. وروي ما يقرب من الروايتين عن ابن عمر بغير واحد من الطرق، وهذه الروايات لا تخلو من شيء فلا نظن بعامة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجهلوا أن هذه الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ لا تزيد في مضمونها على آيات الشفاعة شيئا كما تقدم بيانه، أو أن يغفلوا عن أن معظم آيات الشفاعة مكية كقوله تعالى في سورة الزخرف: ﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، ومثلها آيات الشفاعة الواقعة في سورة يونس، والأنبياء، وطه، وسبأ، والنجم، والمدثر كلها آيات مكية تثبت الشفاعة على ما مر بيانه، وهي عامة لجميع الذنوب ومقيدة في جانب المشفوع له بالدين المرضي وهو التوحيد ونفي الشريك وفي جانب الله تعالى بالمشيئة، فمحصل مفادها شمول المغفرة لجميع الذنوب إلا الشرك على مشيئة من الله، وهذا بعينه مفاد هذه الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾

10. وأما الآيات التي توعد قاتل النفس المحترمة بغير حق، وآكل الربا، وقاطع الرحم بجزاء النار الخالد كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾ الآية:، وقوله في الربا: ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)﴾:، وقوله في قاطع الرحم: ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾:، وغير ذلك من الآيات فهذه الآيات إنما توعد بالشر وتنبئ عن جزاء النار، وأما كونه جزاء محتوما لا يقبل التغيير والارتفاع فلا صراحة لها فيه.

11. بالجملة لا يترجح آية ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ﴾ على آيات الشفاعة بأمر زائد في مضمونها يمهد لهم ما ذكروه، فليس يسعهم أن يفهموا من آيات الكبائر تحتم النار حتى يجوز لهم الشهادة على مرتكبها بالنار، ولا يسعهم أن يفهموا من آية المغفرة ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ إلخ أمرا ليس يفتهم من آيات الشفاعة حتى يوجب لهم القول بنسخها أو تخصيصها أو تقييدها آيات الكبائر، ويومئ إلى ذلك ما ورد في بعض هذه الروايات، وهو ما رواه في الدر المنثور، عن ابن الضريس وأبي يعلى وابن المنذر وابن عدي بسند صحيح عن ابن عمر قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر ـ حتى سمعنا من نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، وقال: إني ادخرت دعوتي شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ـ ثم نطقنا بعد ورجونا.. فظاهر الرواية أن الذي فهموه من آية المغفرة فهموا مثله من حديث الشفاعة لكن يبقى عليه سؤال آخر، وهو أنه ما بالهم فهموا جواز مغفرة الكبائر من حديث الشفاعة، ولم يكونوا يفهمونه من آيات الشفاعة المكية على كثرتها ودلالتها وطول العهد؟ ما أدري!

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/371.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ يظهر أن هذه الآية متصلة بما قبلها، كالتعليل للوعيد في قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ الآية، وهذه الآية تعظيم للشرك، ودلالة على أن صاحبه لا يعذر بحال من الأحوال، أما ما دونه من أنواع المعاصي فإنه قد يقع على وجه يُصيّره معفواً، ألا ترى أن قتل النفس بغير حق قد يقع خطأً، وكذا الزنا قد يقع غلطاً، وشرب الخمر قد يقع ممن يجهل أنها خمر.. وهكذا سائر المعاصي، أما الشرك فلا يكون على وجه يعفى؛ لأنه لا يكون إلا عمداً لمعنى الشرك فلا يعذر صاحبه.

2. وفيها دلالة على أنه لا يعذر مَن أشرك ولو جهل أنه مشرك كالذين ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 31]

3. ولعل اتصال هذه الآية بما قبلها دلالة لأهل الكتاب المذكورين أنهم مشركون لاتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وقول اليهود: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: 30] وقول النصارى: ﴿الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: 30] واتخاذه رباً، ولعل بعض اليهود لا يعتقد أنه مشرك وفيه نوع من الشرك.

4. ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ لأنه جعل لله شريكاً في عباده أو في ملكه أو في حكمه أو في قدرته أو في علمه بدون برهان، وإنما هو افتراء واختلاق اتبع فيه ظنه وهواه، فكان افتراؤه ذلك ﴿إِثْمًا عَظِيمًا﴾ ارتكبه، وهذا دليل على ما قلتُ من أن الشرك لا يكون إلا عمداً، والمراد أن ما هو شرك في الواقع تعمده المشرك ولو لم يعلم أنه شرك فهو لا يغفر لتعمد المعنى، والإثم: الفجور.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/88.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة(2):

أ. قال في مجمع البيان: قال الكلبي‏: نزلت في المشركين وحشي وأصحابه، وذلك أنه لما قتل حمزة وكان قد جعل له على قتله أن يعتق فلم يوف له بذلك، فلما قدم مكة، ندم على صنيعه هو وأصحابه، فكتبوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إنا قد ندمنا على الذي صنعناه وليس يمنعنا عن الإسلام إلّا أنّا سمعناك تقول وأنت بمكة: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ﴾ [الفرقان: 68] (الآيتان)، وقد دعونا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرّم الله وزنينا، فلو لا هذه لاتبعناك، فنزلت الآية: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا﴾ [الفرقان: 70]، (الآيتان)، فبعث بهما رسول الله إلى وحشي وأصحابه، فلما قرأهما كتبوا إليه أن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحا فلا نكون من أهل هذه الآية، فنزلت: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ﴾ الآية، فبعث بها إليهم فقرؤوها، فبعثوا إليه أنّا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته، فنزلت‏ ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ فبعث بها إليهم، فلما قرؤوها دخل هو وأصحابه في الإسلام ورجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقبل منهم، ثم قال لوحشي: أخبرني كيف قتلت حمزة، فلما أخبره قال ويحك غيّب شخصك عني، فلحق وحشي بعد ذلك بالشام وكان بها إلى أن مات‏.

ب. وروي عن أبي مجلز قال‏: لما نزلت‏ ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا﴾ الآية، قام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على المنبر فتلاها على الناس، فقام إليه رجل فقال: والشرك بالله؟ فسكت، ـ مرتين أو ثلاثا ـ فنزلت هذه الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ الآية، فأثبتت هذه في الزمر وأثبتت هذه في النساء.

ج. وقد جاء في الطبري عن ابن عمر، قال: كنا معشر أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، حتى نزلت هذه الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ فأمسكنا عن الشهادة.

2. نلاحظ في الروايتين السابقتين المزيد من التكلّف، فنحن لا نفهم كيف يتابع رسول الله معهم الحديث كتابا بكتاب ليعترضوا عليه بآية لينزل الله عليه آية، كما لو كانت الآية الأولى غير كافية في بيان المفهوم القرآني الإسلامي، وهكذا تتلاحق الاعتراضات لتتلاحق الآيات النازلة المتدرّجة، في الوقت الذي نعرف فيه ـ من خلال التأمل في الآيات ـ أن كل آية تعالج جانبا يختلف عن الجانب الذي تعالجه الآية الأخرى مما يجعل الآيات تتكامل من دون أيّ نقصان أو أيّة ثغرة في هذه الآية أو تلك، هذا مع ملاحظة الاختلاف في مناسبة نزول الآية، ولذلك فإننا نتحفظ في اعتبار الروايتين في مضمونهما سببا للنزول.

3. لقد جعل الله ـ على نفسه ـ المغفرة للعاصين والمنحرفين عن هداه، من خلال رحمته التي وسعت كل شيء، ليرجعوا إليه، وليستقيموا في طريقه، وليبدأوا حياة جديدة في خط الطهر والاستقامة والإيمان، لأن المعصية قد تنطلق من نزوة، وقد تتحرك من هفوة، وقد تعيش في حياة الإنسان نتيجة خطأ أو غرور أو شبهة يلتبس فيها الحق بالباطل، فيريد الله‏ للإنسان أن لا يتعقّد أمام هذه الحالات الطارئة فيبتعد عن طريق الله، وأن يرحم ـ من خلال ذلك ـ ضعفه، ليستعين بذلك على تحويله إلى قوة، لأن الله الخالق يعرف الطاقات المبدعة التي أودعها فيه، ويوحي له في كل حالة من حالات الانحراف التي تجمّدت في حياته، بأن يبدأ بتفجيرها في خط الطهر والخير والاستقامة والإيمان.

4. ولكن من هو هذا الإنسان الذي يستحق كل هذه العناية والمغفرة والرعاية فيتحقق ـ من ذلك ـ كل ما يريده الله للإنسان من نتائج إيجابية في بناء حياته من جديد؟ إنه الإنسان الذي تنطلق حياته من قاعدة الإيمان بالله، الذي هو سر تجدد الطاقات الإنسانية الروحية المبدعة في حياته؛ فهو الذي يملأ تفكيره بالخير والسلام، ويفجر في روحه الإحساس بالنور والانفتاح كلما اقترب الشر من فكره وتحرّك الظلام في روحه، وهو الذي يجعله يتراجع عن خط الانحراف، لأنه الميزان الذي يستطيع من خلاله أن يزن كل الأشياء في نفسه وفيمن حوله وما حوله، ليعرف ما يأخذ وما يدع، عندما يريد أن يصحح مسار حياته من جديد، أمّا الإنسان الذي يعيش الظلام داخل عقله، فكرا أسود يعشّش الضلال في آفاقه، فيغلق عينيه عن الآفاق المنفتحة على النور الذي يكشف أمام الإنسان عن الحقيقة في الأعماق، ويخنق في روحه الإحساس بالحاجة إلى التفكير الأبيض الناصع الذي يواجه الأشياء بعفوية وبساطة وانفتاح، فيعقّد الأمور التي لا تعقيد فيها، ويحمّل الأشياء أكثر من طبيعتها الذاتية، وهو الإنسان الذي يلتقي بالله في فكره وإحساسه، فلا يدفع ذاته إلى الإيمان به، بل يهرب من الفكرة في حياته، فيلحد بالله من دون أساس للإلحاد، أو يشرك به غيره من دون قاعدة فكريّة للشرك، بل هي الشبهات التي تضج في الفكر والإحساس من غير عمق ولا امتداد؛ إنها مجرّد عقدة نفسية سوداء، كما هي العقدة المريضة المتأصّلة في النفوس التي لا تحب النور ولا تؤمن بالخير.

5. أما هذا الإنسان، فإن الله لا يغفر له، لأنه لا يستحق الرحمة، فهو لم يتعلق مع الله بأيّ سبب من الأسباب؛ وهكذا يقف الناس أمام الله يوم القيامة، بين مؤمن امتلأت حياته ببعض المعاصي، وبين كافر أشرك بعبادة الله غيره، ممن لم يؤمن بالله، أو آمن على طريقة أهل الشرك، لأن ذلك شرك كلّه، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ إنّ المؤمن ينتظر مغفرة الله، لأنه يعتقد أن الله قد يشاء الغفران لبعض العاصين، أما الكافر، فلا ينتظر إلا عقاب الله، لأنه لا مجال للمغفرة، أما الذين تراجعوا عن الكفر والشرك في حياتهم عن التزام وإيمان، فهم في رحمة الله وغفرانه، لأنهم ليسوا بكفرة ولا مشركين الآن؛ بل هم المؤمنون الموحدون في موقفهم أمام الله يوم القيامة.

6. ثم تعقّب الآية على ذلك بخطورة الشرك وعظمة الانحراف فيه، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ وأي إثم أعظم من الإثم الذي يبتعد فيه الإنسان عن خط الإيمان بالله الواحد، الذي ينطق به كل شيء في الحياة؛ في داخل نفس الإنسان وفي خارجها، وما يستتبع ذلك من نكران للجميل، ومن تمرّد على الله وانحراف عن سبيله، إنه الافتراء الذي يتعلق فيه الإنسان بأي شيء مهما كان نوعه وشأنه؛ فليعرف المشركون كيف يواجهون الموقف من موقع الحق والمصير.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/290.

(2) نعيد ذكر سبب النزول هنا بناء على انتقاده له

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الآية الكريمة تعلن بصراحة أنّ جميع الذنوب والمعاصي قابلة للمغفرة والعفو، إلا (الشرك) فإنّه لا يغفر أبدا، إلّا أن يكف المشرك عن شركه ويتوب ويصير موحدا، وبعبارة أخرى: ليس هناك أي ذنب قادر بوحده على إزالة الإيمان، كما ليس هناك أي عمل صالح قادر على خلاص الإنسان إذا كان مقرونا بالشرك‏ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾

2. إنّ ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة إنّما هو من جهة أن اليهود والنصارى كانوا بشكل من الاشكال مشركين، كل طائفة بشكل معين، والقرآن ينذرهم ـ بهذه الآية ـ بأن يتركوا هذه العقيدة الفاسدة التي لا يشملها العفو والغفران، ثمّ يبيّن في خاتمة الآية دليل هذا الأمر إذ يقول: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾

3. وهذه الآية من الآيات التي تطمئن الموحدين إلى رحمة الله ولطفه، لأنّ في هذه الآية قد بيّن سبحانه إمكان العفو عن جميع المعاصي والذنوب غير الشرك، فهي كما جاء في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام:‏ (أرجى آيات القرآن الكريم إذ قال: ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية)، وهذه الآية ـ كما قال ابن عباس (ثماني آيات نزلت في سورة النساء، خير لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس وغربت وعدّ منها هذه الآية)

4. لأنّ هناك كثيرين يرتكبون المعاصي العظيمة ثمّ يقنطون من رحمة الله وغفرانه إلى الأبد، فيتسبب قنوطهم في أن يسيروا بقية عمرهم في طريق المعصية والخطأ بنفس القوّة والإصرار، ولكن الأمل في عفو الله وغفرانه خير وسيلة رادعة بالنسبة إلى هؤلاء، وخير مانع من تماديهم في المعصية والطغيان، وعلى هذا الأساس فإنّ هذه الآية تهدف ـ في الحقيقة ـ إلى مسألة تربوية.

5. فإذا رأينا عصاة مجرمين (كما يقول بعض المفسّرين، ويعلم ذلك من الروايات المذكورة في ذيل هذه الآية) أمثال (وحشي) غلام هند وقاتل بطل الإسلام حمزة بن عبد المطلب عم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يؤمن مع نزول هذه الآية، وينتهي عن جرائمه وشقاوته، فإن من الطبيعي أن يوجد ذلك مثل هذا الأمل لدي العصاة الآخرين، فلا ييأسوا من رحمة الله وغفرانه، ولا يتورطوا في المزيد من الذنوب والمعاصي.

6. ويمكن أن يقال: إنّ هذه الآية من شأنها أن تشجع الناس في الوقت ذاته على الذنب وتغريهم بالمعصية، لما فيها من الوعد بالعفو عن (جميع الذنوب ما عدا الشرك)، ولكن لا شك أنّ المراد من الوعد بالعفو والمغفرة ليس هو الوعد المطلق من‏ كل قيد وشرط، بل يشمل الأشخاص الذين يظهرون من أنفسهم نوعا من اللياقة والصلاح لمثل هذا العفو والغفران، وكما أشرنا إلى ذلك في ما سبق، فإن مشيئة الله ـ في هذه الآية والآيات المشابهة لها ـ بمعنى الحكمة الإلهية، لأن مشيئته تعالى لا تنفصل عن حكمته أبدا، ومن البديهي والمسلم أن حكمته لا تقتضي أن ينال أحد العفو الإلهي من دون قابلية وصلاح لذلك، وعلى هذا الأساس فإن الجوانب والأبعاد التربوية البناءة في هذه الآية تفوق ـ بمراتب كثيرة ـ إمكان سوء استخدام الوعد الموجود فيها.

7. ثمّ إنّ النقطة الجديرة بالانتباه إنّ هذه الآية لا ترتبط بمسألة التوبة، لأنّ التوبة والعودة عن الذنب تغسل جميع الذنوب والمعاصي حتى الشرك، بل المراد هو إمكان شمول العفو الإلهي لمن لم يوفق للتوبة، يعني الذين يموتون قبل الندم من ذنوبهم، وبعد الندم وقبل جبران ما بدر منهم من الأعمال الطالحة بالأعمال الصالحة، وتوضيح ذلك: أنّه يستفاد من آيات عديدة في القرآن الكريم أن وسائل التوصل إلى العفو والمغفرة الإلهية متعددة، ويمكن تلخيصها في خمسة أمور:

أ. التوبة والعودة إلى الله تعالى، المقرونة بالندم على الذنوب السابقة، والعزم على الاجتناب عن الذنب والمعصية في المستقبل، وجبران وتلافي الأعمال الطالحة السالفة بالأعمال الصالحة (والآيات الدّالة على هذا المعنى كثيرة) ومن جملتها قوله سبحانه: ﴿وهُوَالَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ويعفو عَنِ السَّيِّئاتِ‏﴾

ب. الأعمال الصّالحة المهمّة جدّا والتي تسبب العفو عن الأعمال القبيحة كما يقول سبحانه: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾

ج. الشّفاعة التي مرّ شرحها عند تفسير الآية من سورة البقرة.

د. الاجتناب عن المعاصي الكبيرة الذي يوجب العفو عن المعاصي الصغيرة كما مرّ شرحها عند تفسير الآيتين من هذه السورة.

هـ. العفو الإلهي الذي يشمل الأشخاص اللائقين له، كما مرّ بحثه في تفسير هذه الآية.

8. هذا ونكرر تذكيرنا بأن العفو الإلهي مشروط ومقيد بالمشيئة الإلهية، ولا يكون قضية مطلقة دون أي قيد أو شرط، بل تشمل هذه المشيئة والإرادة خصوص الأشخاص الذين يثبتون بصورة عملية لياقتهم وصلاحيتهم لهذه الهبة الإلهية بنحو من الأنحاء، ومن هنا يتّضح لماذا لا يكون الشرك ممّا يشمله العفو والغفران الإلهي، فالسبب في ذلك هو: إنّ المشرك قد قطع صلته بالله بصورة كاملة، وارتكب ما يخالف كل الشرائع والأديان والقوانين الطبيعية والنّواميس الكونية.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/260.

51. تزكية النفس وتزكية الله

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈51⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ [النساء: 49 ـ 50]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: إن الرجل ليغدو بدينه، ثم يرجع وما معه منه شيء، يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرا، فيقول: والله، إنك لذيت وذيت، ولعله أن يرجع ولم يحل من حاجته بشيء، وقد أسخط الله عليه، ثم قرأ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ الآية(1).

__________

(1) هناد في الزهد، وابن المبارك في الزهد.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إن اليهود قالوا: إن أبناءنا قد توفوا، وهم لنا قربة عند الله، وسيشفعون لنا، ويزكوننا، فقال الله لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ الآية(1).

2. روي أنّه قال: كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم، ويقربون قربانهم، ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب، وكذبوا، قال الله: إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له، ثم أنزل الله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾(2).

3. روي أنّه قال: ﴿بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾، قال الله تعالى: إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له(2).

4. روي أنّه قال: الفتيل: الذي في الشق الذي في بطن النواة(3).

5. روي أنّه قال: النقير: النقرة تكون في النواة، التي تنبت منها النخلة، والفتيل: الذي يكون على شق النواة، والقطمير: القشر الذي يكون على النواة(4).

6. روي أنّ نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾، قال لا ينقصون من الخير والشر مثل الفتيل، هو الذي يكون في شق النواة، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت نابغة بني ذبيان يقول:

çيجمع الجيش ذا الألوف ويغزو... ثم لا يرزأ الأعادي فتيلاé

وقال الأول أيضا(5):

çأعاذل بعض لومك لا تلحي... فإن اللوم لا يغني فتيلاé

7. روي أنّه قال: الفتيل: هو أن تدلك بين أصبعيك، فما خرج منهما فهو ذلك(6).

8. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾، قال الفتيل: ما خرج من بين الأصبعين(3).

9. روي أنّه قال: ﴿يَفْتَرُونَ﴾، قال يكذبون(7).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٢٧.

(2) ابن أبي حاتم ٣/٩٧٢.

(3) ابن جرير ٧/١٣١.

(4) سعيد بن منصور (٦٥٠.

(5) الطستي ـ كما في الإتقان ٢/٩١.

(6) ابن جرير ٧/١٣٠.

(7) ابن أبي حاتم ٣/٩٧٣.

أبو مالك:

روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾، الفتيل: الوسخ الذي يخرج من بين الكفين(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٢٦.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: أما قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ فإن اليهود قالوا: ليس لنا ذنوب، كما أنه ليس لآبائنا ذنوب، فأنزل الله تعالى ذلك فيهم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٧٢.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾، هو الوسخ، يدلك الرجل يده بالأخرى، فيخرج الوسخ(1).

2. روي أنّه قال: النقير: الذي يكون في وسط النواة في ظهرها، والفتيل: الذي يكون في جوف النواة، ويقولون: ما تدلك فيخرج من وسخها، والقطمير: لفافة النواة، أو سحاة(2)، البيضة، أو سحاة القصبة(3).

3. روي أنّه قال: إن الفتيل الذي في شق النواة(4).

__________

(1) ابن المنذر ٢/٧٩٦.

(2) سَحاة كل شيء: قشره.

(3) ابن المنذر ٢/٧٤١.

(4) تفسير مجاهد ص ٢٨٣.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾، هم اليهود والنصارى، قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨]، وقالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: ١١١](1).

__________

(1) عبد الرزاق ١/١٦٤.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾، قال وهم أعداء الله اليهود، زكوا أنفسهم بأمر لم يبلغوه، فقالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨]، وقالوا: لا ذنوب لنا(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٢٤.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ معناه ألم تعلم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ معناه لا ينقصون ولا يظلمون نقيرا، فالفتيل الّذي في شقّ النواة.. والفتيل: ما يخرج بين الإصبعين إذا فتلتها السّبابة والإبهام.. والنّقير: التي في ظهر النّواة التي تنبت منها النّخلة، والنّقير: أن تضع طرف الإبهام على طرف السّبابة ثمّ تنقرها(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 120.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: الفتيل: ما فتلت به يديك فخرج وسخ(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٣٠.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: نزلت في رجال من اليهود أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأطفالهم، وقالوا: يا محمد هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟ قال: لا، فقالوا: والذي نحلف به، ما نحن إلا كهيئتهم، ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفر عنا بالليل، وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار، فهذا الذي زكوا به أنفسهم(1).

__________

(1) أسباب النزول للواحدي ص ٢٩٢.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ هم اليهود والنصارى، ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ بقيلهم ذلك(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٣٤.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾، يعني: يصلح من يشاء من عباده(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ﴾ يعني: ولا ينقصون من أعمالهم ﴿فَتِيلًا﴾، يعني: الأبيض الذي يكون في شق النواة من الفتيل(1).

3. روي أنّه قال: يقول الله عز وجل: يا محمد، ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ لقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، ﴿وَكَفَى بِهِ﴾ يعني: بما قالوا ﴿إِثْمًا مُبِينًا﴾ يعني: بينا(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٧٨.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾، قال أهل الكتاب: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: ١١١]، وقالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨]، وقالوا: نحن على الذي يحب الله، فقال الله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ حين زعموا أنهم يدخلون الجنة، وأنهم أبناء الله وأحباؤه وأهل طاعته(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٢٥.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله عزّ وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾:

أ. قيل: هم اليهود، جاؤوا بأبنائهم أطفالا، فقالوا: يا محمّد، هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟ قال: لا، قالوا: فو الذي يحلف به ما نحن إلا كهيئتهم، ما من ذنب نعمله‏ بالنهار إلا كفر عنا بالليل، وما عملنا بالليل إلا كفر عنا بالنهار، فذلك التزكية منهم‏.

ب. وقيل: تزكيتهم أنفسهم بقولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18] لا ذنوب لنا.

ج. ويحتمل: أن تكون تزكيتهم أنفسهم ما قال الله عزّ وجل ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 47] وكان أكثر الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا من بنى إسرائيل، وكانوا يزكون أنفسهم بذلك‏، فأخبر عزّ وجل أنهم كانوا مفضلين على غيرهم، لكن لما فضل غيرهم عليهم صار أولئك المفضلون دونهم وذلك، قوله عزّ وجل: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ يفضل من يشاء، أو يبرئ من يشاء، ولا يبرأ، ولا يستحق مخلوق، وذلك معنى النهي: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النجم: 32] إذ تخرج التزكية مخرج التكبر، وذلك لجهله بنفسه لما عرف أنه مثله وشكله ما تكبر على أحد قط، ولا زكي نفسه، وقول الرجل: أنا مؤمن، ليس ذلك منه تزكية، إنما هو إخبار عن شيء أكرم به، والتزكية هي التي يرى ذلك من نفسه.

2. قوله ـ أيضا ـ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ ليس في إظهار الإيمان تزكية؛ لما لا يخلو من أن تظهر من يقول: قد صليت الظهر، أو أديت زكاة مالي، أو حججت، أو نحو ذلك، وفيما يقول: هو بر، أو تقى، أو حبيب الله تعالى أو نحو ذلك مما يرجع ذلك إلى ما لا يعرف حده من الخيرات، فهو بذلك [يرتفع على الأمثال، ويفتخر عليهم‏] فيما لو كان صادقا كان في ذلك منه إغفال عن حق ذلك، ولو كان كاذبا كان ذلك جائزا فيه، ممقوتا بالكذب.

3. ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾:

أ. عن ابن عباس قال الفتيل: ما فتلت بين إصبعيك‏، والنقير: ما يكون وسط النواة.

ب. وقيل: النقير والقطمير: قشر النواة.

ج. وقيل: الفتيل ـ أيضا ـ: ما يكون وسط النواة.

د. وقيل: النقير: الذي يكون في ظهر النواة، وهو على التمثيل.

4. قيل في حرف حفصة: (الم تر إلى الذين قالوا إنا نزكي أنفسنا بل الله يزكي من يشاء)

5. ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ الآية ظاهرة.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/205.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي يمدحون أنفسهم ويحكمون لها بالطهارة وهم كاذبون ومنافقون في ذلك غير صادقين.

2. ثم قال عز وجل: ﴿بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾، أي لكن الله يطهر من يشاء، فأما من يمدح بالمحال، فالله لا يطهره مع كذبه في المقال، بل يستحق المقت في حكم ذي الجلال، ويتبين جهله وسوء أدبه لأجهل الجهال، فكيف بمن يعقل من علماء الرجال، لأنه لا شيء أقبح من المدح والافتخار، إذا لم يكن لذلك موضع من الاضطرار.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/243.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ يعني اليهود وفي تزكيتهم أنفسهم أنهم قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، ويحتمل أن يكون تزكية بعضهم لبعض ينالوا به شيئاً من الدنيا.

2. ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ والفتيل هو الذي في شق النواة والنقير ما في ظهرها والقطمير قشرها.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/181.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ يعني اليهود في تزكيتهم أنفسهم أربعة أقاويل:

أ. أحدها: قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه، وهذا قول قتادة، والحسن.

ب. الثاني: تقديمهم أطفالهم لإمامتهم زعما منهم أنه لا ذنوب لهم، وهذا قول مجاهد، وعكرمة.

ج. الثالث: هو قولهم إن أبناءنا يستغفرون لنا ويزكوننا، وهذا قول ابن عباس.

د. الرابع: هو تزكية بعضهم لبعض لينالوا به شيئا من الدنيا، وهذا قول ابن مسعود.

2. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ قولان:

أ. أحدهما: أي الفتيل الذي في شق النواة، وهو قول عطاء، وقتادة، ومجاهد، والحسن، وأحد قولي ابن عباس، قال الحسن: الفتيل ما في بطن النواة، والنقير ما في ظهرها، والقطمير قشرها.

ب. الثاني: أنه ما انفتل بين الأصابع من الوسخ، وهذا قول السدي، وأحد قولي ابن عباس.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/495.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. فسرنا معنى‏ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ﴾ فيما مضى، وأن معناه ألم تعلم في قول أكثر أهل العلم، واللغة وقال بعضهم: معناه ألم تخبر وفيه سؤال على وجه الاعلام، وتأويله اعلم قصتهم ألم ينته علمك إلى هؤلاء الذين يزكون أنفسهم؟ وقيل في معناه قولان:

أ. أحدهما: قال الحسن، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام: انهم اليهود، والنصارى في قوله: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾، قال الزجاج: اليهود جاؤوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأولادهم الأطفال، فقالوا يا محمد أعلى هؤلاء ذنوب؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا، فقالوا: كذلك نحن ما نعمل بالليل يغفر بالنهار، وما نعمل بالنهار يغفر بالليل، فقال الله تعالى: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾، وقال مجاهد، وأبو مالك: كانوا يقدمونهم في الصلاة ويقولون: هؤلاء لا ذنب لهم، وقال ابن عباس: كانوا يقولون: أطفالنا يشفعون لنا عند الله.

ب. الثاني: روي عن عبد الله بن مسعود انه تزكية الناس بعضهم بعضاً لينالوا بذلك مالا من مال الدنيا، فأخبر الله تعالى أنه الذي يزكي من يشاء، وتزكيتهم أنفسهم هو أن يقولوا: نحن أزكياء.

2. الزّكا: النمو يقال زكا الزرع يزكو وزكا الشيء: إذا نما في الصلاح.

3. ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ قال الزجاج: لا يظلمون مقدار فتيل، فيكون نصبه على أنه مفعول ثان: كقولك: ظلمته حقه أي انتقصته حقه، قال الرماني: ويحتمل أن يكون نصباً على التمييز كقولك: تصببت عرقاً، وقيل في معنى الفتيل هاهنا قولان:

أ. أحدها: هو قول ابن عباس في رواية وقول عطاء ابن أبي رياح، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وعطية: إنه الذي في شق النواة، وقال الحسن: الفتيل ما في بطن النواة، والنقير: ما في ظهرها، والقطمير قشرها.

ب. الثاني: ما فتلت بين إصبعيك من الوسخ، في رواية أخرى عن ابن عباس، وأبي مالك، والسدي: والفتل: لي الشيء يقال، فتلت الحبل أفتله فتلا، وانفتل فلان في صلاته، والفتيلة معروفة، وناقة فتلاء، إذا كان في ذراعيها فتل عن الجنب، والفتيل في معنى المفتول.

4. وجه اتصال قوله تعالى: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ بما قبله أنه لما قال: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ نفي عن نفسه الظلم لئلا يظن أن الامر بخلافه.

5. ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ النظر هو الإقبال على الشيء بالبصر ومن ذلك النظر بالقلب، لأنه إقبال على الشيء بالقلب، فكذلك النظر بالرحمة، ونظر الدهر إلى الشيء: إذا أهلكه، والنظر إلى الشيء تلمسه والنظر إليه بالتأميل له، والانتظار: الإقبال على الشيء بالتوقع له، والانظار التأخير إلى وقت، والاستنظار سؤال الانظار، والمناظرة: اقبال كل واحد على الآخر بالمحاجة، والنظير مثل الشيء لا قباله على نظيره بالمماثلة.

6. الفرق بين النظر بالعين، وبين الرؤية أن الرؤية هي إدراك المرئي، والنظر إنما هو الإقبال بالبصر نحو المرئي، ولذلك قد ننظر ولا نراه، كما يقولون: نظرت إلى الهلال فلم أره، ولذلك يجوز أن يقال في الله أنه رائي، ولا يجوز أن يقال ناظر.

7. ﴿كَيْفَ يَفْتَرُونَ﴾ فالافتراء والاختلاق متقاربان، والفرق بينهما أن الافتراء هو القطع على كذب أخبر به، واختلق قدر كذباً اخبر به، لأن الفري القطع، والخلق التقدير.

8. افتراؤهم الكذب على الله هاهنا المراد به تزكيتهم لأنفسهم بأنا ﴿أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ وأنه‏ ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ ذكره ابن جريح وقوله: ﴿وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ معناه تعظيم إثمه وإنما يقال كفى به في العظم على جهة المدح أو الذم، كقولك: كفى بحال المؤمن نبلا وكفى بحال الكافر إثماً كأنه قيل: ليس يحتاج إلى حال أعظم منه في المدح أو الذم، كما يقال ليس يحتاج إلى أكثر مما به، ويحتمل أن يكون معناه كفى هذا إثماً أي ليس يقصر عن منزلة الإثم.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/221.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. التزكية: التطهير والتقديس، وقد يكون الوصف بالتطهير تزكية.

ب. الفتل: لَيُّ الشيء، فتلت الحبل أَفْتِلُهُ فتلاً، وانفتل فلان في صلاته، والفتيلة معروفة، والفتيل بمعنى مفتول، قال الشاعر:

يا أَيُّهَا السَّاعِي لِيُدْرِكَ مَجْدَنَا... ثكلتك أمك أن ترد فتيلا.

ج. النظر: الإقبال على الشيء بالبصر فمنه النظر بالقلب، لأنه إقبال عليه كالإقبال بالبصر، وكذلك النظر بالرحمة ونظر الدهر إلى الشيء بإهلاكه، والنظر إلى الشيء بالتأمل له، والانتظار: الإقبال على الشيء بالتوقع له، والمناظرة: إقبال كل واحد من الخصمين على صاحبه بالمحاجة، والنظير لإقباله على نظيره بالمماثلة، والنظر بالعين تقليب الحدقة نحو المرئي التماسًا لرؤيته مع سلامة الحاسة، والنظر بالتقلب: التفكر في الشيء، والرؤية: إدراك المرئي، وليس الرؤية من النظر في شيء؛ ولذلك يقال: نظرت إلى الهلال فلم أره، وينقسم النظر في كلام العرب إلى نظر رحمة، ونظر غضب، ونظر شفقة، والرؤية لا تنقسم.

د. افترى واختلق نظيران إلا أن في افترى قَطْعًا على كذب أخبر به، واختلق قدر كذبًا أخبر به؛ لأن أصل افترى من الفري وهو القطع، وأصل اختلق من الخلق وهو التقدير.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت في رجال من اليهود أتوا بأطفال لهم إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقالوا: يا محمد هل على هَؤُلَاءِ ذنب؟ قال: لَا، قالوا: والله ما نحن إلا كهيئتهم، ما عملناه بالنهار كُفِّر عنا بالليل، وما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار، وكذبهم الله تعالى وأنزل هذه عن الكلبي.

ب. وقيل: لما قالت اليهود: نحن أبناء الله وأحباؤه، لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا كذبهم الله، وأنزل هذه الآية عن الحسن والضحاك وقتادة ومقاتل والسدي.

ج. وقيل: كانوا يقدمون أطفالهم في الصلاة يزعمون أنه لا ذنوب لهم فذلك التزكية عن مجاهد وعكرمة.

د. وقيل: كانوا يقولون: آباؤنا وأبناؤنا يشفعون لنا ويزكوننا، فنزلت الآية عن ابن عباس.

هـ. وقيل: هو تزكية بعضهم بعضًا، كان يزكي بعضهم بعضًا، فأنزل الله تعالى هذه الآية تكذيبًا لهم عن ابن مسعود.

3. بين الله تعالى تعجبًا منهم أنهم مع أفعالهم الخبيثة، وكفرهم وتحريفهم الكتاب يزكون أنفسهم فقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾:

أ. قيل: أراد ألم تعلم.

ب. وقيل: أراد به رؤية العين.

ج. وقيل: معناه التعجيب، ألم تتعجب من هَؤُلَاءِ اليهود.

4. ﴿إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ يمدحون أنفسهم، ويصفونها بالتزكية:

أ. قيل: ذلك قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودًا عن الحسن والضحاك وابن جريج.

ب. وقيل: هو قولهم: آباؤنا يشفعون لنا.

ج. وقيل: هو تزكية بعضهم لبعض.

5. إنما قال: ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ لأنهم على دين واحد، فكانوا كنفس واحدة ﴿بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾، وبين أن التزكية إليه، يزكي من يشاء:

أ. قيل: يصفه بالخير، فيكون على ما وصف.

ب. وقيل: يطهره بالتوفيق فيطهر، واليهود ليسوا كذلك.

ج. وقيل: يعمل عمله فيصير زكيًا.

د. وقيل: أراد أنه يزكي ولا يزكي اليهود بل يعذبهم.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾:

أ. قيل: يعني لا يظلمون في تعذيبهم وترك تزكيتهم، ولا يظلمون قليلاً ولا كثيرًا.

ب. وقيل: من يزكيه نزله هذه المنزلة، ويعطيه ما يستحقه من الثواب، ولا ينقص عمله شيئًا عن أبي علي.

7. ذكر الفتيل مثلاً، واختلفوا في معناه:

أ. فقيل: هو ما يكون في شق النواة عن ابن عباس وعطاء ومجاهد وقتادة وعطية، وقال الحسن: الفتيل ما في بطن النواة، والنقير ما على ظهرها، والِقْطمِيرُ قشرها.

ب. وقيل: الفتيل ما فتلته بين أصبعيك من الوسخ عن ابن عباس وأبي مالك والسدي.

ج. وقيل: الخيط المفتول، قيل: بمعنى مفعول عن أبي مسلم.

8. ﴿انْظُرْ﴾ يا محمد إليهم ﴿كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾:

أ. قيل: افتراؤهم تزكيتهم لأنفسهم، وقولهم: إنا أبناء الله وأحباؤه، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودًا عن ابن جريج وأبي علي، فيتصل ذلك بما قبله.

ب. وقيل: إنه يرجع إلى قوله: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ تقديره: انظر كيف يحرفون ويفترون على الله الكذب، وهم مع ذلك يزكون أنفسهم عن أبي مسلم.

9. ﴿وَكَفَى بِهِ﴾ أي حسبهم بهذا القول ﴿إِثْمًا﴾ وزرًا ﴿مُبِينًا﴾ بيِّنًا يوضح أنهم كفرة كذبة، و﴿كَفَى﴾ يذكر تعظيمًا، ففيه استعظام لقولهم: يقال: كفى بحال المؤمن نبلاً، وكفى بحال الكافر خِزْيا، فيذكر تعظيمًا في المدح والذم.

10. تدل الآية الكريمة على:

أ. أنه لا يجوز تزكية النفس بما ليس فيها والشهادة لها بالجنة، لأنه ذمهم على ذلك.

ب. أنه تعالى المختص بعلم السرائر وعواقب الخلق.

ج. تنزيهه عن الظلم، وذكر الفتيل ليعلم أنه لا يظلم قليلاً ولا كثيرًا.

د. عظيم إثم من افترى على الله تعالى.

11. · القراءة الظاهرة ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ بفتح الراء، وعن السلمي بسكون الراء، وهي لغة قوم لا يكتفون من الجزم بحذف الحرف حتى سكنوا حركته، والأول اللغة العالية.

12. نصب ﴿فَتِيلًا﴾ لأنه مفعول تقديره: لا يظلمون مقدار فتيل، كقولك: علمت حقه، وقيل: نصب على التمييز، كقولهم تصبب عرقًا، وكفى بالافتراء إثمًا، أي من إثْمٍ فلما ألقيت ﴿مِنَ﴾ نُصبت.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/658

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. التزكية: التطهير والتنزيه، وقد يكون الوصف بالتطهير تزكية، وأصله من الزكاء: وهو النمو، يقال: زكا الزرع، يزكو، زكاء، وزكا الشئ: إذا نما في إصلاح.

ب. أصل الفتيل: ما يفتل وهو لي الشيء، والفتيلة: معروفة، وناقة فتلاء: إذا كان في ذراعها فتل عن الجنب، والفتيل: بمعنى المفتول، وهو عبارة عن الشئ الحقير، قال النابغة:

çيجمع الجيش ذا الألوف ويغزو... ثم لا يرزأ العدو فتيلاé

ج. النظر: هو الاقبال على الشئ بالبصر، ومنه النظر بالقلب، لأنه إقبال على الشئ بالقلب، وكذلك النظر بالرحمة، النظر إلى الشئ: التأمل له، والانتظار: الاقبال على الشئ بالتوقع، والمناظرة: إقبال كل واحد على الآخر بالمحاجة، والنظير: مثل الشئ لاقباله على نظيره بالمماثلة، والفرق بين النظر والرؤية أن الرؤية، هي إدراك المرئي، والنظر: الإقبال بالبصر نحو المرئي، ولذلك قد ينظر ولا يراه، ولذلك يجوز أن يقال لله تعالى إنه راء، ولا يجوز أن يقاد إنه ناظر.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت في رجال من اليهود، أتوا بأطفالهم إلى النبي، فقالوا: هل على هؤلاء من ذنب؟ فقال: لا، فقالوا: والله ما نحن إلا كهيئتهم، ما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل، وما عملناه بالليل، كفر عنا بالنهار، فكذبهم الله عن الكلبي.

ب. وقيل: نزلت في اليهود والنصارى، حين قالوا: نحن أبناء الله، وأحباؤه، قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، عن الضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.

3. ذكر الله تعالى تزكية هؤلاء أنفسهم، مع كفرهم وتحريفهم الكتاب، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾:

أ. قيل: معناه ألم تعلم.

ب. وقيل: ألم تخبر، وهو سؤال على وجه الإعلام، وتأويله: اعلم قصتهم ألم ينته علمك.

4. ﴿إِلَى﴾ هؤلاء ﴿الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾:

أ. قيل: أي يمدحونها، ويصفونها بالزكاة والطهارة، بأن يقولوا: نحن أزكياء.

ب. وقيل: هو تزكية بعضهم بعضا، عن ابن مسعود.

5. وإنما قال: ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ لأنهم على دين واحد، وهم كنفس واحدة، ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾:

أ. قيل: رد الله ذلك عليهم، وبين أن التزكية إليه، يزكي من يشاء: أي يطهر من الذنب من يشاء.

ب. وقيل: معناه يقبل عمله فيصير زكيا، ولا يزكي اليهود، بل يعذبهم.

6. ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ معناه: لا يظلمون في تعذيبهم، وترك تزكيتهم فتيلا: أي مقدار فتيل، وذكر الفتيل مثلا، واختلف في معناه:

أ. فقيل: هو ما يكون في شق النواة، عن ابن عباس، ومجاهد، وعطا، وقتادة.

ب. وقيل: الفتيل ما في بطن النواة، والنقير: ما على ظهرها، والقطمير: قشرها، عن الحسن.

ج. وقيل: الفتيل ما فتلته بين إصبعيك من الوسخ، عن ابن عباس، وأبي مالك، والسدي.

7. في هذه الآية دلالة على تنزيه الله عن الظلم، وإنما ذكر الفتيل، ليعلم أنه لا يظلم قليلا ولا كثيرا.

8. ﴿انْظُرْ﴾ يا محمد ﴿كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾:

أ. قيل: في تحريفهم كتابه.

ب. وقيل: في تزكيتهم أنفسهم، وقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، عن ابن جريج.

9. ﴿وَكَفَى بِهِ﴾ أي كفى هو ﴿إِثْمًا مُبِينًا﴾ أي وزرا بينا، وإنما قال: ﴿كَفَى بِهِ﴾:

أ. قيل: في العظم، على جهة المدح أو الذم، يقال: كفى بحال المؤمن نيلا، وكفى بحال الكافر خزيا، فكأنه قال: ليس يحتاج إلى حال أعظم منه.

ب. ويحتمل أن يكون معناه: كفى هذا إثما: أي ليس يقصر عن منزلة الاثم.

10. ﴿فَتِيلًا﴾: منصوب على أنه مفعول ثان، كقولك ظلمته حقه، قال علي بن عيسى: ويحتمل أن يكون نصبا على التمييز، كقولك تصببت عرقا.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/91.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سبب نزول قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾: أن مرحب بن زيد، وبحري بن عون ـ وهما من اليهود، أتيا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بأطفالهما، ومعهما طائفة من اليهود فقالوا: يا محمّد هل على هؤلاء من ذنب؟ قال لا، قالوا: والله ما نحن إلّا كهيئتهم، ما من ذنب نعمله بالنّهار إلا كفّر عنّا بالليل، وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفّر عنّا بالنّهار، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.

2. في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ قولان:

أ. أحدهما: ألم تخبر، قاله ابن قتيبة.

ب. الثاني: ألم تعلم، قاله الزجّاج.

3. في الذين يزكّون أنفسهم قولان:

أ. أحدهما: اليهود على ما ذكرنا عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، ومقاتل.

ب. الثاني: أنهم اليهود، والنّصارى، وبه قال الحسن، وابن زيد.

4. معنى ﴿يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾: يزعمون أنهم أزكياء، يقال: زكى الشيء: إذا نما في الصّلاح، وفي الذي زكّوا به أنفسهم أربعة أقوال:

أ. أحدها: أنهم برّؤوا أنفسهم من الذّنوب، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.

ب. الثاني: أنّ اليهود قالوا: إنّ أبناءنا الذين ماتوا يزكّوننا عند الله، ويشفعون لنا، رواه عطيّة، عن ابن عباس.

ج. الثالث: أن اليهود كانوا يقدّمون صبيانهم في الصّلاة فيؤمّونهم، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم، هذا قول عكرمة، ومجاهد، وأبي مالك.

د. الرابع: أن اليهود والنّصارى قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ وقالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾، هذا قول الحسن، وقتادة.

5. ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ أي: يجعله زاكيا، ولا يظلم الله أحدا مقدار فتيل قال ابن جرير: وأصل (الفتيل): المفتول، صرف عن مفعول إلى فعيل، كصريع، ودهين.

6. في الفتيل قولان:

أ. أحدهما: أنه ما يكون في شقّ النّواة، رواه عكرمة، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء بن أبي رباح، والضّحّاك، وقتادة، وعطيّة، وابن زيد، ومقاتل، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجّاج.

ب. الثاني: أنه ما يخرج بين الأصابع من الوسخ إذا دلكن، رواه العوفيّ، عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وأبو مالك، والسّدّيّ، والفرّاء.

7. ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ وهو قولهم‏ ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ وقولهم‏ ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ وقولهم: لا ذنب لنا ونحو ذلك ممّا كذّبوا فيه، ﴿وَكَفَى بِهِ﴾ أي: وحسبهم بقيلهم الكذب‏ ﴿إِثْمًا مُبِينًا﴾ يتبيّن كذبهم لسامعيه.

__________

(1) زاد المسير: 1/419.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما هدد اليهود الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ فعند هذا قالوا: لسنا من المشركين، بل نحن خواص الله تعالى كما حكى تعالى عنهم أنهم قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18] وحكى‏ عنهم أنهم قالوا: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80] وحكى أيضا أنهم قالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 111] وبعضهم كانوا يقولون: أن آباءنا كانوا أنبياء فيشفعون لنا، وعن ابن عباس ان قوما من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقالوا: يا محمد هل على هؤلاء ذنب؟ فقال لا، فقالوا: والله ما نحن إلا كهؤلاء: ما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار، وما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل.. وبالجملة فالقوم كانوا قد بالغوا في تزكية أنفسهم فذكر تعالى في هذه الآية أنه لا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له‏.

2. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ التزكية في هذا الموضع عبارة عن مدح الإنسان نفسه، ومنه تزكية المعدل للشاهد، قال تعالى: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَأَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى‏﴾ [النجم: 32] وذلك لأن التزكية متعلقة بالتقوى، والتقوى صفة في الباطن، ولا يعلم حقيقتها إلا الله، فلا جرم لا تصلح التزكية إلا من الله، فلهذا قال تعالى: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾

3. سؤال وإشكال: أليس‏ أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض)؟ والجواب: إنما قال ذلك حين قال المنافقون له: اعدل في القسمة، ولأن الله تعالى لما زكاه أولا بدلالة المعجزة جاز له ذلك بخلاف غيره.

4. ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ يدل على أن الايمان يحصل بخلق الله تعالى لأن أجل أنواع الزكاة والطهارة وأشرفها هو الايمان، فلما ذكر تعالى انه هو الذي يزكي من يشاء دل على أن ايمان المؤمنين لم يحصل إلا بخلق الله تعالى.

5. ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ هو كقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء: 40] والمعنى ان الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تلك التزكية حق جزائهم من غير ظلم، أو يكون المعنى: أن الذين زكاهم الله فإنه يثيبهم على طاعاتهم ولا ينقص من ثوابهم شيئا.

6. الفتيل ما فتلت بين إصبعيك من الوسخ، فعيل بمعنى مفعول، وعن ابن السكيت: الفتيل ما كان في شق النواة، والنقير النقطة التي في ظهر النواة، والقطمير القشرة الرقيقة على النواة، وهذه الأشياء كلها تضرب أمثالا للشيء التافه الحقير، أي لا يظلمون لا قليلا ولا كثيرا.

7. ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ هذا تعجيب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من فريتهم على الله، وهي تزكيتهم أنفسهم وافتراؤهم على الله، وهو قولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18] وقولهم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾‏ وقولهم: ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل.

8. مذهب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ أن الخبر عن الشيء إذا كان على خلاف المخبر عنه كان كذبا، سواء علم قائله كونه كذلك أو لم يعلم، وقال الجاحظ: شرط كونه كذبا أن يعلم كونه بخلاف ذلك، وهذه الآية دليل لنا لأنهم كانوا يعتقدون في أنفسهم الزكاء والطهارة، ثم لما أخبروا بالزكاة والطهارة كذبهم الله فيه، وهذا يدل على ما قلناه.

9. ثم قال تعالى: ﴿وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ وإنما يقال: كفى به في التعظيم على جهة المدح أو على جهة الذم، أما في المدح فكقوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ [النساء: 45] وأما في الذم فكما في هذا الموضع، وقوله: ﴿إِثْمًا مُبِينًا﴾ منصوب على التمييز.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 10/100.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ هذا اللفظ عام في ظاهره ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود، واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم، فقال قتادة والحسن: ذلك قولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، وقولهم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ وقال الضحاك والسدي: قولهم لا ذنوب لنا وما فعلناه نهارا غفر لنا ليلا وما فعلناه ليلا غفر لنا نهارا، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب، وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة: تقديمهم الصغار للصلاة، لأنهم لا ذنوب عليهم، وهذا يبعد من مقصد الآية، وقال ابن عباس: ذلك قولهم آباؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا، وقال عبد الله ابن مسعود: ذلك ثناء بعضهم على بعض، وهذا أحسن ما قيل، فإنه الظاهر من معنى الآية، والتزكية: التطهير والتبرية من الذنوب.

2. هذه الآية وقوله تعالى: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ يقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله تعالى فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له، وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي برة، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى عن هذا الاسم، وسميت برة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم) فقالوا: بم نسميها؟ فقال: (سموها زينب)، فقد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه، ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية، كزكي الدين ومحي الدين وما أشبه ذلك، لكن لما كثرت قبائح المسمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئا.

3. أما تزكية الغير ومدحه له، ففي البخاري من حديث أبي بكرة أن رجلا ذكر عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأثنى عليه رجل خيرا، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ويحك قطعت عنق صاحبك ـ يقوله مرارا ـ إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحدا) فنهى صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يفرط في مدح الرجل بما ليس فيه فيدخله في ذلك الإعجاب والكبر، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة فيحمله، ذلك على تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل، ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ويحك قطعت عنق صاحبك)، وفي الحديث الآخر (قطعتم ظهر الرجل) حين وصفوه بما ليس فيه، وعلى هذا تأول العلماء قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (احثوا التراب في وجوه المداحين) إن المراد به المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه، فأما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود ليكون منه ترغيبا له في أمثاله وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمداح، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه، وهذا راجع إلى النيات ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾، وقد مدح صلّى الله عليه وآله وسلّم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجوه المداحين التراب، ولا أمر بذلك، كقول أبي طالب:

çوأبيض يستسقى الغمام بوجهه...ثمال اليتامى عصمة للأراملé

وكمدح العباس وحسان له في شعرهما، ومدحه كعب بن زهير، ومدح هو أيضا أصحابه فقال: (إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع)، وأما قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في صحيح الحديث: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم وقولوا: عبد الله ورسوله) فمعناه لا تصفوني بما ليس في من الصفات تلتمسون بذلك مدحي، كما وصفت النصارى عيسى بما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله فكفروا بذلك وضلوا، وهذا يقتضي أن من رفع امرأ فوق حده وتجاوز مقداره بما ليس فيه فمعتد آثم، لأن ذلك لو جاز في أحد لكان أولى الخلق بذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

4. ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ الضمير في ﴿يُظْلَمُونَ﴾ عائد على المذكورين ممن زكى نفسه وممن يزكيه الله تعالى، وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمه من غير هذه الآية، والفتيل الخيط الذي في شق نواة التمرة، قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد، وقيل: القشرة التي حول النواة بينها وبين البسرة، وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك والسدي: هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما، فهو فعيل بمعنى مفعول، وهذا كله يرجع إلى كناية عن تحقير الشيء وتصغيره، وأن الله لا يظلمه شيئا، ومثل هذا في التحقير قوله تعالى: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ وهو النكتة التي في ظهر النواة، ومنه تنبت النخلة، وسيأتي، قال الشاعر يذم بعض الملوك:

çتجمع الجيش ذا الألوف وتغزو...ثم لا ترزأ العدو فتيلاé

5. ثم عجب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من ذلك فقال: ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ في قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقيل: تزكيتهم لأنفسهم، عن ابن جريج، وروي أنهم قالوا: ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أبنائنا يوم تولد، والافتراء الاختلاق، ومنه افترى فلان على فلان أي رماه بما ليس فيه، وفريت الشيء قطعته.

6. ﴿وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ نصب على البيان، والمعنى تعظيم الذنب وذمه، العرب تستعمل مثل ذلك في المدح والذم.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/247.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ تعجيب من حالهم، وقد اتفق المفسرون على أن المراد: اليهود، واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم، فقال الحسن وقتادة: هو قولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ وقولهم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ وقال الضحاك: هو قولهم: لا ذنوب لنا ونحن كالأطفال؛ وقيل: قولهم: إن آباءهم يشفعون لهم؛ وقيل: ثناء بعضهم على بعض، ومعنى التزكية: التطهير والتنزيه، فلا يبعد صدقها على جميع هذه التفاسير وعلى غيرها، واللفظ يتناول كل من زكى نفسه بحق أو بباطل من اليهود وغيرهم، ويدخل في هذا التلقب بالألقاب المتضمنة للتزكية: كمحيي الدين، وعز الدين، ونحوهما.

2. ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ أي: ذلك إليه سبحانه، فهو العالم بمن يستحق التزكية من عباده ومن لا يستحقها، فليدع العباد تزكية أنفسهم، ويفوضوا أمر ذلك إلى الله سبحانه، فإن تزكيتهم لأنفسهم مجرد دعاوى فاسدة، تحمل عليها محبة النفس، وطلب العلوّ، والترفع والتفاخر، ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَأَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى‏﴾

3. ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ﴾ أي: هؤلاء المزكون لأنفسهم‏ ﴿فَتِيلًا﴾ وهو الخيط الذي في نواة التمر، وقيل: القشرة التي حول النواة؛ وقيل: هو ما يخرج بين إصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما، فهو فتيل بمعنى مفتول، والمراد هنا: الكناية عن الشيء الحقير، ومثله: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ وهو النكتة التي في ظهر النواة، والمعنى: أن هؤلاء الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم لأنفسهم بقدر هذا الذنب، ولا يظلمون بالزيادة على ما يستحقون، ويجوز أن يعود الضمير إلى‏ ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ أي: لا يظلم هؤلاء الذين يزكيهم الله فتيلا مما يستحقونه من الثواب.

4. ثم عجب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من تزكيتهم لأنفسهم فقال: ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ في قولهم ذلك، والافتراء: الاختلاق، ومنه: افترى فلان على فلان، أي: رماه بما ليس فيه، وفريت الشيء: قطعته، وفي قوله: ﴿وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ من تعظيم الذنب وتهويله ما لا يخفى.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/551.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ﴾ هم اليهود القائلون: ﴿نَحْنُ أَبْنَآؤُاْ اللهِ وَأَحِبَّآؤُهُ﴾ [المائدة: 18]، واليهود والنصارى القائلون: ﴿لَنْ يَّدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا اَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 111].. واليهود الذين أتوا بأطفالهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: (هل على هؤلاء ذنب؟) قال: (لا)، فقالوا: (والله ما نحن إِلَّا كهيئتهم، ما عملنا بالنهار كفِّر عنَّا بالليل، أو بالليل كفِّر عنَّا بالنهار)، ويدخل بالمعنى كلُّ من زكَّى نفسه ولو موحِّدًا.

2. ﴿بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَّشَآءُ﴾ يطهِّره أو يحكم بزكاته، وهو العالم بما في القلوب والأسرار والعاقبة، وقد حكم الله بزكاة المؤمنين وذمِّ غيرهم، والتقدير: لا تحقُّ تزكيتهم أنفسهم بل الله يزكِّي من يشاء، ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ﴾ في ذمِّ الله إيَّاهم ولا في عقابه لهم على تزكيتهم أنفسهم باطلاً ﴿فَتِيلاً﴾ مقدار ما في شقِّ النواة، أو ما يفتل من الوسخ باليد، وذلك تمثيل، فإنَّه تعالى لا يظلم أحدًا أقلَّ من حبَّة خردل، بلا حدٍّ في القِلَّة.

3. ﴿انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ في زعمهم أنَّهم أبناء الله وأحبَّاؤه، وأنَّ ذنوبهم في أحد الملوين تكفَّر في الآخر، ﴿وَكَفَىٰ بِهِ﴾ أي: بقولهم إنَّهم أزكياء، أو بالافتراء ﴿إِثْمًا مُّبِينًا﴾

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/202.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ تعجيب من تمادحهم بالتزكية التي هي التطهير والتبرئة من القبيح فعلا وقولا، المنافية لما هم عليه من الطغيان والشرك الذي قصه تعالى عنهم قبل، فالمراد بهم اليهود، وقد حكى تعالى عنهم أنهم يقولون: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18]، وحكى عنهم أيضا أنهم قالوا: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80]، وأنهم قالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 111]

2. روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال كان اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب، وكذبوا، قال الله: إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له، وأنزل الله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾، أي انظر إليهم فتعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم فيه من الكفر والإثم العظيم، أو من ادعائهم تكفير ذنوبهم مع استحالة أن يغفر للكافر شيء من كفره أو معاصيه.

3. ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ تنبيه على أن تزكيته هي المعتد بها دون تزكية غيره، فإنه العالم بما ينطوي عليه الإنسان من حسن وقبيح، وقد ذمهم وزكى المرتضين من عباده المؤمنين.

4. قال الزمخشريّ: يدخل في الآية كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله، فإن قلت: أما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: والله! إني لأمين في السماء، أمين في الأرض؟ قلت: إنما قال ذلك حين قال له المنافقون: اعدل في القسمة، إكذابا لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه، وشتان من شهد الله له بالتزكية ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم.

5. وقد ورد في ذم التمادح والتزكية أحاديث كثيرة، منها:

أ. عن أبي موسى الأشعريّ قال‏: سمع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم رجلا يثني على رجل ويطريه في المدح فقال: أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل)، متفق عليه.

ب. وعن أبي بكرة أن رجلا ذكر عند النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فأثنى عليه رجل خيرا فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ويحك! قطعت عنق صاحبك (يقوله مرارا) إن كان أحدكم مادحا، لا محالة، فليقل: أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله، ولا يزكي على الله أحدا)، متفق عليه.

ج. وعن همّام بن الحارث عن المقداد أن رجلا جعل يمدح عثمان، فعمد المقداد فجثا على ركبتيه، فجعل يحثو في وجهه الحصاء، فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إذا رأيتم المدّاحين فاحثوا في وجوههم التراب، رواه مسلم.

د. وقال الإمام أحمد: حدثنا معتمر عن أبيه عن نعيم بن أبي هند قال قال عمر ابن الخطاب: من قال أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال هو عالم، فهو جاهل، ومن قال هو في الجنة فهو في النار، ورواه ابن مردويه عن طريق موسى بن عبيدة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن عمر أنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه، فمن قال إنه مؤمن فهو كافر، ومن قال هو عالم فهو جاهل، ومن قال هو في الجنة فهو في النار.

هـ. وروى ابن جرير بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال‏: إن الرجل ليغدو بدينه ثم يرجع وما معه منه شيء، يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرّا فيقول له: والله! إنك لذيت وذيت فلعله أن يرجع ولم يحل من حاجته بشيء، وقد أسخط الله عليه، ثم قرأ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ الآية.

6. ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ عطف على جملة قد حذفت، تعويلا على دلالة الحال عليها وإيذانا بأنها غنية عن الذكر، أي يعاقبون بتلك الفعلة القبيحة ولا يظلمون في ذلك العقاب فتيلا، أي أدنى ظلم وأصغره، والفتيل الخيط الذي في شق النواة أو ما يفتل بين الأصابع من الوسخ، يضرب به المثل في القلة والحقارة، وقيل: التقدير، يثاب المزكون ولا ينقص من ثوابهم شيء أصلا، ولا يساعده مقام الوعيد، قاله أبو السعود.

7. ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ أي في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقولهم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 111] وقولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80] واتكالهم على أعمال آبائهم الصالحة، وقد حكم الله أن أعمال الآباء لا تجزي عن الأبناء شيئا، في قوله: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ [البقرة: 134]، الآية، قال أبو السعود: (كيف) نصب إما على التشبيه بالظرف أو بالحال، والعامل (يفترون) وبه تتعلق (على) أي: في أي حال أو على أي حال يفترون عليه تعالى الكذب، والمراد بيان شناعة تلك الحال وكمال فظاعتها، والجملة في محل النصب بعد نزع الخافض و(النظر) متعلق بهما، وهو تعجيب إثر تعجيب، وتنبيه على أن ما ارتكبوه متضمن لأمرين عظيمين موجبين للتعجيب: ادعاؤهم الاتصاف بما هم متصفون بنقيضه، وافتراؤهم على الله سبحانه، فإن ادعاءهم الزكاء عنده تعالى متضمن لادعائهم قبول الله وارتضاءه إياهم، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا، ولكون هذا أشنع من الأول جرما، وأعظم قبحا لما فيه من نسبته سبحانه وتعالى إلى ما يستحيل عليه بالكلية من قبول الكفر وارتضائه لعباده، ومغفرة كفر الكافر وسائر معاصيه ـ وجّه النظر إلى كيفيته تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب، والتصريح‏ بالكذب، مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا، للمبالغة في تقبيح حالهم‏ ﴿وَكَفَى بِهِ﴾ أي بافترائهم هذا من حيث هو افتراء عليه تعالى مع قطع النظر عن مقارنته لتزكية أنفسهم وسائر آثامهم العظام‏ ﴿إِثْمًا مُبِينًا﴾ ظاهرا بينا كونه إثما، والمعنى: كفى ذلك وحده في كونهم أشد إثما من كل كفّار أثيم، أو في استحقاقهم لأشد العقوبات.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/170.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كانت اليهود تفاخر مشركي العرب وغيرهم بنسبهم ودينهم ويسمون أنفسهم شعب الله وكذلك النصارى، وقد حكى الله تعالى عنهم قولهم ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18] وقولهم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 111] وقول اليهود خاصة ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80] وكل هذا من تزكيتهم لأنفسهم وغرورهم في دينهم، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب فأنزل الله فيهم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ وأخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة ومجاهد وأبي مالك، قاله السيوطي في لباب النقول، وروى ابن جرير أيضا سبب نزولها تزكيتهم لأنفسهم بالآيات التي أشرنا إليها آنفا، وروي عن السدي أنه قال: نزلت في اليهود قالت اليهود إنا نعلم أبناءنا التوراة صغارا فلا تكون لهم ذنوب وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل، وذكر روايات أخرى ورجح أن تزكيتهم لأنفسهم وصفهم إياها بأنها لا ذنوب لها ولا خطايا وأنهم أبناء الله وأحباؤه.

2. أما معنى ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ فقد ذكر قريبا والاستفهام للتعجيب من حالهم، وتزكية النفس تكون بالعمل الذي يجعلها زاكية أي طاهرة كثيرة الخير والبركة وأصل الزكاء والزكاة النمو والبركة في الزرع ومثله كل نافع فتزكية النفس بالفعل عبارة عن تنمية فضائلها وخيراتها ولا يتم ذلك إلا باجتناب الشرور التي تعارض الخير وتعوقه وهذه التزكية محمودة وهي المرادة بقوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشمس: 9] أي نفسه، وتكون بالقول وهو ادعاء الزكاء والكمال ومنه تزكية الشهود وقد أجمع العقلاء على استقباح تزكية المرء لنفسه بالقول ومدحها ولو بالحق ولتزكيتها بالباطل أشد قبحا وهذا هو المراد هنا، وهذا النوع من التزكية مصدره الجهل والغرور ومن آثاره العتو والاستكبار عن قبول الحق والانتفاع بالنصح.

3. وقد ردّ الله عليهم بقوله: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ أي ليست العبرة بتزكيتكم لأنفسكم بأنكم أبناء الله وأحباؤه وأنكم لا تعذبون في النار وأنكم ستكونون أهل الجنة دون غيركم وأنكم شعب الله المختار بل الله يزكي من يشاء من عباده من جميع الشعوب والأقوام بهدايتهم إلى العقائد الصحيحة والآداب الكاملة الصالحة أو شهادة كتابه لهم بموافقة عقائدهم وآدابهم وأخلاقهم وأعمالهم لما جاء فيه ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النجم: 32]

4. ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ أي ولا يظلم الله هؤلاء الذين يزكون أنفسهم ولا غيرهم من خلقه شيئا مما يستحقونه بأعمالهم ولو حقيرا كالفتيل، وقد بينا من قبل أن أصل الظلم بمعنى النقص، أي لا ينقصهم من الجزاء على أعمالهم الحسنة شيئا بعدم تزكيته إياهم لأن عدم تزكيتهم إنما تكون بعدم إتباعهم لما تكون به النفس زكية من هداية الدين والعقل ونظام الفطرة، والفتيل ما يكون في شق نواة التمرة مثل الخيط وما تفتله بين أصابعك من وسخ أو خيط وتضرب العرب به المثل في الشيء الحقير فهو بمعنى ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء: 40] وتقدم تفسيره من عهد قريب، فخذلان الملوثين برذيلة الشرك في الدنيا بالعبودية لغيرهم وغير ذلك من آثار انحطاطهم، وعذابهم في الآخرة وحرمانهم من نعيمها، لا يكون بظلم من الله عز وجل لهم، ونقصه إياهم شيئا من ثواب أعمالهم، وإنما يكون بنقصان درجات أعمالهم، وعجزها عن العروج بأرواحهم، بل بتدسيتها لنفوسهم، لتزكيتهم إياها بالقول الباطل دون الفعل ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ [الأنعام: 132] كدرجات الحرارة في ميزانها ودرجات الرطوبة في ميزانها، فما كل درجة من الأولى يغلي بها الماء، ولا كل درجة منها يكون بها جليدا، ولا كل درجة من الثانية ينزل بها المطر، وكدرجات امتحان طلاب العلوم في المدارس، أو الأعمال في الحكومة لا ينال الفوز إلا بالدرجات العلى المحدد أدناها وأعلاها بالحكمة.

5. الآية تدل على أن الله تعالى يجزي كل عامل خير بعمله وإن كان مشركا لأن لعمله أثرا في نفسه يكون مناط الجزاء فإذا لم يصل تأثير عمل المشرك إلى الدرجة التي تكون بها النجاة من العذاب البتة فإن عمله ينفعه بكون عذابه أقل من عذاب من لم يعمل من الخير مثل عمله، مثال ذلك في الدنيا رجلان يشربان الخمر أحدهما مقل والآخر مكثر فضرر المكثر يكون أكبر من ضرر المقل، وآخران متساويان في الشرب ولكن بنية أحدهما قوية تقاوم الضرر أن يفتك بالجسم وبنية الآخر ضعيفة لا تستطيع المقاومة فإن ضرر هذا من الشرب يكون أشد من ضرر ذاك، كذلك الروح القوية السليمة الفطرة الصحيحة الإيمان المزكاة بالعمل الصالح لا تهبط بها السيئة الواحدة والسيئتان إلى درجة الأشرار الفجار فتجعلها شقية مثلهم لا يغلب خيرها على الشر الذي يعرض لها فيزيله أو يضعفه حتى يكون ضررها غير مهلك، ومنه تعلم أن بعض المؤمنين الصالحين قد يعذب في الدنيا والآخرة بذنبه ولكنه لا يكون من الهالكين الخالدين.

6. العبرة بهذه الآية وما قبلها للمسلمين هي وجوب اتقاء ما هم عليه من الغرور بدينهم كما كان أهل الكتاب في عصر التنزيل وما قبله وما بعده بقرون، واتقاء مثل ما كانوا عليه من تزكية أنفسهم بالقول واحتقار من عداهم من المشركين الذي انجرّ إلى احتقار المسلمين عند ظهور الإسلام حتى كانت عاقبة ذلك الغرور وتلك التزكية الباطلة في الدنيا أن غلبهم المسلمون على أمرهم، واستولوا على أرضهم وديارهم وليعلموا أن الله العظيم الحكيم لا يحابي في سننه المطردة في نظام خلقه مسلما ولا يهوديا ولا نصرانيا لأجل اسمه ولقبه أو لانتسابه بالاسم إلى أصفيائه من خلقه بل كانت سننه حاكمة على أولئك الأصفياء أنفسهم حتى أن خاتم النبيين صلى الله عليه وعليهم أجمعين وسلم قد شج رأسه وكسرت سنه وردي في الحفرة يوم أحد لتقصير عسكره فيما يجب من نظام الحرب، فإلى متى أيها المسلمون هذا الغرور بالانتماء إلى هذا الدين وأنتم لا تقيمون كتابه ولا تهتدون به ولا تعتبرون بما فيه من النذر، ألا ترون كيف عادت الكرة إلى تلك الأمم عليكم بعد ما تركوا الغرور واعتصموا بالعلم والعمل، بما جرى عليه نظام الاجتماع من الأسباب والسنن، حتى ملكت دول الأجانب أكثر بلادكم، وقام اليهود الآن ليجهزوا على الباقي لكم، ويستردوا البلاد المقدسة من أيديكم، ويقيموا فيها ملكهم؟

7. فاهتدوا بكتاب الله الحكيم وبسننه في الأمم واتركوا وساوس الدجالين الذين يبثون فيكم نزغات الشرك فيصرفونكم عن قواكم العقلية والاجتماعية وعن الاهتداء بكلام ربكم على الاتكال على الأموات، والاستمساك بحبل الخرافات، ويشغلونكم عن دينكم ودنياكم بما لم ينزله الله تعالى عليكم من الأوراد والصلوات، وما غرضهم بذلك إلا سلب أموالكم، وحفظ جاههم الباطل فيكم، أفيقوا أفيقوا، تنبهوا تنبهوا، واعلموا أن الله لم يظلم ولا يظلم أحدا فتيلا فما زال ملككم، وذهب عزكم، إلا بترك هداية ربكم، وإتباع هؤلاء الدجالين منكم.

8. ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ أي انظر يا أيها الرسول كيف يكذبون على الله بتزكية أنفسهم وزعمهم أنهم شعبه الخاص وأبناؤه وأحباؤه وأنه يعاملهم معاملة خاصة يخرجون فيها عن نظام سننه في سائر خلقه، وهذا تأكيد للتعجيب من شأنهم في الآية السابقة لنعتبر به.

9. ﴿وكفى بالله مبينا﴾ أي وكفى بهذا الضرب من آثامهم إثما بينا ظاهرا فإنه تعالى لم يعاملهم معاملة خاصة مخالفة لسنن الاجتماع البشري التي عامل بها غيرهم ولكنهم قوم مغرورون جاهلون، وقد أطلق الإثم على الكذب خاصة، وعلى كل ذنب، وقال الراغب الإثم والآثام اسم للأفعال المبطئة عن الثواب، يعني عن الخيرات التي يثاب الإنسان عليها ثم بين صدق ذلك على الخمر والميسر إذ قال تعالى: ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: 219] ولا شك أن تزكية النفس، والغرور بالدين والجنس، مما يبطئ عن العمل النافع الذي يثاب عليه الناس في الدنيا بالعز والسيادة، وفي الآخرة بالحسنى وزيادة، وتقدم في تفسير ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [البقرة: 219] أنه لا يطلق لفظ الإثم إلا على ما كان ضارا وأي ضرر أكبر من ضرر الغرور وتزكية النفس بالدعوى والتبجح كما يفعل المسلمون الآن في بعض البلاد يغشون أنفسهم بمدحها، ويتركون الأعمال التي ترفعها أو تعليها، وقد ترك اليهود ذلك منذ قرون، فهم يعملون لملتهم وهم ساكتون ساكنون، لا يدعون ولا يتبجحون، فاعتبروا يا أيها الغافلون.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/152.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي انظر واعجب من الذين يدّعون أنهم أزكياء بررة عند الله، مع ما هم عليه من الكفر وعظيم الذنب، زعما منهم أن الله يكفر لهم ذنوبهم التي عملوها، والله لا يغفر لكافر شيئا من كفره ومعاصيه.

2. وتزكية النفس تارة تكون بالعمل الذي يجعلها زاكية طاهرة كثيرة الخير والبركة بتنمية فضائلها وكمالاتها، ولا يكون ذلك إلا بابتعادها عن الشرور والآثام التي تعوقها عن الخير وهذه التزكية محمودة، وهى التي عناها الله سبحانه بقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾، وتارة تكون بالقول بادعاء الكمال والزكاة، وقد اتفق العقلاء على استهجان تزكية المرء نفسه بالقول ولو حقا، ومصدر هذه التزكية الجهل والغرور، ومن آثاره السيئة الاستكبار عن قبول الحق، والانتفاع بالنصح.

3. وقد رد الله عليهم دعواهم الزكاة والطهارة فقال: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ أي لا عبرة بتزكيتكم أنفسكم بأن تقولوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وبأنكم لا تعذبون في النار، لأنكم شعب الله المختار، وتتفاخروا بنسبكم وبدينكم، بل الله يزكى من يشاء من عباده، من أي شعب كان، ومن أي قبيلة كانت، فيهديهم إلى صحيح العقائد، وفاضل الآداب، وصالح الأعمال.

4. ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ أي ولا ينقص الله هؤلاء الذين يزكون أنفسهم شيئا من الجزاء على أعمالهم، فخذلانهم في الدنيا بالعبودية لغيرهم، وفي الآخرة بالعذاب والحرمان من النعيم والثواب، ما كان بظلم من الله عز اسمه، بل كان بنقصان درجات أعمالهم، وعجزها عن الصعود بأرواحهم إلى مستوى الرفعة والكرامة، لتزكيتهم إياها بالقول الباطل دون الفعل، فلم تصل بهم نفوسهم إلى مراتب الفوز والفلاح.

5. في الآية موضعان من العبرة:

أ. أن الله يجزى عامل الخير بعمله ولو مشركا، لأن لعمله أثرا في نفسه يكون مناط، الجزاء، فيخفف عذابه عن عذاب غيره كما ورد في الأحاديث، إن بعض المشركين يخفف عنهم العذاب بعمل لهم، فحاتم الطائي بكرمه، وأبو لهب لعتقه جاريته ثوبة حين بشرته بمولد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ب. أن يحذر المسلمون الغرور بدينهم كما كان أهل الكتاب في عصر التنزيل وما له، وأن يبتعدوا عن تزكية أنفسهم بالقول، واحتقار من عداهم من المشركين، وأن يعلموا أن الله لا يحابى في نظم الخليقة أحدا لا مسلما ولا يهوديا ولا نصرانيا، ألا ترى أن خاتم النبيين قد شجّ رأسه، وكسرت سنّه، وردّى في حفرة من جراء تقصير عسكره فيما يجب من اتباع أمر القائد وعدم مخالفته، وأن يهتدوا بكتاب الله وبسنته في الأمم، وأن يتركوا وساوس الدجالين الذين يصرفونهم عن الاهتداء بهدى كتابهم، ويشغلونهم بما لم ينزل الله به عليهم سلطانا، فإنه ما زال ملكهم وما ذهب عزهم إلا بتركهم لهدى دينهم، واتباعهم لأولئك الدجالين والمشعوذين.

6. ثم أكد التعجيب من حالهم الذي فهم من الآية السابقة فقال: ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ أي انظر كيف يكذبون على الله بتزكية أنفسهم وزعمهم أن الله يعاملهم معاملة خاصة بهم، لا كما يعامل سائر عباده.

7. ﴿وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ أي إن تزكية النفس، والغرور بالدين والجنس، مما يبطّئ عن نافع العمل الذي يثاب عليه الناس، وكفى بهذا إثما ظاهرا، لأنه لا أثر له من حق، ولا سمة عليه من صواب، فالله لا يعامل شعبا معاملة خاصة تغاير سننه التي وضعها في الخليقة، وما مصدر هذه الدعوى إلا الغرور والجهل، وكفى بذلك شرا مستطيرا.

__________

(1) تفسير المراغى: 5/60.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يمضي القرآن ـ وهو يخوض المعركة بالجماعة المسلمة مع اليهود في المدينة ـ يعجب من أمر هؤلاء الخلق؛ الذين يزعمون أنهم شعب الله المختار؛ ويثنون على أنفسهم؛ ويزكونها؛ بينما هم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويتطاولون على الله ورسوله ـ كما سبق ـ وبينما هم يؤمنون بالجبت والطاغوت ـ كما سيجي‏ء ـ كاذبين على الله في تزكيتهم لأنفسهم، وفي زعمهم أنهم مقربون إليه مهما عملوا من السوء!: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾

2. ودعوى اليهود أنهم شعب الله المختار هي دعواهم من قديم، وقد اختارهم الله فعلا لحمل الأمانة وأداء الرسالة، وفضلهم على العالمين في ذلك الأوان؛ وأهلك لهم فرعون وملأه، وأورثهم الأرض المقدسة.. ولكنهم هم انحرفوا بعد ذلك عن منهج الله؛ وعتوا في الأرض عتوا كبيرا، واجترحوا السيئات التي تضج منها الأرض، وأحل لهم أحبارهم ما حرم الله وحرموا عليهم ما أحله لهم، واتبعوهم؛ ولم ينكروا عليهم حق الألوهية هذا الذي ادعوه عمليا ـ بهذا التحريم والتحليل ـ وقد بدل هؤلاء الأحبار في شريعة الله، ليرضوا ذوي السلطان والشرفاء؛ وليملقوا كذلك رغبات الجماهير وأهواءهم، وبذلك اتخذوا أحبارهم أربابا من دون الله، وأكلوا الربا، ووهنت علاقتهم بدين الله وكتابه الذي أنزله عليهم.

3. وعل الرغم من ذلك كله ـ وغيره كثير ـ فقد ظلوا يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، وأنه لا يهتدي ولا يقبل عند الله إلا من كان هودا! كأن المسألة مسألة قرابة ونسب ومحاباة بينهم وبين الله ـ تعالى عن ذلك علوا كبيرا ـ فالله لا تصل بينه وبين أحد من خلقه قرابة ولا نسب؛ إنما تربط عباده به العقيدة المستقيمة والعمل الصالح، والاستقامة على منهج الله.. فمن أخل بهذا فقد غضب الله عليه، ويشتد غضبه إذا كان قد آتى الضالين الهدى فانحرفوا عنه! وما شأن هؤلاء اليهود إلا شأن من يزعمون الإسلام اليوم، ويحسبون أنهم من أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأن الله لا بد ناصرهم، ومخرج لهم اليهود من أرضهم.. بينما هم ينسلخون انسلاخا كاملا من دين الله الذي هو منهجه للحياة؛ فينبذونه من حياتهم؛ ولا يتحاكمون إلى كتاب الله لا في أقضيتهم ولا في اقتصادهم، ولا في اجتماعهم، ولا في آدابهم، ولا في تقاليدهم، وكل ما لهم من الإسلام أسماء المسلمين! وأنهم ولدوا في أرض كان المسلمون يسكنونها ذات يوم! ويقيمون فيها دين الله، ويحكمون منهجه في الحياة!

4. والله يعجب رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أمر أولئك اليهود الذين يزكون أنفسهم، وأمر (المسلمين) المعاصرين أعجب، وأشد إثارة للتعجيب والتعجب! إنه ليس الناس هم الذين يزكون أنفسهم؛ ويشهدون لها بالصلاح والقرب من الله واختيار الله، إنما الله هو الذي يزكي من يشاء، فهو أعلم بالقلوب والأعمال، ولن يظلم الناس شيئا، إذا هم تركوا هذا التقدير الله ـ سبحانه ـ واتجهوا إلى العمل، لا إلى الادعاء، فلئن عملوا ـ وهم ساكتون متواضعون في حياء من الله، وبدون تزكية ولا ادعاء ـ فلن يغبنوا عند الله؛ ولن ينسى لهم عمل؛ ولن يبخس لهم حق.

5. والله ـ سبحانه ـ يشهد على اليهود أنهم ـ إذ يزكون أنفسهم ويدعون أن الله راض عنهم ـ يفترون عليه الكذب، ويشنع بفعلتهم هذه، ويوجه الأنظار إلى بشاعتها: ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾

6. وما أرى أننا ـ الذين ندعي الإسلام لأننا نحمل أسماء المسلمين، ونعيش في أرض كان يسكنها المسلمون! بينما نحن لا نجعل الإسلام في شيء من منهجنا في الحياة.. ما أحسبنا ونحن ندعي الإسلام، فنشوه الإسلام بصورتنا وواقعنا؛ ونؤدي ضده شهادة منفرة منه! ثم ونحن ندعي أن الله مختار لنا لأننا أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بينما دين محمد ومنهجه مطرود من واقع حياتنا طردا.. ما أحسبنا إلا في مثل هذا الموضع، الذي يعجب الله ـ سبحانه ـ منه رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويدمغ أصحابه بافتراء الكذب على الله، وارتكاب هذا الإثم المبين! والعياذ بالله! إن دين الله منهج حياة، وطاعة الله هي تحكيم هذا المنهج في الحياة، والقرب من الله لا يكون إلا بطاعته، فلننظر أين نحن من الله ودينه ومنهجه.. ثم لننظر أين نحن من حال هؤلاء اليهود، الذين يعجب الله من حالهم، ويدمغهم بإثم الافتراء عليه في تزكيتهم لأنفسهم! فالقاعدة هي القاعدة، والحال هي الحال، وليس لأحد عند الله نسب ولا صهر ولا محاباة!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/680.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. عادت الآيات مرة أخرى، لتفضح اليهود، فضيحة بعد فضيحة، فما أكثر مآثمهم، وما أوسع دائرة مخازيهم، وهنا جريمة أخرى من جرائمهم.. إنهم غارقون في الضلال إلى أذقانهم، ومع هذا فإنهم يرون في أنفسهم أنهم أولى الناس بالله، وأقربهم إليه، وأحقهم بفضله ورحمته، فقالوا فيما كانوا يقولون: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾.. وقالوا: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾

2. لقد زكّوا أنفسهم بغير حق؛ ورفعوا منزلتهم إلى مكان ليسوا أهلا له، وهذا تألّ على الله، وافتراء عليه.. وإنه ليس لاحد أن يتخيرّ عند الله المكان الذي يمليه عليه هواه.. فذلك أمر إلى الله وحده، ينزل عباده منازلهم، حسب علمه بهم، وبما هم أهل له.. دون أن يظلم أحدا شيئا.

3. وقوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ شجب لمدّعيات هؤلاء القوم، وتكذيب لمفترياتهم، وفضح لهم على رؤوس الأشهاد، ودعوة للناس جميعا أن ينظروا إليهم وهم في هذا الثوب الكاذب المفضوح!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/813.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ تعجيب من حال اليهود إذ يقولون‏ ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18] وقالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا﴾ [البقرة: 111] ونحو ذلك من إدلالهم الكاذب، وقوله: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ إبطال لمعتقدهم بإثبات ضدّه، وهو أنّ التزكية شهادة من الله، ولا ينفع أحدا أن يزكّي نفسه، وفي تصدير الجملة بـ (بل) تصريح بإبطال تزكيتهم، وأنّ الذين زكّوا أنفسهم لا حظّ لهم في تزكية الله، وأنّهم ليسوا ممّن يشاء الله تزكيته، ولو لم يذكر (بل) فقيل و﴿اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ لكان لهم مطمع أن يكونوا ممّن زكّاه الله تعالى.

2. معنى‏ ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ أي أنّ الله لم يحرمهم ما هم به أحرياء، وأنّ تزكية الله غيرهم لا تعدّ ظلما لهم لأنّ الله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل ولا يظلم أحدا، والفتيل: شبه خيط في شقّ نواة التمرة، وقد شاع استعارته للقلّة إذ هو لا ينتفع به ولا له مرأى واضح، وانتصب‏ ﴿فَتِيلًا﴾ على النيابة عن المفعول المطلق، لأنّه على معنى التشبيه، إذ التقدير: ظلما كالفتيل، أي بقدره، فحذفت أداة التشبيه، وهو كقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء: 40]

3. ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ جعل افتراءهم الكذب، لشدّة تحقّق وقوعه، كأنّه أمر مرئيّ ينظره الناس بأعينهم، وإنّما هو ممّا يسمع ويعقل، وكلمة ﴿وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ نهاية في بلوغه غاية الإثم كما يؤذن به تركيب (كفى به كذا)، وقد تقدّم القول في (كفى) عند قوله آنفا ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ [الفتح: 28]

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/154.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كانت الآيات السابقة تدعو أهل الكتاب إلى الإيمان، وتذكرهم بعاقبة الكفر، وهى الذل في الدنيا والخزي في الآخرة، واللعن من الرحمن، والهوان، وبين سبحانه وتعالى لهم ولغيرهم أن باب التوبة والمغفرة مفتوح لكل من يذعن لرسالة الله تعالى، ولا يكفر بها، وذلك لكيلا يسرفوا على أنفسهم، ويوغلوا في معاصيهم، وفي هذه الآيات يبين سببا من أسباب ضلال اليهود ومن على شاكلتهم، فقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾

2. ﴿أَلَمْ تَرَ﴾، هذا تعبير قرآنى فيه استفهام دخل على النفي وهو استفهام إنكارى يتضمن معنى النفي فهو نفى داخل نفى، ومؤدى الكلام: قد نظرت إلى الذين يزكون أنفسهم متعجبا من حالهم مستغربا أمرهم، ورأى هنا معناه نظر، ولذلك تعدت بـ (إلى)

3. تزكية النفس تطلق بمعنى تطهيرها وإبعادها عن دنس المعصية، وقد تطلق على الفعل المحمود، والمراد هنا أنهم يصفون أنفسهم بالأفعال الحسنة، وليسوا بمستحقيها، وقد يدعون أنهم يطهرون أنفسهم، ويبعدونها عن الدنس في نظرهم، وليسوا كذلك، وأصل التزكية كما ترى من زكاء النفس جاء في مفردات الراغب: (زكاء النفس طهارتها، يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة، وهو بأن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره، وذلك ينسب تارة إلى العبد لكونه مكتسبا لذلك، نحو ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشمس‏] وتارة ينسب إليه تعالى لكونه فاعلا لذلك في الحقيقة نحو ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾

4. تزكية اليهود والنصارى لأنفسهم تحتمل أمرين:

أ. أولهما: أنهم يصفون أنفسهم بالطهارة والتقوى، وتحري ما يربي التقوى في النفس، ويستطيلون على الناس بذلك.

ب. الثاني: أن يدَّعوا أنهم بأعمالهم واتخاذهم ما هم عليه مذهبا يطهر النفس، أي يدعون أنهم يسلكون سبيل الهداية وتطهير النفس.

5. الأمر الأول هو الذي عليه جمهور المفسرين، وهو أوضح ويتفق مع المأثور من أسباب النزول، فقد تضافرت المرويات عن التابعين على أنهم كانوا يدعون أنهم المغفور لهم دائما، وقال الضحاك والسدى إنهم كانوا يقولون: (لا ذنوب لنا، وما فعلناه نهارا غفر لنا ليلا، وما فعلناه ليلا غفر لنا نهارا، ونحن كالأطفال)، وقد رد الله تعالى ذلك بقوله: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾

6. على تفسير تزكيتهم أنفسهم بمعنى أنهم يدعون أنهم بأفعالهم يطهرونها، يكون المعنى أن الله تعالى رد عليهم ادعاءهم أن ما هم عليه تطهير لأنفسهم، فبين أن الله تعالى هو الذي يطهر النفوس ويزكيها؛ لأنه هو الذي يبين طريق الهداية، وقد بين، فما أنتم عليه ضلال في ضلال.

7. وعلى الاحتمال الراجح، وهو أنهم يصفون أنفسهم بالأوصاف الحميدة، وأنهم أهل المغفرة، ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة]، وقولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة] على هذا الاحتمال يكون المعنى أن الله تعالى هو وحده الذي يصف أفعال عباده بالخير أو الشر؛ لأنه وحده الذي رسم طريق الخير وطريق الشر، وإن تزكيته سبحانه تقتضى رحمته وغفرانه، وأن يجزى الجزاء الأوفى، فليصفوا أنفسهم بما شاؤوا، وليمنوا أنفسهم الأمانى بأنهم لا ذنوب لهم، أو أنها تمحى فور ارتكابها، فكل ذلك من مزاعمهم، والله وحده هو الذي يصف الأفعال المحمودة والأفعال المذمومة، ويعطى عليها الثواب أو العقاب.

8. ولذلك قال سبحانه من بعد ذلك‏ ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾، أي لا ينقصون أي قدر مهما ضؤل ولو كان بقدر الفتيل، وهو الخيط الذي يكون في شق نواة التمر، وقيل القشرة التي تكون حول النواة ويطلق على ما يفتل من خيوط دقيقة، والمعنى: لا ينقصون أي قدر من أعمالهم، ولو كان كأصغر الأشياء التي لا يلتفت إليها، ولا يتجه النظر نحوها، ولكن الله تعالى عليم بكل شيء وكل شيء في كتاب‏ ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ [الكهف‏]، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة]

9. ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ انظر أيها الرسول أنت ومن معك كيف تطوع لهم نفوسهم أن يدعوا أنهم بأعمالهم القبيحة، وتكذيبهم للرسل، يزكون أنفسهم ويطهرونها، وأنهم بذلك ممدوحون أمام الله تعالى، وأنهم محبوبون منه، وأنه يغفر لهم كل ما يفعلون! انظر إلى هذه الحال وتعجب! وإنهم بهذا يكذبون على الله تعالى قاطعين في هذا الكذب فيحسبون أنهم مقبولون عند الله محبوبون، وهم يعاندون رسوله، ويبالغون ويكيدون له، فهم يفترون الكذب على الله ورسوله والمؤمنين.

10. ﴿وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ أي كفاهم هذا العمل أن يكون إثما بينا واضحا، والإثم والآثام الأفعال المبطئة عن الخيرات التي يثاب عليها، وهؤلاء قد ارتكبوا بتزكيتهم أنفسهم بغير الحق الأمر البين الذي يبطئهم عن فعل الخيرات ويوقعهم في السوء؛ ذلك أن هؤلاء ضلوا وحسبوا ضلالهم هو الخير، ومن كان شأنه كذلك فإنه لا يتجه إلى الخير؛ لأن الذين يرتكبون الشر ثلاث مراتب:

أ. أدناها أنه يقع فيه عن جهل وسفه وحمق، وهذا قريب التوبة والرجوع إلى الحق، وهو من الذين قال الله تعالى فيهم‏ ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ [النساء]

ب. الثانية: أن يرتكب السيئات ويوغل فيها، ولكنه يعلم أنها سيئات لا يمدح فاعلها، بل يذم، وأنها لا تستحق التزكية، بل تستحق اللوم، وهذا ترجى توبته وعودته إلى الله.

ج. الثالثة: أن يزين له سوء أعماله، فيفعل الشر، ويفخر به، وهذا يكون في مرتبة تبطئه أو تبعده إبعادا كليا عن الاتجاه إلى الحق وطلبه.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1710.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ﴾، قال المفسرون: نزلت هذه الآية في اليهود، وسواء أكان غرور اليهود هو السبب لنزول هذه الآية، أو لم يكن فإنها أصدق صورة عن مزاعمهم وادعاءاتهم التي لا مثيل لها في الكذب والافتراء، مثل قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقولهم: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقولهم: نحن شعب الله المختار، أي ان الله لهم وحدهم، وانه خلق الناس جميعا عبيدا لهم.. ولم يكتفوا بهذا، حتى دفعهم الجهل والغرور الى القول: ان الله فقير ونحن أغنياء.

2. أجل، لا أحد أغنى وأقدر منهم إطلاقا على الاختلاق، والتمويه، والتزوير، فبالأمس القريب أشاعوا وأذاعوا، وملأوا الشرق والغرب صراخا وعويلا ان العرب يعدون العدة للهجوم عليهم، في حين كانوا ومن يساندهم من دول الاستعمار يبيتون المكر والغدر، ويدبرون عملية الاغتيال والهجوم على العرب، وبعد أن أحكموا الخطة نفذوها على حين غرة، واقترفوا من المظالم والمآثم ما أنسى الناس أعمال هتلر وجنكيز خان.. هذه صورة مصغرة من مزاعم اليهود، ذكرناها على سبيل المثال، لا الحصر والإحصاء.. وهل تحصى مزاعم إسرائيل الكاذبة، وفضائحها الآثمة؟.

3. سؤال وإشكال: إذا كانت هذه هي حال إسرائيل فكيف استطاعت أن تقيم دولة مضى عليها أكثر من عشرين عاما حتى الآن؟ والجواب: ان دول الاستعمار هي التي صنعت إسرائيل لحماية مصالحها في الشرق، وليس لليهود من الدولة الا الاسم، أما بقاؤها الى اليوم فلبقاء الاستعمار الذي ضرب عليها خيمة من الأوكسجين.. وهو في طريقه الى الزوال، وان طال الزمن، وبديهة ان صنيع الشيء يزول بزواله.

4. ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾، لا من يشهد لنفسه بنفسه، وبديهة ان الله سبحانه لا يزكي الا من تشهد له أفعاله بالتزكية.. والآية، وان نزلت في اليهود، فإنها تشمل كل من يزكي نفسه، لأن اللفظ عام، والعبرة بعموم اللفظ، لا بسبب النزول.. وقد أثبتت التجارب ان ما من أحد يزكي نفسه الا لجهله وغروره، أو لنقص فيه يحاول إخفاءه، ولكن بشهادة غير مقبولة، حتى عند نفسه لأنه يعلم كذبها.

5. ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ بقولهم: نحن شعب الله المختار، وأبناء الله وأحباؤه، وما إلى ذلك، ﴿وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/346.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ قال الراغب: أصل‏ الزكاة النمو الحاصل من بركة الله تعالى ـ إلى أن قال ـ: وتزكية الإنسان نفسه ضربان:

أ. أحدهما: بالفعل وهو محمود، وإليه قصد بقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾

ب. الثاني: بالقول كتزكيته لعدل غيره، وذلك مذموم أن يفعل الإنسان بنفسه، وقد نهى الله تعالى عنه فقال: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾، ونهيه عن ذلك تأديب لقبح مدح الإنسان نفسه عقلا وشرعا، ولهذا قيل‏ لحكيم: ما الذي لا يحسن وإن كان حقا؟ فقال: مدح الرجل نفسه.

2. لما كانت الآية في ضمن الآيات المسرودة للتعرض لحال أهل الكتاب كان الظاهر أن هؤلاء المزكين لأنفسهم هم أهل الكتاب أو بعضهم، ولم يوصفوا بأهل الكتاب لأن العلماء بالله وآياته لا ينبغي لهم أن يتلبسوا بأمثال هذه الرذائل فالإصرار عليها انسلاخ عن الكتاب وعلمه، ويؤيده ما حكاه الله تعالى عن اليهود من قولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، وقولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ وزعمهم الولاية كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾، فالآية تكني عن اليهود، وفيها استشهاد لما تقدم ذكره في الآيات السابقة من استكبارهم عن الخضوع للحق واتباعه، والإيمان بآيات الله سبحانه، واستقرار اللعن الإلهي فيهم، وأن ذلك من لوازم إعجابهم بأنفسهم وتزكيتهم لها.

3. ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ إضراب عن تزكيتهم لأنفسهم، ورد لهم فيما زكوه، وبيان أن ذلك من شؤون الربوبية يختص به تعالى فإن الإنسان وإن أمكن أن يتصف بفضائل، ويتلبس بأنواع الشرف والسؤدد المعنوي غير أن اعتناءه بذلك واعتماده عليه لا يتم إلا بإعطائه لنفسه استغناء واستقلالا وهو في معنى دعوى الألوهية والشركة مع رب العالمين، وأين الإنسان الفقير الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة والاستغناء عن الله سبحانه في خير أو فضيلة؟ والإنسان في نفسه وفي جميع شؤون نفسه، والخير الذي يزعم أنه يملكه، وجميع أسباب ذلك الخير، مملوك لله سبحانه محضا من غير استثناء، فما ذا يبقى للإنسان؟

4. وهذا الغرور والإعجاب الذي يبعث الإنسان إلى تزكية نفسه هو العجب الذي هو من أمهات الرذائل، ثم لا يلبث هذا الإنسان المغرور المعتمد على نفسه دون أن يمس غيره فيتولد من رذيلته هذه رذيلة أخرى، وهي رذيلة التكبر ويتم تكبره في صورة الاستعلاء على غيره من عباد الله فيستعبد به عباد الله سبحانه، ويجري به كل ظلم وبغي بغير حق وهتك محارم الله وبسط السلطة على دماء الناس وأعراضهم وأموالهم، وهذا كله إذا كان الوصف وصفا فرديا وأما إذا تعدى الفرد وصار خلقا اجتماعيا وسيرة قومية فهو الخطر الذي فيه هلاك النوع وفساد الأرض، وهو الذي يحكيه تعالى عن اليهود إذ قالوا: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾

5. فما كان لبشر أن يذكر لنفسه من الفضيلة ما يمدحها به سواء كان صادقا فيما يقول أو كاذبا لأنه لا يملك ذلك لنفسه لكن الله سبحانه لما كان هو المالك لما ملكه، والمعطي الفضل لمن يشاء وكيف يشاء كان له أن يزكي من شاء تزكية عملية بإعطاء الفضل وإفاضة النعمة، وأن يزكي من يشاء تزكية قولية يذكره بما يمتدح به، ويشرفه بصفات الكمال كقوله في آدم ونوح: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا﴾، وقوله في إبراهيم وإدريس: ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ (مريم: 41، 56)، وقوله في يعقوب: ﴿وَإِنَّهُ لَذُوعِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ‏﴾:، وقوله في يوسف: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾، وقوله في حق موسى: ﴿إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾، وقوله في حق عيسى: ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾، وقوله في سليمان وأيوب: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (ص: 30، 44)، وقوله في محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَيَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ‏﴾:، وقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، وكذا قوله تعالى في حق عدة من الأنبياء ذكرهم في سور الأنعام ومريم والأنبياء والصافات وص وغيرها.

6. وبالجملة فالتزكية لله سبحانه حق لا يشاركه فيه غيره إذ لا يصدر عن غيره إلا من ظلم وإلى ظلم، ولا يصدر عنه تعالى إلا حقا وعدلا يقدر بقدره لا يفرط ولا يفرط، ولذا ذيل قوله: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ بقوله ـ وهو في معنى التعليل ـ: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾

7. تبين مما مر أن تزكيته تعالى وإن كانت مطلقة تشمل التزكية العملية والتزكية القولية لكنها تنطبق بحسب مورد الكلام على التزكية القولية.

8. ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ الفتيل‏ فعيل بمعنى المفعول من الفتل وهو اللي قيل: المراد به ما يكون في شق النواة، وقيل: هو ما في بطن النواة، وقد ورد في روايات عن أئمة أهل البيت عليه السلام: أنه النقطة التي على النواة، والنقير ما في ظهرها، والقطمير قشرها، وقيل: هو ما فتلته بين إصبعيك من الوسخ، وكيف كان هو كناية عن الشيء الحقير الذي لا يعتد به.

9. وقد بان بالآية الشريفة أمران:

أ. أحدهما: أن ليس لصاحب الفضل أن يعجبه‏ فضله ويمدح نفسه بل هو مما يختص به تعالى فإن ظاهر الآية أن الله يختص به أن يزكي كل من جاز أن يتلبس بالتزكية فليس لغير صاحب الفضل أيضا أن يزكيه إلا بما زكاه الله به، وينتج ذلك أن الفضائل هي التي مدحها الله وزكاها فلا قدر لفضل لا يعرفه الدين ولا يسميه فضلا، ولا يستلزم ذلك أن تبطل آثار الفضائل عند الناس فلا يعرفوا لصاحب الفضل فضله، ولا يعظموا قدره بل هي شعائر الله وعلائمه، وقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾، فعلى الجاهل أن يخضع للعالم ويعرف له قدره فإنه من اتباع الحق وقد قال تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وإن لم يكن للعالم أن يتبجح بعلمه ويمدح نفسه، والأمر في جميع الفضائل الحقيقية الإنسانية على هذا الحال.

ب. وثانيهما: أن ما ذكره بعض باحثينا، واتبعوا في ذلك ما ذكره المغاربة أن من الفضائل الإنسانية الاعتماد بالنفس أمر لا يعرفه الدين، ولا يوافق مذاق القرآن، والذي يراه القرآن في ذلك هو الاعتماد بالله والتعزز بالله قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾، وقال: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾، وقال: ﴿إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾، إلى غير ذلك من الآيات.

10. قوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾،.. فتزكيتهم أنفسهم ببنوة الله وحبه وولايته ونحو ذلك افتراء على الله إذ لم يجعل الله لهم ذلك، على أن أصل التزكية افتراء وإن كانت عن صدق فإنه ـ كما تقدم بيانه ـ إسناد شريك إلى الله وليس له في ملكه شريك قال تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾

11. وقوله: ﴿وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ أي لو لم يكن في التزكية إلا أنه افتراء على الله لكفى في كونه إثما مبينا، والتعبير بالإثم‏ وهو الفعل المذموم الذي يمنع الإنسان من نيل الخيرات ويبطئها ـ هو المناسب لهذه المعصية لكونه من إشراك الشرك وفروعه، يمنع نزول الرحمة، وكذا في شرك الكفر الذي يمنع المغفرة كما وقع في الآية السابقة: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ بعد قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/372.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ﴾؟ سؤال تعجيب من ﴿الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ يدعون لأنفسهم الصلاح، ولا معنى لذلك؛ لأنه لا يفيدهم شيئاً ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ فهي التزكية بالحق النافعة لمن زكَّاه ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ لا ينقصون مما يستحقون بزكائهم شيئاً ولو مقدار فتيل، والفتيل: يكون في بطن نواة التمر كالخيط، يضرب به المثل في القلة، كما يشبه بالنقير: وهو كالنقطة الصغيرة في ظهر النواة، والقطمير: وهو قشرة رقيقة على النواة.

2. ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ فهو أبعد عن الزكاء بل هم المجرمون، وافتراؤهم على الله كنسبتهم إليه الولد، وقولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [آل عمران: 24] ﴿وَكَفَى بِهِ﴾ بالإفتراء على الله ﴿إِثْمًا مُبِينًا﴾ إثماً بيناً، وفجوراً مكشوفاً ينافي تزكيتهم لأنفسهم.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/88.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ قال الكلبي‏: نزلت في رجال من‏ اليهود أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأطفالهم، قالوا: يا محمد، هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟ قال: لا، فقالوا: والذي نحلف به ما نحن إلّا كهيئتهم، ما من ذنب نعمله بالنهار إلّا كفّر عنا بالليل، وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفّر عنا بالنهار، فهذا الذي زكّوا به أنفسهم‏، وقيل ـ كما جاء في مجمع البيان ـ: نزلت في اليهود والنصارى حين قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، قالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾‏ عن الضحاك والحسن وقتادة والسدّي، وهو المرويّ عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام‏، ونلاحظ:

أ. على الرواية الأولى، أننا لا نفهم كيف أن اليهود المعادين للإسلام وللرسول، يأتون إلى النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ليسألوه عن مصيرهم في الآخرة بلحاظ أعمالهم في النهار أو الليل بما يكفر عنهم الذنب الذي فعلوه في الوقت الآخر، لتكون النتيجة أنه لا يبقى عليهم أيّ ذنب في نهاية المطاف، في الوقت الذي لا يزالون فيه على دينهم، مما يجعل الرواية بعيدة عن طبيعة الأمور.

ب. أمّا الرواية الثانية فهي الأقرب إلى جوّ الآية، باعتبار أن اليهود والنصارى كانوا في ذلك الوقت، وربما في مراحل أخرى، يتحدثون بهذه الطريقة التي يرون فيها أنهم، وحدهم القريبون إلى الله وأنهم يدخلون الجنة دون غيرهم.

2. مهما كانت المناسبة التي أطلقت حركة الآية في أجواء نزولها، فإنها لا تختص بهذه المناسبة بل تمتد إلى كل النماذج الإنسانية التي تعيش في داخلها الإحساس المرضيّ بعقدة التعاظم الذاتي الذي يوحي إلى الإنسان بالإعجاب والرضا بالمواصفات الشخصية التي يملكها في نفسه وفي‏ حياته، لأن سبب النزول يمثل المنطلق للفكرة لا المدى المحدود الضيق فيها.

3. ربما كانت هاتان الآيتان امتدادا للحديث الذي بدأه القرآن في هذا الفصل عن اليهود؛ فقد ذكر في آيات أخرى، أنهم يدّعون أنهم أبناء الله وأحبّاؤه، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، وأنهم أولياء الله من دون الناس، إلى غير ذلك من الكلمات التي كانوا يزكون فيها أنفسهم، فيعتبرونها في موقع السموّ والرفعة، ليوحوا لأنفسهم بعقدة الاستعلاء ويعمقوها في وعي أجيالهم المقبلة من أبنائهم وأحفادهم، وليثيروا هذا التصور في أعماق الشعوب الأخرى، لتستكين لهم ولتخضع لطموحاتهم وأطماعهم، وجاءت الآية الأولى لتوجه الإنسان إلى التطلّع نحوهم لمراقبتهم في كلماتهم وأوضاعهم ومواقفهم وطريقتهم في ممارسة العلاقات مع الآخرين، ليفحص هذا الزيف الذي يحاولون أن يصوّروه الحقيقة؛ فهم لا يعيشون الملامح الحقيقية للصفات التي ينسبونها لأنفسهم، بل هم بشر كبقية البشر الآخرين، بل قد يكون لغيرهم من الصفات الطيبة ما ليس لهم، ممن عاشوا الحياة من موقع الصفاء والطهر والبساطة، ولم يعيشوها من موقع الخبث والتعقيد.

4. وقد دعت الآية كل إنسان إلى أن يرى بعينيه الحقيقة ـ ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ـ أتترك لكل فرد مجال الحكم من خلال التأمّل والدراسة، ليحصل على المعلومات الحية في ما يراه ويتأمّله ويقتنع به وقد نلمح في جو الآية بعض الإيحاء بالأسلوب الذي يدعو الناس إلى رفض هؤلاء الناس ومحاولة اكتشاف الزيف الذي تغطيه ظواهر حالهم.

5. وإذا كانت النقطة التي انطلقت منها الآية تتركز على النموذج اليهودي‏ من الناس، فإن المبدأ لا يقف عندها، بل يمتد إلى كل النماذج التي تحاول أن تجعل لنفسها امتيازا على الناس الآخرين، من خلال الخصائص القومية والإقليمية واللونية والنسبية، وربما نستوحي من ذلك امتداد الموضوع إلى أبعد من هذا، فنلتقي بالأفراد الذين يرون لأنفسهم بعض الامتيازات التي تسمح لهم بالاستعلاء على الآخرين، إن الآية ترفض ذلك كله.

6. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ فلا امتياز لأحد على أحد إلا من خلال الميزات الحقيقية في العلم والعمل وغيرها من صفات الذات، مما يعلمه الله ويعلم مواضعه، ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ وبذلك فإن الله هو الذي يزكي من يشاء، لأنه هو الذي يعلم واقع الأشياء في العمق والامتداد؛ فقد يكون لبعض الأشخاص صفات لا يملكها الآخرون، ولكن ذلك لا يبرّر لهم الشعور بالامتياز، لأن هؤلاء الآخرين قد يملكون من الصفات المميزة ما لا يملكه هؤلاء الأشخاص؛ فإن الله لم يجمع كل الميزات بشكل مطلق في فرد أو شعب أو عنصر أو أمة دون سائر الأفراد أو الشعوب أو العناصر أو الأمم، بل اقتضت حكمته ـ سبحانه وتعالى ـ أن يعطي لكل أمة خصائصها التي يمكن أن لا تكون موجودة عند أمة أخرى، والأمر بالعكس لدى هذه الأمة، وعلى هذا الأساس فإننا لا نعتبر أن هناك أمة أعلى من أمة أخرى، بل إن المبدأ القرآني هو الذي عبّرت عنه الآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]

7. وبذلك لا ينبغي لأحد أن يزكي نفسه، بل يحاول أن يقوم بواجبه في تنمية صفاته الطيبة ومواقفه العملية المميزة، ليقف بين يدي الله من موقع خصائصه الذاتية الحقيقية، لينال تزكيته ورضاه، وليحصل على نتائج عمله؛ ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ فإنّ الله لا يظلم الناس من أعمالهم شيئا، ولو بمقدار الفتيل الذي هو عبارة عمّا يكون في شق النواة، أو بطنها، أو النقطة التي تكون عليها، بل ربما نفهم من جو الآية، أن على الإنسان أن يتواضع في‏ كل مجالات عمله، وفي كل خصائصه، ويقف موقف الناقد لكل ذلك ليستطيع القيام بدور أكبر وأكثر جودة وإتقانا وتركيزا، عندما لا يثق بتقييمه للأشياء وللأعمال، بل يترك الأمر لله الذي يعلم من خصائص الإنسان ما لا يعلمه هو عن نفسه، وهكذا تنطلق المشاعر في علاقة الناس ببعضهم البعض من الجانب الإنساني الذي يحترم في كل إنسان أو شعب خصائصه الإيجابية؛ كما ينظر بواقعية إلى الأوضاع السلبية التي يعيشها في نفسه، ولعل مثل هذه النظرة هي التي تبعد الناس عن الروح العدوانية المتكبّرة التي تثيرها مشاعر الاستعلاء والزهو الذاتي، لينطلقوا جميعا من مواقع النشاطات والأعمال التي يتدافع الناس للتسابق إليها في ميدان الحياة.

8. ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ ثم تتابع هذه الآية، التأكيد على الفكرة في توجيه النظر إلى ما يتضمنه هذا الاتجاه في التزكية للنفس من افتراء على الله، لأنهم ينسبون هذا الامتياز الذي يدّعونه لأنفسهم إلى قول الله ووحيه؛ ﴿وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ وأي إثم أعظم من الكذب على الله، في ما لم يقله ولم يجعله لأحد.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/296.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. روي في كثير من التفاسير في ذيل هذه الآية أنّ اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم أمورا وامتيازات، فهم ـ كما نرى ذلك في آيات القرآن الكريم عند الحكاية عنهم ـ كانوا يقولون: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ﴾ وربّما قالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ (الآية من سورة المائدة، والآية من سورة البقرة) فنزلت هذه الآيات تبطل هذه التصورات والمزاعم.

2. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ في هذه إشارة إلى إحدى الصفات الذميمة التي قد يبتلى بها كثير من الأفراد والشعوب، إنّها صفة مدح الذات وتزكية النفس، وادعاء الفضيلة لها.

3. ثمّ يقول سبحانه: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ فهو وحده الذي يمدح الأشخاص ويزكيهم طبقا لما يتوفر عندهم من مؤهلات وخصال حسنة دون زيادة أو نقصان، وعلى أساس من الحكمة والمشيئة البالغة، وليس اعتباطا أو عبثا، ولذلك فهو لا يظلم أحدا مقدار فتيل: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾، وفي الحقيقة أنّ الفضيلة هي ما يعتبرها الله سبحانه فضيلة لا ما يدعيه الإشخاص لأنفسهم انطلاقا من أنانيتهم، فيظلمون بذلك أنفسهم وغيرهم.

4. إن هذا الخطاب وإن كان موجها إلى اليهود والنصارى الذين يدعون لأنفسهم بعض الفضائل دونما دليل، ويعتبرون أنفسهم شعوبا مختارة فيقولون أحيانا: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ ويقولون تارة أخرى: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ إلا أنّ مفهومه لا يختص بقوم دون قوم، وجماعة دون جماعة، بل يشمل كل الأشخاص أو الأمم المصابة بمثل هذا المرض الوبي، وهذه الصفة الذميمة.

5. إنّ القرآن يخاطب جميع المسلمين في (سورة النجم ـ الآية 32) فيقول: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَأَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى‏﴾، إنّ مصدر هذا العمل هو الإعجاب بالنفس والغرور، والعجب الذي يتجلى شيئا فشيئا في صورة امتداح الذات وتزكية النفس، بينما ينتهي في نهاية المطاف إلى التكبر والاستعلاء على الآخرين.

6. إنّ هذه العادة الفاسدة ـ مع الأسف ـ من العادات الشائعة بين كثير من‏ الشعوب والفئات والأشخاص، وهي مصدر الكثير من المآسي الاجتماعية والحروب وحالات الاستعلاء والاستعمار، إنّ التاريخ يرينا كيف أن بعض الأمم في العالم كانت تزعم تفوقها على الشعوب والأمم الأخرى تحت وطأة هذا الشعور والإحساس الكاذب، ولهذا كانت تمنح لنفسها الحق في أن تستعبد الآخرين، وتتخذهم لأنفسها خولا وعبيدا:

أ. لقد كان العرب الجاهليون مع كل التخلف والانحطاط والفقر الشامل الذي كانوا يعانون منه، يرون أنفسهم (العنصر الأعلى) بل وكانت هذه الحالة سائدة حتى بين قبائلهم حيث كان بعض القبائل يرى نفسه الأفضل والأعلى.

ب. ولقد تسبب الإحساس بالتفوق لدى العنصر الألماني والإسرائيلي في وقوع الحروب العالمية أو الحروب المحلية.

ج. ولقد كان اليهود والنصارى في صدر الإسلام يعانون ـ أيضا ـ من هذا الإحساس والشعور الخاطئ وهذا الوهم، ولهذا كانوا يستثقلون الخضوع أمام حقائق الإسلام.

7. ولهذا السبب شدد القرآن الكريم النكير ـ في الآية اللاحقة الثانية ـ على هذا التصور وشجب هذا الوهم، وهم التفوق العنصري، ويعتبره نوعا من الكذب على الله والافتراء عليه سبحانه، ومعصية كبرى وذنبا بيّنا إذ يقول سبحانه: ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ أي أنظر كيف أن هذه الجماعة بافتعالها لهذه الفضائل وادعائها لنفسها من ناحية، ونسبتها إلى الله من ناحية أخرى، تكذب على الله، ولو لم يكن لهذه الجماعة أي ذنب إلّا هذا لكفى في عقوبتهم، يقول الإمام علي عليه السّلام في حديثه المعروف لـ (همام) الذي يذكر فيه صفات المتقين: (لا يرضون من أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متهمون، ومن‏ أعمالهم مشفقون إذا زكى أحد منهم خاف ممّا يقال له فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري وربّي أعلم بي من نفسي، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل ما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/264.

52. أهل الكتاب والجبت والطاغوت

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈52⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ [النساء: 51 ـ 52]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: قدم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف مكة على قريش، فحالفوهم على قتال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا لهم: أنتم أهل العلم القديم، وأهل الكتاب؛ فأخبرونا عنا وعن محمد، قالوا: ما أنتم، وما محمد؟ قالوا: ننحر الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونفك العناة، ونسقي الحجيج، ونصل الأرحام، قالوا: فما محمد؟ قالوا: صنبور(1)، قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار، قالوا: لا، بل أنتم خير منه، وأهدى سبيلا، فأنزل الله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ إلى آخر الآية(2).

2. روي أنّه قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم؟ قال نعم، قالوا: ألا ترى إلى هذا المنصبر المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة، وأهل السقاية! قال أنتم خير منه، فأنزلت: ﴿إن شائنك هو الأبتر﴾ [الكوثر: ٣]، وأنزلت: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ إلى قوله: ﴿نَصِيرًا﴾(3).

3. روي أنّه قال: كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة: حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وأبو رافع، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وأبو عمار، وحوح بن عامر، وهوذة بن قيس، فأما وحوح وأبو عمار وهوذة فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير، فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود، وأهل العلم بالكتاب الأول؛ فاسألوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم، فقالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه، فأنزل الله فيهم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ إلى قوله: ﴿مُلْكًا عَظِيمًا﴾(4).

4. روي أنّه قال: الجبت: الأصنام، والطاغوت: الذي يكون بين يدي الأصنام، يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس، وزعم رجال أن الجبت: الكاهن، والطاغوت: رجل من اليهود يدعى كعب بن الأشرف، وكان سيد اليهود(5).

5. روي أنّه قال: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ﴾، يقول: الشرك(6).

6. روي أنّه قال: الجبت: اسم الشيطان بالحبشية، والطاغوت: كهان العرب(7).

__________

(1) صنبور: أي: أبتر، لا عَقِب له، النهاية (صنبر).

(2) الطبراني في الكبير ١١/٢٥١.

(3) ابن حبان ١٤/٥٣٤.

(4) ابن إسحاق ـ كما في سيرة ابن هشام ١/٥٦١.

(5) ابن جرير ٧/١٣٥.

(6) ابن أبي حاتم ٣/٩٧٤.

(7) عزاه السيوطي إلى عبد بن حميد، وأخرجه ابن أبي حاتم ٣/٩٧٤ دون ذكر معنى الطاغوت.

جابر:

روي عن جابر بن عبد الله (ت 78 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لما كان من أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما كان؛ اعتزل كعب بن الأشرف، ولحق بمكة، وكان بها، وقال: لا أعين عليه، ولا أقاتله، فقيل له بمكة: يا كعب، أديننا خير أم دين محمد وأصحابه؟ قال دينكم خير وأقدم، ودين محمد حديث، فنزلت فيه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ الآية(1).

2. روي أنّه سئل عن الطواغيت، فقال: كان في جهينة واحد، وفي أسلم واحد، وفي كل حي واحد، وهم كهان تنزل عليهم الشياطين(2).

__________

(1) البيهقي في دلائل النبوة ٣/١٩٤.

(2) ابن جرير ٤/٥٥٨.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: الطاغوت: الساحر، والجبت: الكاهن(1).

2. روي أنّه قال: الجبت: السحر، والطاغوت: الكافر(2).

__________

(1) ابن جرير ٤/٥٥٧.

(2) تفسير مجاهد ص ٢٨٤.

أبو مالك:

روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: لما كان من أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم واليهود من النضير ما كان، حين أتاهم يستعينهم في دية العامريين، فهموا به وبأصحابه، فأطلع الله رسوله على ما هموا به من ذلك، ورجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة؛ هرب كعب بن الأشرف حتى أتى مكة، فعاهدهم على محمد، فقال له أبو سفيان: يا أبا سعيد، إنكم قوم تقرأون الكتاب وتعلمون، ونحن قوم لا نعلم، فأخبرنا: ديننا خير أم دين محمد؟ قال كعب: اعرضوا علي دينكم، فقال أبو سفيان: نحن قوم ننحر الكوماء، ونسقي الحجيج الماء، ونقري الضيف، ونعمر بيت ربنا، ونعبد آلهتنا التي كان يعبد آباؤنا، ومحمد يأمرنا أن نترك هذا ونتبعه، قال دينكم خير من دين محمد؛ فاثبتوا عليه، ألا ترون أن محمدا يزعم أنه بعث بالتواضع وهو ينكح من النساء ما شاء، وما نعلم ملكا أعظم من ملك النساء، فذلك حين يقول: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ الآية(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٧٦ مختصرًا، وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد، وابن جرير، وعند ابن جرير ٧/١٤٤.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: نزلت في كعب بن الأشرف وكفار قريش، قال كفار قريش أهدى من محمد، قال ابن جريج: قدم كعب بن الأشرف، فجاءته قريش، فسألته عن محمد، فصغر أمره، ويسره، وأخبرهم أنه ضال، قال ثم قالوا له: ننشدك الله، نحن أهدى أم هو؟ فإنك قد علمت أنا ننحر الكوم، ونسقي الحجيج، ونعمر البيت، ونطعم ما هبت الريح، قال أنتم أهدى(1).

2. روي أنّه قال: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾، الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه، وهو صاحب أمرهم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾، اليهود تقول ذاك، يقولون: قريش أهدى من محمد وأصحابه(3).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٤٥.

(2) تفسير مجاهد ص ٢٨٤.

(3) ابن أبي حاتم ٣/٩٧٧.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: انطلق كعب بن الأشرف إلى المشركين من كفار قريش، فاستجاشهم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأمرهم أن يغزوه، وقال: إنا معكم نقاتله، فقالوا: إنكم أهل كتاب، وهو صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما، ففعل، ثم قالوا: نحن أهدى أم محمد؟ فنحن ننحر الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونصل الرحم، ونقري الضيف، ونطوف بهذا البيت، ومحمد قطع رحمه، وخرج من بلده، قال بل أنتم خير وأهدى، فنزلت فيه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ﴾ الآية(1).

__________

(1) عبد الرزاق ١/١٦٤.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال:، قال ذكر لنا: أن هذه الآية أنزلت في كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب، رجلين من اليهود من بني النضير، لقيا قريشا بالموسم، فقال لهم المشركون: أنحن أهدى أم محمد وأصحابه؟ فإنا أهل السدانة، والسقاية، وأهل الحرم، فقالا: لا، بل أنتم أهدى من محمد وأصحابه، وهما يعلمان أنهما كاذبان، إنما حملهما على ذلك حسد محمد وأصحابه(1).

2. روي أنّه قال: قال كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ما قالا ـ يعني: من قولهما: ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ ـ وهما يعلمان أنهما كاذبان؛ فأنزل الله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٤٦.

(2) ابن جرير ٧/١٤٨.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾: فالجّبت: السّحر.. والجّبت: الكاهن.. والطّاغوت: الشّيطان.. ويقال: الجّبت، والطّاغوت: كلّ معبود من حجر أو مدر أو صورة أو شيطان(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ معناه أقوم طريقة(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 121.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: قال الله عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾، يقول: أعطوا حظا من التوراة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من أهل مكة: ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾، يعني: طريقا(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٧٩.

مالك:

روي عن مالك بن أنس (ت 179 هـ) أنّه قال: الطاغوت: ما يعبد من دون الله، قال: ﴿وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦]، أن يعبد [...]، قال كل ما عبد من دون الله، فقلت لمالك: فـ ﴿الجبت﴾؟ قال سمعت من يقول: هو الشيطان، ولا أدري(1).

__________

(1) الجامع ـ تفسير القرآن، لعبد الله بن وهب ٢/١٣٥.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ قيل: أعطوا حظّا من الكتاب، وهم علماؤهم‏.

2. قوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ اختلف فيه:

أ. قيل: الجبت: الشيطان، والطاغوت: الكاهن‏.

ب. وقيل: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان‏.

ج. وعن ابن عباس قال الجبت: الشيطان بكلام الحبشة، والطاغوت: كهان العرب‏.

د. وقيل: الجبت: الكاهن، والطاغوت: الشيطان‏.

هـ. وقيل: الجبت: حيى بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الأشرف‏.

3. يخبر عزّ وجل عن سفههم بإيمانهم بهؤلاء وحسدهم محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، ويحذر المؤمنين من‏ الكعبة، ونسقي الحاج، ونفادي الأسير، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ قالت اليهود: لا، بل أنتم؛ فذلك قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾، وفي حرف حفصة: ويقولون للذين أشركوا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا.

4. ثم قال الله عزّ وجل: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾، واللعن يكون على وجوه:

أ. اللعن: هو العذاب‏، وقيل: ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾: عذبهم الله.

ب. واللعين: هو الممنوع عن الإحسان والإفضال.

ج. وقيل: هو الطريد، أي: طردوا من رحمة الله وإفضاله وإحسانه.

5. الطاغوت: هو اسم اشتق من الطغيان: كالرحموت والرهبوت، من الرحمة والرهبة، ونحو ذلك، سمي به كل من انتهى في الطغيان غايته، حتى استحل أن يعبد هو دون الله، فهو طاغوت، وعلى ذلك تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾:

أ. أي: بعبادة كل من عبد دون الله.

ب. وقيل: هم مردة أهل الكتاب.

ج. وقيل: هو الشيطان.

د. وقيل: الصنم، وذلك كله يرجع إلى ما ذكرت.

هـ. وقيل في ذلك: كاهن، وقد سمي جبتا.

و. وقيل في الجبت: السحر، فإن كان الجبت السحر فهو على ما قال: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ الآيات [البقرة: 102]، وأي شيء مما ذكرت قد كانوا آمنوا بذلك، فعيرهم الله تعالى وسفّه أحلامهم بالإيمان بمن ذكرت، ومظاهرتهم على ما لهم من الأتباع على رسول الله رب والعزة صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد علمهم بموافقته عليه السلام رسلهم وتصديقه بكتبهم؛ وعلمهم بعدول أولئك عن هذه الرتبة؛ بغيا وحسدا، وكان في إظهار ذلك عليهم بيان الرسالة، وإعلام أتباعهم تحريفهم كتب الرسل، وإبداء ما في قلوبهم من الحسد؛ لتزول الشبهة عن الأتباع، وتظهر المعاندة في المتبوعين، ولا قوة إلا بالله.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/207.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ قيل إن الجبت والطاغوت: هما كل معبود من حجر وصورة أو شيطان، فهو جبت وطاغوت، وروي عن العالم صلوات الله عليه القاسم بن إبراهيم أنه قال الجبت: هو السحر، والطاغوت: هو كل ما أطغى وأضل عن الحق، من الأصنام وغيرها، وإيمانهم بذلك هو تصديقهم به.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/243.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ خمسة أقاويل:

أ. أحدها: أنهما صنمان كان المشركون يعبدونهما، وهذا قول عكرمة.

ب. الثاني: أن الجبت: الأصنام، والطاغوت: تراجمة الأصنام، وهذا قول ابن عباس.

ج. الثالث: أن الجبت السحر، والطاغوت: الشيطان، وهذا قول عمر.

د. الرابع: أن الجبت الساحر، والطاغوت الكاهن، وهذا قول سعيد بن جبير.

هـ. الخامس: أن الجبت حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف، وهو قول الضحاك.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/496.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قيل في المعني بهذه الآية قولان:

أ. أحدهما: قال ابن عباس، وقتادة: هم جماعة من اليهود منهم: حي بن أخطب وكعب بن الأشرف، وسلام بن أبي الحقيق، والربيع بن الربيع‏، قالوا لقريش: أنتم أهدى سبيلا ممن آمن بمحمد.

ب. الثاني: قال عكرمة إن المعني به كعب بن الأشرف، لأنه قال هذا القول، وسجد لصنمين كانا لقريش.

2. قيل في معنى الجبت، والطاغوت خمسة أقوال:

أ. أحدها: قال عكرمة: إنهما صنمان، وقال أبو علي: هؤلاء جماعة من اليهود آمنوا بالأصنام التي كانت تعبدها قريش، والعرب مقاربة لهم ليعينوهم على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ب. الثاني: قال ابن عباس: الجبت الأصنام، والطاغوت: تراجمة الأصنام الذين يتكلمون بالتكذب عنها.

ج. الثالث: إن الجبت الساحر، والطاغوت الشيطان، قاله ابن زيد، وقال مجاهد: الجبت: السحر.

د. الرابع: قال سعيد بن جبير، وأبو العالية: الجبت: الساحر، والطاغوت: الكاهن.

هـ. الخامس: في رواية عن ابن عباس والضحاك: ان الجبت حي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف، لأنهما جاء إلى مكة، فقال لهما أهل مكة: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم القديم، فأخبرونا عنا وعن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالا: ما أنتم وما محمد؟ قالوا: نحن ننحر الكوماء ونسقي اللبن على الماء، ونفك العناة، ونصل الأرحام، ونسقي الحجيج، ومحمد منبوز قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار فقالا: أنتم خير منه، وأهدى سبيلا فانزل الله هذه الآية، وقال الزجاج، والفراء، والبلخي: هما كل معبود من دون الله تعالى.

3. وزن طاغوت فعلوت على وزن رهبوت، قال الخليل: هو من طغا وقلبت اللام إلى موضع العين كما قيل: لاث في لايث، وشاك في شايك، وهذا تغيير لا يقاس عليه، لكنه يحمل على النظير، والجبت لا تصريف له في اللغة العربية، وقيل: هو الساحر بلغة حبش.

4. السبيل المذكور في الآية عن سعيد بن جبير: هو الدين، وإنما سمي سبيلا، لأنه كالسبيل الذي هو الطريق في الاستمرار عليه ليؤدي إلى الغرض المطلوب، ونصبه على التمييز كقولك هو أحسن منك وجهاً وأجود منك ثوباً لأنك في قولك: هذا أجود منك قد أبهمت الشيء الذي فضلته به إلا أن تريد ان جملته أجود من جملتك فتقول هذا أجود منك وتمسك.

5. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ قوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ اشارة إلى الذين ذكرهم في الآية الاولى، وقال قتادة: لما قال كعب بن الأشرف، وحي بن أخطب‏ ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ وهما يعلمان أنهما كاذبان، أنزل الله هذه الآية ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ فالوعيد فيها على ما تقدم من القول على جهة العناد، لأنها اشارة إلى ما تقدم من صفتهم الدالة على عنادهم.

6. ﴿أُولَئِكَ﴾ لفظ جمع، وواحده ذا في المعنى كما قالوا: نسوة في جماعة النساء، وللواحدة امرأة، وغلب على أولاء (ها) التي للتنبيه، وليس ذلك في أولئك، لأن في حرف الخطاب تنبيهاً للمخاطب إذ كان الكاف انما هو حرف لحق، لتنبيه المخاطب، فصار معاقباً للهاء التي للتنبيه في أكثر الاستعمال.

7. اللعنة: الابعاد من رحمة الله عقابا على معصيته، فلذلك لا يجوز لعن البهائم، ولا من ليس بعاقل من المجانين، والأطفال، لأنه سؤال العقوبة لمن لا يستحقها، فمن لعن حية أو عقرباً أو نحو ذلك مما لا معصية له فقد اخطأ، لأنه سأل الله عز وجل ما لا يجوز في حكمته، فان قصد بذلك الابعاد لا على وجه العقوبة، كان ذلك جائزاً.

8. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ مع تناصر أهل الباطل على باطلهم؟ والجواب: عنه جوابان:

أ. أحدهما: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ ينصره من عقاب الله الذي يحله به مما قد أعده له، لأنه الذي يحصل عليه وما سواه يضمحل عنه.

ب. الثاني: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾، لأنه لا يعتد بنصرة ناصر له مع خذلان الله إياه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/224.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الجبت: لا تصريف له في العربية، وعن سعيد بن جبير: أنه الساحر بلغة الحبشة، وهذا يحمل على موافقة اللغتين، أو على أن العرب أدخلتها في لغتها، فصارت لغة لهم؛ لأنه ليس في القرآن شيء ليس في لغة العرب، على أن هذا اسم، ومن الأسماء ما لا يكون له تصريف.

ب. الطاغوت: قيل: وزنه فعلوت عن علي بن عيسى، وقيل: فَلَعُوت عن أبي مسلم، وأصله من الطغيان، يقال: طغا يطغو طغيانًا، قال الخليل: هو من طغى، ونظيره: رهبوت ورحموت، وقلبت اللام إلى موضع العين، كما يقال: شاكٍ في موضع شائك، وهذا التغيير لا يقاس عليه، ولكنه يحمل على النظير دون ما ليس له نظير.

ج. السبيل: الطريق، وسمي الدين سبيلاً؛ لأنه يؤدي إلى الغرض المطلوب، كما أن السبيل يؤدي إليه.

د. اللعن: الإبعاد من رحمة الله تعالى، ولذلك لا يجوز لعن البهائم.

2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: خرج كعب بن الأشرف إلى مكة في سبعين راكبًا من اليهود قَبْلَ أحد ليحالفوا قريشا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وينقضوا عهده، ونزل على أبي سفيان، واليهود في دور قريش، فقال أهل مكة لهم: أنتم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكرًا منكم، فإن أردت أن نخرج معك، فاسجد لهذين الصنمين ففعل، قال كعب: نحن منكم وأنتم منا، وتعاقدوا على قتال محمد، فقال أبو سفيان لكعب: إنك لتقرأ الكتاب فبين أنحن أهدى طريقًا أو محمد؟ قال كعب: اعرضوا عليّ دينكم، فقال أبو سفيان: ننحر للحجيج ونسقيهم، ونقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت الله، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وفارق الدين القديم والحرم، قال كعب: أنتم والله أهدى سبيلاً من محمد، فأنزل الله تعالى هذه الآية في كعب وأصحابه عن عكرمة وجماعة من المفسرين.

ب. وروي أن وفدًا من اليهود قدموا مكة حين جمعوا الأحزاب، منهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، وأبو رافع وغيرهم، فقال لهم المشركون: أنتم أصحاب كتاب، ديننا خير أم دين محمد؟ فقالوا: دينكم خير من دينه، فأنزل الله تعالى هذه الآية عن محمد بن إسحاق، قال: ثم تعاقدوا مع الأحزاب.

3. بين الله تعالى خصلة أخرى من خصال اليهود، وأفعالهم الخبيثة، فقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أي ألم تتعجب من هَؤُلَاءِ ﴿الَّذِينَ أُوتُوا﴾ أعطوا ﴿الْكِتَابِ﴾ التوراة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ يصدقون:

أ. قيل: يقبلون ما دعوا إليه من الكفر عن الأصم.

ب. وقيل: يعبدونها ويتخذونها آلهة.

4. في قوله تعالى: ﴿بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ أقوال:

أ. أولها: أنهما صنمان لقريش عن عكرمة، قال أبو علي: هَؤُلَاءِ جماعة من اليهود آمنوا بالأصنام التي كان يعبدها قريش تقربًا إليهم؛ ليعينوهم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ب. الثاني: الجبت: الأصنام، والطاغوت: تراجمة الأصنام الَّذِينَ يتكلمون بالتكذيب عنها عن ابن عباس.

ج. الثالث: الجبت: الساحر، والطاغوت: الشيطان عن ابن زيد، وقيل: الجبت: السحر عن مجاهد والشعبي.

د. الرابع: الجبت: الساحر، والطاغوت: الكاهن عن أبي العالية وسعيد بن جبير.

هـ. الخامس: الجبت: حيي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الأشرف عن ابن عباس بخلاف والضحاك.

و. السادس: هما كل مُعَظَّم بعبادة من دون الله من حجر أو بنية أو صورة أو شيطان عن أبي عبيدة.

ز. السابع: الجبت: إبليس، والطاغوت: أولياؤه.

ح. الثامن: الجبت كل متمرد، والطاغوت: كل عات، وهما كلمتان وضعتا علمًا لمن تناهى في الشر.

5. ﴿وَيَقُولُونَ﴾ يعني اليهود، حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف، والربيع بن الربيع، وسلام بن أبي الحقيق ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من قريش ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ محمد وأصحابه ﴿سَبِيلًا﴾ طريقًا ودينًا عن ابن عباس وقتادة، وقيل: عنى به كعب بن الأشرف؛ لأنه سجد للصنم وقال ذلك، عن عكرمة.

6. ثم بين ما استحقوا على ما قالوا، فقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني مَنْ تقدم ذكرهم ﴿الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ﴾:

أ. قيل أخزاهم وأبعدهم من رحمته.

ب. وقيل: خذلهم وأقصاهم عن أبي مسلم.

7. ﴿وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ﴾ أي يبعده من رحمته ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾:

أ. قيل: أي معينًا يدفع عنه عقاب الله تعالى.

ب. وقيل: لا ناصر له؛ لأن مع خذلان الله لا يعتد بنصرة ناصر وإن كان.

8. تدل الآية الكريمة على:

أ. ذم أهل الكتاب؛ إذ تركوا دينهم، وآمنوا بالجبت والطاغوت، وقالوا للمشركين ما قالوا لغرض دنياوي.

ب. أن القوم كانوا معاندين لأنهم قالوا ذلك ويعلمون كذبهم عن قتادة.

ج. أن كتمان الحق كبيرة، وقد يبلغ حد الكفر.

د. أن من استحق اللعن فلا ناصر له، ولا شبهة أن الظالم يستحق اللعن، فلو كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يشفع لهم لكان أعظم نصرة، والآية تنفي ذلك، وخصوص السبب يمنع من حمل الآية على ظاهره، فيبطل قول المرجئة في الشفاعة.

9. مسائل لغوية ونحوية:

أ. لم يعرب ﴿أُولَئِكَ﴾ إذا جمع كما أعرب ﴿هَذَانِ﴾ إذا ثني لأن تثنية هذا على واحِدِهِ، وجمع ﴿أُولَئِكَ﴾ لم يكن على واحده، وإنما واحده ﴿ذَا﴾ في المعنى، كما أن واحد نسوة امرأة.

ب. دخل هاء التنبيه على ﴿أُولَاءِ﴾، ولم يدخل على ﴿أُولَئِكَ﴾ لأن في حرف الخطاب تنبيهًا للمخاطب؛ إذْ كان الكاف حرف تنبيه، فصار معاقبًا لهاء التنبيه في الاستعمال.

ج. ﴿سَبِيلًا﴾ نصب على التمييز.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/661

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الجبت: لا تصريف له في اللغة العربية، وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: (هو السحر بلغة أهل الحبشة) وهذا يحمل على موافقة اللغتين، أو على أن العرب أدخلوها في لغتهم، فصارت لغة لهم.

ب. اللعنة: الابعاد من رحمة الله عقابا على معصيته، فلذلك لا يجوز لعن البهائم، ولا من ليس بعاقل من المجانين والأطفال، لأنه سؤال العقوبة لمن يستحقها، فمن لعن بهيمة، أو حشرة، أو نحو ذلك، فقد أخطأ، لأنه سأل الله تعالى ما لا يجوز في حكمته، فإن قصد بذلك الابعاد على وجه العقوبة، جاز.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: كان أبو برزة كاهنا في الجاهلية، فتنافس إليه ناس ممن أسلم، فنزلت الآية، عن عكرمة.

ب. وقيل: وهو قول أكثر المفسرين، إن كعب بن الأشرف، خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة، بعد وقعة أحد، ليحالفوا قريشا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وينقضوا العهد الذي كان بينهم، وبين رسول الله، فنزل كعب على أبي سفيان، فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش، فقال أهل مكة: إنكم أهل كتاب، ومحمد صاحب كتاب، فلا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، فإن أردت أن نخرج معك، فاسجد لهذين الصنمين، وآمن بهما، ففعل، فذلك قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾، ثم قال كعب: يا أهل مكة! ليجئ منكم ثلاثون، ومنا ثلاثون، فنلصق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد رب البيت، لنجهدن على قتال محمد! ففعلوا ذلك، فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك أمرؤ تقرأ الكتاب، وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى طريقا، وأقرب إلى الحق؟ نحن أم محمد؟ قال كعب: اعرضوا علي دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء، ونسقيهم الماء، ونقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وفارق الحرم، وديننا القديم، ودين محمد الحديث، فقال: (أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأنزل الله ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾

3. اختلف في المعني بالآية:

أ. قيل: المعني بذلك: كعب بن الأشرف، وجماعة من اليهود، الذين كانوا معه، بين الله أفعالهم القبيحة، وضمها إلى ما عدده فيما تقدم، فقال: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ يعني بهما الصنمين اللذين كانا لقريش، وسجد لهما كعب بن الأشرف، ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أبي سفيان، وأصحابه: ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ محمد وأصحابه ﴿سَبِيلًا﴾ أي دينا، عن عكرمة، وجماعة من المفسرين.

ب. وقيل: إن المعني بالآية حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف، وسلام بن أبي الحقيق، وأبو رافع، في جماعة من علماء اليهود.

4. اختلف في معنى ﴿بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾:

أ. قيل: الجبت: الأصنام، والطاغوت: تراجمة الأصنام، الذين كانوا يتكلمون بالتكذيب عنها، عن ابن عباس.

ب. وقيل: الجبت: الساحر، والطاغوت: الشيطان، عن ابن زيد.

ج. وقيل: الجبت: السحر، عن مجاهد، والشعبي.

د. وقيل: الجبت: الساحر، والطاغوت: الكاهن، عن أبي العالية، وسعيد بن جبير.

هـ. وقيل: الجبت: إبليس، والطاغوت: أولياؤه.

و. وقيل: هما كل ما عبد من دون الله من حجر، أو صورة، أو شيطان، عن أبي عبيدة.

ز. وقيل: الجبت هنا: حيي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الأشرف، عن الضحاك، وبعض الروايات عن ابن عباس.

5. المراد بالسبيل في الآية: الدين، وإنما سمي سبيلا، لأنه كالطريق في الاستمرار عليه، ليؤدي إلى المقصود، ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إلى الذين تقدم ذكرهم ﴿الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ أي أبعدهم من رحمته، وأخزاهم، وخذلهم، وأقصاهم، ﴿وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ﴾ أي ومن يلعنه الله، ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾:

أ. قيل: أي معينا يدفع عنه عقاب الله تعالى، الذي أعده له.

ب. وقيل: فلن تجد له نصيرا في الدنيا والآخرة، لأنه لا يعتد بنصرة من ينصره، مع خذلان الله إياه.

6. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿سَبِيلًا﴾: منصوب على التمييز، كما تقول: هذا أحسن منك وجها.

ب. ﴿أُولَئِكَ﴾ لفظة جمع واحده ذا في المعنى، كما يقال نسوة، في جمع امرأة، وغلب على أولاء هاء التي للتنبيه، وليس ذلك في ﴿أُولَئِكَ﴾ لان في حرف الخطاب تنبيها للمخاطب، وصار الكاف معاقبا للهاء التي للتنبيه، في أكثر الاستعمال.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/92.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ أربعة أقوال:

أ. أحدها: أن جماعة من اليهود قدموا على قريش، فسألوهم: أديننا خير، أم دين محمّد؟ فقال اليهود: بل دينكم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.

ب. الثاني: أن كعب بن الأشرف، وحييّ بن أخطب، قدما مكّة، فقالت لهما قريش: أنحن خير، أم محمّد؟ فقالا: أنتم، فنزلت هذه الآية، هذا قول عكرمة في رواية، وقال قتادة: نزلت في كعب، وحييّ، ورجلين آخرين من بني النّضير قالوا لقريش: أنتم أهدى من محمّد.

ج. الثالث: أن كعب بن الأشرف وهو الذي قال لكفّار قريش: أنتم أهدى من محمّد، فنزلت هذه الآية، وهذا قول مجاهد، والسّدّيّ، وعكرمة في رواية.

د. الرابع: أن حييّ بن أخطب قال للمشركين: نحن وإيّاكم خير من محمّد، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن زيد، والمراد بالمذكورين في هذه الآية اليهود.

2. في (الجبت) سبعة أقوال:

أ. أحدها: أنه السّحر، قاله عمر بن الخطّاب، ومجاهد، والشّعبيّ.

ب. الثاني: الأصنام، رواه عطيّة، عن ابن عباس، وقال عكرمة: الجبت: صنم.

ج. الثالث: حييّ بن أخطب، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال الضّحّاك، والفرّاء.

د. الرابع: كعب بن الأشرف، رواه الضّحّاك، عن ابن عباس، وليث عن مجاهد.

هـ. الخامس: الكاهن، روي عن ابن عباس، وبه قال ابن سيرين، ومكحول.

و. السادس: الشّيطان، قاله سعيد بن جبير في رواية، وقتادة، والسّدّيّ.

ز. السابع: السّاحر، قاله أبو العالية، وابن زيد، وروى أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قال الجبت:

السّاحر بلسان الحبشة.

3. في المراد بالطّاغوت ها هنا ستة أقوال:

أ. أحدها: الشّيطان، قاله عمر بن الخطّاب، ومجاهد في رواية، والشّعبيّ، وابن زيد.

ب. الثاني: أنه اسم للذين يكونون بين يدي الأصنام يعبّرون عنها ليضلّوا الناس، رواه العوفيّ، عن ابن عباس.

ج. الثالث: كعب بن الأشرف، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال الضّحّاك، والفرّاء.

د. الرابع: الكاهن، وبه قال سعيد بن جبير، وأبو العالية، وقتادة، والسّدّيّ.

هـ. الخامس: أنه الصّنم، قاله عكرمة، وقال: الجبت والطّاغوت صنمان.

و. السادس: السّاحر، روي عن ابن عباس، وابن سيرين، ومكحول.

4. هذه الأقوال تدلّ على أنهما اسمان لمسمّيين، وقال اللغويون منهم ابن قتيبة، والزجّاج: كلّ معبود من دون الله، من حجر، أو صورة، أو شيطان، فهو جبت وطاغوت‏.

5. ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني لمشركي قريش: أنتم‏ ﴿أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، يعنون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه‏ ﴿سَبِيلًا﴾ في الدّيانة والاعتقاد.

__________

(1) زاد المسير: 1/420.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. حكى الله تعالى عن اليهود نوعا آخر من المكر، وهو أنهم كانوا يفضلون عبدة الأصنام على المؤمنين، ولا شك أنهم كانوا عالمين بأن ذلك باطل، فكان إقدامهم على هذا القول لمحض العناد والتعصب.

2. روي أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشا على محاربة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: أنتم أهل كتاب، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى تطمئن قلوبنا، ففعلوا ذلك، فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت، لأنهم سجدوا للأصنام، فقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلا أم محمد؟ فقال كعب: ماذا يقول محمد؟ يأمر بعبادة الله وحده وينهي عن عبادة الأصنام وترك دين آبائه، وأوقع الفرقة، قال وما دينكم؟ قالوا: نحن ولاة البيت نسقي الحاج ونقري الضيف ونفك العاني وذكروا أفعالهم، فقال: أنتم أهدى سبيلا، فهذا هو المراد من قولهم: ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ [النساء: 51]

3. اختلف الناس في الجبت والطاغوت، وذكروا فيه وجوه:

أ. الأول: قال أهل اللغة: كل معبود دون الله فهو جبت وطاغوت، ثم زعم الأكثرون أن الجبت ليس له تصرف في اللغة، وحكى القفال عن بعضهم أن الجبت أصله جبس، فأبدلت السين تاء، والجبس هو الخبيث الردي‏ء، وأما الطاغوت فهو مأخوذ من الطغيان، وهو الإسراف في المعصية، فكل من دعا إلى المعاصي الكبار لزمه هذا الاسم، ثم توسعوا في هذا الاسم حتى أوقعوه على الجماد، كما قال تعالى: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: 35، 36] فأضاف الإضلال إلى الأصنام مع أنها جمادات.

ب. الثاني: قال الزمخشري: الجبت الأصنام وكل ما عبد من دون الله، والطاغوت الشيطان.

ج. الثالث: الجبت الأصنام، والطاغوت تراجمة الأصنام يترجمون للناس عنها الأكاذيب فيضلونهم بها، وهو منقول عن ابن عباس.

د. الرابع: روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال الجبت الكاهن، والطاغوت الساحر.

هـ. الخامس: قال الكلبي: الجبت في هذه الآية حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف، وكانت اليهود يرجعون إليهما، فسميا بهذين الاسمين لسعيهما في إغواء الناس وإضلالهم.

و. السادس: الجبت والطاغوت صنمان لقريش، وهما الصنمان اللذان سجد اليهود لهما طلبا لمرضاة قريش، وبالجملة فالأقاويل كثيرة، وهما كلمتان وضعتا علمين على من كان غاية في الشر والفساد.

4. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ بين الله تعالى أن عليهم اللعن من الله‏ وهو الخذلان والابعاد، وهو ضد ما للمؤمنين من القربة والزلفى، وأخبر بعده بأن من يلعنه الله فلا ناصر له، كما قال: ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾ [الأحزاب: 61] فهذا اللعن حاضر، وما في الآخرة أعظم، وهو يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله، وفيه وعد للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنصرة وللمؤمنين بالتقوية، بالضد على الضد، كما قال في الآيات المتقدمة: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ [النساء: 45]

5. إنما استحق القوم هذا اللعن الشديد لأن الذي ذكروه من تفضيل عبدة الأوثان على الذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يجري مجرى المكابرة، فمن يعبد غير الله كيف يكون أفضل حالا ممن لا يرضى بمعبود غير الله! ومن كان دينه الإقبال بالكلية على خدمة الخالق والاعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، كيف يكون أقل حالا ممن كان بالضد في كل هذه الأحوال.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 10/102.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ يعني اليهود ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ اختلف أهل التأويل في تأويل الجبت والطاغوت، فقال ابن عباس وابن جبير وأبو العالية: الجبت الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت الكاهن، وقال عمر: الجبت السحر والطاغوت الشيطان، ابن مسعود: الجبت والطاغوت هاهنا كعب ابن الأشرف وحيي بن أخطب، عكرمة: الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب ابن الأشرف، دليله قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾، قتادة: الجبت الشيطان والطاغوت الكاهن، وروى ابن وهب عن مالك بن أنس: الطاغوت ما عبد من دون الله، قال: وسمعت من يقول إن الجبت الشيطان، ذكره النحاس، وقيل: هما كل معبود من دون الله، أو مطاع في معصية الله، وهذا حسن، وأصل الجبت الجبس وهو الذي لا خير فيه، فأبدلت التاء من السين، قاله قطرب، وقيل: الجبت إبليس والطاغوت أولياؤه، وقول مالك في هذا الباب حسن، يدل عليه قوله تعالى: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا﴾، وروى قطن بن المخارق عن أبيه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الطرق والطيرة والعيافة من الجبت)، الطرق الزجر، والعيافة الخط، خرجه أبو داوود في سننه، وقيل: الجبت كل ما حرم الله، والطاغوت كل ما يطغي الإنسان.

2. ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي يقول اليهود لكفار قريش أنتم أهدى سبيلا من الذين آمنوا بمحمد، وذلك أن كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على قتال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش فتعاقدوا وتعاهدوا ليجتمعن على قتال محمد، فقال أبو سفيان: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى سبيلا وأقرب إلى الحق نحن أم محمد؟ فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/249.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ هذا تعجيب من حالهم بعد التعجيب الأوّل وهم اليهود، واختلف المفسرون في معنى الجبت: فقال ابن عباس وابن جبير وأبو العالية: الجبت: الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت: الكاهن، وروي عن عمر بن الخطاب: أن الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان، وروي عن ابن مسعود: أن الجبت والطاغوت هاهنا: كعب بن الأشرف، وقال قتادة: الجبت: الشيطان، والطاغوت الكاهن، وروي عن مالك: أن الطاغوت: ما عبد من دون الله، والجبت: الشيطان؛ وقيل: هما كل معبود من دون الله أو مطاع في معصية الله، وأصل الجبت: الجبس‏، وهو الذي لا خير فيه، فأبدلت التاء من السين قاله قطرب؛ وقيل: الجبت: إبليس، والطاغوت: أولياؤه.

2. ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ هذا تعجيب من حالهم بعد التعجيب الأوّل، وهم اليهود، أي: يقول اليهود لكفار قريش: أنتم أهدى من الذين آمنوا بمحمد سبيلا، أي: أقوم دينا، وأرشد طريقا.

3. ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إلى القائلين‏ ﴿الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ أي: طردهم وأبعدهم من رحمته‏ ﴿وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ يدفع عنه ما نزل به من عذاب الله وسخطه.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/552.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كانت طائفة من اليهود يقولون: إنَّ عبادة الأصنام أرضى عند الله مِمَّا يدعو إليه محمَّد، فنزل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ تعجيب ﴿إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّن الْكِتَابِ﴾ التوراة، حال كونهم يؤمنون، أو كأنَّه قيل: ما حالهم العجيبة؟ فقال: ﴿يُومِنُونَ بِالْجِبْتِ﴾ اسم صنم مخصوص، واستعمل في كلِّ ما عُبد من دون الله من غير العقلاء، وقيل: أصله بالسين قلبت تاء، هكذا: الجبس، وهو ما لا خير فيه، أو الساحر بلغة الحبشة، أو الشيطان بلغة الحبشة، أو حيي بن أخطب، أو كعب بن الأشرف، ﴿وَالطَّاغُوتِ﴾ الباطل من معبود وغير معبود، عاقل أو غير عاقل، وسبق ذكره في البقرة، وعن عمر: هو الشيطان، وقيل: الشيطان في صورة الإنسان، أو هو الكاهن، أو كعب بن الأشرف، أو يكونون بين يدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلُّوا الناس.

2. ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلَآءِ﴾ عبدة الأصنام من العرب ﴿أَهْدَىٰ﴾ أقوم، هو باق على التفضيل تهكُّمًا بهم، أو باعتبار اعتقادهم أنَّ لهم هدى؛ لأنَّ اسم التفضيل لا يخرج عن بابه مع وجود (مِنْ) التفضيليَّة ﴿مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلاً﴾

3. وقيل نزلت الآية في حيُيِّ بن أخطب (بحاء مهملة وياء مفتوحة بعدها ياء مشدَّدة تصغير حَيٍّ)، حبر من اليهود، قال: (ما أنزل الله على بشر من شيء)، فنزعوه وجعلوا في رتبته كعب بن الأشرف، وفي كعب هذا وجمع من اليهود خرجوا إلى مكَّة يحالفون قريشًا على محاربة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد حرب أحد، وقد جرى قبل ذلك عهد بين اليهود وبينه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنَّه إن لم يكونوا عونًا له ولدينه على أعدائه لم يكونوا عليه، ولا منضمِّين إلى أعدائه، ونقضوا العهد، ونزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، فنزل اليهود دور قريش، فقال أهل مكَّة: (إنَّكم أهل كتاب مثل محمَّد، فأنتم أقرب إليه منكم إلينا، فلا نأمن أن يكون هذا مكرًا منكم، فإن أردتم أن نخرج معكم ـ يشيرون إلى غزوة الأحزاب الواقعة بعد ـ فاسجدوا لآلهتنا وآمِنوا بها حتَّى تطمئن قلوبنا إليكم) ففعلوا، فذلك إيمانهم بالجبت والطاغوت، وقيل: هما صنمان، وقال كعب: (لِيَجِئْ منَّا ثلاثون ومنكم ثلاثون، فنلزق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد ربَّ الكعبة لنجتهدنَّ على قتال محمَّد) ففعلوا، وقال أبو سفيان لكعب: (إنَّك لامرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أمِّـيُّون لا نعلم، فأيُّنا أهدى طريقًا، أنحن أم محمَّد؟) فقال كعب: (اعرضوا عليَّ دينكم)، فقالوا: (نحن نذبح للحجيج الكوماء ونسقيهم الماء، ونقري الضيف، ونفكُّ العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربِّنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمَّد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم، ودينُنا القديم ودين محمَّد الحديث)، فقال كعب: (أنتم والله أهدى سبيلاً)، فأقول نزلت الآية في ذلك كلِّه.

4. ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَّلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ يدفع عنه اللعن والعذاب، فكيف يكون مقلِّدوهم، وهم ـ أهل مكَّة ـ أهدى من الذين آمنوا.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/203.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. حكى تعالى عن اليهود نوعا آخر من المكر، وهو أنهم كانوا يفضلون عبدة الأصنام على المؤمنين، تعصبا وعنادا، بقوله سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ أي علما بالتوراة الداعية إلى التوحيد وترجيح أهله، والكفر بالجبت والطاغوت، ووصفهم بما ذكر، من إيتاء النصيب، لما مر من منافاته لما صدر عنهم من القبائح.

2. ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ الجبت يطلق، لغة، على الصنم والكاهن والساحر والسحر والذي لا خير فيه وكل ما عبد من دون الله تعالى، وكذا الطاغوت، فيطلق على الكاهن والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام وكل ما عبد من دون الله ومردة أهل الكتاب، كما في القاموس.

3. ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي أشركوا بالله، وهم كفار مكة، أي لأجلهم وفي حقهم‏ ﴿هَؤُلَاءِ﴾ يعنونهم‏ ﴿أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله وحده‏ ﴿سَبِيلًا﴾ أي أرشد طريقة، وإيرادهم بعنوان الإيمان ليس من قبل القائلين، بل من جهة الله تعالى، تعريفا لهم بالوصف الجميل، وتخطئة لمن رجّح عليهم المتصفين بأقبح القبائح.

4. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ أي أبعدهم عن رحمته وطردهم‏ ﴿وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ﴾ أي يبعده عن رحمته‏ ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ يدفع عنه العذاب دنيويّا كان أو أخرويّا، لا بشفاعة ولا بغيرها، قال الرازيّ: إنما استحقوا هذا اللعن الشديد لأن الذي ذكروه من تفضيل عبدة الأوثان على الذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يجري مجرى المكابرة، فمن يعبد غير الله كيف يكون أفضل حالا ممن لا يرضى بمعبود غير الله؟ ومن كان دينه الإقبال‏ بالكلية على خدمة الخالق والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، كيف يكون أقل حالا ممن كان بالضد في كل هذه الأحوال؟

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/173.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أخرج أحمد وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال لمّا قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش ألا ترى هذا المنصبر المنبتر من قومه يزعم إنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية، قال: أنتم خير، فنزلت فيهم ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ [الكوثر: 3] ونزلت فيه ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ إلى قوله: ﴿نَصِيرًا﴾ وأخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وأبو عمارة وهوده ابن قيس وكان سائرهم من بني النضير، فلما قدموا على قريش قالوا هؤلاء أحبار اليهود وأهل العلم بالكتب الأولى فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه!! فأنزل الله ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ إلى قوله: ﴿مُلْكًا عَظِيمًا﴾

2. الرواية الأولى عند البزار وغيره في سبب نزول سورة الكوثر وهي مكية ووقائع هذه السورة مدنية كما بيناه ومحاجة اليهود وبيان أحوالهم لم يفصل إلا في السور المدنية بعد ابتلاء المؤمنين بكيدهم فيها وفي جوارها، ففي الرواية خلط سببه اشتباه بعض الرواة في الأسباب المتشابهة، وسيأتي بعض روايات ابن جرير في ذلك، والآيات متصلة بما قبلها ولا يبعد أن يكون هذا السياق كله قد نزل بعد غزوة الأحزاب أو في أثنائها إذ نقض اليهود عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واتحدوا مع المشركين على استئصال المسلمين وذلك هو تفضيلهم للمشركين على المؤمنين بالفعل ولابد أن يكونوا صرحوا بالتفضيل بالقول عند النداء بالنفير لحرب المؤمنين.

3. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ الاستفهام للتعجيب من هذه الحال من أحوالهم كما سبق نظيره في الآية التي افتتحت بمثل ما افتتحت به للتعجيب من ضلالهم في أنفسهم وإرادتهم إضلال المؤمنين.

4. (الجبت) قال بعض اللغويين أصله الجبس فقلبت السين تاء ومعناه فيهما الردئ الذي لا خير فيه، وأطلق على السحر وعلى الساحر وعلى الشيطان وقيل أنه حبشي الأصل، روي عن ابن عباس وابن جبير وأبي العالية أنه الساحر وفي رواية عن ابن عباس ومجاهد أنه الأصنام، وعن عمر ومجاهد في رواية أخرى وابن زيد أنه السحر.

5. (الطاغوت) من مادة الطغيان وتقدم تفسيره في آية الكرسي بأنه كل ما تكون عبادته والإيمان به سببا للطغيان والخروج عن الحق من مخلوق يعبد، ورئيس يقلد، وهوى يتبع، وقد روي عن عمر ومجاهد أن الطاغوت الشيطان، وعن ابن عباس أن الطاغوت هم الناس الذين يكونون بين يدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس، وقيل الطاغوت الكهان، وقيل الجبت والطاغوت صنمان كانا لقريش وأن بعض اليهود سجدوا لهما مرضاة لقريش واستمالة لهم ليتحدوا معهم على قتال المسلمين، وفي حديث قطن ابن قبيصة عن أبيه مرفوعا عند أبي داود: (العيافة والطيرة والطرق من الجبت) وفسر العيافة بالخط وهو ضرب الرمل، وتطلق العيافة على التفاؤل والتشاؤم بما يؤخذ من الألفاظ بطريق الاستقاق كقول الشاعر:

çتفاءلت في أن تبذلي طارف الوفا...بأن عنّ لي منك البنان المطرّف

وفي عرفات ما يخبر أنني...بعارفة من طيب قلبك أسعف

وأما دماء الهدي فهو هدى لنا...يدوم ورأي في الهوى يتألف

فأوصلتا ما قلته فتبسمت...وقالت أحاديث العيافة زخرفé

والطيرة التشاؤم وأصله من زجر الطير، والطرق هو الضرب بالحصا أو الودع أو حب الفول أو الرمل لمعرفة البخت وما غاب من أحوال الإنسان، وهذه الأمور كلها من الدجل والحيل فالمعنى الجامع للفظ الجبت هو الدجل والأوهام والخرافات، والمعنى الجامع للفظ الطاغوت هو ما تقدم آنفا عن تفسير آية الكرسي من مثارات الطغيان.

6. معنى الآية ألم ينته علمك أيها الرسول أو ألم تنظر إلى حال هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب كيف حرموا هدايته فهم يؤمنون بالجبت والطاغوت وينصرون أهلها من المشركين على المؤمنين المصدقين بنبوة أنبيائهم وحقية أصل كتبهم ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي لأجلهم وفي شأنهم والحكاية عنهم ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ أي يقولون إن المشركين أهدى وأرشد طريقا في الدين من المؤمنين الذين اتبعوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم.

7. قال ابن جرير: (ومعنى الكلام أن الله وصف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود بتعظيمهم غير الله بالعبادة والإذعان له بالطاعة في الكفر بالله ورسوله ومعصيتهما وأنهم قالوا إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من أهل الإيمان به وأن دين أهل التكذيب لله ولرسوله أعدل وأصوب من دين أهل التصديق لله ولرسوله)، ثم ذكر الروايات في ذلك عنهم ومنها ما تقدم عن كعب بن الأشرف، ومنها ما رواه أيضا عن عكرمة أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمرهم أن يغزوه وقال إنا معكم نقاتله، فقالوا إنكم أهل كتاب وهو صاحب كتاب ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم فإن أردت أن تخرج معنا فاسجد لهذين الصنمين، وأمر بهما ففعل، ثم قالوا نحن أهدى أم محمد فنحن ننحر الكوماء (الناقة الضخمة السنام) ونسقي اللبن على الماء، ونصل الرحم ونقري الضيف ونطوف بهذا البيت، ومحمد قطع رحمه وخرج من بلده، فقال بل أنتم خير وأهدى، ومنها عن السدي قال لما كان من أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم واليهود بني النضير ما كان حين أتاهم يستعينهم في دية العامريين فهموا به وبأصحابه فأطلع الله رسوله على ما هموا من ذلك ورجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة فهرب كعب بن الأشرف حتى أتى مكة فعاهدهم على محمد، فقال له أبو سفيان نحن قوم ننحر الكوماء ونسقي الحجيج الماء، ونقري الضيف، ونعمر بيت ربنا، ونعبد آلهتنا التي كان يعبد آباؤنا، ومحمد يأمرنا أن نترك هذا ونتبعه، قال دينكم خير من دين محمد فاثبتوا عليه، وذكر روايات أخرى.

8. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ أي أولئك الذين بينا سوء حالهم وهم الذين لعنهم الله أي اقتضت سنته في خلقه أن يكونوا بعداء عن موجبات رحمته وعنايته من الإيمان بالله وحده والكفر بالجبت والطاغوت.

9. ﴿وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ أي ومن يلعنه الله بالمعنى الذي ذكرناه آنفا فلن ينصره أحد من دونه إذ لا سبيل لأحد إلى تغيير سنته تعالى في خلقه، ومنها أن لا يكون الخذلان والانكسار نصيب المؤمنين بالجبت والطاغوت أي بمثار الدجل والخرافات والطغيان أي مجاوزة سنن الفطرة وحدود الشريعة، ولا سيما إذا أراد هؤلاء مقاومة أهل التوحيد والحق والاعتدال في سياستهم وأعمالهم بسيرهم على سنن الاجتماع فيها.

10. هذه الآية تدل على أن سبب لعن الله للأمم هو إيمانها بالخرافات والأباطيل والطغيان، وأنه تعالى إنما ينصر المؤمنين باجتنابهم ذلك، وتدل بطريق اللزوم على أن الأمم المغلوبة تكون أقرب إلى الجبت والطاغوت من الأمم الغالبة المنصورة فليحاسب المسلمون أنفسهم بها وبما في معناها من الآيات كقوله تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47] ليتبين لهم من كتاب ربهم صدقهم في دعوى الإيمان من عدمه ولعلهم يرجعون إليه ويعولون في أمر دينهم ودنياهم عليه.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/157.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قد تكون هذه الآيات نزلت بعد غزوة الأحزاب أو في أثنائها، إذ نقض اليهود عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واتفقوا مع المشركين على استئصال شأفة المسلمين حتى لا يظهروا عليهم، ومن ثم فضلوهم على المؤمنين، كما أن هذا التفضيل ربما كان عند النداء بالنفير للحرب.

2. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ أي ألم تنظر إلى حال هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، كيف حرموا هدايته وهداية العقل والفطرة، وآمنوا بالدجل والخرافات، وصدقوا بالأصنام والأوثان، ونصروا أهلها من المشركين على المؤمنين المصدقين بنبوة أنبيائهم والمعترفين بحقية كتبهم؟.

3. ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ أي ويقولون إن المشركين أرشد طريقة في الدين من المؤمنين الذين اتبعوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال ابن جرير: إن الله وصف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود بتعظيمهم غير الله بالعبادة، والإذعان له بالطاعة في الكفر بالله ورسوله ومعصيتهما، وأنهم قالوا إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من أهل الإيمان به، وأن دين أهل التكذيب لله ورسوله أعدل وأصوب من دين أهل التصديق لله ورسوله.

4. ثم بين عاقبة أمرهم وشديد نكالهم فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ أي أولئك الذين اقتضت سنن الله في خلقه أن يكونوا بعيدين عن رحمته، مطرودين من فضله وجوده.

5. ﴿وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ أي ومن يبعده الله من رحمته فلن ينصره أحد من دونه، إذ لا سبيل لأحد إلى تغيير سننه تعالى في خليقته، وهو قد جعل الخذلان نصيب من يؤمنون بالجبت والطاغوت، إذ هم قد تجاوزوا سنن الفطرة واتبعوا الخرافات والأوهام، لأنه إنما ينصر المؤمنين باجتنابهم ذلك‏ ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾

__________

(1) تفسير المراغى: 5/63.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يمضي السياق في التعجيب من أمر أولئك الذين يزكون أنفسهم.. بينما هم يؤمنون بالباطل وبالأحكام التي لا تستند إلى شرع الله، وليس لها ضابط منه يعصمها من الطغيان: (الجبت والطاغوت) وبينما هم يشهدون للشرك والمشركين بأنهم أهدى من المؤمنين بكتاب الله ومنهجه وشريعته، ويحمل عليهم ـ بعد التعجيب من أمرهم، وذكر هذه المخازي عنهم ـ حملة عنيفة؛ ويرذلهم ترذيلا شديدا؛ ويظهر كامن طباعهم من الحسد والبخل؛ والأسباب الحقيقية التي تجعلهم يقفون هذا الموقف إلى جانب انحرافهم عن دين إبراهيم ـ الذي يفخرون بالانتساب إليه ـ وينهي هذه الحملة بتهديدهم بجهنم، ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾

2. لقد كان الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، أولى الناس أن يتبعوا الكتاب؛ وأن يكفروا بالشرك الذي يعتنقه‏ من لم يأتهم من الله هدى؛ وأن يحكموا كتاب الله في حياتهم، فلا يتبعوا الطاغوت ـ وهو كل شرع لم يأذن به الله، وكل حكم ليس له من شريعة الله سند ـ ولكن اليهود ـ الذين كانوا يزكون أنفسهم، ويتباهون بأنهم أحباء الله ـ كانوا في الوقت ذاته يتبعون الباطل والشرك باتباعهم للكهانة وتركهم الكهان والأحبار يشرعون لهم ما لم يأذن به الله، وكانوا يؤمنون بالطاغوت؛ وهو هذا الحكم الذي يقوم على غير شريعة الله.. وهو طاغوت لما فيه من طغيان ـ بادعاء الإنسان إحدى خصائص الألوهية ـ وهي الحاكمية ـ وبعدم انضباطه بحدود من شرع الله، تلزمه العدل والحق، فهو طغيان، وهو طاغوت؛ والمؤمنون به والمتبعون له، مشركون أو كافرون.. يعجب الله من أمرهم، وقد أوتوا نصيبا من الكتاب، فلم يلتزموا بما أوتوه من الكتاب! ولقد كانوا يضيفون إلى الإيمان بالجبت والطاغوت، موقفهم في صف المشركين الكفار، ضد المؤمنين الذين آتاهم الله الكتاب أيضا: ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾

3. عن ابن عباس، قال: كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة، حيي بن أخطب، وسلام بن الحقيق، وأبو رافع، والربيع بن الحقيق، وأبو عامر، ووحوح بن عامر، وهودة بن قيس، فأما وحوح وأبو عامر وهودة، فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير.. فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود، وأهل العلم بالكتاب الأول، فاسألوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم، فقالوا: دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه، فأنزل الله عزّ وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾.. إلى قوله عزّ وجل: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾.. وهذا لعن لهم، وإخبار بأنه لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة، لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين، وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم، وقد أجابوهم، وجاؤوا معهم يوم الأحزاب؛ حتى حفر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه حول المدينة الخندق، وكفى الله شرهم‏ ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾

4. كان عجيبا أن يقول اليهود: إن دين المشركين خير من دين محمد ومن معه، وإن المشركين أهدى سبيلا من الذين آمنوا بكتاب الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولكن هذا ليس بالعجيب من اليهود.. إنه موقفهم دائما من الحق والباطل، ومن أهل الحق وأهل الباطل.. إنهم ذوو أطماع لا تنتهي، وذوو أهواء لا تعتدل، وذوو أحقاد لا تزول! وهم لا يجدون عند الحق وأهله عونا لهم في شيء من أطماعهم وأهوائهم وأحقادهم، إنما يجدون العون والنصرة ـ دائما ـ عند الباطل وأهله، ومن ثم يشهدون للباطل ضد الحق؛ ولأهل الباطل ضد أهل الحق! هذه حال دائمة، سببها كذلك قائم.. وكان طبيعيا منهم ومنطقيا أن يقولوا عن الذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا! وهم يقولونها اليوم وغدا، إنهم يشوهون بوسائل الدعاية والإعلام التي في أيديهم كل حركة إسلامية ناجحة على ظهر الأرض؛ ويعينون عليها أهل الباطل لتشويهها وتحطيمها ـ بالضبط كما كانوا يعينون مشركي قريش ويستنصرون بهم في الوقت ذاته ـ لتشويه الحركة الإسلامية الأولى وتحطيمها، ولكنهم أحيانا ـ لخبثهم ولتمرسهم بالحيل الماكرة ولملابسات العصر الحديث ـ قد لا يثنون ثناء مكشوفا على الباطل وأهله، بل يكتفون بتشويه الحق وأهله، ليعينوا الباطل على هدمه وسحقه، ذلك أن ثناءهم المكشوف ـ في هذا الزمان ـ أصبح متهما، وقد يثير الشبهات حول حلفائهم المستورين، الذين يعملون لحسابهم، في سحق الحركات الإسلامية في كل مكان.

5. بل لقد يبلغ بهم المكر والحذق أحيانا، أن يتظاهروا بعداوة وحرب حلفائهم، الذين يسحقون لهم الحق وأهله، ويتظاهروا كذلك بمعركة كاذبة جوفاء من الكلام، ليبعدوا الشبهة تماما عن أخلص حلفائهم، الذين يحققون لهم أهدافهم البعيدة! ولكنهم لا يكفون أبدا عن تشويه الإسلام وأهله.. لأن حقدهم على الإسلام، وعلى كل شبح من بعيد لأي بعث إسلامي، أضخم من أن يداروه.. ولو للخداع والتمويه! إنها جبلة واحدة، وخطة واحدة، وغاية واحدة.. هي التي من أجلها يجبههم الله باللعنة والطرد، وفقدان النصير، والذي يفقد نصرة الله فما له من ناصر وما له من معين ولو كان أهل الأرض كلهم له ناصر وكلهم له معين: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾

6. لقد يهولنا اليوم أن نجد دول الغرب كلها نصيرا لليهود، فنسأل: وأين وعد الله بأنه لعنهم، وأن من يلعن الله فلن تجد له نصيرا؟ ولكن الناصر الحقيقي ليس هو الناس، ليس هو الدول، ولو كانت تملك القنابل الإيدروجينية والصواريخ، إنما الناصر الحق هو الله، القاهر فوق عباده: ومن هؤلاء العباد من يملكون القنابل الإيدروجينية والصواريخ! والله ناصر من ينصره.. ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ والله معين من يؤمن به حق الإيمان، ويتبع منهجه حق الاتباع؛ ويتحاكم إلى منهجه في رضى وفي تسليم.

7. لقد كان الله ـ سبحانه ـ يخاطب بهذا الكلام أمة مؤمنة به، متبعة لمنهجه، محتكمة إلى شريعته، وكان يهوّن من شأن عدوها ـ اليهود ـ وناصريهم، وكان يعد المسلمين النصر عليهم لأنهم ـ اليهود ـ لا نصير لهم، وقد حقق الله لهم وعده، وعده الذي لا يناله إلا المؤمنون حقا، والذي لا يتحقق إلا على أيدي العصبة المؤمنة حين تقوم، فلا يهولنا ما نلقاه من نصرة الملحدين والمشركين والصليبيين لليهود، فهم في كل زمان ينصرونهم على الإسلام والمسلمين.. فليست هذه هي النصرة.. ولكن كذلك لا يخدعننا هذا، فإنما يتحقق هذا الأمر للمسلمين! يوم يكونون مسلمين! وليحاول المسلمون أن يجربوا ـ مرة واحدة ـ أن يكونوا مسلمين، ثم يروا بأعينهم إن كان يبقى لليهود نصير، أو أن ينفعهم هذا النصير! وبعد التعجيب من أمرهم وموقفهم وقولهم؛ وإعلان اللعنة عليهم والخذلان.. يأخذ في استنكار موقفهم من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين؛ وغيظهم من أن يمن الله عليهم هذه المنة.. منة الدين والنصر والتمكين.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/681.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. فضيحة أخرى من فضائح اليهود، ومخزاة إلى ما عرف من مخازيهم، التي يرى منها الناس ما يثير العجب والدّهش، وما يحمل على السخط عليهم، واللعنة لهم، إنهم وهم أهل كتاب، إن يكن قد فاتهم الخير الكثير الذي كان في هذا الكتاب، فإن بين أيديهم أثارة منه، تجعلهم أقرب إلى المؤمنين، وأعرف بما جاء به محمد من عند ربّه، وأنه إذا أنكره المشركون وكذبوا به، لم يكن لليهود ـ أهل الكتابـ أن يقفوا هذا الموقف اللئيم منه! والعجب هنا، أن اليهود لم يقفوا عند هذا الحدّ من الضلال، والعناد، والمكابرة في وجه الحق، بل انحدروا إلى حضيض السفاهات والضلالات، فآمنوا بالجبت والطاغوت، واتبعوا ما تمليه عليهم أهواؤهم من أباطيل وخرافات، والجبت: هو الهوى الذي يفيض من عقل مظلم ووجدان سقيم، والطاغوت: هو الهوى الذي يمليه ذكاء خبيث، وشيطان مريد، فالقوم عبدة هذا الهوى، الجامع بين تلك الأخلاط، من البلادة والذكاء، البلادة الحيوانية، والذكاء الشيطاني.. فهم حيوانات بهيمية، يعيش فيها شيطان رجيم.

2. في قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ إشارة إلى فعلة من أفعالهم اللئيمة، وجريمة من جرائمهم المنكرة.. ذلك أنهم يرون في الكافرين أنهم أهدى سبيلا من المؤمنين، ولهذا كانوا حلفا مع مشركى قريش على النبيّ وأصحابه!.. وهكذا يقتل الحسد من نفوسهم كل واردة من واردات الخير، حين.. بعمى أبصارهم، ويطمس على قلوبهم، فيرون الحق باطلا، والباطل حقّا.. ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ وفي عطف القول ومقوله، على إيمانهم بالجبت والطاغوت، تغليظ لهذا القول الذي قالوه، وتجريم له، وجعله هو وعبادة الجبت والطاغوت على درجة سواء، من الكفر والضلال!

3. سؤال وإشكال: في إسناد القول للذين كفروا، ثم الإشارة بمقول القول إليهم ـ ما يسأل عنه: إذ كيف يقولون للذين كفروا، ثم يشيرون إلى هؤلاء الذين كفروا بمقول القول هذا، وهم يخاطبونهم، ويتجهون بالقول إليهم؟ إن الذي يقتضيه النظم أن يكون مقول القول للكافرين.. هكذا: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلا! فكيف هذا؟ والجواب: أن اليهود ـ لم يتجهوا بهذا القول إلى جميع الكافرين.. وإنما كانت مقولتهم تلك لرؤوس الكافرين، وأصحاب الرأي فيهم، ثم كانت الإشارة إلى الكافرين في عمومهم، وفي هذا ما فيه من مبالغة في كفر القوم، وضلالهم، حتى إنهم لا يرون‏ المؤمنين في درجة تسمح بالمفاضلة بينهم وبين كبار الكافرين وسادتهم، وإنما الذي يمكن أن يسمح به في المفاضلة بين المؤمنين والمشركين، هو هذا المستوي الذي عليه عامة الكافرين، لا خاصتهم، فاليهود إذ يتحدثون إلى رؤوس الكافرين لا يقولون لهم أنتم أهدى سبيلا من المؤمنين، بل يشيرون إلى عامة الكافرين، خارج هذه المجموعة، ويقولون لهم: (هؤلاء) أي جماعتكم جميعا.. ﴿أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ أما أنتم، فشتان ما بينكم وبينهم! وإذ استباح القوم الزور، واستمرؤوا الحياة معه.. فهيهات أن يقف بهم عند حدّ! وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾، هو إشارة لليهود الذين شهدوا تلك الشهادة الباطلة، ونطقوا بها زورا وبهتانا، وهو في مقابل مقولة اليهود عن الكافرين: ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ حيث أشاروا إلى الكافرين، وحكموا لهم بهذا الحكم المبنىّ على الزور والبهتان.. فأشار الله إليهم، بهذا الحكم القائم على العدل والردع، لهذا الجرم الذي اقترفوه، وهذا الضلال الذي غرقوا فيه، وأغرقوا غيرهم معه.

4. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾، واللعنة دائما حيث كانت، فهي لليهود، وعلى اليهود.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/814.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ أعيد التعجيب من اليهود، الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، بما هو أعجب من حالهم التي مرّ ذكرها في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ﴾ [النساء: 44]؛ فإنّ إيمانهم بالجبت والطاغوت وتصويبهم للمشركين تباعد منهم عن أصول شرعهم بمراحل شاسعة، لأنّ أوّل قواعد التوراة وأولى كلماتها العشر هي (لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالا منحوتا، لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ)، وتقدّم بيان تركيب‏ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ آنفا في سورة آل عمران.

2. الجبت: كلمة معرّبة من الحبشية، أي الشيطان والسحر؛ لأنّ مادة: ج ـ ب ـ ت مهملة في العربية، فتعيّن أن تكون هذه الكلمة دخيلة، وقيل: أصلها جبس: وهو ما لا خير فيه، فأبدلت السين تاء كما أبدلت في قول علباء بن أرقم: (يا لعن الله بني السعلات، وعمرو بن يربوع شرار النّات، ليسوا أعفّاء ولا أكيات)، أي شرار الناس ولا بأكياس، وكما قالوا: الجتّ بمعنى الجسّ.

3. الطاغوت: الأصنام كذا فسّره الجمهور هنا ونقل عن مالك بن أنس، وهو اسم يقع على الواحد والجمع فيقال: للصّنم طاغوت وللأصنام طاغوت، فهو نظير طفل وفلك، ولعلّ التزام اقترانه بلام تعريف الجنس هو الذي سوّغ إطلاقه على الواحد والجمع نظير الكتاب والكتب، ثم لمّا شاع ذلك طردوه حتّى في حالة تجرّده عن اللام، قال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ [النساء: 60] فأفرده، وقال: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا﴾ [الزمر: 17]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ﴾ [البقرة: 257] إلخ، وهذا الاسم مشتقّ من طغى يطغو إذا تعاظم وترفّع، وأصله مصدر بوزن فعلوت للمبالغة، مثل: رهبوت، وملكوت، ورحموت، وجبروت، فأصله طغووت فوقع فيه قلب مكاني بتقديم لام الكلمة على عينها فصار طوغوت بوزن فلعوت، والقصد من هذا القلب تأتّى إبدال الواو ألفا بتحرّكها وانفتاح ما قبلها، وهم قد يقلبون حروف الكلمة ليتأتّى الإبدال كما قلبوا أرءام جمع ريم إلى آرام ليتأتى إبدال الهمزة الثانية الساكنة ألفا بعد الأولى المفتوحة، وقد ينزّلون هذا الاسم منزلة المفرد فيجمعونه جمع تكسير على طواغيت ووزنه فعاليل، وورد في الحديث: (لا تحلفوا بالطواغيت)، وفي كلام ابن المسيّب في (صحيح البخاري): البحيرة التي يمنع درّها للطواغيت، وقد يطلق الطاغوت على عظيم أهل الشرك كالكاهن، لأنّهم يعظّمونه لأجل‏ أصنامهم، كما سيأتي في قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾ في هذه السورة [النساء: 60]

4. الآية تشير إلى ما وقع من بعض اليهود، وفيهم كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، فإنّهم بعد وقعة أحد طمعوا أن يسعوا في استئصال المسلمين، فخرجوا إلى مكّة ليحالفوا المشركين على قتال المسلمين، فنزل كعب عند أبي سفيان، ونزل بقيّتهم في دور قريش، فقال لهم المشركون: (أنتم أهل كتاب ولعلّكم أن تكونوا أدنى إلى محمّد وأتباعه منكم إلينا فلا نأمن مكركم) فقالوا لهم: (إنّ عبادة الأصنام أرضى عند الله ممّا يدعو إليه محمد وأنتم أهدى سبيلا) فقال لهم المشركون: (فاسجدوا لآلهتنا حتّى نطمئنّ إليكم) ففعلوا، ونزلت هذه الآية إعلاما من الله لرسوله بما بيته اليهود وأهل مكة.

5. اللام في قوله: ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لام العلّة، أي يقولون لأجل الذين كفروا وليس لام تعدية فعل القول، وأريد بهم مشركو مكة وذلك اصطلاح القرآن في إطلاق صفة الكفر أنّه الشرك، والإشارة بقوله: ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى﴾ إلى الذين كفروا، وهو حكاية للقول بمعناه، لأنّهم إنّما قالوا: (أنتم أهدى من محمّد وأصحابه)، أو قال بعض اليهود لبعض في شأن أهل مكة ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى﴾، أي حين تناجوا وزوّروا ما سيقولونه، وكذلك قوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ حكاية لقولهم بالمعنى نداء على غلطهم، لأنّهم إنّما قالوا: (هؤلاء أهدى من محمّد وأتباعه) وإذ كان محمد وأتباعه مؤمنين فقد لزم من قولهم: إنّ المشركين أهدى من المؤمنين، وهذا محلّ التعجيب.

6. وعقّب التعجيب بقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾، وموقع اسم الإشارة هنا في نهاية الرشاقة، لأنّ من بلغ من وصف حاله هذا المبلغ صار كالمشاهد، فناسب بعد قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أن يشار إلى هذا الفريق المدّعى أنه مرئيّ، فيقال: (أولئك)، وفي اسم الإشارة تنبيه على أنّ المشار إليهم جديرون بما سيذكر من الحكم لأجل ما تقدّم من أحوالهم.

7. الصلة التي في قوله: ﴿الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ ليس معلوما للمخاطبين اتّصاف المخبر عنهم بها اتّصاف من اشتهر بها؛ فالمقصود أنّ هؤلاء هم الذين إن سمعتم بقوم لعنهم الله فهم هم، ويجوز أن يكون المسلمون قد علموا أنّ اليهود ملعونون، فالمقصود من الصلة هو ما عطف عليها بقوله: ﴿وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾، والموصول على كلا الاحتمالين فيه إيماء إلى تعليل الإخبار الضمني عنهم: بأنّهم لا نصير لهم، لأنّهم لعنهم الله، والذي‏ يلعنه لا نصير له، وهذا مقابل قوله في شأن المسلمين‏ ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ [النساء: 45]

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/155.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ قد رأيت أيها النبيّ الأمين متعجبا مستغربا حال الذين أوتوا حظا من الكتاب، وعلموا بعض علم الرسالات الإلهية، يؤمنون بأردإ العقائد والأخلاق، وبالطغيان والظلم والاندفاع نحو الشر، فالجبت هنا هو الردى‏ء من الأفكار، أصله الجبس قلبت السين تاء، وهو الردى‏ء من الأشياء، فهؤلاء يؤمنون بأردإ الأوهام، ويؤمنون مع ذلك بالطغيان والسيطرة الظالمة، ولذلك يخنعون لكل ذي سلطان، ويضعون ظهورهم لكل راكب، ويطغون على كل عادل لا يذل ولا يؤذى!

2. عبّر هنا بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، وفي مقام آخر خاطبهم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ [النساء]، وذلك لأنهم أنزلت عليهم كتب الرسالة الأولى لنبيهم، فبمقتضاها يدعوهم إلى الإيمان، ولذا عبر بالكتاب كله لا ببعضه، فهم في هذا المقام يخاطبون بمقتضى الكتاب الذي نزل على رسولهم، أما هنا فيذكر حقيقة أمرهم، وهو أنهم نسوا حظا مما ذكروا به، ومن جهة أخرى فإن نيلهم أقل قدر من علم الكتاب يتنافى مع إيمانهم بأتفه الأوهام، وإيمانهم بالظلم والطغيان، واعتبارهما سبيلا للعيش في الحياة، فهم ظالمون يرضون بالظلم يقع عليهم، ويتنافى علم الكتاب مع ممالأتهم لعبدة الأوثان على أهل التوحيد، فيقولون في المشركين هؤلاء أهدى طريقا من المؤمنين.

3. وهذا قول الله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ والذين كفروا هنا هم المشركون، أي أنهم يقولون لأجل إرضاء الذين كفروا وأشركوا وعبدوا الأوثان: هؤلاء في شركهم وعبادتهم غير الله تعالى أرشد طريقا، وسبيلهم هو سبيل الهداية، أما سبيل الذين آمنوا بالله وحده، ولم يشركوا به غيره، وأذعنوا لأحكام الله تعالى في أوامره ونواهيه، فليس هو سبيل الرشاد.

4. يروى أن اليهود عندما بلغ بهم حسدهم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أقصى مداه، ذهب فريق منهم إلى أهل مكة يحالفونهم على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال لهم المشركون: أنتم أهل كتاب، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا، فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم، ففعلوا، وقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلا أم محمد؟ فقال المتحدث باسم اليهود: ماذا يقول محمد؟ قالوا: يأمر بعبادة الله وحده وينهى عن الشرك، وقال: ما دينكم؟ قالوا: نحن ولاة البيت ونسقى الحجيج، ونقرى الضيف ونفك العانى، قال: أنتم أهدى سبيلا.. هذا شأن أولئك اليهود العجب، وهم قد أوتوا بعض علم الكتاب، يدفعهم الهوى والتعصب وفساد النفس إلى أن يجعلوا عبدة الأوثان أهدى من عبدة الديان!.

5. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ أولئك الذين غلب عليهم الهوى، ودفعهم تعصبهم الأعمى إلى أن يحالفوا أولياء الشيطان على أولياء الرحمن ويمالئوهم في القول والعمل، فيسجدوا لأصنامهم، ويزكوا أفعالهم، ويقولوا إن طريقهم هو طريق الهداية، وطريق أهل التوحيد لا هداية فيه! بسبب هذا لعنهم الله تعالى بأن طردهم من رحمته، فكتب عليهم بغض الناس في الدنيا، والذل والمقت فيها، وعذاب الله تعالى في الآخرة.

6. والإشارة في قوله تعالى:‏ ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إليهم موصوفين بالصفات التي وصفهم الله بها من نفاق، وخداع، وكذب، وتعصب وسيطره الهوى على نفوسهم، وضياع الحقوق بينهم، وهذه الصفات هي سبب الطرد من رحمة الله تعالى، وإذا كانوا مطرودين من رحمة الله قد كتب الله تعالى غضبه عليهم، فلن ينصرهم أحد من أهل الأرض‏ ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة] فإذا كانوا قد ذهبوا إلى أهل مكة يستنصرون بهم فلن ينصروهم، ولن يثقوا بهم.

7. ولذلك قال تعالى: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ أي فلن تجد للملعون الذي طرده الله تعالى من رحمته نصيرا ينصره من الناس، و(لن) هنا لتأكيد النفي ويقول الزمخشري (إن لن تفيد تأكيد النفي أبدا)، أي أنهم لم ينصرهم الله ولن يجدوا أبدا نصيرا من الناس تستمر نصرته، وإذا استطاعوا أن يستنصروا بأمثالهم في هذه الأيام، فإن الخذلان وراءهم إن شاء الله تعالى، وهم أشد مقتا عند الله وعند الناس في هذه الأيام كما كانوا في كل ماضيهم، والله المنتقم الجبار، وقد أخبر الله تعالى نبيه بأنهم إذا كان لهم أحيانا نصيب من الملك غير مستقر ولا دائم، فسيكون ظلما كبيرا ولا يرضى الله لعباده أن يستمر فيهم ظلم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1711.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وصف الله سبحانه اليهود في الآيات السابقة بالضلال والإضلال والتحريف واللي في الكلام، وتزكية النفس كذبا وافتراء، ثم وصفهم في هذه الآية بأنهم‏ ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ أي بالأصنام التي يعبدها قريش.

2. سؤال وإشكال: كيف قال سبحانه عن اليهود انهم‏ ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ مع العلم بأنهم لا يعترفون بأصنام قريش؟ والجواب: اليهود لا يعترفون بأصنام قريش بينهم وبين أنفسهم، ولكنهم اعترفوا بها دجلا ونفاقا، وتعصبا وعنادا لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن آمن به، وقالوا لعبدة الأصنام: أنتم أهدى سبيلا من المسلمين.. وكان الأولى باليهود أن يناصروا المسلمين على عبدة الأصنام، لأن المسلمين أهل كتاب، ويعترفون بالتوراة على العكس من عبدة الأصنام، فلما خالف اليهود الحق ووقفوا مع المشركين وصفهم الله تعالى بأنهم كعبدة الأوثان‏ ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾، وبهذا نجد تفسير قوله تعالى: ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾، أي ان اليهود قالوا: المشركون أهدى سبيلا من المؤمنين، فالجواب عن السؤال موجود في الآية نفسها.

3. بهذا يتبين ان: ﴿هَؤُلَاءِ﴾ اشارة الى عبدة الأوثان، وان اللام في‏ ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ للتعليل، أي ان اليهود قالوا من أجل إرضاء الذين كفروا، وهم مشركو قريش، ولم يقولوا ذلك ايمانا منهم بما قالوا.

4. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾، وهم اليهود الذين نافقوا وصدقوا بالأصنام تعصبا وعنادا للمسلمين المصدقين بنبوة أنبيائهم، كموسى وداود وسليمان، ويحيى وزكريا.

5. ﴿وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾، الا أميركا التي سلحت إسرائيل، وساندتها يوم 5 حزيران، ودافعت عنها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن دفاعا لا ينساه كل عربي مخلص، ولا مسلم مؤمن، مهما طال الزمن.. ونحن على ما بنا من جراح نؤمن ايمانا لا ريب فيه بأن الله وحده هو الناصر القاهر، وان العاقبة في النهاية للحق والعدل، وما على طلابه الا أن يصبروا ولا يتعجلوا الوصول، ويصمدوا ولا يهابوا سلاح العدو أيا كان.. وبالتالي أن يستفيدوا من التجارب.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/348.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾، الجبت والجبس‏ كل ما لا خير فيه، وقيل: وكل ما يعبد من دون الله سبحانه، والطاغوت‏ مصدر في الأصل كالطغيان يستعمل كثيرا بمعنى الفاعل، وقيل: هو كل معبود من دون الله.

2. الآية تكشف عن وقوع واقعة قضى فيها بعض أهل الكتاب للذين كفروا على الذين آمنوا بأن سبيل المشركين أهدى من سبيل المؤمنين، وليس عند المؤمنين إلا دين التوحيد المنزل في القرآن المصدق لما عندهم، ولا عند المشركين إلا الإيمان بالجبت والطاغوت فهذا القضاء اعتراف منهم بأن للمشركين نصيبا من الحق، وهو الإيمان بالجبت والطاغوت الذي نسبه الله تعالى إليهم ثم لعنهم الله بقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ الآية.

3. وهذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول أن مشركي مكة طلبوا من أهل الكتاب أن يحكموا بينهم وبين المؤمنين فيما ينتحلونه من الدين فقضوا لهم على المؤمنين.

4. وقد ذكر كونهم ذوي نصيب من الكتاب ليكون أوقع في وقوع الذم واللوم عليهم فإن إيمان علماء الكتاب بالجبت والطاغوت وقد بين لهم الكتاب أمرهما أشنع وأفظع.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/375.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿نَصِيبًا﴾ من (التوراة) فقد حصل لهم طرف من العلم، ومع ذلك ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ الذي هو باطل لا يخفى بطلانه على من أوتي نصيباً من الكتاب، وفي (مفردات الراغب): (ويقال لكل ما عبد من دون الله: جبت، وسمي الساحر والكاهن جبتاً)، وفي (الصحاح): (الجبت: كلمة تقع على الصنم، والكاهن، والساحر، ونحو ذلك)

2. وقد اختلف المفسرون في معنى (الجبت) و(الطاغوت) ففي (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام): (قال زيد بن علي عليهما السلام: فالجبت: السحر، والجبت: الكاهن، والطاغوت: الشيطان)، وفي (تفسير الشرفي) أعني (المصابيح) ما لفظه: (وروي عن القاسم عليه السلام أنه قال الجبت: السحر، والطاغوت: كل ما أطغى وأضل عن الحق من الأصنام وغيرها)، ولعل هؤلاء المؤمنين بالسحر، هم الذين، قال الله تعالى فيهم: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوالشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ الآية [البقرة: 102] وأما إيمانهم بالطاغوت فلعله تحاكمهم إلى الطاغوت، كالمذكور في قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾ وهو من يحكم بغير حكم الله من الكهنة وغيرهم.

3. ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي يقولون في الذين كفروا أي كفروا بالله ورسوله ﴿هَؤُلَاءِ﴾ أي الكفار ﴿أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ أي أهدى سبيلاً من الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد بالسبيل: الطريقة، أي الدين.

4. ﴿أُولَئِكَ﴾ المؤمنون بالجبت والطاغوت، القائلون للذين كفروا: ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى﴾ فهم ﴿الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ بعينهم وحقيقتهم ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ طردهم من رحمته، وهذا الطرد هو الخذلان، وسلب التوفيق؛ ولذلك قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/89.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ بإسناده عن عكرمة قال جاء حيّي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم القديم، فأخبرونا عنا وعن محمد، فقالا: ما أنتم وما محمد؟ قالوا: نحن ننحر الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونفك العاني، ونصل الأرحام، ونسقي الحجيج، وديننا القديم ودين محمد الحديث، قالا: بل أنتم خير منه وأهدى سبيلا، فأنزل الله تعالى‏ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾

2. وقال المفسرون: خرج كعب بن الأشرف في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على غدر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزل كعب على أبي سفيان ونزلت اليهود في دور قريش، فقال أهل مكة: إنكم أهل كتاب، ومحمد صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما، فذلك قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾، ثم قال كعب لأهل مكة: ليجي‏ء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون، فنلزق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد، ففعلوا ذلك، فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأيّنا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق؛ أنحن أم محمد؟ فقال كعب: اعرضوا عليّ دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء، ونسقيهم الماء، ونقري الضيف، ونفكُّ العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد الحديث، فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما هو عليه، فأنزل الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ يعني كعبا وأصحابه ـ الآية.

3. ونلاحظ على هذه الرواية أن كعبا ـ وهو اليهودي المتعصب ـ يطرح على قريش أن ينطلق ثلاثون يهوديا وثلاثون قرشيّا فيلصقون أكبادهم بالكعبة ويعاهدون رب الكعبة على قتال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الوقت الذي نعرف فيه أن اليهود لا يعترفون بالكعبة ولا يقدسونها؛ الأمر الذي لا ينسجم مع الخط اليهودي الذي لا يساومون عليه في العادة، ولو في الشكل، لأنه يخلق لهم مشكلة كبيرة في مجتمعهم، هذا مع اختلاف الروايتين في بداية الحادثة.

4. هذا لون جديد من ألوان انحراف هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب؛ فإذا كانوا يؤمنون بالكتاب حقا، فينبغي لهم أن يتوازنوا في علاقاتهم على أساس قرب الناس من خط الإيمان وبعدهم عنه، لتكون المفاهيم الكتابية هي القاعدة التي ينطلقون منها في تأييد من يؤيّدون، ورفض من يرفضون، لأن صاحب العقيدة والإيمان يعمل على أساس تأكيد إيمانه في الحياة، من خلال الالتقاء ـ ولو في خط الوسط ـ بالذين ينسجمون مع مفاهيمه بعض الانسجام، في مقابل الذين يبتعدون عنها كل البعد، وعلى‏ ضوء هذا، كان من المفروض أن تكون علاقتهم بالمسلمين هي علاقة القريب الذي تلتقي مفاهيمهم بمفاهيمه، ليقفوا معهم في معركتهم ضد المشركين، باعتبار أنها معركة واحدة يقف فيها الكفر في جانب، والإيمان في جانب آخر؛ ولكن القضية كانت على خلاف ذلك، فقد وقفوا ضد المسلمين مع خصومهم، فتحالفوا معهم وانطلقوا يدبّرون المؤامرات المشتركة ضد الإسلام والمسلمين.

5. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ عالج القرآن المسألة على أساس أن هؤلاء لا يؤمنون بالكتاب، فقد تحول الكتاب عندهم إلى مجرد شعار يستغلونه لتضليل الناس، وسلعة يتاجرون بها في أسواق الربح والخسارة، فهم يؤمنون بالجبت الذي هو تعبير عن معبود غير الله، والطاغوت الذي هو تعبير عن الطغيان في الحكم والنظام، فهم يؤمنون بذلك، في واقع الناس، عندما يتعاونون مع الطغيان والضلال، وفي ممارساتهم الخاصة عندما يمارسون الطغيان والإضلال في واقعهم الشخصي، ولهذا كان تاريخهم تاريخ الطغيان، في الفكر والعلاقات والعمل، عندما كانوا يواجهون الرسالات بالجحود، والرسل بالعدوان، والحياة الباحثة عن السّلام بالحرب.

6. وهكذا امتد إيمانهم بالجبت والطاغوت في موقفهم الضال الجائر، في الموازنة بين المسلمين وبين المشركين، ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فقد كانوا يقولون عن المشركين الذين يعبدون الأصنام ولا يدينون بدين الحق ولا يؤمنون بالقيم الرسالية التي أنزلها الله على رسله: ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ إنهم أهدى سبيلا من المؤمنين؛ في الوقت الذي يقف فيه المؤمنون، ليعلنوا الإيمان بالله وبرسله وكتبه، ويصدقوا بالتوراة والإنجيل في كل شرائعهما ومفاهيمهما الأخلاقية والعملية، فكيف يمكن أن يصدر مثل هذا عن أناس يعيشون الكتاب فكرا وعقيدة وشريعة؟ إنه منطق الكفر الذي‏ يتخذ الإيمان بالكتاب ستارا يستتر وراءه ليخفي الحقد والشر والظلام، إنه إطار سقطت صورته يحتضن كل صورة جديدة باسم الصورة الحقيقية، من خلال أساليب الزيف والبهتان والضلال.

7. قد نجد الكثير الكثير من هذه النماذج في الناس الذين يأخذون من المبادئ والأفكار والديانات الإطار الذي يمثل الانتماء إلى الشكل ويعزلون حياتهم عن المضمون، كما هو واقع اليهود الذين يحملون في تحركهم السياسي شعار التوراة، ولكنهم لا يؤمنون به جملة وتفصيلا؛ وواقع بعض الاتجاهات المسيحية السياسية التي تحاول أن تنطلق من العاطفة المسيحية كشعار، ولكنها لا تلتزم بالقيم المسيحية التي جاء بها الإنجيل في علاقاتها ومعاملاتها السياسية، وقد نجده في بعض الأوضاع السياسية الإسلامية التي تتستر بالإسلام، ولكنها تخفي وراء ذلك مطامعها الشخصية والإقليمية والقومية، وعلى هذا الأساس نجد أنهم ينطلقون في مواقفهم وعلاقاتهم من مصالحهم، لا من مبادئهم؛ ولهذا فهم قد يفضلون مصالح الكافرين على مصالح المؤمنين، تبعا لمصالحهم الذاتية الخاصة، أو للعقد النفسية المريضة التي تواجه أيّ معنى من معاني الإيمان أو موقف من مواقف المؤمنين.

8. وقد وجه القرآن في هذه الآية المؤمنين إلى أن يرصدوا هذه النماذج بقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ للإيحاء بأن القضية لا تحتاج إلّا إلى التطلّع إلى واقع هؤلاء، ليعرفوا الحقيقة القرآنية من خلال ذلك؛ كأسلوب من أساليب التربية الإسلامية التي تدفع الإنسان إلى أن يفهم الواقع، من خلال النظرة الواعية المنفتحة على الناس والأشياء، من منطلق النظرة الإسلامية إلى الحياة؛ وبذلك تتحول الحياة لدى الإنسان المؤمن إلى ساحة للمعرفة الشاملة لكل ما هو حوله ومن حوله، ليبتعد بذلك عن جو السذاجة، فيتطلع إلى بواطن الأشياء كما يتطلع إلى ظواهرها.

9. ثم يتحدث القرآن ـ في الآية الثانية ـ عن الذين يعيشون الازدواجية بين ما يمثلون من انتماء وبين ما يمارسون في حياتهم من خطوات؛ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ هؤلاء هم الذين لعنهم الله، وأبعدهم عن ساحة رحمته وغفرانه؛ وكيف لا يبعدهم عن رحمته وساحة رضوانه، وهم يسيئون إلى المبادئ التي يقولون إنها وحي الله وكتاب الله، فإن الله لا يقرّب إلا الناس الطيبين الذين يعيشون الخير في أفكارهم وأفعالهم ومنطلقاتهم في الحياة.

10. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ فما قيمة أن يلتفّ الناس من حوله، أو يهتفوا باسمه، أو يتجمعوا لنصرته؟ ما قيمة ذلك كله إذا كان الله يريد أن يخذله؟ إنه سوف يحسّ بالوحشة تفترس أمنه الداخلي، عندما يخلد إلى نفسه فيشعر بالوحدة، لأن الله هو المهيمن والمسيطر على الناس والأشياء، بيده كل شيء، أما الناس فإنهم لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرا ولا نفعا إلا بالله، ولا تنطلق علاقاتهم إلا من خلال الضعف الإنساني المتحرك في نطاق الطمع والرغبة والخوف، وما إلى ذلك من نقاط الضعف الصغيرة والكبيرة، فلا تمتلئ نفس الإنسان الذي يحترم نفسه إلا من خلال قوة الله التي تفيض على حياته بالقوة النابضة بالحياة، فإن الإنسان الذي يشعر أنه مع الله، أو أنه قريب إليه، يشعر بأنه قويّ كبير بالله، حتى لو لم يكن هناك من أحد حوله، أو كان الناس كلهم ضدّه، وهذا ما عبّر عنه الإمام علي عليه السّلام‏، الذي كان يعيش الوحدة في طريق الحق وهو يسير فيه بمفرده: (لا يزيدني كثرة النّاس حولي عزة، ولا تفرّقهم عنّي وحشة..)، وكان يقول لولده في وصيته له: (لا يؤنسنَّك إلا الحقّ، ولا يوحشنّك إلا الباطل) ويقول للناس: (أيها النّاس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله فإنّ النّاس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير، وجوعها طويل)

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/301.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إن الآية الأولى تعكس ـ بملاحظة ـ ما ذكر في سبب النزول ـ صفة أخرى من صفات اليهود الذميمة، وهي أنّهم لأجل الوصول إلى أهدافهم كانوا يداهنون كل جماعة من الجماعات، حتى أنّهم لكي يستقطبوا المشركين سجدوا لأصنامهم، وتجاهلوا كل ما قرؤوه في كتبهم، أو عملوا به حول صفات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعظمة الإسلام، بل وذهبوا ـ بغية إرضاء المشركين ـ إلى ترجيح عقيدة الوثنيين بما فيها من خرافات وتفاهات وفضائح على الإسلام الحنيف، مع أنّ اليهود كانوا من أهل الكتاب، وكانت المشتركات بينهم وبين الإسلام تفوق بدرجات كبيرة ما يجمعهم مع الوثنيين، ولهذا يقول سبحانه في هذه الآية مستغربا: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ وهي الأصنام، ولكنّهم لا يقتنعون بهذا، ولا يقفون عند هذا الحدّ، بل: ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾

2. استعملت لفظة (الجبت) في هذه الآية من القرآن الكريم خاصّة، وهو اسم جامد لا تعريف له في اللغة العربية، ويقال أنّه يعني (السّحر) أو (السّاحر) أو (الشّيطان) بلغة أهل الحبشة، ثمّ دخل في اللغة العربية واستعمل بهذا المعنى، أو بمعنى الصنم أو أي معبود غير الله في هذه اللغة، ويقال: أنه في الأصل (جبس) ثمّ أبدل (س) إلى (ت)

3. وأمّا لفظة (الطّاغوت) فقد استعملت في ثمانية موارد من القرآن الكريم، وهي صيغة مبالغة من مادة الطغيان، بمعنى التعدي وتجاوز الحدّ، ويطلق على كل شيء موجب لتجاوز الحدّ (ومنها الأصنام) ولهذا يسمى الشيطان، والصنم والحاكم الجبار المتكبر، وكل معبود سوى الله، وكل مسيرة تنتهي إلى غير الحق، طاغوتا.

هذا هو المعنى الكلي لهاتين اللفظتين، أمّا المراد منهما في الآية المبحوثة الآن، فذهب المفسرون فيه مذاهب شتى، فقال البعض بأنّهما اسمان لصنمين سجد لهم اليهود في القصّة السابقة، وقال آخرون: الجبت هنا هو الصنم، والطّاغوت هم عبدة الأصنام، أو حماتها الذين كانوا يمثلون تراجمة الأصنام الذين كانوا يتكلمون بالتكذيب عنها ليخدعوا الناس‏، وهذا المعنى أوفق لما جاء في سبب النزول وتفسير الآية، لأنّ اليهود سجدوا للأصنام كما خضعوا أمام عبدتها الوثنيين أيضا.

4. ثمّ إنّه سبحانه بيّن ـ في الآية الثانية ـ مصير أمثال هؤلاء المداهنين قائلا: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾، إنّ اليهود ـ كما تقول هذه الآية ـ لم يحصلوا من مداهنتهم الفاضحة على نتيجة، بل انهزموا في النهاية، وتحققت نبوءة القرآن الكريم في شأنهم.

5. إن الآيات الكريمة وإن كانت قد نزلت في شأن جماعة خاصّة، ولكنها لا تختص بهم حتما، بل تشمل كل الأشخاص المداهنين المصلحيين (الانتهازيين) الذين يضحّون بشخصيتهم ومكانتهم، بل وإيمانهم ومعتقداتهم في سبيل الوصول إلى مآربهم السافلة وأغراضهم الدنيئة، فإنّ هؤلاء أبعد ما يكونون عن رحمة الله في الدنيا والآخرة، وغالبا ما يؤول أمرهم إلى الهزيمة والفشل.

6. إنّ الجدير بالانتباه هو أنّ هذه الحالة أو الصفة الذميمة المذكورة لا تزال باقية على قوّتها عند هؤلاء القوم، فإنا نجد كيف أنهم لا يمتنعون عن أي مداهنة مهما كانت الشروط للوصول إلى أهدافهم، ولهذا ظلوا يعانون من هزائمهم المنكرة طول تاريخهم الماضي والحاضر.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/268.

53. أهل الكتاب والحسد

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈53⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ [النساء: 53 ـ 55]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

همام:

روي عن همام بن الحارث (ت 65 هـ) أنّه قال: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾، أيدوا بالملائكة، والجنود(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٦٠.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: النقير: النقطة التي في ظهر النواة(1).

2. روي أنّ نافع بن الأزرق سأله عن النقير، قال: ما في شق ظهر النواة، ومنه تنبت النخلة، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر(2):

çوليس الناس بعدك في نقير... وليسوا غير أصداء وهامé

3. روي أنّه قال: هذا النقير، ووضع طرف الإبهام على باطن السبابة، ثم نقرها(3).

4. روي أنّه قال: قال أهل الكتاب: زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع؛ وله تسع نسوة، وليس همه إلا النكاح، فأي ملك أفضل من هذا!؟ فأنزل الله هذه الآية: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾ إلى قوله: ﴿مُلْكًا عَظِيمًا﴾(4).

5. روي أنّه قال: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، يعني: محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم(5).

6. روي أنّه قال: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾، نحن الناس دون الناس(6).

7. روي أنّه قال: ﴿الْكِتَابِ﴾، الخط؛ القلم(7).

8. روي أنّه قال: قال معاوية: يا بني هاشم، إنكم تريدون أن تستحقوا الخلافة كما استحققتم النبوة، ولا يجتمعان لأحد، وتزعمون أن لكم ملكا! فقال له ابن عباس أنّه قال: أما قولك إنا نستحق الخلافة بالنبوة، فإن لم نستحقها بالنبوة فبم نستحقها!؟ وأما قولك: إن النبوة والخلافة لا يجتمعان لأحد، فأين قول الله: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾!؟ فالكتاب: النبوة، والحكمة: السنة، والملك: الخلافة، نحن آل إبراهيم، أمر الله فينا وفيهم واحد، والسنة لنا ولهم جارية، وأما قولك: زعمنا أن لنا ملكا، فالزعم في كتاب الله شك، وكل يشهد أن لنا ملكا، لا تملكون يوما إلا ملكنا يومين، ولا شهرا إلا ملكنا شهرين، ولا حولا إلا ملكنا حولين(8).

9. روي أنّه قال: كان في ظهر سليمان ماء مائة رجل، وكان له ثلاثمائة امرأة، وتسعمائة سرية(9).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٤٩.

(2) الطستي في مسائله ـ كما في الإتقان ٢/٩٢.

(3) ابن جرير ٧/١٥٢.

(4) ابن جرير ٧/١٥٦.

(5) ابن جرير ٧/١٥٤.

(6) ابن المنذر (١٨٩٦.

(7) ابن أبي حاتم ٣/٩٧٩.

(8) عزاه السيوطي إلى ابن الزبير بن بكار في الموفقيات.

(9) ابن جرير ٢٠/١٠٠.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: هو نقر الرجل الشيء بطرف أصبعه، كما ينقر الدرهم(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/٣٢٨.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، الكتاب: القرآن، والحكمة: السنة(1).

2. روي أنّه قال: السعير: وادي من فيح في جهنم(2).

__________

(1) ابن المنذر ٢/٧٥٥.

(2) ابن أبي حاتم ٣/٩٨٢.

أبو مالك:

روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: يحسدون محمدا حين لم يكن منهم، وكفروا به(1).

2. روي أنّه قال: ﴿سَعِيرًا﴾، يعني: وقودا(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٧٨.

(2) ابن أبي حاتم ٣/٩٨٢.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، قال وذلك أن اليهود قالوا: ما شأن محمد أعطي النبوة كما يزعم وهو جائع عار، وليس له هم إلا نكاح النساء!؟ فحسدوه على تزويج الأزواج، وأحل الله لمحمد أن ينكح منهن ما شاء أن ينكح(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، قال: ﴿النَّاسِ﴾: محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٥٧.

(2) ابن جرير ٧/١٥٤.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾، فليس لهم نصيب، ولو كان لهم نصيب لم يؤتوا الناس نقيرا(1).

__________

(1) ابن المنذر ٢/٧٥٠.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾، ﴿النَّاسِ﴾ في هذا الموضع: النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ محمد، وأصحابه(2).

__________

(1) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره ص ١٠١.

(2) ابن أبي حاتم ٣/٩٧٨.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾، رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وحده(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ﴾ اتبعه، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ تركه فلم يتبعه(2).

__________

(1) تفسير البغوي ٢/٢٣٦.

(2) ابن أبي حاتم ٣/٩٨١.

العوفي:

روي عن عطية العوفي (ت 112 هـ) أنّه قال: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾، ملك سليمان(1).

__________

(1) ابن المنذر ٢/٧٥٦.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في قول الله عز وجل: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾: (جعل منهم الرسل والأنبياء والأئمة، فكيف يقرون في آل إبراهيم وينكرونه في آل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم!؟)، وقال: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ الملك العظيم أن جعل فيهم أئمة، من أطاعهم أطاع الله، ومن عصاهم عصى الله، فهو الملك العظيم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ الطاعة المفروضة(2).

__________

(1) الكافي 1: 160/ 5.

(2) الكافي 1: 143/ 4.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾، أولئك اليهود، حسدوا هذا الحي من العرب على ما آتاهم الله من فضله(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، أي: السنة، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من آل إبراهيم(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٥٥.

(2) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره ص ١٠١.

القرظي:

روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: بلغني: أنه كان لسيلمان ثلاثمائة امرأة، وسبعمائة سرية(1).

__________

(1) الحاكم في (المستدرك) ٢/٥٨٩.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في الآية: يقول: لو كان لهم نصيب من ملك إذن لم يؤتوا محمدا نقيرا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾، يحسدون محمدا(2).

3. روي أنّه قال: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ سليمان وداود، ﴿الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ يعني: النبوة(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾، في النساء، فما باله حل لأولئك الأنبياء أن ينكح داود تسعا وتسعين امرأة، وينكح سليمان مائة امرأة، ولا يحل لمحمد أن ينكح كما نكحوا!؟(3).

5. روي أنّه قال: زرع إبراهيم خليل الرحمن، وزرع الناس في تلك السنة، فهلك زرع الناس، وزكا زرع إبراهيم، واحتاج الناس إليه، فكان الناس يأتون إبراهيم فيسألونه منه، فقال لهم: من آمن أعطيته، ومن أبى منعته، فمنهم من آمن به فأعطاه من الزرع، ومنهم من أبى فلم يأخذ منه، فذلك قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾(4).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٤٨.

(2) ابن جرير ٧/١٥٤.

(3) ابن جرير ٧/١٥٩.

(4) ابن المنذر (١٩٠٦.

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿الْحِكْمَةَ﴾: العقل في الدين(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٨٠.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، ﴿النَّاسِ﴾ في هذه الآية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قالت اليهود: انظروا إلى هذا الذي لا يشبع من الطعام، ولا والله، ما له هم إلا النساء، حسدوه لكثرة نسائه، وعابوه بذلك، فقالوا: لو كان نبيا ما رغب في كثرة النساء، فأكذبهم الله، فقال: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾، فسليمان بن داود من آل إبراهيم، وقد كان عند سليمان ألف امرأة، وعند داود مائة امرأة، فكيف يحسدونك يا محمد على تسع نسوة!؟(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، قال: ﴿النَّاسِ﴾ في هذه الآية: النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين ١/٣٨٠.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ فقال: نحن والله الناس المحسودون (1).

2. روي أنّه قال: نحن قوم فرض الله عز وجل طاعتنا، لنا الأنفال، ولنا صفو المال، ونحن الراسخون في العلم، ونحن المحسودون الذين قال الله: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾(2).

__________

(1) الكافي 1: 160/ 5.

(2) الكافي 1: 143/ 6.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: الكتاب: الخط، والحكمة: السنة(1).

__________

(1) علَّقه ابن أبي حاتم ٣/٩٧٩.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: قال الله: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾، فليس لهم، فلو كان لهم نصيب من الملك لم يؤتوا الناس نقيرا، يقول: ولو كان لهم نصيب وحظ من الملك لم يكونوا إذا يعطون الناس نقيرا من بخلهم(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٤٩.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَمْ لَهُمْ﴾ تقول: ألهم، والميم ها هنا صلة، فلو كان لهم ـ يعني: اليهود ـ ﴿نَصِيبٍ﴾ يعني: حظ ﴿مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾، يعني: لا يعطون الناس من بخلهم وحسدهم وقلة خيرهم ﴿نَقِيرًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: يقول الله عز وجل: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، يعني: النبوة(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾، وكان يوسف منهم على مصر، وداود وسليمان منهم، وكان لداود تسعة وتسعون امرأة، وكان لسليمان ثلاثمائة امرأة حرة، وسبعمائة سرية، فكيف تذكرون محمدا في تسع نسوة، ولا تذكرون داود وسليمان?!؟، فكان هؤلاء أكثر نساء، وأكثر ملكا من محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومحمد أيضا من آل إبراهيم، وكان إبراهيم، ولوطا، وإسحاق، وإسماعيل، ويعقوب? يعملون بما في صحف إبراهيم(2).

4. روي أنّه قال: ﴿فَمِنْهُمْ﴾ يعني: من آل إبراهيم ﴿مَنْ آمَنَ بِهِ﴾ يقول: صدق بالكتاب الذي جاء به، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ يعني: أعرض عن الإيمان بالكتاب، ولم يصدق به(2).

5. روي أنّه قال: ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾، يقول: وكفى بوقودها وعذابها وقودا لمن كفر بكتاب إبراهيم، فلا وقود أحر من جهنم لأهل الكفر(2).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٧٩.

(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٨٠.

عيينة:

روي عن سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) أنّه قال: قال الله ـ تبارك وتعالى ـ: الحاسد عدو لنعمتي، متسخط لقضائي، غير راض لي بالقسم الذي قسمت له(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٧٨.

الرضا:

روي عن الريان بن الصلت، قال: حضر الإمام الرضا (ت 203 هـ) مجلس المأمون بمرو، وقد اجتمع إليه في مجلسه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان ـ الحديث طويل، وفيه ـ قال: قال الله عز وجل: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ ثم رد المخاطبة في أثر هذا إلى سائر المؤمنين، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ يعني الذين قرنهم بالكتاب والحكمة وحسدوا عليهما، فقوله عز وجل: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ يعني الطاعة للمصطفين الطاهرين، فالملك ها هنا الطاعة لهم(1).

__________

(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 230/ 1.

الهادي إلى الحق:

ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ [النساء: 51]، الجبت هو كل ما صد عن أمر الله وألها عن دينه، والطاغوت هو: كل ما أطغى وجَبَتَ عن دين الله، وحمل أحداً من عباد الله على معصية الله، من طواغيت جبابرة أرضه، وملاعين كفرة عباده.

__________

(1) تفسير الإمام الهادي: 1/177.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾، هؤلاء المذكورون في الحسد هم: أهل الكتاب؛ حسدوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ما خصه الله به وأعطاه، وحسدوا المؤمنين، ومن تبعه من المسلمين؛ فقال الله سبحانه: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾، فأخبر عز وجل بما آتى الأنبياء، وهذا دليل على أنهم أرادوا النبوة فيهم، وحسدوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما خصه الله به من الملك، وأنزل عليه من الوحي؛ ألا تسمع كيف يقول: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ [النساء: 54، 55]، فلم ينتفعوا ـ إذ كان ذلك في داوود وسليمان ـ حتى صدوا عنه وأبعدوه، وكرهوه ونابذوه.

2. ثم ذكر ذرية إبراهيم، فقال: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ﴾ [الأنعام: 84]، وقد كان أعطى داوود ملكا عظيما، فاختلفوا عليهما كاختلافهم على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وزعموا أن ملك سليمان كان بالسحر، فلم ينتفعوا بذلك، وأما ما قلت: إنهم حسدوا محمدا النساء ـ فهذا شيء لم يكن؛ ولكن حسدوه في النبوة، وفي الملك الذي آتاه الله إياه.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/232.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله عزّ وجل: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ اختلف فيه:

أ. قيل: لو كان لهم نصيب من الملك فإذن لا يؤتون الناس نقيرا من بخلهم، وقلة خيرهم‏.

ب. وقيل: لهم نصيب من الملك من الشرف والأموال والرئاسة فيما بينهم، لكن [لا يأتون الناس‏] نقيرا، فكيف يتبعونهم!؟.

ج. وقيل: قوله ـ سبحانه ـ: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾ أي: ليس لهم نصيب من الملك فكيف يؤتون الناس شيئا!؟ إنما الملك لله عزّ وجل هو الذي يؤتى الملك من يشاء؛ كقوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ الآية [آل عمران: 26]، إنما يستفاد ذلك بالله عزّ وجل لا بأحد دونه، والله تعالى أعلم.

2. قوله عزّ وجل: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ يقول: بل يحسدون محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم على ما آتاه الله من فضله من الكتاب والنبوة؛ يقول الله عزّ وجل ردا عليهم: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ فلم يحسدوه، فكيف يحسدون محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بما آتاه الله تعالى من الكتاب والنبوة، وهو من أولاد إبراهيم، عليه السلام!؟ فهذا معناه.

3. قوله عزّ وجل: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾:

أ. قيل: أراد الملائكة والجنود.

ب. وقيل: هو ملك‏ سليمان بن داود، [وداود] كان من آل إبراهيم، عليه السلام‏.

4. قوله عزّ وجل: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾ يعني: محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ ﴿عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ يعني: من كثرة النساء، لكن ذلك ليس بحسد، إنما هو طعن طعنوه، وعيب عابوه؛ لأن الحسد هو أن يرى لآخر شيئا ليس له؛ فيتمنى أن يكون ذلك له دونه، وقد كان لهم نساء، لكنه إن كان ذلك فهو طعن طعنوه، وعيب عابوه على كثرة النساء، ويقولون: لو كان نبيّا لشغلته النبوة عن النساء، ويقولون: يحرم على الناس أكثر من أربع، ويتزوج تسعا وعشرا؛ فأنزل الله عزّ وجل ردّا عليهم: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ﴾ الآية [الرعد: 38]، وكان لداود تسع وتسعون امرأة.

5. ما قيل ـ أيضا ـ إن لسليمان عليه السلام ثلاثمائة سرية وسبعمائة حرائر، إن ثبت ذلك: فكثرة النساء له لا تمنع ثبوت الرسالة والنبوة، وإنما تمنع كثرة النساء لأحد شيئين: إما لخوف الجور، وإما للعجز عن القيام بإيفاء حقهن، فالأنبياء عليهم السلام يؤمن ناحيتهم الجور، وكانوا يقومون بإيفاء حقهن مع ما كان قيام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة لتسع أو لعشر من النساء من آيات النبوة؛ لأنه كان معروفا بالعبادة لله ليلا، وبالصيام له نهارا، وتحمل الجوع وأنواع المشقة تباعا، ومعلوم في الخلق أن من كان هذا سبيله لم يقدر على وفاء حق امرأة واحدة؛ فضلا أن يقوم لإيفاء حق العشر وأكثر؛ فدل أنه بالله قدر على ذلك، وعلى ذلك قيام داود عليه السلام لمائة من النساء، وقيام سليمان عليه السلام لألف منهن، فذلك من آيات النبوة؛ لما ذكرنا: أنه ليس في وسع أحد سواهم القيام بذلك، وكذلك في قيام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لإظهار هذا الدين من غير اتباع كان له، أو ملك، أو فضل سعة ـ دليل أنه كان بنصر الله أظهر، ويعوذه‏ في الحكمة وجوب تلك الشهادة من غير أن يقضي على الآية بقصد ذلك إذا كانت بحيث تتسع له ولغيره.

6. نحو القول بأنه سميع عليم على إثر أمورهم من أدلة الخصوص، لو كانت تحتمل الخصوص، وفي الحكمة أنه سامع كل صوت، وعليم بكل شيء، فبه يشهد، ولا يقال في ذلك: إنه أراد ذا من الخاص، نحو قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 227] قال قوم: لا يقع الطلاق حتى يوقع؛ لأنه ذكر أنه سميع ولو أوقع الطلاق بغير قول، لم يكن لذكر السميع في هذا الموضع فائدة، وقال قوم: ﴿سَمِيعٌ﴾ لإيلائه؛ إذ هو قسم ينطق به، ﴿عَلِيمٌ﴾ لعزمه، وقد ذكر ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾؛ فيجب توجيه كل حرف إلى وجه، ليفيد حقيقة ذلك في هذا الموضع، ولو كان لا يقع دون القول لكان كل أمره مسموعا؛ ليلتقي القول بأنه سميع عن القول بأنه عليم، وفي جملة العقد من طريق إذا لم يكن فيها غير معرفة الموقع من المقدمة؛ نحو قوله تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ﴾ [الشرح: 7] لم يكن لأحد تأويل واحد من الوجهين حتى يعلم بالسمع أنه فيم كان مشغولا، وقوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا﴾ [الكهف: 19] لم يكن لأحد طلب مراد قائله أو تأويل مراده، ولا يظفر به إلا بالوحي، ولا قوة إلا بالله، والقول في حقه إلى أن يتبين ما كان في حق الشهادة، فلازم الوقف فيه حتى يظهر، وما كان في حق العمل، فإن كان في نوع ما يحتمل الاحتياط فحقه القيام به حتى يظهر دليل التوسيع، ودليل التوسيع على الوجهين اللذين ذكرت، وإن كان فيما لا يحتمل الاحتياط فحقه التوقف حتى يظهر والله أعلم، ولا يخلو شيء إلا أحد الوجهين به حاجة من دليل يكون له.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾:

أ. قيل: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ﴾‏ بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من اليهود ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾

ب. وقيل: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ﴾ يعنى: بالكتاب الذي أعطى إبراهيم ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾: عن الكتاب، وهو قول ابن عباس.

ج. وقيل: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ﴾ يعنى: إبراهيم ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ يعنى: عن إبراهيم، عليه السلام.

8. قوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾:

أ. كأن جهنم معظم النار وجميع دركاتها، والسعير هو التهابها ووقودها؛ كقوله عزّ وجل: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ﴾ [الحجر: 43 ـ 44]

ب. ويحتمل قوله: ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ أي: عذابا، ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ﴾ أي: بالتهاب جهنم التهابا؛ إذ السعير: الالتهاب.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/209.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ وهو الذي يكون في ظهر النواة.

2. ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ والمراد بالناس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي الفضل المحسود عليه قولان

أ. أحدهما النبوة لأن العرب حسدتهم حيث صارت فيهم.

ب. الثاني: ما أعطاه الله عز وجل من الحكمة والعصمة والتأييد بالملائكة.

3. ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ والملك العظيم النبوة والطاعة المفروضة.

4. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾:

أ. قيل: إنهما صنمان كان المشركون يعبدونهما.

ب. وقيل: الجبت الساحر والطاغوت الكاهن.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/181.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في النقير في قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أنه الذي يكون في ظهر النواة، وهذا قول ابن عباس، وعطاء، والضحاك.

ب. الثاني: أنه الذي يكون في وسط النواة، وهو قول مجاهد.

ج. الثالث: أنه نقر الرجل الشيء بطرف إبهامه، وهو رواية أبي العالية عن ابن عباس.

2. قوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ يعني اليهود، وفي الناس الذين عناهم ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أنهم العرب، وهو قول قتادة.

ب. الثاني: أنه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والسدي، وعكرمة.

ج. الثالث: أنهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، وهو قول بعض المتأخرين.

3. في الفضل المحسود عليه قولان:

أ. أحدهما: النبوة، حسدوا العرب على أن كانت فيهم، وهو قول الحسن، وقتادة.

ب. الثاني: أنه إباحته للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نكاح من شاء من النساء من غير عدد، وهو قول ابن عباس، والضحاك، والسدي.

4. ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ في الملك العظيم أربعة أقاويل:

أ. أحدها: أنه ملك سليمان بن داود، وهو قول ابن عباس.

ب. الثاني: النبوة، وهو قول مجاهد.

ج. الثالث: ما أيّدوا به من الملائكة والجنود، وهو قول همام بن الحارث.

د. الرابع: ما أباحه الله لداود وسليمان من النساء من غير عدد، حتى نكح داود تسعا وتسعين امرأة، ونكح سليمان مائة امرأة، وهذا قول السدي.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/497.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وجه اتصال هذه الآية بما قبلها اتصال الصفة بالبخل، والصفة بالحسد والجهل، لأن قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ يدل على أنهم حسدوا المؤمنون وأنهم يعملون أعمال الجاهلين، إلا أن الكلام خرج مخرج الاستفهام، للتوبيخ، والتقريع بتلك الحال.

2. جاءت (أم) هاهنا غير معادلة للالف لتدل على اتصال الثاني بالأول، والمعنى بل ألهم نصيب من الملك؟ وتسمى أم هذه المنقطعة عن الالف لأنها بخلاف المتصلة بها على المعادلة، ومثله‏ ﴿الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ وقال بعضهم: إن الالف محذوفة، لأن أم لا تجي‏ء مبتدأة على تقدير أهم أولى بالنبوة ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾ فيلزم الناس طاعتهم، وهذا ضعيف، لأن حذف الالف إنما يجوز في ضرورة الشعر بالإجماع ولا ضرورة في القرآن، (وإذاً) لم تعمل في يؤتون لأنها إذا وقعت بين الفاء، والفعل، جاز أن تقدر متوسطة فتلغى كما تلغى (أرى) إذا توسطت أو تأخرت، لأن النية به التأخير، والتقدير أم لهم نصيب من الملك فلا يؤتون الناس نقيراً اذاً، وكذلك إذا كان معها واو، نحو ﴿وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ ويجوز أن تقدر مستأنفة، فتعمل مع حرف العطف.

3. (إذن) لا تعمل إلا بشروط أربعة: أن تكون جوابا لكلام، وأن تكون مبتدأة في اللفظ، ولا يكون ما بعدها متعلقاً بما قبلها، ويكون الفعل بعدها مستقبلا، ومتى نقص واحد من هذه الشروط لم تعمل.

4. ﴿لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ اخبار من الله تعالى عن لومهم، وبخلهم‏ أي لا يؤتونهم نقيراً، وقيل في معنى النقير هاهنا ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: قال ابن عباس، وقتادة، والسدي، وعطاء، والضحاك، وابن زيد: إنه النقطة التي في ظهر النواة.

ب. وقال مجاهد: هو الحبة التي في بطن النواة.

ج. وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن النقير ما نقر الرجل بإصبعه، كما ينقر الدرهم.

5. النقر: النكت ومنه المنقار، لأنه ينقر به، والناقور: الصور، لأن الملك ينقر فيه بالنفخ المصوت، والنقرة: حفرة في الأرض أو غيرها، والنقير: خشبة تنقر وينبذ فيها، والمناقرة: مراجعة الكلام، وانتقر: اختص كما يختص بالنقر واحداً واحداً، والمنقر: المقلع عن الشيء، لأنه كما يقلع في النقر، ثم يعود إليه.

6. معنى‏ ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾ ما يدعيه اليهود أن الملك يعود إليه، ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ﴾ يعني العرب، وذكر الزجاج في معناه وجهين:

أ. أحدهما: بل لهم نصيب، لأنهم كانوا أصحاب بساتين وأموال، وكانوا في غاية البخل.

ب. الثاني: أنهم لو أعطوا الملك، ما أعطوا الناس نقيراً من بخلهم اختاره البلخي وبه قال السدي، وابن جريح.

7. المعني بقوله: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾ قيل فيه ثلاثة أقوال (2):

أ. أحدها: قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والسدي، وعكرمة: إنه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو قول أبي جعفر عليه السلام، وزاد فيه وآله.

ب. الثاني: قال قتادة: هم العرب‏: محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، لأنه قد جرى ذكرهم في قوله: ﴿يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى‏ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ ذكره الجبائي.

8. في الفضل المذكور في الآية قولان:

أ. أحدهما: قال الحسن، وقتادة، وابن جريج: النبوة، وهو قول أبي جعفر عليه السلام قال‏ وفي آله الامامة.

ب. الثاني: قال ابن عباس: والضحاك والسدي ما أباحه الله للنبي من نكاح تسعة.

الحسد تمني زوال النعمة عن صاحبها لما يلحق من المشقة في نيله لها، والغبطة: تمني مثل النعمة، لأجل السرور بها لصاحبها، ولهذا كان الحسد مذموماً والغبطة غير مذمومة، وقيل: إن الحسد من افراط البخل، لأن البخل مع النعمة، للمشقة بذلها، والحسد تمني زوالها لمشقة نيل صاحبها لها بالعمل فيها على المشقة بنيل النعمة، ثم قال: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ فما حسدوهم على ذلك فكيف حسدوا محمداً وآله ما أعطاهم الله إياه.

9. والملك المذكور في الآية هاهنا قيل فيه ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: قال ابن عباس: هو ملك سليمان، وبه قال عطية العوفي.

ب. الثاني: قال السدي: هو ما أحل لداود من النساء تسع وتسعون امرأة، ولسليمان مائة لأن اليهود عابت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بكثرة النساء فبين الله ان ذلك وأكثر منه كان في آل ابراهيم.

ج. الثالث: قال مجاهد، والحسن: إنه النبوة.

د. وقال أبو جعفر عليه السلام: انه الخلافة، من أطاعهم، أطاع الله ومن عصاهم عصى الله.

10. الضمير في قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ﴾ يحتمل أن يكون عائداً إلى أحد أمرين:

أ. أحدهما: قال مجاهد، والزجاج، والجبائي: إن من أهل الكتاب من آمن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لتقدم الذكر في‏ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾

ب. الثاني: فمن أمة ابراهيم من آمن بإبراهيم، ومنهم من صد عنه، كما أنكم في أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كذلك، وليس في ذلك توهين لأمره كما ليس فيه توهين لأمر ابراهيم، واتصال الكلام على هذا الوجه ظاهر وعلى الوجه الأول تقديره وقع‏ هذا كله‏ ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ وقال قوم: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ﴾ بداود وسليمان‏ ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾

11. ليس في الآية دلالة على أن ما تقدم من الوعيد إنما صرف عنهم لأيمان هذا الفريق، لأنه قال في الآخرة ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ وقال بعضهم: فيه دلالة على ذلك، ولذلك قال: ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ أي ان كان صرف بعض العقاب، فكفى بجهنم استغرافا بالعذاب.

12. سعير بمعنى مسعورة وترك ـ لأجل الصرف ـ التأنيث للمبالغة في الصفة كما قالوا: كف خضيب ولحية دهين، وتركت علامة التأنيث، لأنها لما كان دخولها فيما ليست له، للمبالغة نحو رجل علامة كان سقوطها فيما بقي له للمبالغة فحسن هذا التقابل في الدلالة، والسعر: إيقاد النار ومنه قوله: ﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ﴾ واستعرت النار والحرب والشر استعاراً، واستعرتها اسعاراً، وسعرتها تسعيراً، والسعر: سعر المتاع وسعروه تسعيراً وذلك لاستعار السوق بحماها في البيع، والساعور كالتنور في الأرض، والمسعور: الذي قد ضربته السموم، والعطش.

13. زيدت الباء في قوله: ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ﴾ لتأكيد الاختصاص، لأنه يتعلق به من وجهين: وجه الفعل في كفى جهنم كقولك: كفى الله، ووجه الاضافة في الكفاية بجهنم، وعلى ذلك قيل: كفى بالله للدلالة على أن الكفاية تضاف إليه من أوكد الوجوه، وهو وجه الفعل، ووجه المصدر.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/226.

(2) ذكر قولين فقط، وربما يكون الثالث إضافة الآل

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

أ. النقير أصله النقر، وهو النكت، وهو مصدر نقر ينقر، ومنه المنقار؛ لأنه ينقر به، والناقور الصور؛ لأن الملك ينقر فيه بالنفخ، والنقرة حفرة في الأرض يجتمع فيها الماء، ومنه النقير.

ب. الحسد: تمني زوال النعمة عن صاحبها لما يلحقه من المشقة في نيله لها، وهو خلاف الغِبْطة، فإنه تمني مثل تلك النعمة لأجل السرور بها لصاحبها، فالحسد مذموم؛ لأن فيه التسخط بقضاء الله تعالى، والغبطة محمودة؛ لأن فيها الحاجة إلى الله تعالى، ولذلك تعبدنا بالاستعاذة من الحساد وشرهم.

ج. الصدود: الإعراض، صد عنه يَصُدُّ، ويقال: صده وصد عنه.

د. أصل السعير السَّعْرُ، وهو إيقاد النار، ومنه ﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ﴾ واسَتَعَرت النار والحرب والشر استعارًا، وأسعرتها إسعارًا، وسعرتها سعيرًا، والساعور كالتنور في الأرض، وصرف سعير من مسعور للمبالغة في الصفة، كما يقال: كف خضيب ولحية دهين، وتركه علامة التأنيث؛ لأن دخولها فيما ليست له لما كانت للمبالغة نحو رجل علامة.

1. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: كانت اليهود تدعي أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان، وأنه يخرج منهم من يجدد نحلتهم ويدعو إلى دينهم، فكذبهم الله وأنزل الآية عن أبي مسلم.

ب. وقيل: كانوا أصحاب بساتين وأموال، وكانوا في عزة ومنعة، وكانوا لا يعطون الفقراء شيئًا، فنزلت الآية فيهم عن الأصم.

ج. وقيل: كانوا يقولون: لا نتبع العرب فنحن أولى بالنبوة والملك، فأنكر عليهم ذلك، وفيه نزلت الآية عن أبي علي.

2. في علاقة قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾ بما قبله وجوه:

أ. قيل: اتصال صفة البخل بما قبله من صفة الجهل والكفر وأعمال الجاهلية عن علي بن عيسى.

ب. وقيل: لما حكموا بأن المشركين أهدى من محمد وأصحابه بين أن الحكم ليس إليهم حتى يحكموا بذلك، والملك على هذا المراد به النبوة والحكم.

ج. وقيل: يتصل بقوله: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهم نَصِيرًا﴾ أي لا ناصر ولا ملك ولا قدرة تمنعهم من عذاب الله.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾:

أ. قيل: أي حظ من ملك الدنيا، وهذا استفهام، والمراد به الإنكار.

ب. وقيل: أراد بالملك النبوة عن أبي علي، أي ليس لهم ذلك، وإنما هو إلى الله تعالى يؤتيه من يشاء، وفيه حذف، أي ألهم نصيب من النبوة، فيلزم الناس اتباعهم وتلزم طاعتهم!؟ فحذف لدلالة ما بقي عليه عن أبي علي.

ج. وقيل: أم إليهم عن مجاهد التمليك، ولو كان كذلك لما أعطوا أحدا شيئًا، حكاه الأصم.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ﴾:

أ. قيل: أي لا يعطون الفقراء.

ب. وقيل: محمدًا وأصحابه، يعني أي لو ملكوا الدنيا لما أعطوا من الحقوق قليلاً ولا كثيرا.

5. اختلف في معنى النقير:

أ. قيل: هو النقطة التي في ظهر النواة عن ابن عباس وقتادة والسدي وعطاء والضحاك وابن زيد.

ب. وقيل: النقير الحبة التي في بطن النواة.

ج. وقيل: النقير ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الدرهم عن ابن عباس وأبي العالية، وإنما ذكر النقير مثلاً، والمراد لا يعطون شيئًا وإن قل.

6. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ أن اليهود قالوا: لو كان نبيًا لشغله أمر النبوة عن النساء، وحسدوه بكثرة نسائه، وعابوه فكذبهم الله تعالى، وأنزل هذه الآية، وأخبرهم بما كان عند سليمان بن داوود من النساء، وأقرت اليهود أنه كان عند سليمان ألف امرأة، وعند داود مائة امرأة فسكتوا.

7. ثم بين الله تعالى ما في اليهود من الحسد مع سائر أخلاقهم الذميمة وأفعالهم الخبيثة، فقال تعالى: ﴿أَم﴾:

أ. قيل: معناها للإنكار وإن كان لفظه استفهامًا.

ب. وقيل: معناها ﴿بَلْ﴾، وإذا حمل على بل كان ردًا عليهم فيما فضلوا المشركين على المؤمنين، وفي ادعاء النصيب من الملك، وإخبارًا بأن ما يقولونه ويفعلونه كل ذلك حسدًا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين عن أبي مسلم، وتقديره بعد الحكاية عنهم: بل كذبوا فيما زعموا، وإنما زعموا ذلك حسدًا.

8. ﴿يَحْسُدُونَ﴾ يعني اليهود تمنوا زوال ما أعطاه الله نبيه عداوة منهم له ﴿النَّاسِ﴾ فيه ثلاثة أقوال:

أ. الأول: أنه محمد، صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة عن ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وعكرمة، وأقامه مقام الجماعة تعظيمًا له، وقيل: لما كان قوام الدين به صار حسدهم له كحسدهم لجميع الناس.

ب. الثاني: أراد به العرب؛ لأنهم حسدوهم إذ كانت النبوة فيهم عن قتادة وأبي مسلم.

ج. الثالث: أراد محمدًا وأصحابه؛ لأنه قد جرى ذكرهم في قوله: ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ عن أبي علي وأبي القاسم.

9. ﴿عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي أعطاهم من نعمه:

أ. قيل: النبوة حسدوا العرب لما كانت النبوة فيهم عن الحسن وقتادة وابن جريج.. وهو أوجه.

ب. وقيل: إباحة النساء التسع للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ابن عباس والضحاك والسدي.

10. ﴿فَقَدْ آتَيْنَا﴾ أعطينا ﴿آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ﴾ التوراة والزبور والإنجيل ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾:

أ. قيل: ما أوتوا من العلم.

ب. وقيل: السنة.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾:

أ. قيل: النبوة عن مجاهد والحسن.. وهو الوجه، وتقدير الكلام: أنهم حسدوا العرب على ما آتاهم من النبوة، فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والنبوة، قيل: هو ما آتاهم من الجنود والنصرة والمدد بالملائكة.

ب. وقيل: ملك سليمان عن ابن عباس وعطية.

ج. وقيل: ما حل لداوود من النساء تسع وتسعون امرأة، ولسليمان مائة عن السدي، وقيل: كان لسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سُرِّية.

12. ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ﴾ أعرض ﴿عَنْهُ﴾ فيه قولان:

أ. قيل: من أهل الكتاب مَن آمن بمحمد، ومنهم من أعرض عنه ولم يؤمن، وقد جرى ذكره في قوله: ﴿آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ عن مجاهد وأبي علي والزجاج.

ب. وقيل: الثاني: من أمة إبراهيم مَن آمن بإبراهيم، ومنهم من أعرض عنه، كما أنكم في أمر محمد كذلك، وليس ذلك موهن أمره كما لم يكن ذلك موهنًا أمر إبراهيم.

13. ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ أي حسبهم عذاب جهنم ونارها الموقدة.

14. اختلف في علاقة قوله تعالى: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ بما قبله:

أ. قيل: تقديره: إن حسدوك يا محمد على ما آتاك الله من فضله، فكيف لا يحسدون آل إبراهيم وقد آتاهم الكتاب والنبوة.

ب. وقيل: إذ حسدوه على نعم الله عليه فليس هذا بأول نعمة مني على إبراهيم، فقد أعطيناهم الملك والنبوة.

15. اختلف في علاقة قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ﴾ بما قبله:

أ. من حمله على أمة إبراهيم، وأن منهم من آمن بإبراهيم، فوجه الاتصال ظاهر.

ب. ومن حمله على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن من اليهود من آمن به، فوجه الاتصال أنهم ـ مع هذا الحسد وغيره من أفعالهم ـ منهم مَن آمن به ومنهم من صد عنه.

16. تدل الآيات الكريمة على:

أ. خبث سرائر اليهود، وضم البخل والشح إلى كفرهم.

ب. أنهم ليسوا بأهل المال والنبوة لخبثهم، فتدل على أن من حق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يكون معصومًا، وهذا في الملك الذي هو النبوة والإمامة؛ لأن من شرطه العلم والشجاعة والسخاء، كي لا يمنعه البخل من وضع الحقوق في مواضعها، ولا يشترط أن يكون بذالا، سؤال وإشكال: أليس عندكم يجوز أن يكون غير معصوم في الباطل، فإذا كان بخيلاً منع الحقوق؟ والجواب:

منهم من قال: إذا كان ظاهره خلاف باطنه يطلع الله عليه.

ومنهم منْ قال: المعتبر الظاهر، فإذا خالف الشرع في الظاهر انعزل واستبدل، وإن عدل في الطاعة فلا اعتبار بالباطن، فأما النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيكون معصومًا ظاهرًا وباطنًا.

ج. أن الحسد مذموم، وقد بينا ذلك والفرق بينه وبين الغبطة.

د. تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين بأنهم إن كذبوه فقد فعلوا مثل ذلك مع إبراهيم.

هـ. غاية العذاب عذاب جهنم.

و. أن النعم على الآباء تعد نعمًا على الأبناء، فلما كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من ولد إبراهيم، وكان أعطاه ما أعطاه لا يمتنع أن يعطيه أيضًا فيجتمع له الشرفان.

17. قراءة العامة ﴿لَا يُؤْتُونَ﴾ بالرفع، وعن ابن مسعود: لا يؤتوا) بالنصب، فمن رفع فللاعتراض بينه وبين ﴿أَذِنَ﴾، ومن نصب فلأنه لم يبال بـ ﴿لَا﴾

18. مسائل لغوية ونحوية:

أ. الميم في ﴿أَمِ﴾ صلة، وتقديره: ألهم؛ لأن الحرف ﴿أَمِ﴾ إذا لم يسبقه استفهام كان الميم فيه صلة.

ب. ﴿أَذِنَ﴾ تنصب ما بعده، تقول: لو جئتني إذن أكرمك، وإنما لم يعمل ههنا؛ لأن فيه تقديما وتأخيرا تقديره: يؤتون الناس نقيرًا إذن، وقيل: إنما ﴿أَذِنَ﴾ وقعت بين الفاء والفعل فجاز أن تقدر متوسطة فتلغى كما تلغى إذا توسطت أو تأخرت، وكذلك سبيلها مع الواو، كقوله: ﴿وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ ويجوز أن تقدر مستأنفة فتعمل.

ج. الضمير في ﴿صَدَّ عَنْهُ﴾ قيل: يعود على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقيل: على إبراهيم لتقدم ذكره، فزيدت الباء في جهنم لتأكيد الاختصاص.

د. سعيرًا، تقديره: كفى بجهنم من سعير، فلما حذفت ﴿مِنَ﴾ نصبت سعيرًا، وقيل: نصبه على التفسير.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/664

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. النقير: من النقر، وهو النكت، ومنه المنقار، لأنه ينقر به، والناقور: الصور، لأنه ينقر فيه بالنفخ المصوت، والنقير: خشبة ينقر وينبذ فيها، وانتقر: اختص كما تختص بالنقر واحدا واحدا، قال طرفة:

çنحن في المشتاة ندعو الجفلى... لا ترى الآدب فيها ينتقرé

ب. الحسد: تمني زوال النعمة عن صاحبها، لما يلحق من المشقة في نيله لها، وهو خلاف الغبطة، لان الغبطة تمني مثل تلك النعمة، لأجل السرور بها لصاحبها، ولهذا صار الحسد مذموما، والغبطة غير مذمومة، وقيل: إن الحسد من إفراط البخل، لان البخل: منع النعمة لمشقة بذلها، والحسد: تمني زوالها لمشقة نيل صاحبها، فالعمل فيهما على المشقة بنيل النعمة.

ج. أصل السعير من السعر: وهو إيقاد النار، واستعرت النار، أو الحرب، أو الشر، وسعرتها، أو أسعرتها، والسعر: سعر المتاع، وسعره تسعيرا، وذلك لاستعار السوق بحماها في البيع، والساعور كالتنور.

2. لما بين الله تعالى حكم اليهود، بأن المشركين أهدى من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، بين الله سبحانه أن الحكم ليس إليهم، إذ الملك ليس لهم فقال: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾ وهذا استفهام معناه الانكار: أي ليس لهم ذلك:

أ. قيل: المراد بالملك ههنا النبوة، عن الجبائي: أي ألهم نصيب من النبوة، فيلزم الناس اتباعهم وطاعتهم.

ب. وقيل: المراد بالملك ما كانت اليهود تدعيه من أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان، وأنه يخرج منهم من يجدد ملتهم، ويدعو إلى دينهم، فكذبهم الله تعالى.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾:

أ. قيل: أي لو أعطوا الدنيا وملكها لما أعطوا الناس من الحقوق قليلا، ولا كثيرا، وفي تفسير ابن عباس: لو كان لهم نصيب من الملك لما أعطوا محمدا وأصحابه شيئا.

ب. وقيل: إنهم كانوا أصحاب بساتين وأموال، وكانوا لا يعطون الفقراء شيئا.

4. ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾ معناه بل يحسدون الناس، واختلف في معنى ﴿النَّاسِ﴾ هنا على أقوال:

أ. فقيل: أراد به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حسدوه ﴿عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ من النبوة وإباحة تسع نسوة، وميله إليهن، وقالوا: لو كان نبيا لشغلته النبوة عن ذلك، فبين الله سبحانه أن النبوة ليست ببدع في آل إبراهيم عليه السلام، ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ يعني النبوة، وقد آتينا داود، وسليمان المملكة، وكان لداود تسع وتسعون امرأة، ولسليمان مائة امرأة، وقال بعضهم: كان لسليمان ألف امرأة: سبعمائة سرية، وثلاثمائة امرأة، وكان لداود مائة امرأة، فلا معنى لحسدهم محمدا على هذا، وهو من أولاد إبراهيم عليه السلام، وهم أكثر تزويجا، وأوسع مملكة منه، عن ابن عباس، والضحاك، والسدي، وقيل: لما كان قوام الدين به، صار حسدهم له كحسدهم لجميع الناس.

ب. وثانيها: إن المراد بالناس النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وآله، عن أبي جعفر عليه السلام، والمراد بالفضل فيه النبوة، وفي آله الإمامة، وفي تفسير العياشي بإسناده عن أبي الصباح الكناني، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: (يا أبا الصباح! نحن قوم فرض الله طاعتنا، لنا الأنفال، ولنا صفو المال، ونحن الراسخون في العلم، ونحن المحسودون الذين قال الله في كتابه: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾ الآية)، قال: (والمراد بالكتاب: النبوة، وبالحكمة: الفهم والقضاء، وبالملك العظيم: افتراض الطاعة)

ج. وثالثها: إن المراد بالناس: محمد وأصحابه، لأنه قد جرى ذكرهم في قوله: ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ ومن فضله من نعمته، عن أبي علي الجبائي.

د. ورابعها: إن المراد بالناس: العرب، أي يحسدون العرب لما صارت النبوة فيهم، عن الحسن، وقتادة، وابن جريج.

5. ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ قيل: المراد بالكتاب: التوراة، والإنجيل، والزبور، وبالحكمة: ما أوتوا من العلم.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾:

أ. قيل: المراد بالملك العظيم: النبوة، عن مجاهد، والحسن.

ب. وقيل: المراد بالملك العظيم: ملك سليمان، عن ابن عباس.

ج. وقيل: ما أحل لداود وسليمان من النساء، عن السدي.

د. وقيل: الجمع بين سياسة الدنيا وشرع الدين.

7. في قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ قولان:

أ. أحدهما: إن المراد فمن أهل الكتاب من آمن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ أي أعرض عنه، ولم يؤمن به، عن مجاهد، والزجاج، والجبائي، ووجه اتصال هذا المعنى بالآية أنهم مع هذا الحسد وغيره من أفعالهم القبيحة، فقد آمن بعضهم به.

ب. والآخر: إن المراد به: فمن أمة إبراهيم من آمن بإبراهيم، ومنهم من أعرض عنه، كما أنكم في أمر محمد، كذلك، وليس ذلك بموهن أمره، كما لم يكن إعراضهم عن إبراهيم موهنا أمر إبراهيم.

8. ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ أي كفى هؤلاء المعرضين عنه في العذاب النازل بهم، عذاب جهنم نارا موقدة إيقادا شديدا، يريد بذلك أنه إن صرف عنهم بعض العذاب في الدنيا، فقد أعد لهم عذاب جهنم في العقبى.

9. مسائل لغوية ونحوية:

أ. (أم) هذه هي المنقطعة، وليست المعادلة لهمزة الاستفهام التي تسمى المتصلة، وتقديره بل ألهم نصيب من الملك، وقال بعضهم: إن همزة الاستفهام محذوفة من الكلام، لان أم لا تجئ مبتدأة بها، وتقديره: أهم أولى بالنبوة، أم لهم نصيب من الملك فيلزم الناس طاعتهم، وهذا ضعيف، لان حذف الهمزة إنما يجوز في ضرورة الشعر، ولا ضرورة في القرآن.

ب. (إذن) لم يعمل في ﴿يُؤْتُونَ﴾ لأنها إذا وقعت بين الفاء والفعل، أو بين الواو والفعل، جاز أن تقدر متوسطة، فتلغى كما يلغى ظننت وأخواتها، إذا توسطت أو تأخرت، لأن النية به التأخير، فالتقدير: فلا يؤتون الناس نقيرا، إذن لا يلبثون خلافك إلا قليلا إذن، ويجوز أن تقدر مستأنفة، فتعمل مع حرف العطف، ولو قرأ ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ﴾، لجاز لكن القراءة سنة متبعة، وإذا لا تعمل في الفعل النصب إلا بشروط أربعة: أن تكون جوابا لكلام، وأن تكون مبتدأة في اللفظ، وأن لا يكون ما بعدها متعلقا بما قبلها، ويكون الفعل بعدها مستقبلا.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/94.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾ هذا استفهام معناه الإنكار، فالتقدير: ليس لهم، وقال الفرّاء: قوله: ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ جواب لجزاء مضمر، تقديره: ولئن كان لهم نصيب لا يؤتون النّاس نقيرا.

2. في (النّقير) أربعة أقوال:

أ. أحدها: أنه النّقطة التي في ظهر النّواة، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وقتادة، والضّحّاك، والسّدّيّ، وابن زيد، ومقاتل، والفرّاء، وابن قتيبة في آخرين.

ب. الثاني: أنه القشر الذي يكون في وسط النّواة، رواه التّيميّ، عن ابن عباس، وروي عن مجاهد: أنه الخيط الذي يكون في وسط النّواة.

ج. الثالث: أنه نقر الرجل الشيء بطرف إبهامه، رواه أبو العالية، عن ابن عباس.

د. الرابع: أنه حبّة النّواة التي في وسطها، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال الأزهريّ: و(الفتيل) و(النّقير) و(القطمير): تضرب أمثالا للشيء التّافه الحقير.

3. سبب نزول قوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾: أنّ أهل الكتاب قالوا: يزعم محمّد أنه أوتي ما أوتي في تواضع، وله تسع نسوة، فأيّ ملك أفضل من هذا، فنزلت، رواه العوفيّ، عن ابن عباس.

4. في (أم) قولان:

أ. أحدهما: أنها بمعنى ألف الاستفهام، قاله ابن قتيبة.

ب. الثاني: بمعنى (بل) قاله الزجّاج.

سبق ذكر (الحسد) في (سورة البقرة) والحاسدون هاهنا: اليهود، وفي المراد بالنّاس ها هنا أربعة أقوال:

أ. أحدها: النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، رواه عطيّة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة ومجاهد والضّحّاك والسّدّيّ ومقاتل.

ب. الثاني: النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأبو بكر، وعمر، روي عن عليّ بن أبي طالب.

ج. الثالث: العرب، قاله قتادة.

د. الرابع: النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والصّحابة، ذكره الماورديّ.

في الذي آتاهم الله من فضله ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: إباحة الله تعالى نبيّه أن ينكح ما شاء من النّساء من غير عدد، روي عن ابن عباس، والضّحّاك، والسّدّيّ.

ب. الثاني: أنه النبوّة، قاله ابن جريج، والزجّاج.

ج. الثالث: بعثة نبيّ منهم على قول من قال هم العرب‏.

5. ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ﴾ يعني: التّوراة، والإنجيل، والزّبور، كله كان في آل إبراهيم، وهذا النبيّ من أولاد إبراهيم.

6. في الحكمة قولان:

أ. أحدهما: النّبوّة، قاله السّدّيّ، ومقاتل.

ب. الثاني: الفقه في الدّين، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

7. في الملك العظيم خمسة أقوال‏:

أ. أحدها: ملك سليمان، رواه عطيّة، عن ابن عباس.

ب. الثاني: ملك داود، وسليمان في النّساء، كان لداود مائة امرأة، ولسليمان سبعمائة امرأة وثلاثمائة سريّة، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال السّدّيّ.

ج. الثالث: النّبوّة، قاله مجاهد.

د. الرابع: التّأييد بالملائكة، قاله ابن زيد في آخرين.

هـ. الخامس: الجمع بين سياسة الدنيا، وشرع الدّين، ذكره الماورديّ.

8. ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ﴾ فيمن تعود عليه الهاء والميم قولان:

أ. أحدهما: اليهود الذين أنذرهم نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا قول مجاهد، ومقاتل، والفرّاء في آخرين، فعلى هذا القول في هاء ﴿بِهِ﴾ ثلاثة أقوال:

أحدها: تعود على ما أنزل الله على نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله مجاهد: قال أبو سليمان: فيكون الكلام مبنيا على قوله تعالى: ﴿عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ وهو النّبوّة، والقرآن.

الثاني: أنها تعود إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فتكون متعلّقة بقوله: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾ يعني بالناس: محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويكون المراد بقوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ﴾ عبد الله بن سلّام، وأصحابه.

الثالث: أنها تعود إلى النّبإ عن آل إبراهيم، قاله الفرّاء.

ب. الثاني: أن الهاء، والميم في قوله: ﴿فَمِنْهُمْ﴾ تعود إلى آل إبراهيم، فعلى هذا في هاء ﴿بِهِ﴾ قولان:

أحدهما: أنها عائدة إلى إبراهيم، قاله السّدّيّ.

الثاني: إلى الكتاب، قاله مقاتل.

9. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن جبير، وعكرمة، وابن يعمر، والجحدريّ: (من صدّ عنه) برفع الصاد، وقرأ أبيّ بن كعب، وأبو الجوزاء وأبو رجاء والجوني: بكسر الصاد.

__________

(1) زاد المسير: 1/421.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وصف الله تعالى اليهود في الآية المتقدمة بالجهل الشديد، وهو اعتقادهم أن عبادة الأوثان أفضل من عبادة الله تعالى، ووصفهم في هذه الآية بالبخل والحسد، فالبخل هو أن لا يدفع لأحد شيئا مما آتاه الله من النعمة، والحسد هو أن يتمنى أن لا يعطي الله غيره شيئا من النعم، فالبخل والحسد يشتركان في أن صاحبه يريد منع النعمة من الغير، فأما البخيل فيمنع نعمة نفسه عن الغير، وأما الحاسد فيريد أن يمنع نعمة الله من عبادة، وإنما قدم تلك الآية على هذه الآية لأن النفس الانسانية لها قوتان: القوة العالمة والقوة العاملة، فكمال القوة العالمة العلم، ونقصانها الجهل، وكمال القوة العاملة: الأخلاق الحميدة، ونقصانها الأخلاق الذميمة، وأشد الأخلاق الذميمة نقصانا البخل والحسد، لأنهما منشآن لعود المضار إلى عباد الله.

2. إنما قدم وصفهم بالجهل على وصفهم بالبخل والحسد لوجهين:

أ. الأول: أن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية في الشرف والرتبة وأصل لها، فكان شرح حالها يجب أن يكون مقدما على شرح حال القوة العملية.

ب. الثاني: أن السبب لحصول البخل والجسد هو الجهل، والسبب مقدم على المسبب، لا جرم قدم تعالى ذكر الجهل على ذكر البخل والحسد.

3. إنما قلنا: إن الجهل سبب البخل والحسد:

أ. أما البخل فلأن بذل المال سبب لطهارة النفس ولحصول السعادة في الآخرة، وحبس المال سبب لحصول مال الدنيا في يده، فالبخل يدعوك إلى الدنيا ويمنعك عن الآخرة، والجود يدعوك إلى الآخرة ويمنعك عن الدنيا، ولا شك أن ترجيح الدنيا على الآخرة لا يكون إلا من محض الجهل.

ب. وأما الحسد فلأن الإلهية عبارة عن إيصال النعم والإحسان إلى العبيد، فمن كره ذلك فكأنه أراد عزل الإله عن الإلهية، وذلك محض الجهل.

ج. فثبت أن السبب الأصلي للبخل والحسد هو الجهل، فلما ذكر تعالى الجهل أردفه بذكر البخل والحسد ليكون المسبب مذكورا عقيب السبب، فهذا هو الإشارة إلى نظم هذه الآية.

4. (أم) هاهنا فيه وجوه:

أ. الأول: قال بعضهم: الميم صلة، وتقديره: ألهم لأن حرف (أم) إذا لم يسبقه استفهام كان الميم فيه صلة.

ب. الثاني: أن (أم) هاهنا متصلة، وقد سبق هاهنا استفهام على سبيل المعنى، وذلك لأنه تعالى لما حكى عن هؤلاء الملعونين قولهم للمشركين: انهم أهدى سبيلا من المؤمنين، عطف عليه بقوله: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ فكأنه تعالى قال أمن ذلك يتعجب، أم من قولهم: لهم نصيب من الملك، مع أنه لو كان لهم ملك لبخلوا بأقل القليل.

ج. الثالث: أن (أم) هاهنا منقطعة وغير متصلة بما قبلها ألبتة، كأنه لما تم الكلام الأول قال بل لهم نصيب من الملك، وهذا الاستفهام استفهام بمعنى الإنكار، يعني ليس لهم شيء من الملك ألبتة، وهذا الوجه أصح الوجوه.

5. ذكروا في هذا الملك وجوها:

أ. الأول: اليهود كانوا يقولون نحن أولى بالملك والنبوة فكيف نتبع العرب؟ فأبطل الله عليهم قولهم في هذه الآية.

ب. الثاني: أن اليهود كانوا يزعمون أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان، وذلك أنه يخرج من اليهود من يجدد ملكهم ودولتهم ويدعو إلى دينهم، فكذبهم الله في هذه الآية.

ج. الثالث: المراد بالملك هاهنا التمليك، يعني أنهم إنما يقدرون على دفع نبوتك لو كان التمليك إليهم، ولو كان التمليك إليهم لبخلوا بالنقير والقطمير، فكيف يقدرون على النفي والإثبات، قال أبو بكر الأصم: كانوا أصحاب بساتين وأموال، وكانوا في عزة ومنعة ثم كانوا يبخلون على الفقراء بأقل القليل، فنزلت هذه الآية.

6. جعل الله تعالى بخلهم كالمانع من حصول الملك لهم، وهذا يدل على أن الملك والبخل لا يجتمعان، وتحقيق الكلام فيه من حيث العقل أن الانقياد للغير أمر مكروه لذاته، والإنسان لا يتحمل المكروه إلا إذا وجد في مقابلته أمرا مطلوبا مرغوبا فيه، وجهات الحاجات محيطة بالناس، فإذا صدر من إنسان احسان إلى غيره صارت رغبة المحسن اليه في ذلك المال سببا لصيرورته منقادا مطيعا له، فلهذا قيل: بالبر يستعبد الحر، فإذا لم يوجد هذا بقيت النفرة الطبيعية عن الانقياد للغير خالصا عن المعارض، فلا يحصل الانقياد ألبتة، فثبت أن الملك والبخل لا يجتمعان.

7. ثم ان الملك على ثلاثة أقسام: ملك على الظواهر فقط، وهذا هو ملك الملوك، وملك على البواطن فقط، وهذا هو ملك العلماء، وملك على الظواهر والبواطن معا، وهذا هو ملك الأنبياء صلوات الله عليهم، فإذا كان الجود من لوازم الملك وجب في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يكونوا في غاية الجود والكرم والرحمة والشفقة، ليصير كل واحد من هذه الأخلاق سببا لانقياد الخلق لهم، وامتثالهم لأوامرهم، وكمال هذه الصفات حاصل لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

8. (إذن) قال سيبويه: (إذن) في عوامل الأفعال بمنزلة أظن في عوامل الأسماء، وتقريره أن الظن إذا وقع في أول الكلام نصب لا غير، كقولك أظن زيدا قائما، وإن وقع في الوسط جاز إلغاؤه وإعماله، كقوله: زيد أظن قائم، وإن شئت قلت زيدا أظن قائما، وإن تأخر فالأحسن إلغاؤه، تقول زيد منطلق ظننت، والسبب فيما ذكرناه أن (ظن) وما أشبه من الأفعال نحو علم وحسب ضعيفة في العمل، لأنها لا تؤثر في معمولاتها، فإذا تقدم دل التقديم في الذكر على شدة العناية فقوي على التأثير، وإذا تأخر دل على عدم العناية فلغا، وإن توسط فحينئذ لا يكون في محل العناية من كل الوجوه، ولا في محل الإهمال من كل الوجوه، بل كانت كالمتوسطة في هاتين الحالتين فلا جرم كان الأعمال والإلغاء جائزا، واعلم أن الأعمال في حال التوسط أحسن، والإلغاء حال التأخر أحسن، إذا عرفت هذا فنقول: كلمة (إذن) على هذا الترتيب أيضا، فان تقدمت نصبت الفعل، تقول إذن أكرمك، وإن توسطت أو تأخرت جاز الإلغاء، تقول أنا إذن أكرمك، وأنا أكرمك إذن فتلغيه في هاتين الحالتين.

9. إذا عرفت هذه المقدمة فقوله تعالى: ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ كلمة (إذن) فيها متقدمة وما عملت، فذكروا في العذر وجوها:

أ. الأول: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، والتقدير: لا يؤتون الناس نقيرا إذن.

ب. الثاني: أنها لما وقعت بين الفاء والفعل جاز أن تقدر متوسطة فتلغى كما تلغى إذا توسطت أو تأخرت، وهكذا سبيلها مع الواو كقوله تعالى: وإذا لا يلبثون خلفك [الإسراء: 76]

ج. الثالث: قرأ ابن مسعود (فإذا لا يؤتوا) على إعمال (إذن) عملها الذي هو النصب.

10. النقير: قال أهل اللغة: النقير نقرة في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة، وأصله أنه فعيل من النقر، ويقال للخشب الذي ينقر فيه نقير لأنه ينقر، والنقر ضرب الحجر وغيره بالمنقار والمنقار حديدة كالفأس تقطع بها الحجارة، ومنه منقار الطائر لأنه ينقر به، وذكر النقير هاهنا تمثيل، والغرض انهم يبخلون بأقل القليل.

11. ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾ أم: منقطعة، والتقدير بل يحسدون الناس، وفي المراد بلفظ (الناس) قولان:

أ. الأول: وهو قول ابن عباس والأكثرين انه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنما جاز أن يقع عليه لفظ الجمع وهو واحد لأنه اجتمع عنده من خصال الخير ما لا يحصل إلا متفرقا في الجمع العظيم، ومن هذا يقال: فلان أمة وحده، أي يقوم مقام أمة، قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا﴾ [النحل: 120]

ب. الثاني: المراد هاهنا هو الرسول ومن معه من المؤمنين، وقال من ذهب إلى هذا القول: ان لفظ الناس جمع، فحمله على الجمع أولى من حمله على المفرد.

12. إنما حسن ذكر الناس لا رادة طائفة معينة من الناس، لأن المقصود من الخلق إنما هو القيام بالعبودية، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] فلما كان القائمون بهذا المقصود ليس إلا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن كان على دينه كان وهو وأصحابه كأنهم كل الناس، فلهذا حسن إطلاق لفظ الناس وإرادتهم على التعيين.

13. اختلفوا في تفسير الفضل الذي لأجله صاروا محسودين على قولين:

أ. الأول: انه هو النبوة والكرامة الحاصلة بسببها في الدين والدنيا.

ب. الثاني: انهم حسدوه على انه كان له من الزوجات تسع.

14. الحسد لا يحصل إلا عند الفضيلة، فكلما كانت فضيلة الإنسان أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم، ومعلوم أن النبوة أعظم المناصب في الدين، ثم انه تعالى أعطاها لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وضم إليها انه جعله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أنصارا وأعوانا وكل ذلك مما يوجب الحسد العظيم، فاما كثرة النساء فهو كالأمر الحقير بالنسبة إلى ما ذكرناه، فلا يمكن تفسير هذا الفضل به، بل ان جعل الفضل اسما لجميع ما أنعم الله تعالى به عليه دخل هذا أيضا تحته، فأما على سبيل القصر عليه فبعيد.

15. لما بين الله تعالى أن كثرة نعم الله عليه صارت سببا لحسد هؤلاء اليهود بين ما يدفع ذلك فقال: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 54] والمعنى أنه حصل في أولاد ابراهيم جماعة كثيرون جمعوا بين النبوة والملك، وأنتم لا تتعجبون من ذلك ولا تحسدونه، فلم تتعجبون من حال محمد ولم تحسدونه؟

16. ﴿الْكِتَابَ﴾ إشارة إلى ظواهر الشريعة ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ إشارة إلى أسرار الحقيقة، وذلك هو كمال العلم، وأما الملك العظيم فهو كمال القدرة، وقد ثبت أن الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة، فهذا الكلام تنبيه على أنه سبحانه آتاهم أقصى ما يليق بالإنسان من الكمالات، ولما لم يكن ذلك مستبعدا فيهم لا يكون مستبعدا في حق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقيل: إنهم لما استكثروا نساءه قيل لهم: كيف استكثرتهم له التسع، وقد كان لداود مائة ولسليمان ثلاثمائة بالمهر وسبعمائة سرية؟

17. ثم قال تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ واختلفوا في معنى (به)

أ. فقال بعضهم: بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد أن هؤلاء القوم الذين أوتوا نصيبا من الكتاب آمن بعضهم وبقي بعضهم على الكفر والإنكار.

ب. وقال آخرون: المراد من تقدم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والمعنى أن أولئك الأنبياء مع ما خصصتهم به من النبوة والملك جرت عادت أممهم فيهم أن بعضهم آمن به وبعضهم بقوا على الكفر، فأنت يا محمد لا تتعجب مما عليه هؤلاء القوم، فان أحوال جميع الأمم مع جميع الأنبياء هكذا كانت، وذلك تسلية من الله ليكون أشد صبرا على ما ينال من قبلهم.

18. ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ أي كفى بجهنم في عذاب هؤلاء الكفار المتقدمين والمتأخرين، سعيرا، والسعير الوقود، يقال أوقدت النار وأسعرتها بمعنى واحد.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 10/103.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾ أي ألهم؟ والميم صلة، ﴿نَصِيبٍ﴾ حظ ﴿مِنَ الْمُلْكِ﴾ وهذا على وجه الإنكار، يعني ليس لهم من الملك شي، ولو كان لهم منه شي لم يعطوا أحدا منه شيئا لبخلهم وحسدهم، وقيل: المعنى بل ألهم نصيب، فتكون أم منقطعة ومعناها الإضراب عن الأول والاستئناف للثاني، وقيل: هي عاطفة على محذوف، لأنهم أنفوا من اتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والتقدير: أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته أم لهم نصيب من الملك؟

2. ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ أي يمنعون الحقوق، خبر الله تعالى عنهم بما يعلمه منهم، والنقير: النكتة في ظهر النواة، عن ابن عباس وقتادة وغيرهما، وعن ابن عباس أيضا: النقير: ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الأرض، وقال أبو العالية: سألت ابن عباس عن النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم رفعهما وقال: هذا النقير، والنقير: أصل خشبة ينقر وينبذ فيه، وفيه جاء النهي ثم نسخ، وفلان كريم النقير أي الأصل.

3. ﴿إِذَا﴾ هنا ملغاة غير عاملة لدخول فاء العطف عليها، ولو نصب لجاز، قال سيبويه: ﴿إِذَا﴾ في عوامل الأفعال بمنزلة ﴿أَظُنُّ﴾ في عوامل الأسماء، أي تلغى إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها، فإن كانت في أول الكلام وكان الذي بعدها مستقبلا نصبت، كقولك: أنا أزورك، فيقول مجيبا لك: إذا أكرمك، قال عبد الله بن عنمة الضبي:

اردد حمارك لا يرتع بروضتنا...إذن يرد وقيد العير مكروب

نصب لأن الذي قبل ﴿إِذَا﴾ تام فوقعت ابتداء كلام، فإن وقعت متوسطة بين شيئين كقولك: زيد إذا يزورك ألغيت، فإن دخل عليها فاء العطف أو واو العطف فيجوز فيها الإعمال والإلغاء، أما الإعمال فلأن ما بعد الواو يستأنف على طريق عطف الجملة على الجملة، فيجوز في غير القرآن فإذا لا يؤتوا، وفي التنزيل ﴿وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ﴾ وفي مصحف أبي (وإذا لا يلبثوا)، وأما الإلغاء فلأن ما بعد الواو لا يكون إلا بعد كلام يعطف عليه، والناصب للفعل عند سيبويه ﴿إِذَا﴾ لمضارعتها ﴿أَنْ﴾، وعند الخليل أن مضمرة بعد إذا، وزعم الفراء أن إذا تكتب بالألف وأنها منونة، قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: أشتهي أن أكوي يد من يكتب إذا بالألف، إنها مثل لن وإن، ولا يدخل التنوين في الحروف.

4. ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ﴾ يعني اليهود، ﴿النَّاسِ﴾ يعني النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، حسدوه على النبوة وأصحابه على الايمان به، وقال قتادة: ﴿النَّاسِ﴾ العرب، حسدتهم اليهود على النبوة، الضحاك: حسدت اليهود قريشا، لأن النبوة فيهم، والحسد مذموم وصاحبه مغموم وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، رواه أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال الحسن: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد، نفس دائم، وحزن لازم، وعبرة لا تنفد، وقال عبد الله ابن مسعود: لا تعادوا نعم الله، قيل له: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، يقول الله تعالى في بعض الكتب: الحسود عدو نعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي، ولمنصور الفقيه:

çألا قل لمن ظل لي حاسدا...أتدري على من أسأت الأدب

أسأت على الله في حكمه...إذا أنت لم ترض لي ما وهبé

ويقال: الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض، فأما في السماء فحسد إبليس لآدم، وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل، ولأبي العتاهية في الناس:

çفيا رب إن الناس لا ينصفونني...فكيف ولو أنصفتهم ظلموني

وإن كان لي شيء تصدوا لأخذه...وإن شئت أبغي شيئهم منعوني

وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم...وإن أنا لم أبذل لهم شتموني

وإن طرقتني نكبة فكهوا بها...وإن صحبتني نعمة حسدوني

سأمنع قلبي أن يحن إليهمو...وأحجب عنهم ناظري وجفونيé

وقيل: إذا سرك أن تسلم من الحاسد فغم عليه أمرك، ولرجل من قريش:

çحسدوا النعمة لما ظهرت...فرموها بأباطيل الكلم

وإذا ما الله أسدى نعمة...لم يضرها قول أعداء النعمé

ولقد أحسن من قال:

çاصبر على حسد الحسو...د فإن صبرك قاتله

فالنار تأكل بعضها...إن لم تجد ما تأكلهé

وقال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى: ﴿رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ﴾، إنه إنما أراد بالذي من الجن إبليس والذي من الإنس قابيل، وذلك أن إبليس كان أول من سن الكفر، وقابيل كان أول من سن القتل، وإنما كان أصل ذلك كله الحسد، وقال الشاعر:

çإن الغراب وكان يمشي مشية...فيما مضى من سالف الأحوال

حسد القطاة فرام يمشي مشيها...فأصابه ضرب من التعقالé

5. ﴿فَقَدْ آتَيْنَا﴾ ثم أخبر تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكا عظيما، قال همام بن الحارث: أيدوا بالملائكة، وقيل: يعني ملك سليمان، عن ابن عباس، وعنه أيضا: المعنى أم يحسدون محمدا على ما أحل الله له من النساء فيكون الملك العظيم على هذا أنه أحل لداود تسعا وتسعين امرأة ولسليمان أكثر من ذلك، واختار الطبري أن يكون المراد ما أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء، والمراد تكذيب اليهود والرد عليهم في قولهم: لو كان نبيا ما رغب في كثرة النساء ولشغلته النبوة عن ذلك، فأخبر الله تعالى بما كان لداود وسليمان يوبخهم، فأقرت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألف امرأة)!؟ قالوا: نعم ثلاثمائة مهرية، وسبعمائة سرية، وعند داوود مائة امرأة، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألف عند رجل ومائة عند رجل أكثر أو تسع نسوة)؟ فسكتوا، وكان له يومئذ تسع نسوة.

6. يقال: إنه أراد بالنكاح كثرة العشيرة، لأن لكل امرأة قبيلتين قبيلة من جهة الأب وقبيلة من جهة الام، فكلما تزوج امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه فتكون عونا له على أعدائه، ويقال: إن كل من كان أتقى فشهوته أشد، لأن الذي لا يكون تقيا فإنما يتفرج بالنظر والمس، ألا ترى ما روي في الخبر: (العينان تزنيان واليد ان تزنيان)، فإذا كان في النظر والمس نوع من قضاء الشهوة قل الجماع، والمتقي لا ينظر ولا يمس فتكون الشهوة مجتمعة في نفسه فيكون أكثر جماعا، وقال أبو بكر الوراق: كل شهوة تقسي القلب إلا الجماع فإنه يصفي القلب، ولهذا كان الأنبياء يفعلون ذلك.

7. ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ﴾ يعني بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنه تقدم ذكره وهو المحسود، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ أعرض فلم يؤمن به، وقيل: الضمير في ﴿بِهِ﴾ راجع إلى إبراهيم، والمعنى: فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من صد عنه، وقيل: يرجع إلى الكتاب.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/250.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾ أم: منقطعة، والاستفهام للإنكار، يعني: ليس لهم نصيب من الملك‏ ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ والفاء: للسببية الجزائية لشرط محذوف، أي: إن جعل لهم نصيب من الملك فإذن لا يعطون الناس نقيرا منه لشدّة بخلهم وقوّة حسدهم؛ وقيل: المعنى: بل لهم نصيب من الملك، على أن معنى أم: الإضراب عن الأوّل والاستئناف للثاني؛ وقيل: هي عاطفة على محذوف، والتقدير: أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته، أم لهم نصيب من الملك، فإذن لا يؤتون الناس نقيرا؟

2. والنقير: النقرة في ظهر النواة؛ وقيل: ما نقر الرجل بإصبعه كما ينقر الأرض، والنقير أيضا: خشبة تنقر وينبذ فيها، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن النقير، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، والنقير: الأصل، يقال: فلان كريم النقير، أي: كريم الأصل، والمراد هنا: المعنى الأوّل، والمقصود به المبالغة في الحقارة، كالقطمير والفتيل، وإذن هنا: ملغاة غير عاملة، لدخول فاء العطف عليها، ولو نصب لجاز، قال سيبويه: إذن: في عوامل الأفعال بمنزلة أظن في عوامل الأسماء التي تلغى إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها، فإن كانت في أوّل الكلام وكان الذي بعدها مستقبلا نصبت.

3. ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أم: منقطعة مفيدة للانتقال عن توبيخهم بأمر إلى توبيخهم بآخر: أي: بل يحسدون الناس، يعني: اليهود يحسدون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقط، أو يحسدونه هو وأصحابه على ما آتاهم الله من فضله من النبوّة والنصر وقهر الأعداء.

4. ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ هذا إلزام لليهود بما يعترفون به ولا ينكرونه، أي: ليس ما آتينا محمدا وأصحابه من فضلنا ببدع حتى يحسدهم اليهود على ذلك، فهم يعلمون بما آتينا آل إبراهيم، وهم أسلاف محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد تقدّم تفسير الكتاب والحكمة، والملك العظيم: قيل: هو ملك سليمان، واختاره ابن جرير.

5. ﴿فَمِنْهُمْ﴾ أي: اليهود ﴿مَنْ آمَنَ بِهِ﴾ أي: بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ أي: أعرض عنه؛ وقيل: الضمير في به: راجع إلى ما ذكر من حديث آل إبراهيم؛ وقيل: الضمير راجع إلى إبراهيم، والمعنى: فمن آل إبراهيم من آمن بإبراهيم، ومنهم من صدّ عنه؛ وقيل: الضمير يرجع إلى الكتاب، والأوّل أولى‏ ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ أي: نارا مسعرة.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/553.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ﴾ إضراب وتهكُّم، ونفيٌ لأن يكون لهم نصيب، بل ألهم نصيب ﴿مِّنَ الْمُلْكِ﴾ ملك الملوك، أو ملك العلم، أو النبوَّة، ادَّعت اليهود أنَّه يرجع إليهم الملك آخر الزمان، ويكون الناس على دينهم، وأنَّهم أولى بالملك والنبوَّة من العرب، فكذَّبهم الله تعالى بأنَّه لا ملك ظاهر لهم وهو ملك الملوك، ولا ملك باطن وهو ملك العلماء، ولا ملك ظاهر وباطن وهو ملك الأنبياء.

2. ﴿فَإِذًا لَّا يُوتُونَ النَّاسَ﴾ مطلقًا أو الفقراء، أو محمَّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم وأتباعه ﴿نَقِيرًا﴾ مقدار نقرة الإبهام، أو نقرة النواة، إن كانوا ملوكًا، ومن كان هذا حاله وهو مَلِكٌ فكيف حاله إذا كان فقيرًا ذليلاً؟ ومن حقِّ من أوتي الملك أن يُنعم على الرعيَّة، وبالبِرِّ يُستعبد الحرُّ، والانقياد إلى الغير مكروه طبعًا، فلا ينقاد الناس إِلَّا لمن فيه نفع لهم، وبالنفع يثبت ملكه.

çإذا مَلِك لم يكن ذا هبة...فدعه فدولته ذاهبةé

أي إذا لم يكن صاحب عطاء فدولته تذهب.

3. ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ﴾ بل أيحسدون ﴿النَّاسَ﴾ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه والعرب، والناس؛ لأنَّ ما أتي من النبوَّة وتوابعها لهم كلِّهم إِلَّا مَن أبى، أو الناس محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وقد حسدوه على تسع نسوة، وقالوا: (لو كان نبيًّا لَمَا كان له تنعُّم بالتسع)، وعموا عمَّا أوتي داود من النساء ومن الملك، وكذا سليمان!، ﴿عَلَىٰ مَا ءَاتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ﴾ من النبوَّة والكتاب والنصرة والإعزاز، وحسدوا العرب أشدَّ الحسد على النبوَّة، وقد جمعوا الجهلَ المانعَ من الملك على الباطن، والبخلَ والحسدَ المانعين من الملك على الظاهر؛ لأنَّ الناس لا ينقادون للبخيل لعدم نفعه، أو الحسود لعدم نفعه؛ ولأنَّه ينتزع منهم ما عندهم، فهو أقبح من البخيل، قال أبو بكر الأصم: (كانوا أصحاب بساتين وأموال وقصور مشيَّدة، وفي عِزَّة ومنعة على ما عليه أحوال الملك، ومع هذا كانوا يبخلون على الفقراء بأقلِّ قليل ولو من اليهود)

4. ﴿فَقَدَ اتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أسلاف محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبناء عمِّه، إذ هم من ذرِّيَّة إسحاق أخي إسماعيل جدِّه صلَّى الله وسلَّم عليهم ﴿الْكِتَابَ﴾ جنس الكتاب، كصحف إبراهيم، وصحف موسى، والتوراة، والزبور والإنجيل، وما أوتي نبيي فقد أوتي آله ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ النبوَّة ﴿وَءَاتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا﴾ فلا يبعد أن يؤتي الله العرب مثل ما آتى أبناء عمِّهم، قال ابن عبَّاس  : (الملك في آل إبراهيم: ملك يوسف، وملك داود، وملك سليمان)، وقال مجاهد: (الحكمة: الفهم والعمل، والملك العظيم: النبوَّة)؛ لأنَّ الْمَلِكَ من له الأمر والطَّاعة، والأنبياء لهم الأمر والطَّاعة، ولداود تسع وتسعون امرأة، ولسليمان ثلاثمائة امرأة، ومثلها سُرِّيَّة، وقيل: سبعمائة سُرِّيَّة.

5. ﴿فَمِنهُم﴾ من اليهود وغيرهم ﴿مَّنَ ـ امَنَ بِهِ﴾ بإبراهيم، أو محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أو بحديث آل إبراهيم ﴿وَمِنهُم مَّنَ صَدَّ عَنْهُ﴾ أعرض عنه ولم يؤمن به، فلم يُوهِنْ أَمْرَهُ وأَمْرَ آلِهِ كفرُهُم به؛ فكذلك لا يوهن أمرَكَ كفرُ هؤلاء اليهودِ وغيرِهِم بأمرك، ﴿وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ تمييز، ولو كان وصفًا؛ لأنَّ المراد: نارًا سعيرًا، ولم يقل: سعيرة؛ لأنَّ (سَعِيرًا) فعيلٌ، بمعنى مفعول، كامرأة كحيل، أي: مسعورة، أي: موقدة، يعذَّبون بها، فإن لم يعاجَلوا بعقاب في الدُّنيا ثمَّ بها في الآخرة فكفى بها في الآخرة.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/192.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾، لما ذم سبحانه اليهود بتزكيتهم أنفسهم وتفضيلهم المشركين على الموحدين، شرع في تفصيل بعض آخر من مثالبهم، وهو وصفهم بالبخل والحسد اللذين هما شر خصلتين، و(أم) منقطعة، والهمزة لإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك، والفاء للسببية الجزائية لشرط محذوف، أي لو كان لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون أحدا مقدار نقير لفرط بخلهم، و(النقير) النقرة في ظهر النواة وهو مثل في القلة والحقارة، كالفتيل والقطمير، والمراد بالملك إما ملك أهل الدنيا وإما ملك الله، كقوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ﴾ [الإسراء: 100]

2. قال أبو السعود: وهذا هو البيان الكاشف عن كنه حالهم، وإذا كان شأنهم كذلك وهم ملوك فما ظنك بهم وهم أذلاء متفاقرون؟ ويجوز أن لا تكون الهمزة لإنكار الوقوع بل لإنكار الواقع والتوبيخ عليه، أي لعده منكرا غير لائق بالوقوع، على أن الفاء للعطف والإنكار متوجه إلى مجموع المعطوفين على معنى: ألهم نصيب وافر من الملك حيث كانوا أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة كالملوك فلا يؤتون الناس مع ذلك نقيرا؟ كما تقول لغنيّ لا يراعي أباه: ألك هذا القدر من المال فلا تنفق على أبيك شيئا؟ وفائدة (إذن) تأكيد الإنكار والتوبيخ، حيث يجعلون ثبوت النصيب سببا للمنع مع كونه سببا للإعطاء، وهي ملغاة عن العمل، كأنه قيل: فلا يؤتون الناس إذن: وقرئ: (فإذن لا يؤتوا) بالنصب على إعمالها.

3. ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾ منقطعة أيضا مفيدة للانتقال من توبيخهم بما سبق، أعني البخل، إلى توبيخهم بالحسد، وهما شر الرذائل كما قدمنا، وكأن بينهما تلازما وتجاذبا، واللام في (الناس) للعهد والإشارة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين، وروى الطبرانيّ بسنده عن ابن عباس في هذه الآية قال نحن الناس دون الناس، والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه، قال الرازيّ: وإنما حسن ذكر الناس لإرادة طائفة معينة من الناس، لأن المقصود من الخلق إنما هو القيام بالعبودية كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] فما كان القائمون بهذا المقصود ليس إلا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن كان على دينه ـ كان هو وأصحابه كأنهم كل الناس، فلهذا حسن إطلاق لفظ (الناس) وإرادتهم على التعيين.

4. ﴿عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ وهو النبوة والكتاب والرشد وازدياد العز والنصر يوما فيوما، ﴿فَقَدْ آتَيْنَا﴾ تعليل للإنكار والاستقباح وإلزام لهم بما هو مسلم عندهم، وحسم لمادة حسدهم واستبعادهم المبنيّين على توهم عدم استحقاق المحسود لما أوتي من الفضل ببيان استحقاقه له بطريق الوراثة كابرا عن كابر، وإجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الالتفات لإظهار كمال العناية بالأمر، والمعنى: أن حسدهم المذكور في غاية القبح والبطلان، فإنا قد آتينا من قبل هذا ﴿آلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ الذين هم أسلاف محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبناء أعمامه‏ ﴿الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ النبوة ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ لا يقادر قدره، فكيف يستبعدون نبوته ويحسدونه على إيتائها؟ أفاده أبو السعود.

5. قال الرازيّ: إن الحسد لا يحصل إلا عند الفضيلة، فكلما كانت فضيلة الإنسان أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم، ومعلوم أن النبوة أعظم المناصب في الدين، ثم إنه تعالى أعطاها لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وضم إليها أنه جعله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أنصارا وأعوانا، فلما كانت هذه النعم سببا لحسد هؤلاء، بيّن تعالى ما يدفع ذلك فقال: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾، والمعنى: أنه حصل في أولاد إبراهيم جماعة كثيرون جمعوا بين النبوة والملك وأنتم لا تتعجبون من ذلك ولا تحسدونهم، فلم تتعجبون من حال محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم تحسدونه؟

6. ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ حكاية لما صدر عن أسلافهم، أي: فمن جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم من آمن بما أوتي آل إبراهيم، ومنهم من كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه، وهو منهم ومن جنسهم، أي من بني إسرائيل، وقد اختلفوا عليهم، فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل؟ فالكفرة منهم أشد تكذيبا لك وأبعد عما جئتهم به من الهدى والحق المبين، وفيه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأن ذلك ديدنهم المستمر ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ أي نارا مسعّرة يعذبون بها على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/174.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾ قالوا إن: ﴿أَمْ﴾ هنا منقطعة وهي عند جمهور البصريين للإضراب والاستفهام والمراد بالإضراب هنا الانتقال من توبيخهم على الإيمان بالجبت والطاغوت وتفضيل المشركين على المؤمنين إلى توبيخهم على البخل والشح والأثرة، واختار محمد عبده أن ﴿أَمْ﴾ إذا وقعت في أول الكلام تكون للاستفهام المجرد، والاستفهام هنا للإنكار والتوبيخ يستفاد من قرينة المقام أي ليس لهم نصيب من الملك كما لهم نصيب من الكتاب بل فقدوا الملك كله بظلمهم وطغيانهم.

2. ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ أي ولو كان لهم نصيب من الملك لسلكوا فيه طريق البخل والأثرة بحصر منافعه ومرافقه في أنفسهم فلا يعطون الناس نقيرا منه إذ ذاك، والنقير هو النقرة أو النكتة في ظهر نواة النمر وهي الثقبة التي تنبت منها النخلة شبهت بما نقر بمنقار الطائر أو منقار الحديد الذي تحفر به الأرض الصلبة والنقير كالفتيل في الآية السابقة يضرب به المثل في الشيء القليل والحقير التافه، ويطلق النقير أيضا على ما نقر أي حفر من الحجر أو الخشب فجعل إناء ينبذ فيه، وكذلك يضرب المثل بالقطمير وهي القشرة الدقيقة التي على النواة بينها وبين التمرة.

3. حاصل المعنى أن هؤلاء اليهود أصحاب أثرة شديدة وشح مطاع يشق عليهم أن ينتفع أحد من غير أنفسهم فإذا صار لهم ملك حرصوا على منع الناس أدنى النفع وأحقره فكيف لا يشق عليهم أن يظهر نبي من العرب ويكون لأصحابه ملك يخضع لهم فيه بنو إسرائيل، وهذه الصفة لا تزال غالبة على اليهود ظاهرة فيهم فإن تم لهم ما يسعون إليه من إعادة ملكهم إلى بيت المقدس وما حوله فإنهم يطردون المسلمين والنصارى من تلك الأرض المقدسة ولا يعطونهم منها نقيرا من نواة أو موضع زرع نخلة أو نقرة في أرض أو جبل، وهم يحاولون الآن وحاولوا قبل الآن ذلك بقطع أسباب الرزق عن غيرهم فالنجار اليهودي في بيت المقدس يعمل لك العمل بأجرة أقل من الأجرة التي يرضى بها المسلم أو النصراني وإن كانت أقل من أجرة المثل، ولعلّ جمعياتهم السياسية والخيرية تساعدهم على ذلك، فالدلائل متوفرة على أن القوم يحاولون امتلاك الأرض المقدسة وحرمان غيرهم من جميع أسباب الرزق فيها، يفعلون هذا وليس لهم نصيب من الملك هذا وما كيف لو.

4. وهل يعود إليهم الملك كما يبغون؟ الآية لا تثبت ذلك ولا تنفيه، وإنما تبين ما تقتضيه طباعهم فيه لو حصل، وسيأتي البحث في ذلك في تفسير سورة الإسراء التي تسمى أيضا (سورة بني إسرائيل)(2) ويدخل في ذلك ما تقتضيه من الكثرة وهم متفرقون ومتعلقون بأموالهم في كل الممالك، ومن الاستعداد للحرب والزراعة وقد ضعف ذلك في أكثرهم، ولكنهم يعتقدون اعتقادا دينيا أنهم سيقيمون الملك أو سوف يقيمونه في البلاد المقدسة، وقد ادخروا لذلك مالا كثيرا فيجب على العثمانيين أن لا يمكنوا لهم في فلسطين ولا يسهلوا لهم طرق امتلاك أرضها وكثرة المهاجرة إليها فإن في ذلك خطرا كبيرا كما نبهنا في تفسير الآيات السابقة من عهد قريب.

5. ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ محمد عبده: سبق في الآيات قبل هذه أن اليهود حكموا بأن المشركين أهدى سبيلا من المؤمنين وذلك من الحسد والغرور بأنفسهم فإنهم يقولون ذلك مع أنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت فهم في شر حال، ويعيبون من هم في أحسن حال، فالله تعالى يقول إن هؤلاء يريدون أن يضيق فضل الله بعباده ولا يحبون أن يكون لأمة من الأمم فضل أكثر مما لهم أو مثله أو قريبا منه لما استحوذ عليهم من الغرور بنسبهم وتقاليدهم مع سوء حالهم فكأنه قال هل غرر هؤلاء بأنفسهم تغريرا، أم لهم نصيب من الملك في هذا الكون فهم يمنعون الناس فلا يؤتونهم منه نقيرا، أم يحسدون الناس على ما أعطاهم الله من فضله، أي العرب.

6. ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ والعرب منهم فإنهم من ذرية ولده إسماعيل وقد كانت ظهرت تباشير الملك العظيم فيهم عند نزول هذه الآيات فإنها مدنية متأخرة وكانت شوكة المسلمين قد قويت فالآية مبشرة لهم بالملك الذي يتبع النبوة والحكمة، والحاصل أن حال اليهود يومئذ كان لا يعدو هذه الأمور الثلاثة: إما غرور خادع يظنون معه أن فضل الله محصور فيهم، ورحمته تضيق عن غير شعب إسرائيل من خلقه، وإما حسبان أن ملك الكون في أيديهم فهم لا يسمحون لأحد بشئ منه ولو حقيرا كالنقير، وإما حسد العرب على ما أعطاهم الله من الكتاب والحكمة والملك الذي ظهرت مبادي عظمته، اه ما قاله في الدرس وليس عندنا عنه في ذلك غيره.

7. فسروا الحسد بأنه تمني زوال النعمة عن صاحبها المستحق لها ولم يرد ذكره في القرآن إلا في هذه الآية وفي قوله في سورة البقرة: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ [البقرة: 108] وفي سورة الفلق، وأهل الكتاب في آية البقرة هم اليهود فهو لم يسند الحسد إلى غيرهم لأنهم وقد سلب منهم الملك يتمنون عودته إليهم، وقد كبر عليهم أن تسبقهم العرب إلى ذلك ولم يكن النصارى يومئذ يحسدون المسلمين، لأنهم متمتعون بملك واسع، ولا مشركو العرب لأنهم ما كانوا يظنون أن النبوة التي قام بها واحد منهم حق ولا أنها تستتبع ملكا، فإن من ظهر له حقية الدعوة صار مسلما، وأما اليهود فإنه لم يؤمن ممن ظهرت لهم حقية دعوة الإسلام إلا نفر قليل ومنع الحسد باقي الرؤساء أن يؤمنوا وتبعهم العامة تقليدا لهم، وقلما يمنع الناس من اتباع الحق بعد ظهوره لهم مثل الحسد والكبر، فالحسود يؤثر هلاك نفسه على انقيادها لمن يحسده، لأن الحسد يفسد الطباع، وفي التفسير المأثور أن المراد بالناس هنا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا شك أنهم حسدوه وحسدوا قومه العرب لأنه منهم وهم أسبق إلى الخير الذي جاء به.

8. ورد في بعض أسباب نزول الآية أن بعض اليهود ككعب بن الأشرف لم يجدوا مطعنا يقولونه في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا تعدد أزواجه، وقيل حسدوه على ذلك والآية ترد هذه الشبهة، لأن بعض أنبيائهم كداود وسليمان كان لهم أزواج كثيرة، كما رد عليهم استبعادهم أن يكون الملك في غير آل إسرائيل بأنه تعالى أعطى آل إبراهيم من ذرية إسحاق الكتاب والحكمة والنبوة فضلا منه من غير أن يكون لهم حق عليه تعالى، فكذلك يعطي ذلك لآله من ذرية إسماعيل ولا حجر على فضله، فإن كان هذا الفضل الإلهي لا يناله إلا من له سلف فيه فللعرب هذا السلف، على أن هذه الدعوى باطلة، وإلا كانت هذه العطايا قديمة أزلية وليس الإنسان قديما أزليا ولو كان أزليا لما أمكن أن تكون بعض فروعه أزلية، فإيتاء الله تعالى بعض البشر الفضل إما أن يكون بمحض الاختصاص والاختيار وذلك موكول إلى مشيئته عز وجل، وإما أن يكون لمزايا وفضائل فيمن يعطيه ذلك، وحينئذ يكون كل من يكتسب مثل تلك المزايا مستحقا لهذا الفضل والنبوة ومقدماتها بمحض الاختصاص.

9. أما كثرة النساء لداود وسليمان عليهما السلام فقد نقل بعض المفسرين أنه كان لداود مائة امرأة ويؤخذ ذلك من سورة ص وأنه كان لسليمان ألف وثلاثمائة امرأة وسبع مئة سرية فكيف يستنكر أتباعهما أن يكون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تسع نسوة وقد تزوج أكثرهن لحكم وأسباب عامة أو خاصة كما تقدم بيان ذلك في تفسير آية تعدد الزوجات، وفي سفر الملوك الأول من كتابهم المقدس ما نصه: 1: 11 (أحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون موابيات وعمونيات وأدوميات وصيد ونيات وحثيات 2 من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل لا تدخلون إليهم وهم لا يدخلون إليكم لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة3 وكانت له سبعمائة من النساء السيدات وثلاثة مئة من السراري فأمالت نساؤه قلبه) الخ ما هناك من الطعن فيه عليه السلام وبرأه الله.

10. ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ القول المشهور المقدم في كتب التفسير التي بين أيدينا أن الضمير في قوله: ﴿آمَنَ بِهِ﴾ للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو ما أنزل عليه أي من أولئك اليهود من آمن به ومنهم من أعرض عنه يقال صد الرجل عن الشيء إذا أعرض عنه، ويقال أيضا صد غيره عنه إذا صرفه عنه ونفره منه، وقيل إنه عائد إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أي من آله من آمن به ومنهم من لم يؤمن به، وقيل إلى ما ذكر من حديث آل إبراهيم وقيل إلى الكتاب، وقال محمد عبده يرجع الضمير إلى ما ذكر من الكتاب والحكمة والملك العظيم فأما الإيمان بالكتاب والحكمة (وهي ما جاء به الأنبياء من بيان أسرار الكتاب) فظاهر وأما الإيمان بالملك فهو الإيمان بوعد الله تعالى به، وهكذا شأن الناس في كل شيء لا يتفقون عليه وإنما يأخذ به بعضهم ويعرض عنه آخرون.

11. ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ أي نارا مسعرة لمن صد عنه وآثر إرضاء حسده والعمل بما يزينه له على اتباع الحق فهو لا يزال يغريه بنصر الباطل ومعاندة الحق حتى يدسي نفسه ويفسدها ويهبط بها إلى دار الشقاء وهاوية النكال المعبر عنها بجهنم وبالسعير وهي بئس المثوى وبئس المصير.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/160.

(2) للأسف لم يصل تفسيره إليها

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. انتقل الله تعالى من توبيخهم على الإيمان بالجبت والطاغوت، وتفضيلهم المشركين على المؤمنين، إلى توبيخهم على البخل والأثرة، وطمعهم في أن يعود إليهم الملك في آخر الزمان، وأنه سيخرج منهم من يجدد ملكهم ودولتهم ويدعو إلى دينهم فقال: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾ أي إنهم لا حظ لهم من الملك، إذ هم فقدوه بظلمهم وطغيانهم، وإيمانهم بالجبت والطاغوت.

2. ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ أي إنه لو كان لهم نصيب من الملك لا تبعوا طريق، البخل والأثرة، وحصروا منافعه في أنفسهم، فلا يعطون الناس منه نقيرا.

3. والخلاصة ـ إن اليهود ذوو أثرة وشحّ يشق عليهم أن ينتفع منهم غير اليهودي، فإذا صار لهم ملك حرصوا على منع الناس أدنى النفع وأحقره، ومن كانت هذه حاله‏ حرص أشد الحرص على ألا يظهر نبيّ من العرب يكون لأصحابه ملك يخضع لهم فيه بنو إسرائيل، ولا تزال هذه حالهم إلى اليوم، فإن تم لهم ما يسعون إليه من إعادة ملكهم إلى بيت المقدس وما حوله فإنهم يطردون المسلمين والنصارى من تلك الأرض المقدسة ولا يعطونهم منها نقيرا، ولكن هل يعود الملك كما يريدون؟ ليس في الآية ما يثبت ذلك ولا ما ينفيه، وإنما الذي فيها بيان طباعهم فيه لو حصل.

4. ثم انتقل من توبيخهم بالبخل إلى توبيخهم بالحسد فقال: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي إن هؤلاء يريدون أن يضيق فضل الله بعباده، ولا يحبون أن يكون لأمة فضل أكثر مما لهم أو مثله، لما استحوذ عليهم من الغرور بنسبهم وتقاليدهم مع سوء حالهم، وهم قد رأوا أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد أن أعطى النبوة جعله الله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أعوانا وأنصارا من أجل هذا حسدوه حسدا عظيما.

5. وبعد أن ذكر أن كثرة نعمه عليه صارت سببا لحسد هؤلاء اليهود، بين ما يدفع ذلك الحسد فقال: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ أي إن يحسدوا محمدا على ما أوتى فقد أخطئوا، إذ ليس هذا ببدع منا، لأنا قد آتينا مثل هذا من قبل لآل إبراهيم والعرب منهم فإنهم من ذرية ولده إسماعيل، فلم لم تعجبوا مما آتى آل إبراهيم وتعجبون مما آتى محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ ولم لا يكون مستبعدا في حق هؤلاء ومستبعدا في حق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟

6. وفي الآية رمز إلى أنه سيكون للمسلمين ملك عظيم يتبع النبوة والحكمة، وقد ظهرت تباشيره عند نزول الآيات بالمدينة، فقد قويت شوكتهم وأخذ أمرهم يعظم رويدا رويدا.

7. والخلاصة ـ إن اليهود إما مغرورون مخدوعون يظنون أن فضل الله لا يعدوهم، ورحمته تضيق بغيرهم، وإما حاسبون أن ملك الكون في أيديهم، فهم لا يعطون‏ أحدا منه ولو حقيرا كالنقير، وإما حاسدون للعرب على ما أعطاهم الله من الكتاب والحكمة والملك الذي ظهرت مبادئه ومقدماته.

8. ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ قوله به أي بمن تقدم من الأنبياء كإبراهيم وآله، أي إن أولئك الأنبياء مع ما اختصوا به من النبوة والملك لم تؤمن أممهم جميعا بهم بل منهم من آمن بهم ومنهم من بقي على كفره، فلا تعجب أيها الرسول مما عليه قومك فإن هذه حال جميع الأمم مع أنبيائهم، وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ليكون أشد صبرا على ما يناله من قبلهم من الأذى والجحود والإنكار ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾

9. ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ أي إن انصرف عنهم بعض العذاب في الدنيا فكفاهم ما أعدّ لهم من سعير جهنم في العقبى، لأنهم آثروا اتباع الباطل والعمل بما يزينه لهم على اتباع الحق، ولا يزال ذلك دأبهم حتى يرديهم في دار الشقاء والنكال وهى جهنم وبئس القرار.

__________

(1) تفسير المراغى: 5/65.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. حسد اليهود لهم على ما أعطاهم الله من فضله، وهم لم يعطوهم من عندهم شيئا! ويكشف في الوقت ذاته عن كزازة طبيعتهم؛ واستكثار أي عطاء يناله غيرهم؛ مع أن الله قد أفاض عليهم وعلى آبائهم، فلم يعلمهم هذا الفيض السماحة؛ ولم يمنعهم من الحسد والكنود: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾

2. يا عجبا! إنهم لا يطيقون أن ينعم الله على عبد من عباده بشيء من عنده.. فهل هم شركاؤه ـ سبحانه! ـ هل لهم نصيب في ملكه، الذي يمنح منه ويفيض؟ لو كان لهم نصيب لضنوا ـ بكزازتهم وشحهم ـ أن يعطوا الناس نقيرا.. والنقير النقرة تكون في ظهر النواة ـ وهذه لا تسمح كزازة يهود وأثرتها البغيضة أن تعطيها للناس، لو كان لها في الملك نصيب! والحمد لله أن ليس لها في الملك نصيب.. وإلا لهلك الناس جميعا وهم لا يعطون حتى النقير! أم لعله الحسد.. حسد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين، على ما آتاهم الله من فضله.. من هذا الدين الذي أنشأهم نشأة أخرى ووهب لهم ميلادا جديدا، وجعل لهم وجودا إنسانيا متميزا؛ ووهبهم النور والثقة والطمأنينة واليقين؛ كما وهبهم النظافة والطهر، مع العز والتمكين؟ وإنه فعلا للحسد من يهود، مع تفويت أطماعها في السيادة الأدبية والاقتصادية على العرب الجاهلين المتفرقين المتخاصمين.. يوم أن لم يكن لهم دين.

3. ولكن لماذا يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله من النبوة والتمكين في الأرض؟ وهم غارقون في فضل الله من عهد إبراهيم.. الذي آتاه الله وآله الكتاب والحكمة ـ وهي النبوة ـ وآتاهم الملك كذلك والسيادة، وهم لم يرعوا الفضل ولم يحتفظوا بالنعمة، ولم يصونوا العهد القديم، بل كان منهم فريق من غير المؤمنين، ومن يؤت هذا الفضل كله لا يليق أن يكون منهم جاحدون كافرون!

4. ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾، إنه لمن ألأم الحسد: أن يحسد ذو النعمة الموهوب! لقد يحسد المحروم ويكون الحسد منه رذيلة! أما أن يحسد الواجد المغمور بالنعمة، فهذا هو الشر الأصيل العميق! شر يهود! المتميز الفريد! ومن ثم يكون التهديد بالسعير، هو الجزاء المقابل لهذا الشر النكير: ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/683.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ هو إعلان عن هذا الطبع اللئيم الذي يغلب على اليهود، وهذا الداء الخبيث الذي يغتال كل معالم الإنسانية فيهم، فالشحّ هو الطبع الغالب عليهم، لا تندّ من أيديهم ذرة خير لأحد، لما انطوت عليه نفوسهم من كراهية للناس جميعا.. حيث يجدون الراحة والرضا فيما ينزل بالناس من كوارث ومحن، فكيف يكون منهم عمل يخفف عن الناس لما، أو يسوق إليهم عافية؟ إنهم لو كان إلى أيديهم شيء من رحمة الله وفضله، لحرموا الناس أن ينالوا ذرة من هذه الرحمة وذلك الفضل! والنقير هو النقرة في ظهر النواة.. وهو شيء غاية في الصغر والضآلة، ومثله الفتيل والقطمير.

2. ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ هو إعلان عن ذلك الداء الذي يولّده الشحّ الذي طبع عليه القوم، وهو داء الحسد.. فالقوم تتّقد في قلوبهم نار الحسد والكمد، إذا رأوا نعمة من نعم الله تصيب عبدا من عباد الله! فهم يتحرقون غيظا وكمدا أن ساق الله إلى (محمد) هذا الفضل العظيم، ووضع في يده تلك النعمة السابغة، حين اصطفاه لرسالته، وأنزل عليه كتابه الكريم.

3. فما لهم ـ قاتلهم الله ـ يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، وقد وسّع الله عليهم وآتاهم من فضله، وأنزل عليهم من نعمه، ما لو استقاموا عليه، وانتفعوا به لسعدوا، وأسعدوا الناس معهم؟ ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ فمن آل إبراهيم كان أنبياء بنى إسرائيل: إسحاق، ويعقوب، ويوسف، وموسى، وداود، وسليمان، وزكريا، ويحيى، وعيسى.

4. فما أكثر الخير الذي ساقه الله إليهم على يد أنبيائه ورسله، ولكن القوم استقبلوا هذا الخير بالجحود والكفران: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ وقليل منهم أولئك الذين آمنوا، وكثير منهم أولئك الذين كفروا وجحدوا.. ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ فهي الجزاء العادل لمن مكر بآيات الله، وبدل نعمة الله كفرا.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/817.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. (أم) للإضراب الانتقالي، وهي تؤذن بهمزة استفهام محذوفة بعدها، أي: بل ألهم نصيب من الملك فلا يؤتون الناس نقيرا، والاستفهام إنكاري حكمه حكم النفي، والعطف بالفاء على جملة ﴿لَهُمْ نَصِيبٌ﴾ وكذلك‏ ﴿فَإِذَا﴾ هي جزاء لجملة ﴿لَهُمْ نَصِيبٌ﴾، واعتبر الاستفهام داخلا على مجموع الجملة وجزائها معا؛ لأنّهم ينتفي إعطاؤهم الناس نقيرا على تقدير ثبوت الملك لهم لا على انتفائه، وهذا الكلام تهكّم عليهم في انتظارهم هو أن يرجع إليهم ملك إسرائيل، وتسجيل عليهم بالبخل الذي لا يؤاتي من يرجون الملك، كما قال أبو الفتح البستي:

çإذا ملك لم يكن ذا هبه‏... فدعه فدولته ذاهبه‏é

وشحّهم وبخلهم معروف مشهور، والنقير: شكلة في النواة كالدائرة، يضرب بها المثل في القلّة، ولذلك عقّب هذا الكلام بقوله: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، والاستفهام المقدّر بعد (أم) هذه إنكار على حسدهم، وليس مفيدا لنفي الحسد لأنّه واقع، والمراد بالناس النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والفضل النبوءة، أو المراد به النبي والمؤمنون، والفضل الهدى بالإيمان.

2. ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ﴾ عطف على مقدّر من معنى الاستفهام الإنكاري، توجيها للإنكار عليهم، أي فلا بدع فيما حسدوه إذ قد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة والملك، وآل إبراهيم: أبناؤه وعقبه ونسله، وهو داخل في هذا الحكم لأنّهم إنّما أعطوه لأجل كرامته عند الله ووعد الله إيّاه بذلك، وتعريف (الكتاب): تعريف الجنس، فيصدق بالمتعدّد، فيشمل صحف إبراهيم، وصحف موسى، وما أنزل بعد ذلك، والحكمة: النبوءة، والملك: هو ما وعد الله به إبراهيم أن يعطيه ذريّته وما آتى الله داود وسليمان وملوك إسرائيل.

3. ضمير ﴿مِنْهُمْ﴾ يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير ﴿يَحْسُدُونَ﴾، وضمير ﴿بِهِ﴾ يعود إلى الناس المراد منه محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم: أي فمن الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من آمن بمحمّد، ومنهم من أعرض، والتفريع في قوله: ﴿فَمِنْهُمْ﴾ على هذا التفسير ناشئ على قوله: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾، ويجوز أن يعود ضمير ﴿فَمِنْهُمْ﴾ إلى آل إبراهيم.

4. وضمير ﴿بِهِ﴾ إلى إبراهيم، أي فقد آتيناهم ما ذكر، ومن آله من آمن به، ومنهم من كفر مثل أبيه آزر، وامرأة ابن أخيه لوط، أي فليس تكذيب اليهود محمّدا بأعجب من ذلك، ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾ [الإسراء: 77]، ليكون قد حصل الاحتجاج عليهم في الأمرين في إبطال مستند تكذيبهم؛ بإثبات أنّ إتيان النبوءة ليس ببدع، وأن محمّدا من آل إبراهيم، فليس إرساله بأعجب من إرسال موسى، وفي تذكيرهم بأنّ هذه سنّة الأنبياء حتى لا يعدّوا تكذيبهم محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ثلمة في نبوءته، إذ لا يعرف رسولا أجمع أهل دعوته على تصديقه من إبراهيم فمن بعده.

5. ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ تهديد ووعيد للّذين يؤمنون بالجبت والطاغوت، وتفسير هذا التركيب تقدّم آنفا في قوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا﴾ من هذه السورة [النساء: 45]

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/158.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾ (أم) هنا تفيد الانتقال في القول من التعجب من حالهم في ممالأة المشركين إلى بيان حالهم العجيب إذا أوتوا أي حظ من السلطان والحكم؛ والمعنى: أثبت أنهم إذا كان لهم حظ من الملك والسلطان ولو كان ضئيلا يحكمون بالعدل، ويقومون بالقسطاس المستقيم؟ والاستفهام لنفى الوقوع، وهو نفى لوقوع العدل منهم إذا أعطوا أي حظ من الحكم؛ ذلك لأن المنافق لا يمكن أن يكون عادلا؛ لأن العدل والالتواء نقيضان لا يجتمعان، ولأنهم أهل هوى، ولا عدل مع سيطرة الهوى، ولأنهم غلبت عليهم عصبية دينية جامحة، وكل حكم‏ يصدر من التعصب لا يكون عدلا بالنسبة لمن تعصب عليه.

2. ولذا قال سبحانه فيهم إذا حكموا: ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ النقير العلامة السوداء الصغيرة التي تكون في ظهر النواة، وهى الثقبة التي تنبت منها النخلة، ويضرب به المثل في الشيء الصغير البالغ أقصى حدود الصغر، والمعنى: إذا تولى هؤلاء نصيبا من الملك والسلطان، فإنهم لا يعطون الناس أي قدر من حقوقهم عليهم، ولو كان ضئيلا بالغا أقصى حدود الضالة؛ ذلك لأن العادل يكون حكمه لمصلحة المحكومين، لا لمصلحته، وهؤلاء لا ينظرون إلا إلى منافعهم الذاتية، ولأن العادل يحس بأنه من الناس له ما لهم وعليه ما عليهم، وهؤلاء يظنون أنهم صنف في الخليقة ممتاز، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، والناس جميعا دونهم، ولأنهم يبغضون الناس جميعا؛ لأنهم يظنون أنهم سلبوهم حقوقهم، بمقتضى ما لهم من امتياز بمقتضى التكوين، فهم بهذه الأهواء الواهمة عادوا الناس وأبغضوهم، ويحسبون أنفسهم في حرب مستمرة من البشر! أنقذ الله أهل الإسلام من شرهم، وأرداهم هم ومن يعاونونهم على الغى والظلم والفساد، والله من ورائهم محيط.

3. الآية موصولة بما قبلها، فالحديث في اليهود الذين ذهب بهم حقدهم على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين، أن يقولوا وهم أهل كتاب نزل عليهم من السماء وإن حرفوه، إن المشركين أهدى إلى الحق وإلى الصراط المستقيم من المؤمنين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين من بعده، وفي هذه الآية يبين سبب انحرافهم، وجزاء الضالين يوم القيامة، ثم جزاء المهتدين، والسبب الباعث على ضلالهم أنهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.

4. ولذا قال سبحانه: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ الحسد هو الألم الشديد لما يصيب الناس من خير، وتمنى زواله، ثم العمل على زواله، فهو يبتدئ بألم شديد يحز بالنفس الحاسدة، ثم يصحبه تمنى الزوال، ثم يكون بعد ذلك بخس المحسود حظه وحقه، والنيل منه! والفرق بينه وبين الغبطة أن الغبطة السرور بما ينال الغير من خير، وذلك وصف أهل الإيمان، ولذلك قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المؤمن يغبط والمنافق يحسد)! والحسد يذيب النفس ويذهب بفضائلها، ولقد قال الحسن البصرى: (ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد)! وإن من يحسد إنما يعادى الله ويعادى نعمه؛ لأنه كلما آتى الله أحدا نعمة نقمها على صاحبها، فكأنما يعادى الله الذي أعطاها، ويعاديها، ولقد قال عبد الله بن مسعود: (لا تعادوا نعم الله! قيل له: ومن يعادى نعم الله؟ قال الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله)

5. والناس هنا في النص الكريم، قيل العرب، وعندى أنهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، إن أريد التخصيص، وإن كان التعميم فهي على عمومها، وأولئك اليهود قد أسكن الله تعالى قلوبهم حسدا على الناس، فهم إذا حسدوا النبيّ والمؤمنين، فلأنهم ناس آتاهم الله تعالى جزءا من فضله، فإن فضله عظيم، فـ (من) هنا للبعضية، أو نقول إنها بيانية، فقد كان الإيتاء صادرا عن فضله ومجرد تكرمه، وفي هذا إشارة إلى أن الذين يحسدون من يتكرم عليه الله، فإنما يعاندون الله تعالى، وسبب هذا الحسد الدائم فيهم أنهم يعتقدون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم اختصوا بالنبوة دون غيرهم من الناس.

وقد بين الله سبحانه أن ذلك وهم، فقال تعالت كلماته: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ أي إذا كنتم تحسدون الناس لما توهمتم أن النبوة فيكم، وأنكم أهل الوحى دون غيركم، فقد كذبتم على أنفسكم، فإن الله تعالى قد أعطى آل إبراهيم، أي قرابته القريبة من ذريته من إسماعيل وإسحاق الكتاب، أي بعث فيهم النبيين بالكتب من غير تفرقة، والحكمة، أي العلم النافع الذي يصحبه عمل نافع وإصلاح بين الناس، وأعطاهم مع علم النبوة ومع نشر أحكامها ملكا عظيما، أي سلطانا وبسطة في الأرض فلستم مختصين بالنبوة، ولستم مختصين بإبراهيم، فله قرابة غيركم كانوا في العرب، ولم يكن تلقى الناس لذلك الهدى ولهذا السلطان واحدا.

6. ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ أي فمن قرابة إبراهيم وذريته وأوليائه الذين جاؤوا، من آمن بما جاء به من هدى، وسار على مقتضاه، وانتفع به انتفاعا كليا، أو نهل من موارده العذبة، أو أخذ بقدر ما تقوى عليه نفسه، وهو في ضمن المهديين، ومنهم من أعرض عنه، وإن ذلك المعرض له جزاؤه، وهو جهنم التي تلتهب نارها، وتستعر، فلم يكن من آل إبراهيم وذريته‏ مقتضيا أن يصدقوا بالرسائل الإلهية التي نزلت بين ربوعهم وفي أوساطهم، فمن العرب وهم من آل إبراهيم من أشرك بالله وعبد الأوثان، مع أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو من آل إبراهيم بعث فيهم رحمة للعالمين، وأنتم معشر اليهود كفرتم وكذبتم الرسل من آل إبراهيم وقتلتم بعضهم، ولم ينفعكم أنكم من ذرية إسحاق بن إبراهيم، فلا عبرة بالأنساب، إنما العبرة بالاستجابة للحق، والإيمان به والإذعان لحقائقه.

7. هنا بحثان لفظيان:

أ. أحدهما: أن (صد) تستعمل لازمة متعدية، وإذا كانت لازمة فمصدرها الصدود ومعناه الإعراض، وإن كانت متعدية فمصدرها الصد، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ [العنكبوت‏] والنص هنا معناه الإعراض عن الهداية التي جاءت إليهم، فهو من اللازم.

ب. الثاني: قوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ لم يذكر فيها من كانت جهنم كفاية لهم، وهو مفهوم من فحوى الكلام، والمعنى كفاهم أن تكون جهنم بسعيرها ولهيبها مصيرا لهم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1716.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ما زال الكلام عن اليهود، فقد وصفهم الله سبحانه في الآية 44 بالضلال والإضلال، وفي الآية 45 بعدائهم المؤمنين، وفي الآية 46 بتحريف الكلام واللي فيه، وفي الآية 49 بتزكيتهم لأنفسهم، وفي الآية 50 بالافتراء، وفي الآية 51 بالعناد والتعصب، وتفضيل عبدة الأصنام دجلا ونفاقا على الموحدين، ثم وصفهم سبحانه بالبخل في هذه الآية: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾

2. والمعنى ان اليهود ليس لهم دولة وملك، ولو كان لهم نصيب من السلطان لاحتكروا جميع الخيرات، ولم يتركوا لأحد شيئا، حتى ولو كان مقدار النقير الحقير.. وصدق الله العظيم، ونبوءة القرآن الكريم، فقد كانوا، وما زالوا لا يطيقون نعمة الله على عبد من عباده، فإن استطاعوا انتزاعها منه بالدس والمؤامرة، أو بالربا، أو بالإغراء ببناتهم ونسائهم فعلوا، وان كان لهم شيء من القوة سلبوا ونهبوا وأجروا الدماء نهرا، فمن اليوم الذي اغتصبوا فيه أرض فلسطين سنة 1948 أخرجوا أهلها من ديارهم بعد أن أقاموا مذابح للنساء والأطفال في أكثر من مكان.. وفي سنة 67 قامت إسرائيل بمساندة الاستعمار بعملية الاغتيال لأجزاء أخرى من البلاد العربية، وكررت فعلتها الأولى من الذبح والتشريد، وليس هذا بغريب على تاريخهم وطبيعتهم.

3. وقد ملك العرب، وامتد سلطانهم مئات السنين، وانتشر شرقا وغربا، وكان اليهود من جملة رعاياهم، فأقاموا العدل بين الجميع، وأحسنوا لليهود وغيرهم من أهل الأديان، حتى قال المنصفون من علماء الغرب كغوستاف لوبون: (ما عرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب) وشهد غيره منهم بمثل شهادته.. ولا بدع (فكل إناء بالذي فيه ينضح) كما قال ابن الصيفي.

4. ومن المفيد أن ننقل ما ذكره صاحب المنار عند تفسير هذه الآية منذ 60 عاما حين كانت فلسطين في حكم العثمانيين، قال ما نصه بالحرف: (وحاصل معنى الآية ان هؤلاء اليهود أصحاب أثرة وشح مطاع يشق عليهم ان ينتفع منهم أحد، فإذا صار لهم ملك منعوا الناس أدنى النفع وأحقره، فكيف لا يصعب عليهم أن يظهر من العرب نبي يكون لأصحابه ملك يخضع له اليهود، وهذه الصفة لا تزال غالبة على اليهود، حتى اليوم، فإن تم لهم ما يسعون اليه من اقامة دولة بفلسطين يطردون المسلمين والنصارى، ولا يعطونهم نقيرا.. والدلائل متوفرة على ان القوم يحاولون امتلاك الأرض المقدسة، وحرمان غيرهم من جميع أسباب الرزق.. وقد ادخروا لذلك مالا كثيرا، فيجب على العثمانيين أن لا يمكنوا لليهود في فلسطين، ولا يسهلوا لهم امتلاك أرضها، وكثرة المهاجرين، فإن في ذلك خطرا كبيرا..)، وقال صاحب تفسير المنار: (ان الآية لا تثبت ولا تنفي ملك اليهود في فلسطين، وإنما بينت ما تقتضيه طباعهم من العمل في فلسطين وغيرها لو ملكوا)

5. هذا ما قاله عالم من علماء المسلمين في تفسير هذه الآية: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾، قاله قبل أربعين عاما من قيام دولة إسرائيل بفلسطين، وان دل هذا على شيء فإنما يدل على صدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في نبوته ورسالته، حيث أخبر بوحي من السماء قبل أكثر من ألف وثلاثمائة سنة ان اليهود لو ملكوا لكان منهم الذي حدث بالفعل سنة 1948 وسنة 1967: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَعَلى‏ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏﴾

6. ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، هذه صفة أخرى من صفات اليهود وهي الحسد، والمراد بالناس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه من المؤمنين: وحسدهم اليهود على ما أفاء الله عليهم من دين الحق، والتمكين في الأرض، ولما عجز اليهود عن رد هذه النعمة عن المسلمين تحالفوا ضدهم مع المشركين، وبثوا الدعايات الكاذبة ضد الإسلام ونبي الإسلام، وفي النهاية دارت عليهم دائرة السوء، وطردوا من الحجاز بما كانوا يفعلون.

7. ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾، المراد بالكتاب زبور داود، وتوراة موسى، وبالحكمة النبوة والعلم، والمعنى لماذا تحسدون أيها اليهود محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم والعرب على النبوة والتمكين في الأرض؟ فان الله قد وهب من قبل مثل ذلك لأسلافه، كيوسف وداود وسليمان.

8. ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾، اختلف المفسرون: هل الضمير في (به) يعود الى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أو الى ابراهيم أو الى الكتاب؟، والأرجح الذي يتلائم مع المعنى، ويساعد عليه الاعتبار انه يعود الى كل نبي آتاه الله الكتاب والحكمة، ولفظ (كل نبي) وان لم يذكر في الآية صراحة فإنه مفهوم من مجموع الكلام وسياقه.. وعلى أية حال، فلا خلاف في أن معنى الآية انه لا غرابة ان لا يؤمن هؤلاء وأمثالهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فإن الأنبياء السابقين آمن بهم فريق، وكفر بهم فريق، والفريق الكافر كان كثيرا كما قال سبحانه: ﴿فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ ـ 26 الحديد)، ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾، أي احتراقا والتهابا لمن صدّ عن الحق.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/350.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾ إلى قوله: ﴿نَقِيرًا﴾ النقير فعيل بمعنى المفعول وهو المقدار اليسير الذي يأخذه الطير من الأرض بنقر منقاره، وقد مر له معنى آخر في قوله: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ الآية، وقد ذكروا أن‏ ﴿أَمْ﴾ في قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾، منقطعة والمعنى: بل ألهم نصيب من الملك، والاستفهام إنكاري أي ليس لهم ذلك.

2. وقد جوز بعضهم أن تكون (أم) متصلة، وقال: إن التقدير: أهم أولى بالنبوة أم لهم نصيب من الملك؟ ورد بأن حذف الهمزة إنما يجوز في ضرورة الشعر، ولا ضرورة في القرآن، والظاهر أن أم متصلة وأن الشق المحذوف ما يدل عليه الآية السابقة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ الآية، والتقدير: ألهم كل ما حكموا به من حكم أم لهم نصيب من الملك أم يحسدون الناس؟ وعلى هذا تستقيم الشقوق وتترتب، ويتصل الكلام في سوقه.

3. والمراد بالملك‏ هو السلطنة على الأمور المادية والمعنوية فيشمل ملك النبوة والولاية والهداية وملك الرقاب والثروة، وذلك أنه هو الظاهر من سياق الجمل السابقة واللاحقة فإن الآية السابقة تومئ إلى دعواهم أنهم يملكون القضاء والحكم على المؤمنين، وهو مسانخ للملك على الفضائل المعنوية وذيل الآية: ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ يدل على ملك الماديات أو ما يشمل ذلك فالمراد به الأعم من ملك الماديات والمعنويات، فيئول معنى الآية إلى نحو قولنا: أم لهم نصيب من الملك الذي أنعم الله به على نبيه بالنبوة والولاية والهداية ونحوه، ولو كان لهم ذلك لم يؤتوا الناس أقل القليل الذي لا يعتد به لبخلهم وسوء سريرتهم، فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ﴾

4. ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ وهذا آخر الشقوق الثلاثة المذكورة، ووجه الكلام إلى اليهود جوابا عن قضائهم على المؤمنين بأن دين المشركين أهدى من دينهم، والمراد بالناس على ما يدل عليه هذا السياق هم الذين آمنوا، وبما آتاهم الله من فضله هو النبوة والكتاب والمعارف الدينية، غير أن ذيل الآية: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ﴾، يدل على أن هذا الذي أطلق عليه الناس من آل إبراهيم، فالمراد بالناس حينئذ هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما انبسط على غيره من هذا الفضل المذكور في الآية فهو من طريقه وببركاته العالية، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أن آل إبراهيم هو النبي وآله، وإطلاق الناس على المفرد لا ضير فيه فإنه على نحو الكناية كقولك لمن يتعرض لك ويؤذيك: لا تتعرض للناس، وما لك وللناس؟ تريد نفسك أي لا تتعرض لي.

5. ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ الجملة إيئاس لهم في حسدهم، وقطع لرجائهم زوال هذه النعمة، وانقطاع هذا الفضل بأن الله قد أعطى آل إبراهيم من فضله ما أعطى، وآتاهم من رحمته ما آتى فليموتوا بغيظهم فلن ينفعهم الحسد شيئا، ومن هنا يظهر أن المراد بآل إبراهيم إما النبي وآله من أولاد إسماعيل أو مطلق آل إبراهيم من أولاد إسماعيل وإسحاق حتى يشمل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي هو المحسود عند اليهود بالحقيقة، وليس المراد بآل إبراهيم بني إسرائيل من نسل إبراهيم فإن الكلام على هذا التقدير يعود تقريرا لليهود في حسدهم النبي أو المؤمنين لمكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيهم‏ فيفسد معنى الجملة كما لا يخفى.

6. وقد ظهر أيضا كما تقدمت الإشارة إليه أن هذه الجملة: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ تدل على أن الناس المحسودين هم من آل إبراهيم، فيتأيد به أن المراد بالناس النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأما المؤمنون به فليسوا جميعا من ذرية إبراهيم، ولا كرامة لذريته من المؤمنين على غيرهم حتى يحمل الكلام عليهم، ولا يوجب مجرد الإيمان واتباع ملة إبراهيم تسمية المتبعين بأنهم آل إبراهيم، وكذا قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية: لا يوجب تسمية الذين آمنوا بآل إبراهيم لمكان الأولوية فإن في الآية ذكرا من الذين اتبعوا إبراهيم، وليسوا يسمون آل إبراهيم قطعا، فالمراد بآل إبراهيم النبي أو هو وآله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإسماعيل جده ومن في حذوه.

7. ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ قد تقدم أن مقتضى السياق أن يكون المراد بالملك ما يعم الملك المعنوي الذي منه النبوة والولاية الحقيقية على هداية الناس وإرشادهم ويؤيده أن الله سبحانه لا يستعظم الملك الدنيوي لو لم ينته إلى فضيلة معنوية ومنقبة دينية، ويؤيد ذلك أيضا أن الله سبحانه لم يعد فيما عده من الفضل في حق آل إبراهيم النبوة والولاية إذ قال: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، فيقوى أن يكون النبوة والولاية مندرجتين في إطلاق قوله: وآتيناهم ملكا عظيما.

8. ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ الصد الصرف وقد قوبل الإيمان بالصد لأن اليهود ما كانوا ليقنعوا على مجرد عدم الإيمان بما أنزل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دون أن يبذلوا مبلغ جهدهم في صد الناس عن سبيل الله والإيمان بما نزله من الكتاب، وربما كان الصد بمعنى الإعراض وحينئذ يتم التقابل من غير عناية زائدة.

9. ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ تهديد لهم بسعير جهنم في مقابل ما صدوا عن الإيمان بالكتاب وسعروا نار الفتنة على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والذين آمنوا معه.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/376.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ بل ألهم نصيب من الملك؟ إشارة إلى أنهم كرهوا رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يرضوا بحكم الله فيها، كأنهم شركاء لله في ملكه، لا يرسل إلا من يريدون، وليس لهم نصيب في الملك ولو كان لهم ﴿نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾ لبخلوا بما لديهم فلا ﴿يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ لبخلهم، والنقير: نقرة تكون في ظهر نواة التمر، يمثّل بها في القلّة.

2. ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ بل أيحسدون، إضراب انتقال إلى احتجاج على اليهود الزاعمين أن الكفار أهدى من الذين آمنوا وسلكوا طريقة أهل الحسد، الذين يكرهون حصول النعمة لمن أعطاه إياها، قال الشرفي في (المصابيح): (قال المرتضى عليه السلام ـ والمراد به أينما ذكر في (المصابيح) محمد بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم عليهم السلام ـ: هؤلاء المذكورون في الحسد هم أهل الكتاب حسدوا محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم ما خصه الله به وأعطاه وحسدوا المؤمنين ومن تبعه من المسلمين فقال الله سبحانه: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ فأخبر سبحانه بما آتى الأنبياء وهذا دليل على أنهم أرادوا النبوة فيهم وحسدوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما خصه الله به من الملك وأنزل عليه من الوحي، ألا تسمع كيف يقول: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ إلى قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ فلم ينتفعوا إذ كان ذلك في داود وسليمان حتى صدوا عنه وأبعدوه ـ كذا ـ وكرهوه ونابذوه)

3. فحاصل المعنى: أم يحسدون محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم من آل إبراهيم ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ وهو ما كان لداود وسليمان، فمن أهل الكتاب من آمن به ومنهم من صد عنه: فالمعنى قد سبق منهم هذا الحسد لآل إبراهيم، وليس بدعاً منهم حسدهم لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو فقد صد بعضهم عن آل إبراهيم لغير داعي الحسد، والأول أظهر.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/91.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ ماذا يملك هؤلاء؟ لماذا يستعلون على الناس؟ ولم هذا الشعور بالفوقية؟ لماذا هذا كله؟ هل هذا لأن لهم نصيبا من الملك، فلا يعطون الناس نقيرا منه ـ وهي النقطة على ظهر النواة ـ انطلاقا من شعورهم بأنهم يملكون الدنيا وما فيها، وما قيمة ما يملكون، والملك لله يؤتيه من يشاء ويسلبه عمن يشاء؟

2. ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أو أن موقفهم ينبع من عقدة ذاتية مرضية في نفوسهم، من كل الطيبين الخيّرين الذين آتاهم الله من فضله الرسالة والرفعة والدرجة العالية في الحياة؟ فهم لا يطيقون التطلع إلى الناجحين وأصحاب الدرجة الرفيعة، ولا يملكون الوصول إلى ذلك من خلال جهدهم، لأنهم لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم أو يضحّوا أو يجاهدوا للوصول إلى ما وصل إليه الآخرون، بل كل ما عندهم أن يحصلوا على المجد من دون جهد أو معاناة، تماما ككل الناس الذين يعيشون عقدة الحسد، فيختنقون بها في شعور مرضيّ بالقهر والمرارة؛ وهكذا كان موقفهم من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين‏ معه، أو النبيّ وآله، كما جاءت الرواية بذلك عن أبي جعفر ـ محمد الباقر ـ عليه السّلام‏، في ما آتاه الله من فضل الرسالة والنبوّة، ولكن الله سبحانه يذكرهم بما أنزله على آل إبراهيم من الكتاب والحكمة وما آتاهم من الملك.

3. ﴿يَحْسُدُونَ﴾ يتمنون زوال نعمة الآخرين من المؤمنين عنهم ويسعون في إزالتها، والحسد تمني زوال النعمة عن صاحبها لما يلحق من المشقة في نيله لها، وهو خلاف الغبطة، لأن الغبطة تمني مثل تلك النعمة لأجل السرور بها لصاحبها، ولهذا جاء الحسد مذموما والغبطة غير مذمومة، وقيل: إن الحسد من إفراط البخل لأن البخل منع النعمة لمشقة بذلها والحسد تمني زوالها لمشقة نيل صاحبها، فالعمل فيهما على المشقة بنيل النعمة، وقد يتحول الحسد من عقدة نفسية إلى عداوة وكيد ومكر وتآمر، قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ [البقرة: 109]، وقد حدثنا القرآن عن قصة قابيل الذي قتل أخاه هابيل، لأن الله تقبل قربان أخيه ولم يتقبل، منه حسدا منه له.

4. ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ والله يؤتي فضله من يشاء، فما ذا يريدون؟ وماذا يفعلون؟ فليموتوا بغيظهم، واختلف الناس على الوحي الذي أنزله الله على إبراهيم وآله، ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ﴾ ممن انفتحت قلوبهم على الله وعلى رسالاته، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ ممن انفتحوا على وساوس الشيطان وأحابيله؛ ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ لمن انطلق بعيدا في خط الشرك والكفر والضلال.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/307.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في تفسير الآيتين السابقتين قلنا أنّ اليهود عمدوا ـ لإرضاء الوثنيين في مكّة واستقطابهم ـ إلى الشهادة بأنّ وثنية قريش أفضل من توحيد المسلمين، بل وعمدوا عمليا إلى السجود أمام الأصنام، وفي هذه الآيات يبيّن سبحانه أن حكمهم هذا لا قيمة له لوجهين:

أ. إنّ اليهود ليس لهم ـ من جهة المكانة الاجتماعية ـ تلك القيمة التي نؤهلهم للقضاء بين الناس والحكم في أمورهم، ولم يفوض الناس إليهم حق الحكم والقضاء بينهم أبدا ليكون لهم مثل هذا العمل: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾؟ هذا مضافا إلى أنّهم لا يمتلكون أية قابلية وأهلية للحكومة المادية والمعنوية على الناس، لأن روح الاستئثار قد استحكم في كيانهم بقوّة إلى درجة أنّهم إذا حصلوا على مثل هذه المكانة لم يعطوا لأحد حقّه، بل خصّوا كل شيء بأنفسهم دون غيرهم‏ ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾، فبالنظر إلى أنّ هذه الأحكام التي يطلقها اليهود صادرة عن مثل هذه النفسية المريضة التي تسعى دائما إلى الاستئثار بكل شيء لأنفسهم أو لغيرهم ممن يعملون لصالحهم، على المسلمين أن لا يتأثروا بأمثال هذه الأحاديث والأحكام وأن لا يقلقوا لها.

ب. إنّ هذه الأحكام الباطلة ناشئة من حسدهم البغيض للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته المكرمين، ولهذا تفقد أية قيمة، إنّهم إذ خسروا مقام النبوة والحكومة بظلمهم وكفرهم، لذلك لا يحبّون أن يناط هذا المقام الإلهي إلى أي أحد من الناس، ولذا يحسدون النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته الذين شملتهم هذه الموهبة الإلهية وأعطوا ذلك المقام الكريم وذلك المنصب الجليل، ولأجل هذا يحاولون بإطلاق تلك الأحكام الباطلة وتلك المزاعم السخيفة أن يخففوا من لهيب الحسد في كيانهم: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾

2. ثمّ إن الله سبحانه يقول معقبا على هذا: ولما ذا تتعجبون من إعطائنا النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبني هاشم ذلك المنصب الجليل وذلك المقام الرفيع، وقد أعطاكم الله سبحانه وأعطى آل إبراهيم الكتاب السماوي والعلم والحكمة والملك العريض (مثل ملك موسى وسليمان وداود) ولكنّكم ـ مع الأسف ـ أسأتم خلافتهم ففقدتم تلكم النعم المادية والمعنوية القيمة بسبب قسوتكم وشروركم: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾

3. والمراد من الناس في قوله: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾ ـ كما أسلفنا ـ هم رسول الله وأهل بيته عليهم السّلام، لإطلاق لفظة الناس على جماعة من الناس، وأمّا إطلاقها على شخص واحد (هو النّبي خاصّة) فلا يصح ما لم تكن هناك قرينة على إرادة الواحد فقط، هذا مضافا إلى أنّ كلمة آل إبراهيم قرينة أخرى على أنّ المراد من (الناس) هو النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته عليهم السّلام، لأنّه يستفاد ـ من قرينة المقابلة ـ أنّنا إذا أعطينا لبني هاشم مثل هذا المقام ومثل هذه المكانة ـ فلا داعي للعجب ـ فقد أعطينا لآل إبراهيم أيضا تلك المقامات المعنوية والمادية بسبب أهليتهم وقابليتهم.

4. وقد جاء التصريح في روايات متعددة وردت في مصادر الشيعة والسنة بأنّ المراد من (الناس) هم أهل بيت النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد روي عن الإمام الباقر عليه السّلام‏ أنّه قال في تفسير الآية: (جعل منهم الرسل والأنبياء والأئمّة فكيف يقرّون في آل إبراهيم وينكرونه في آل محمّد)؟ وفي رواية أخرى عن الإمام الصّادق عليه السّلام‏ يجيب الإمام على من يسأل عن المحسودين في هذه الآية قائلا: (نحن محسودون)، وروي في الدّر المنثور عن ابن منذر والطبراني عن ابن عباس أنّه قال في هذه الآية: (نحن الناس دون الناس)

5. ثمّ قال القرآن الكريم في الآية اللاحقة: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾، أي أنّ من الناس آنذاك من آمن بالكتاب الذي نزل على آل إبراهيم، ومنهم من لم يكتف بعدم الإيمان بذلك الكتاب، بل صدّ الآخرين عن الإيمان وحال دون انتشاره، أولئك كفاهم نار جهنم المشتعلة عذابا وعقوبة، وسينتهي إلى نفس هذا المصير كل من كفر بالقرآن الكريم الذي نزل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

6. (الحسد) يعني تمني زوال النعمة عن الآخرين سواء وصلت تلك النعمة إلى الحسود، أم لم تصل إليه، وعلى هذا الأساس تنصب جهود الحسود على فناء ما لدى الآخرين وزواله عنهم أم تمني ذلك، لا أن تنتقل تلك النعمة إليه، وإن الحسد منشأ للكثير من المآسي والمتاعب الاجتماعية، من ذلك:

أ. إنّ الحاسد يصرف كل أو جلّ طاقاته البدنية والفكرية ـ التي يجب أن تصرف في ترشيد الأهداف الاجتماعية ـ في طريق الهدم والتحطيم لما هو قائم، ولهذا فهو يبدد طاقاته الشخصية والطاقات الاجتماعية معا.

ب. إنّ الحسد هو الدافع لكثير من الجرائم في هذا العالم، فلو أنّنا درسنا العلل الأصلية وراء جرائم القتل والسرقة والعدوان وما شابه ذلك لرأينا ـ بوضوح ـ أنّ أكثر هذه العلل تنشأ من الحسد، ولعلّه لهذا السبب شبّه الحسد بشرارة من النار يمكنها أن تهدد كيان الحاسد أو المجتمع الذي يعيش في وسطه بالخطر، وتعرضه للضرر، يقول أحد العلماء: إنّ الحسد من أخطر الصفات، ويجب أن يعتبر من أعدى أعداء السعادة، فيجب أن يجتهد الإنسان لدفعه والتخلص منه، إنّ المجتمعات التي تتألف من الحاسدين الضيقي النظرة مجتمعات متأخرة متخلفة.

ج. الحساد ـ في الأغلب ـ عناصر قلقة وأفراد مرضى يعانون من متاعب وآلام جسدية وعصبية، وذلك قد أصبح من المسلم اليوم أن أكثر الأمراض والآلام الجسدية تنشأ من علل نفسية، فإنّنا نلاحظ الآن بحوثا مفصلة في الطب حول الأمراض التي تختص بمثل هذه، هذا والجدير بالذكر ورود التأكيد على هذه المسألة في أحاديث أئمّة الدين وقادة الإسلام، ففي رواية عن الإمام علي عليه السّلام نقرأ قوله: (صحة الجسد من قلّة الحسد) و(العجب لغفلة الحساد عن سلامة الأجساد)، بل ووردت روايات تصرح بأن الحسد يضرّ بالحاسد قبل أن يضرّ بالمحسود، بل ويؤدي إلى القتل والموت تدريجا.

د. إنّ الحسد يعدّ ـ من الناحية المعنوية ـ من علائم ضعف الشخصية وعقدة الحقارة، ومن دلائل الجهل وقصر النظر وقلّة الإيمان، لأنّ الحاسد ـ في الحقيقة ـ يرى نفسه أعجز وأقل من أن يبلغ ما بلغه المحسود من المكانة أو أعلى من ذلك، ولهذا يسعى الحاسد إلى أن يرجع المحسود إلى الوراء، هذا مضافا إلى أنّه بعمله يعترض على حكمة الله سبحانه واهب جميع النعم وجميع المواهب، وعلى إعطائه سبحانه النعم إلى من تفضل بها عليه من الناس، ولهذا جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السّلام:‏ (الحسد أصله من عمى القلب والجحود لفضل الله تعالى، وهما جناحان للكفر، وبالحسد وقع ابن آدم في حسرة الأبد، وهلك مهلكا لا ينجو منه أبدا)، فهذا هو القرآن الكريم يصرّح بأنّ أوّل جريمة قتل ارتكبت في الأرض كان منشؤها الحسد، وجاء في نهج البلاغة عن الإمام علي عليه السّلام أنّه قال: إنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب)، وذلك لأنّ الحاسد يزداد سوء ظنه بالله وبحكمته وعدالته شيئا فشيئا، وهذا الأمر يؤدي به إلى الخروج عن جادة الإيمان.

7. إنّ آثار الحسد وأضراره المادية والمعنوية وتبعاته الفردية والاجتماعية كثيرة جدّا، وما ذكرناه إنّما هو في الحقيقة جدول سريع عن بعض هذه الآثار والمضار.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/272.

54. العذاب والجلود

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈54⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 56]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

هريرة:

روي عن أبي هريرة (ت 58 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: يعظم الكافر في النار مسيرة سبع ليال، ضرسه مثل أحد، وشفاههم عند سررهم(1).. سود زرق مقبوحون(2).

2. روي أنّه قال: ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع(3).

__________

(1) السرر: جمع سُرَّة، وهي ما يبْقى بعد القَطع ممّا تقطعه القابِلة عند الولادة، النهاية (سرر).

(2) ابن المنذر ٢/٧٥٧.

(3) تفسير البغوي ٢/٢٣٧.

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: تلا رجل عند عمر: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾، فقال كعب: عندي تفسير هذه الآية، قرأتها قبل الإسلام، فقال: هاتها يا كعب، فإن جئت بها كما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صدقناك، قال إني قرأتها قبل الإسلام: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة، فقال عمر: هكذا سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾، إذا احترقت جلودهم بدلناهم جلودا بيضاء أمثال القراطيس(2).

__________

(1) أبو نعيم في الحلية ٥/٣٧٤ – ٣٧٥،قال ابن رجب في كتاب التخويف من النار ص ١٧٢.

(2) ابن جرير ٧/١٦٣.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿عَزِيزًا حَكِيمًا﴾، يقول: عزيزا في نقمته إذا انتقم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٨٣.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال في الآية: تأخذ النار، فتأكل جلودهم، حتى تكشطها عن اللحم، حتى تفضي النار إلى العظام، ويبدلون جلودا غيرها، فيذيقهم الله شديد العذاب، فذلك دائم لهم أبدا بتكذيبهم رسول الله، وكفرهم بآيات الله(1).

__________

(1) ابن المنذر ٢/٧٥٩.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ما بين جلده ولحمه دود، لها جلبة كجلبة حمر الوحش(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/٣٣٠.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿سَوْفَ﴾، وعيد(1).

2. روي أنّه قال في الآية: بلغني أنه يحرق أحدهم في اليوم سبعين ألف مرة، كلما نضجت وأكلت لحومهم قيل لهم: عودوا، فعادوا(2).

3. روي أنّه قال: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾، تنضج النار كل يوم سبعين ألف جلد، وغلظ جلد الكافر أربعون ذراعا، والله أعلم بأي ذراع(3).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٨٢.

(2) ابن أبي شيبة ١٣/١٦٣.

(3) ابن جرير ٧/١٦٤.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾، يقول: كلما احترقت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٦٣.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾ معناه نشويهم بالنّار وننضجهم بها(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 121.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: يبدل الجلد جلدا غيره من لحم الكافر، ثم يعيد الجلد لحما، ثم يخرج من اللحم جلدا آخر(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/٣٣٢.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: سمعنا أنه مكتوب في الكتاب الأول: إن جلد أحدهم أربعون ذراعا، وسنه سبعون ذراعا، وبطنه لو وضع فيه جبل لوسعه، فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلودا غيرها(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/١٦٤.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي عن حفص بن غياث القاضي، قال: كنت عند سيد الجعافرة الإمام الصادق لما أقدمه المنصور، فأتاه ابن أبي العوجاء، وكان ملحدا، فقال له: ما تقول في هذه الآية: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ هب هذه الجلود عصت فعذبت، فما بال الغير؟ قال الإمام الصادق أنّه قال: ويحك، هي هي، وهي غيرها، قال: أعقلني هذا القول، فقال له: أرأيت لو أن رجلا عمد إلى لبنة فكسرها، ثم صب عليها الماء وجبلها، ثم ردها إلى هيئتها الاولى، ألم تكن هي هي، وهي غيرها؟ فقال: بلى، أمتع الله بك(1).

2. روي عن حفص بن غياث، قال: شهدت المسجد الحرام وابن أبي العوجاء يسئل الإمام الصادق عن قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ ما ذنب الغير؟ قال: ويحك، هي هي، وهي غيرها، قال: فمثل لي ذلك شيئا من أمر الدنيا، قال: نعم، أرأيت لو أن رجلا أخذ لبنة فكسرها ثم ردها في ملبنها فهي هي، وهي غيرها(2).

3. روي أنه قيل له: كيف تبدل جلودا غيرها؟قال: أرأيت لو أخذت لبنة فكسرتها وصيرتها ترابا، ثم ضربتها في القالب التي كانت، أهي التي كانت، إنما هي تلك وحدث تغيير آخر، والأصل واحد(3).

__________

(1) أمالي الشيخ الطوسي 2/193.

(2) الاحتجاج: 354.

(3) تفسير القمّي 1/141.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ثم أخبر بمستقر الكفار، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: اليهود ﴿بِآيَاتِنَا﴾ يعني: القرآن ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ﴾ يعني: احترقت ﴿جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ جددنا لهم جلودا غيرها، وذلك أن النار إذا أكلت جلودهم بدلت كل يوم سبع مرات على مقدار كل يوم من أيام الدنيا؛ ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ عذاب النار جديدا(1).

3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا﴾ في نقمته، ﴿حَكِيمًا﴾ حكم لهم النار(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٨٠.

ابن إسحاق:

روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: العزيز في نصرته ممن كفر إذا شاء(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٨٣.

ابن سلام:

روي عن يحيى بن سلام (ت 200 هـ) أنّه قال: بلغنا: أنها تأكل كل شيء، حتى تنتهي إلى الفؤاد، فيصيح الفؤاد، فلا يريد الله أن تأكل أفئدتهم، فإذا لم تجد شيئا تتعلق به منهم خبت، أي: سكنت، ثم يعادون خلقا جديدا، فتأكلهم كلما أعيد خلقهم(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين ١/٣٨١.

الهادي إلى الحق:

ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي:

1. سؤال وإشكال: في قول الله تبارك وتعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 56]، كيف يعذب الله جلودا لم تعصه كلما نضج منها جلد بُدِّل جلداً غيره؟ والجواب: إن الله عدل لا يجور، لا يعذب إلا من عصاه، ولم يكن ليعذب جلودا لم تعصه لذنب من قد عصاه، وأنى يكون ذلك!؟ وهو يقول سبحانه: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164] وإنما الجلود التي يبدل الله هي الجلود التي عصت، وفي النار أوَّلا أُحرقت، وإنما معنى قوله: ﴿بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ أي: رددنا خلقها وأحييناها بعد مماتها، وصورناها جلودا بعد احراقها، وهي هي بعينها، تحرق وترد وتحرق وترد، كما كانت أوَّلا عند مماتها، ودخلوها في أجداثها، فمزقت وبليت، واضمحلت وفنيت، ثم ردت فعذبت، وخلقت خلقا جديدا بعد امتحاقها، وإنما معنى قوله سبحانه: ﴿بَدَّلْنَاهُمْ﴾ يريد غير الصفة التي كانت عليها، وهي هي على حالها، فتبدل وتنقل وتغير وهي في أنفسها، ومثلها في ذلك: كمثل رطل من فضة صنعت كوزاً، ثم كسرت فجعلت حليا، ثم كسرت فصنعت نعلاً، ثم كسرت فرجعت عقودا، فالفضة هي الفضة بعينها، وأنت تبدلها في الصور والحالات، وتقلبها إلى ما تريد من الصناعات، فهي كوزمرة، وهي حلي تارة، فعلى هذا يخرج معنى ما ذكر الله من تبديل جلود العباد، فتبارك الواحد ذو الأياد.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾، أي كلما أحرقت جلودهم، بدلناهم جلوداً حية غير تلك الحراقة، وهي هي بعينها، ولكنها بدلت حية بعد ما احترقت، وأنشأت على غير الصفة الأولى وبدلت.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/243.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سؤال وإشكال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾.. إلى قوله: ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ فإن قيل: كيف يجوز أن يبدلوا جلوداً غير جلودهم التي كانت في الدنيا فعذبوا فيها ولو جاز ذلك لجاز أن يبدلوا أرواحاً غير أجسامهم وأرواحهم التي كانت في الدنيا، ولو جاز ذلك لجاز أن يكون المعذبون في الآخرة بالنار غير الذين أوعدهم الله في الدنيا العذاب على كفرهم؟

والجواب: عن هذا ثلاثة أجوبة:

أ. أحدها: أن ألم العذاب إنما يصل إلى الإنسان الذي هو اللحم والجلد وإنما يحرق الجلد ليصل إلى الإنسان ألم العذاب فأما الجلد واللحم فلا يألمان سواء أعيد على الكفر جلده الذي كان عليه في الدنيا أو غيره.

ب. الثاني: أنها تعاد تلك الجلود الأولى جديدة غير محرقة.

ج. الثالث: أن الجلود المعادة إنما هي سرابيلهم من قطران جعلت لهم لباساً فسماها الله جلوداً فعلى هذا يجوز إحراق الجلود ثم إعادتها غير محرقة لأن في حال إحراقها إلى حال إعادتها فناؤها وفي فنائها راحتها وقد أخبر الله عز وجل أنها لا تموت ولا يخفف عنهم العذاب.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/182.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله عزّ وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا﴾:

أ. يحتمل الآيات: أعلام الدين وآثاره.

ب. ويحتمل الآيات: آيات الربوبية له.

ج. ويحتمل الآيات: أعلام رسالة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فيكون الكفر بها كفرا بالله.

2. قوله تعالى: ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾:

أ. قيل: ﴿نُصْلِيهِمْ﴾: ندخلهم.

ب. وقيل: ﴿نُصْلِيهِمْ﴾: نشويهم؛ يقال: شاة مصلية، أي: مشوية.

3. ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ كلما احترقت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها، أي: جددنا لهم جلودا غيرها؛ ليزدادوا فعل ذلك في حق الضمان؛ فهذا يدل أن هذه الجوارح كالمكرهات والمقهورات لحقت النفس حيث كانت، ثم معلوم: أن من أسلم في آخر عمره يتمنى سلامة جوارحه التي كانت ذهبت عنه؛ ليعمل بها في طلب مرضاة ربه تعالى وكذلك من كفر بعد الإسلام يتمنى سلامة جوارحه؛ ليستعملها، مشوبة بالآفات والعيوب، فإذا صفت عن الآفات، ونزهت عن العيوب التي بها امتحنت ـ صارت أهلا للثواب العظيم، ومحلا للجزاء الجزيل، وبالله العصمة والنجاة.

﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ أما ذوق الطعام والشراب يكون بالفم؛ ليعرف طعمه ولذته، وأما ذوق العذاب فإنما يكون بكل جارحة منه؛ ليجد ألم ذلك في جميع الجوارح والذوق في العرف جعل ليعرف الطعم، يلقب به كل شيء يعرف؛ يقال: لفلان ذوق في أمر كذا: أي بصر ومعرفة.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾:

أ. قيل: العزيز: هو ما يتعزز وجوده في الشاهد.

ب. وقيل: هو عزيز لا يعجز، فهو عزيز لما لا يوجد في الأفهام، ولا يدرك بالأوهام.

ج. وقيل: العزيز: المنتقم‏، وقد ذكرناه‏ في غير موضع.

5. ﴿بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ أي: غير الجلود النضيجة؛ كقوله تعالى: ﴿أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [الرعد: 5]:

أ. أي: تجدد ما قد فني، وكذلك أعيد ما قد كان من الجلود قبل النضج جديدا في رأي العين من حيث صار الأول نضيجا، لا أن كان هذا غير الأول، بل هو الأول غير نضيج؛ إذ ذلك نعت الأول، وتعذيب ما كان ارتكب المعصية؛ لأن التعذيبـ في الحقيقة ـ على غير الذي أثم فيه،

ب. وقال قائلون: الجلود والعظام ونحو ذلك لم تكن عصت ولا أطاعت، بل استعملت قهرا وجبرا، لا أنها عملت طوعا، لكن الذي به عملت والذي استعملها في الجسد به يتلذذ، وأجساد أهل النار مشوهة قبيحة؛ ليكون لهم في التقبيح عقوبة، وللأول بالتحسين ثواب، فكانت فيها أحوال للجزاء لم تكن للأعمال، فثبت أن المثاب والمعاقب ما ذكرت، لكنه يتألم ويتلذذ، فجعلت على ما بها تمام اللذة والألم من الأجساد لا على إعادة أنفس تلك الأجساد، بل على التجديد، كما ذكره في القرآن، وكذلك المقطوع على بعض الأعضاء في حال الكفر إذا أسلم يبعث سليما، لا كذلك، ومثله في حال الإسلام لو أريد لم يرفع عنه ألم ذلك؛ فدل الذي ذكرت على حق تجدد الثاني على ما شاء الله والذي به كان المأثم والبر على ما قد كان وللمذهب الأول أن الجزاء هو لما يختم عليه؛ إذ لو كان إسلام لتمنى لنفسه أحسن الأحوال، وأسلم البنية ليستعملها بالخير، فأوجب ذلك إبطال جميع السيئات كانت بجوارح ذهبت أو بقيت، وكذلك من اختار الكفر فقد آثره، واختار أن يكون على ذلك، وإن سلمت جوارحه وتمت فلزمه حكم احتياط جميع ما تقدم بكل فائت منه وباق، وفي الأول استوجب جعل جميع ما تقدم منه بالفائت والباقى حسنات لما ندم عن الكل بكل الجوارح، فلحق حكم تبديل السيئات بالحسنات في الكل؛ فيكون على حكم إعادة الأولى بحق التجديد في المعنى‏ نحو قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ [آل عمران: 22] وقوله: ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ الآية [الفرقان: 70] وفي الإعادة كقوله تعالى: ﴿مَنْ يُعِيدُنَا﴾ الآية [الإسراء: 51]، وقوله عزّ وجل: ﴿أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ الآية [الرعد: 5]، وغير ذلك من آيات البعث.

ج. وقال قائلون: الواجب من العقوبة للكفر، وغيره بحكم التبع له، وكذلك الثواب الواجب منه‏؛ فعلى ذلك أمر الجزاء والتجديد والإعادة، وكل ذلك للذى هو بحق التبع، والاتباع في الشاهد بتجدد أعين الأفعال، ولا يدوم، والاعتقاد في الأمرين يدوم، فعلى ذلك أمر الجزاء ولذلك، ولهذا الوجه ما يبطل الخلود لما سوى الكفر؛ إذ في ذلك إبطال الجزاء الدائم من حيث الأفعال، وإدامة الجزاء المنقطع من حيث الأفعال، فيكون فيه زيادة في العقوبة على المثل، والله يقول: ﴿فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا﴾ [الأنعام: 160]

6. ثم اختلف في المبعوث أنه يبعث بجسده أو يبعث الروحاني منه، سمته بعض الفلاسفة نفسا، وبعضهم جوهرا روحانيّا، وبعضهم بسيطا، فإن كل‏ جسد فيه روحاني في حياته ومنافعه؛ وجسده له كالمانع عن جميع ما يحتمل من الأمور؛ إذ الجوهر الروحاني لطيف، ينفذ في الأشياء، ويتخلل إلا بالحابس، يبين ذلك أمر النائم أن النفس تخرج لقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر: 42]، أو هي مما يسكن الجوارح وينقطع عنها هم الجسدية يرجع إلى حصة جوهره فيراها تطوف في البلاد النائية في الأمكنة العلوية، حتى لا تصفها أرض ولا سماء تأتى بالأخبار عنها كأنها شاهدة، أما ما كان ذلك عملها بالجوهر حيث يكون من النفاذ إذا لم تحبس، أو هي بالجوهر تخرج فتعمل ذلك وهي تسمع وتبصر وتعقل في المنام كأنها بالجسد كذلك؛ فدل أن العمل في حال اليقظة وما له الجزاء لها، فعلى ذلك أمر الجزاء، وعلى ذلك جميع الجواهر التي بها الأغذية والحياة ليست بأعين تلك الأشياء، ولكن بما جعل في سريتها من الروحاني، وهي القوى التي تظهر في البدن إلى كل أجزاء البدن، فتقوى وتصح فيه‏، ويخرج عنها جميع ما فيها من الأقوية والروح، فثبت أن الأمر يرجع إلى ما ذكرت، وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) لأن ذلك الجوهر ولذة الأجساد إنما يكون باللهاة في الطعم، وبالعين في اللون، وهذا النوع، فيذهب هذا، ويكون الأول، وعلى ذلك تذهب العبادات الجسدانية، وتبقى الروحانية من الحمد، والثناء، والتعظيم، والهيبة، والمعرفة، ونحو ذلك يبقى أبدا، بل يزداد؛ لما يذهب عنها الحواجب من الجسداني، وعلى ذلك يبطل تقدير الرؤية، وإبطاله مما عليه أمر الشاهد لذهاب ما به كونها في الشاهد، ورجوع الأمر إلى ما يحاط به على سقوط الحواجب.

7. اختلف من ذكرت في أمر البعث:

أ. فمنهم من لا يرى على ما في الجسد من الروحانى فناء، والبعث هو إسقاط الأجساد وخروج ما فيها من الروحاني بصورها.

ب. ومنهم من يقول: تفنى وتعاد على حالها، ومعلوم أن ذكر الجديد لا يحتمل بلا ذهاب الأصل، وذكر الإعادة بلا فوته، وقال: ﴿مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الإسراء: 51]، وجعل إنشاء الأولى دلالة للأخرى، وليس ثمّ أخرى، بل هي الأولى، والأولى هي ـ على ما يزعمون ـ غير معروفة عند المنكرين؛ فيحتج عليهم بها، بل يجب أن يعرفوا الأولى أولا، ثم يساعدوا على نفي البعث، ويلزموا الإظهار، والدهرية ومنكري البعث يقولون في جميع العالم بالظهور بعد الكون، وبالكون في الأصول بالقوة، ثم الظهور بالفعل، فكيف ينكرون البعث ليحتج عليهم بالخلق الأول!؟

د. وقال قوم بالبعث بالأجساد على ما كانت، لكنها كانت في الدنيا منشأة للفناء، مشتمل عليها آثار الفناء، ويحيط بها أعلام الهلاك، ومن آفات كلها وسواتر تحجبن عن أعمال لطائف الجواهر، وعن إدراك الروحانيين، وإلا فهي كما وصفهم الله تعالى أنه خلقهم في أحسن تقويم، وكرمهم بأقوم جوهر، وأكمل أسر، وأنقى خلقة، فإذا وقعت عليهم الآفات، وأعيدوا للبقاء؛ فيزول عنهم جميع الظلمات التي هن حواجب وسواتر لهم على الإحاطة بحقائق الأشياء وبواطنها، وعلى شكلهم تنشأ الأجساد المجعولة أجزاء لهم، فيلحقون بجميع اللطائف جسدا بما فيها من الجوهر الروحاني وتصير هذه في اللطف كذلك الجوهر، وهي لما تنقل إلى ألطف من ذلك، وأنور لهم كالأرواح؛ فيفضلون على الروحانيين بأجساد فيها معانيها من اللطافة، والنفاذ في الأمور التي هي كالروحانيين في التمثيل وما فيهم حق الروحانيين ألطف من ذلك بارتفاع آثار الفناء عنها، وخروجها من أن يعمل فيها الفساد، وعلى ذلك أجساد الجزاء، فإنها تخرج عن الآفات، وتمنع عن الفساد، وتصير أجسادها في الطيب والضياء كالروحاني، وما فيها من الروحاني يبقى فيها على كل حال لا يفنى، والأصل فيه أن الجزاء بحق الشهوات واللذات، لا بحق الأغذية وحياة أجساد المستنفعين بها، فتكون هي بجسدها وسريتها واحدة، وبقاء الأجساد لها أحق من بقاء الروحاني في هذا العالم من طريق الاعتبار؛ لأن الذي له حق الروحاني في الشاهد به البقاء والغذاء والحياة لا يدفع بها الآفات العارضة في الأرواح من جهة القوالب التي تضعف وتقوى، وفي الآخرة لا تعرض الآفات التي يحتاج فيها إلى الأغذية، وإنما ينال عنها الشهوات واللذات، وإنما يكون ذلك من حق الأجساد في الشاهد؛ لذلك كانت أحق أن تكون في الآخرة، ثم هذا القول أوفق بما جاء به من حجج السمع وما عليه الاعتبار:

فأما حجج السمع: فإن الله عزّ وجل قال: ﴿إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ﴾.. الآية [الحج: 5]، وقال: ﴿أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا﴾.. الآية [الإسراء: 49]، وقال عزّ وجل: ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ الآية [يس: 78 ـ 79]، وغير ذلك مما حاج به منكري البعث، والإشكال كان لهم في الأجساد، وفيها جرت المحاجاة؛ لذلك كانت هي أولى في الاعتبار مع ما كانت الأشياء اللطيفة التي لا تمس ولا تحس في التجديد لم يكن بحيث احتمال الإنكار لوجودهم في كل حال؛ نحو العقول تذهب بأسباب ثم تعود، وكذلك العلوم والسمع والبصر، ونحو ذلك، ثم الحسيات اللطائف: نحو الليل، والنهار، والنور، والظلمة، والظل، ونحو ذلك يرون الفناء والعود في كل حين لا ينكرون هذا النوع؛ ليحاجوا بالذي ذكر وبهذا؛ فلذلك كان القول بالأجساد أحق.

والاعتبار أن الله سبحانه وتعالى أنشأ هذا الخلق على ما يتلذذون ويتألمون؛ ليكون ذلك علما للترغيب والترهيب بالموعود، وما يحل من الآفات وأضدادها في الروحاني في‏ الجسد يكون له سرور وحزن، لا يتألم ويتلذذ، وقد جرى الوعد بالمؤلم والملذ، وكذلك حكمة خلق الجسد على ذلك بما يحقق العلم بالمرغب والمرهب من الموعود، على أن السرور والغموم ليسا بحيث يرغب فيهما أو يزهد إلا من حيث يألم الجسد ويتلذذ، بل كلّ يكون فيه الأمران؛ ليسر ويحزن؛ فلذلك كان القول بالأجساد أحق من طريق التقدير على ما جرى به حق السمع والعقل، والله أعلم بحقيقة ذلك، وبيده الملك، يكرم من شاء بما شاء؛ فضلا منه، ويهين من شاء؛ بما شاء عدلا منه.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/214.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾ إلى قوله: ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ كيف يجوز أن يبدّلوا جلودا غير جلودهم التي كانت لهم في الدنيا فيعذبوا فيها؟ ولو جاز ذلك لجاز أن يبدّلوا أجساما، وأرواحا، غير أجسامهم وأرواحهم التي كانت في الدنيا، ولو جاز ذلك لجاز أن يكون المعذبون في الآخرة بالنار غير الذين وعدهم الله في الدنيا على كفرهم بالعذاب بالنار، والجواب: قد أجاب أهل العلم عنه بثلاثة أجوبة:

أ. أحدها: أن ألم العذاب إنما يصل إلى الإنسان الذي هو غير الجلد واللحم، وإنما يحرق الجلد ليصل إلى الإنسان ألم العذاب، فأما الجلد واللحم فلا يألمان فسواء أعيد على الكافر جلده الذي كان عليه وجلد غيره.

ب. الثاني: أنه تعاد تلك الجلود الأولى جديدة غير محترقة.

ج. الثالث: أن الجلود المعادة إنما هي سرابيلهم من قبل أن جعلت لهم لباسا، فسماها الله جلودا، وأنكر قائل هذا القول أن تكون الجلود تحترق وتعاد غير محترقة، لأن في حال احتراقها إلى حال إعادتها فناءها، وفي فنائها راحتها، وقد أخبر الله تعالى: أنهم لا يموتون ولا يخفف عنهم العذاب.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/498.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أخبر الله تعالى في هذه الآية أن من جحد معرفته وكذَّب أنبياءه، ودفع الآيات التي تدل على توحيده، وصدق نبيه أنه صوف يصليه ناراً لتدل على أن ذلك يفعله بهم في المستقبل، ولم يكن دخولها للشك، لأنه تعالى عالم بالأشياء لا يخفى عليه أمر من الأمور.

2. معنى نصليه ناراً: نلزمه إياها تقول: أصليته النار: إذا ألقيته فيها، وصليته صلياً: إذا شويته: وشاة مصلية أي مشوية، والصلا الشواء، وصلي فلان بشر فلان، وصلي برجل سوء.

3. في قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: قال الرماني: إن الله يجدد لهم جلوداً غير الجلود التي احترقت وتعدم المحترقة على ظاهر القرآن من أنها غيرها، لأنها ليست بعض الإنسان، قال قوم هذا لا يجوز، لأنه يكون عذب من لا يستحق العذاب، قال الرماني: لا يؤدي إلى ذلك، لأن ما يزاد لا يألم، ولا هو بعض لما يألم، وإنما هو شيء يصل به الألم إلى المستحق له، وقال الجبائي: لا يجوز أن يكون المراد ان يزاد جلداً على جلده، كلما نضجت لأنه لو كان كذلك لوجب أن يملأ جسد كل واحد من الكفار جهنم إذا أدام الله العقاب، لأنه كلما نضجت تلك الجلود زاد الله جلدا آخر، فلا بد أن ينتهي إلى ذلك.

ب. الثاني: اختاره البلخي والجبائي، والزجاج: ان الله تعالى يجددها بان يردها إلى الحالة التي كانت عليها غير محترقة، كما يقال جئتني بغير ذلك الوجه وكذلك، إذا جعل قميصه قباء جاز أن يقال جاء بغير ذلك اللباس أو غير خاتمه فصاغه خاتماً آخر جاز أن يقال هذا غير ذلك الخاتم، وهذا هو المعتمد عليه.

ج. الثالث: قال قوم: إن التبديل إنما هو للسراويل التي ذكرها الله في قوله: ﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ﴾ فأما الجلود فلو عذبت ثم أوجدت، لكان فيه تفتير عنهم، وهذا بعيد، لأنه ترك للظاهر وعدول بالجلود إلى السرابيل، ولا نقول إن الله تعالى يعدم الجلود بل على ما قلناه يجددها ويطريها بما يفعل فيها من المعاني التي تعود إلى حالتها، فأما من قال إن الإنسان غير هذه الجملة، وأنه هو المعذب، فقد تخلص من هذا السؤال، ويقوَّي ما قلناه ان أهل اللغة يقولون: أبدلت الشيء بالشيء إذا أزلت عيناً بعين، كما قال الراجز: (عزل الأمير بالأمير المبدل)‏

4. بدلت ـ بالتشديد ـ إذا غيرت هيئة، والعين واحدة، يقولون: بدَّلت جنتي قميصاً: إذا جعلتها قميصاً ذكره المغربي، وقال البلخي: ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يخلق الله لهم جلداً آخر فوق جلودهم، فإذا احترق التحتاني أعاده الله، وهكذا يتعقب الواحد الآخر قال ويحتمل أن يخلق الله لهم جلداً لا يألم يعذبهم فيه، كما يعذبهم في سرابيل القطران.

5. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ مع أنه دائم لازم؟ والجواب: لأن احساسهم في كل حال كاحساس الذائق في تجدد الوجدان من غير نقصان، لأن من استمر على الأكل، لا يجد الطعم، كما يجد الطعم من يذوقه.

6. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ معناه أنه قادر قاهر لا يمتنع عليه انجاز ما توعد به أو وعد، وحكيم في فعله لا يخلف وعيده، ولا يفعل إلا قدر المستحق به فينبغي للعاقل أن يتدبره، ويكون حذره منه على حسب علمه به ولا يغترَّ بطول الامهال، والسلامة من تعجيل العقوبة.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/231.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. التبديل: التغيير، والتبديل يطلق على تغيير الصفة، وإن كان العين باقيًا بحاله، كما تقول: بدلت خاتمي، وهذا غير ذلك، أو غيرت صفته، وكما أنه تعالى يفني الخلق ثم يعيده فيجوز أن يقال: هذا غيره، وإن كان العين هو، وقد يكون التبديل بأن يوضع غيره موضعه، وقد قيل: في قوله: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ﴾ الوجهان.

ب. أصليته النار إصلاء إذا ألقيته فيها، وألزمته إياها.

2. لما تقدم ذكر المؤمنين والكفار أعقبه بذكر الوعد والوعيد، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا﴾ أي جحدوا حجتنا ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾:

أ. قيل: أي نلزمهم نارًا نحرقهم ونعذبهم بها.

ب. وقيل: نصيرهم وقودًا لها عن أبي مسلم.

3. ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ﴾ لانت واحترقت ﴿بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ فيه أربعة أقوال:

أ. الأول: أنه يجدد لهم جلودًا غير الجلود التي احترقت على ظاهر التلاوة، وهي في الحقيقة غيرها عن قتادة وجماعة من المفسرين وهو الأوجه، ولا يقال: إن الجلد المجدد لم يذنب، فكيف يعذب!؟ وذلك لأن المعذب هو الحي، فلا اعتبار بالأطراف والجلود.

ب. الثاني: أنها تجدد بأن يزيل ما بها من الاحتراق، ويعيدها إلى ما كان، وقد يقال في مثله غَيَّرَ وبدل عن الحسن وأبي علي وأبي مسلم، قال القاضي: وهذا أقرب الوجوه، وقوى أبو علي ذلك بأنه لو أعاد جلدًا آخر لعظم جسم المعاقب على مرور الأوقات، وهذا لا يلزم لجواز أن يزيد شيئًا وينقص مثله، فلا يؤدي إلى ما قال.

ج. الثالث: أن التبديل إنما هو للسراويل، وسميت بذلك للزومهم جلود هم على المجاورة، وهذا تَرْك للظاهر من غير دليل.

د. الرابع: أنه يبدل الجلود من لحم الكافر، فيخرج من لحمه جلدًا آخر عن السدي، وعن الحسن: ينضحهم في اليوم سبعين ألف مرة، وعن معاذ أنه كان عند عمر فقرأ وجل الآية، فقال معاذ: يبدل في ساعة مائة مرة، فقال عمر: هكذا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾:

أ. قيل: ليجدوا ألم العذاب، وإنما سماه ذوقًا؛ لأن أجسامهم تتجدد في كل وقت كإحساس الذائق في تجديد الوجدان من غير نقصان في الإحساس.

ب. وقيل: ليذوقوا العذاب بتبديل جلودهم، أي ليكونوا بتجديد جلودهم يزيدهم عذابًا عن الأصم.

5. ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ﴾ أدخل ﴿كَانَ﴾ لينبه أنه على تلك الصفة لم يزل ﴿عَزِيزًا﴾:

أ. قيل: قادر لا يمتنع عليه إنجاز جميع ما أوعد، حكيم في وعيده يضعه مواضعه ولا يخلف ذلك.

ب. وقيل: قادر على تجديد جلودهم حكيم فيها.

ج. وقيل: قادر على عذابهم حكيم فيما فعل بهم من عذابه.

6. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن عذاب الكفار دائم.

ب. أن النار تؤثر في جلودهم، وأنه يعيدها صحيحة حالاً بعد حال، والصحيح فيه القولان الأولان.

7. قراءة العامة ﴿نُصْلِيهِمْ﴾ بضم النون من أَصْلَيْتُهُ النار إصلاءً إذا ألقيته فيها، وعن حميد ابن قيس بفتح النون من صليته صليًا، أي يشويهم، يقال: شاة مَصْلِيَّة، أي مشوية.

8. ﴿نَارًا﴾ نصب لوقوع الفعل عليه على قراءة من قرأ بضم النون، تقديره: يلزمه نارًا، وعلى فتح النون بنزع الخافضة، أي نصليه بنار ونشويه بها.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/670

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. يقال أصليته النار: إذا ألقيته فيها، وصليته صليا: إذا شويته، وشاة مصلية: مشوية، والصلاء: الشواء، وصلى فلان بشر فلان.

ب. التبديل: التغيير، يقال: أبدلت الشئ بالشئ: إذا أزلت عينا بعين، كما قال الشاعر (عزل الأمير بالأمير المبدل)، وبدلت بالتشديد: إذا غيرت هيئته والعين واحدة، يقولون: بدلت جبتي قميصا: أي جعلتها قميصا، ذكره المغربي، وقد يكون التبديل بأن يوضع غيره موضعه، قال الله: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ﴾

2. لما تقدم ذكر المؤمن والكافر، عقبه بذكر الوعد والوعيد، على الايمان والكفر، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا﴾ أي جحدوا حججنا، وكذبوا أنبياءنا، ودفعوا الآيات الدالة على توحدنا، وصدق نبينا ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾ أي نلزمهم نارا نحرقهم فيها، ونعذبهم بها، ودخلت ﴿سَوْفَ﴾ لتدل على أنه يفعل ذلك بهم في المستقبل.

3. في قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ أقوال:

أ. أحدها: إن الله تعالى يجدد لهم جلودا غير الجلود التي احترقت على ظاهر القرآن، في أنها غيرها، عن قتادة، وجماعة من أهل التفسير، واختاره علي بن عيسى، سؤال وإشكال: من قال على هذا، إن هذا الجلد المجدد، لم يذنب، فكيف يعذب من لا يستحق العذاب؟ والجواب: إن المعذب الحي، ولا اعتبار بالأطراف والجلود، وقال علي بن عيسى: إن ما يزاد، لا يؤلم، ولا هو بعض لما يؤلم، وإنما هو شئ يصل به الألم إلى المستحق له.

ب. ثانيها: إن الله يجددها بأن يردها إلى الحالة التي كانت عليها غير محترقة، كما يقال: جئتني بغير ذلك الوجه، إذا كان قد تغير وجهه من الحالة الأولى، كما إذا انكسر خاتم، فاتخذ منه خاتما آخر، يقال: هذا غير الخاتم الأول، وإن كان أصلهما واحدا، فعلى هذا يكون الجلد واحدا، وإنما تتغير الأحوال عليه، وهو اختيار الزجاج، والبلخي، وأبي علي الجبائي.

ج. ثالثها: إن التبديل إنما هو للسرابيل التي ذكرها الله تعالى: ﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ﴾ وسميت السرابيل الجلود على سبيل المجاورة، للزومها الجلود، وهذا ترك للظاهر بغير دليل.

4. على القولين الأخيرين: لا يلزم سؤال التعذيب لغير العاصي، فأما من قال: إن الانسان غير هذه الجملة المشاهدة، وإنه المعذب في الحقيقة، فقد تخلص من هذا السؤال.

5. ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ معناه: ليجدوا ألم العذاب، وإنما قال ذلك ليبين أنهم كالمبتدأ عليهم العذاب في كل حالة فيحسون في كل حالة ألما، لكن لا كمن يستمر به الشئ، فإنه يصير أخف عليه.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا﴾:

أ. قيل: أي لم يزل منيعا لا يدافع، ولا يمانع.

ب. وقيل: معناه أنه قادر لا يمتنع عليه إنجاز ما توعد به، أو وعده.

7. ﴿حَكِيمًا﴾ في تدبيره وتقديره، وفي تعذيب من يعذبه.

8. روى الكلبي عن الحسن قال: (بلغنا أن جلودهم تنضج كل يوم سبعين ألف مرة)

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/97.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾ قال الزجّاج: أي نشويهم في نار، ويروى أن يهوديّة أهدت إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم شاة مصليّة، أي مشوية.

2. في قوله تعالى‏ ﴿بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنها غيرها حقيقة، ولا يلزم على هذا أن يقال: كيف بدّلت جلود التذّت بالمعاصي بجلود ما التذّت، لأن الجلود آلة في إيصال العذاب إليهم، كما كانت آلة في إيصال اللذّة، وهم المعاقبون لا الجلود.

ب. الثاني: أنها هي بعينها تعاد بعد احتراقها، كما تعاد بعد البلى في القبور، فتكون الغيريّة عائدة إلى الصّفة، لا إلى الذّات، فالمعنى: بدّلناهم جلودا غير محترقة، كما تقول: صغت من خاتمي خاتما آخر، وقال الحسن البصريّ: في هذه الآية: تأكلهم النار كلّ يوم سبعين ألف مرّة، كلّما أكلتهم قيل لهم: عودوا، فعادوا.

__________

(1) زاد المسير: 1/423.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

بعد ما ذكر الله تعالى الوعيد بالطائفة الخاصة من أهل الكتاب بين ما يعم الكافرين من الوعيد فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا﴾ ويدخل في الآيات كل ما يدل على ذات الله وأفعاله وصفاته وأسمائه والملائكة والكتب والرسل، وكفرهم بالآيات ليس يكون بالجحد، لكن بوجوه، منها أن ينكروا كونها آيات، ومنها أن يغفلوا عنها فلا ينظروا فيها، ومنها أن يلقوا الشكوك والشبهات فيها، ومنها: أن ينكروها مع العلم بها على سبيل العناد والحسد، وأما حد الكفر وحقيقته فقد ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: 6]

1. (سوف) قال سيبويه: (سوف) كلمة تذكر للتهديد والوعيد، يقال: سوف أفعل، وينوب عنها حرف‏ السين كقوله: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ [المدثر: 26] وقد ترد كلمة (سوف) في الوعد أيضا قال تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى: 5] وقال: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾ [يوسف: 98] قيل أخره إلى وقت السحر تحقيقا للدعاء، وبالجملة فكلمة (السين) و(سوف) مخصوصتان بالاستقبال.

2. ﴿نُصْلِيهِمْ﴾ أي ندخلهم النار، لكن قوله: ﴿نُصْلِيهِمْ﴾ فيه زيادة على ذلك فإنه بمنزلة شويته بالنار، يقال شاة مصلية أي مشوية.

3. سؤال وإشكال: حول قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ لما كان تعالى قادرا على إبقائهم أحياء في النار أبد الآباد فلم لم يبق أبدانهم في النار مصونة عن النضج والاحتراق مع أنه يوصل إليها الآلام الشديدة، حتى لا يحتاج إلى تبديل جلودهم بجلود أخرى؟ والجواب: أنه تعالى لا يسأل عما يفعل، بل نقول: انه تعالى قادر على أن يوصل إلى أبدانهم آلاما عظيمة من غير إدخال النار مع انه تعالى أدخلهم النار،

4. سؤال وإشكال: الجلود العاصية إذا احترقت فلو خلق الله مكانها جلودا أخرى وعذبها كان هذا تعذيبا لمن لم يعص وهو غير جائز، والجواب: من وجوه:

أ. الأول: أن يجعل النضج غير النضيج، فالذات واحدة والمتبدل هو الصفة، فإذا كانت الذات واحدة كان العذاب لم يصل إلا إلى العاصي، وعلى هذا التقدير المراد بالغيرية التغاير في الصفة.

ب. الثاني: المعذب هو الإنسان، وذلك الجلد ما كان جزأ من ماهية الإنسان، بل كان كالشيء الملتصق به الزائد على ذاته، فإذا جدد الله الجلد وصار ذلك الجلد الجديد سببا لوصول العذاب إليه لم يكن ذلك تعذيبا الا للعاصي.

ج. الثالث: أن المراد بالجلود السرابيل، قال تعالى: ﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ﴾ [إبراهيم: 50] فتجديد الجلود إنما هو تجديد السرابيلات، طعن القاضي فيه، فقال: انه ترك للظاهر، وأيضا السرابيل من القطران لا توصف بالنضج، وإنما توصف بالاحتراق.

د. الرابع: يمكن أن يقال: هذا استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع، كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام: كلما انتهى فقد ابتدأ، وكلما وصل إلى آخره فقد ابتدأ من أوله، فكذا قوله: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ يعني كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا، فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه.

هـ. الخامس: قال السدي: أنه تعالى يبدل الجلود من لحم الكافر فيخرج من لحمه جلدا آخر وهذا بعيد، لأن لحمه متناه، فلا بد وأن ينفد، وعند نفاد لحمه لا بد من طريق آخر في تبديل الجلد، ولم يكن ذلك الطريق مذكورا أولا والله أعلم.

5. ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ أي ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع، كقولك للمعزوز: أعزك الله، أي أدامك على العز وزادك فيه، وأيضا المراد ليذوقوا بهذه الحالة الجديدة العذاب، وإلا فهم ذائقون مستمرون عليه.

6. سؤال وإشكال: إنما يقال: فلان ذاق العذاب إذا أدرك شيئا قليلا منه، والله تعالى قد وصف أنهم كانوا في أشد العذاب، فكيف يحسن أن يذكر بعد ذلك أنهم ذاقوا العذاب؟ والجواب: المقصود من ذكر الذوق الاخبار بأن إحساسهم بذلك العذاب في كل حال يكون كاحساس الذائق المذوق، من حيث أنه لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق.

7. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ والمراد من العزيز: القادر الغالب، ومن الحكيم: الذي لا يفعل إلا الصواب، وذكرهما في هذا الموضع في غاية الحسن، لأنه يقع في القلب تعجب من أنه كيف يمكن بقاء الإنسان في النار الشديدة أبد الآباد! فقيل: هذا ليس بعجيب من الله، لأنه القادر الغالب على جميع الممكنات، يقدر على إزالة طبيعة النار، ويقع في القلب أنه كريم رحيم، فكيف يليق برحمته تعذيب هذا الشخص الضعيف إلى هذا الحد العظيم؟ فقيل: كما أنه رحيم فهو أيضا حكيم، والحكمة تقتضي ذلك، فان نظام العالم لا يبقى إلا بتهديد العصاة، والتهديد الصادر منه لا بد وأن يكون مقرونا بالتحقيق صونا لكلامه عن الكذب، فثبت أن ذكر هاتين الكلمتين هاهنا في غاية الحسن.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 10/106.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تقدم معنى الإصلاء أول السورة، وقرأ حميد بن قيس ﴿نُصْلِيهِمْ﴾ بفتح النون أي نشوئهم، يقال: شاة مصلية، ونصب ﴿نَارًا﴾ على هذه القراءة بنزع الخافض تقديره بنار.

2. ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ﴾ يقال: نضج الشيء نضجا ونضجا، وفلان نضيج الرأي محكمه، والمعنى في الآية: تبدل الجلود جلودا أخر.

3. سؤال وإشكال: إن قال من يطعن في القرآن من الزنادقة: كيف جاز أن يعذب جلدا لم يعصه؟ والجواب: ليس الجلد بمعذب ولا معاقب، وإنما الألم واقع على النفوس، لأنها هي التي تحس وتعرف فتبديل الجلود زيادة في عذاب النفوس، يدل عليه قوله تعالى: ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾، وقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾، فالمقصود تعذيب الأبدان وإيلام الأرواح، ولو أراد الجلود لقال: ليذقن العذاب.

4. وقيل: عنى بالجلود السرابيل، كما قال تعالى: ﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ﴾ سميت جلودا للزومها جلودهم على المجاورة، كما يقال للشيء الخاص بالإنسان: هو جلدة ما بين عينيه، وأنشد ابن عمر:

çيلومونني في سالم وألومهم...وجلدة بين العين والأنف سالمé

فكلما احترقت السرابيل أعيدت، قال الشاعر:

çكسا اللؤم تيما خضرة في جلودها...فويل لتيم من سرابيلها الخضرé

فكنى عن الجلود بالسرابيل.

5. وقيل: المعنى أعدنا الجلد الأول جديدا، كما تقول للصائغ: صغ لي من هذا الخاتم خاتما غيره، فيكسره ويصوغ لك منه خاتما، فالخاتم المصوغ هو الأول إلا أن الصياغة تغيرت والفضة واحدة، وهذا كالنفس إذا صارت ترابا وصارت لا شي ثم أحياها الله تعالى، وكعهدك بأخ لك صحيح ثم تراه بعد ذلك سقيما مدنفا فتقول له: كيف أنت؟ فيقول: أنا غير الذي عهدت، فهو هو، ولكن حاله تغيرت، فقول القائل: أنا غير الذي عهدت، وقوله تعالى: ﴿غَيْرَهَا﴾ مجاز، ونظيره قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ﴾ وهي تلك الأرض بعينها إلا أنها تغير آكامها وجبالها وأنهارها وأشجارها، ويزاد في سعتها ويسوى ذلك منها، على ما يأتي بيانه في سورة إِبْرَاهِيمَ، ومن هذا المعنى قول الشاعر:

çفما الناس بالناس الذين عهدتهم...ولا الدار بالدار التي كنت أعرفé

وقال الشعبي: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: ألا ترى ما صنعت عائشة! ذمت دهرها، وأنشدت بيتي لبيد:

çذهب الذين يعاش في أكنافهم...وبقيت في خلف كجلد الأجرب

يتلذذون مجانة ومذلة...ويعاب قائلهم وإن لم يشغبé

فقالت: رحم الله لبيدا فكيف لو أدرك زماننا هذا! فقال ابن عباس: لئن ذمت عائشة دهرها لقد ذمت عَادٌ دهرها، لأنه وجد في خزانة عَادٌ بعد ما هلكوا بزمن طويل سهم كأطول ما يكون من رماح ذلك الزمن عليه مكتوب:

çبلاد بها كنا ونحن بأهلها...إذ الناس ناس والبلاد بلادé

البلاد باقية كما هي إلا أن أحوالها وأحوال أهلها تنكرت وتغيرت.

6. ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا﴾ أي لا يعجزه شي ولا يفوته، ﴿حَكِيمًا﴾ في إيعاده عباده.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/254.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿بِآيَاتِنَا﴾ الظاهر عدم تخصيص بعض الآيات دون بعض، و﴿سَوْفَ﴾ كلمة تذكر للتهديد قال سيبويه: وينوب عنها السين، وقد تقدّم معنى: نصلي، في أوّل السورة، والمراد: سوف ندخلهم نارا عظيمة، وقرأ حميد بن قيس: ﴿نُصْلِيهِمْ﴾ بفتح النون.

2. ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ﴾ يقال: نضج الشيء نضجا ونضاجا، ونضج اللحم، وفلان نضج الرأي: أي: محكمه، والمعنى: أنها كلما احترقت جلودهم بدّلهم الله جلودا غيرها، أي: أعطاهم مكان كل جلد محترق جلدا آخر غير محترق، فإن ذلك أبلغ في العذاب للشخص، لأن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي لم يحترق أبلغ من إحساسه لعملها في الجلد المحترق، وقيل: المراد بالجلود: السرابيل التي ذكرها في قوله: ﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ﴾ ولا موجب لترك المعنى الحقيقي هاهنا، وإن جاز إطلاق الجلود على السرابيل مجازا كما في قول الشاعر:

çكسا اللّوم تيما خضرة في جلودها... فويل لتيم من سرابيلها الخضرé

وقيل المعنى: أعدنا الجلد الأوّل جديدا، ويأبى ذلك معنى التبديل.

3. ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ أي: ليحصل لهم الذوق الكامل بذلك التبديل، وقيل: معناه: ليدوم لهم العذاب ولا ينقطع، ثم أتبع وصف حال الكفار بوصف حال المؤمنين، وقد تقدّم تفسير الجنات التي تجري من تحتها الأنهار.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/555.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِنَا﴾ المعهودون، والآيات: القرآن، أو الكفَّار مطلقًا والآيات كذلك، فيدخل المعهودون والقرآن بالأولى ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾ ندخلهم إيَّاها، (سَوْفَ) للوعيد والتهديد، كالسين في قوله تعالى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ [المدَّثِّر: 26]، ولتأكيد الوعد، كقوله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبـُّكَ﴾ [الضحى: 5]

2. ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ﴾ احترقت وصارت كأنَّها لحم مطبوخ ﴿جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ رددناها بنفسها على صورتها الأولى، فسمَّى ردَّها إلى الصورة الأولى عن الصورة المغيَّرة هي إليها تبديلاً، أو رددناها بنفسها إلى صورة أخرى غير الأولى وغير الصورة المتغيِّرة، وهكذا صورة بعد صورة بلا تناه، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (يبدَّل جلدُ الكافر في كلِّ ساعة مائة مرَّة)، وعن ابن عمر مرفوعا: (مائة وعشرين)، وكذا قال كعب وقال الحسن: (سبعين ألف مرَّة في اليوم)، والجلد في ذلك واحد هو الأوَّل، كما تقول: صغت من خاتم خاتما غيره، وصغت من خاتمي قرطًا، والجسم واحد، كما روي أنَّ الروح تقول للجسم: بك صرت هنا وأنت الفاعل، ويقول الجسم: أنت الآمر المتصرِّف، وإنَّما تتغيَّر الصِّفة، ومن ذلك أن يفسَّر التبديل بإزالة أثر الإحراق فيعود الإحساس تامًّا كالأوَّل، وعن ابن عبَّاس: (يبدَّلون جلودًا بيضاء كالقراطيس، وتحرق) وهكذا، أو يبقى التبديل على ظاهره، ولا ظلم في ذلك؛ لأنَّ المتألِّم القلب لا ذلك الجلدُ المحدَثُ غير الذي هو عليه في الدُّنيا على هذا، ويناسب أنَّه غير الأوَّل؛ لأنَّ من أهل النَّار من يملأ زاوية من جهنَّم، وأنَّ سنَّ الجهنَّميِّ كجبل أحد، وأنَّ طول السعيد ستُّون ذراعًا، وعرضه سبع، وأجيب بأنَّ ذلك كلَّه هو ما في الدُّنيا ينمو، ﴿لِيذُوقُواْ العَذَابَ﴾ ليدوم ذوقه، ويتجدَّد حزنهم كلَّما بُدِّلتْ، ولو أُبقيَ جلدًا واحدًا محترقًا لم يحسَّ، ولله أن يفعل ما يشاء، ولو شاء لأوصل العذاب مع بقائه محترقا، أخبرهم الله تعالى بالتبديل دفعًا لِمَا يُتوهَّم من أنَّ احتراق الجلد يمنع الاحتراق لِمَا وراءه.

3. ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا﴾ غالبا على جميع الممكنات ﴿حَكِيمًا﴾ لا يفعل إِلَّا الصواب، ومَن هذا شأنُهُ لم يبعد ـ مع كرمه ورحمته ـ أن يعذِّب الضعيف العاصي بهذا العذاب الدائم العظيم؛ لأنَّ ذلك من حكمته، ولا يخلف الوعد ولا الوعيد.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/207.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصدّ عن رسله فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾ أي عظيمة هائلة ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ﴾ أي احترقت احتراقا تامّا ﴿بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ أي ليدوم لهم، وذلك أبلغ في العذاب للشخص، لأن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي لم يحترق، أبلغ من إحساسه لعملها في المحترق.

2. لهم في التبديل وجهان:

أ. الأول: أنه تبديل حقيقيّ ماديّ، فيخلق مكانها جلود أخر جديدة مغايرة للمحترقة.

ب. الثاني: أنه تبديل وصفيّ: أي أعدنا الجلود جديدة مغايرة للمحترقة صورة، وإن كانت عينها مادة، بأن يزال عنها الاحتراق ليعود إحساسها للعذاب، فلم تبدل إلا صفتها، لا مادتها الأصلية، وفيه بعد، إذ يأباه معنى التبديل.

3. قال الرازيّ: يمكن أن يقال: هذا استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع، كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام: كلما انتهى فقد ابتدأ، وكلما وصل إلى آخره فقد ابتدأ، من أوله، فكذا قوله: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ﴾ الآية، يعني: كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك، أعطيناهم قوة جديدة من الحياة، بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا، فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه.

4. وهذا أبعد مما قبله، إذ ليس لنا أن نعدل في كلام الله تعالى عن الحقيقة إلى المجاز، إلا عند الضرورة، لا سيما وقد روي عن السلف، صحابة وتابعين، أنهم يبدلون في اليوم أو الساعة مرات عديدة، كما رواه ابن جرير وغيره مفصّلا.

5. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا﴾ لا يمتنع عليه ما يريد ﴿حَكِيمًا﴾ فيما يقضيه، ومنه هذا التبديل، إذ لا يتم تخليد العذاب الموعود، على الكفر الذي لا ينزجرون عنه، بالعذاب المنقطع.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/176.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال تعالى في الآية السابقة ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ وتوعد من صد عنه بسعير جهنم ثم فصل هذا الوعيد بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾ ونقلوا عن سيبويه أن(سوف) تأتي للتهديد وتنوب عنها السين ويستشهدون بهذه الآية أي على سوف وبما قبلها على السين ولكن ورد دخول السين على الفعل في مقام الوعد في الآية الآتية: ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ﴾ والصواب أن السين وسوف على معناهما المشهور في إفادة التنفيس والتأخير واشتق لفظ التسويف بمعنى التأخير من سوف، ولكن بعضهم استشكل التسويف هنا ولو نظروا في مثل هذا الوعيد لرأوا أن حصوله يكون متأخرا جدا عن وقت نزول الآية به، على أن للتراخي والبعد معنى آخر بحسب اعتبار المقام في الخطاب فإذا نظر إلى حال المغرورين بما هم فيه من قوة وعزة، الذين صرفهم غرورهم وطغيانهم بعزتهم عن النظر فيما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من البينات والهدى فصدوا عنه استغناء بما هم فيه يراهم بهذا الغرور بعداء جدا عن تصور الوعيد والتفكير فيه فيكون هذا التسويف مرعيا فيه حالهم ليتفكروا في مستقبل أمرهم.

2. الوعيد إنما هو بعذاب الآخرة والعرب تستعمل التسويف فيما هو أقرب منه، وقد ابتدأ الآية بذكر الذين كفروا ليعلم أن هذا الوعيد ليس خاصا بأولئك الكفار من اليهود، والمراد بآيات الله هنا ما يدل على حقيقة دينه مطلقا ويدخل فيها القرآن دخولا أوليا لأنه أدل الدلائل وأظهر الآيات وأوضحها، ونصليهم نارا معناه نجعلهم يصلونها أي يدخلونها ويعذبون بها.

3. ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ قال محمد عبده: نضج الجلود هو نحو نضج الثمار والطعام وهو عبارة عن فقد التماسك الحيوي والبعد عن الحياة وإنما تتبدل لأن النضج يذهب القوة الحيوية التي بها الإحساس فإذا بقيت ناضجة يقل الإحساس بما يمسها أو يزول لذلك تتبدل بها جلود حية غيرها.

4. ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ لأن الذوق والإحساس يصل إلى النفس بواسطة الحياة في الجلد، ومن هنا قال بعض المفسرين إن المراد بتبديل الجلود دوام لعذاب فالكلام تمثيل أو كناية عن دوام الإحساس بالعذاب فإنه أراد أن يزيل وهما ربما يعرض للناس بالقياس على ما يعهدون في أنفسهم من أن الذي يتعود الألم يقل شعوره به ويصير عاديا عنده كما نرى من حال الرجل تعمل له عملية جراحية وتتكرر فإنه في المرة الأولى يتألم تألما شديدا ثم لا يزال التألم يخف بالتدريج حتى نراه لا يبالي به، وهكذا نشاهد في كثير من الآلام والأمراض التي يطول أمرها.

5. الظاهر أن نضج الجلود من العذاب إن كان حقيقة لا مجازا يكون هو أثر لفح النار بسمومها لأهل تلك الدار كما قال تعالى: ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ [المؤمنون: 104] ومتى لفح الجلد مرارا يبطل إحساسه وينفصل عن البشرة ويتربى تحته جلد آخر كما هو مشاهد في الدنيا.

6. سؤال وإشكال: تكلم محمد عبده عن استشكال بعض المتكلمين لتعذيب الجلود الجديدة مع أن العصيان لم يكن بها ولم أكتب ما قاله ولا أتذكره والجواب:

أ. المشهور في الجواب عندهم أن البدل يكون عين الأصل المبدل منه في مادته وغيره في صورته، وهذه سفسطة ظاهرة، وذكر الرازي بعد هذا الجواب جوابا ثانيا وهو أن المعذب هو الإنسان وذلك الجلد ما كان جزءا من ماهيته بل هو كالشيء الزائد الملتصق به، وثالثا وهو أن المراد بالجلود السرابيل قال وطعن فيه القاضي بمخالفته للظاهر ورابعا وهو أن هذا استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع قال كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام: كلما انتهى فقد ابتدأ وكلما انتهى إلى آخره فقد ابتدأ من أوله فكذلك قوله: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ يعني كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا فيكون المقصود دوام العذاب وعدم انقطاعه اه تصويره لهذا الوجه وقد علمت أنه يوافق ما اختاره محمد عبده في العبارة ورأيت أنه صورها بما هو أقرب من هذا التصوير إلى العقل واللفظ وذكر الرازي عن السدي وجها خامسا ورده لظهور بطلانه.

ب. وقد رد الألوسي الإشكال من أصله قال: (وعندي أن هذا السؤال مما لا يكاد يسأله عاقل فضلا عن فاضل، وذلك لأن عصيان الجلد وطاعته وتألمه وتلذذه غير معقول لأنه من حيث ذاته لا فرق بينه وبين سائر الجمادات من جهة عدم الإدراك والشعور وهو أشبه الأشياء بالآلة فيد قاتل النفس ظلما مثلا آلة له كالسيف الذي قتل به ولا فرق بينهما إلا بأن اليد حاملة للروح والسيف ليس كذلك، وهذا لا يصلح وحده سببا لإعادة اليد بذاتها وإحراقها دون إعادة السيف وإحراقه، لأن ذلك الحمل غير اختياري، فالحق أن العذاب على النفس الحساسة بأي بدن حلت وفي أي جسد كانت وكذا يقال في النعيم)، وقد أيد هذا الرأي بما ورد من الأحاديث في كبر أجساد أهل الآخرة ثم قال: (ولولا ما علم من الدين بالضرورة من المعاد الجثماني بحيث صار إنكاره كفرا لم يبعد عقلا القول بالنعيم والعذاب الروحانيين فقط ولما توقف الأمر عقلا على إثبات الأجسام فعلا، ولا يتوهم من هذا أني أقول باستحالة إعادة المعدوم معاذ الله تعالى ولكني أقول بعدم الحاجة إلى إعادته وإن أمكنت، والنصوص في هذا الباب متعارضة فمنها ما يدل على إعادة الأجسام بعينها بعد إعدامها ومنها ما يدل على خلق مثلها وفناء الأولى ولا أرى بأسا بعد القول بالمعاد الجسماني في اعتقاد أي الأمرين)، وله الحق في رد الإيراد ولكنه استقل في بعض القول وقلد المتكلمين في بعض آخر كإعادة المعدوم ولهذا البحث موضع آخر نحرره فيه إن شاء الله تعالى ويؤيد ما ذكره من أن النفس هي التي تذوق العذاب كلمة ﴿لِيَذُوقُوا﴾ ولم يقل (لتذوق) أي الجلود.

7. سؤال وإشكال: ذكر بعضهم في الآية إشكالا آخر وهو أن أصل الذوق تناول شيء قليل بالفم ليعرف طعمه فلا يتجوز به عن العذاب القوي الشديد أو أشد العذاب، والجواب: أجاب الرازي بقوله: (المقصود من ذكر الذوق الإخبار بأن إحساسهم بذلك العذاب في كل حال يكون كإحساس الذائق المذوق من حيث إنه لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق)، ولست أدري ما هو المانع من كون هذا العذاب يسمى أشد العذاب وإن كان هو في نفسه قليلا كما يدل عليه ظاهر لفظ يذوق وقد استعمل القرآن لفظ الذوق في العذاب كثيرا فاختياره مقصود، وإنما يعرف الأشد بالقياس على غيره فمهما كان عذاب الآخرة فهو أشد من عذاب الدنيا، وأكثر الذين يظنون أنهم ناجون من العذاب في الآخرة يودون أن يكون عذاب المعذبين شديدا بالغا منتهى ما يمكن من الشدة، كأنهم حرموا من ذوق طعم الرحمة، على أنه ليس بيدهم موثقا من الله بنجاتهم وأمنهم من العذاب.

8. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ أي إنه تعالى غالب على أمره، حكيم في فعله، فكان من حكمته أن جعل الكفر والمعاصي سببا للعذاب وجعل سنته في ربط الأسباب بمسبباتها مطردة لا يستطيع أحد أن يغلبه فيبطل اطرادها لأنه عزيز لا يغلب على أمره، كما جعل الإيمان والعمل الصالح سببا للنعيم المقيم وبين ذلك بقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/164.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن ذكر عز اسمه في الآية السالفة أن ممن دعوا إلى التصديق بالأنبياء فريقا نأى وأعرض عن اتباع الحق، ثم توعد من أعرض بسعير جهنم، فصل هنا الوعيد بذكر أحوال الفريقين وما يلاقيه كل منهم من الجزاء يوم القيامة.

2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾ أي إن الله تعالى قد أعد لمن جحد بآياته التي أنزلها على أنبيائه نارا مسعرة تشويهم وتحرق أجسامهم حتى تفقدها الحس والإدراك.

3. ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ أي كلما فقدت التماسك الحيوى وبعدت عن الحس والحياة بدلها جلودا أخرى حية تشعر بالألم وتحس بالعذاب.

4. قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا عليه سحائب الرحمة في كتابه [الإسلام‏ والطب الحديث‏] والحكمة في تبديل جلود الكفار، أن أعصاب الألم هي في الطبقة الجلدية، وأما الأنسجة والعضلات والأعضاء الداخلية فالإحساس فيها ضعيف، ولذلك يعلم الطبيب أن الحرق البسيط الذي لا يتجاوز الجلد يحدث ألما شديدا، بخلاف الحرق الشديد الذي يتجاوز الجلد إلى الأنسجة، لأنه مع شدته وخطره لا يحدث ألما كثيرا، فالله يقول لنا إن النار كلما أكلت الجلد الذي فيه الأعصاب نجدده كى يستمر الألم بلا انقطاع، ويذوقوا العذاب الأليم، وهنا تظهر حكمة الله قبل أن يعرفها الإنسان، وكان الله عزيزا حكيما اه.

5. ثم ذكر السبب فيما تقدم فقال: ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ ليدوم لهم ذوق العذاب، لأن الإحساس يصل إلى النفس بواسطة الحياة في الجلد، وفي هذا إزالة لوهم ربما يعرض لبعض الناس قياسا على ما يعهدون في أنفسهم في الدنيا من أن الذي يتعود الألم يقلّ شعوره به ويصير عاديا عنده، كما يشاهد في كثير من الآلام والأمراض التي يطول أمدها، وفي التعبير بيذوقوا إيماء إلى أن إحساسهم بذلك العذاب يكون كإحساس الذائق المذوق لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق.

6. ثم أكد سابق الكلام وبين علته فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ أي إنه تعالى عزيز قادر لا يمتنع عليه شيء مما توعد به أو وعد، حكيم يعاقب من يعاقبه وفق الحكمة، ومن حكمته أن ربط الأسباب بالمسببات فلا يستطيع أحد أن يغلبه على أمره فيبطل اطرادها، فهو كما جعل الكفر والمعاصي سببا للعذاب كما تقدم في الآية، جعل الإيمان والعمل الصالح سببا للنعيم.

__________

(1) تفسير المراغى: 5/67.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. عند ما يبلغ السياق هذا المقطع من ذكر الإيمان والصدود عن الإيمان في آل إبراهيم، يعقب بالقاعدة الشاملة للجزاء، جزاء المكذبين، وجزاء المؤمنين.. هؤلاء وهؤلاء أجمعين.. في كل دين وفي كل حين؛ ويعرض هذا الجزاء في صورة مشهد من مشاهد القيامة العنيفة الرعيبة.

2. إنه مشهد لا يكاد ينتهي، مشهد شاخص متكرر، يشخص له الخيال، ولا ينصرف عنه! إنه الهول، وللهول جاذبية آسرة قاهرة! والسياق يرسم ذلك المشهد ويكرره بلفظ واحد.. (كلما).. ويرسمه كذلك عنيفا مفزعا بشطر جملة.

3. ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ﴾.. ويرسمه عجيبا خارقا للمألوف بتكملة الجملة.. ﴿بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾.. ويجمل الهول الرهيب المفزع العنيف كله في جملة شرطية واحدة لا تزيد! ذلك جزاء الكفر ـ وقد تهيأت أسباب الإيمان ـ وهو مقصود، وهو جزاء وفاق: ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾

4. ذلك، أن الله قادر على الجزاء، حكيم في توقيعه: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/684.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾ تهديد ووعيد لجميع الكافرين، فهي أعمّ ممّا قبلها، فلها حكم التذييل، ولذلك فصلت، والإصلاء: مصدر أصلاه، ويقال: صلاه صليا، ومعناه شيّ اللحم على النار، وقد تقدّم الكلام على (صلى) عند قوله تعالى: ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: 10] وقوله:

2. ﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا﴾ في هذه السورة [النساء: 30]، وتقدّم أيضا الكلام على (سوف) في الآية الأخيرة، و﴿نُصْلِيهِمْ﴾ ـ بضم النون ـ من الإصلاء، و﴿نَضِجَتْ﴾ بلغت نهاية الشّي‏ء، يقال: نضج الشّواء إذا بلغ حدّ الشّي‏ء، ويقال: نضج الطبيخ إذا بلغ حدّ الطبخ، والمعنى: كلّما احترقت جلودهم، فلم يبق فيها حياة وإحساس، بدّلناهم، أي عوّضناهم جلودا غيرها.

3. التبديل يقتضي المغايرة كما تقدّم في قوله في سورة البقرة: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى﴾ [البقرة: 61]، فقوله: ﴿غَيْرَهَا﴾ تأكيد لما دلّ عليه فعل التبديل، وانتصب‏ ﴿نَارًا﴾ على أنّه مفعول ثان لأنّه من باب أعطى.

4. ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ تعليل لقوله: ﴿بَدَّلْنَاهُمْ﴾ لأن الجلد هو الذي يوصل إحساس العذاب إلى النفس بحسب عادة خلق الله تعالى، فلو لم يبدل الجلد بعد احتراقه لما وصل عذاب النار إلى النفس، وتبديل الجلد مع بقاء نفس صاحبه لا ينافي العدل لأن الجلد وسيلة إبلاغ العذاب وليس هو المقصود بالتعذيب، ولأنه ناشىء عن الجلد الأول كما أن إعادة الأجسام في الحشر بعد اضمحلالها لا يوجب أن تكون أناسا غير الذين استحقوا الثواب والعقاب لأنها لما أودعت النفوس التي اكتسبت الخير والشرّ فقد صارت هي هي ولا سيما إذا كانت إعادتها عن إنبات من أعجاب الأذناب، حسبما ورد به الأثر، لأنّ الناشئ عن الشيء هو منه كالنخلة من النواة.

5. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ واقع موقع التعليل لما قبله، فالعزّة يتأتى بها تمام القدرة في عقوبة المجترئ على الله، والحكمة يتأتّى بها تلك الكيفية في إصلائهم النار.

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/159.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا مصير كل كافر سواء أكان من اليهود أم كان من غيرهم، ولذا قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾ الصلى معناه إيقاد النار، وصلى وقع في النار، وأصليناهم نارا: ابتليناهم وعذبناهم بنار، فالتمييز هنا فيه تأكيد لمعنى العذاب بالنار والإيقاع فيها، وإن هذا العذاب الشديد الذي يستقبلهم يوم القيامة يستحقه الكافرون بسبب كفرهم، من غير تفرقة بين ذرية إسحاق وإسماعيل وغيرهم، ولذلك عبر بالموصول؛ إذ التعبير بالموصول يشعر بأن الصلة سبب الحكم، فهؤلاء حكم عليهم بالعذاب؛ لأنهم كفروا، ومتى تحقق السبب تحقق الحكم بلا فرق بين قبيل وقبيل، وأن عذاب الكفار دائم، وآلامه مستمرة، وقد أكد وجود العذاب بقوله سبحانه: ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾ فسوف هنا كما قال سيبويه‏ للتهديد، فهي لتأكيد العذاب المقبل ولو بتراخ، وتراخى العذاب مع تأكيده يجعل النفس في فزع حتى يقع.

2. ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ فعذاب هؤلاء الكفار دائم لا مناص لهم من الاستمرار فيه، فكلما أصاب العذاب موضع الإحساس من الجسم أعاد الله تعالى ذلك الإحساس إليه، وذلك أن موضع الإحساس في الجسم هو الطبقة التي تلاصق اللحم من الجلد، فإذا فسدت هذه الطبقة ذهب الإحساس بالألم.

3. ولقد عبر الله تعالى عن موت الإحساس ثم إعادته بقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾، فشبه سبحانه وتعالى حالهم في تعذيبهم بالنار بحال قطع من اللحم تلقى في النار، فإذا تهدأت الجلود من شدة النار حتى صارت لا تحس بدل الله تعالى هذه الجلود بأخرى، فيكون العذاب وآلامه في استمرار دائم! ولا موضع إذن لاعتراض الذين يقولون: كيف يعذب جلد لم يعص لجريمة جلد قد عصى؛ لأن الجسم المعذب واحد، ولكن الكلام تصويرى لبيان استمرار الإحساس بآلام العذاب، فلا ينقلبون كقطعة فحم، بل يستمر الإحساس بالألم الدائم، وهذا يتلاقى مع ما روى عن الفضيل في تفسير هذا النص: (يجعل النضج غير نضيج) أي يجعل الجلد مع إصابة موضع الإحساس منه بما يميته لا يموت، بل يستمر! ومن العلماء من قال إن الجلد لا يتغير ذاته بل يتغير وصفه، فيخلق فيه هذا الإحساس بعد أن يبلى موضع الإحساس بالنار، والغاية أن يذوقوا العذاب، أي أن يستمروا في ذوقه والإحساس به.

4. وقد شبه الإحساس بالذوق، للإشارة إلى عظيم الألم، لأنهم يحسون به كمن يحس بذوق المرير من الطعام أو بمن يذوق النار ليأكلها، واللسان أشد أعضاء الجسم حساسية، فإذا كان العذاب يذاق، فهذا دليل على شدة الإحساس، وحيث اشتد الإحساس كان الألم، وحيث مات الإحساس فلا ألم، وليس لجرح بميت إيلام!

5. وقد ختم الله تعالى الآية بما يبين عظم سلطان الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ هذا تذييل بلاغى يؤكد التهديد الذي اشتمل عليه، فإن منزل العذاب قوى غالب، هو المسيطر على كل شيء، ولا يسيطر سواه، وليس فوقه أحد، ولا ناصر لأحد من أمره، وهو حكيم يضع الأمور في مواضعها، فلا يعذب محسنا ولا يثيب كافرا وإن كان يعفو عن كثير من دون الكفر، وقد أكد سبحانه عزته وحكمته بـ (إن)، وبـ (كان) التي تدل على الاستمرار، وإن من مقتضى حكمته أن يثيب الأبرار كما يعاقب الكفار.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1720.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾، هذه الآية بيان لقوله تعالى في آخر الآية السابقة: ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾، والمراد بالآيات هنا كل ما ثبت في الدين بالضرورة، مثل علم الله وقدرته، والملائكة والجنة والنار، وما الى ذلك مما يعود الى أصول الدين، ومثل وجوب الصوم والصلاة، وتحريم الزنا والخمر، وما اليهما من الأحكام الفقهية، والمسائل الفرعية، وليس من شك ان الجحود كفر.

2. سؤال وإشكال: الله سبحانه عادل ما في ذلك ريب، فإذا أحرق الجلد الذي عصى فيه صاحبه فقد زال وتلاشى، فإذا خلق مكانه جلدا جديدا وعذّبه كان هذا تعذيبا لجلد لم يعص الله، وهو غير جائز عليه عز وجل؟، والجواب: عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام انه أجاب عن هذا السؤال بقوله: ان الجلد هو هو، وهو غيره، وضرب لذلك مثلا باللبنة تكسرها، حتى تصير ترابا، ثم تصب عليه ماء وتجبله حتى يصير لبنة من جديد، فتكون هي هي في مادتها، وهي غيرها في صورتها، وغير بعيد ان يكون تبديل الجلود كناية عن أليم العذاب وشدته.. وفي جميع الأحوال فان المطلوب منا ان نؤمن بعدل الله وقدرته، أما التفاصيل فغير مسؤولين عنها.

3. ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾، أي ان السبب الموجب لتبديل الجلود هو احساسهم بالعذاب الدائم، وهذا النوع من العذاب مختص بالجاحد والمشرك ومن تخاف‏ الناس من شره، ونحن نحيا ونموت على شهادة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعلى العداء لكل شرير غاشم، قال أهل العلم بالله: الذين يدخلون النار، ولا يخرجون منها خمسة: مدعي الربوبية كنمرود وفرعون، ومن نفى الإله جملة واحدة، ومن جعل مع الله إلها آخر، والمنافق، وقاتل النفس المحرمة، وبديهة أن من أظهر أفراد المنافقين من يثير الحروب باسم المحافظة على السلم، ويستعبد الشعوب باسم صيانة الحرية، وينهب أقوات العباد باسم العمل على رفع مستوى معيشتهم، وينشر الفجور والتهتك باسم التطور والتمدن.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/353.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم بين تعالى كفاية جهنم في أمرهم بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا﴾ إلى آخر الآية وهو بيان في صورة التعليل، ثم عقبه بقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ إلى آخر الآية ليتبين الفرق بين الطائفتين: ﴿مَنْ آمَنَ بِهِ﴾ و﴿مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾، ويظهر أنهما في قطبين‏ متخالفين من سعادة الحياة الأخرى وشقائها: دخول الجنات وظلها الظليل، وإحاطة سعير جهنم والاصطلاء بالنار ـ أعاذنا اللهـ ومعنى الآيتين واضح.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/378.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ هذا وعيد عام لمن سبق ذكرهم من أهل الكتاب ولسائر الكفار الذين جحدوا كون القرآن من الله وكذبوا بالآيات الدالة على صدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من القرآن وغيره ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾ نجعلهم فيها تباشر أجسامهم ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ ليبقى إحساسهم بالحريق.

2. ومعنى قوله تعالى: ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ ليطعموه أي ليجدوا ألم العذاب في قلوبهم وأنفسهم أو هو تعليل لإصلائهم وتجديد جلودهم في كل لحظة أو نحوها ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا﴾ فمقتضى عزته الانتقام من أعدائه الذين ظلموا واستعملوا نعمه في معاصيه وأطاعوا عدوه وعصوا رسله ﴿حَكِيمًا﴾ ومقتضى حكمته أن يجزيهم بما عملوا ولولا الجزاء ما صح تمكينهم من المعاصي وتخليتهم يظلمون؛ لأن ذلك لولا الجزاء يكون إهمالاً مخالفاً للحكمة كما هو مخالف للعزة.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/92.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾ هذا هو الجزاء العادل لمن كفر بآيات الله، ولمن آمن به وعمل صالحا؛ فمن كفر بآياته في كل الشرائع والمفاهيم التي أنزلها الله على عباده، وهو يعرف أنها الحق من ربه، فإن النار تنتظره‏ ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾، حتى إذا نضجت جلودهم، فإن الله يبدّلهم بجلود غيرها ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ مرة بعد مرة ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾

2. جاء في مجالس الشيخ، بإسناده عن حفص بن غياث القاضي قال‏: كنت عند سيد الجعافرة جعفر بن محمد عليهما السّلام لمّا قدّمه المنصور، فأتاه ابن أبي العوجاء، وكان ملحدا، فقال: ما تقول في هذه الآية: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ هب هذه الجلود عصت فعذبت، فما بال الغير؟ قال أبو عبد الله عليه السّلام: ويحك هي هي، وهي غيرها، قال: أعقلني هذا القول، فقال له: أرأيت لو أن رجلا عمد إلى لبنة فكسرها، ثم صب عليها الماء وجبلها، ثم ردّها إلى هيئتها الأولى، ألم تكن‏ هي هي، وهي غيرها؟ فقال: بلى أمتع الله بك.

3. يعلق صاحب تفسير الميزان على ذلك فيقول: (ويعود حقيقة الجواب إلى أن وحدة المادة محفوظة بوحدة الصورة، فبدن الإنسان كأجزاء بدنه باق على وحدته ما دام الإنسان هو الإنسان؛ وإن تغيّر البدن بأيّ تغيّر حدث فيه‏،)وذلك هو جزاؤه، لأنه لم يتمرد نتيجة عدم وجود مجال للسير على هذا الخط أو لأنه لا مجال للإيمان؛ فإن الساحة مفتوحة للإيمان من موقع الحوار، وللطاعة من موقع القناعة؛ فليست قضية الإيمان بالله من القضايا التجريدية التي يحملها الإنسان في فكره ثم لا تؤثر في حياته شيئا، وليست من قضايا الفلسفة الفارغة التي لا يختلف حال الحياة عن نتائج السلب والإيجاب فيها، بل هي من القضايا المتصلة بحياة الإنسان وبحظه في الحياة، وبذلك يكون الإنسان الذي يخون قضية الإيمان خائنا لقضية الحياة والناس والحقيقة؛ وبذلك كان حجم العذاب بحجم خطورة القضية.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/310.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. علّة تبديل الجلود ـ على الظاهر ـ هي أنّه عندما تنضج الجلود يخف الإحساس بالألم لدى الإنسان، ولكي لا تتخفف عقوبتها وعذابها وليحس‏ الإنسان بالألم إحساسا كاملا، تبدل الجلود، وتأتي مكان الجلود الناضجة جلود جديدة، وما هذا إلّا نتيجة الإصرار على تجاهل الأوامر الإلهية، ومخالفة الحق والعدل، والإعراض عن طاعة الله.

2. ثمّ يقول سبحانه في ختام الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ أي أنّه قادر بعزّته أن يوقع هذه العقوبات بالعصاة، وأنّه لا يفعل ذلك اعتباطا، بل عن حكمة وعلى أساس الجزاء على المعصية.

3. سؤال وإشكال: من الممكن أن يعترض معترض هنا قائلا بأنّ الآية الكريمة تقول: إنّنا كلّما نضجت جلود العصاة الكفرة بدّلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العقوبة الإلهية، في حين أنّ الجلود العاصية هي الجلود الأصلية، فيكون تعذيب الجلود الجديدة مخالفا للعدل الإلهي، فكيف ذلك؟ والجواب: لقد طرح هذا السؤال بعينه من قبل ابن أبي العوجاء الرجل المادي المعروف على الإمام الصّادق عليه السّلام حيث قال بعد تلاوة هذه الآية (وما ذنب الغير)؟ يعني ما ذنب الجلود الجديدة؟ فردّ الإمام على هذا السؤال بجواب مختصر في غاية العمق حيث‏ قال (هي هي وهي غيرها)، يعني أنّ الجلود الجديدة هي نفس الجلود السابقة في حين أنّها غيرها، فقال ابن أبي العوجاء الذي كان يعلم أنّ في هذه العبارة القصيرة سرّا: مثل لي في ذلك شيئا من أمر الدنيا، فقال الإمام عليه السّلام: (أرأيت لو أنّ رجلا أخذ لبنة فكسرها، ثمّ ردها في ملبنها، فهي هي، وهي غيرها)، ويستفاد من هذه الرّواية أن الجلود الجديدة تتألف من نفس عناصر الجلود القديمة، أي أن العناصر هي ذات العناصر وإن اختلف التركيب، ثمّ إنّه لا بدّ الالتفات إلى أن الثواب والعقاب يرتبطان ـ في الحقيقة ـ بروح الإنسان وقوّة إدراكه، والجسم ـ دائما ـ وسيلة لانتقال الثواب والعذاب إلى روح الإنسان.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/277.

55. من نعيم الجنة

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈55⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ [النساء: 57]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: الجنة سجسج(1)، لا قر فيها ولا حر(2)

__________

(1) سجسج: أي مُعْتدِل لا حَرٌّ ولا برد.

(2) ابن أبي شيبة ١٣/١٠٠.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾، قال لا انقطاع(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٨٤.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾، يعني: لا يموتون(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٨٤.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾، قال مطهرة من الحيض، والبول، والنخام، والبزاق، والمني، والولد(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٨٤.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾، يعني: دائما(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين ١/٣٨١.

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأصحابه(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٨٣.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾، هو ظل العرش الذي لا يزول(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٨٥.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: ﴿لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ الأزواج المطهرة: اللاتي لا يحضن ولا يحدثن(1).

__________

(1) من لا يحضره الفقيه 1/50.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ثم أخبر بمستقر المؤمنين، فقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ﴾ يعني: البساتين ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا﴾ يعني: أكنان(2)، القصور ﴿ظَلِيلًا﴾ يعني: لا خلل فيها(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٨١.

(2) الأكنان: جمع كِنّ، وهو البيت.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ من الآفات والعيوب، لسن كأزواج الدنيا ونسائها.

2. ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ لا تنسخه الشمس، ولا أذى فيه؛ لأن الشمس فيها منافع للناس وأذى، وكذلك القمر فيه أذى، وإن كان فيه منافع، والظلمة كذلك فيها منافع وأذى، وأما الظل نفسه فليس فيه أذى على كل حال، فإن كان فهو للزمان، لا للظل بنفسه، فأخبر عزّ وجل أنه يدخلهم الظل الذي ليس فيه أذى الشمس، ولا أذى الظلمة، ولا أذى الزمان، ليس كظل الدنيا مشوبا بأذى غيره وذلك تأويل الظليل أن يظله عن جميع المؤذيات.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/221.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى في الآية الأولى ما توعد به الكفار والجاحدين لآياته تعالى، وعد في هذه الآية المصدقين به تعالى، والعاملين الأعمال الصالحات، وهي الحسنات التي هي طاعات الله، وصالح يجري على وجهين:

أ. أحدهما: على من يعمل الطاعة.

ب. الثاني: على نفس العمل ويقال: رجل صالح، ومعناه ذو عمل صالح، ويقال: عمل صالح، فيجري عليه الوصف بأنه صالح، وعدهم بأن سيدخلهم جنات وهي جمع جنة وهي البستان التي يجنها الشجر.

2. ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ وفيه محذوف، لأن التقدير تجري من تحتها مياه الأنهار، لأن الماء هو الجاري دون الأنهار غير أنه بعرف الاستعمال سقط عنه اسم مجاز، كما سقط في قولهم: هذا شعر امرئ القيس وان كان المراد انه حكاية عنه، فأما قوله: ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾ مجار لا محالة، لأنه لا بد فيه من تقدير أهلها.

3. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ يعني من النفاس والحيض ومن جميع الأقذار، والأدناس، والطهارة نقيض النجاسة، والنجاسة في الأصل هي ما كان نتناً نحو الجيف، وغيرها، وشبه بذلك نجاسة الحكم تبعاً للشريعة كما يقال في الخمر: إنها نجسة.

4. ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ فالظل أصله الستر من الشمس قال رؤبة: كل موضع يكون فيه الشمس، فتزول عنه، فهو ظل وفي‏ء، وما سوى ذلك فظل، لا يقال فيه في‏ء، والظل: الليل، لأنه كالستر من الشمس، والظلة: السترة، وظل يفعل كذا: إذا فعله نهاراً، لأنه في الوقت الذي يكون للشمس ظل، والاظلال الدنو، لأن الشيء بدنوه، كأنه قد ألقى عليك ظله، والأظل: باطن منسم البعير، لأن المنسم يستره، والظليل: هو الكنين، لأنه لا شمس فيه ولا سموم.

أ. قال الحسن: ربما كان ظل ليس بظليل، لأنه يدخله الحر والسموم، فلذلك وصف ظل الجنة بأنه ظليل، ومنه قوله: ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ لأنه ليس كل ظل ممدوداً، وروي‏ أن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، لا يقطعها وهي شجرة الخلد.

ب. وقيل: إنما قال: ﴿ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ فرقا بينه وبين‏ ﴿ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ﴾

ج. وقيل: يدخلهم ظلا ظليلا في الموقف حيث لا ظل إلا ظل عرشه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/233.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. التطهير: خلاف التنجيس، والطهارة: خلاف النجاسة.

ب. الظل أصله الستر من الشمس، والظل الليل؛ لأنه كالستر من الشمس، والظلة: السترة.

2. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ صدقوا الله ورسوله ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ يعني الأعمال الصالحة مما يتقرب بها إلى الله ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ﴾ بساتين ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أي ماء الأنهار ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ دائمين فيها ﴿أَبَدًا﴾ ذكر ﴿أَبَدًا﴾ للتأكيد لهم، يعني للذين آمنوا ﴿لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ أي طَهُرَتْ من الحيض والنفاس وجميع الأقذار.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾:

أ. قيل: كنينًا؛ لأنه لا شمس فيه ولا سَموم، قال الحسن: ربما كان ظِلّ ليس بظليل يدخله الحر والشمس، فلذلك وصف ظل الجنة بأنه ظليل.

ب. وقيل: ظلاً دائما لا تنسخه الشمس، كما في الدنيا.

ج. وقيل: الظليل: القوي المتمكن، ونعت الشيء بمثل لفظه يكون مبالغة كقولهم: داهية دهياء، وليل أليل، عن أبي مسلم، ويقال: ليس في الجنة حر ولا برد، وأوقاتها سواء.

4. تدل الآية الكريمة على:

أ. أنه يشترط في دخول الجنة الأعمال الصالحة مع الإيمان، فيبطل قول المرجئة.

ب. أن لهم فيها أزواجا مطهرة، فيبطل قول الباطنية، وقد ورد الخبر بأن مَأْكَلَهُمْ ينقلب عرقًا يفوح منه رائحة المسك.

ج. يدل آخر الآيات على أن حال الجنة لا يتغير حتى يتردد بين حر وبرد، بل يكون على ما يُشتهى ويُتمنَّى.

5. مسائل لغوية ونحوية:

أ. في قوله: ﴿تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ محذوف أي يجري الماء في الأنهار، إلا أنه كثر استعماله فقيل: تجري الأنهار، كقولهم: هذا قول امرئ القيس، فإنه إن كان مجازًا فقد صار لكثرة الاستعمال حقيقة في حكاية قوله.

ب. ﴿خَالِدِينَ﴾ نصب على الحال.

ج. ﴿أَبَدًا﴾ نصب على الظرف، ولا يكون إلا منصوبًا؛ لأنه من الدهر.

د. ﴿ظِلًّا﴾ نصب لوقوع الفعل عليه ﴿ظَلِيلًا﴾ توكيد، كقولهم: ليل أَلْيَلُ.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/670

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الظل: أصله الستر، لأنه يستر من الشمس، قال رؤبة: كل موضع تكون فيه الشمس وتزول عنه، فهو ظل وفئ، وما سوى ذلك فظل، ولا يقال فيه فيء، والظل: الليل، كأنه كالستر من الشمس، والظلة: السترة، والظليل: الكنين.

2. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بكل ما يجب الايمان به ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي الطاعات الصالحة الخالصة، ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أي من تحت أشجارها وقصورها الأنهار: أي ماء الأنهار، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي دائمين فيها ﴿أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ طهرن من الحيض والنفاس، ومن جميع المعائب، والأدناس، والاخلاق الدنية، والطبائع الردية، لا يفعلن ما يوحش أزواجهن، ولا يوجد فيهن ما ينفر عنهن ﴿وَنُدْخِلُهُمْ﴾ في ذلك.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ظِلًّا ظَلِيلًا﴾:

أ. قيل: أي كنينا ليس فيه حر ولا برد، بخلاف ظل الدنيا.

ب. وقيل: ظلا دائما لا تنسخه الشمس كما في الدنيا.

ج. وقيل: ظلا متمكنا قويا، كما يقال يوم أيوم، وليل أليل، وداهية دهياء، يصفون الشئ بمثل لفظه، إذا أرادوا المبالغة.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/98.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ قال الزجّاج: هو الذي يظلّ من الحرّ والرّيح، وليس كلّ ظلّ كذلك، فأعلم الله تعالى أن ظلّ الجنة ظليل لا حرّ معه، ولا برد.

2. سؤال وإشكال: أفي الجنة برد أو حرّ يحتاجون معه إلى ظلّ؟ والجواب:

أ. أن لا، وإنّما خاطبهم بما يعقلون مثله، كقوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾

ب. وجواب آخر: وهو أنه إشارة إلى كمال وصفها، وتمكين بنائها، فلو كان البرد أو الحرّ يتسلّط عليها، لكان في أبنيتها وشجرها ظلّ ظليل.

__________

(1) زاد المسير: 1/423.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جرت عادة الله تعالى في هذا الكتاب الكريم بأن الوعد والوعيد يتلازمان في الذكر على سبيل الأغلب.

2. هذه الآية دالة على أن الايمان غير العمل، لأنه تعالى عطف العمل على الايمان، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه، قال القاضي: متى ذكر لفظ الايمان وحده دخل فيه العمل، ومتى ذكر معه العمل كان الايمان هو التصديق، وهذا بعيد لأن الأصل عدم الاشتراك وعدم التغير، ولولا أن الأمر كذلك لخرج القرآن عن كونه مفيدا، فلعل هذه الألفاظ التي نسمعها في القرآن يكون لكل واحد منها معنى سوى ما نعلمه، ويكون مراد الله تعالى منه ذلك المعنى لا هذا الذي تبادرت أفهامنا اليه، هذا على القول بأن احتمال الاشتراك والإفراد على السوية، وأما على القول بأن احتمال البقاء على الأصل واحتمال التغيير متساويان فلا، لأن على هذا التقدير يحتمل أن يقال: هذه الألفاظ كانت في زمان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم موضوعة لمعنى آخر غير ما نفهمه الآن، ثم تغيرت إلى هذا الذي نفهمه الآن، فثبت أن على هذين التقديرين يخرج القرآن عن كونه حجة، وإذا ثبت أن الاشتراك والتغيير خلاف الأصل اندفع كلام القاضي.

3. ذكر الله تعالى في شرح ثواب المطيعين أمورا:

أ. أحدها: أنه تعالى يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وقال الزجاج: المراد تجري من تحتها مياه الأنهار، واعلم أنه إن جعل النهر اسما لمكان الماء كان الأمر مثل ما قاله الزجاج، أما إن جعلناه في المتعارف اسما لذلك الماء فلا حاجة إلى هذا الإضمار.

ب. ثانيها: أنه تعالى وصفها بالخلود والتأبيد، وفيه رد على جهم بن صفوان حيث يقول: إن نعيم الجنة وعذاب النار ينقطعان، وأيضا أنه تعالى ذكر مع الخلود التأبيد، ولو كان الخلود عبارة عن التأبيد لزم التكرار وهو غير جائز، فدل هذا أن الخلود ليس عبارة عن التأبيد، بل هو عبارة عن طول المكث من غير بيان أنه منقطع‏ أو غير منقطع، وإذا ثبت هذا الأصل فعند هذا يبطل استدلال المعتزلة بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾ [النساء: 93] على أن صاحب الكبيرة يبقى في النار على سبيل التأبيد، لأنا بينا بدلالة هذه الآية أن الخلود لطول المكث لا للتأبيد.

ج. ثالثها: قوله تعالى: ﴿لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ والمراد طهارتهن من الحيض والنفاس وجميع أقذار الدنيا، ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ‏﴾ [البقرة: 25] واللطائف اللائقة بهذا الموضع قد ذكرناها في تلك الآية.

د. رابعها: قوله: ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ قال الواحدي: الظليل ليس ينبئ عن الفعل حتى يقال: إنه بمعنى فاعل أو مفعول، بل هو مبالغة في نعت الظل، مثل قولهم: ليل أليل، وبلاد العرب كانت في غاية الحرارة، فكان الظل عندهم أعظم أسباب الراحة، ولهذا المعنى جعلوه كناية عن الراحة، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (السلطان ظل الله في الأرض)، فإذا كان الظل عبارة عن الراحة كان الظليل كناية عن المبالغة العظيمة في الراحة، هذا ما يميل اليه خاطري، وبهذا الطريق يندفع سؤال من يقول: إذا لم يكن في الجنة شمس تؤذي بحرها فما فائدة وصفها بالظل الظليل، وأيضا نرى في الدنيا أن المواضع التي يدوم الظل فيها ولا يصل نور الشمس إليها يكون هواؤها عفنا فاسدا مؤذيا فما معنى وصف هواء الجنة بذلك لأن على هذا الوجه الذي لخصناه تندفع هذه الشبهات.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 10/108.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله في صفة أهل الجنة: ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ يعني كثيفا لا شمس فيه، قال الحسن: وصف بأنه ظليل، لأنه لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر والسموم ونحو ذلك، وقال الضحاك: يعني ظلال الأشجار وظلال قصورها، الكلبي: ﴿ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ يعني دائما.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/255.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ أي: من الأدناس التي تكون في نساء الدنيا.

2. الظل الظليل: الكثيف الذي لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحرّ والسموم ونحو ذلك؛ وقيل: هو مجموع ظلّ الأشجار والقصور؛ وقيل: الظلّ الظليل: هو الدائم الذي لا يزول، واشتقاق الصفة من لفظ الموصوف: للمبالغة، كما يقال: ليل أليل.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/555.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الَانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ الحور العين والبشريَّات، ولهم فيها أزواج مطهَّرة من الحيض والنفاس وسائر الأوساخ وكلِّ ما يُكره، وعن كلِّ طبيعة رديئة منفِّرة، والمراد: مؤمنو الأمَّة أو العموم، أخَّرهم لأنَّهم ذُكروا هنا بالعَرَض، ومقابلة للكفرة.

2. ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً﴾ عظيمًا لا تنسخه الشمس، عامًّا لا شمس معه، وهذا أولى مِمَّا قيل: إنَّه لا معنى زائد لـ (ظَلِيلاً)، إنَّما هو كـ (حَسَنٌ بَسَنٌ)

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/208.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بيّن الله تعالى مآل أهل السعادة فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن وجملة الكتب والرسل‏ ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي الطاعات فيما بينهم وبين ربهم بالإخلاص‏ ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾ أي في الآخرة ﴿جَنَّاتُ﴾ أي بساتين‏ ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا﴾ أي من تحت شجرها وقصورها ﴿الْأَنْهَارُ﴾ أي أنهار الخمر واللبن والعسل والماء ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ أي مقيمين في‏ الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها.

2. ﴿لَهُمْ فِيهَا﴾ أي الجنة ﴿أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ أي من الحيض والنفاس والأذى والأخلاق الرذيلة والصفات الناقصة ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ أي كنّا كنينا لا تنسخه الشمس، ولا حرّ فيه ولا برد، و(ظليل) صفة مشتقة من لفظ (الظل) لتأكيد معناه، كما يقال: ليل أليل، ويوم أيوم، وفي الصحيحين‏ عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن في الجنة لشجرة يسير، الراكب الجواد المضمّر السريع، مائه عام ما يقطعها)، وفيهما أيضا من رواية أبي هريرة قال: (يسير الراكب في ظلها مائة سنة ما يقطعها)

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/177.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ جعل دخول الجنة جزاء من آمن وعمل صالحا إذ الإيمان بغير عمل صالح لا يكفي لتزكية النفس وإعدادها لهذا الجزاء، ولا يكاد يوجد الإيمان بغير العمل الصالح إلا أن يموت المرء عقب إيمانه فلا يتسع الوقت لظهور آثار الإيمان وثمراته منه، ويقول البصريون أن سوف أبلغ من السين في التنفيس وسعة الاستقبال في المضارع الذي تدخل عليه ويرى ابن هشام أنه لا فرق بينهما وكأنهم أخذوا ذلك من قاعدة دلالة زيادة المبنى على زيادة المعنى فلما كانت سوف أكثر حروفا كان معناها في الاستقبال أوسع ولا بد على هذا من نكتة للتعبير عن جزاء أهل النار بقوله: ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ﴾ وعن جزاء أهل الجنة بقوله: ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾ وكأنه من رحمته تعالى بالفريقين يعجل لأهل النعيم نعيمهم ولا يعجل لأهل العذاب عذابهم وفيه إشارة إلى امتداد وقت التوبة في الدنيا، والخلود طول المكث وأكده هنا بقوله) أبدا) أي دائما.

2. ﴿لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ قالوا أي من الحيض والنفاس، والعيوب والأدناس، أي سواء كانت حسية أو معنوية، وتقدم مثل هذه الجملة في سورة البقرة، وهناك كلام في نساء أهل الجنة ومعنى مصاحبتهم والاستمتاع بهن مع العلم بأن الجنة عالم غيبي ليس كعالم الدنيا.

3. ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ قال (2): الظل أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفيء إلا لما زالت عنه الشمس ويعبر بالظل عن العزة والمنعة وعن الرفاهة وأورد الشواهد على ذلك من الآيات ومن كلام الناس كقولهم أظلني فلان أي حرسني وجعلني في ظله أي عزه ومناعته، ثم قال وظل ظليل أي فائض، وندخلهم ظلا ظليلا كناية عن غضارة العيش، وقال غيره إن شدة الحر في بلاد العرب هي السبب في استعمالهم لفظ الظل بمعنى النعيم، والظليل صفة اشتقت من لفظ الظل يؤكد بها معناه كما يقال ليل أليل أي ظل وارف فينان لا يصيب صاحبه حر ولا سموم، ودائم لا تنسخه الشمس وأقول لعل ذلك إشارة إلى النعيم الجسماني كما عهد في القرآن ويؤكد ذلك إسناده إليه سبحانه وتعالى جده وجل ثناؤه.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/168.

(2) الكلام هنا للراغب

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ أي إن الذين آمنوا بالله وصدقوا برسوله سيدخلون جنات يتمتعون بنعيمها العظيم كفاء ما أخبتوا إلى ربهم وقدّموا من عمل صالح، لأن الإيمان وحده‏ لا يكفى لتزكية النفس وإعدادها لهذا الجزاء، بل لا بد معه من عمل صالح يشعر به المرء بالقرب من ربه والشعور بهيبته وجلال سلطانه.

2. ﴿لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ أي لهم أزواج مبرءات من العيوب الجسمانية والعيوب الخلقية، فليس فيهن ما يوحشهم منهن ولا ما يكدر صفوهم، وبذا تكمل سعادتهم ويتم سرورهم في تلك الحياة التي لا نعرف كنهها، وإنما نفهمها على طريق التمثيل وقياس الغائب على الشاهد.

3. ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ أي ونجعلهم في مكان لا حرّ فيه ولا قرّ، وفي ذلك إيماء إلى تمام النعمة والتمتع برغد العيش وكمال الرفاهية.

__________

(1) تفسير المراغى: 5/69.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في مقابل هذا السعير المتأجج، وفي مقابل الجلود الناضجة المشوية المعذبة.. كلما نضجت بدلت، ليعود الاحتراق من جديد، ويعود الألم من جديد، في مقابل هذا المشهد المكروب الملهوف.. نجد ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ في جنات ندية: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾

2. ونجد في المشهد ثباتا وخلودا مطمئنا أكيدا: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ ونجد في الجنات والخلد الدائم أزواجا مطهرة: ﴿لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾، ونجد روح الظلال الندية؛ يرف على مشهد النعيم: ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾

3. تقابل كامل في الجزاء، وفي المشاهد، وفي الصور، وفي الإيقاع.. على طريقة القرآن في (مشاهد القيامة) ذات الإيحاء القوي النافذ العميق‏.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/684.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ ذكر هنا للمقابلة وزيادة الغيظ للكافرين، واقتصر من نعيم الآخرة على لذّة الجنّات والأزواج الصالحات، لأنّهما أحبّ اللذّات المتعارفة للسامعين، فالزوجة الصالحة آنس شيء للإنسان، والجنّات محلّ النعيم وحسن المنظر.

2. ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ هو من تمام محاسن الجنّات، لأنّ الظلّ إنّما يكون مع الشمس، وذلك جمال الجنّات ولذّة التنعّم برؤية النور مع انتفاء حرّه، ووصف بالظليل وصفا مشتقّا من اسم الموصوف للدلالة على بلوغه الغاية في جنسه، فقد يأتون بمثل هذا الوصف بوزن فعيل: كما هنا، وقولهم: داء دويّ، ويأتون به بوزن أفعل: كقولهم: ليل أليل ويوم أيوم، ويأتون بوزن فاعل: كقولهم: شعر شاعر، ونصب ناصب.

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/159.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في مقابل العذاب الذي نزل بالكافرين كان الثواب للمؤمنين، وإذا كان الكفر هو السبب في العقاب، فإن الإيمان والعمل الصالح هو سبب الثواب، وقد عبر سبحانه وتعالى بالموصول للإشارة إلى أن العلة التي أثبتت الثواب الذي يتفضل الله تعالى به على عباده المؤمنين، هو الإيمان والعمل الصالح، ولا شك أن الإيمان هو الأساس في الجزاء، والعمل الصالح ثمرته، ولا إيمان من غير عمل صالح إلا أن يكون غير مثمر لأعظم ثمراته.

2. ولقد قرر سبحانه وتعالى في وعده أنه سيدخل هؤلاء المؤمنين العاملين جنات تكمل فيها أسباب النعيم، فالأنهار تجرى من تحت أشجارها، وهى ليست نعيما وقتيا، بل هي نعيم خالد، وقد أكد الخلود بالتأييد، فكأن الخلود ثابت ثبوتا مؤكدا لا شبهة فيه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

3. ويلاحظ هنا أنه في التعبير عن المستقبل عبر بقوله: ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾ أتى بالسين دون سوف، وكلاهما يفيد تأكيد القول في المستقبل، واختيار السين هنا يؤيد سيبويه فيما قاله من أن سوف قد تكون للتهديد، ويظهر على هذا أن السين عكسها.

4. وأن كل ما يتصور من نعيم الدنيا يوجد مثله على صورة أعظم وأكمل، ومن أكمل متع الحياة الدنيا الحياة الزوجية: ﴿لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ من أعظم نعم الدنيا الزواج، فهو ظل المرأة، ومأوى الرجل، ومستقر حياته، ومطمأنها ونعيمها، فيه مكاشفة النفس، وفيه الازدواج الروحى والمادى، وفيه المعاونة الإنسانية على أعلى صورها، وإن نعيم الجنة أكمل من نعيم الدنيا، فيه ما فيها من نعيم، ولكن على صورة أعلى وأكمل، والفرق بينهما كبير شاسع، يجتمعان في الاسم ويختلفان في الحقيقة، ولذلك كان في الجنة أزواج، فللنساء أزواج وللرجال أزواج مثلهم، وأزواج الجنة مطهرون من الرجس المادى والرجس المعنوى، فلا حيض، ولا نفاس، ولا أخلاق ذميمة؛ لأنه لا يدخل الجنة وفيه خلق ناقص، من أخلاق أهل الدنيا، وقد تكلم الناس في نوع العلاقة بين الزوجين في الجنة، ولكن القرآن لم يفصل ذلك الجزء، فنتركه على ما تركه الله تعالى.

5. ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ الظل هو ما يحجب الشمس وحرارتها، ويقال ظل الليل وظل الجنة، وقد قال الأصفهانى أنه يعبر عن الظل بالعز والمنعة، وقد قال في ذلك: (ويعبر بالظل عن العز والمنعة وعن الرفاهة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ﴾ [المرسلات‏] أي في عزة ومتاع، قال تعالى: ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا﴾ [الرعد] ﴿هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ﴾ [يس‏]، وعلى ذلك نقول إن هذا النص السامي ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾:

أ. إما أن يراد به الظل الحسى، ومعنى ظليل أنه عميق ساتر لا يتخلله أي شيء مما يؤذى، ويقول الزمخشري في تعريف الظل الظليل: (هو ما كان فينانا لا جدب فيه، ودائما لا تنسخه شمس، وسجسجا لا حر فيه ولا برد، وليس ذلك إلا ظل الجنة)

ب. ويصح أن يراد بالظل المنعة والعزة، ويكون المعنى ندخلهم في عزة ومنعة ورحمة ورعاية كريمة من الله تعالى، اللهم ارزقنا نعمة رضاك ووفقنا للعمل الصالح.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1722.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿جَنَّاتُ﴾ بساتين ذات أشجار مغطية لأرضها وهي في الجنة التي وعد المتقون ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ فلا تظمأ، أكلها دائم وظلها، لا تتساقط أوراقها، وهذا مع جمال اجتماع الخضرة والماء الجاري من تحت الأشجار.

2. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ لا يموتون بل باقين فيها أبداً ﴿لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ من الحيض ومن كل ما ينافي النظافة، فهي نظيفة من أصل فطرتها لا تحتاج إلى تنظف بشيء مما تستعمله نساء الدنيا ولا سعال ولا مخاط.

3. ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ معطوف على سندخلهم جنات فاجتمعت لهم لذة الجنات وجمالها وجمال الأنهار ونعمتها ولذة الظل الممدود الذي لا يتخلله شعاع من الشمس ولا ينسخه.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/93.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أما من آمن وعمل صالحا من موقع المعاناة والقناعة والإيمان والسير على الخط المستقيم‏ ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ﴾، فإن هناك الجنّات التي‏ ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ وهناك الخلود الأبدي الذي لا يذوق الإنسان معه طعم الموت.

2. ﴿لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ وهناك العلاقات الزوجية المتحركة في أجواء الطهر، وهناك الظل الظليل الذي يستروح فيه الإنسان الشعور بالأمن والطمأنينة والسعادة في رحمة الله ورضوانه.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/312.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أي أنّنا نعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأنّ ندخلهم جنّات تجري من تحت أشجارها الأنهار والسواقي يعيشون فيها حياة خالدة، هذا مضافا إلى ما يعطون من أزواج مطهّرات يستريحون إليهن، ويجدون في كنفهن لذة الروح والجسد، وينعمون تحت ظلال خالدة بدل الظلال الزائلة، لا تؤذيهم الرياح اللافحة كما لا يؤذيهم الزمهرير أبدا.

2. من الأمور الجديرة بالاهتمام والمستفادة من المقايسة بين هاتين الآيتين هو عموم الرحمة الإلهية وسبق رحمته على غضبه، لأنّ في الآية الأولى ذكرت عقوبة الكفار مبدوءة بكلمة (سوف) في حين بدأ الوعد الإلهي للمؤمنين بـ (السين) (سندخلهم)، ومن المعلوم استعمال سوف في اللغة العربية في المستقبل البعيد، واستعمال السين في المستقبل القريب، مع أننا نرى أنّ كلتا الآيتين‏ ترتبطان بالعالم الآخر، وجزاء المؤمنين وعقوبة الكافرين في ذلك العالم ـ من الناحية الفاصلة الزمانية ـ بالنسبة إلينا سواء، فيكون الاختلاف والتفاوت بين التعبيرين للإشارة إلى سرعة وسعة الرحمة الإلهية، وبعد ومحدودية الغضب الإلهي، وهو يشابه نفس العبارة التي نرددها في الأدعية وهي: (يا من سبقت رحمته غضبه)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/278.