...

📥 للتعريف بالكتاب وتحميله

📥 للبحث في الآيات القرآنية وعناوينها

اختر جزءا من الكتاب:

اختر عنوانا من الكتاب:

94. الهجرة والمراغم والجزاء الألهي

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈94⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 100]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

الزبير:

روي عن الزبير بن العوام (ت 36 هـ) قال: هاجر خالد بن حزام إلى أرض الحبشة، فنهشته حية في الطريق، فمات؛ فنزلت فيه: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، قال الزبير: وكنت أتوقعه، وأنتظر قدومه وأنا بأرض الحبشة، فما أحزنني شيء حزني وفاته حين بلغني، لأنه قل أحد ممن هاجر من قريش إلا ومعه بعض أهله أو ذي رحمه، ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى، ولا أرجو غيره(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٥٠.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿مُرَاغَمًا كَثِيرًا﴾، المراغم: التحول من أرض إلى أرض(1).

2. روي أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله: ﴿مُرَاغَمًا﴾، قال منفسحا، بلغة هذيل، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر(2):

وأترك أرض جهرة إن عندي... رجاء في المراغم والتعادي.

3. روي أنّه قال: ﴿وَسَعَةً﴾، السعة: الرزق(1).

4. روي أنّه قال: خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجرا، فقال لأهله: احملوني، فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فنزل الوحي: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ﴾ الآية(3).

5. روي أنّه قال: كان بمكة رجل يقال له: ضمرة، من بني بكر، وكان مريضا، فقال لأهله: أخرجوني من مكة؛ فإني أجد الحر، فقالوا: أين نخرجك؟ فأشار بيده نحو طريق المدينة، فخرجوا به، فمات على ميلين من مكة؛ فنزلت هذه الآية: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ﴾(4).

__________

(1) ابن جرير ٧/٣٩٩.

(2) الطستي في مسائله ـ كما في الإتقان ٢/١٠٢.

(3) أبو يعلى (٢٦٧٩.

(4) ابن جرير ٧/٣٩٨.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: عن أبي ضمرة بن العيص الزرقي الذي كان مصاب البصر، وكان بمكة، فلما نزلت: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾ فقال: إنني لغني، وإني لذو حيلة، فتجهز يريد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأدركه الموت بالتنعيم؛ فنزلت هذه الآية: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ﴾(1).

2. روي أنّه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ رخص فيها قوم من المسلمين ممن بمكة من أهل الضرر، حتى نزلت فضيلة المجاهدين على القاعدين، فقالوا: قد بين الله فضيلة المجاهدين على القاعدين، ورخص لأهل الضرر، حتى نزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ قالوا: هذه موجبة، حتى نزلت: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ فقال ضمرة بن العيص أحد بني ليث، وكان مصاب البصر: إني لذو حيلة؛ لي مال فاحملوني، فخرج وهو مريض، فأدركه الموت عند التنعيم، فدفن عند مسجد التنعيم؛ فنزلت فيه هذه الآية: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ﴾ الآية(2).

3. روي أنّه قال: إن رجلا من خزاعة كان بمكة، فمرض، وهو ضمرة بن العيص ـ أو العيص بن ضمرة ـ بن زنباع، فلما أمروا بالهجرة كان مريضا، فأمر أهله أن يفرشوا له على سريره، ففرشوا له، وحملوه، وانطلقوا به متوجها إلى المدينة، فلما كان بالتنعيم مات؛ فنزل: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾(3).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٥١.

(2) ابن جرير ٧/٣٩٨.

(3) سعيد بن منصور (٦٨٥.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿مُرَاغَمًا كَثِيرًا﴾، متحولا(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٠٠.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿مُرَاغَمًا﴾، متزحزحا عما يكره(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٠١.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: لما نزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ الآية؛ قال جندب بن ضمرة الجندعي: اللهم، أبلغت المعذرة والحجة، ولا معذرة لي ولا حجة، ثم خرج وهو شيخ كبير، فمات ببعض الطريق، فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: مات قبل أن يهاجر، فلا ندري أعلى ولاية أم لا؟ فنزلت: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ﴾ الآية(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٣٩٦.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا﴾، متحولا من الضلالة إلى الهدى(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَسَعَةً﴾، ومن العيلة إلى الغنى(1).

3. روي أنّه قال: لما نزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾؛ قال رجل من المسلمين يومئذ وهو مريض: والله، ما لي من عذر، إني لدليل بالطريق، وإني لموسر، فاحملوني، فحملوه، فأدركه الموت بالطريق؛ فنزل فيه: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ﴾(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٠٢.

(2) عبد الرزاق ١/١٧٠.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا﴾ معناه مذهب ومتحول(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾ معناه ثوابه(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 123.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿مُرَاغَمًا﴾، مبتغى المعيشة(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٠١.

ابن أبي حبيب:

روي عن يزيد بن أبي حبيب (ت 128 هـ) أن أهل المدينة يقولون: من خرج فاصلا وجب سهمه، وتأولوا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ﴾، يعني: من مات ممن خرج إلى الغزو بعد انفصاله من منزله قبل أن يشهد الوقعة فله سهمه من المغنم(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٠٣.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنه قيل له: ما تقول في رجل دعا إلى هذا الأمر فعرفه وهو في أرض منقطعة إذ جاءه موت الإمام، فبينا هو ينتظر إذ جاءه الموت؟ فقال: هو والله بمنزلة من هاجر إلى الله ورسوله فمات، فقد وقع أجره على الله(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/270.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾، يعني: في طاعة الله إلى المدينة(1).

2. روي أنّه قال: أنه لما نزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ الآية؛ بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذه الآية إلى مسلمي مكة، فقال جندب بن حمزة الليثي ثم الجندعي لبنيه: احملوني؛ فإني لست من المستضعفين، وإني لهاد بالطريق، ولو مت لنزلت في الآية، وكان شيخا كبيرا، فحمله بنوه على سريره متوجها إلى المدينة، فمات بالتنعيم، فبلغ أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم موته، فقالوا: لو لحق بنا لأتم الله أجره، فأراد الله عز وجل أن يعلمهم أنه لا يخيب من التمس رضاه؛ فأنزل الله عز وجل: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٠٢.

مالك:

روي عن مالك بن أنس (ت 179 هـ) أنّه سئل عن قول الله: ﴿وَسَعَةً﴾، فقال: سعة البلاد(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٥٠.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: هاجر رجل من بني كنانة يريد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فمات في الطريق، فسخر به قوم، واستهزؤوا به، وقالوا: لا هو بلغ الذي يريد، ولا هو أقام في أهله يقومون عليه، ويدفن، فنزل القرآن: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ﴾ الآية(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٣٩٨.

الكاظم:

روي عن ابن أبي عمير، قال: وجه زرارة ابنه عبيدا إلى المدينة يستخبر له خبر أبي الحسن وعبد الله، فمات قبل أن يرجع إليه عبيد ابنه، قال محمد بن أبي عمير: حدثني محمد بن حكيم، قال قلت لأبي الحسن الأول، فذكرت له زرارة وتوجيه ابنه عبيدا إلى المدينة، فقال الإمام الكاظم (ت 183 هـ): (إني لأرجو أن يكون زرارة ممن قال الله: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/270.

الرسّي:

ذكر الإمام القاسم الرسي (ت 246 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم قال سبحانه مؤكدا على من أمكنه النقلة والهجرة، والاعتزال لأهل المعصية والفسق والريبة: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ [النساء: 100]، يعني بالمراغم: الاعتزال لجوار أئمة الظلمة والمغاضبة، وإن غاض ذلك الفساق وأرغمهم وغمهم.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/265.

ابن الرسّي:

ذكر الإمام محمد بن القاسم الرسي (ت 284 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم قال الله سبحانه مؤكدا على من أمكنه النقلة، والهجرة والانتقال عن أهل المعصية؛ مرغبا لهم في المهاجرة عن مجاورة الفساق الأثمة: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾، يعني بالمراغم: السعة في الأرض، وإمكان المحال التي تبعد عنهم، وإمكان المراغمة، وهي: الاعتزال لجوار الأثمة والمغايضة؛ ففي ذلك الرضى لله سبحانه، وإن كرهه الفجرة وأرغمهم وغمهم.

2. فهذا أصل كان عنده أيضا من الأصول، كان يراه فرضا لازما، على كل مؤمن يضعف عن إنكار منكر العاصين: أن يكون بالنقلة عنهم، والتباعد منهم لهم من المهاجرين؛ ولذلك ما كان لزم الجبال، وصبر على الوحدة وشظف العيش، وترك المدن ومرافقها، وتقرب إلى الله تعالى، حتى توفي ¥ في رأس جبل من الجبال، ولم يزل صابرا فيه ومنه على ضيق المعاش وشدة الحال؛ فرحمة الله عليه وبركاته، وقبل الله منه ما تقرب به إليه من اعتزاله إليه.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/262.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾:

أ. قيل: المراغم: المذهب والملجأ، وسعة في الرزق، أي: يجد في الأرض، وفي غير الأرض التي هم فيها ـ ما ذكر.

ب. وقيل: المراغم: المتزحزح، أي: يجد متزحزحًا عما يكره وبراحًا.

ج. وعن ابن عَبَّاسٍ قال المراغم: التحول من أرض إلى أرض، والسعة في الرزق، وقيل: من الضلالة إلى الهدى، ومن العيلة إلى الغنى.

د. وقيل: المراغم: المهرب.

هـ. وقيل: لما نزلت هذه الآية سمعها رجل وهو شيخ كبير ـ وقيل: إنه مريض ـ فقال: والله ما أنا ممن استثنى الله؛ وإني لأجد حيلة، والله لا أبيت الليلة بمكة؛ فخرجوا به يحملونه حتى أتوا به التنعيم، فأدركه الموت بها؛ فصفق يمينه على شماله، ثم قال اللهُمَّ هذه لك وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايعت عليه رسولك، ومات؛ فنزل فيه: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾ أي: وجب أجره.

و. وقيل: إنه لما سمع الرجل أن الملائكة ضربت وجوه أُولَئِكَ وأدبارهم، وقد أدنف للموت؛ فقال: أخرجوني؛ فاحتمل بينه وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما انتهي إلى عقبة، فتوفي بها؛ فأنزل الله هذه الآية، والله أعلم بذلك.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٣7.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم قال عز وجل: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ فدل بذلك على أنه أراد عز أوليائه، وإرغام كل عدو له ولأوليائه، لأن في الحلول بين أظهر الفاسقين سروراً لهم بما يرون من ذل المؤمنين، وفي الهجرة عنهم إرعابهم بما يرون من عز المسلمين.

2. والمراغم: فهو المكان الذي يغمهم ويسوؤهم، ويبعد المؤمنين من ضيمهم وجوارهم، فيجب على المؤمن أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإن لم يقدر على نفي ذلك وجب عليه أن يهاجر في أرض الله عن ذلك الموضع، فإن لم يقدر لكثرة عياله ولم يمكنه أن يهاجر بهم، كان يهاجر مرة في بلاد الله، ومرة يتعهدهم حتى يأتي الله بأمره وهو على كل شيء قدير.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/248.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ في المراغم وجهان:

أ. أحدهما أن المراغم التحول من أرض إلى أرض قال نابغة بن جعدة:

çبطود يلوذ بأركانه... عزيز المراغم والمهربé

وكما قال آخر:

çإلى بلد غير داني المحل... بعيد المراغم والمطلبé

ب. الثاني: والمراغم المهاجر أيضاً لأن من شخص عن قوم يهاجر عنهم فقد راغمهم والرغم الذل والرغم التراب والرغم بضم الراء ما يسيل من الأنف.

2. وسعة أي سعة في الرزق وخروجاً من الضلالة إلى الهدى ومن كتمان الدين إلى إظهاره.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/192.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في المراغم خمسة تأويلات:

أ. أحدها: أنه المتحوَّل من أرض إلى أرض، وهذا قول ابن عباس والضحاك، ومنه قول نابغة بني جعدة:

çكطْودٍ يُلاذ بأركانه...عزيز المراغم والمطلبé

ب. الثاني: مطلب المعيشة، وهو قول السدي، ومنه قول الشاعر:

çإلى بلدٍ غير داني المحل...بَعيد المُراغم والمطلبé

ج. الثالث: أن المراغم المهاجر، وهو قول ابن زيد:

د. الرابع: يعني بالمراغم مندوحة عما يكره.

هـ. الخامس: أن يجد ما يرغمهم به، لأن كل من شخص عن قومه رغبة عنهم فقد أرغمهم، وهذا قول بعض البصريين.

2. أصل ذلك الرغم وهو الذل، والرّغام: التراب لأنه ذليل، والرُّغام بضم الراء ما يسيل من الأنف.

3. في قوله تعالى: ﴿وَسَعَةً﴾ ثلاث تأويلات:

أ. أحدها: سعة في الرزق وهو قول ابن عباس.

ب. الثاني: يعني من الضلالة إلى الهدى ومن العيلة إلى الغنى، وهو قول قتادة.

ج. الثالث: سعة في إظهار الدين.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٢٢).

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أخبر الله تعالى في هذه الآية ان من يفارق وطنه، ويخرج من أرض الشرك وأهله هرباً بدينه إلى أرض الإسلام وأهلها والمهاجر في سبيل الله يعني منهاج دين الله وطريقه الذي شرعه لخلقه يجد في الأرض مراغماً كثيراً (يجد) مجزوم، لأنه جواب الشرط.

2. المراغم المضطرب في البلاد والمذهب يقال منه، راغم فلان قومه مراغماً ومراغمة قال الفراء: هما مصدران ومنه قول النابغة الجعدي:

çكطود يلاذ بأركانه...عزيز المراغم والمهرب‏ é

وقال الشاعر:

çإلى بلد غير داني المحل...بعيد المراغم والمضطرب‏é

والمراغم مأخوذ من الرغام وهو التراب ومعنى راغمت فلاناً هجرته، ولم أبال رغم أنفه أي وان لصق بالتراب أنفه.

3. اختلف أهل التأويل في معنى ﴿مُرَاغَمًا﴾:

أ. قال ابن عباس: المراغم التحول من أرض إلى أرض وبه قال الضحاك، والربيع، والحسن، وقتادة، ومجاهد.

ب. وقال السدي يعني معيشة.

ج. وقال ابن زيد يعني مهاجراً.

د. وقال ابن عباس يعني سعة في الرزق، وبه قال الربيع بن أنس والضحاك.

هـ. وقال قتادة: سعة من الضلالة إلى الهدى.

و. وقال يزيد بن أبي حبيب: ان أهل المدينة يقولون من خرج فاصلا من أهله يريد الغزو وجب سهمه لقوله: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ﴾

4. قوله تعالى: ﴿وَسَعَةً﴾ يحتمل أمرين:.

أ. أحدهما: السعة في الرزق.

ب. الثاني: السعة مما كان فيه من تضييق المشركين عليهم في أمر دينهم بمكة.

5. ثم أخبر تعالى أن من خرج مهاجراً من أرض الشرك فاراً بدينه إلى الله ورسوله وأدركه الموت قبل بلوغه دار الهجرة وأرض الإسلام‏ ﴿فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾ يعني ثواب عمله وجزاء هجرته عليه تعالى:‏ ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا﴾ يعني ساتراً على عباده ذنوبهم بالعفو عنهم ﴿رَحِيمًا﴾ بهم رفيقاً.

6. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. ان الله لما أنزل ان الذين‏ ﴿تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ كتب المسلمون بالآيات وبعثوها إلى إخوانهم من أهل مكة فخرج حينئذ منها جماعة، فقالوا: لم يبق لنا عذر فهاجروا.

ب. وقال سعيد بن جبير وعكرمة والضحاك والسدي وابن زيد وابن عباس‏ ورواه أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام أنها نزلت في ضمرة بن العيص بن ضمرة بن زنباع أو العيص بن ضمرة وكان مريضاً فأمر أهله أن يفرشوا له على سريرة ويحملوه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ففعلوا فأتاه الموت بالتغيم، فنزلت فيه الآية، وبه قال قتادة وقال: قال ضمرة وأنا أعرف الطريق ولي سعة في المال أخرجوني فأخرج، فمات، وقال عمر بن شبة: هو أبو أمية ضمرة بن جندب الخزاعي، وقال الزبير بن بكار: هو خالد بن حزام أخو حكيم بن حزام خرج مهاجراً فمات في الطريق، قال عكرمة وخرج جماعة من مكة مهاجرين فلحقهم المشركون وفتنوهم عن دينهم فافتتنوا، فأنزل الله فيهم‏ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ﴾ وكتب بها المسلمون من المدينة إليهم ثم نزل فيهم‏ ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/305.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الهجر: ضد الوصل، وفاجر القوم من دار إلى دار: تركوا الأولى: للثانية.

ب. الرغام: التراب، وقيل: إنه أصل الباب، وأرغم الله أنفه: ألصقه بالتراب، والرغم أن يفعل الإنسان ما يكرهه على كره، هكذا قال الخليل، وقيل: أصله الرغم، وهو الذل، وفعله على رغمة أي على ذلة لما يكره، ومنه الرَّغام: التراب؛ لأنه ذليل، وأرغم الله أنفه يريد به إذلاله، والرُّغام ما يسيل من الأنف؛ لأنه يذل صاحبه، والمُراغَم المذهب والمهرب، وقيل: الموضع الذي يلتجئ إليه الخائف، والمَرَاغِم موضع المراغمة، نحو المقاتل موضع المقاتلة، والمراغمة أصله مصدر قولهم: راغم قومه مراغمة، ومراغمًا مصدران، أي نابذتهم يعني لاعنتهم منابذة، ويقال: راغمته: هجرته وعاديته، وقال الشاعر:

çإِلَى بَلَدٍ غَيْرِ دَانِي المَحَلِّ...بَعِيدِ المُرَاغَمِ والمَضْطَرَبْ أي: المهاجرé

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة: قيل: لما نزلت آيات الهجرة سمعها رجل من خزاعة يقال له: ضمرة، وكان مريضًا، فأمر أهله أن يفرشوا له على سريره، ويحملوه عليه إلى رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، ففعلوا، فمات في الطريق، فنزلت الآية، عن قتادة وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي، وقيل: مات بالتنعيم، وقيل: بعد أن خرج من الحرم، وروي أنه قال إن لي من المال ما يبلغني إلى المدينة وأبعد فأخرجوني، وقيل: اسمه جندب بن ضمرة، وروي أنه لما خرج ومات وبلغ خبره المسلمين، فقالوا: لو بلغ المدينة لكان أتم أجرًا، وقال المشركون: ما أدرك ما طلب، فنزلت الآية.

3. ثم بَيَّنَ تعالى أن من أراد الهجرة، ولم يبلغ المقصد فله عظيم الأجر، فقال سبحانه ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ﴾ يعني يفارق أهل الشرك هربًا بدينه إلى أرض الإسلام.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا﴾:

أ. قيل: متحولاً من أرض إلى أرض، عن ابن عباس والضحاك والربيع.

ب. وقيل: مهاجرًا، عن ابن زيد وأبي عبيدة وأبي مسلم.

ج. وقيل: مطلبًا للمعيشة، عن السدي مخرجًا عما أنكره، عن مجاهد.

د. وقيل: كان إذا أسلم الرجل خرج من قومه ﴿مُرَاغَمًا﴾ أي مغاضبًا لهم مهاجرًا مقاطعًا.

هـ. وقيل: للمذهب مراغم، عن القتبي.

و. وقيل: ما يرغم أعاديه، ومن كان يمنعه من الهجرة، ويمتنع به من آذاهم وضررهم، عن أبي علي.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَسَعَةً﴾:

أ. قيل: السعة في الرزق، عن ابن عباس والربيع والضحاك ومقاتل.

ب. وقيل: سعة في إظهار الدين لما كان يلحقهم من تضييق المشركين عليهم في أمر دينهم، حتى منعوا من إظهاره، عن قتادة.

ج. وقيل: مذهبًا واسعًا لا يضيق عليه سلوكه.

د. وقيل: هو الخروج من الضلالة إلى الهدى، ومن العيلة إلى الغنى.

6. ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا﴾ من داره ﴿إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ يعني إلى حيث أمره الله وأمره رسوله، أو حيث يرضي الله ورسوله، أو حيث يأمر الله وحيث يأمر الرسول ﴿ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ﴾ قبل أن يصل إلى دار الهجرة ﴿فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾ أي استوجب أجر هجرته.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾:

أ. قيل: ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا﴾ ساترًا لذنوب عباده ﴿رَحِيمًا﴾ بالعفو عنهم.

ب. وقيل: غفورا لما كان من تأخر الهجرة، رحيمًا بإيجاب الأجر على من لم يتم الهجرة، لحسن النية.

8. تدل الآية الكريمة على:

أ. وجوب الهجرة متى وجد متسعًا وطريقًا وإنْ لم يجد سعة في الرزق؛ لأن ذلك مما يجده من بعد، ولذلك قال العلماء: إن الأسير المفتون في دار الحرب يجب عليه اللحوق بدار الإسلام متى أمكن وجوبًا معينًا، وذلك بخلاف الجهاد.

ب. تدل على أن من أَخَذَ في الهجرة ولم تتم لموته فأجره تام على الله، وليس في الآية أي أجر هو؛ فلذلك اختلف العلماء فمنهم من قال المراد أجر قصده وقدر عمله دون أجر الهجرة، ومنهم من قال أجر المجاهد المهاجر، ومنهم من قال له أجر كمال الهجرة من حيث قصد، ومقادير الثواب تعلم بالسمع، فإن ثبت شيء بالسمع قلنا به وإلا فالأول ظاهر، والثاني أقرب إلى سبب النزول، ولا منع في الآية بأن يكمل له أجر الهجرة؛ لنيته وبذل الجهد، وأنه قطع دونه، ولأن فعله يعظم إذا وقع على هذا الوجه.

ج. استدلّ بعض أهل المدينة بالآية على أن الغازي يستحق السهم المذكور من الغنيمة إذا مات في الطريق وهذا بعيد؛ لأن المراد بالآية الأجر والثواب.

9. ﴿يَجِدْ﴾ جواب المجازاة، و﴿مُرَاغَمًا﴾ مفعول ﴿يَجِدْ﴾، كقولك: يجد مذهبا، ﴿ثُمَّ يُدْرِكْهُ﴾ جزم؛ لأنه عطف على قوله: ﴿وَمَنْ يُخْرِجُ﴾

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/42.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. المهاجرة: المفارقة، وأصله من الهجر الذي هو ضد الوصل.

ب. المراغم: المضطرب في البلاد، والمذهب، وأصله من الرغام: وهو التراب، ومعنى راغمت فلانا: هاجرته، ولم أبال رغم أنفه: أي وإن لصق بالتراب أنفه، وأرغم الله أنفه: ألصقه بالتراب، وقيل: أصله الذل والشدة، والمراغم: المعادي الذي يروم إذلال صاحبه، ومنه الحديث: (إذا صلى أحدكم فليزم جبينه وأنفه الأرض، حتى يخرج منه الرغم) أي حتى يذل ويخضع لله تعالى، وفعلته على رغمه: أي على ذله بما يكره، وأرغم الله أنفه: أذله، والمراغم الموضع والمصدر من المراغمة قال:

çإلى بلد غير داني المحل... بعيد المراغم والمضطربé

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: لما نزلت آيات الهجرة، سمعها رجل من المسلمين، وهو جندع، أو جندب بن ضمرة، وكان بمكة، فقال: والله ما أنا مما استثنى الله، إني لأجد قوة، وإني لعالم بالطريق! وكان مريضا، شديد المرض، فقال لبنيه: والله لا أبيت بمكة، حتى أخرج منها، فإني أخاف أن أموت فيها، فخرجوا يحملونه، على سرير، حتى إذا بلغ التنعيم مات فنزلت الآية، عن أبي حمزة الثمالي، وعن قتادة، وعن سعيد بن جبير.

ب. وقال عكرمة: وخرج جماعة من مكة مهاجرين، فلحقهم المشركون، وفتنوهم عن دينهم، فافتتنوا، فأنزل الله فيهم: (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله)، فكتب بها المسلمون إليهم، ثم نزلت فيهم ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

3. ثم قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ﴾ يعني: يفارق أهل الشرك ويهرب بدينه من وطنه إلى أرض الاسلام ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ أي: في منهاج دين الله، وطريقه الذي شرعه لخلقه،

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾:

أ. قيل: أي: متحولا من الأرض، وسعة في الرزق، عن ابن عباس، والضحاك، والربيع.

ب. وقيل: مزحزحا عما يكره، وسعة من الضلالة إلى الهدى، عن مجاهد وقتادة.

ج. وقيل: مهاجرا فسيحا متسعا، مما كان فيه من تضييق المشركين عليه.

5. ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ﴾: أخبر سبحانه أن من خرج من بلده مهاجرا من أرض الشرك، فارا بدينه إلى الله ورسوله ﴿ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ﴾ قبل بلوغه دار الهجرة، وأرض الاسلام، ﴿فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾ أي ثواب عمله، وجزاء هجرته، على الله تعالى: ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا﴾ أي: ساترا على عباده ذنوبهم بالعفو عنهم ﴿رَحِيمًا﴾ بهم رفيقا.

6. مما جاء في معنى الآية من الحديث:

أ. ما رواه الحسن، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبرا من الأرض، استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم، ومحمد عليهما السلام)

ب. وروى العياشي بإسناده، عن محمد بن أبي عمير: حدثني محمد بن حليم قال وجه زرارة بن أعين ابنه عبيدا إلى المدينة، ليستخبر له خبر أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام، وعبد الله، فمات قبل أن يرجع إليه عبيد ابنه.

ج. قال محمد بن أبي عمير: حدثني محمد بن حكيم قال ذكرت لأبي الحسن عليه السلام زرارة، وتوجيهه عبيدا ابنه إلى المدينة، فقال: إني لأرجو أن يكون زرارة ممن قال الله فيهم: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ﴾ الآية.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/151.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا﴾ قال سعيد بن جبير، ومجاهد: متزحزحا عمّا يكره، وقال ابن قتيبة: المراغم والمهاجر: واحد، يقال: راغمت وهاجرت، وأصله: أن الرجل كان إذا أسلم، خرج عن قومه، مراغما، أي: مغاضبا لهم، ومهاجرا، أي: مقاطعا من الهجران، فقيل للمذهب: مراغم، وللمصير إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هجرة، لأنها كانت بهجرة الرجل قومه.

2. في السّعة قولان:

أ. أحدهما: أنها السّعة في الرّزق، قاله ابن عباس، والجمهور.

ب. الثاني: التّمكّن من إظهار الدّين، قاله قتادة.

3. ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ اتّفقوا على أنه نزل في رجل خرج مهاجرا، فمات في الطريق، واختلفوا فيه على ستة أقوال:

أ. أحدها: أنه ضمرة بن العيص، وكان ضريرا موسرا، فقال: احملوني فحمل، وهو مريض، فمات عند التّنعيم، فنزل فيه هذا الكلام، رواه سعيد بن جبير.

ب. الثاني: أنه العيص بن ضمرة بن زنباع الخزاعيّ، أمر أهله أن يحملوه على سريره، فلمّا بلغ التّنعيم، مات فنزلت فيه هذه الآية، رواه أبو بشر عن سعيد بن جبير.

ج. الثالث: أنه ابن ضمرة الجندعيّ، مرض فقال لبنيه: أخرجوني من مكّة، فقد قتلني غمّها، فقالوا: أين؟ فأومأ بيده نحو المدينة، يريد الهجرة، فخرجوا به، فمات في الطريق، فنزل فيه هذا، ذكره ابن إسحاق، وقال مقاتل: هو جندب بن ضمرة.

د. الرابع: أن اسمه سبرة، فلما نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿مُرَاغَمًا كَثِيرًا﴾ قال لأهله وهو مريض: احملوني، فإني موسر، ولي من المال ما يبلغني إلى المدينة، فلما جاوز الحرم، مات فنزل فيه هذا، قاله قتادة.

هـ. الخامس: أنه رجل من بني كنانة هاجر فمات في الطريق، فسخر منه قومه، فقالوا: لا هو بلغ ما يريد، ولا أقام في أهله حتى يدفن، فنزل فيه هذا، قاله ابن زيد.

و. السادس: أنه خالد بن حزام أخو حكيم بن حزام، خرج مهاجرا، فمات في الطريق، ذكره الزّبير بن بكّار، وقوله تعالى: ﴿وَقَعَ﴾ معناه وجب.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/458.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. المانع الذي نصت عليه الآية الكريمة أمران:

أ. الأول: ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾:

أي أن يكون له في وطنه نوع راحة ورفاهية، فيقول لو فارقت الوطن وقعت في الشدة والمشقة وضيق العيش، فأجاب الله عنه بقوله: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ يقال: راغمت الرجل إذا فعلت ما يكرهه ذلك الرجل، واشتقاقه من الرغام وهو التراب، فإنهم يقولون: رغم أنفه، يريدون به أنه وصل إليه شيء يكرهه، وذلك لأن الأنف عضو في غاية العزة والتراب في غاية الذلة، فجعلوا قولهم: رغم أنفه كناية عن الذل، إذا عرفت هذا فنقول: المشهور أن هذه المراغمة إنما حصلت بسبب أنهم فارقوا وخرجوا عن ديارهم.

وعندي فيه وجه آخر، وهو أن يكون المعنى: ومن يهاجر في سبيل الله إلى بلد آخر يجد في أرض ذلك البلد من الخير والنعمة ما يكون سببا لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته الأصلية وذلك لأن من فارق وذهب إلى بلدة أجنبية فإذا استقام أمره في تلك البلدة الأجنبية، ووصل ذلك الخبر إلى أهل بلدته خجلوا من سوء معاملتهم معه، ورغمت أنوفهم بسبب ذلك، وحمل اللفظ على هذا أقرب من حمله على ما قالوه والله أعلم، والحاصل كأنه قيل: يا أيها الإنسان إنك كنت إنما تكره الهجرة عن وطنك خوفا من أن تقع في المشقة والمحنة في السفر، فلا تخف فإن الله تعالى يعطيك من النعم الجليلة والمراتب العظيمة في مهاجرتك ما يصير سببا لرغم أنوف أعدائك، ويكون سببا لسعة عيشك، وإنما قدم في الآية ذكر رغم الأعداء على ذكر سعة العيش لأن ابتهاج الإنسان الذي يهاجر عن أهله وبلده بسبب شدة ظلمهم عليه بدولته من حيث إنها تصير سببا لرغم أنوف الأعداء، أشد من ابتهاجه بتلك الدولة من حيث انها صارت سببا لسعة العيش عليه.

ب. الثاني: من الاقدام على المهاجرة فهو أن الإنسان يقول: إن خرجت عن بلدي في طلب هذا الغرض، فربما وصلت إليه وربما لم أصل إليه، فالأولى: أن لا أضيع الرفاهية الحاضرة بسبب طلب شيء ربما أصل إليه، وربما لا أصل إليه، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله﴾ والمعنى ظاهر.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله﴾:

أ. قال بعضهم: المراد من قصد طاعة الله ثم عجز عن إتمامها، كتب الله له ثواب تمام تلك الطاعة: كالمريض يعجز عما كان يفعله في حال صحته من الطاعة، فيكتب له ثواب ذلك العمل‏ هكذا روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ب. وقال آخرون: ثبت له أجر قصده وأجر القدر الذي أتى به من ذلك العمل، وأما أجر تمام العمل فذلك محال.

3. القول الأول أولى لأنه تعالى إنما ذكر هذه الآية هاهنا في معرض الترغيب في‏ الجهاد، وهو أن من خرج إلى السفر لأجل الرغبة في الهجرة، فقد وجد ثواب الهجرة، ومعلوم أن الترغيب إنما يحصل بهذا المعنى، فأما القول بأن معنى الآية هو أن يصل إليه ثواب ذلك القدر من العمل، فلا يصلح مرغبا، لأنه قد عرف أن كل من أتى بعمل فإنه يجد الثواب المرتب على ذلك القدر من العمل، ويدل عليه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وإنما لكل امرئ ما نوى) وأيضا روي في قصة جندب بن ضمرة، أنه لما قرب موته أخذ يصفق بيمينه على شماله، ويقول: اللهم هذه لك، وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك، ثم مات فبلغ خبره أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: لو توفي بالمدينة لكان خيرا له، فنزلت هذه الآية.

4. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: هذه الآية تدل على أن العمل يوجب الثواب على الله، لأنه تعالى قال: ﴿فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله﴾ وذلك يدل على قولنا من ثلاثة أوجه:

أ. أحدها: أنه ذكر لفظ الوقوع، وحقيقة الوجوب هي الوقوع والسقوط، قال تعالى: ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ [الحج: 26] أي وقعت وسقطت.

ب. ثانيها: أنه ذكر بلفظ الأجر، والأجر عبارة عن المنفعة المستحقة، فأما الذي لا يكون مستحقا فذاك لا يسمى أجرا بل هبة.

ج. ثالثها: قوله: ﴿عَلَى الله﴾ وكلمة (على) للوجوب، قال تعالى: ﴿وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران: 97] والجواب: أننا لا ننازع في الوجوب، لكن بحكم الوعد والعلم والتفضل والكرم، لا بحكم الاستحقاق الذي لو لم يفعل لخرج عن الإلهية، وقد ذكرنا دلائله فيما تقدم.

5. استدلّ قوم بهذه الآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه من الغنيمة، كما وجب أجره، وهذا ضعيف، لأن لفظ الآية مخصوص بالأجر، وأيضا فاستحقاق السهم من الغنيمة متعلق بحيازتها، إذ لا تكون غنيمة إلا بعد حيازتها، قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنفال: 41]

6. ثم قال تعالى: ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أي يغفر ما كان منه من القعود إلى أن خرج، ويرحمه بإكمال أجر المجاهدة.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/199.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ﴾ شرط وجوابه، ﴿فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا﴾ اختلف في تأويل المراغم، فقال مجاهد: المراغم المتزحزح، وقال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم: المراغم المتحول والمذهب، وقال ابن زيد: والمراغم المهاجر، وقاله أبو عبيدة، قال النحاس: فهذه الأقوال متفقة المعاني، فالمراغم المذهب والمتحول في حال هجرة، وهو اسم الموضع الذي يراغم فيه، وهو مشتق من الرغام، ورغم أنف فلان أي لصق بالتراب، وراغمت فلانا هجرته وعاديته، ولم أبال إن رغم أنفه، وقيل: إنما سمي مهاجرا ومراغما لأن الرجل كان إذا أسلم عادى قومه وهجرهم، فسمي خروجه مراغما، وسمي مصيره إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هجرة، وقال السدي: المراغم المبتغى للمعيشة، وقال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: المراغم الذهاب في الأرض، وهذا كله تفسير بالمعنى، وكله قريب بعضه من بعض، فأما الخاص باللفظة فإن المراغم موضع المراغمة كما ذكرنا، وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده، فكأن كفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة، فلو هاجر منهم مهاجر لأرغم أنوف قريش لحصوله في منعة منهم، فتلك المنعة هي موضع المراغمة، ومنه قول النابغة:

çكطرد يلاذ بأركانه...عزيز المراغم والمهربé

2. ﴿وَسَعَةً﴾ أي في الرزق، قاله ابن عباس والربيع والضحاك، وقال قتادة: المعنى سعة من الضلالة إلى الهدى ومن العيلة إلى الغنى، وقال مالك: السعة سعة البلاد، وهذا أشبه بفصاحة العرب، فإن بسعة الأرض وكثرة المعاقل تكون السعة في الرزق، واتساع الصدر لهمومه وفكره وغير ذلك من وجوه الفرج، ونحو هذا المعنى قول الشاعر:

çوكنت إذا خليل رام قطعي...وجدت وراي منفسحا عريضاé

وقال آخر:

çلكان لي مضطرب واسع...في الأرض ذات الطول والعرضé

3. قال مالك: هذه الآية دالة على أنه ليس لأحد المقام بأرض يسب فيها السلف ويعمل فيها بغير الحق، وقال: والمراغم الذهاب في الأرض، والسعة سعة البلاد على ما تقدم، واستدل أيضا بعض العلماء بهذه الآية على أن للغازي إذا خرج إلى الغزو ثم مات قبل القتال له سهمه وإن لم يحضر الحرب، رواه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أهل المدينة، وروي ذلك عن ابن المبارك أيضا.

4. ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ الآية، قال عكرمة مولى ابن عباس: طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة حتى وجدته، وفي قول عكرمة هذا دليل على شرف هذا العلم قديما، وأن الاعتناء به حسن والمعرفة به فضل، ونحو منه قول ابن عباس: مكثت سنين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ما يمنعني إلا مهابته، والذي ذكره عكرمة هو ضمرة بن العيص أو العيص ابن ضمرة بن زنباع، حكاه الطبري عن سعيد بن جبير، ويقال فيه: ضميرة أيضا، ويقال: جندع بن ضمرة من بني ليث، وكان من المستضعفين بمكة وكان مريضا، فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال أخرجوني، فهيئ له فراش ثم وضع عليه وخرج به فمات في الطريق بالتنعيم، فأنزل الله فيه ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا﴾ الآية، وذكر أبو عمر أنه قد قيل فيه: خالد ابن حزام بن خويلد ابن أخي خديجة، وأنه هاجر إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات قبل أن يبلغ أرض الحبشة، فنزلت فيه الآية، والله أعلم، وحكى أبو الفرج الجوزي أنه حبيب بن ضمرة، وقيل: ضمرة بن جندب الضمري، عن السدي، وحكي عن عكرمة أنه جندب بن ضمرة الجندعي، وحكي عن ابن جابر أنه ضمرة بن بغيض الذي من بني ليث، وحكى المهدوي أنه ضمرة بن ضمرة بن نعيم، وقيل: ضمرة بن خزاعة، والله أعلم، وروى معمر عن قتادة قال لما نزلت ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ الآية، قال رجل من المسلمين وهو مريض: والله ما لي من عذر! إني لدليل في الطريق، وإني لموسر، فاحملوني، فحملوه فأدركه الموت في الطريق، فقال أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: لو بلغ إلينا لتم أجره، وقد مات بالتنعيم، وجاء بنوه إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأخبروه بالقصة، فنزلت هذه الآية ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا﴾ الآية، وكان اسمه ضمرة بن جندب، ويقال: جندب ابن ضمرة على ما تقدم.

5. ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا﴾ لما كان منه من الشرك، ﴿رَحِيمًا﴾ حين قبل توبته.

6. قال ابن العربي: قسم العلماء الذهاب في الأرض قسمين: هربا وطلبا، فالأول ينقسم إلى ستة أقسام:

أ. الأول: الهجرة وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضا في أيام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث كان، فإن بقي في دار الحرب عصى، ويختلف في حاله،.

ب. الثاني: الخروج من أرض البدعة، قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف، قال ابن العربي: وهذا صحيح، فإن المنكر إذا لم تقدر أن تغيره فزل عنه، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿الظَّالِمِينَ﴾،.

ج. الثالث: الخروج من أرض غلب عليها الحرام: فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم،.

د. الرابع: الفرار من الأذية في البدن، وذلك فضل من الله أرخص فيه، فإذا خشي على نفسه فقد أذن الله في الخروج عنه والفرار بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور، وأول من فعله إبراهيم صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنه لما خاف من قومه قال إني مهاجر إلى ربي، وقال: إني ذاهب إلى ربي سيهدين)، وقال مخبرا عن موسى: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ﴾،

هـ. الخامس ـ خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النزهة، وقد أذن صلّى الله عليه وآله وسلّم للرعاة حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح فيكونوا فيه حتى يصحوا، وقد استثني من ذلك الخروج من الطاعون، فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد تقدم بيانه في البقرة)، بيد أن علماءنا قالوا: هو مكروه،

و. السادس ـ الفرار خوف الأذية في المال، فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، والأهل مثله وأوكد.

7. أما قسم الطلب فينقسم قسمين: طلب دين وطلب دنيا، فأما طلب الدين فيتعدد بتعدد أنواعه إلى تسعة أقسام:

أ. الأول: سفر العبرة، قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ وهو كثير، ويقال: إن ذا القرنين إنما طاف [الأرض] ليرى عجائبها، وقيل: لينفذ الحق فيها.

ب. الثاني: سفر الحج، والأول وإن كان ندبا فهذا فرض.

ج. الثالث: سفر الجهاد وله أحكامه،.

د. الرابع: سفر المعاش، فقد يتعذر على الرجل معاشه مع الإقامة فيخرج في طلبه لا يزيد عليه، من صيد أو احتطاب أو احتشاش، فهو فرض عليه،

هـ. الخامس سفر التجارة والكسب الزائد على القوت، وذلك جائز بفضل الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ يعني التجارة، وهي نعمة من الله بها في سفر الحج، فكيف إذا انفردت،

و. السادس ـ في طلب العلم وهو مشهور،

ز. السابع ـ قصد البقاع، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)،

ح. الثامن ـ الثغور للرباط بها وتكثير سوادها للذب عنها،

ط. التاسع ـ زيارة الإخوان في الله تعالى، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: زار رجل أخاله في قرية فأرصد الله له ملكا على مدرجته فقال أين تريد فقال: أريد أخا لي في هذه القرية قال هل لك من نعمة تربها عليه قال لا غير أني أحببته في الله تعالى قال فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)، رواه مسلم وغيره.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/348.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله﴾ قرئ: يدركه بالجزم، على أنه معطوف على فعل الشرط، وبالرفع، على أنه خبر مبتدأ محذوف، وبالنصب على إضمار أن، والمعنى: أن من أدركه الموت قبل أن يصل إلى مطلوبه، وهو المكان الذي قصد الهجرة إليه، أو الأمر الذي قصد الهجرة له‏.

2. ﴿فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله﴾ أي: ثبت ذلك عنده ثبوتا لا يتخلف‏ ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا﴾ أي: كثير المغفرة ﴿رَحِيمًا﴾ أي: كثير الرحمة.

3. استدلّ بهذه الآية: على أن الهجرة واجبة على كل من كان بدار الشرك، أو بدار يعمل فيها بمعاصي الله جهارا، إذا كان قادرا على الهجرة ولم يكن من المستضعفين، لما في هذه الآية الكريمة من العموم، وإن كان السبب خاصا كما تقدّم، وظاهرها: عدم الفرق‏ بين مكان ومكان وزمان وزمان، وقد ورد في الهجرة أحاديث، وورد ما يدلّ على أنه لا هجرة بعد الفتح، وقد أوضحنا ما هو الحقّ في شرحنا على المنتقى فليرجع إليه.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/585.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يُّهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الَارْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا﴾ موضع تحوُّلٍ في الرَّغام وهو التراب، حتَّى يصل المدينة، أو طريقًا يلصق بها أنوف أعدائه بالرَّغام، أي: التراب بوصوله بها إلى المدينة، كما أنَّ المراغم ورد في اللغة: المذهب في الأرض، وأنَّ المراغمة: المغاضبة، ﴿وَسَعَةً﴾ في الرزق وإعلانًا للدين.

2. لَمَّا سمع جندب بن ضمرة قوله تعالى: ﴿اِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ وقد بعث صلّى الله عليه وآله وسلّم بالآية إلى من آمن في مكَّة، وتُليت عليهم قال: (والله ما أنا فيمن استـثنى الله تعالى ، إنِّي لأجد حيلة ولي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها، وإنِّي لأهتدي السبيل، والله لا أبيت الليلة بمكَّة، أخرجوني منها إلى المدينة)، فخرج به بنوه يحملونه على سرير، وكان شيخًا كبيرًا لا يستطيع ركوب الراحلة، فلمَّا بلغ التنعيم أشرف على الموت، فصفَّق بيمينه على شماله، وقال: (اللهمَّ هذه ـ أي: اليمنى ـ لك، وهذه ـ أي: اليسرى ـ لرسولك، أبايعك على ما بايع به رسولك)، فمات، فضحك المشركون، وقالوا: (ما أدرك ما طلب)، وقال المسلمون في المدينة: (لو وافى المدينة لكان أتمَّ أجرًا) فنزل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَّخْرُجْ مِنم بَيْتِهِ مُهَاجِرًا اِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ في المدينة، أو في طلب علم أو حجٍّ أو عمرة أو جهاد أو زيارة رحم أو نحو ذلك، وقيل: نزلت في أكثم بن صيفي لَمَّا أسلم ومات مهاجرًا، وقال الزبير: نزلت في خالد بن حزام، هاجر إلى الحبشة ومات بحيَّة.

3. ﴿ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ﴾ قبل الوصول أو قبل فعل ما خرج له، ولو عند بابه خارجًا، و(ثُمَّ) لعلوِّ درجة الموت على درجة الخروج.

4. ﴿فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ﴾ ثبت له بوعد الله، ﴿عَلَى اللهِ﴾، وروى البيهقيُّ وأبو يعلى عن أبي هريرة عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من خرج حاجًّا فمات كُتب له أجر الحاجِّ إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمرا فمات كُتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازيًا في سبيل الله فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة)، والمراد التمثيل، فيعمُّ غير ذلك، والمراد أيضًا ثبوت ذلك له في كلِّ سنة.

5. استدلَّ أهل المدينة بالآية على أنَّ للغازي إذا مات في الطريق سهمه في الغنيمة التي مات في غزوتها، والصحيح أنَّ له ثواب الآخرة فقط، ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ بإكمال ثواب هجرته وقصده، وكلُّ من قصد فرضًا أو نفلاً بالعزم وعُطِّل عنه يُكتب له أجره كاملاً، لا كما قيل: إنَّ له أجر ما عمل منه فقط.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/265.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. رغب الله تعالى في المهاجرة بقوله: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله﴾ في طاعته‏ ﴿يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا﴾ أي: طريقا يراغم فيه أنوف أعدائه القاصدين إدراكه‏ ﴿كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ أي: في الرزق، أو في إظهار الدين، أو في الصدر، لتبدل الخوف بالأمن‏ ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ﴾ بمكة ﴿مُهَاجِرًا إِلَى الله﴾ إلى طاعته، أو إلى مكان أمر الله‏ وإلى‏ ﴿رَسُولَهُ﴾ بالمدينة ﴿ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ﴾ أي: في الطريق قبل أن يصل إلى المقصد ﴿فَقَدْ وَقَعَ﴾ أي ثبت‏ ﴿أَجْرُهُ عَلَى الله﴾ أي: فلا يخاف فوات أجره الكامل، لأنه نوى مع الشروع في العمل، ولا تقصير منه في عدم إتمامه‏ ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فيغفر له ما فرط منه من الذنوب التي جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج، ويرحمه بإكمال ثواب هجرته.

2. ثمرة الآية، أن من خرج للهجرة، ومات في الطريق فقد وجب أجره على الله، قال الحاكم: لكن اختلف العلماء، فقيل: أجر قصده، وقيل: أجر عمله دون أجر الهجرة، وقيل: بل له أجر المهاجرة، وهو ظاهر في سبب نزول الآية، قال الحاكم: وقد استدلّ بعض العلماء أن الغازي يستحق السهم وإن مات في الطريق قال: وهو بعيد، لأن المراد بالآية أجر الثواب.

3. قال الزمخشريّ، حكاية عن المفسرين: إن كل هجرة لغرض دينيّ من طلب علم أو حج أو جهاد، أو فرارا إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة، أو زهدا في الدنيا، وابتغاء رزق طيب، فهي هجرة إلى الله ورسوله، وإن أدركه الموت في طريقه فأجره واقع على الله.

4. ووقع في كلام الزمخشريّ على الآية السابقة هذا الدعاء، وهو: اللهم! إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني، فاجعلها سببا في خاتمة الخير، ودرك المرجوّ من فضلك، والمبتغى من رحمتك، وصل جواري لك بعكوفي عند بيتك، بجوارك في دار كرامتك، يا واسع المغفرة، وكلامه، رحمة الله، بناه على أنه يستحب للإنسان أن يدعو الله بصالح عمله.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/294.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ وصل هذا بما قبله للترغيب في الهجرة وتنشيط المستضعفين وتجرئتهم على استنباط الحيل لها، لأن الإنسان يتهيب الأمر المخالف لما اعتاده وأنس به ويتخيل فيه من المشقات والمصاعب ما لعله لا يوجد إلا في خياله، فبعد أن توعد التارك المقصر، وأطمع التارك المعذور في العفو إطماعا مبنيا على أن ذلك من شأن الله تعالى أن يفعله، بين تعالى أن ما يتصوره بعض الناس من عسر الهجرة لا محل له، وأن عسرها إلى يسر، ومن يهاجر بالفعل يجد في الأرض مراغما كثيرا أي متحولا من الرغام وهو التراب، أو مذهبا في الأرض، يرغم بسلوكه أنوف من كانوا مستضعفين له، أو مكانا للهجرة ومأوى يصيب فيه الخير والسعة فوق النجاة من الاضطهاد والذل، فيرغم بذلك أنوفهم، وفيه الوعد للمهاجرين في سبيل الله بتسهيل السبل وسعة العيش، وإنما تكون الهجرة في سبيل الله حقيقة إذا كان قصد المهاجر منها إرضاء الله تعالى بإقامة دينه كما يجب وكما يحب تعالى، ونصر أهله المؤمنين، على من يبغي عليهم من الكافرين.

2. ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله﴾ المهاجر كسائر الناس عرضة للموت ولما وعد تعالى من يهاجر فيصل إلى دار الهجرة بالظفر بما ينبغي من وجدان المراغم والسعة، وعد من يموت في الطريق قبل بلوغها بأجر عظيم يضمنه عز وجل له، فمتى خرج من بيته بقصد الهجرة إلى الله أي حيث يرضي الله وإلى نصرة رسوله في حياته، ومثلها إقامة سننه بعد وفاته، كان مستحقا لهذا الأجر ولو مات بعد مجاوزته عتبة الباب ولم يصب تعبا ولا مشقة، فإن نية الهجرة مع الإخلاص كافية لاستحقاقه له، وقد أبهم هذا الأجر وجعله حقا واقعا عليه تبارك اسمه للإيذان بعظم قدره، وتأكيد ثبوته ووجوبه، والوجوب والوقوع يتواردان على معنى واحد، ومنه قوله تعالى: ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ [الحج: 36] أي سقطت جنوب البدن عندما تنحر في النسك، ولله تعالى أن يوجب على نفسه ما شاء وليس لغيره أن يوجب عليه شيئا إذ لا سلطان فوق سلطانه، فأين هذا الوعد للمهاجرين في تأكيده وإيجابه من وعد تاركي الهجرة لضعفهم وعجزهم من جعله محل الرجاء والطمع فقط؟ لا يستويان.

3. ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أي وكان شأنه الثابت له أزلا وأبدا أنه غفور يستر ما سبق لأمثال هؤلاء المهاجرين من الذنوب بإيمانهم الذي حملهم على ترك أوطانهم ومعاهد أنسهم لأجل إقامة دينه واتباع سبيله، رحيما بهم يشملهم بعطفه ويغمرهم بإحسانه.

4. هذه الآيات في الهجرة نزلت في سياق واحد متصلا بعضها ببعض كما قلنا، ومن شمله الوعد من المهاجرين في تلك الأثناء ضمرة بن جندب فعدوا خبر هجرته من أسباب نزول الشق الأخير من هذه الآية، وما هو بسبب إلا في اصطلاحهم الذي يتساهلون فيه بإطلاق السبب كما بينا مرارا (2).

5. قد علم من هذه الآيات ومن غيرها مما نزل في الهجرة ومن الأحاديث والسنة التي جرى عليها الصدر الأول من المسلمين أن الهجرة شرعت لثلاثة أسباب أو حكم اثنان منها يتعلقان بالأفراد والثالث يتعلق بالجماعة:

أ. أما الأول فهو أنه لا يجوز لمسلم أن يقيم في بلد يكون فيها ذليلا مضطهدا في حريته الدينية والشخصية، فكل مسلم يكون في مكان يفتن فيه عن دينه أو يكون ممنوعا من إقامته فيه كما يعتقد يجب عليه أن يهاجر منه إلى حيث يكون حرا في تصرفه وإقامة دينه، وإلا كانت إقامته معصية يترتب عليها ما لا يحصى من المعاصي، وإلا جاز له الإقامة، وهذا هو الذي عناه محمد عبده بما قاله عن بعض المسلمين المقيمين في بلاد الإنكليز متمتعين بحريتهم الدينية.

ب. وأما الثاني: فهو تلقي الدين والتفقه فيه وكان ذلك في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصا بالزمن الذي كان فيه إرسال الدعاة والمرشدين من قبله صلّى الله عليه وآله وسلّم متعذرا لقوة المشركين على المسلمين وصدهم إياهم عن ذلك، ولا يجوز لمن أسلم في مكان ليس فيه علماء يعرفون أحكام الدين أن يقيم فيه بل يجب أن يهاجر إلى حيث يتلقى الدين والعلم.

ج. وأما الثالث: المتعلق بجماعة المسلمين فهو أنه يجب على مجموع المسلمين أن تكون لهم جماعة أو دولة قوية تنشر دعوة الإسلام، وتقيم أحكامه وحدوده، وتحفظ بيضته، وتحمي دعاته وأهله من بغي الباغين، وعدوان العادين، وظلم الظالمين، فإذا كانت هذه الجماعة أو الدولة أو الحكومة ضعيفة يخشى عليها من إغارة الأعداء وجب على المسلمين أينما كانوا وحيثما حلوا أن يشدوا أزرها، حتى تقوى وتقوم بما يجب عليها، فإذا توقف ذلك على هجرة البعيد عنها إليها وجب عليه ذلك وجوبا قطعيا لا هوادة فيه، وإلا كان راضيا بضعفها أو معينا لأعداء الإسلام على إبطال دعوته، وخفض كلمته.

6. كانت هذه الأسباب الثلاثة متحققة قبل فتح مكة فلما فتحت قوي الإسلام على الشرك في جزيرة العرب كلها وصار الناس يدخلون في دين الله أفواجا والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يرسل إلى كل جهة من يعلم أهلها شرائع الإسلام، فزال سبب وجوب الهجرة لأجل الأمن من الفتنة والقدرة على إقامة الدين، وسبب وجوبها لأجل التفقه في الدين إلا نادرا، وسبب وجوبها لتأييد جماعة المسلمين وتقويتهم ونصرهم على من كان يحاربهم لأجل دينهم، ولهذا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا) رواه أحمد والشيخان وأكثر أصحاب السنن من حديث ابن عباس، ورووا مثله عن عائشة، ومما لا مجال للخلاف فيه أن الهجرة تجب دائما بأحد الأسباب الثلاثة كما يجب السفر لأجل الجهاد إذا تحقق سببه، وأقوى موجباته اعتداء الكفار على بلاد المسلمين واستيلاؤهم عليها.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/292.

(2) ذكر ما ورد في سبب النزول الذي سبق ذكره.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم رغب سبحانه في أمر الهجرة ونشط المستضعفين لما جرت به العادة من أن الإنسان يتهيب الأمر المخالف لما اعتاده وأنس به، ويتخيل مصاعب ومشقات لا توجد إلا في خياله، وأن ما يتصوره بعض الناس من عسر الهجرة لا محل له وأن عسرها إلى يسر فقال: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ أي إن من يهاجر في سبيل الله: أي لقصد رضاه وإقامة دينه كما يجب وكما يحب الله تعالى، يجد في الأرض سبيلا يرغم به أنوف من كانوا مستضعفين له، ومأوى يصيب فيه الخير والسعة فوق النجاة من الاضطهاد والذل، وفى هذا وعد للمهاجرين في سبيله بتسهيل سبل العيش لهم وإرغامهم أعداءهم والظفر بهم.

2. وبعد أن وعد سبحانه من يهاجر بالظفر بما يحب، ومن وجدان السبل ميسورة أمامه، ومن سعة العيش ـ وعد من يموت في الطريق قبل وصوله دار الهجرة بالأجر العظيم الذي ضمنه له عزّ وجل إذا كان يقصد بهجرته رضا الله ونصرة رسوله في حياته، وإقامة سننه بعد وفاته، وكان مستحقا لهذا الأجر ولو مات بعد أن تجاوز عتبة الباب ولو لم يصب تعبا ولا مشقة، فإن نية الهجرة مع الإخلاص كافية لاستحقاقه له كما في الحديث‏ (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، فقال: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله﴾ وفى إبهام هذا الأجر وجعله حقا واجبا عليه تعالى إيذان بعظم قدره وتأكيد ثبوته ووجوبه، ولله تعالى أن يوجب على نفسه ما يشاء، وليس لغيره أن يوجب عليه شيئا، إذ لا سلطان فوق سلطانه، وما أعظم الفارق بين هذا الوعد المؤكد وبين وعد تاركي الهجرة لضعف أو عجز بأنهم محل رجاء وطمع عند الله.

3. ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أي وكان شأن الله الغفران أزلا وأبدا لأمثال هؤلاء المهاجرين الذين دعاهم إيمانهم لترك أوطانهم لإقامة دينه واتباع سبيله، والرحمة الشاملة لهم بعطفه وإحسانه.

4. ذكر غير واحد من العلماء أن من سار لأمر فيه ثواب كطلب علم وحج وكسب حلال ومات قبل الوصول إلى المقصد فله هذا الحكم، أخرج البيهقي عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ (من خرج حاجّا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازيا في سبيل الله فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة)

5. شرعت الهجرة في صدر الإسلام لأسباب ثلاثة تتعلق بحال الفرد وحال الجماعة:

أ. البعد عن الاضطهاد في أمور الدين بإقامة شعائره بحيث يكون المسلم حرا في تصرفه كما يعتقد، فكل شخص يظن أنه ربما يفتن عن دينه أو يكون ممنوعا من إقامته، يجب عليه أن يهاجر منه إلى مكان لا خطر فيه على نفسه ولا على دينه، فإن لم يفعل ذلك فقد ارتكب إثما كبيرا، وحمل وزرا عظيما.

ب. تلقى الدين والنفقة فيه، وقد كان ذلك في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين كان إرسال الدعاة والمرشدين من قبله متعذرا لتصدى المشركين لهم وحرمانهم من أداء وظائفهم لما لهم من القوة والبطش، وهذا الحكم في كل من يقيم ببلد ليس فيه علماء يقيمون أحكام الدين، عليه أن يهاجر إلى بلد يتلقى فيه أمور دينه وأحكام شريعته.

ج. أنه يجب على جماعة المسلمين أن تكون لهم دولة قوية تنشر دعوة الإسلام وتقيم أحكامه وحدوده وتحمى دعاته وأهله من عدوان العادين، فإذا خيف على هذه الدولة من غارة الأعداء وجب على المسلمين أينما كانوا أن يشدوا أزرها حتى تقوى وتقوم بما يجب عليها، مهما بعدت دارهم وشط مزارهم، وإلا كانوا راضين بضعفها ومعينين لأعداء الإسلام على إبطال الدعوة وتشريد الدعاة.

6. وقد كانت هذه الأسباب موفورة قبل فتح مكة، فلما يسرّ الله فتحها وقوى‏ الإسلام على الشرك في جزيرة العرب كلها ودخل الناس في دين الله أفواجا وأرسل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أطراف الجزيرة وغيرها من يعلّم الناس شرائع الإسلام زالت هذه الأسباب، وقد روى ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال‏ (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا) رواه أحمد والشيخان، وإذا وجد أحد الأسباب الثلاثة المتقدمة في أي عصر وجبت الهجرة وأهمها اعتداء الكفار على بلاد المسلمين وخوف استيلائهم عليها.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/135.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يمضي السياق القرآني في معالجة النفوس البشرية؛ التي تواجه مشاق الهجرة ومتاعبها ومخاوفها؛ وتشفق من التعرض لها، وقد عالجها في الآيات السابقة بذلك المشهد المثير للاشمئزاز والخوف معا، فهو يعالجها بعد ذلك ببث عوامل الطمأنينة ـ سواء وصل المهاجر إلى وجهته أو مات في طريقه ـ في حالة الهجرة في سبيل الله؛ وبضمان الله للمهاجر منذ أن يخرج من بيته مهاجرا في سبيله، ووعده بالسعة والمتنفس في الأرض والمنطلق، فلا تضيق به الشعاب والفجاج: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾..

2. إن المنهج الرباني القرآني يعالج في هذه الآية مخاوف النفس المتنوعة؛ وهي تواجه مخاطر الهجرة؛ في مثل تلك الظروف التي كانت قائمة؛ والتي قد تتكرر بذاتها أو بما يشابهها من المخاوف في كل حين، وهو يعالج هذه النفس في وضوح وفصاحة؛ فلا يكتم عنها شيئا من المخاوف؛ ولا يداري عنها شيئا من الأخطار ـ بما في ذلك خطر الموت ـ ولكنه يسكب فيها الطمأنينة بحقائق أخرى وبضمانة الله سبحانه وتعالى..

3. فهو: أولا يحدد الهجرة بأنها (في سبيل الله).. وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام، فليست هجرة للثراء، أو هجرة للنجاة من المتاعب، أو هجرة للذائذ والشهوات، أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة، ومن يهاجر هذه الهجرة ـ في سبيل الله ـ يجد في الأرض فسحة ومنطلقا فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة، للنجاة وللرزق والحياة: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾.. وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها؛ يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق، مرهونة بأرض، ومقيدة بظروف، ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلا.

4. وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق وأسباب الحياة والنجاة؛ هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم، وتسكت على الفتنة في الدين؛ ثم تتعرض لذلك المصير البائس، مصير الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، والله يقرر الحقيقة الموعودة لمن يهاجر في سبيل الله.. إنه سيجد في أرض الله منطلقا وسيجد فيها سعة، وسيجد الله في كل مكان يذهب إليه، يحييه ويرزقه وينجيه..

5. ولكن الأجل قد يوافي في أثناء الرحلة والهجرة في سبيل الله.. والموت ـ كما تقدم في سياق السورة ـ لا علاقة له بالأسباب الظاهرة؛ إنما هو حتم محتوم عندما يحين الأجل المرسوم، وسواء أقام أم هاجر، فإن‏ الأجل لا يستقدم ولا يستأخر، غير أن النفس البشرية لها تصوراتها ولها تأثراتها بالملابسات الظاهرة.. والمنهج يراعي هذا ويعالجه، فيعطي ضمانة الله بوقوع الأجر على الله منذ الخطوة الأولى من البيت في الهجرة إلى الله ورسوله: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله﴾.. أجره كله، أجر الهجرة والرحلة والوصول إلى دار الإسلام والحياة في دار الإسلام.. فماذا بعد ضمان الله من ضمان؟

6. ومع ضمانة الأجر التلويح بالمغفرة للذنوب والرحمة في الحساب، وهذا فوق الصفقة الأولى، ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾، إنها صفقة رابحة دون شك، يقبض فيها المهاجر الثمن كله منذ الخطوة الأولى: خطوة الخروج من البيت مهاجرا إلى الله ورسوله ـ والموت هو الموت، في موعده الذي لا يتأخر، والذي لا علاقة له بهجرة أو إقامة.

7. ولو أقام المهاجر ولم يخرج من بيته لجاءه الموت في موعده، ولخسر الصفقة الرابحة، فلا أجر ولا مغفرة ولا رحمة، بل هنالك الملائكة تتوفاه ظالما لنفسه! وشتان بين صفقة وصفقة! وشتان بين مصير ومصير!

8. ويخلص لنا من هذه الآيات التي استعرضناها من هذا الدرس ـ إلى هذا الموضع ـ عدة اعتبارات، نجملها قبل أن نعبر إلى بقية الدرس وبقية ما فيه من موضوعات:

أ. يخلص لنا منها مدى كراهية الإسلام للقعود عن الجهاد في سبيل الله؛ والقعود عن الانضمام للصف المسلم المجاهد.. اللهم إلا من عذرهم الله من أولي الضرر، ومن العاجزين عن الهجرة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا..

ب. ويخلص لنا منها مدى عمق عنصر الجهاد وأصالته في العقيدة الإسلامية، وفي النظام الإسلامي، وفي المقتضيات الواقعية لهذا المنهج الرباني.. وقد عدته الشيعة ركنا من أركان الإسلام ـ ولهم من قوة النصوص ومن قوة الواقع ما يفسر اتجاههم هذا، لولا ما ورد في حديث: (بني الإسلام على خمس..) ولكن قوة التكليف بالجهاد؛ وأصالة هذا العنصر في خطر الحياة الإسلامية؛ وبروز ضرورته في كل وقت وفي كل أرض ـ الضرورة التي تستند إلى مقتضيات فطرية لا ملابسات زمنية ـ كلها تؤيد هذا الشعور العميق بجدية هذا العنصر وأصالته.

ج. ويخلص لنا كذلك أن النفس البشرية هي النفس البشرية؛ وأنها قد تحجم أمام الصعاب، أو تخاف أمام المخاطر، وتكسل أمام العقبات، في خير الأزمنة وخير المجتمعات، وأن منهج العلاج في هذه الحالة، ليس هو اليأس من هذه النفوس، ولكن استجاشتها، وتشجيعها، وتحذيرها، وطمأنتها في آن واحد، وفق هذا المنهج القرآني الرباني الحكيم.

د. وأخيرا يخلص لنا كيف كان هذا القرآن يواجه واقع الحياة؛ ويقود المجتمع المسلم؛ ويخوض المعركة ـ في كل ميادينها ـ وأول هذه الميادين هو ميدان النفس البشرية؛ وطبائعها الفطرية، ورواسبها كذلك من الجاهلية، وكيف ينبغي أن نقرأ القرآن، ونتعامل معه ونحن نواجه واقع الحياة والنفس بالدعوة إلى الله.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/746.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الجهاد في سبيل الله نية وعمل، أو عزيمة وسلوك.. فمن صحّت نيته على الجهاد في سبيل الله، فقد قطع نصف الطريق إلى الله، فإذا تحركت هذه النية في صورة إعداد للجهاد، ثم استقامة على طريق الجهاد، فقد قطع النصف الآخر، واستوفي أجر المجاهدين كاملا.. سواء بلغ ميدان القتال، أو أدركه الموت قبل أن يبلغه.

2. وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ بيان لما في طريق المجاهدين من أحوال تعرض للمجاهد، وأنه طريق غير قائم على وجه واحد.. ففيه ضيق، وفيه سعة، وفيه بلاء وفيه عافية.. وأن على المجاهد أن يوطّن نفسه على هذا وذاك، وأن يحتمل البأساء والضراء، كما يجنى الغنائم والأسلاب، وينال الأجر والثواب..

3. والمراغم: كناية عن الشدة والضرّ، لأنه مشتق من الرّغام، وهو التراب.. والتراب يكنى به عن الفقر والحاجة، كما يقال في الفقير المعدم: (يده والتراب) كما يكنى به عن الذّلة والخضوع، فيقال: (أرغم الله أنف فلان) أي جعله في الرغام، و(فعل فلان هذا الأمر وأنفه في ارغام) أي مكرها ذليلا.

4. في قوله تعالى: ﴿وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله﴾ إشارة إلى أن هذا الأجر ـ أجر المجاهد ـ لا يفوته أبدا، ولا يخطئه أبدا، لأنه أجر مضاف إلى الله، بالوعد الذي وعده سبحانه للمجاهدين، ولن يخلف الله وعده!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/881.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جملة ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ﴾ عطف على جملة ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ [النساء: 97]، و(من) شرطية، والمهاجرة في سبيل الله هي المهاجرة لأجل دين الله، والسبيل استعارة معروفة، وزادها قبولا هنا أنّ المهاجرة نوع من السير، فكان لذكر السبيل معها ضرب من التورية، والمراغم اسم مكان من راغم إذا ذهب في الأرض، وفعل راغم مشتقّ من الرّغام ـ بفتح الراء ـ وهو التراب، أو هو من راغم غيره إذا غلبه وقهره، ولعلّ أصله أنّه أبقاه على الرغام، أي التراب، أي يجد مكانا يرغم فيه من أرغمه، أي يغلب فيه قومه باستقلاله عنهم كما أرغموه بإكراهه على الكفر، قال الحارث بن وعلة الذهلي:

çلا تأمنن قوما ظلمتهم‏...وبدأتهم بالشتم والرغم‏

إن يأبروا نخلا لغيرهم‏...والشي‏ء تحقره وقد ينمي‏é

أي أن يكونوا عونا للعدوّ على قومهم، ووصف المراغم بالكثير لأنّه أريد به جنس الأمكنة، والسعة ضد الضيق، وهي حقيقة اتّساع الأمكنة، وتطلق على رفاهية العيش، فهي سعة مجازية، فإن كان المراغم هو الذهاب في الأرض فعطف السعة عليه عطف تفسير، وإن كان هو مكان الإغاضة فعطف السعة للدلالة على أنّه يجده ملائما من جهة إرضاء النفس، ومن جهة راحة الإقامة.

2. ثم نوّه الله بشأن الهجرة بأن جعل ثوابها حاصلا بمجرّد من بلد الكفر، ولو لم يبلغ إلى البلد المهاجر إليه، بقوله: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ﴾، ومعنى المهاجرة إلى الله المهاجرة إلى الموضع الذي يرضاه الله، وعطف الرسول على اسم الجلالة للإشارة إلى خصوص الهجرة إلى المدينة للالتحاق بالرسول وتعزيز جانبه، لأنّ الذي يهاجر إلى غير المدينة قد سلم من إرهاق الكفر ولم يحصّل على نصرة الرسول، ولذلك بادر أهل هجرة الحبشة إلى اللحاق بالرسول حين بلغهم مهاجره إلى المدينة.

3. معنى‏ ﴿يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ﴾، أي في الطريق، ويجوز أن يكون المعنى: ثم يدركه الموت مهاجرا، أي لا يرجع بعد هجرته إلى بلاد الكفر وهو الأصحّ، وقد اختلف في‏ الهجرة المرادة من هذه الآية: فقيل: الهجرة إلى المدينة، وقيل: الهجرة إلى الحبشة.

4. اختلف في المعني بالموصول من قوله: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ﴾، فعند من قالوا إنّ المراد الهجرة إلى المدينة قالوا المراد بمن يخرج رجل من المسلمين كان بقي بعد هجرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة، فلمّا نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 97 ـ 100] كتب بها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المسلمين من أهل مكة، وكان هذا الرجل مريضا، فقال: إني لذو مال وعبيد، فدعا أبناءه وقال لهم: احملوني إلى المدينة، فحملوه على سرير، فلمّا بلغ التنعيم توفّي، فنزلت هذه الآية فيه، وتعمّ أمثاله، فهي عامّة في سياق الشرط لا يخصّصها سبب النزول، وكان هذا الرجل من كنانة، وقيل من خزاعة، وقيل من جندع، واختلف في اسمه على عشرة أقوال: جندب بن حمزة الجندعي، حندج بن ضمرة الليثي الخزاعي، ضمرة بن بغيض الليثي، ضمرة بن جندب الضمري، ضمرة بن جندب الضمري، ضمرة بن ضمرة بن نعيم، ضمرة من خزاعة (كذا)، ضمرة بن العيص، العيص بن ضمرة بن زنباع، حبيب بن ضمرة، أكثم بن صيفي، والذين قالوا: إنّها الهجرة إلى الحبشة قالوا: إنّ المعنيّ بمن يخرج من بيته خالد بن حزام بن خويلد الأسدي ابن أخي خديجة أمّ المؤمنين، خرج مهاجرا إلى الحبشة فنهشته حيّة في الطريق فمات، وسياق الشرط يأبى هذا التفسير.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/238.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات السابقة كان بيان حال الذين رضوا بالذل والهوان والضيق، وأنهم مؤاخذون لذلك، إلا إذا كانوا عاجزين عن الانتقال، وفى هذه الآيات يرغب سبحانه في الهجرة عند الضيق كما ألزم بها عند الذل، فقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ يقال: أرغمه، إذا أوقعه في الرغام، وهو تراب الأرض، ورغم أنفه إذا نزل إلى التراب، وذلك كناية عن الذل بعد الكبرياء، وأرغم أنفه، إذا أنزل به، وراغمه، إذا حاول كل واحد منهما أن يرغم الآخر، والمراغم مكان المراغمة، وقد أطلق على مواضع طلب المعيشة، والطريق في الأرض، وذلك إذا كان يصل إليه بعد مشقة، أو جهد غير معتاد، وهذا هو الذى يقال في معنى النص الكريم، فالمعنى على هذا: ومن يهاجر ويترك دار إقامته في سبيل الله تعالى طالبا ما عنده يجد طرائق كثيرة في الحياة، وإن كان لا ينالها إلا ببعض المشقة، فإنها قنطرة للراحة، وكذلك ينال سعة في رزقه وحياته ودينه، فلا يضيق في دينه عليه، ولا يعيش في ذلة وهوان، أو مقترا عليه في الرزق.

2. الآية تحث على الهجرة إذا توافرت أسبابها، وتشير إلى أن المهاجر، إن ترك محل العيش الرتيب، فإنه سيجد في النهاية مذاهب مختلفة للرزق، وسعة في الحياة، وعدم ضيق، فهو معوض بلا ريب.

3. وتكون الهجرة في سبيل الله تعالى: إذا كانت للفرار من الفتنة في الدين، أو لدفع الذل وطلب العزة، أو للخروج من أرض ليست تحت ولاية الإسلام إلى أرض فيها ولاية الإسلام، أو من أرض فيها ظلم سائد واقع على الأبدان أو المال ولو كانت من ولاية الإسلام، أو كانت الهجرة لتكثير سواد المسلمين في إقليم قل فيه عددهم، وهي الانتقال من أرض إسلامية مزدحمة بالسكان قد اكتظت بأهلها إلى أرض إسلامية خالية من السكان، فإنها تكون مظنة أن يأخذها أعداء المسلمين، فتكون قوة لهم على المسلمين، ففي كل هذه الأحوال تكون الهجرة في سبيل الله تعالى.

4. المهاجر في سبيل الله تعالى ينتقل من حمى الناس إلى حمى الله تعالى، فهو مهاجر منتقل إلى جانب الله تعالى ورسوله، فإذا كان يترك بيته وأهله وعشيرته، وجيرانه الذين عاش بينهم وعاشرهم، فهو يتركهم إلى جانب أعظم، ورحاب أوسع، وهو جانب الله تعالى ورسوله ورحابهما، وإن المهاجر إلى الله تعالى في سبيل تحقيق مقصد من مقاصد دينه التي نوهنا عنها سابقا ينال إحدى الحسنيين: إما الظفر بالسعة والعزة، والمال، وإما الظفر بالأجر العظيم، وذلك إذا أدركه الموت، وهو في الطريق إلى الله، وهذا قد قال فيه سبحانه: ﴿فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله﴾، أي فقد حق له الأجر العظيم عند الله تعالى، وقد تفضل سبحانه، فاعتبر ذلك الأجر حقا عليه ـ سبحانه، ولذا عبر بـ (على) في قوله: ﴿عَلَى الله﴾ ووقع هنا معناه ثبت وتقرر، وكأنه صار وثيقة على الله تعالى وذلك كله تأكيد لتحقق الأجر بهذه الهجرة.

5. وإن ذلك الأجر غفران لما مضى من ذنبه، ورحمة به بالنعيم المقيم في الآخرة، ولذلك قال تعالى: ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أي أن الوصف الدائم الثابت لله تعالى في الأزل أنه كثير المغفرة، ومن شأنه الرحمة بعباده، فبمقتضى‏ رحمته فتح باب الهجرة وحث عليه، وبمقتضى رحمته مكن للمهاجر من السعة والعمل في الأرض، وبمقتضى رحمته اعتبر نية الهجرة إذا صاحبها العمل كافية للثواب والأجر العظيم.، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وبدلهم من بعد خوفهم أمنا، ومن بعد ضعفهم قوة، واهدهم للعمل بكتابك وسنة نبيك، إنك سميع الدعاء.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1823.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾، ان الأرزاق لا تنحصر بالأوطان، والهجرة لا تستوجب الحرمان، فبلاد الله واسعة، ورزقه أوسع، ونعمه في كل بلد لا تعد ولا تحصى.. وان كثيرا من الفقراء قد جمعوا من مهاجرهم أموالا لم يحلموا بجزء منها، وهم في أوطانهم.. ولو ان المتخلفين هاجروا لوجدوا من الرزق والعزة ما يرغمون به أنوف المشركين الذين أذاقوهم ألوانا من الذل والاضطهاد.. ولكن المتخلفين رفضوا الهجرة، وتحملوا الهوان والاذلال من أعداء دينهم، لا لشيء الا لأن الشيطان وعدهم الفقر، ان هاجروا، فركنوا إلى وعده، وآثروه على مغفرة الله وفضله: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَالله يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 268]

2. ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله﴾، كل من قصد بجد واخلاص عملا من أعمال الطاعة، ثم عجز عنه فان الله سبحانه يكتب له ثوابه تاما كاملا تفضلا منه وكرما، وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية 144 من سورة آل عمران، فقرة لكل امرئ ما نوى.. وروي ان جندب بن ضمرة لما سمع آية الهجرة قال لبنيه: والله لا أبيت في مكة، حتى أخرج منها، فاني أخاف أن أموت فيها، وكان مريضا شديد المرض، فخرجوا يحملونه على سرير، حتى إذا بلغ مكانا في الطريق يقال له التنعيم مات فنزل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ﴾

3. من عجيب الصدف وغرائبها أن يتفق ـ من غير قصد ـ وصولي بتفسير القرآن الكريم إلى آيات الهجرة ـ مع أول السنة الهجرية لعام 1388، وإسرائيل تحتل أرضنا المقدسة، وأهلنا يهاجرون منها فرارا من التنكيل والتقتيل الجماعي الذي مارسته إسرائيل، وما زالت تمارسه، وقد أوحت إليّ هذه الصدفة بالمقارنة بين اعتداء المشركين في مكة على المسلمين، وإخراجهم من ديارهم، وبين الاعتداء الاسرائيلي ـ وبالأصح ـ الاعتداء الاستعماري على الأرض المقدسة، وإخراج أهلها من ديارهم، ثم انتقلت من هذه المقارنة إلى استخراج العبرة والعظة من جهاد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين في هجرتهم، وتدبير الخطط وأحكامها الذي بلغ بالمسلمين إلى أوج النصر على عدوهم، وتحطيم طغيانه وعدوانه، وأوقف صناديد قريش الذين أخرجوا النبي من مكة، أوقفهم بين يديه أذلاء مستسلمين، يستمعون اليه، وهو يقول لهم: (ما تظنون اني فاعل بكم)؟

4. قد يظن البعض ان الهدف الأول من هجرة النبي والمسلمين هو مجرد الهروب بدينهم من المشركين الذين تعرضوا لهم بالأذى، ومنعوهم من ممارسة الشعائر والأعمال الدينية، تماما كما يلتجئ العابد الزاهد إلى المسجد، لقيم فيه صلاته بعيدا عن الضوضاء والغوغاء.. كلا، لقد كانت هجرة المسلمين أبعد وأعمق من ذلك.. والدليل ما حققته من نتائج وأهداف، لقد كانت هجرة الرسول بالإضافة إلى الهروب بالدين ـ خطة مرسومة ومدبرة تمهيدا للمعركة الفاصلة، تماما كانسحاب الجيش من ميدان القتال إلى موقع آخر من مواقعه استعدادا للهجوم المعاكس والانقضاض على العدو بضربة قاضية لا تقوم له بعدها قائمة، وبعد أن وصل النبي إلى المدينة آخى بين أصحابه، وجمع القلوب المتخاصمة، وأذاب ما فيها من عصبية وأحقاد، وحين تم له ذلك بدأ يرغّب المسلمين في الجهاد، ويحثهم على الدفاع عن كيانهم وعقيدتهم، ويضمن الجنة لمن يقتل في سبيل الله، والعزة والكرامة دنيا وآخرة لمن ينجو من القتل، ولما أخذت هذه‏ التعاليم سبيلها إلى نفوسهم شرع في تجنيدهم وتأليف السرايا، يبعثها هنا وهناك.. وقادها بنفسه أكثر من مرة، وحققت الاستقرار والأمن للمسلمين، كما أقلقت راحة قريش وسلامتها.. ثم تحولت السرايا إلى معارك كبرى، والمسلمون يبذلون أرواحهم وأموالهم، حتى جاء نصر الله والفتح: ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا﴾، وأحسب ان هذه الاشارة كافية لاستخراج العبرة التي يجب أن ننتفع بها في نكبتنا بإسرائيل ومن ساند إسرائيل:

أ. هاجر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة لاعتداء المشركين عليه وعلى أصحابه، وهاجر الفلسطينيون من الأرض المقدسة لاعتداء الصهيونية والاستعمار عليهم وعلى نسائهم وأطفالهم، وكانت هجرة المسلمين آنذاك ابتعادا عن الوقوع في التهلكة، وانسحابا من ميدان المعركة لتجميع القوى، والاستعداد للضربة القاضية على العدو، ويجب أن يكون خروج الفلسطينيين من ديارهم بهذا القصد والروح، ولهذه الغاية بالذات، لا بقصد اخلاء البيت للصوص يسرحون فيه ويمرحون.

ب. بدأ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هجرته بالتآخي بين أصحابه.. وعلى قادة العرب والمسلمين أن يبدءوا بالتآخي والتصافي بين القلوب، وان يوحدوا كلمتهم لمجابهة العدو، تماما كما فعل النبي قبل أن يجابه المشركين، ومن حاد عن هذا السبيل فقد التقى مع إسرائيل، وحقق امنيتها من حيث يريد أو لا يريد.

ج. أرسل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم السرايا ليقلق أمن المشركين، وأمدّ المسلمون هذه السرايا بكل ما يحتاجون.. ويجب على العرب والمسلمين أن يشجعوا الفدائيين من الفلسطينيين وغيرهم، ويمدوهم بالمال والعتاد ويتعاونوا معهم إلى أقصى الحدود، ليقلقوا راحة إسرائيل وأمنها.. وعبأ النبي جميع المسلمين للمعركة الفاصلة الكبرى، واستأصل الشرك من جذوره بعد أن رسخ قرونا في كل جزء من أرض الجزيرة العربية.. وهذا ما يجب أن يفعله قادة العرب والمسلمين.

5. إذا لم نعتبر بهذا الدرس من تراثنا وتاريخنا، ونكون جميعا جنودا من جنود الله والوطن فلسنا جديرين باسم العرب والعروبة، ولا باسم الإسلام والمسلمين.. بل ولا باسم الإنسان والإنسانية بعد أن أصبح هذا العصر عصر الفداء والكفاح والتحرر من كل ما فيه شائبة الظلم والاستغلال.

6. ونختم هذه الكلمة بالتحية والإكبار لأبنائنا الفدائيين الأشاوس الذين ضربوا أروع الأمثلة للبطولة والفروسية، والفداء والتضحية في أرضنا المحتلة، وأثبتوا للعالم كله اننا في مستوى عصر الكفاح والنضال من أجل الحرية والكرامة.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/421.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ قال الراغب: الرغام‏ (بفتح الراء) التراب الرقيق، ورغم أنف فلان رغما وقع في الرغام، وأرغمه غيره، ويعبر بذلك عن السخط كقول الشاعر:

çإذا رغمت تلك الأنوف لم أرضها...ولم أطلب العتبي ولكن أزيدهاé

فمقابلته بالإرضاء مما ينبه على دلالته على الإسخاط، وعلى هذا قيل: أرغم الله‏ أنفه، وأرغمه أسخطه، وراغمة ساخطة، وتجاهدا على أن يرغم أحدهما الآخر ثم يستعار المراغمة للمنازعة قال الله تعالى:‏ ﴿يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا﴾ أي مذهبا يذهب إليه إذا رأى منكرا يلزمه أن يغضب منه كقولك: غضبت إلى فلان من كذا ورغمت إليه)

2. فالمعنى‏ ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي طلبا لمرضاته في التلبس بالدين علما وعملا يجد في الأرض مواضع كثيرة كلما منعه مانع في بعضها من إقامة دين الله استراح إلى بعض آخر بالهجرة إليه لإرغام المانع وإسخاطه أو لمنازعته المانع ومساخطته، ويجد سعة في الأرض.

3. وقد قال تعالى في سابق الآيات: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً﴾ ولازم التفريع عليه أن يقال: ومن يهاجر يجد في الأرض سعة إلا أنه لما زيد قوله: ﴿مُرَاغَمًا كَثِيرًا﴾ وهو من لوازم سعة الأرض لمن يريد سلوك سبيل الله قيدت المهاجرة أيضا بكونها في سبيل الله لينطبق على الغرض من الكلام، وهو موعظة المؤمنين القاطنين في دار الشرك وتهييجهم وتشجيعهم على المهاجرة وتطييب نفوسهم.

4. ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ﴾ المهاجرة إلى الله ورسوله كناية عن المهاجرة إلى أرض الإسلام التي يتمكن فيها من العلم بكتاب الله وسنة رسوله، والعمل به، وإدراك الموت استعارة بالكناية عن وقوعه أو مفاجاته فإن الإدراك هو سعي اللاحق بالسير إلى السابق ثم وصوله إليه، وكذا وقوع الأجر على الله استعارة بالكناية عن لزوم الأجر والثواب له تعالى وأخذه ذلك في عهدته، فهناك أجر جميل وثواب جزيل سيوافي به العبد لا محالة، والله سبحانه يوافيه بألوهيته التي لا يعزها شيء ولا يعجزها شيء ولا يمتنع عليها ما أرادته، ولا تخلف الميعاد.

5. ختم الكلام بقوله: ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ تأكيدا للوعد الجميل بلزوم توفيه الأجر والثواب.

6. قسم الله سبحانه في هذه الآيات المؤمنين أعني المدعين للإيمان من جهة الإقامة في دار الإيمان ودار الشرك إلى أقسام، وبين جزاء كل طائفة من هذه الطوائف بما يلائم حالها ليكون عظة وتنبيها ثم ترغيبا في الهجرة إلى دار الإيمان والاجتماع هناك، وتقوية المجتمع الإسلامي، والاتحاد والتعاون على البر والتقوى وإعلاء كلمة الحق ورفع راية التوحيد وأعلام الدين:

أ. فطائفة أقامت في دار الإسلام من مجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وقاعدين غير أولي الضرر، وقاعدين أولي الضرر، وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة.

ب. وطائفة أقامت في دار الشرك، وهي ظالمة لا تهاجر في سبيل الله ومأواهم جهنم وساءت مصيرا، وطائفة منهم مستضعفة غير ظالمة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وطائفة منهم غير مستضعفة خرجت من بيتها مهاجرة إلى الله ورسوله ثم أدركها الموت فقد وقع أجرها على الله.

7. والآيات تجري بمضامينها على المسلمين في جميع الأوقات والأزمنة وإن كان سبب نزولها حال المسلمين في جزيرة العرب في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بين هجرته إلى المدينة وفتح مكة وكانت الأرض منقسمة يومئذ إلى أرض الإسلام وهي المدينة وما والاها فيها جماعة المسلمين أحرار في دينهم وجماعة من المشركين وغيرهم لا يزاحمون في أمرهم لعهد ونحوه، وإلى أرض الشرك وهي مكة وما والاها هي تحت سلطة المشركين مقيمين على وثنيتهم، ويزاحمون المسلمين في أمر دينهم يسومونهم سوء العذاب، ويفتنونهم لردهم عن دينهم.

8. لكن الآيات تحكم على المسلمين بملاكها دائما فعلى المسلم أن يقيم حيث يتمكن فيه من تعلم معالم الدين، ويستطيع إقامة شعائره والعمل بأحكامه، وأن يهجر الأرض التي لا علم فيها بمعارف الدين، ولا سبيل إلى العمل بأحكامه من غير فرق بين أن تسمى اليوم دار الإسلام أو دار شرك فإن الأسماء تغيرت اليوم وهجرت مسمياتها وصار الدين جنسية، والإسلام مجرد تسم من غير أن يراعى في تسميته الاعتقاد بمعارفه أو العمل بأحكامه.

9. والقرآن الكريم إنما يرتب الأثر على حقيقة الإسلام دون اسمه ويكلف الناس من العمل ما فيه شيء من روحه لا ما هو صورته، قال تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: 124]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 62]

10. هاهنا روايات(2) أخر غير ما أوردناه لكن ما مر منها حاو لمجامع ما فيها من المقاصد، والروايات وإن كانت بحسب بادئ النظر مختلفة لكنها مع قطع النظر عن خصوصيات بياناتها بحسب خصوصيات مراتب الاستضعاف تتفق في مدلول واحد هو مقتضى إطلاق الآية على ما قدمناه، وهو أن الاستضعاف عدم الاهتداء إلى الحق من غير تقصير.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/53.

(2) ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها عن الإمام الصادق والكاظم وغيرهما.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ هذا ترغيب في الهجرة في سبيل الله، والمراغم: ما يراغم به أعداء الله. قال الشرفي في (المصابيح): (يقال: أرغمت الرجل: إذا فعلت ما يكرهه ذلك الرجل، واشتقاقه من الرُّغام وهو التراب)، وقال الراغب في (مفرداته): (ورغم أنف فلان رغماً وقع في التراب، وأرغمه غيره، ويعبر بذلك عن السخط، كقول الشاعر:

çإذا رغمت تلك الأنوف لم أرضها...ولم أطلب العتبى ولكن أزيدهاé

فمقابلته بالإرضاء مما ينبّه دلالته على الإسخاط، وعلى هذا قيل: أرغم الله أنفه، وأرغمه أسخطه، وراغمة ساخطة، وتجاهدا على أن يرغم أحدهما الآخر): فالمراغَم: محل استطاعة على إرغام العدو، وعلى الكثير بأنواع من أسباب سخط العدو كالجهاد، وتكثير أهل الحق وتقويته بهم وتقويتهم به، والسعة من وَسِعَ، وهي سعة مجال الهجرة كقوله: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً﴾ ويحتمل سعة مكان الهجرة تيسر الرزق فيه، والسلامة من الظلم والاضطهاد الذي يعتبر تضييقاً، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ [الطلاق:6]، وقوله تعالى: ﴿ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ [التوبة:118]

2. وهذا ظاهر لأن السعة في الأرض لا ترغب إلا مع الرزق فسعة مجال الهجرة بتيسير رزق المهاجر، وإن قل فهو كثير مع رضوان الله، ولا بد أن يصبر المكلف ويتوكل على الله، وإلا ترك الهجرة أو رجع عنها، قال تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [العنكبوت:56 ـ 59]

3. ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله﴾ فقد امتثل أمر الله بخروجه من بيته مرتحلاً عنه للهجرة إلى الله ورسوله، والهجرة إلى الله الهجرة إلى دينه، والهجرة إلى رسوله الهجرة إلى محل هجرته للكون معه في دينه، فإذا خرج مرتحلاً بهذه النيَّة الصالحة ثم أدركه الموت قبل بلوغه مهاجَر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله﴾، قال الراغب في (مفرداته): (الوقوع: ثبوت الشيء وسقوطه) قد يكون ثبوت الشيء حصوله، مثل: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ [الواقعة:1] وإثباتُ الأجر له دلالة على حصوله، فأول حصوله عند حضور الموت وتبشير الملائكة له بالجنة.

4. ﴿عَلَى الله﴾ لتضمينه معنى وَجَب وَحَقَّ، وقد يكون ثبت بمعنى استحقه وصار له تشبيهاً له بما قد حصل؛ لأنه واقع لا يتخلف، وهذا أظهر وأنسب؛ لقوله: ﴿عَلَى الله﴾، ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ولذلك قَبِل توبتَه عند خروجه، وغفر له ورحمه في وقت قصير قبل أن يبلغ دار الهجرة ويتعلم الفروض ويعمل.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/151.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ هذه هي الحقيقة التي يؤكدها القرآن في هذه الفقرة من الآية، وخلاصة فكرتها أنّ قضية القوة والضعف لا يمكن أن تخضع للحدود الجغرافية التي تحيط بالإنسان وتضغط على حركته، بل يمكن للإنسان أن يمتد إلى أماكن أخرى من الأرض، ليجد فيها السعة التي لا تضيق بنشاطه، والفرص التي يستطيع ـ من خلالها ـ أن يرغم أنف القوى الطاغية الكافرة، وتلك هي قصة كل الدعوات الخيّرة والرسالات الكبيرة، التي لم تستطع أن تتقدم إلى أهدافها في المحيط الذي انطلقت منه، ولكنها استطاعت أن تمتد إلى أبعد مدى في الأرض، فتفسح لخطواتها المجال الذي تسير فيه بسرعة فائقة، بعيدا عن كل الضغوط والتحديات؛ وبذلك انطلق الإسلام إلى خارج مكة، بالهجرة التي كانت الحد الفاصل بين عهدين للإسلام، عاش في أحدهما الاضطهاد والضغط والتنكيل إلى ما يشبه الاختناق وتحرك في ثانيهما من يثرب حتى انتشر في الآفاق الواسعة من العالم..

2. إن الإسلام يريد أن يثير في نفوس العاملين أن اضطهاد الدعوة، في أحد مواقع العمل، لا يعني استحالة الحركة، لأن هناك مواقع أخرى للحرية يمكن الانتقال إليها من أجل التحرك بالإسلام إلى آفاق جديدة وانتصارات كبيرة.. إن العاملين لا يعيشون ضيق الأفق في النطاق الإقليمي الذي يتحرك فيه عملهم الرسالي، بل يعتبرون ساحتهم بحجم ساحة الرسالة، وذلك هو حجم العالم كله بكل مجالاته ووسائله وآفاقه، فليس للإنسان أن‏ يتجمّد عند فرصته، وليس له أن يختنق في زاوية، وليس لخطواته أن تتبعثر في أيّة ساحة؛ فمن حقه أن يدخل كل بلد، ومن واجبه أن يكتشف كل أفق، لينطلق فيه إلى البعيد البعيد من أهداف الإسلام.. وفي ضوء ذلك، لا بد له من أن يحرّك طاقاته وينميها بالمستوى الذي يستطيع من خلاله أن يستوعب الحركة في حجم العالم ما أمكنه ذلك.

3. ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ﴾ والهجرة إلى الله ورسوله تتمثل في كل رحلة يقوم بها الإنسان في خدمة الإسلام والمسلمين، وفي القيام بواجب شرعي من عبادة ونحوها، وفي إنقاذ أية فئة محرومة أو مضطهدة من الفئات التي أوجب الله علينا إنقاذها، فمن خرج ليطلب العلم من أجل أن يرفع مستوى المعرفة لدى الناس، من خلال ما يقربهم من الله ويبعدهم عن الشيطان، وينمي لديهم القدرات العلمية التي تفتح آفاقهم على العزة والحرية والكرامة التي يحبها الله لعباده المؤمنين، فقد خرج مهاجرا إلى الله ورسوله؛ ومن خرج ليجاهد في سبيل الله، أو ليقضي حاجة مؤمن، أو ليغيث ملهوفا، أو ليقوي مستضعفا، أو ليهدي ضالّا، أو ليقوم بعملية إصلاح بين الناس، أو ليدخل السرور على الناس، أو ليشارك في حكم عدل، أو ليقوم بأيّ عمل من الأعمال التي يحبها الله ورسوله، أو ليحج بيت الله ونحو ذلك.. فهو من المهاجرين إلى الله ورسوله، وهكذا تكون حياة الإنسان في سبيل كل الأهداف الرسالية الكبيرة هجرة إلى الله ورسوله، حتى ولو كان واقفا في مكانه، لأن الهجرة ليست فكرة تخضع لحركة الإقدام من موقع إلى آخر، بل تشمل حركة العمل التي تنقل المجتمع والحياة من مرحلة متأخرة إلى مرحلة متقدمة، ومن حالة شريرة أو كافرة، إلى حالة خيّرة أو مهتدية، لأن القضية مرتبطة بالمضمون والهدف لا بالشكل والموقع.. وإذا تحققت للإنسان مثل هذه الهجرة، بجميع أسبابها، كانت حياته سائرة في خدمة الله، لأنه لا يعمل من أجل مطامحه الذاتية، بل من أجل رسالة الله العامة، فإذا أدركه الموت وهو في الطريق، كان موته في خط العمل، وبذلك كان أجره على الله، وهذا ما عبّرت عنه الآية في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾

4. المستضعفون من هؤلاء المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا إلى الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، يضطرون ـ بفعل بعض الضغوط الساحقة ـ البقاء في بلاد الكفر، فيجب عليهم أن‏ يحركوا كل إمكاناتهم لتنمية العناصر الإسلامية في مجتمعهم، بإيجاد المؤسسات الإسلامية كالمساجد والمدارس والنوادي الثقافية والرياضية والاجتماعية التي تحرّك الروح الإسلامية، والتربية الدينية التي تثبّت لهم إيمانهم وتحمي إسلامهم، وتصنع منهم دعاة إلى الإسلام في دار هجرتهم، ليكونوا عناصر قوة للإسلام بدلا من أن يكونوا عناصر ضعف له في استسلامهم للكفر.

5. ولعل من الضروري أن يبادر المسلمون من خلال قياداتهم إلى القيام بالمشاريع الإسلامية الثقافية والتربوية ومساجد العبادة وغيرها في بلدان الغرب أو غيره من البلدان غير الإسلامية، لأن الحاجة قد أصبحت ملحّة لسكن المسلمين فيه من خلال حاجاتهم الاقتصادية والثقافية التي تفرض الهجرة إليها، بحيث تحوّل الوجود الإسلامي العددي في بعض البلاد الغربية إلى قوّة من الدرجة الثانية: بالنسبة إلى الموقع الديني مقارنا بالدين الآخر، هذا مع ملاحظة أن التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية أصبحت تفرض على المسلمين الانفتاح على العالم كله من أجل تجميع عناصر القوة في كل أوضاعهم العامة والخاصة، مما يجعل انتقالهم إلى بلدان العالم ضرورة حضارية على جميع المستويات، لأن بعض الحالات الضاغطة في مجتمعات الكفر قد تؤدي إلى عزلة المسلمين عن العالم إذا أرادوا أن يخضعوا لبعض التحفظات التي يمكن إزالتها بالتخطيط لإيجاد الأجواء الإسلامية التي تؤكد حماية الواقع الإسلامي من الانحراف.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/421.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أنّ بحثت الآيات السابقة حول الأفراد الذين يقعون فريسة الذّل والمسكنة بسبب عدم إيفائهم بواجب الهجرة، تشرح هذه الآية بشكل صريح وحاسم أهمية الهجرة في قسمين:

أ. في القسم الأوّل: تشير هذه الآية إلى نعم وبركات الهجرة في الحياة الدنيا، فتقول إن الذي يهاجر في سبيل الله إلى أي نقطة من نقاط هذه الأرض الواسعة، سيجد الكثير من النقاط الآمنة الواسعة ليستقر فيها، ويعمل هناك بالحقّ ويرغم أنف المعارضين‏ ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾، ويجب الالتفات إلى أن عبارة (مراغم) مشتقة من المصدر (رغام) على وزن (كلام) والذي يعني التراب، والإرغام معناه التمريغ في التراب والإذلال‏ و(مراغم) صيغة لاسم المفعول واسم مكان أيضا، وقد وردت في الآية هذه بمعنى اسم مكان كذلك، أي أنّها المكان الذي يمكن فيه تحقيق الحق وتطبيقه والعمل به، كما يمكن فيه إدانة المعارضين للحق وتمريغ أنفهم بالتراب.

ب. بعد ذلك تشير الآية في القسم الثاني منها إلى الجانب المعنوي الأخروي للهجرة: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾، وعلى هذا الأساس فإن المهاجرين في كل الأحوال سينالهم نصر كبير، سواء وصلوا إلى المكان الذي يستهدفونه ليتمتعوا فيه بحرية العمل بواجباتهم، أو لم يصلوا إليه فيفقدوا حياتهم في هذا الطريق، وفي هذا المجال وعلى الرغم من بداهة حقيقة تلقي الصالحين أجرهم من الله سبحانه وتعالى، إلّا أنّ الآية موضوع البحث قد صرحت بهذا الأمر بقولها: ﴿فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله﴾ وهذا يوضح مدى عظمة وأهمية الثواب والأجر الذي يناله المهاجرون.

2. إنّ الإسلام ـ استنادا إلى هذه الآية وآيات كثيرة أخرى ـ يأمر المسلمين بكل صراحة بالهجرة من المحيط الذي يعانون فيه ـ لأسباب خاصّة ـ من عدم التمكن من أداء واجباتهم إلى محيط ومنطقة آمنة، وسبب هذا الأمر واضح، لأنّ الإسلام لا يحدّ بمكان ولا يقيد بمحيط معين خاص، ولهذا فإن التمسك المفرط بالمحيط ومحل التولد والعلاقات المختلفة الاخرى لا تقف في نظر الإسلام حائلا دون هجرة المسلمين.

3. ولذلك نرى انفصام كل هذه العلاقات في الصدر الأوّل للإسلام ومن أجل حماية الإسلام وتقدمه، وفي هذا المجال يقول أحد المؤرخين الغربيين: إنّ‏ القبيلة والعائلة هما الشجرة الوحيدة التي تنبت في الصحراء، ولن يستطيع أحد الحياة دون اللجوء إليها، إلّا أنّ محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قلع هذه الشجرة التي نمت بلحم ودم عائلته، وفعل ذلك من أجل ربه وخالقه (فقد فصم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم علاقته بقريش في سبيل الإسلام)

4. علاوة على ما ذكر فإن من بين جميع الموجودات الحيّة، حين تتعرض حياة أي واحدا أو مجموعة منها إلى الخطر، نراها تضطر إلى ترك مكان تواجدها والهجرة منه إلى مأوى وملجأ أمن آخر، والكثير من أبناء البشر الأقدمين عمدوا إلى الهجرة من مكان ولادتهم ـ بسبب تغير الظروف الجغرافية فيه ـ إلى نقاط أخرى من العالم من أجل مواصلة الحياة، وليس البشر وحدهم الذين مارسوا الهجرة، بل هناك من بين الحيوانات أنواع كثيرة عرفت بالحيوانات المهاجرة، مثل الطيور التي تضطر أحيانا إلى الدوران حول الأرض تقريبا من أجل إيجاد مأوى تواصل فيه حياتها، وبعض هذه الطيور تهاجر من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي، وأحيانا تقطع مسافة حوالي ألف كيلومتر للوصول إلى المكان الذي تريد العيش فيه.

5. وهذه الشواهد هي خير دليل على أنّ الهجرة هي إحدى القوانين الخالدة للحياة، فهل يصح أن يكون الإنسان أقل حظا من الحيوان في هذا المجال؟

6. وحين تتعرض، حياته المعنوية، وكيانه وأهدافه المقدسة التي هي أثمن وأغلى من حياته المادية إلى الخطر، فهل يستطيع هذا الإنسان البقاء في مكان الخطر متشبثا بالأرض والمولد وغير ذلك متحملا ألوان الذل والإهانة والحرمان وسلب الحريات، والأهم من ذلك كلّه زوال أهدافه التي يعيش من أجلها!؟ أو أن عليه أن يختار قانون الطبيعة في الهجرة، ويترك ذلك المكان، ويختار مكانا آخر يتيسر فيه المجال لنموه المادي والمعنوي؟

7. الطريف في هذا الأمر أنّ الهجرة ـ أي تلك الهجرة التي كانت لأجل حفظ النفس وحماية الشريعة الإسلامية ـ تعتبر مبدأ ـ أو بداية ـ التاريخ الإسلامي، وهي بذلك تعد البنية الأساسية لكل الأحداث السياسية والاعلامية والاجتماعية للمسلمين.

8. فلننظر لماذا انتخبت هجرة الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مبدأ ـ أو بداية ـ للتاريخ الإسلامي؟ إنّ هذا الموضوع جدير بالملاحظة، لأنّنا نعلم أن أي مجموعة بشرية صغرت أو كبرت، تتخذ لنفسها مبدأ أو بداية تاريخية تحسب منه تاريخها، فالمسيحيون مثلا اتّخذوا بداية تاريخهم السنة التي ولد فيها عيسى عليه السّلام، أمّا المسلمون فمع وجود أحداث مهمة كثيرة وقعت لهم قبل الهجرة، مثل يوم ولادة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويوم البعثة المحمّدية الشريفة، وفتح مكّة، ووفاة الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لكنهم لم يتخذوا أي واحد من الأحداث مبدأ أو بداية لتاريخهم، بل اعتبروا حادثة الهجرة وحدها بداية للتاريخ الإسلامي، إنّ التاريخ يقول أنّ المسلمين بدأوا يفكرون بتعيين بداية تاريخهم الذي له أهمية عامّة وشاملة في زمن الخليفة الثاني الذي توسعت في عهده رقعة البلاد الإسلامية ـ وأنّ المسلمين بعد البحث الكثير في هذا الأمر، اختاروا رأي علي بن أبي طالب عليه السّلام باتّخاذ حادثة الهجرة النبوية الشريفة مبدأ وبداية للتاريخ الإسلامي.. والحقيقة أنّ هذا الاختيار كان هو المتعيّن، لأنّ الهجرة كانت أهم والمع حدث أو برنامج حصل للإسلام، وكانت الهجرة مبدأ فصل جديد مهم في التاريخ الإسلامي، فالمسلمون حين وجودهم في مكّة كانوا يمارسون تعلم شؤونهم‏ الحياتية وفق دينهم الجديد (الإسلام) ولم تكن لديهم في هذه الحالة ـ على ما يبدو ـ أي قدرة سياسية واجتماعية، ولكنهم بعد الهجرة شكلوا مباشرة الدولة الإسلامية التي تقدمت بسرعة فائقة ـ في كل المجالات ـ ولو أنّ المسلمين لم يذعنوا لأمر الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في اختيار الهجرة وفضلوا البقاء في مكّة، لما تيسر عند ذلك للإسلام أن يمتد خارج حدود مكّة، بل حتى كان من الممكن أن يقبر الإسلام في مكّة ويمحى أثره.

9. ويتّضح لنا أنّ الهجرة لم تكن حكما خاصا بزمن الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل أنّها تجب على المسلمين متى ما تعرضوا لظروف مشابهة لتلك الظروف التي اضطرت النّبي وأصحابه صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى ترك مكّة والهجرة إلى المدينة.

10. والقرآن يعتبر الهجرة في الأساس جوهرا لوجود الحرية والرفاه، وقد أشارت الآية الكريمة إلى هذا الأمر، كما أن الآية من سورة النحل تشير من جانب آخر إلى هذه الحقيقة، إذ تقول: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾

11. وتجدر الإشارة ـ أيضا ـ إلى هذه النقطة، وهي أنّ الهجرة في نظر الإسلام لا تقتصر على الهجرة المكانية والخارجية، بل يلزم قبل ذلك أن تتحقق لدى الفرد المسلم هجرة باطنية في نفسه، يترك بها كل ما ينافي الأصالة والكرامة الإنسانية، لكي يتيسر له بهذا السبيل إلى الهجرة المكانية ـ إذن فالهجرة الباطنية ضرورية قبل أن يبدأ الإنسان المسلم هجرته الخارجية ـ وإذا لم يكن هذا الإنسان بحاجة إلى الهجرة الخارجية، يكون قد نال درجة المهاجرين بهجرته الباطنية.

12. والأساس في الهجرة هو الفرار من (الظلمات) إلى (النور) ومن الكفر إلى الإيمان ومن الخطأ والعصيان إلى إطاعة حكم الله، لذلك نجد في الحديث ما يدل على أنّ المهاجرين الذين هاجروا بأجسامهم دون أن تتحقق الهجرة في بواطنهم وأرواحهم، ليسوا في درجة المهاجرين، وعلى عكس هؤلاء فإنّ من تتحقق لديه‏ الهجرة الباطنية الروحية ولم يتمكن أو لم يحتج إلى الهجرة الخارجية فهو في عداد المهاجرين حقا.

13. عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام قوله: (ويقول الرجل هاجرت، ولم يهاجر، إنّما المهاجرون الذين يهجرون السيئات ولم يأتوا بها)، وعن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض، استوجب الجنّة وكان رفيق محمّد وإبراهيم عليهما السّلام)، لأنّ هذين النّبيين هما قادة وأئمّة مهاجري العالم.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/409.

95. السفر وقصر الصلاة

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈95⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [النساء: 101]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: سأل قوم من التجار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: يا رسول الله، إنا نضرب في الأرض، فكيف نصلي؟ فأنزل الله: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾، ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا شددتم عليهم! فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في إثرها، فأنزل الله بين الصلاتين: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾، فنزلت صلاة الخوف(1).

2. روي أنّه قال: ستة لا يقصرون الصلاة، الجباة الذين يدورون في جبايتهم، والتاجر الذي يدور في تجارته من سوق إلى سوق، والأمير الذي يدور في إمارته، والراعي الذي يطلب مواضع القطر ومنبت الشجر، والرجل الذي يخرج في طلب الصيد لهوا للدنيا، والمحارب الذي يقطع الطريق(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٠٧.

(2) تفسير القمي 1/149.

الأنصاري:

روي عن أبي أيوب الأنصاري (ت 50 هـ) أنه قال: نزل قوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ هذا القدر، ثم بعد حول سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن صلاة الخوف، فنزل: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ الآية(1).

__________

(1) تفسير البغوي ٢/٢٧٦.

عائشة:

روي عن عائشة (ت 57 هـ) أنّها قالت في السفر: أتموا صلاتكم، فقالوا: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يصلي في السفر ركعتين، فقالت: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان في حرب، وكان يخاف، هل تخافون أنتم!؟(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٠٩.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾، يقول: فلا حرج(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ الآية، قال قصر الصلاة إن لقيت العدو وقد حانت الصلاة: أن تكبر الله، وتخفض رأسك إيماء، راكبا كنت أو ماشيا(2).

3. روي أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله: ﴿أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، قال: يضلكم بالعذاب والجهد، بلغة هوزان، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول الشاعر(3):

çكل امرئ من عباد الله مضطهد... ببطن مكة مقهور ومفتونé

4. روي أنّه سئل: أتقصر إلى عرفة؟ فقال: لا، ولكن إلى عسفان، وإلى جدة، وإلى الطائف(4).

5. روي أنّه قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة(5).

6. روي أنّه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: يا أهل مكة، لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد؛ من مكة إلى عسفان(6).

7. روي أنّه قال: صلينا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين مكة والمدينة ـ ونحن آمنون لا نخاف شيئا ـ ركعتين(7).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٥١.

(2) ابن جرير ٧/٤٢١.

(3) الطستي في مسائله ـ كما في الإتقان ٢/٩١.

(4) ابن أبي شيبة ٢/٤٤٥ بنحوه، والبيهقي ٣/١٣٧.

(5) مسلم ١/٤٧٩.

(6) الطبراني في الكبير ١١/٩٦.

(7) أحمد ٣/٣٥١.

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن صلاة السفر، فقال: ركعتان، قيل: فأين قوله تعالى: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ونحن آمنون!؟ فقال: سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

2. عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، أنه سأل ابن عمر: أرأيت قصر الصلاة في السفر، إنا لا نجدها في كتاب الله، إنما نجد ذكر صلاة الخوف؟ فقال ابن عمر: يا ابن أخي، إن الله أرسل محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا نعلم شيئا، فإنما نفعل كما رأينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يفعل، وقصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(2).

3. عن سماك الحنفي، قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر، فقال: ركعتان تمام غير قصر، إنما القصر صلاة المخافة، قلت: وما صلاة المخافة؟ قال يصلي الإمام بطائفة ركعة، ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وهؤلاء إلى مكان هؤلاء، فيصلي بهم ركعة، فيكون للإمام ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة(3).

4. روي أنّه قال: صلاة السفر ركعتان، ليس بقصر، ولكنه تمام وسنة(4).

__________

(1) أحمد ٨/٣٢٧.

(2) أحمد ٩/٤٩٥.

(3) ابن جرير ٧/٤١٦.

(4) ابن ماجه ٢/٢٦٣.

جابر:

روي عن جابر بن عبد الله (ت 78 هـ) وعطاء، وطاووس بن كيسان، ومجاهد: ركعتا المسافر ليستا بقصر، إنما القصر أن يصلي ركعة واحدة في الخوف(1).

__________

(1) تفسير البغوي ٢/٢٧٥.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: سافرت إلى مكة، فكنت أصلي ركعتين، فلقيني قراء من أهل هذه الناحية، فقالوا: كيف تصلي؟ قلت: ركعتين، قالوا: أسنة وقرآن؟ قلت: كل؛ سنة وقرآن، صلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ركعتين، قالوا: إنه كان في حرب، قلت: قال الله: ﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ءامنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون﴾ [الفتح: ٢٧]، وقال: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ فقرأ حتى بلغ: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٠٦.

النخعي:

روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنّه قال: قال: قال رجل: يا رسول الله، إني رجل تاجر أختلف إلى البحرين، فأمره أن يصلي ركعتين(1).

__________

(1) ابن أبي شيبة ٢/٤٤٨.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾، ذاك عند القتال، يصلي الرجل الراكب تكبيرة من حيث كان وجهه(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/١٠٥٢.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال في قوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾، قال: أنزلت يوم كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعسفان والمشركون بضجنان(1).. فتوافقوا، فصلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأصحابه صلاة الظهر أربعا، ركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جمعا، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم؛ فأنزل الله: ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾، فصلى العصر، فصف أصحابه صفين، ثم كبر بهم جميعا، ثم سجد الأولون لسجوده، والآخرون قيام لم يسجدوا، حتى قام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم كبر بهم وركعوا جميعا، فتقدم الصف الآخر، واستأخر الصف المقدم، فتعاقبوا السجود كما فعلوا أول مرة، وقصر العصر إلى ركعتين(2).

__________

(1) ضَجَنان: جبل بناحية مكة على طريق المدينة، الروض المعطار ١/٣٧٦.

(2) عبد الرزاق (٤٢٣٥.

طاووس:

روي عن طاووس بن كيسان (ت 106 هـ) أنّه قال: ﴿أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، قصرها من الخوف، والقتال الصلاة في كل وجه، راكبا وماشيا، قال فأما صلاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هذه الركعتان، وصلاة الناس في السفر ركعتين، فليس بقصر، هو وفاؤها(1).

__________

(1) عبد الرزاق (٤٢٥٥.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن صلاة الخوف وصلاة السفر تقصران جميعا؟ قال: نعم، وصلاة الخوف أحق أن تقصر من صلاة السفر ليس فيه خوف(1).

2. روي أنه قيل له: ما تقول في صلاة السفر، كيف هي، وكم هي؟ فقال: إن الله عز وجل يقول: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر، قيل: إنما قال الله عز وجل: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ ولم يقل: افعلوا، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال عليه السلام: أو ليس قد قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض، لأن الله عز وجل ذكره في كتابه وصنعه نبيه عليه السلام، وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وذكره الله تعالى في كتابه، قيل: فمن صلى في السفر أربعا، أيعيد أم لا؟ قال: إن كان قد قرئت عليه آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا، أعاد، وإن لم يكن قرئت عليه ولم يكن يعلمها، فلا إعادة عليه، والصلوات كلها في السفر الفريضة ركعتان كل صلاة، إلا المغرب فإنها ثلاث، ليس فيها تقصير، تركها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في السفر والحضر ثلاث ركعات(2).

__________

(1) التهذيب 3/302.

(2) من لا يحضره الفقيه 1/278.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: الصلاة في السفر ركعتان، ليس قبلهما ولا بعدهما شيء إلا المغرب ثلاث(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في الركعتين تنقص منهما واحدة(2).

3. روي أنّه قال: سبعة لا يقصرون الصلاة: الجابي يدور في جبايته، والأمير الذي يدور في إمارته، والتاجر الذي يدور في تجارته من سوق إلى سوق، والراعي والبدوي الذي يطلب مواطن القطر ومنبت الشجر، والرجل يطلب الصيد يريد به لهو الدنيا، والمحارب الذي يقطع الطريق(3).

4. روي أنّه قال في التقصير في الصلاة: بريد في بريد أربعة وعشرون ميلا(4).

5. روي أنّه قال: فرض الله على المقيم خمس صلوات، وفرض على المسافر ركعتين تمام، وفرض على الخائف ركعة، وهو قول الله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يقول: من الركعتين فتصير ركعة(5).

__________

(1) التهذيب 2/13.

(2) الكافي 3/458.

(3) التهذيب 3/214.

(4) التهذيب 3/207.

(5) تفسير العيّاشي 1/271.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ﴾ يعني: سرتم ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ يعني: غزوة بني أنمار ببطن مكة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، يعني: أن يقتلكم، كقوله: ﴿عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ﴾ [يونس: ٨٣]، يعني: أن يقتلكم الذين كفروا من أهل مكة، فيصيبوا منكم طائفة، ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ين سليمان ١/٤٠٣.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: قلت لعطاء: أي أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يتم الصلاة في السفر؟ قال: عائشة، وسعد بن أبي وقاص(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤١٠.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ﴾ الآية، أباح الله تعالى القصر من الصلاة؛ إذا ضرب في الأرض إذا خاف أن يفتنه الكفار، ولم يبين القصر في ماذا؟

أ. فيحتمل: القصر قصرًا من الركعات؛ على ما قال أصحابنا (2).

ب. ويحتمل: القصر من الركوع والسجود والقيام بالإيماء؛ كقوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾، رخص للخائف الصلاة بالإيماء.

ج. ويحتمل: القصر قصر الاقتداء، وذلك ـ أيضًا ـ مباح عند الخوف.

2. اختلف في حكم القصر:

أ. تأول قوم أن الصلاة كانت ركعتين، فزيدت في صلاة الحضر، وأقرت في صلاة السفر، ورخص في القصر من ركعتي السفر في حال الخوف، وقالوا: صلاة الخوف ركعة، ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ قال: فرض الله تعالى صلاة الحضر أربعًا، وصلاة السفر ركعتين، وصلاة الخوف ركعة، على لسان نبيكم، وكذلك رُويَ عن جابر بن عبد الله قال: صلاة الخوف ركعة، ركعة.

ب. وقال آخرون: إنما رخص الله تعالى في قصر الصلاة من أربع إذا كان الخوف، فردها إلى ركعتين رخصة، وقالوا ثَمَّ: إن رسول الله أعلمنا أن الله تعالى تصدق علينا أن نقصر في حال الأمن؛ فثبت بالسنة أن القصر في غير الخوف جائز؛ كما أجازه الله في حال الخوف، والقصر ـ في قول هَؤُلَاءِ ـ أن تُرَدَّ الأربع إلى ركعتين، والقصر في قول الأولين أن يرد الركعتان في حال الخوف إلى ركعة.

ج. وقال غيرهم: القصر إنما كان في حال الخوف كما قال الله تعالى، فأما الآن: فإن المسافر إذا صلى ركعتين، فليس ذلك بقصر؛ ولكنه إتمام بقول عمر حيث قال صلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم، وروي أن رجلا سأل عمر عن قوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، قال وقد أمن الناس اليوم!؟ فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه؛ فسألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (صَدَقة تَصَدَّقَ اللهُ تَعَالَى بِهَا، عَلَيكُم فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ)؛ فيحتمل أن يكون قوله: (صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر) ـ يريد به أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما قال: (صَدَقَة تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيكُم)؛ صار الفرض ركعتين وارتفع القصر، وصارت الركعتان تمامًا غير قصر؛ إذ كانتا هما الفرض بعد الصدقة التي تصدق الله بها علينا؛ فكل واحد من الخبرين موافق لصاحبه؛ أعني خبر عمر مع ما روي عن ابن عَبَّاسٍ ما قال كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يسافر من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا الله، يصلي ركعتين، وهذا يؤيد حديث عمر: (صَدَقَة تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيكُم)؛ لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان لا يصلي وهو آمن ركعتين مع شرط الله الخوف؛ إلا وقد رفع الله شرط الخوف عن المسافر.

د. وقال قوم: إن التقصير في السفر، والحضر هو الإتمام، واحتجوا بقول الله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ قال: فرفع الحرج عن المقصر، ولو كان التقصير حتمًا لكان قال وعليكم جناح ألا تقصروا من الصلاة إن خفتم ولكن الأمر ليس كما توهموا؛ وذلك أنا قد ذكرنا أن النص في القصر إنما جاء في حال الخوف، وأما حال الأمن فلا نص فيما يوجب القصر؛ وإنما جاز القصر من الصلاة في حال الأمن؛ لقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (صَدَقَة تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيكُم)، وتقصيره في حال الأمن، ومحال أن يتصدق الله بالركعتين علينا، ويقول قائل: فرضها قائم؛ فأين موضع الصدقة!؟ إذ لو كان الأمر على ما ذكرنا فما معنى قول عمر: (إن صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر؛ على لسان نبيكم)؛ لأنه جعل الصدقة من الله بذلك مزيلة للفرض في الركعتين بعد الركعتين؛ فبقيت الركعتان تمامًا، إذا كانتا فرض المسافر؟ مع ما روي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سافر أسفارًا كثيرة، فلم يرو عنه أحد أنه أتم الصلاة في شيء من الأحوال في سفره، وكلٌّ روي أنه عليه السلام كان يصلي ركعتين ركعتين؛ فلو كانت الفريضة أربعًا، والقصر رخصة ـ لأتم في وقت؛ وقصر في وقت، ألا ترى أن الإفطار في السفر لما كان رخصة غير حتم ـ أفطر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في أوقات وصام في أوقات؛ فدل ذلك أن فرض المسافر ركعتان غير قصر، وروي عن ابن عمر قال صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بمنى ركعتين، ومع أبي بكر الصديق ركعتين، ومع عمر ركعتين، ومع عثمان صدرًا من خلافته، ثم صلى أربعًا، وما صلى أربعًا؛ يحتمل أن يكون عزم على الإقامة، وكذلك روي عن الزهري قال بلغني أنه إنما صلى أربعًا؛ لأنه أزمع أن يقيم بعد الحج. وعن عمران بن حصين قال: (سافرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان يصلي ركعتين، ركعتين حتى يرجع إلى المدينة، وأقام بمكة ثماني عشرة يومًا، لا يصلي إلا ركعتين، وقال لأهل مكة: (صَلُّوا أَرْبَعًا؛ فَإِنَّا قَومٌ سَفْرٌ)، وخالف بعض أهل العلم هذا الحديث؛ لأنهم يقولون: إذا أقام ببلد في غير حرب أربعا يتم بعد ذلك، وإن لم يكن عزم على المقام بذلك البلد، وروي عن عمر بن الخطاب عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ حَتى يؤول إِلَى أهْلِهِ أَوْ يَمُوت)، ورُوي عن ابن عمر أنه سئل عن الصلاة في السفر، قال ركعتان ركعتان؛ من خالف السنة كفر.

3. استدل قوم بقوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ أن القصر رخصة، وأن الأفضل إتمام الصلاة؛ إذ (لا جناح) تستعمل في موضع التخفيف، لا في موضع الأمر؛ على نحو الصيام بقوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، وهذا حرف لا يستعمل في موضع الأمر والإيجاب، وسلَّم قوم لهم هذا المعنى في الآية، وردوا القصر إلى أقصر للخوف، يلحق عند الضرب في الأرض، وإذن كان على وجهين:

أ. أحدهما: في بيان المراد في قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾، أنه: ليس على تمام المعروف من الصلاة؛ لكن على القصر على الحد الذي ينتهي إليه الخوف من أمر القبلة، أو ترك القيام والركوع والسجود، وإلى الإيماء والقعود.

ب. الثاني: ما في قوله: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ الآية، وإنما يذكر ذلك في أحوال لهم الانفراد وهو أحوال السفر، ومعلوم أن ذلك في حق قصر الاقتداء فكأنه قال: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ في الاقتداء به، وإن قصرتم في الاقتداء عن تمام حقه من الجماعة، وكذلك إصابة الكل أفضل؛ فبين أن ارتفاع ذلك لا يمنعكم الاقتداء، ولا يلزمكم نصب إمام آخر؛ لثؤدوا جميع الصلاة في الجماعة، وأيد الوجهين قوله تعالى: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، إلى قوله تعالى: ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ﴾؛ فالقصر في السفر على ما عليه، ليس للخوف؛ وأيد ذلك ما التبس على عمر حتى سأل عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (صَدَقَة تَصَدقَ الله بِهَا عَلَيكُم فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ)، بمعنى: حكم حَكَمَ الله عليكم في أن لم يفرض عليكم في السفر غير ركعتين، هو من جميع المذكور عن الله من العفو؛ فهو في الإسقاط، وأيد ذلك ما كان يقول عمر بعد ذلك: (صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم)، فعلم أن ذلك ليس في حق الآية؛ لكن في ابتداء الشرع، وعلى ذلك المروي بأن الصلاة كانت في الأصل ركعتين، فزيدت في الحضر وأقرت في السفر، وإلى هذين التأويلين يتوجه قول أصحابنا.

4. قد تحتمل الآية قصر الصلاة. ثم قوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ يرجع إلى وجهين:

أ. أحدهما: إلى ترك الركعتين، وإن لم يتم السفر بعد الخروج له، وليس كسائر الأعذار، نحو الحيض، إذا لم يتم أنه يلزم إعادة المتروك، والإغماء، ونحو ذلك، وأمر الصوم في السفر بعد الخروج له ليس كسائر الأعذار؛ فلا يعاد.

ب. الثاني: ليس عليكم جناح في السفر، وإن كان ذلك اختيارا منكم لترك صلاة الحضر، أو ليس عليكم ما على المقيم من الجناح إن لم يتم، فإذا رجع الجناح إلى ذلك بقي الأمر بالقصر، وإن خرج بحد الخبر؛ إذ قد يكون خبرًا في المخرج أمرا في الحقيقة نحو قوله تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ﴾ الآيات، ونحو ذلك كقوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ أنه لما صار: (لا جناح) راجعا إلى ما كان ثَمَّ من الأصنام أو الفعل؛ بقي حق الأمر بالطواف، وإن كان في مخرج الخبر، وصار من اللوازم، دليل ذلك الأمر الوارد في الآية والظاهر من فعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الأسفار.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٣٨.

(2) يقصد الحنفية

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾، أي ليس عليكم مأثم، لأن الله خفف بذلك عنكم لعلمه بثقل مؤونة الضرب في الأرض والسفر عليكم.

2. معنى قوله: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، أي إن خفتم أن يقتلكم الذين كفروا إذا طولتم في الصلاة حتى يظفروا بكم، ولكن اقصروا واخفوا ولا تمكنوا أعداء الله منكم.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/248.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ أي سرتم لأنه من ضرب الأرض بالرجل في السير فلذلك سمي السفر في الأرض ضرباً ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهذا القصر يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: أن يكون قصر الأركان إذا جاب مع استيفاء الأعداد فيصلي عند المسايفة والتحام القتال كيف أمكنه قائماً وقاعداً ومومياً وهذا مثل قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ [البقرة: 239]

ب. الثاني: هو قصر أعدادها من أربع إلى ركعتين خائفاً كان المصلي أو آمناً إذا سافر بريداً؛ فأما الخوف المراعى في الآية فهو في صلاة الخوف إذا خاف النبي أو الإمام أعداء الله صلى صلاة الخوف ويكون بإزاء العدو وفرقة من المسلمين يشغلونهم عن انتهاك الفرصة من المؤمنين.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/193.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ أي سرتم، لأنه يضرب الأرض برجله في سيره كضربه بيده، ولذلك سُمِّيَ السفر في الأرض ضَرْباً.

2. ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ اختلف في هذا القصر المشروط بالخوف على قولين:

أ. أحدهما: أنه قَصَرَ أركانها إذا خاف، مع استيفاء أعدادها فيصلي عند المسايفة والتحام القتال كيف أمكنه قائماً وقاعداً ومومياً، وهي مثل قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ [البقرة: 239] وهذا قول ابن عباس.

ب. الثاني: أنه قصر أعدادها من أربع إلى ما دونها، وفيه ثلاثة أقاويل:

أحدها: أن هذا مشروط بالخوف من أربع إلى ركعتين، فإن كان آمناً مقيماً لم يقصر، وهذا قول سعد بن أبي وقاص، وداوود بن علي.

الثاني: أنه قَصْران، فقصر الأمَنْ، من الأربع إلى ركعتين، وقصر الخوف من ركعتين إلى ركعة، وهذا قول جابر بن عبد الله والحسن، وقد روى مجاهد عن ابن عباس قال فرض الله عز وجل على لسان نبيكم صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة.

الثالث: أنه يقصر في سفر خائفاً وآمناً من أربع إلى ركعتين لا غير، روي عن أبي أيوب عن علي عليه السلام قال: سأل قوم من التجار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قالوا: يا رسول إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلاّ شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أُخرى مثلها في أثرها، فأنزل الله تعالى بين الصلاتين: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ إلى قوله: ﴿عَذَابًا مُهِينًا﴾ فنزلت صلاة الخوف.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٢٣).

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ إذا سرتم فيها فليس عليكم جناح يعني حرج ولا ثم ان تقصروا من الصلاة يعني من عددها فتصلوا الرباعيات ركعتين.

2. ظاهر الآية يقتضي أن التقصير لا يجوز إلا إذا خاف المسافر، لأنه قال‏: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ﴾ ولا خلاف اليوم أن الخوف ليس بشرط، لأن السفر المخصوص بانفراده سبب للتقصير، والظاهر يقتضي ان التقصير جائز لا اثم فيه، ويقتضي ذلك انه يجوز الإتمام، وعندنا (2) وعند كثير من الفقهاء أن فرض المسافر مخالف لفرض المقيم، وليس ذلك قصراً، لإجماع أصحابنا على ذلك، ولما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم انه قال فرض المسافر ركعتان غير قصر، وأما الخوف بانفراده فعندنا يوجب القصر، وفيه خلاف‏ وقد روي عن ابن عباس‏ أن صلاة الخائف قصر من صلاة المسافر، وانها ركعة ركعة.

3. قال قوم: معنى قوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا﴾ يعني من حدود الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا، وهو الذي رواه أصحابنا في صلاة شدة الخوف، وأنه يصلي إيماء والسجود اخفض من الركوع، فان لم يقدر فان التسبيح المخصوص يكفي عن كل ركعة.

4. ثم أخبر تعالى أن الكافرين يعني الجاحدين لتوحيد الله ونبوة نبيه فقد أبانوا عداوتهم لكم بما صبتهم لكم الحرب على عبادتكم الله تعالى، وترككم عبادة الأوثان.

5. في قصر الصلاة ثلاث لغات تقول: قصرت الصلاة أقصرها وهي لغة القرآن، وقصرتها تقصيراً، واقصرتها إقصاراً.

6. اختلف أهل التأويل في قصر الصلاة:

أ. فقال قوم: هي قصر من صلاة الحاضر ما كان يصلي أربع ركعات أذن له في قصرها، فيصليها ركعتين، ذهب إليه يعلى ابن أمية، وعمر بن الخطاب، وإن يعلى قال لعمر: كيف نقصر الصلاة وقد أمنا فقال عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته، وبه قال ابن جريج وقتادة، وفي قراءة أبي (وإذا ضربتم‏ في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا) ولا يقرأ (إن خفتم) ومعنى هذه القراءة الا يفتنكم الذين كفروا وحذف (لا) كما حذف في قوله: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ ومعناه ألا تضلوا.

ب. وقال قوم: القصر لا يجوز إلا مع الخوف روي ذلك عن عائشة، وسعد بن أبي وقاص.

ج. وقال قوم: عنى بهذه الآية قصر صلاة الخوف في غير حال المسايفة، وفيها نزلت، ذهب إليه مجاهد وغيره.

د. وقال آخرون: عنى بها قصر الصلاة صلاة الخوف في حال غير شدة الخوف، وعنى به قصر الصلاة من صلاة السفر لا من صلاة الاقامة، لأن صلاة السفر عندهم ركعتان تمام غير قصر، كما قلناه ـ ذهب إليه السدي، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وجابر بن عبد الله، وكعب ـ وكان من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قطعت يده يوم اليمامة وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وثعلبة ابن زهدم اليربوعي وكان من الصحابة ـ وأبو هريرة، وروي عن ابن عباس في رواية اخرى إن القصر المراد به صلاة شدة الخوف تقصر من حدودها وتصليها إيماء وهو مذهبنا.

7. أما حدّ السفر الذي يجب فيه التقصير:

أ. فعندنا انه ثمانية فراسخ.

ب. وقال أبو حنيفة، وأصحابه: مسيرة ثلاثة أيام.

ج. وقال الشافعي ستة عشر فرسخاً ثمانية وأربعين ميلا.

د. وقال قوم: يجب في قليل السفر وكثيره، بينا الخلاف فيه في كتاب الخلاف.

8. انما قال في الاخبار عن الكافرين انهم عدو، ولم يقل أعداء لأن لفظة فعول وفعيل تقع على الواحدة والجماعة.

9. فتنت الرجل أفتنه فهو مفتون لغة أهل الحجاز وتميم وربيعة، وأهل نجد كلهم وأسد يقولون: أفتنت الرجل فهو فاتن، وقد فتن فتوناً: إذا دخل في الفتنة.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/307.

(2) يقصد الإمامية.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الضرب في الأرض: السير فيه، وأصله الضرب باليد؛ لأنه يستمر فيه كما يستمر في الضرب باليد، ومنه ضرب المثل؛ لأنه يستمر في البلاد كاستمرار الضرب باليد.

ب. القِصَر خلاف الطول، والقَصْرُ: الحبس، ومنه ﴿حُورٌ مَقْصُورَاتٌ﴾ والقصر: قصر الصلاة، كأنه قصير في جنب الإتمام.

ج. العدو يقع على الواحد والجمع، وهو نقيض الولي، ويجمع أعداء، والمراد بالآية الجمع، يقال: هذا عدوي، وهَؤُلَاءِ عدوي وأعدائي.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت الآية في صلاة الخوف.

ب. وقيل: في صلاة السفر، وذكر الأصم أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان ببطن نخلة فبرز لحاجته، فأتاه مشرك يريد الفتك به، وقال: يا محمد أرني سيفك، فأعطاه سيفه، فهزه وقال: ما يمنعك مني؟ قال: ﴿اللهِ تَعَالَى﴾، فشام السيف، وانصرف، فنزلت الآية في قصر الصلاة، ونزل فيها ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ﴾ الآية.

3. قيل: لما أمر تعالى بالجهاد والغزو والهجرة، بين صلاة السفر والخوف رحمة منه تعالى، وتخفيفًا لعباده، واختلفوا في نظم هذه الآية وما بعدها:

أ. فقال الأصم وأبو علي: إنه تعالى رخص للمسافر القصر بشرطين: السفر والخوف، وثبت بالسنة القصر للمسافر مع الأمن، ونَظْمُ الآية: ليس عليكم حرج إن قصرتم في الصلاة في السفر إذا خفتم العدو، ثم ابتدأ ببيان صلاة الخوف بقوله: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ الآية، وهذا مروي عن عمر وعلي وابن عمر وجماعة.

ب. وقال بعضهم: الآية في صلاة الخوف خاصة، وتقديره: ليبس عليكم جناح إذا كنتم على سفر وخفتم أن تقصروا الصلاة، فتكون في السفر والخوف ركعة واحدة، ثم ابتدأ ببيان صلاة الخوف في الجماعة فقال: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ وروي ذلك عن جابر قال صلاة الخوف ركعة، وقال أبو مسلم: المراد بالآية بيان صلاة السفر في الخوف جملة، وبالثانية: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ تفسير ذلك الجملة.

ج. وقال صاحب النظم وجماعة: إن ابتداء الآية في صلاة السفر إلى قوله: ﴿مِنَ الصَّلَاةِ﴾، ثم ابتدأ ببيان صلاة الخوف فقال: ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾ بغير واو العطف، وكسر ﴿أَنْ﴾ في القراءات يأتي بخبر لم يتم وينقطع، ويتصل به خبر آخر في الظاهر، وهو عنه منقطع، قال تعالى: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لله مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ فقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ من كلام يوسف، وما قبله من كلام المرأة وحمله على هذا: يعتد زيادة فائدة، وهو جواز القصر مع عدم الخوف، وتقديره على هذا: ليس عليكم جناح في قصر الصلاة في السفر، ثم ابتدأ، وقال: (إن خفتم الكفار) فإنهم لكم عدو، وصلوا صلاة الخوف، واختلف هَؤُلَاءِ في تقدير الآية ونظمها، قيل: إن خفتم الكفار أن يمنعوكم من الصلاة أو يفتنوكم، وكنت فيهم وأقمت لهم الصلاة فافعل كذا.

4. الأول أوجه؛ لأنه يحتاج إلى التقديم والتأخير، والوجه القول الأول.

5. ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ﴾ يعني سافرتم وسرتم ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ أيها المؤمنون ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ أي حرج وضيق وإثم ﴿أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ فيه أقوال:

أ. أولها: قصر العدد من أربع إلى اثنتين، عن مجاهد والأصم وأبي علي وجماعة من المفسرين، وهو قول الفقهاء وهو الصحيح، وقيل: القصر إلى ركعة، عن جابر بن عبد الله وجماعة..

ب. ثانيها: القصر في حدود الصلاة أن يكبر ويخفض رأسه ويومئ برأسه إيماء، عن ابن عباس وطاووس قال طاووس المراد قصر الصفة؛ لأنه يجوز في صلاة الخوف من المشي وغيره ما لو وجد في غيره لأفسده.

ج. ثالثها: القصر في القراءة، أي لا تقرؤوا ما كنتم تقرؤون في حال الأمن والإقامة.

د. رابعها: أن المراد بالقصر الجمع أن يجمعوا بين الظهر والعصر في وقت أحدهما، وبين المغرب والعشاء في وقت أحدهما، والصحيح هو الأول، وعليه الفقهاء.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾:

أ. قيل: علمتم.

ب. وقيل: المراد به الخوف الذي هو ضد الأمن.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾:

أ. قيل: عن الصلاة فيمنعوكم عنها.

ب. وقيل: يميلوا عليكم.

ج. وقيل: فيه إضمار أي لا يفتنكم، وروي ذلك، عن أُبَيٍّ بن كعب كقوله: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ أي لا تضلوا.

8. اختلفوا في القصر في السفر مع الأمر، فاختاره عمر وعلي وقتادة وأبو العالية وابن عمر والحسن وجماعة الفقهاء.

9. ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا﴾ أي أعداء ﴿مُبِينًا﴾:

أ. قيل: مُظْهِرًا لكم العداوة.

ب. وقيل: ظاهر العداوة.

10. سؤال وإشكال: إذا كان المراد الترخص في العدد، وهو أن يصلي ركعتين فما الفائدة في ذكر الجواب؟ والجواب: لأنه تعالى جعل ذلك مقدمة لصلاة الخوف فبين أولاً أن الإتمام لا يجب، لكن يجوز القصر عند الخوف، ثم بَيَّنَ صفة الخوف، فلذلك ذكر هذه الشريطة، إلا أن حكم القصر يتعلق به.

11. تدل الآية الكريمة على:

أ. جواز القصر للمسافر، والأصح أنه في العدد يعود إلى ثنتين، فأما ركعة فلا تكون صلاة.

ب. أن للخوف تأثيرًا في القصر، وإذا ثبت أن الركعة الواحدة لا تجزئ لم يبق إلا أن يحمل على قصر الصفة أو الركعتين، وقد اختلفوا في السفر الذي تقصر فيه، فقيل: ثلاثة أيام ولياليها، وهو مذهب أهل العراق، واختيار أبي علي للإجماع على أنه يجوز له القصر، وقيل: يوم وليلة، وقيل: ستة وأربعين ميلاً، عن الشافعي، واختلفوا في سفر المعصية، فقال أبو حنيفة: يجوز له القصر والفطر وهو اختيار القاضي، وقال الشافعي: لا يجوز، واختلفوا في القصر فقال أبو حنيفة: هو عزيمة، وقال الشافعي: رخصة، وهو اختيار أبي علي.

12. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ محله رفع؛ لأن الفتنة مضافة إليه، ومفعوله الكاف والميم في قوله: ﴿يَفْتِنَكُمُ﴾

ب. ﴿عَدُوًّا﴾ خبر ﴿كَانَ﴾، و﴿مُبِينًا﴾ نعته، واسم ﴿كَانَ﴾ مضمر في كانوا ثم الجميع خبر ﴿أَنْ﴾

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/44.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. في قصر الصلاة ثلاث لغات: قصرت الصلاة أقصرها: وهي لغة القرآن، وقصرتها تقصيرا، وأقصرتها إقصارا.

ب. فتنت الرجل أفتنه، فهو مفتون، لغة أهل الحجاز، وبني تميم، وربيعة، وأهل نجد كلهم، وأسد، يقولون: أفتنت الرجل، فهو فاتن، وقد فتن فتونا: إذا دخل في الفتنة.

ج. إنما قال في الكافرين أنهم عدو لان لفظة فعول تقع على الواحد والجماعات.

2. ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ معناه: إذا سرتم فيها: أي سافرتم ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾: أي حرج وإثم ﴿أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ فيه أقوال:

أ. أحدها: إن معناه أن تقصروا من عدد الصلاة، فتصلوا الرباعيات ركعتين، عن مجاهد، وجماعة من المفسرين، وهو قول أكثر الفقهاء، وهو مذهب أهل البيت عليهم السلام، وقيل: تقصر صلاة الخائف من صلاة المسافر، وهما قصران: قصر الأمن من أربع إلى ركعتين، وقصر الخوف من ركعتين إلى ركعة واحدة، عن جابر، ومجاهد، وقد رواه أيضا أصحابنا.. وهو الصحيح.

ب. ثانيها: إن معناه القصر من حدود الصلاة، عن ابن عباس، وطاووس وهو الذي رواه أصحابنا في صلاة شدة الخوف، وإنها تصلى إيماء، والسجود أخفض من الركوع، فإن لم يقدر على ذلك، فالتسبيح المخصوص كاف عن كل ركعة.

ج. ثالثها: إن المراد بالقصر الجمع بين الصلاتين.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾:

أ. قيل: يعني: خفتم فتنة الذين كفروا في أنفسكم، أو دينكم.

ب. وقيل: معناه إن خفتم أن يقتلكم الذين كفروا في الصلاة، عن ابن عباس.

4. ومثله قوله تعالى: ﴿على خوف من فرعون وملئه أن يفتنهم﴾ أي: يقتلهم، وقيل: معناه أن يعذبكم الذين كفروا بنوع من أنواع العذاب

5. ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ أي: ظاهري العداوة.

6. في قراءة أبي بن كعب: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا) من غير أن يقرأ ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾، وقيل إن معنى هذه القراءة: أن لا يفتنكم، أو كراهة أن يفتنكم، كما في قوله: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ وظاهر الآية يقتضي أن القصر لا يجوز إلا عند الخوف، لكنا قد علمنا جواز القصر عند الأمن ببيان النبي، ويحتمل أن يكون ذكر الخوف في الآية، قد خرج مخرج الأعم والأغلب عليهم في أسفارهم، فإنهم كانوا يخافون الأعداء في عامتها، ومثله في القرآن كثير.

7. اختلف الفقهاء في قصر الصلاة في السفر:

أ. فقال الشافعي: هي رخصة، واختاره الجبائي.

ب. وقال أبو حنيفة: هو عزيمة وفرض، وهذا مذهب أهل البيت، قال زرارة، ومحمد بن مسلم: (قلنا لأبي جعفر: ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي؟ قال إن الله يقول: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ فصار التقصير واجبا في السفر، كوجوب التمام في الحضر، قالا: قلنا إنه قال: (لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة) ولم يقل افعل فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام؟ قال أوليس قال تعالى في الصفا والمروة ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ ألا ترى أن الطواف واجب مفروض، لان الله تعالى ذكرهما في كتابه، وصنعهما نبيه، وكذا التقصير في السفر، شيء صنعه رسول الله، وذكره الله في الكتاب، قال قلت: فمن صلى في السفر أربعا، أيعيد أم لا؟ قال إن كان قرئت عليه آية التقصير، وفسرت له، فصلى أربعا، أعاد، وإن لم يكن قرئت عليه، ولم يعلمها، فلا إعادة عليه.

8. الصلاة في السفر: كل فريضة ركعتان، إلا المغرب، فإنها ثلاث، ليس فيها تقصير، تركها رسول الله في السفر والحضر ثلاث ركعات، وفي هذا الخبر دلالة على أن فرض المسافر، مخالف لفرض المقيم، وقد أجمعت الطائفة على ذلك، وعلى أنه ليس بقصر، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (فرض المسافر ركعتان غير قصر)، وعندهم إن الخوف بانفراده موجب للقصر، وفيه خلاف بين الفقهاء، وذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الله عنى بالقصر في الآية: قصر صلاة الخوف، من صلاة السفر، لا من صلاة الإقامة لأن صلاة السفر عندهم، ركعتان تمام، غير قصر، فمنهم جابر بن عبد الله، وحذيفة اليمان، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وأبو هريرة، وكعب، وكان من الصحابة قطعت يده يوم اليمامة، وابن عمر، وسعيد بن جبير، والسدي.

9. حد السفر الذي يجب عنده القصر:

أ. عندنا (2) ثمانية فراسخ، وقيل مسيرة ثلاثة أيام بلياليها، وهو مذهب أبي حنيفة، وأصحابه.

ب. وقيل: ستة عشر فرسخا ثمانية وأربعين ميلا، وهو مذهب الشافعي.

10. وجه اتصال الآية بما قبلها: إنه لما أمر بالجهاد والهجرة، بين صلاة السفر والخوف، رحمة منه، وتخفيفا لعباده.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/152.

(2) يقصد الإمامية.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. روى مجاهد عن أبي عيّاش الزّرقيّ قال كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعسفان‏، وعلى المشركين خالد بن الوليد، قال فصلّينا الظّهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غرّة، لو كنّا حملنا عليهم وهم في الصّلاة، فنزلت آية القصر فيما بين الظّهر والعصر.

2. الضّرب في الأرض: السّفر، والجناح: الإثم، والقصر: النّقص، والفتنة: القتل.

3. في القصر قولان:

أ. أحدهما: أنه القصر من عدد الركعات.

ب. الثاني: أنه القصر من حدودها.

4. ظاهر الآية يدلّ على أن القصر لا يجوز إلا عند الخوف، وليس الأمر كذلك، وإنما نزلت الآية على غالب أسفار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأكثرها لم يخل عن خوف العدوّ، وقيل: إن قوله: ﴿أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ كلام تام، وقوله تعالى: ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾ كلام مبتدأ، ومعناه: وإن خفتم.

5. اختلف العلماء هل صلاة المسافر ركعتين مقصورة أم لا؟

أ. فقال قوم: ليست مقصورة، وإنما فرض المسافر ذلك، وهو قول ابن عمر، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن جبير، والسّدّيّ، وأبي حنيفة، فعلى هذا القول قصر الصلاة أن تكون ركعة، ولا يجوز ذلك إلا بوجود السّفر والخوف، لأن عند هؤلاء أن الرّكعتين في السفر إذا لم يكن فيه خوف تمام غير قصر، واحتجّوا بما روى ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم صلّى بذي قرد، فصفّ الناس خلفه صفّين، صفّا خلفه، وصفّا موازي العدوّ، فصلّى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء، إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلّى بهم ركعة، ولم يقضوا، وعن ابن عباس أنه قال فرض الله الصّلاة على لسان نبيّكم في الحضر أربعا، وفي السّفر ركعتين، وفي الخوف ركعة.

ب. الثاني: أنها مقصورة، وليست بأصل، وهو قول مجاهد وطاووس وأحمد، والشّافعيّ، قال يعلى بن أميّة: قلت لعمر بن الخطّاب: عجبت من قصر الناس اليوم، وقد أمنوا وإنما قال الله تعالى: ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾ فقال عمر: عجبت مما عجبت منه، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: صدقة تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته.

6. إنما يجوز للمسافر القصر إذا كان سفره مباحا، وبهذا قال مالك، والشّافعيّ، وقال أبو حنيفة: يجوز له القصر في سفر المعصية، فأمّا مدّة الإقامة التي إذا نواها أتمّ الصّلاة، وإن نوى أقلّ منها، قصر، فقال أصحابنا: إقامة اثنين وعشرين صلاة، وقال أبو حنيفة: خمسة عشر يوما، وقال مالك، والشّافعيّ: أربعة أيام‏.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/459.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أحد الأمور التي يحتاج المجاهد إليها معرفة كيفية أداء الصلاة في زمان الخوف، والاشتغال بمحاربة العدو؛ فلهذا المعنى ذكره الله تعالى في هذه الآية.

2. قال الواحدي: يقال قصر فلان صلاته وأقصرها وقصرها، كل ذلك جائز وقرأ ابن عباس: تقصروا من أقصر، وقرأ الزهري: من قصر، وهذا دليل على اللغات الثلاث.

3. لفظ القصر مشعر بالتخفيف، لأنه ليس صريحا في أن المراد هو القصر في كمية الركعات وعددها أو في كيفية أدائها، فلا جرم حصل في الآية قولان:

أ. الأول: وهو قول الجمهور أن المراد منه القصر في عدد الركعات، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا أيضا على قولين:

الأول: أن المراد منه صلاة المسافر، وهو أن كل صلاة تكون في الحضر أربع ركعات، فإنها تصير في السفر ركعتين، فعلى هذا القصر إنما يدخل في صلاة الظهر والعصر والعشاء، أما المغرب والصبح، فلا يدخل فيهما القصر.

الثاني: أنه ليس المراد بهذه الآية صلاة السفر، بل صلاة الخوف، وهو قول ابن عباس وجابر بن عبد الله وجماعة، قال ابن عباس: فرض الله صلاة الحضر أربعا، وصلاة السفر ركعتين، وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيّكم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهذان القولان متفرعان على ما إذا قلنا: المراد من القصر تقليل الركعات.

ب. الثاني: أن المراد من القصر إدخال التخفيف في كيفية أداء الركعات، وهو أن يكتفي في الصلاة بالإيماء والإشارة بدل الركوع والسجود، وأن يجوز المشي في الصلاة، وأن تجوز الصلاة عند تلطخ الثوب بالدم، وذلك هو الصلاة التي يؤتى بها حال شدة التحام القتال، وهذا القول يروى عن ابن عباس وطاووس واحتج هؤلاء على صحة هذا القول بأن خوف الفتنة من العدو لا يزول فيما يؤتى بركعتين على إتمام أوصافهما، وإنما ذلك فيما يشتد فيه الخوف في حال التحام القتال، وهذا ضعيف، لأنه يمكن أن يقال: إن صلاة المسافر إذا كانت قليلة الركعات، فيمكنه أن يأتي بها على وجه لا يعلم خصمه بكونه مصليا، أما إذا كثرت الركعات طالت المدة ولا يمكنه أن يأتي بها على حين غفلة من العدو، وجه الاحتمال ما ذكرنا، وهو أن القصر مشعر بالتخفيف، والتخفيف كما يحصل بحذف بعض الركعات فكذلك يحصل بأن يجعل الإيماء والإشارة قائما مقام الركوع والسجود.

4. حمل لفظ القصر على إسقاط بعض الركعات أولى، ويدل عليه وجوه:

أ. الأول: ما روي عن يعلى بن أمية أنه قال قلت لعمر بن الخطاب: كيف نقصر وقد أمنا، وقد قال الله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ﴾ فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) وهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات، وأن ذلك كان مفهوما عندهم من معنى الآية.

ب. الثاني: أن القصر عبارة عن أن يؤتي ببعض الشيء ويقتصر عليه، فأما أن يؤتى بشيء آخر، فذلك لا يسمى قصرا، ولا اقتصارا، ومعلوم أن إقامة الإيماء مقام الركوع والسجود، وتجويز المشي في الصلاة وتجويز الصلاة مع الثوب الملطخ بالدم، ليس شيء من ذلك قصرا، بل كلها إثبات لأحكام جديدة وإقامة لشيء مقام شيء آخر، فكان تفسير القصر بما ذكرنا أولى.

ج. الثالث: أن (من) في قوله: ﴿مِنَ الصَّلَاةِ﴾ للتبعيض، وذلك يوجب جواز الاقتصار على بعض الصلاة، فثبت بهذه الوجوه أن تفسير القصر بإسقاط بعض الركعات أولى من تفسيره بما ذكروه من الإيماء والإشارة.

د. الرابع: أن لفظ القصر كان مخصوصا في عرفهم بنقص عدد الركعات، ولهذا المعنى لما صلّى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الظهر ركعتين، قال ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟

هـ. الخامس: أن القصر بمعنى تغير الصلاة مذكور في الآية التي بعد هذه الآية، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية بيان القصر بمعنى حذف الركعات، لئلا يلزم التكرار.

5. قال الشافعي: القصر رخصة، فإن شاء المكلف أتم، وإن شاء اكتفى على القصر، وقال أبو حنيفة: القصر واجب، فإن صلّى المسافر أربعا ولم يقعد في الثنتين فسدت صلاته، وإن قعد بينهما مقدار التشهد تمت صلاته، واحتج الشافعي على قوله بوجوه:

أ. الأول: أن ظاهر قوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ مشعر بعدم الوجوب، فإنه لا يقال‏ ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ في أداء الصلاة الواجبة، بل هذا اللفظ إنما يذكر في رفع التكليف بذلك الشيء فأما إيجابه على التعيين فهذا اللفظ غير مستعمل فيه، أما أبو بكر الرازي فأجاب عنه بأن المراد من القصر في هذه الآية لا تقليل الركعات، بل تخفيف الأعمال، وبيّنا بالدليل أنه لا يجوز حمل الآية على ما ذكره، فسقط هذا العذر، وذكر صاحب (الكشاف) وجها آخر فيه، فقال: إنهم لما ألفوا الإتمام، فربما كان يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر، فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر، فيقال له: هذا الاحتمال إنما يخطر ببالهم إذا قال الشارع لهم: رخصت لكم في هذا القصر، أما إذا قال أوجبت عليكم هذا القصر، وحرمت عليكم الإتمام، وجعلته مفسدا لصلاتكم، فهذا الاحتمال مما لا يخطر ببال عاقل أصلا، فلا يكون هذا الكلام لائقا به.

ب. الثاني: ما روي أن عائشة قالت: اعتمرت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من المدينة إلى مكة، فلما قدمت مكة قلت يا رسول الله: بأبي أنت وأمي، قصرت وأتممت وصمت وأفطرت، فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب علي، وكان عثمان يتم ويقصر، وما ظهر إنكار من الصحابة عليه.

ج. الثالث: أن جميع رخص السفر شرعت على سبيل التجويز، لا على سبيل التعيين جزما فكذا هاهنا، واحتجوا بالأحاديث منها ما روى عمر أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال فيه‏ (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) فظاهر الأمر للوجوب، وعن ابن عباس قال كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا خرج مسافرا صلّى ركعتين، والجواب: أن هذه الأحاديث تدل على كون القصر مشروعا جائزا، إلا أن الكلام في أنه هل يجوز غيره؟ ولما دل لفظ القرآن على جواز غيره كان القول به أولى.

6. قال بعضهم: صلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر، ولما قدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة أقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، ولفظ الآية يبطل هذا، وذلك لأنا بينا أن المراد من القصر المذكور في الآية تخفيف الركعات، ولو كان الأمر على ما ذكروه لما كان هذا قصرا في صلاة السفر، بل كان ذلك زيادة في صلاة الحضر.

7. زعم داوود وأهل الظاهر أن قليل السفر وكثيره سواء في جواز الرخصة وزعم جمهور الفقهاء أن السفر ما لم يقدر بمقدار مخصوص لم يحصل فيه الرخصة، احتج أهل الظاهر بالآية فقالوا: إن قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ جملة مركبة من شرط، وجزاء الشرط هو الضرب في الأرض، والجزاء هو جواز القصر، وإذا حصل الشرط وجب أن يترتب عليه الجزاء سواء كان الشرط الذي هو السفر طويلا أو قصيرا، أقصى ما في الباب أن يقال: فهذا يقتضي حصول الرخصة عند انتقال الإنسان من محلة إلى محلة، ومن دار إلى دار، إلا أنا نقول: الجواب عنه من وجهين:

أ. الأول: أن الانتقال من محلة إلى محلة إن لم يسم بأنه ضرب في الأرض، فقد زال الأشكال، وإن سمي بذلك فنقول: أجمع المسلمون على أنه غير معتبر، فهذا تخصيص تطرق إلى هذا النص بدلالة الإجماع، والعام بعد التخصيص حجة، فوجب أن يبقى النص معتبرا في السفر، سواء كان قليلا أو كثيرا.

ب. الثاني: أن قوله: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ يدل على أنه تعالى جعل الضرب في الأرض شرطا لحصول هذه الرخصة، فلو كان الضرب في الأرض اسما لمطلق الانتقال لكان ذلك حاصلا دائما، لأن الإنسان لا ينفك طول عمره من الانتقال من الدار إلى المسجد، ومن المسجد إلى السوق، وإذا كان حاصلا دائما امتنع جعله شرطا لثبوت هذا الحكم، فلما جعل الله الضرب في الأرض شرطا لثبوت هذا الحكم علمنا أنه مغاير لمطلق الانتقال وذلك هو الذي يسمى سفرا ومعلوم أن اسم السفر واقع على القريب وعلى البعيد، فعلمنا دلالة الآية على حصول الرخصة في مطلق السفر، أما الفقهاء فقالوا: أجمع السلف على أن أقل السفر مقدر، قالوا: والذي يدل عليه أنه حصل في المسألة روايات:

أ. الأولى: ما روي عن عمر أنه قال يقصر في يوم تام، وبه قال الزهري والأوزاعي.

ب. الثانية: قال ابن عباس: إذا زاد على يوم وليلة قصر.

ج. الثالثة: قال أنس بن مالك: المعتبر خمس فراسخ.

د. الرابعة: قال الحسن: مسيرة ليلتين.

هـ. الخامسة: قال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير: من الكوفة إلى المداين، وهي مسيرة ثلاثة أيام، وهو قول أبي حنيفة، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه إذا سافر إلى موضع يكون مسيرة يومين وأكثر اليوم الثالث جاز القصر، وهكذا رواه ابن سماعة عن أبي يوسف ومحمد.

و. السادسة: قال مالك والشافعي: أربعة برد كل بريد أربعة فراسخ، كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو الذي قدر أميال البادية كل ميل اثنا عشر ألف قدم، وهي أربعة آلاف خطوة، فإن كل ثلاثة أقدام خطوة.

8. قال الفقهاء: اختلاف الناس في هذه الأقوال يدل على انعقاد الإجماع على أن الحكم عير مربوط بمطلق السفر، قال أهل الظاهر: اضطراب الفقهاء في هذه الأقاويل، يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلا قويا في تقدير المدة، إذ لو حصل في المسألة دليل ظاهر الدلالة لما حصل هذا الاضطراب، وأما سكوت سائر الصحابة عن حكم هذه المسألة فلعله إنما كان لأنهم اعتقدوا أن هذه الآية دالة على ارتباط الحكم بمطلق السفر، فكان هذا الحكم ثابتا في مطلق السفر بحكم هذه الآية، وإذا كان الحكم مذكورا في نص القرآن لم يكن بهم حاجة إلى الاجتهاد والاستنباط، فلهذا سكتوا عن هذه المسألة.

9. أصحاب أبي حنيفة عولوا في تقدير المدة بثلاثة أيام على‏ قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ يمسح المسافر ثلاثة أيام، وهذا يقتضي أنه إذا لم يحصل المسح ثلاثة أيام أن لا يكون مسافرا، وإذا لم يكن مسافرا لم يحصل الرخص المشروعة في السفر، وأما أصحاب الشافعي فإنهم عولوا على ما روى مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، من مكة إلى عسفان، قال أهل الظاهر: الكلام عليه من وجوه:

أ. الأول: أنه بناء على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وهو عندنا غير جائز لوجهين:

الأول: أن القرآن وخبر الواحد مشتركان في دلالة لفظ كل واحد منهما على الحكم، والقرآن مقطوع المتن، والخبر مظنون المتن، فكان القرآن أقوى دلالة من الخبر، فترجيح الضعيف على القوي لا يجوز.

الثاني: أنه‏ روي في الخبر أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إذا روي حديث عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه)، دلّ هذا الخبر على أن كل خبر ورد على مخالفة كتاب الله تعالى فهو مردود، فهذا الخبر لما ورد على مخالفة عموم الكتاب وجب أن يكون مردودا.

ب. الثاني: في دفع هذه الأخبار، وهو أنها أخبار آحاد وردت في واقعة تعم الحاجة إلى معرفة حكمها فوجب كونها مردودة، إنما قلنا: إن الحاجة إليها عامة لأن أكثر الصحابة كانوا في أكثر الأوقات في السفر وفي‏ الغزو، فلما كانت رخص السفر مخصوصة بسفر مقدر، كانت الحاجة إلى مقدار السفر المفيد للرخص حاجة عامة في حق المكلفين، ولو كان الأمر كذلك لعرفوها ولنقلوها نقلا متواترا، لا سيما وهو على خلاف ظاهر القرآن، فلما لم يكن الأمر كذلك علمنا أن هذه أخبار ضعيفة مردودة، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يجوز ترك ظاهر القرآن بسببها.

ج. الثالث: أن دلائل الشافعية ودلائل الحنفية صارت متقابلة متدافعة، وإذا تعارضت تساقطت، فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن، هذا تمام الكلام في هذا الموضع.

10. الذي عندي في هذا الباب أن يقال: إن كلمة (إذا) وكلمة (إن) لا يفيدان إلا كون الشرط مستعقبا للجزاء فأما كونه مستعقبا لذلك الجزاء في جميع الأوقات فهذا غير لا زم، بدليل أنه إذا قال لا مرأته: إن دخلت الدار، أو إذا دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت مرة وقع الطلاق، وإذا دخلت الدار ثانيا لا يقع وهذا يدل على أن كلمة (إذا) وكلمة (إن) لا يفيدان العموم البتة، وإذا ثبت هذا سقط استدلال أهل الظاهر بالآية، فإن الآية لا تفيد إلا أن الضرب في الأرض يستعقب مرة واحدة هذه الرخص وعندنا الأمر كذلك فيما إذا كان السفر طويلا، فأما السفر القصير فإنما يدخل تحت الآية لو قلنا أن كلمة (إذا) للعموم، ولما ثبت أنه ليس الأمر كذلك فقد سقط هذا الاستدلال، وإذا ثبت هذا ظهر أن الدلائل التي تمسك بها المجتهدون بمقدار معين ليست واقعة على خلاف ظاهر القرآن فكانت مقبولة صحيحة.

11. زعم داوود وأهل الظاهر أن جواز القصر مخصوص بحال الخوف، واحتجوا بأنه تعالى أثبت هذا الحكم مشروطا بالخوف، وهو قوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ والمشروط بالشيء عدم عند عدم ذلك الشرط، فوجب أن لا يحصل جواز القصر عند الأمن، قالوا: ولا يجوز رفع هذا الشرط بخبر من أخبار الآحاد، لأنه يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه لا يجوز، ولقد صعب هذا الكلام على قوله ذكروا فيه وجوها متكلفة في الآية ليتخلصوا عن هذا الكلام، وعندي أنه ليس في هذا غموض، وذلك لأنا بينا في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ [النساء: 31] أن كلمة (إن) وكلمة (إذا) يفيدان أن عند حصول الشرط يحصل المشروط، ولا يفيدان أن عند عدم الشرط يلزم عدم المشروط، واستدللنا على صحة هذا الكلام بآيات كثيرة، وإذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾ يقتضي أن عند حصول الخوف تحصل الرخصة، ويقتضي أن عند عدم الخوف لا تحصل الرخصة، وإذا كان كذلك كانت الآية ساكتة عن حال الأمن بالنفي وبالإثبات، وإثبات الرخصة حال الأمن بخبر الواحد يكون إثباتا لحكم سكت عنه القرآن بخبر الواحد، وذلك غير ممتنع، إنما الممتنع إثبات الحكم بخبر الواحد على خلاف ما دلّ عليه القرآن، ونحن لا نقول به.

12. سؤال وإشكال: على هذا لما كان هذا الحكم ثابتا حال الأمن وحال الخوف، فما الفائدة في تقييده بحال الخوف؟ والجواب:

أ. الآية نزلت في غالب أسفار النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو، فذكر الله هذا الشرط من حيث أنه هو الأغلب في الوقوع، ومن الناس من أجاب عنه بأن القصر المذكور في الآية المراد منه الاكتفاء بالإيماء والإشارة بدلا عن الركوع والسجود، وذلك هو الصلاة حال شدة الخوف، ولا شك أن هذه الصلاة مخصوصة بحال الخوف، فإن وقت الأمن لا يجوز الإتيان بهذه الصلاة، ولا تكون محرمة ولا صحيحة، والله‏ أعلم.

ب. ثم يقال لأهل الظاهر: إن ظاهر هذه الآية يقتضي أن لا يجوز القصر إلا عند حصول الخوف الحاصل من فتنة الكفار، وأما لو حصل الخوف بسبب آخر وجب أن لا يجوز القصر، فإن التزموا ذلك سلموا من الطعن، إلا أنه بعيد، وإن لم يلتزموه توجه النقض عليهم، لأنه تعالى قال: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وذلك يقتضي أن الشرط هو هذا الخوف المخصوص، ولهم أن يقولوا: إما أن يقال: حصل إجماع الصحابة والأمة على أن مطلق الخوف كاف، أو لم يحصل الإجماع، فإن حصل الإجماع فنقول: خالفنا ظاهر القرآن بدلالة الإجماع، وهو دليل قاطع فلم تجز مخالفته بدليل ظني، وإن لم يحصل الإجماع فقد زال السؤال، لأنا نلتزم أنه لا يجوز القصر إلا مع هذا الخوف المخصوص.

13. في تفسير الفتنة في قوله تعالى: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قولان:

أ. الأول: خفتم أن يفتنوكم عن إتمام الركوع والسجود في جميعها.

ب. الثاني: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا بعداوتهم، والحاصل أن كل محنة وبلية وشدة فهي فتنة.

14. ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ والمعنى أن العداوة الحاصلة بينكم وبين الكافرين قديمة، والآن قد أظهرتم خلافهم في الدين وازدادت عداوتهم، وبسبب شدة العداوة أقدموا على محاربتكم وقصد إتلافكم إن قدروا، فإن طالت صلاتكم فربما وجدوا الفرصة في قتلكم، فعلى هذا رخصت لكم في قصر الصلاة، وإنما قال‏ ﴿عَدُوًّا﴾ ولم يقل أعداء، لأن العدو يستوي فيه الواحد والجمع، قال تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 77]

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/200.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿ضَرَبْتُمْ﴾ سافرتم، وقد تقدم، واختلف العلماء في حكم القصر في السفر، فروي عن جماعة أنه فرض، وهو قول عمر بن عبد العزيز والكوفيين والقاضي إسماعيل وحماد بن أبي سليمان، واحتجوا بحديث عائشة (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين) الحديث، ولا حجة فيه لمخالفتها له، فإنه كانت تتم في السفر وذلك يوهنه، وإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم، وقد قال غيرها من الصحابة كعمر وابن عباس وجبير بن مطعم: إن الصلاة فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة) رواه مسلم عن ابن عباس، ثم إن حديث عائشة قد رواه ابن عجلان عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت: فرض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الصلاة ركعتين ركعتين، وقال فيه الأوزاعي عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: (فرض الله الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ركعتين ركعتين، الحديث، وهذا اضطراب، ثم إن قولها: فرضت الصلاة) ليس على ظاهره، فقد خرج عنه صلاة المغرب والصبح، فإن المغرب ما زيد فيها ولا نقص منها، وكذلك الصبح، وهذا كله يضعف متنه لا سنده، وحكى ابن الجهم أن أشهب روى عن مالك أن القصر فرض، ومشهور مذهبه وجل أصحابه وأكثر العلماء من السلف والخلف أن القصر سنة، وهو قول الشافعي، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه إن شاء الله.

2. اختلف العلماء في حد المسافة التي تقصر فيها الصلاة، فقال داوود تقصر في كل سفر طويل أو قصير، ولو كان ثلاثة أميال من حيث تؤتى الجمعة، متمسكا بما رواه مسلم عن يحيى بن يزيد الهنائي قال سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ ـ شعبة الشاك ـ صلى ركعتين، وهذا لا حجة فيه، لأنه مشكوك فيه، وعلى تقدير أحدهما فلعله حد المسافة التي بدأ منها القصر، وكان سفرا طويلا زائدا على ذلك، والله أعلم، قال ابن العربي: (وقد تلاعب قوم بالدين فقالوا: إن من خرج من البلد إلى ظاهره قصر وأكل، وقائل هذا أعجمي لا يعرف السفر عند العرب أو مستخف بالدين، ولولا أن العلماء ذكروه لما رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني، ولا أفكر فيه بفضول قلبي، ولم يذكر حد السفر الذي يقع به القصر لا في القرآن ولا في السنة، وإنما كان كذلك لأنها كانت لفظة عربية مستقر علمها عند العرب الذين خاطبهم الله تعالى بالقرآن، فنحن نعلم قطعا أن من برز عن الدور لبعض الأمور أنه لا يكون مسافرا لغة ولا شرعا، وإن مشى مسافرا ثلاثة أيام فإنه مسافر قطعا، كما أنا نحكم على أن من مشى يوما وليلة كان مسافرا، لقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم منها) وهذا هو الصحيح، لأنه وسط بين الحالين وعليه عول مالك، ولكنه لم يجد هذا الحديث متفقا عليه، وروي مرة (يوما وليلة) ومرة (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) فجاء إلى عبد الله بن عمر فعول على فعله، فإنه كان يقصر الصلاة إلى رئم، وهي أربعة برد، لأن ابن عمر كان كثير الاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال غيره: وكافة العلماء على أن القصر إنما شرع تخفيفا، وإنما يكون في السفر الطويل الذي تلحق به المشقة غالبا، فراعى مالك والشافعي وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث أحمد وإسحاق وغيرهما يوما تاما، وقول مالك يوما وليلة راجع إلى اليوم التام، لأنه لم يرد بقوله: مسيرة يوم وليلة أن يسير النهار كله والليل كله، وإنما أراد أن يسير سيرا يبيت فيه [بعيدا] عن أهله ولا يمكنه الرجوع إليهم، وفي البخاري: وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخا، وهذا مذهب مالك، وقال الشافعي والطبري: ستة وأربعون ميلا، وعن مالك في العتبية فيمن خرج إلى ضيعته على خمسة وأربعين ميلا قال يقصر، وهو أمر متقارب، وعن مالك في الكتب المنثورة: أنه يقصر في ستة وثلاثين ميلا، وهي تقرب من يوم وليلة، وقال يحيى بن عمر: يعيد أبدا!، ابن عبد الحكم: في الوقت!، وقال الكوفيون: لا يقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام، وهو قول عثمان وابن مسعود وحذيفة، وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم)، قال أبو حنيفة: ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام، وقال الحسن والزهري: تقصر الصلاة في مسيرة يومين، وروي هذا القول عن مالك، ورواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لا تسافر المرأة مسيرة ليلتين إلا مع زوج أو ذي محرم)، وقصر ابن عمر في ثلاثين ميلا، وأنس في خمسة عشر ميلا، وقال الأوزاعي: عامة العلماء في القصر على اليوم التام، وبه نأخذ، قال أبو عمر: اضطربت الآثار المرفوعة في هذا الباب كما ترى في ألفاظها، ومجملها عندي ـ والله أعلم ـ أنها خرجت على أجوبة السائلين، فحدث كل واحد بمعنى ما سمع، كأنه قيل له صلّى الله عليه وآله وسلّم في وقت ما: هل تسافر المرأة مسيرة يوم بغير محرم؟ فقال: لا، وقيل له في وقت آخر: هل تسافر المرأة يومين بغير محرم؟ فقال: لا، وقال له آخر: هل تسافر المرأة [مسيرة [ثلاثة أيام بغير محرم؟ فقال: لا، وكذلك معنى الليلة والبريد على ما روي، فأدى كل واحد ما سمع على المعنى، والله أعلم، ويجمع معاني الآثار في هذا الباب ـ وإن اختلفت ظواهرها ـ الحظر على المرأة أن تسافر سفرا يخاف عليها فيه الفتنة بغير محرم، قصيرا كان أو طويلا.

3. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بقصر الصلاة وصلاة المسافر، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.

4. ﴿أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ ﴿أَنْ﴾ في موضع نصب، أي في أن تقصروا، قال أبو عبيد: فيها ثلاث لغات: قصرت الصلاة وقصرتها وأقصرتها، واختلف العلماء في تأويله، فذهب جماعة من العلماء إلى أنه القصر إلى اثنتين من أربع في الخوف وغيره، لحديث يعلى بن أمية على ما يأتي، وقال آخرون: إنما هو قصر الركعتين إلى ركعة، والركعتان في السفر إنما هي تمام، كما قال عمر: تمام غير قصر، وقصرها أن تصير ركعة، قال السدي: إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام، والقصر لا يحل إلا أن تخاف، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئا، ويكون للإمام ركعتان، وروي نحوه عن ابن عمر وجابر بن عبد الله وكعب، وفعله حذيفة بطبرستان وقد سأله الأمير سعيد ابن العاص عن ذلك، وروى ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة لكل طائفة ولم يقضوا، وروى جابر بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى كذلك بأصحابه يوم محارب خصفة وبني ثعلبة، وروى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى كذلك بين ضجنان وعسفان، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة، وهذا يؤيد هذا القول ويعضده، إلا أن القاضي أبا بكر بن العربي ذكر في كتابه المسمى بالقبس: قال علماؤنا: هذا الحديث مردود بالإجماع، قلت: وهذا لا يصح، وقد ذكر هو وغيره الخلاف والنزاع فلم يصح ما ادعوه من الإجماع وبالله التوفيق، وحكى أبو بكر الرازي الحنفي في أحكام القرآن) أن المراد بالقصر هاهنا القصر في صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء، وبترك القيام إلى الركوع، وقال آخرون: هذه الآية مبيحة للقصر من حدود الصلاة وهيئتها عند المسايفة واشتعال الحرب، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه، إلى تكبيرة، على ما تقدم في البقرة)، ورجح الطبري هذا القول وقال: إنه يعادله ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أي بحدودها وهيئتها الكاملة، قلت: هذه الأقوال الثلاثة في المعنى متقاربة، وهي مبنية على أن فرض المسافر القصر، وإن الصلاة في حقه ما نزلت إلا ركعتين، فلا قصر، ولا يقال في العزيمة لا جناح، ولا يقال فيما شرع ركعتين إنه قصر، كما لا يقال في صلاة الصبح ذلك، وذكر الله تعالى القصر بشرطين والذي يعتبر فيه الشرطان صلاة الخوف، هذا ما ذكره أبو بكر الرازي في أحكام القرآن) واحتج به، ورد عليه بحديث يعلى بن أمية على ما يأتي آنفا إن شاء الله تعالى.

5. ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾ خرج الكلام على الغالب، إذ كان الغالب على المسلمين الخوف في الأسفار، ولهذا قال يعلى بن أمية: قلت لعمر: ما لنا نقصر وقد أمنا، قال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك فقال: (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)، وقد استدلّ أصحاب الشافعي وغيرهم على الحنفية بحديث يعلى بن أمية هذا فقالوا: إن قوله: (ما لنا نقصر وقد أمنا) دليل قاطع على أن مفهوم الآية القصر في الركعات، قال الكيا الطبري: ولم يذكر أصحاب أبي حنيفة على هذا تأويلا يساوي الذكر، ثم إن صلاة الخوف لا يعتبر فيها الشرطان، فإنه لو لم يضرب في الأرض ولم يوجد السفر بل جاءنا الكفار وغزونا في بلادنا فتجوز صلاة الخوف، فلا يعتبر وجود الشرطين على ما قاله، وفي قراءة أبي أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا) بسقوط ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾، والمعنى على قراءته: كراهية أن يفتنكم الذين كفروا، وثبت في مصحف عثمان ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾، وذهب جماعة إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو، فمن كان آمنا فلا قصر له، روي عن عائشة أنها كانت تقول في السفر: أتموا صلاتكم، فقالوا: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقصر، فقالت: إنه كان في حرب وكان يخاف، وهل أنتم تخافون؟، وقال عطاء: كان يتم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عائشة وسعد بن أبي وقاص وأتم عثمان، ولكن ذلك معلل بعلل تقدم بعضها، وذهب جماعة إلى أن الله تعالى لم يبح القصر في كتابه إلا بشرطين: السفر والخوف، وفي غير الخوف بالسنة، منهم الشافعي وقد تقدم، وذهب آخرون إلى أن قوله تعالى: ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾ ليس متصلا بما قبل، وأن الكلام تم عند قوله: ﴿مِنَ الصَّلَاةِ﴾ ثم افتتح فقال: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف، وقوله: ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ كلام معترض، قاله الجرجاني وذكره المهدوي وغيرهما، ورد هذا القول القشيري والقاضي أبو بكر بن العربي، قال القشيري أبو نصر: وفي الحمل على هذا تكلف شديد، وإن أطنب الرجل ـ يريد الجرجاني ـ في التقدير وضرب الأمثلة، وقال ابن العربي: وهذا كله لم يفتقر إليه عمر ولا ابنه ولا يعلى بن أمية معهما، قلت: قد جاء حديث بما قاله الجرجاني ذكره القاضي أبو الوليد بن رشد في مقدماته، وابن عطية أيضا في تفسيره عن علي بن أبي طالب أنه قال سأل قوم من التجار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ ثم انقطع الكلام، فلما كان بعد ذلك بحول غزا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى في أثرها، فأنزل الله تعالى بين الصلاتين ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلى آخر صلاة الخوف، فإن صح هذا الخبر فليس لأحد معه مقال، ويكون فيه دليل على القصر في غير الخوف بالقرآن، وقد روي عن ابن عباس أيضا مثله، قال إن قوله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِنزلت في الصلاة في السفر، ثم نزل ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في الخوف بعدها بعام، فالآية على هذا تضمنت قضيتين وحكمين، فقوله: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ يعني به في السفر، وتم الكلام، ثم ابتدأ فريضة أخرى فقدم الشرط، والتقدير: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة، والواو زائدة، والجوابـ ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾، وقوله: ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ اعتراض، وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة، وهو حديث عمر إذ روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له: هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)، قال النحاس: من جعل قصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في غير خوف وفعله في ذلك ناسخا للآية فقد غلط، لأنه ليس في الآية منع للقصر في الأمن، وإنما فيها إباحة القصر في الخوف فقط.

6. ﴿أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قال الفراء: أهل الحجاز يقولون فتنت الرجل، وربيعة وقيس وأسد وجميع أهل نجد يقولون أفتنت الرجل، وفرق الخليل وسيبويه بينهما فقالا: فتنته جعلت فيه فتنة مثل أكحلته، وأفتنته جعلته مفتتنا، وزعم الأصمعي أنه لا يعرف أفتنته، ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ ﴿عَدُوًّا﴾ هاهنا بمعنى أعداء.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/351.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ﴾ قد تقدّم تفسير الضرب في الأرض قريبا، ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ فيه دليل: على أن القصر ليس بواجب، وإليه ذهب الجمهور، وذهب الأقلون: إلى أنه واجب، ومنهم: عمر بن عبد العزيز، والكوفيون، والقاضي إسماعيل، وحماد بن أبي سليمان، وهو مرويّ عن مالك، واستدلوا بحديث عائشة الثابت في الصحيح: (فرضت الصّلاة ركعتين ركعتين فزيدت في الحضر وأقرّت في السّفر)، ولا يقدح في ذلك مخالفتها لما روت، فالعمل على الرواية الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومثله: حديث يعلى بن أمية قال سألت عمر بن الخطاب، قلت: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وقد أمن الناس، فقال لي عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك فقال: (صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) أخرجه أحمد، ومسلم، وأهل السنن، وظاهر قوله: (فاقبلوا صدقته): أن القصر واجب.

2. ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ظاهر هذا الشرط أن القصر لا يجوز في السفر إلّا مع خوف الفتنة من الكافرين لا مع الأمن، ولكنه قد تقرّر بالسنة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قصر مع الأمن كما عرفت، فالقصر مع الخوف ثابت بالكتاب، والقصر مع الأمن ثابت‏ بالسنة، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضة ما تواتر عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم من القصر مع الأمن، وقد قيل: إن هذا الشرط خرّج مخرج الغالب، لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك القصر للخوف في الأسفار، ولهذا قال يعلى ابن أمية لعمر ما قال كما تقدّم، وفي قراءة أبيّ: أن تقصروا من الصّلاة أن يفتنكم الذين كفروا بسقوط ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾ والمعنى على هذه القراءة: كراهة أن يفتنكم الذين كفروا، وذهب جماعة من أهل العلم: إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدوّ، فمن كان آمنا فلا قصر له، وذهب آخرون إلى أن قوله: ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾ ليس متصلا بما قبله وأن الكلام تمّ عند قوله: ﴿مِنَ الصَّلَاةِ﴾ ثم افتتح فقال: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف.

3. ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ معترض، ذكر معنى هذا الجرجاني، والمهدوي، وغيرهما، ورده القشيري، والقاضي أبو بكر بن العربي، وقد حكى القرطبي عن ابن عباس معنى ما ذكره الجرجاني ومن معه، ومما يرد هذا ويدفعه: الواو في قوله: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ وقد تكلف بعض المفسرين فقال: إن الواو زائدة، وإن الجواب للشرط المذكور، أعني قوله: ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾ هو قوله: ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ﴾ وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة، وهي: حديث عمر الذي قدّمنا ذكره، وما ورد في معناه.

4. ﴿أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: فتنت الرجل، وربيعة وقيس وأسد وجميع أهل نجد يقولون: أفتنت الرجل، وفرق الخليل وسيبويه بينهما فقالا: فتنته: جعلت فيه فتنة مثل كحلته، وأفتنته: جعلته مفتنا، وزعم الأصمعي أنه لا يعرف أفتنته، والمراد بالفتنة: القتال والتعرّض بما يكره، ﴿عَدُوًّا﴾ أي أعداء.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/586.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الَارْضِ﴾ جاوزتم فرسخين مِمَّا اتَّخذتموه وطنًا ولو في الحوزة، لحديث الربيع أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم جاوز فرسخين من المدينة إلى ذي الحليفة، وقال: (أريد أن أعلِّمكم حدَّ السفر)، وقال مالك والشافعيُّ: حدُّه أربعة برد، وقال أبو حنيفة: ستَّة برد، والبريد: أربعة فراسخ، وهي مسيرة يومين باعتدال في السير، والفرسخ ثلاثة أميال، بأميال هاشم جدِّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وهو الذي قدَّر أميال البادية، والميل: اثنا عشر ألف قدم، وهي أربعة آلاف خطوة، والخطوة ثلاثة أقدام، وعن أبي حنيفة: يقصر في ثلاثة أيَّام، وعن الحسن بن زيَّاد عن أبي حنيفة: يومان وأكثر الثالث، وكذا عن صاحبيه أبي يوسف ومحمَّد، وعن الحسن البصري: مسيرة ليلتين، وعن أنس: خمسة فراسخ، وقيل: أحد وعشرون فرسخًا، وقيل: ثمانية عشر فرسخا، وقيل: خمسة عشر فرسخا، وعن ابن عبَّاس: الزيادة على يوم، وعن عمر: يوم، وقال داود الظاهري: القصر لمطلق السفر ولو قليلاً.

2. ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ اَن تَقْصُرُواْ﴾ في أن تقصروا ﴿مِنَ الصَّلاةِ﴾ الرباعيَّة ركعتين، فلا تصعب عليكم الهجرة، والقصر واجب، فمن صلَّى صلاة سفر تمامًا ولم يعدها قصرًا هلك ولزمته المغلَّظة، ورُخِّص في المغلظة كما ذكره الشيخ موسى بن عامر، وكذلك قال بوجوب القصر أبو حنيفة كما قلنا، ولنا قول عائشة: (فُرضت الصلاة ركعتين، والمغرب ثلاثًا، وزاد الله في الحضر على غير المغرب والفجر ركعتين)، فالتقصير عزيمة، وأُبقي المغرب لأنَّه وتر النهار، والفجر لأنَّه يسنُّ فيه طول القراءة، ولنا أيضًا قول عمر: (صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان، والعيد ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيِّكم صلّى الله عليه وآله وسلّم )، وليس في نفي الجناح ما ينافي الوجوب، لأنَّه دفعٌ لِمَا يتوهَّم أنَّ القصر ذنب على حدِّ ما في قوله تعالى : ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَّطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة: 158]، قال الشافعيُّ: القصر رخصة لا عزيمة، فإن شاء أتمَّ، واستدلَّ بأنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أتمَّ، وأنَّ عائشة قالت: (يا رسول الله قصَّرتُ وأتممتُ، وأفطرتُ وصمتُ)، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أحسنتِ)، فنقول: ما استمرَّت عليه عائشة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أثبت، فإنَّها لم تقل ذلك إِلَّا لعلمها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنَّ الإتمام في السفر منسوخ، وأنَّ قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم إِنَّمَا هو قبل النسخ، ولا يخفى أنَّ فرض صلاة السفر ركعتين ركعتين، ينافي جواز الزيادة، وعائشة خالف فعلها روايتها، والقاعدة أنَّ مثل ذلك يتبع فيه فعلها مثلا، وروي أنَّها اعتذرت عن فعلها بأنِّي أمُّ المؤمنين فداري حيثما حللتُ.

3. ﴿إِنْ خِفْتُمُ أَنْ يَّفْتِنَكُم﴾ أن يقتلكم، كقوله تعالى: ﴿عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمُ أَنْ يَّفْتِنَهُمْ﴾ [يونس: 83]، ويلتحق بالقتل نحوه، وقيل: هذا مستأنف متعلِّق بقوله: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ﴾، وعلى هذا فهي في صلاة الخوف لا في صلاة القصر، والصحيح أنَّها في القصر.

4. ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ هذا جارٍ على الغالب في ذلك الوقت، فيشرع القصر أيضًا في حال الأمن، كقوله تعالى: ﴿وَرَبَآئِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم﴾ [النساء: 23]، وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمُ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ﴾ [البقرة: 229]، وقد روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنَّه قصر في السفر من غير خوف، وأنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أباح لعائشة قصرها من غير خوف، وروي عن يعلى بن أميَّة: (قلت لعمر بن الخطاب: فيم اقتصار الناس الصلاة اليوم؟ وإنَّما قال الله تعالى: ﴿إِنْ خِفْتُمُ أَنْ يَّفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، وقد ذهب الخوف اليوم!) فقال عمر: (عجبتُ مِمَّا عجبتَ منه، فذكرتُ ذلك لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (صدقة تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)، أي: فاعتقدوه واعملوا به، وذلك إسقاط للإتمام عن ذممنا، والإسقاط لا يحتاج إلى القبول، ولا يَقبل الردَّ، خصوصًا ما كان من الله، فإنَّه ما لنا إلَّا التديُّن بما شرع لنا، وقال داود الظاهرىُّ: لا يجوز القصر إلَّا حال الخوف لظاهر الآية، وأخبار القصر في الأمن آحاد، والآحاد لا تنسخ القرآن، قلنا: الأحاديث بيَّنت أنَّ الشرط جريٌ على الغالب لا قيدٌ، وقد أخرج البخاريُّ ومسلم وابن جرير والنسائيُّ والترمذيُّ أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (صلَّى في السفر ركعتين وهو في أمن)، وقيل: القصر من السُّـنَّة، وأمَّا الآية ففي تخفيف الصلاة عند الخوف بتقليل القراءة والتسبيح والتعظيم، وبالإماء كما يأتي قريبًا إن شاء الله تعالى.

5. ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾ وقيل: المراد بالآية أنْ يخافوا العدوَّ فينقصوا من صلاتهم، وشأنها كالوضوء بالتيمُّم، وتلاوة آية واحدة ولو قصيرة، والإيماء، وتعظيمة وتسبيحة واحدة في كلِّ ركوع وسجود، ونسب لابن عبَّاس وطاووس وهو ضعيف، وقيل: المراد ركعتان، ولو في المغرب للخوف في السفر، وألحق به الخوف في الحضر، وهو ضعيف.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/267.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ أي: سافرتم‏ ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ أي: إثم‏ ﴿أَنْ تَقْصُرُوا﴾ أي: تنقصوا شيئا ﴿مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ﴾ أي: يقاتلكم‏ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في الصلاة ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ ظاهر العداوة، فلا يراعون حرمة الصلاة لعداوتهم.

2. ذهب الجمهور إلى أن الآية عني بها تشريع صلاة السفر، وإن معنى قوله تعالى:‏ ﴿أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ هو قصر الكمية، وذلك بأن تجعل الرباعية ثنائية، قالوا: وحكمها للمسافر في حال الأمن كحكمها في حال الخوف لتظاهر السنن على مشروعيتها مطلقا، روى الترمذيّ‏ والنسائيّ وابن أبي شيبة عن ابن عباس، أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: خرج من المدينة لا يخاف إلا الله رب العالمين، فصلى ركعتين، وروى البخاريّ‏ وبقية الجماعة عن حارثة بن وهب قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم آمن ما كان، بمنى، ركعتين.

3. وحينئذ فقوله تعالى: ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾ خرج مخرج الغالب، حال نزول الآية، إذ كانت أسفارهم بعد الهجرة في مبدئها مخوفة، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عامّ، أو سرية خاصة، وسائر الأحياء حرب للإسلام وأهله، والمنطوق، إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، كقوله: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ [النور: 33]، وكقوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ﴾ [النساء: 23] الآية، قالوا: ويدل على أن المراد بالآية صلاة السفر ما رواه أحمد ومسلم وأهل السنن عن يعلى بن أمية قال سألت عمر بن الخطاب، قلت له: قوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وقد أمن الناس؟ فقال لي عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك؟ فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته، وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي حنظلة الحذاء قال سألت ابن عمر عن صلاة السفر؟ فقال: ركعتان، فقلت: أين قوله: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ـ ونحن آمنون؟ فقال: سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وروى ابن مردويه عن أبي الوداك قال: سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر؟ فقال: هي رخصة نزلت من السماء، فإن شئتم فردوها، قالوا: فهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات.

4. وإن ذلك كان مفهوما عندهم من معنى الآية، قالوا: ومما يدل على أن لفظ (القصر) كان مخصوصا في عرفهم بنقص عدد الركعات، ولهذا المعنى، لما صلّى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم الظهر ركعتين، قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟

5. هذا، وذهب كثير من السلف، منهم مجاهد والضحاك والسدّيّ، إلى أن هذه‏ الآية نزلت في صلاة الخوف، وأن المعنيّ بالقصر هو قصر الكيفية لا الكمية، لأن عندهم كمية صلاة المسافر ركعتان، فهي تمام غير قصر، كما قاله عمر وابن عباس وعائشة قالوا: ولهذا قال تعالى: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وقال تعالى بعدها ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ الآية، فبين المقصود من القصر هاهنا، وذكر صفته وكيفيته، ولهذا لما عقد البخاريّ (كتاب صلاة الخوف) صدّره بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾، وهكذا قال جويبر عن الضحاك في قوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾، قال ذاك عند القتال، يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه، وقال أسباط عن السديّ، في هذه الآية: إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام التقصير، لا يحل إلا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عن الصلاة، فالتقصير ركعة، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾، يوم كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه بعسفان، والمشركون بضجنان فتوافقوا، فصلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات، بركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا، فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم، روى ذلك ابن أبي حاتم، ورواه بن جرير عن مجاهد والسدّيّ، وعن جابر وابن عمر، واختار ذلك أيضا، فإنه قال بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك: وهو الصواب، ثم‏ روي عن أمية أنه قال لعبد الله بن عمر: إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ولا نجد قصر صلاة المسافر، فقال عبد الله: إنا وجدنا نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم يعمل عملا عملنا به، فقد سمى صلاة الخوف مقصورة، وحمل الآية عليها، لا على قصر صلاة المسافر، وأقره ابن عمر على ذلك، واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع، لا بنص القرآن، وأصرح من هذا ما رواه أيضا عن سماك الحنفيّ قال سألت ابن عمر عن صلاة السفر؟ فقال: ركعتان تمام غير قصر، إنما القصر في صلاة المخافة، فقلت: وما صلاة المخافة؟ فقال، يصلي الإمام بطائفة ركعة، ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء، ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء، فيصلي بهم ركعة، فيكون للإمام ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة.

6. هذا ما نقله ابن كثير، وهو موافق لما نقله بعض مفسري الزيدية عن الهادوية والقاسمة؛ أن الآية واردة في صلاة الخوف، وأن المراد بالقصر في الآية قصر الصفة، بمعنى أن المأموم يقصر ائتمامه فيأتمّ بركعة، ويصلي منفردا في ركعة.

7. قال العلامة أبو السعود: إن هذه الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته، وفي حق ما يتعلق به من الصلوات، وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر، فكل ما ورد عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم من القصر في حال الأمن، وتخصيصه بالرباعيات على وجه التنصيف، وبالضرب في المدة المعينة ـ بيان لإجمال الكتاب.

8. إذا حمل القصر على قصر العدد، وأن الرباعية تكون ركعتين، فما حكم هذا القصر؟ قلنا: في هذا مذاهب أربعة: الأول: أن القصر رخصة والإتمام أفضل.. الثاني: أنه حتم.. الثالث: أنه سنة غير حتم.. الرابع: أنه مخير كما يخير في الكفارات، وأنهما، أعني القصر والإتمام، واجبان، وهاك بيان متعلق هذه المذاهب:

أ. تعلق أهل القوم الأول:

بقوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾، وهذه الكلمة تستعمل فيما هو مباح جائز، لا فيما هو فرض، نحو: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ [البقرة: 230] و﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [البقرة: 236]، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: 229]، سؤال وإشكال: إن قيل: قد يستعمل ذلك في الواجب مثل: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة: 178]، والجواب: بأن ذلك على سبيل المجاز.

من جهة السنة، ما روي عن عائشة قالت: اعتمرت مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قلت: يا رسول الله! بأبي وأمي أنت! قصرت وأتممت، وصمت وأفطرت، فقال: أحسنت، يا عائشة! وما عاب عليّ، وكان عثمان يقصر ويتم، ومن جهة المعنى، أو المعقول والمفهوم من لفظ (القصر) إنما هو الرخصة لأجل مشقة المسافر، كما خص له في الإفطار، وفي الحديث: تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.

ب. تعلق أهل المذهب الثاني بأن قالوا: حملنا لفظ الجناح على الفرض، وإن كان مجازا، لما روي عن ابن عباس‏ قال فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين، وعن عمر: صلاة الجمعة ركعتان وصلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيّكم، وكانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أسفاره ركعتين، وأقام بمكة ثمانية عشر يوما يقصر ويقول: أتموا، يا أهل مكة! فإنا قوم سفر، وعن الشعبيّ: من أتم في السفر فقد رغب عن ملة إبراهيم، وروي‏ أن عثمان أتم الصلاة بمنى، فأنكر عليه عبد الله بن مسعود، وقال: صليت خلف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ركعتين، وخلف أبي بكر ركعتين، منفصلتين، فاعتذر عثمان بضروب من الأعذار، منها أنه قد تأهل، وقيل: أتم لأن مذهبه أن القصر لمن لم يكن له زاد ولا راحلة، وهو مذهب سعد بن أبي وقاص، فيكون قولنا: قصرت الصلاة، مجازا، لأنها تامة إذا نقص من الأربع، ويقولون: هذه الأخبار تعارض ما يفهم من معقولية التسهيل.

ج. ومتعلق أهل القول الثالث والرابع بالجمع بين الروايات، وسائر الوجوه التي تعلق بها أهل القولين الأولين، فكان واجبا مخيّرا، ومن قال إنه سنة، فلأن المشهور عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم القصر في الأسفار، كذا في تفسير بعض الزيدية.

9. حديث عائشة المذكور، رواه النسائيّ والدّارقطنيّ والبيهقيّ، واختلف قول الدّارقطنيّ فيه، فقال في (السنن): إسناده حسن، وقال في (العلل): المرسل أشبه، وقال ابن حزم: هذا حديث لا خير فيه، وطعن فيه، وقال ابن النحويّ (في البدر المنير): في متن هذا الحديث نكارة، وهو كون عائشة خرجت مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في عمرة رمضان، والمشهور أن عمره كلهن في ذي القعدة، وأطال في ذلك.

10. وقال ابن القيم في (زاد المعاد): وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يقصر الرباعية، فيصليها ركعتين من حين خرج مسافرا إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة، وأما حديث عائشة أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقصر في السفر ويتم، ويفطر ويصوم فلا يصح، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد روي (كان يقصر وتتم) والأول بالياء آخر الحروف، والثاني بالتاء المثناة من فوق، وكذلك (يفطر وتصوم) أي تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين، قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل، ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وجميع أصحابه، فتصلي خلاف صلاتهم، كيف؟ والصحيح عنها؛ أن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة زيدت في‏ صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر، فكيف يظن بها، مع ذلك، أن تصلي بخلاف صلاة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين معه؟

11. ثم قال ابن القيم: قلت: وقد أتمت عائشة بعد موت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال ابن عباس وغيره: إنها تأولت كما تأول عثمان، وإن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقصر دائما، فركب بعض الرواة من الحديثين حديثا وقال: فكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقصر وتتم هي، فغلط بعض الرواة فقال: كان يقصر ويتم، أي: هو، والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه، فقيل: ظنت أن القصر مشروط بالخوف والسفر، فإذا زال سبب الخوف زال سبب القصر، وهذا التأويل غير صحيح، فإن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم سافر آمنا، وكان يقصر الصلاة، والآية قد أشكلت على عمر وغيره، فسأل عنها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأجابه بالشفاء، وأن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف، وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم، أو رفع له، وقد يقال: إن الآية اقتضت قصرا يتناول الأركان بالتخفيف.

12. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بقصر الصلاة، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.

13. استدلّ بعموم الآية من جوّز القصر في كل سفر طويلا أو قصيرا، ووجهه أن قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ يصدق على كل ضرب، ولكنه خرج الضرب أي: المشي لغير السفر، لما كان يقع منه صلّى الله عليه وآله وسلّم من الخروج إلى بقيع الغرقد ونحوه، ولا يقصر، ولم يأت في تعيين قدر السفر الذي يقصر فيه المسافر شيء فوجب الرجوع إلى ما يسمى سفرا لغة وشرعا، ومن خرج من بلده قاصدا إلى محل، يعد في مسيره إليه مسافرا، قصر الصلاة، وإن كان ذلك المحل دون البريد، ولم يأت من اعتبر البريد واليوم واليومين والثلاث وما زاد على ذلك، بحجة نيرة، وغاية ما جاءوا به‏ حديث‏: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم، وفي رواية: يوما وليلة، وفي رواية: بريدا، وليس في هذا الحديث ذكر القصر ولا هو في سياقه، والاحتجاج به مجرد تخمين، وأحسن ما ورد في التقدير ما رواه شعبة عن يحيى بن زيد الهنائيّ قال سألت أنسا عن قصر الصلاة؟ فقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ، صلى ركعتين، والشك من شعبة، أخرجه مسلم وغيره‏، فإن قلت: محل الدليل في نهي المرأة عن السفر تلك المسافة بدون محرم، هو كونه صلّى الله عليه وآله وسلّم سمى ذلك سفرا، قلت: تسميته سفرا لا تنافي تسمية ما دونه سفرا، فقد سمى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مسافة الثلاث سفرا، كما سمى مسافة البريد سفرا، في ذلك الحديث باعتبار اختلاف الرواية، وتسمية البريد سفرا لا ينافي تسمية ما دونه سفرا، فإن قلت: أخرج الدّارقطنيّ والبيهقيّ والطبرانيّ من حديث ابن عباس أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال يا أهل مكة! لا تقصروا في أقل من أربعة برد، من مكة إلى عسفان ـ قلت: هو ضعيف لا تقوم به الحجة، فإن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر، وهو متروك، وفي المسألة مذاهب هذا أرجحها، والحاصل أن الواجب هو الرجوع إلى ما يصدق عليه اسم السفر شرعا أو لغة، كذا في (الروضة الندية)، (وفي المصباح): سفر الرجل سفرا مثل طلب، خرج للارتحال، وفي (القاموس): قوم سفر وسافرة وأسفار وسفار: ذوو سفر، لضدّ الحضر، هذا وللقصر مباحث مقررة في شروح السنة.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/299.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. السياق في أحكام الجهاد في سبيل الله وجاء فيه حكم الهجرة، والصلاة فرض لازم في كل حال لا يسقط في وقت القتال ولا في أثناء الهجرة ولا غير الهجرة من أيام السفر، ولكن قد تتعذر أو تتعسر في السفر وحال الحرب إقامتها فرادى وجماعة كما أمر الله تعالى أن تقام في صورتها ومعناها، فناسب في هذا المقام أن يبين الله تعالى ما يريد أن يرخص لعباده فيه من القصر من الصلاة في هاتين الحالتين فقال: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾

2. الضرب في الأرض عبارة عن السفر فيها لأن المسافر يضرب الأرض برجليه وعصاه أو بقوائم راحلته، كما يقال طرق الأرض إذا مر بها كأنه ضربها بالمطرقة ومنه الطريق أي السبيل المطروق، وقال ههنا ضربتم في الأرض ولم يقل: ﴿ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله﴾ كما قال في الآية من هذه السورة الواردة في حكم إلقاء السلام في الحرب لأن هذه أعم فهي رخصة لكل مسافر ولو لم يكن سفره في سبيل الله للدفاع عن الحق وإقامة الدين بأن كان للتجارة أو لمجرد السياحة مثلا، وإذا كان السفر في سبيل الله فالمسافر أحق بالرخصة وهي له أولا وبالذات بقرينة السياق وما جاء في الآية التي بعد هذه.

3. ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ أي فليس عليكم تضييق ولا ميل عن محجة دين الله (وهو الحنيفية السمحة) في القصر من الصلاة، والجناح فسر بالإثم وبالتضييق وبالميل عن الاستواء قيل هو من جنحت السفينة إذا مالت إلى أحد جانبيها قاله الراغب وهو الذي فسر جنوح السفينة بما ذكر، وفسره غيره بأنه عبارة عن بلوغها أرضا رقيقة تغرز فيها ويمتنع جريها، وهذا المعنى يناسب الجناح أيضا على أن الجنوح معناه الميل وهو من الجنح بالكسر بمعنى الجانب، ومن فسر الجناح بالتضييق أخذه من قولهم جنح البعير (بصيغة المجهول) إذا انكسرت جوانحه (أضلاعه) لثقل حمله، وتفسيره بالإثم مأخوذ من هذا أيضا وهو مجاز.

4. والقصر (بالفتح) (كعنب) ضد الطول وقصرت الشيء جعلته قصيرا، فالقصر من الصلاة هو ترك شيء منها تكون به قصيرة ويصدق بترك بعض ركعاتها وبترك بعض أركانها كالركوع والسجود والجلوس للتشهد، واختلف العلماء في هذه الآية فقيل إن المراد بالقصر من الصلاة فيها ترك بعض ركعاتها وهي صلاة السفر التي تقصر فيها الرباعية فقط فتصلى ثنتين، وقيل بل المراد به صلاة الخوف مطلقا أو كيفية من كيفياتها وهي المبينة في الآية التي بعد هذه، وقيل بل المراد بها القصر من هيئتها لا من ركعاتها، وقيل بل القصر من العدد والأركان جميعا، وجمع المحقق ابن القيم في الهدي النبوي بين الأقوال فقال في فصل صلاة الخوف: (وكان من هديه صلّى الله عليه وآله وسلّم في صلاة الخوف أن أباح الله سبحانه وتعالى قصر أركان الصلاة وعددها إذا اجتمع الخوف والسفر، وقصر العدد وحده إذا كان سفر لا خوف معه، وقصر الأركان وحدها إذا كان خوف لا سفر معه، وهذا كان هديه صلّى الله عليه وآله وسلّم وبه يعلم الحكمة في تقييد القصر في الآية بالضرب في الأرض والخوف) وسيأتي تفصيل ذلك.

5. فقوله تعالى: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ شرط لنفي الجناح في قصر الصلاة، والفتنة الإيذاء بالقتل أو غيره كما صرح به بعضهم وأصله الاختبار بالمكروه والأذى كما تقدم من قبل، قال ابن جرير: (وفتنتهم إياهم فيها حملهم عليهم وهم ساجدون حتى يقتلوهم أو يأسروهم فيمنعوهم من إقامتها وأدائها ويحولوا بينهم وبين عبادة الله وإخلاص التوحيد له) وليس هذا خاصا بزمن الحرب بل إذا خاف المصلي قطاع الطريق كان له أن يقصر هذا القصر.

6. ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ تعليل لتوقع الفتنة من الذين كفروا أي كان شأنهم أنهم أعداء مظهرون للعداوة بالقتال والعدوان، فهم لا يضيعون فرصة اشتغالكم بمناجاة الله تعالى ولا يراقبون الله ولا يخشونه فيكم فيمتنعوا فيكم عن الإيقاع بكم، إذا وجدوكم غافلين عنهم، والعدو يستوي فيه الواحد والجمع.

7. إن القصر في هذه الآيات مجمل وإنما اختلف العلماء في المراد منه لأن الآية التي بعد هذه الآية تبين لنا نوعا أو أنواعا من قصر الصلاة المعروفة في الإسلام فقيل أنها مبنية لما قبلها، ورد بعضهم هذا بأن الأصل أن تفيد كل آية من الآيتين معنى جديدا تفاديا من التكرار، وأنهم كانوا يفهمون من القصر نقص عدد الركعات بدليل حديث ذي اليدين المشهور إذ قال أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ (وهذا دليل ضعيف) ومن أسباب الخلاف ما ثبت في السنة وجرى عليه العمل من العصر الأول إلى الآن من قصر الصلاة الرباعية، والسنة مبينة لإجمال القرآن، ولا يمكن أن تعرف الاصطلاحات الشرعية من ألفاظ اللغة بدون توقيف، والقرآن نفسه لم يبين لنا إلا كيفية القليل من العبادات كالوضوء والتيمم، فالسنة هي التي بينت كيفية الصلاة وكيفية الحج وغير ذلك، وإنني أذكر ما قاله محمد عبده في هاتين الآيتين قبل أن أفسر الثانية منهما ثم أذكر ملخص ما ثبت في السنة في قصر الصلاة وصلاة الخوف ثم أبين معنى الآية الثانية وكيفيات صلاة الخوف التي وردت.

8. قال محمد عبده: الكلام لا يزال في الجهاد وقد مر في الآيات السابقة الحث عليه لإقامة الدين وحفظه، وإيجاب الهجرة لأجل ذلك وتوبيخ من لم يهاجر من أرض لا يقدر فيها على إقامة دينه، والجهاد يستلزم السفر، والهجرة سفر، وهذه الآيات في بيان أحكام من سافر للجهاد أو هاجر في سبيل الله إذا أراد الصلاة وخاف أن يفتن عنها، وهو أنه يجوز له أن يقصر منها وأن يصلي جماعتها بالكيفية التي ذكرت في الآية الثانية من هذه الآيات، والقصر المذكور في الآية الأولى هنا ليس هو قصر الصلاة الرباعية في السفر المبين بشروطه في كتب الفقه فذلك مأخوذ من السنة المتواترة، وأما ما هنا فهو في صلاة الخوف كما ورد عن بعض الصحابة وغيرهم من السلف، والشرط فيها على ظاهره، والقول بأنه لبيان الواقع فلا مفهوم له لغوٌ من القول لا يجوز أن يقال في أعلى الكلام وأبلغه، فهذا القصر المذكور في الآية الأولى هو المبين في الآية التي بعدها، وفي سورة البقرة بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ [البقرة: 239] فآية البقرة في القصر من هيأة الصلاة والرخصة في عدم إقامة صورتها بأن يكتفي الرجال المشاة والركبان بالإيماء عن الركوع والسجود، وهو قول في القصر المراد، والآية التي نحن بصدد تفسيرها في القصر من عدد الركعات بأن تصلي طائفة مع الإمام ركعة واحدة فإذا أتمتها جاءت طائفة أخرى وهي التي كانت تحرس الأولى، فصلت معه الركعة الثانية، وليس في الآية أن واحدة من الطائفتين تتم الصلاة.

9. أما ما ورد في السنة فقد لخصه ابن القيم في الهدي النبوي أحسن تلخيص وناهيك بسعة حفظه وحسن استحضاره وبيانه، قال في بيان هدي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في السفر وعبادته فيه ما نصه: وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقصر الرباعية فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافرا إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة، وأما حديث عائشة (أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم) فلا يصح، وسمعت ابن تيمية يقول: (هو كذب على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد روي (كان يقصر وتتم) الأول بالياء آخر الحروف الثاني بالتاء المثناة من فوق، وكذلك (يفطر وتصوم) أي تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين، قال ابن تيمية وهذا باطل ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم، والصحيح عنها (أن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر)، فكيف يظن بها مع ذلك أن تصلي بخلاف صلاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين معه؟

10. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بالقصر ومسافة السفر ونحوها، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/296.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان الكلام في سابق الآيات في الجهاد والحثّ عليه لإقامة الدين وحفظه وإيجاب الهجرة لأجل ذلك، وتوبيخ من لم يهاجر من أرض لا يقدر على إقامة دينه فيها، والجهاد يستلزم السفر، وذكر هنا أحكام من سافر للجهاد أو هاجر في سبيل الله إذا أراد الصلاة وخاف أن يفتن عنها، فبين أنه يجوز له أن يقصر منها وأن يصلى جماعتها بالطريقة التي ذكرت في الآية الثانية: من هذه الآيات.

2. ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي وإذا سافرتم أيّ سفر فليس عليكم تضييق ولا ميل عن محجة الدين إذا قصرتم الصلاة: أي تركتم شيئا منها فتكون قصيرة، بشرط أن تخافوا فتنة الكافرين لكم بالقتل أو الأسر أو غيرهما، وليس هذا خاصا بزمن الحرب بل إذا خاف المصلى قطاع الطريق كان له أن يقصر هذا القصر، وليس هذا هو قصر الصلاة الرباعية في السفر المبين في كتب الفقه، إذ هذا مأخوذ من السنة المتواترة بل المراد هنا القصر في صلاة الخوف المذكور في الآية الأولى: والمبين في الآية التي بعدها وفى سورة البقرة بقوله تعالى:‏ ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾، فالآية التي هنا بصدد القصر من عدد الركعات بأن تصلى طائفة مع الإمام ركعة واحدة فإذا أتمتها تأتى الطائفة الأخرى وهي التي كانت تحرس الأولى: فتصلى معه الركعة الثانية، وآية البقرة في القصر من هيئة الصلاة بالترخيص في عدم إقامة صورتها، بأن يكتفى المشاة والركبان بالإيماء عن الركوع والسجود.

3. كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلى الظهر والعصر والعشاء في السفر ركعتين ركعتين وكذلك فعل أبو بكر وعمر وسائر الصحابة، ففي صحيح البخاري عن ابن عمر قال: (صحبت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فكان في السفر لا يزيد على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان ـ يعنى في صدر خلافته، وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته وكان ذلك أحد الأسباب التي أنكرت عليه، وقد خرّج لفعله تأويلات)، قال ابن القيم وأحسن ما اعتذر به عن عثمان أنه قد تزوج بمنى، والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه أتم صلاته فيه وهو قول الحنفية والمالكية، وقد روى الشيخان عن عائشة قالت:‏ (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرّت صلاة السفر)، قال عمر بن الخطاب: صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان، والعيد ركعتان، تمام غير قصر على لسان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد خاب من افترى، وكان قد سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما بالنا نقصر؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)، وقال أمية بن خالد لعبد الله بن عمر: إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن ولا نجد صلاة السفر في القرآن (يعنى صلاة الرباعية ركعتين) فقال له ابن عمر: يا أخي إن الله بعث محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأينا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم يفعل.

4. فالحق ما عليه الحنفية وغيرهم من وجوب القصر في السفر خلافا للشافعية الذين أجازوا الإتمام، وشرط القصر في الصلاة والإفطار في رمضان أن يكون السفر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشى الأقدام بالاقتصاد في البر وجرى السفينة والريح معتدلة في البحر، لحديث أنس أنه قال‏ حين سئل عن قصر الصلاة (كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا خرج مسيرة ثلاثة أيام أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين) رواه أحمد ومسلم وأبو داوود وقدره الشافعي بمسيرة يومين، وحقق المرحوم أحمد الحسيني بك في كتابه [دليل المسافر] أن هذه المسافة تقدر بنحو 81 ك م عند الحنفية، وبنحو 89 ك م لدى الشافعية والمالكية والحنابلة، وعلى هذا فالمسافر من القاهرة إلى طنطا فما فوقها يقصر الصلاة عند الحنفية لأن المسافة بينهما 87 ك م وإلى المحطة التي تليها (شبر النملة) لدى المذاهب الثلاثة لأن المسافة بينهما 93 ك م.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/138.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد ذلك يستطرد إلى رخصة، يبيحها الله للمهاجرين، أو الضاربين في الأرض للجهاد أو للتجارة، في حالة خوفهم أن يأخذهم الذين كفروا أسارى، فيفتنوهم عن دينهم، وهي رخصة القصر من الصلاة ـ وهو غير القصر المرخص به للمسافر إطلاقا سواء خاف فتنة الذين كفروا أو لم يخف ـ فهذا قصر خاص، ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾..

2. إن الضارب في الأرض في حاجة ماسة إلى الصلة الدائمة بربه، تعينه على ما هو فيه، وتكمل عدته وسلاحه فيما هو مقدم عليه، وما هو مرصود له في الطريق.. والصلاة أقرب الصلات إلى الله، وهي العدة التي يدعى المسلمون للاستعانة بها في الشدائد والملمات، فكلما كان هناك خوف أو مشقة قال لهم: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾..

3. ومن ثم يجيء ذكرها هنا في إبانها المناسب، وفي وقت الحاجة إليها والاضطرار، فما أحوج الخائف في الطريق إلى أن يطمئن قلبه بذكر الله، وما أحوج المهاجر من أرضه إلى أن يلتجئ إلى حمى الله.. غير أن الصلاة الكاملة ـ وما فيها من قيام وركوع وسجود ـ قد تعوق الضارب في الأرض عن الإفلات من كمين قريب، أو قد تلفت إليه أنظار عدوه فيعرفوه، أو قد تمكن لهم منه وهو راكع أو ساجد فيأخذوه.. ومن ثم هذه الرخصة للضارب في الأرض أن يقصر من الصلاة عند مخافة الفتنة.

4. والمعنى الذي نختاره في القصر هنا هو المعنى الذي اختاره الإمام الجصاص‏، وهو أنه ليس القصر في عدد الركعات بجعلها اثنتين في الصلاة الرباعية، فهذا مرخص به للمسافر إطلاقا، بلا تخصيص حالة الخوف من الفتنة، بل هذا هو المختار في الصلاة للمسافر ـ كفعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في كل سفر ـ بحيث لا يجوز إكمال الصلاة في السفر في أرجح الأقوال.

5. وإذن فهذه الرخصة الجديدة ـ في حالة خوف الفتنة ـ تعني معنى جديدا غير مجرد القصر المرخص به لكل مسافر، إنما هو قصر في صفة الصلاة ذاتها، كالقيام بلا حركة ولا ركوع ولا سجود ولا قعود للتشهد، حيث يصلي الضارب في الأرض قائما وسائرا وراكبا، ويومئ للركوع والسجود، وكذلك لا يترك صلته بالله في حالة الخوف من الفتنة، ولا يدع سلاحه الأول في المعركة، ويأخذ حذره من عدوه: ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/748.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الضرب في الأرض هو السعي فيها بعزم وقوة، سواء أكان للجهاد في سبيل الله، أم للسعى في طلب الرزق، والمراد بالضرب في الأرض هنا هو الجهاد في سبيل الله، حيث قيّد القصر من الصلاة، بالخوف من العدوّ؛ ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وقد أذن الله للمجاهدين في سبيل الله من الرخص ما لم يأذن به لغير المجاهدين.. إذ كان الجهاد عب‏ءا لا يحتمل المجاهد فوقه كثيرا من الأعباء، وإلّا ضعف، وعجز، عن أداء المطلوب منه في هذا المطن، الذي يقف فيه المجاهد مواجها للموت، في غير خوف أو مبالاة..

2. ولهذا جاء قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.. جاء قوله تعالى هنا مبيحا للمجاهدين في سبيل الله أن يقصروا من الصّلاة، إذا رأوا أنهم في وجه عدوّ يتربص بهم غفلة، أو يترقب فيهم خللا، ليضرب ضربته، وليبلغ مأربه! والقصر من الصلاة هنا غير القصر في الصلاة الذي أباحه الله في السفر عامة، سواء أكان للسعى في الرزق، أو للجهاد في سبيل الله..

3. القصر من الصلاة هنا هو التخفيف منها، حسب الحال التي يكون عليها المجاهدون من عدوهم، بحيث لا تسقط الصلاة أبدا في أي حال كان فيها المجاهدون مع عدوّهم.. فقد تكون بإشارة أو إيماءة، وقد تكون وقوفا من غير ركوع أو سجود، وقد تكون على ظهر فرس أو نحوه.. والأمر في هذا كله متروك لتقدير المجاهد، وموقفه من العدوّ!.

4. في النظم القرآني في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ بدلا من أن تقصر والصلاة، ما يشير إلى قصر أجزاء غير محدودة من الصلاة.. تبدأ من أدائها كاملة في صورتها التي تؤدى عليها في قصر صلاة السفر، إلى الإيماءة والإشارة.. فإن لفظ (من) هنا يفيد التبعيض، كما يفيد الابتداء.

5. ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ تنبيه للمؤمنين إلى الخطر الذي يواجههم من أعدائهم، وأن عليهم أن يأخذوا حذرهم منهم، فهم العدوّ الذي لا تخفى عداوته..

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/882.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ انتقال إلى تشريع آخر بمناسبة ذكر السفر للخروج من سلطة الكفر، على عادة القرآن في تفنين أغراضه، والتماس مناسباتها، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، والضرب‏ في الأرض: السفر، (وإذا) مضمّنة معنى الشرط كما هو غالب استعمالها، فلذلك دخلت الفاء على الفعل الذي هو كجواب الشرط، (وإذا) منصوبة بفعل الجواب.

2. وقصر الصلاة: النقص منها، وقد علم أنّ أجزاء الصلاة هي الركعات بسجداتها وقراءاتها، فلا جرم أن يعلم أنّ القصر من الصلاة هو نقص الركعات، وقد بيّنه فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ صيّر الصلاة ذات الأربع الركعات ذات ركعتين، وأجملت الآية فلم تعيّن الصلوات التي يعتريها القصر، فبيّنته السنّة بأنّها الظهر والعصر والعشاء، ولم تقصر الصبح لأنّها تصير ركعة واحدة فتكون غير صلاة، ولم تقصر المغرب لئلّا تصير شفعا فإنّها وتر النهار، ولئلّا تصير ركعة واحدة كما قلنا في الصبح.

3. هذه الآية أشارت إلى قصر الصلاة الرباعية في السفر، ويظهر من أسلوبها أنّها نزلت في ذلك، وقد قيل: إنّ قصر الصلاة في السفر شرع في سنة أربع من الهجرة وهو الأصحّ، وقيل: في ربيع الآخر من سنة اثنتين، وقيل: بعد الهجرة بأربعين يوما، وقد روى أهل الصحيح قول عائشة: فرضت الصلاة ركعتين فأقرّت صلاة السفر وزيدت صلاة الحضر، وهو حديث بيّن واضح، ومحمل الآية على مقتضاه: أنّ الله تعالى لمّا فرض الصلاة ركعتين فتقرّرت كذلك فلمّا صارت الظهر والعصر والعشاء أربعا نسخ ما كان من عددها، وكان ذلك في مبدأ الهجرة، وإذ قد كان أمر الناس مقاما على حالة الحضر وهي الغالب عليهم، بطل إيقاع الصلوات المذكورات ركعتين، فلمّا غزوا خفف الله عنهم فأذنهم أن يصلّوا تلك الصلوات ركعتين ركعتين، فلذلك قال تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ وقال: ﴿أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ وإنّما قالت عائشة (أقرت صلاة السفر) حيث لم تتغيّر عن الحالة الأولى، وهذا يدلّ على أنّهم لم يصلّوها تامّة في السفر بعد الهجرة، فلا تعارض بين قولها وبين الآية.

4. ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ شرط دلّ على تخصيص الإذن بالقصر بحال الخوف من تمكّن المشركين منهم وإبطالهم عليهم صلاتهم، وأنّ الله أذن في القصر لتقع الصلاة عن اطمئنان، فالآية هذه خاصّة بقصر الصلاة عند الخوف، وهو القصر الذي له هيئة خاصّة في صلاة الجماعة، وهذا رأي مالك، يدلّ عليه ما أخرجه في (الموطأ): أنّ رجلا من آل خالد بن أسيد سأل عبد الله بن عمر (إنّا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر)، فقال ابن عمر: (يا ابن أخي إنّ الله بعث إلينا محمدا ولا نعلم شيئا فإنّما نفعل كما رأيناه يفعل)، يعني أنّ ابن عمر أقرّ السائل وأشعره بأنّ صلاة السفر ثبتت بالسنّة، وكذلك كانت ترى عائشة وسعد بن أبي وقّاص أنّ هذه الآية خاصّة بالخوف، فكانا يكمّلان الصلاة في السفر، وهذا التأويل هو البيّن في محمل هذه الآية، فيكون ثبوت القصر في السفر بدون الخوف وقصر الصلاة في الحضر عند الخوف ثابتين بالسنّة، أحدهما أسبق من الآخر، كما قال ابن عمر، وعن يعلى بن أمية أنّه قال قلت لعمر بن الخطاب: إنّ الله تعالى يقول: ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾ وقد أمن الناس، فقال: عجبت ممّا عجبت منه فسألت رسول الله عن ذلك فقال (صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)، ولا شكّ أنّ محمل هذا الخبر أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أقرّ عمر على فهمه تخصيص هذه الآية بالقصر لأجل الخوف، فكان القصر لأجل الخوف رخصة لدفع المشقّة، وقوله: له صدقة إلخ، معناه أنّ القصر في السفر لغير الخوف صدقة من الله، أي تخفيف، وهو دون الرخصة فلا تردّوا رخصته، فلا حاجة إلى ما تمحّلوا به في تأويل القيد الذي في قوله: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وتقتصر الآية على صلاة الخوف، ويستغني القائلون بوجوب القصر في السفر مثل ابن عباس، وأبي حنيفة، ومحمد بن سحنون، وإسماعيل بن إسحاق من المالكية؛ والقائلون بتأكيد سنّة القصر مثل مالك بن أنس وعامّة أصحابه، عن تأويل قوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ بما لا يلائم إطلاق مثل هذا اللفظ، ويكون قوله: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ إعادة لتشريع رخصة القصر في السفر لقصد التمهيد لقوله: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ الآيات.

5. أمّا قصر الصلاة في السفر فقد دلّت عليه السنّة الفعلية، واتّبعه جمهور الصحابة إلّا عائشة وسعد بن أبي وقاص، حتّى بالغ من قال بوجوبه من أجل حديث عائشة في (الموطأ) و(الصحيحين) لدلالته على أنّ صلاة السفر بقيت على فرضها، فلو صلّاها رباعية لكانت زيادة في الصلاة، ولقول عمر فيما رواه النسائي وابن ماجة: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر، وإنّما قال مالك بأنّه سنّة لأنّه لم يرو عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في صلاة السفر إلّا القصر، وكذلك الخلفاء من بعده، وإنّما أتمّ عثمان بن عفّان الصلاة في الحج خشية أن يتوهّم الأعراب أنّ الصلوات كلّها ركعتان، غير أنّ مالكا لم يقل بوجوبه من أجل قوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ لمنافاته لصيغ الوجوب، ولقد أجاد محامل الأدلّة.

6. وأخبر عن الكافرين وهو جمع بقوله: ﴿عَدُوًّا﴾ وهو مفرد، وقد قدّمنا ذلك عند قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ [النساء: 92]

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/239.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن ذكر أن الهجرة فيها عزة، وأن المهاجر يجد سعة من الرزق، يذكر سبحانه ما سهله تعالى للمهاجر أو المسافر من عبادة تيسيرا له، وتشجيعا على السفر، فقال سبحانه: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ الضرب في الأرض هنا هو السفر، وأطلق الضرب في الأرض على السفر؛ لأن المسافر يضرب برجله وبراحلته وبمتوكئه على الأرض في حركة مستمرة جزءا من النهار، فكان التعبير عن الضرب في الأرض بالسفر في موضعه، وهو مجاز واضح في علاقته.

2. نجد التعبير في هذا النص الكريم يختلف عن قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله﴾ في الآية السابقة في أمرين:

أ. أحدهما: أنه في الآية السابقة عبر عن السفر بالهجرة: والهجرة تقتضى الانتقال على غير عودة، وعلى نية الإقامة في مكان آخر يتخذه موطنا ومستقرا ومقاما دائما له، وفى هذا النص عبر عن السفر بالضرب في الأرض، أي أنه سفر على نية العودة غالبا، ولا يريد به اتخاذ مكان آخر موطنا له.

ب. والثاني أن الآية الأولى تنص على الهجرة في سبيل الله تعالى، والخروج من أرض الذل إلى أرض العزة، حيث يمكن أن تكون بالهجرة نصرة للمسلمين، يعد في سبيل الله؛ أما في هذه الآية، فإن السفر عام يشمل ما يكون في سبيل إقامة الدين، وما يكون في طلب الرزق، وزيارة ذوى الأرحام، وغير ذلك مما يعد قربة أو أمرا مباحا.

3. النص الكريم يبيح قصر الصلاة، ووردت السنة بأن الصلوات التي عدد ركعاتها أربع ركعات يقصر إلى اثنين، وهي صلاة الظهر والعصر والعشاء، والنص الكريم قد اقترن القصر فيه بشرط مخافة العدو أن يفتن المؤمنين في سفرهم، بأن يكون المؤمنون غير آمنين من أن يدهمهم عدو في سفرهم، فهم يقصرون الصلاة، حتى يكونوا في حال استعداد مستمر، ولا تشغلهم الصلاة عن الحذر منه، وقد قوى هذا بأن الآية الكريمة التي أعقبت هذه الآية كانت خاصة بصلاة الخوف التي تكون في الميدان، فبمقتضى ظاهر النص يكون القصر عند الخوف من العدو، وأن القصر مع صلاة الخوف يكون عند لقاء العدو.

4. معنى الفتنة هنا هو إنزال الأذى بالمؤمنين، بأن يجعلهم في حال شدة، وينزل بهم كارثة بمداهمتهم وقتلهم أو الانقضاض عليهم، وهم ليسوا في حال استعداد للقتال، وبهذا يكون قد ثبت بالنص القرآني قصر الصلاة، في حال خوف الفتنة من الذين كفروا، وصاروا في عداوة مستمرة للمؤمنين بسبب كفرهم، ولكن ثبت بالسنة القصر في الصلوات التي عدد ركعاتها أربع في حال سفر، ولو لم يكن السفر في موضع مخوف، وقد ثبت هذا بالسنة المتواترة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والتي أجمع الصحابة عليها.

5. يصح أن نقول أن قوله تعالى: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لم يكن إلا في بيان القصر في حال خوف الفتنة من الذين كفروا؛ لأن السياق كله كان في الجهاد، ولكن يمنع ذلك الفرض أن النص جاء في مطلق سفر، لا لأجل الجهاد.

6. مهما يكن فقد ثبت النص القرآني في القصر في حال خوف الانقضاض من العدو، وبالسنة القصر في عموم أحوال السفر، ولما كان ذلك هو موضع النص، ذيل النص الكريم بما يدل على وجوب الحذر دائما من الأعداء الكافرين، فقال: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هذا النص لتأكيد الحذر من الكفار دائما؛ لأن عداوتهم مستمكنة في قلوبهم، وقد أكد سبحانه وتعالى هذه العداوة بمؤكدات أربعة:

أ. أولها: (إن) الدالة على التوكيد، مع وصف الذين كفروا بالكفر، وجعله شأنا لهم، ومن كان جمود الحقائق شأنه لا يؤمن على شيء.

ب. ثانيها: التعبير بـ (كان) الدالة على الدوام والاستمرار.

ج. ثالثها: وصف الكافرين بالعداوة؛ لأن العدو يطلب لعدوه دائما الشر، ويترقب مواضع غفلته لينقض عليه، فلا تنتظر منه رحمة أو حلم، أو نسيان للحقد.

د. رابعها: وصف العداوة بأنها ظاهرة بينة لا خفاء فيها، فالمغرور من يأمن عواقبه.

7. تكلم العلماء في السفر المسوغ لقصر الصلاة: ما مقداره؟ وما حكم القصر؟ أهو واجب أم سنة؟ ونوع السفر الذى يجوز فيه القصر؟ أما بالنسبة لمسافة السفر التي يجوز فيها القصر، فالفقهاء اختلفوا فيها على أقوال ثلاثة:

أ. أولها: قول أهل الظاهر أن القصر يكون في كل ما يسمى سفرا، سواء أكان قصيرا أم كان طويلا؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مقدار محدود يمنع القصر فيما عداه، فبقيت كلمة السفر على إطلاقها، من غير تقييد بمدة معلومة ولا مسافة محدودة.

ب. ثانيها: قول الحنفية، أن السفر الذى يسوغ القصر مسيرة ثلاثة أيام بلياليها، بالسير المعتاد، وهو سير الإبل، مع أخذ الراحة الواجبة في السفر، فلا يسير المدة كلها، بل يسير في الزمن الذى يعتاد فيه السفر؛ وذلك لأن عرف العرب أن الرجل كان لا يعتبر مسافرا إلا إذا تجاوز موطنه بسير نحو ثلاثة أيام.

ج. ثالثها: قول أكثر الأئمة أنه يوم وليلة، وقيل يوم فقط؛ وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي رحم محرم منها)، وروى الحديث مرة يوما وليلة، وروى ثلاثة أيام‏، ففيه الأوجه الثلاثة، والتوفيق أن كل رواية كانت إجابة لحال خاص، فاسأل صلّى الله عليه وآله وسلّم عن يوم، وعن يوم ليلة، وعن ثلاثة.

8. بالنسبة لكون القصر واجبا أو مخيرا فيه، فالمذهب الشافعي أنه مخير فيه، وروى أنه سنة، ومن اختار القصر صلى قصرا بالنية، ومن اختار التمام صلى تماما بالنية، ويكون الفرض في حقه بعد أن ينوى التمام أربعا، وبقية الأئمة تقريبا على أن القصر واجب، وما يصلى فوق القصر يكون نافلة، وحجتهم ما تواتر عن الصحابة من أنهم يقصرون كلما كان سفر، وقدره يوم للإمام عثمان إذ لم يقصر عندما حج، وقال أصحاب هذا الرأي أن الفرض شرع اثنين، ثم بقى في السفر كذلك ثم زيد في الحضر، وحجة الرأي الأول قوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾، ونفى الإثم يقتضى التخيير، وقد أجاب عن ذلك الزمخشري بأن ذلك للتيسير والتسهيل، وفى الحق أن كلمة (لا جناح) استعملت في السعي بين الصفا والمروة، ومع ذلك كان السعي بينهما واجبا، فالله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة]

9. بالنسبة لنوع السفر الذى تقصر فيه الصلاة، فقد أجمع الفقهاء على أن السفر للجهاد أو الحج أو العمرة أو صلة الرحم أو القيام بواجب، يجيز القصر أو يوجبه، والأكثرون على أن السفر للتجارة والأعمال المباحة يكون فيه القصر، وروى عن مالك أنه قال إن خرج للصيد، لا لمعاشه، أو لمشاهدة بلد متنزها ومتلذذا، لم يقصر، وجمهور العلماء على أنه لا يقصر للصلاة من سافر في معصية، وروى عن أبى حنيفة والأوزاعي أنه يقصر؛ لأنه يتحقق فيها معنى السفر، وقد كان القصر في مطلق سفر، وروى مثل ذلك عن مالك ـ رضى الله عنه.. وفقنا الله تعالى لإقامة الصلاة عمود الدين، وفيها برد المتقين.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1825.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الصلاة لا تترك بحال، حتى حين المرض والحرب، وبالأولى في السفر، ويؤديها كل مكلف حسب مقدرته على الوقوف أو الجلوس، فان عجز عنهما أداها مضطجعا، حتى الأخرس يجب عليه أن يحرك لسانه، ويشير بيده بدلا عن النطق، والتفصيل في كتب الفقه.

2. ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، نزلت هذه الآية في أحكام الجهاد والخوف، تماما كالآيات السابقة، فان سياق الجميع واحد، وأوضح من السياق قوله: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فان المراد بالفتنة هنا القتل، أما السفر المراد من الضرب بالأرض فقد ورد مورد الغالب، لا لبيان الشرط والقيد، أما قوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ فالمراد به الوجوب والإلزام، لا الرخصة والاباحة، لأن الأخبار فسرته بالإلزام ومثله آية الطواف: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة: 158]، وحيث وردت الآية في صلاة الخوف، لا في صلاة القصر فيكون المراد بقوله: ﴿أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ القصر في عدد الركعات والتغيير في هيئة الصلاة حسبما تستدعيه الضرورة.

3. لصلاة الخوف شروط، أهمها أن يكون في العدو قوة، يستطيع بها الهجوم والفتك.. أما كيفيتها فقال الشهيد الثاني في اللمعة: انها كثيرة تبلغ العشرة.. وتصح جماعة وفرادى، وهذه صورة لصلاة الخائف منفردا، ذكرها صاحب الشرائع، قال بالنص الحرفي: (أما صلاة المطاردة، وتسمى صلاة الخوف مثل أن تنتهي الحال إلى المعانقة والمسايفة، فيصلي حسب إمكانه واقفا أو ماشيا أو راكبا، ويستقبل القبلة بتكبيرة الإحرام، ثم يستمر، ان أمكنه الاستمرار، والا استقبل بما أمكنه، وصلى، مع التعذر إلى أي جهة أمكن، وإذا لم يتمكن من النزول صلى راكبا، ويسجد على قربوس سرجه، وان لم يتمكن أومأ إيماء، فان خشي صلى بالتسبيح، ويسقط الركوع والسجود، ويقول بدل كل ركعة: سبحان الله والحمد للّه، ولا إله إلا الله، والله أكبر) وهذه الصورة كافية وافية في الدلالة على أن الصلاة فرض لازم، لا يسقط أثناء النزال والقتال، ولا حين النزع والاحتضار، وان المرء يؤديها كما وكيفا حسب إمكانه ومقدرته.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/424.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الآيات تشرع صلاة الخوف والقصر في السفر، وتنتهي إلى ترغيب المؤمنين في تعقيب المشركين وابتغائهم، وهي مرتبطة بالآيات السابقة المتعرضة للجهاد وما لها من مختلف الشئون.

2. ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ الجناح‏ الإثم والحرج والعدول، والقصر النقص من الصلاة، قال في المجمع: في قصر الصلاة ثلاث لغات: قصرت الصلاة أقصرها وهي لغة القرآن، وقصرتها تقصيرا، أقصرتها إقصارا، والمعنى: إذا سافرتم فلا مانع من حرج وإثم أن تنقصوا شيئا من الصلاة، ونفي الجناح الظاهر وحده في الجواز لا ينافي وروده في السياق للوجوب كما في قوله تعالى:‏ ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة: 158] مع كون الطواف واجبا، وذلك أن المقام مقام التشريع، ويكفي فيه مجرد الكشف عن جعل الحكم من غير حاجة إلى استيفاء جميع جهات الحكم وخصوصياته، ونظير الآية بوجه قوله تعالى:‏ ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ الآية: [البقرة: 184]

3.﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الفتنة وإن كانت ذات معان كثيرة مختلفة لكن المعهود من إطلاقها في القرآن في خصوص الكفار والمشركين التعذيب من قتل أو ضرب ونحوهما، وقرائن الكلام أيضا تؤيد ذلك فالمعنى: إن خفتم أن يعذبوكم بالحملة والقتل، والجملة قيد لقوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ وتفيد أن بدء تشريع القصر في الصلاة إنما كان عند خوف الفتنة، ولا ينافي ذلك أن يعم التشريع ثانيا جميع صور السفر الشرعي وإن لم يجامع الخوف فإنما الكتاب بين قسما منه، والسنة بينت شموله لجميع الصور كما سيأتي في الروايات.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/62.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ قال الراغب في (مفرداته) (والضرب في الأرض: الذهاب فيها هو ضربها بالأرجل) وفي (الصحاح): (وضرب في الأرض ضرباً ومضرباً ـ بالفتح ـ أي سار في ابتغاء الرزق)، وفي (لسان العرب): (يقال: ضرب في الأرض إذا سار فيها مسافراً)، ومثله في (المصابيح) ولفظ (الكشاف): (الضرب في الأرض هو السفر) المراد، وهو لفظ يشعر بالعناء والمشقة حيث ذكر هنا، وفي الترخيص في قراءة القرآن ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ [المزمل:20] وقصر الصلاة لأجل الخوف هو جعلها على الصفة المشروعة للخوف فقصر منها ما كان يفعله لولا الخوف.

2. قال الإمام الهادي عليه السلام في (الأحكام): (وأن قول الله عزَّ وجل ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ هو قصرها مع الإمام عما جعل الله من فرضها الذي هو ركعتان أي مع الإمام) ثم ذكر عليه السلام صفة صلاة الخوف إلى أن قال: (وكل أي من الطائفتين قد قسم صلاته قسمين وصلاَّها جزأين: جزءاً مع إمامه، وجزءاً وحده، فهذا معنى القصر ـ ثم قال ـ: لا أدري من كلامه أم حكاية عن جده القاسم عليه السلام وقصرها في هذه الآية إنما هو تنصيفها مع الإمام) لعله سمي قصراً من حيث هو منعها وكفها عن متابعة الإمام في الركعة التي ينفرد بها المؤتمون، ونظيره: ﴿قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ [الصافات:48] أي لا يمددنها إلى غير أزواجهن، بل يقصرنه على أزواجهن ـ والله أعلم.

3. ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ الأقرب أنه تعليل للترخيص في قصر الصلاة المذكور، ﴿مُبِينًا﴾ أي بَيِّنَ العداوة تحتاجون إلى الحذر منه لكفره وإيمانكم.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/153.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وردت روايات كثيرة في سبب نزول هذه الآية كلّها في محور قريب مما أوردنا (2)

2. للصلاة عند الله أهمية كبري، لأنها معراج روح المؤمن وقلبه إلى الله ولذا اعتبرها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عمود الدين،(فإن قبلت قبل ما سواها، وإن‏ ردّت ردّ ما سواها)، وقال الفقهاء: إنها لا تترك بحال، بل ينتقل الإنسان في حالة الضرورة من شكل إلى آخر، فهناك صلاة المضطر والخائف والمريض والغريق.. وللجهاد أهميته الكبرى عند الله، باعتباره القاعدة الصلبة التي ترتكز عليها قوة الإسلام والمسلمين، فكيف يصلّي المسلمون في الأجواء التي تسبق المعركة ويسودها الحذر ويطوف في مجالاتها الشعور بالخوف؟ هل يلقون السلاح، أم يحملونه؟ وهل يملكونهم الصلاة جماعة، أم فرادى؟ إن هذه الآية تحدد لنا نوعا من أنواع ما يطلق عليه الفقهاء (صلاة الخوف)، مما فصلتها السنّة في أحاديثها بأكثر من طريقة.

3. ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾؛ والضرب في الأرض كناية عن السفر، ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ وهذه ـ كما يقول المفسرون ـ أوّل آية شرّعت قصر الصلاة؛ وربما يبدو من التعبير بنفي الجناح، أنها في معرض الرخصة لا الإلزام؛ ولكن التدقيق في المسألة يوحي بأن مثل هذا التعبير قد يأتي للإيحاء برفع توهم الحرمة، فيما يتوهم المكلفون ذلك، فلا تنافي الإلزام ـ كما جاءت به الأحاديث ـ فعن الإمام محمد الباقر عليه السّلام، كما رواه محمد بن مسلم وزرارة، أنهما قالا: قلنا لأبي جعفر عليه السّلام: ما تقول في صلاة السفر كيف هي، وكم هي؟ فقال: إن الله عز وجل يقول: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾، فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التام في الحضر؛ قالا: قلنا: إنما قال الله عزّ وجل: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ ولم يقل افعلوا، كيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال: أوليس قد قال الله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة: 158]، ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض، لأن الله ـ عزّ وجلّ ـ ذكره في كتابه وصنعه نبيه، وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وذكره الله تعالى في كتابه‏، وللفقهاء المسلمين الآخرين رأي آخر في التخيير، وتفصيل ذلك في كتب الفقه.

4. ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الفتنة هنا ـ بقرينة المورد ـ الضغط الذي يمارسونه بالتعذيب والقتل والضرب، مما يريدون به هزيمة المسلمين وفتنتهم عن الثبات على دينهم، ولعل التشريع الأول للقصر كان في هذه الحال، ثم امتدّ بعد ذلك إلى جميع أنواع السفر بحدوده الشرعية كما جاءت به السنّة الشريفة: ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾، فلا بد من الاحتراز منهم في حالتي السلّم والحرب، وقد شرّع الله قصر الصلاة من أجل تحقيق هذا الهدف في حالة الحرب.

5. الظاهر من الآية أنها واردة في صلاة الخوف مطلقا، سواء أكان المسلمون في السفر أم في غيره، وإنما ذكر السفر من جهة أنه الحالة الغالبة في الحرب التي كان المسلمون يخوضونها، ولا اختصاص لها به، ولذلك التزم الفقهاء بقصر الصلاة في حال الحرب حتى لو كان ذلك في الحضر، كما إذا هاجم‏ المسلمين العدوّ في داخل بلادهم، كما أنها ليست مختصة بحال الحرب، بل هي شاملة لكل حالة خوف تشغل الإنسان عن إتمام الصلاة، وقد جاء في كتاب جواهر الكلام ما يؤكد ذلك، قال: (إذا خاف من سيل أو سبع أو حية أو حريق أو غير ذلك، جاز أن يصلي صلاة شدة الخوف فيقصر عددا وكيفية لعدم الفرق في أسباب الخوف المسوّغة، فقد سئل الإمام جعفر الصادق عليه السّلام عمن خاف من سبع أو لص: كيف يصلّي؟ قال: (يكبّر ويومئ إيماء برأسه)

6. سؤال وإشكال: هل الآية دالة على وجوب قصر الصلاة للمسافر بحيث تتضمن تشريع الحكم بقول مطلق، أو هي مختصة بحالة الخوف من حيث منطوقها؟ والجواب: ربما يذهب البعض إلى الوجه الأول على أساس أن يكون ذكر الخوف من الأعداء واردا مورد الغالب، بلحاظ أن الأعم الأغلب في أسفارهم الخوف من العدو، لأنهم كانوا مستهدفين من كل الواقع الكافر المشرك في تلك المرحلة، وعلى ضوء ذلك، يكون القيد في ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ﴾ واردا مورد باب الغلبة، وربما يؤكد ذلك ما ورد عن الإمام محمد الباقر عليه السّلام‏ في الاحتجاج على تعين القصر في صلاة المسافر بهذه الآية وتفسيره كلمة ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ بورودها في مقام توهم الحرمة، وربما يرى البعض أن الآية واردة في مورد الحديث عن صلاة الخوف بقرينة التفصيل في الحديث عنها مع عدم التحدث بتفصيل عن صلاة المسافر، أما الرواية عن الإمام الباقر عليه السّلام، فهي واردة في تفسير صلاة القصر ولو في هذا المورد، وعلى كل حال، فإن مثل هذا البحث يبقي في جانب الثقافة التفسيرية، أمّا في مسألة الحكم الكلي في صلاة المسافر، فإن الأمر فيها ثابت بالسنة النبوية بلا إشكال، مع الخلاف الفقهي المذهبي بين الإلزام والتخيير.

7. وما دام الحديث منفتحا على القصر في صلاة المسافر، فقد يثير البعض ضرورة إلغاء هذا الحكم في الوقت الحاضر، لأن الأساس فيها ـ حسب الظاهر ـ هو المشقة اللازمة في السفر في العصور السابقة، لأن وسائل السفر عندهم كانت البغال والحمير والجمال ونحوها، مما يعاني معها المسافر مشقة كبري، أما الآن فيمكن للمؤمن قطع المسافة المعتبرة في تحديد مقدار السفر بوقت قصير من دون أية مشقة من خلال الوسائل الحديثة، كالسيارة والطائرة والباخرة ونحوها، والجواب، أن المسألة تنطلق من طبيعة التسهيل، باعتبار أن السفر يمثل حالة من حالات عدم الاستقرار؛ الأمر الذي يطلب فيه التخفيف، ولذلك وجب التمام عند الإقامة عشرة أيام، أو إذا كان عمل الإنسان السفر، بحيث يكون السفر أمرا عاديا له، أو نحو ذلك، وقد ورد الحديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال‏ في موضوع قصر الصلاة: (صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)، وقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم‏: إن الله عز وجل تصدق على مرضى أمتي ومسافريها بالتقصير والإفطار، أيسرّ أحدكم إذا تصدّق بصدقة أن تردّ عليه؟ وقد روي عن أبي عبد الله عليه السّلام قال‏: الصّائم في السّفر في شهر رمضان كالمفطر فيه في الحضر، ثم قال إن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله أصوم شهر رمضان في السفر؟ فقال: لا، فقال: يا رسول الله إنه عليّ يسير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الله ـ عز وجل ـ تصدّق على مرضى أمتي ومسافريها بالإفطار في شهر رمضان، أيحب أحدكم لو تصدّق بصدقة أن تردّ عليه؟ وهكذا نلاحظ أن المسألة لا تنطلق من حالة اختيارية تابعة لسهولة السفر وصعوبته، ومشقة الصوم ويسره، بل هي هدية إلهية في التشريع من أجل التخفيف على المسافر بطريقة إلزامية؛ والله العالم.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/427.

(2) ذكر ما ورد في سبب النزول الذي سبق ذكره.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد الآيات التي تحدثت سابقا عن الجهاد والهجرة، تتطرق هذه الآية إلى صلاة المسافر، فتبيّن أن لا مانع للمسلم من أن يقصر صلاته لدى السّفر إذا خاف من خطر الكافرين الذين هم الأعداء البارزون للمسلمين، وقد عبّرت هذه الآية عن السّفر بالضرب في الأرض، لأنّ المسافر يضرب الأرض برجليه لدى السّفر.

2. سؤال وإشكال: هذه الآية الكريمة قد جعلت الخوف من العدو شرطا لقصر الصّلاة، بينما نقرأ في البحوث الفقهية أنّ حكم صلاة القصر يعتبر حكما عاما يشمل جميع أنواع السّفر، سواء كان فيه الخوف من الأعداء أو كان سفرا آمنا لا خوف فيه، وقد وردت روايات عديدة عن طرق الشيعة والسنة في مجال صلاة القصر تؤيد كلّها شمولية حكم صلاة القصر لكل أنواع السّفر المباح‏، والجواب: يجب القول: بأنّ تقييد حكم القصر في صلاة بالخوف قد يكون سببه واحدا من الموارد التالية:

أ. إنّ القيد جاء بسبب وضع المسلمين في بداية العصر الإسلامي، ويصطلح على هذا القيد بـ (القيد الغالب) أي أنّ أغلب أسفار المسلمين في ذلك الزمن كانت مشوبة بالخوف، وجاء في علم الأصول أنّ القيود الغالبة لا مفهوم لها مستدلا بآية ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ أي بنات نسائكم اللواتي تربونهنّ وهنّ من أزواج سابقين وهنّ حرام عليكم، حيث نواجه في هذه الآية نفس مسألة (القيد الغالب) لأن بنات الزوجة يعتبرن محارم للزوج ـ سواء تربين في حجره أم لم يتربين لديه ـ ولكن بما أنّ أغلب النساء المطلقات اللواتي يتزوجن مرّة أخرى هنّ نساء شابات لداهنّ أطفال صغار تتمّ تربيتهم في حجر الزوج الجديد، لذلك جاءت الآية بقيد (حجوركم)

ب. ويعتقد بعض المفسّرين أنّ صلاة القصر شرعت في البداية لزمن الخوف ـ كما جاء في الآية موضوع البحث ـ وإنّ هذا الحكم قد توسع فيما بعد فشمل جميع الحالات.

ج. ويحتمل أيضا أن يكون في هذا القيد جانب توكيدي، أي أن صلاة القصر لازمة للمسافر أينما كان، ولكن في حالة الخوف من العدو تكون هذه الصّلاة مؤكدة أكثر.

3. وعلى أي حال، فليس هناك من شك أنّ صلاة القصر للمسافر ـ مع الأخذ بنظر الاعتبار الرّوايات المفسّرة لهذه الآية ـ لا تقتصر على حالة الخوف، ولهذا السبب فإن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان في أسفاره حتى في موسم الحج (في أرض منى) يقصر صلاته.

4. سؤال وإشكال: الآية قد أتت بعبارة ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ وليس في هذه العبارة دلالة الحتمية في الحكم، أي لا تحتم على المسافر أن يقصر صلاته، فكيف يمكن القول أنّ صلاة القصر واجب عيني للمسافر وليس واجبا تخييريا؟ والجواب: لقد وجّه هذان السؤالان إلى أئمّة الإسلام، فأشاروا لدى الإجابة عليهما إلى نقطتين مهمتين:

أ. الأولى: هي أنّ عبارة (لا جناح)، أي لا ذنب عليكم، قد استخدمت في بعض الموارد في القرآن الكريم للدلالة على الوجوب، فمثلا في آية: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ في حين أن جميع المسلمين يعرفون أنّ السعي بين الصفا والمروة واجب سواء في الحج أو العمرة، وكان النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمّة عليهم السّلام والمسلمون يؤدون السعي بعنوان الواجب، وقد نقل عن الإمام الباقر عليه السّلام حديث بهذا المضمون، وبعبارة أخرى فإنّ عبارة (لا جناح) ـ في الآية موضوع البحث وكذلك في آية الحج ـ جاءت لنفي التحريم، والسبب هو أنّ بعض المسلمين في بدء الإسلام، ولوجود أصنام على جبلي الصفا والمروة، كانوا يظنون أنّ السعي بينهما من‏ عادات وتقاليد الوثنيين، في حين أنّه لم يكن كذلك، فجاءت عبارة ـ (لا جناح) في الآية المذكورة لرفع الوهم الحاصل، وكذلك في حالة المسافر، من الممكن أن يتوهّم البعض أنّ قصر الصّلاة في السّفر قد يعتبر نوعا من المعصية، فجاء القرآن الكريم في الآية بعبارة (لا جناح) لرفع هذا الوهم أيضا.

ب. الثّانية: هي أنّ بعض الرّوايات قد أشارت إلى أنّ قصر الصّلاة في السّفر نوع من التسهيل الإلهي، وتقتضي الأدب أن لا يرد هذا التسهيل ولا يتجاهل، وفي روايات أهل السنّة نقل عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال‏ في موضوع قصر الصّلاة: (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)، كما ورد مثل هذا الحديث في مصادر الشّيعة حيث‏ ينقل الإمام الصّادق عليه السّلام عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله‏ بأن: الإفطار في السّفر وقصر الصّلاة فيه هديتان إلهيتان فمن انصرف عنهما أصبح رادّا لهدية الله‏.

5. بعض المسلمين تصوروا أن الآية من سورة النساء تبيّن حكم صلاة الخائف (أثناء الحروب وأمثال ذلك) ويستدلون لذلك بعبارة ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾ الواردة في الآية، ولكن جملة ﴿إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ‏﴾ فيها مفهوم عام يشمل كل أنواع السّفر سواء كان من الأسفار الاعتيادية أو كان سفرا من أجل الجهاد، والذي تناولته الآية التالية بصورة مستقلة.

6. إذن فعبارة ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾ ـ وكما أسلفنا ـ تعتبر نوعا من القيود أو الشروط الغالبة، حيث أنّ أغلب أسفار المسلمين في ذلك الزمان كانت مشوبة بالخوف والخطر ـ لذلك فلا دلالة على اقتصار الآية على الصّلاة في حالة الخوف، بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الخوف من هجوم العدو موجود أثناء الحروب وليس في محلّه أن يقال لمن في ساحة الحرب‏ ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾ من هجوم العدو، وهذا دليل آخر على أنّ الآية تشير إلى جميع أنواع السّفر التي يحتمل أن يوجد فيها بعض الأخطار على المسافر.

7. كما يجب التنبيه إلى أنّ شروط صلاة المسافر لم ترد في القرآن، كما لم ترد شروط وأوصاف بقية الأحكام الإسلامية فيه أيضا، بل أشارت إلى ذلك السنّة الشريفة، ومن هذه الشروط أنّ صلاة القصر لا تجب في الأسفار التي لا تبلغ المسافة فيها ثمانية فراسخ، لأنّ المسافر في تلك الأيّام كان يقطع في اليوم الواحد مسافة الثمانية فراسخ بصورة اعتيادية، والشرط الآخر هو أنّ المسافر الذي يتّخذ من السّفر حرفة لنفسه أو جزءا من برنامج حياته اليومية مستثنى من القصر في الصّلاة، لأنّ السّفر بالنسبة إلى أمثال هؤلاء أمر اعتيادي، وليس أمرا استثنائيا، كما أنّ من يسافر من أجل ارتكاب معصية، لا يكون مشمولا لحكم صلاة المسافر، أي لا يجوز له القصر في الصّلاة، والسبب هو أن حكم القصر يعتبر نوعا من التسهيل الإلهي، ولا يمكن أن يشمل هذا التسهيل من يسير في طريق معصية الله، كما أنّ أي مسافر لم يصل إلى حدّ الترخيص (أي إلى النقطة التي لا يمكن سماع صوت أذان المدينة فيها، أو لا يمكن مشاهدة أسوار المدينة عندها) لا يمكنه أن يقصر صلاته، لأنّه في هذه الحالة لا يعد خارجا عن حدود المدينة ولا يعتبر في عداد المسافرين.. وبالإضافة إلى ما ذكر هناك أحكام أخرى ذكرتها كتب الفقه بالتفصيل، وقد ذكرت الأحاديث التي وردت في هذا الأمر كتب الحديث.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/415.

96. صلاة الخوف والحذر

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈96⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ [النساء: 102]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

أبو هريرة:

روي عن أبي هريرة (ت 58 هـ) أنّه قال: نزل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين ضجنان وعسفان، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم، فميلوا عليهم ميلة واحدة، وأن جبريل أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأمره أن يقسم أصحابه شطرين، فيصلي بهم، وتقوم طائفة أخرى وراءهم، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، ثم يأتي الآخرون، ويصلون معه ركعة واحدة، ثم يأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم، فيكون لهم ركعة ركعة، ولرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ركعتان(1).

__________

(1) أحمد ١٦/٤٤٤.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾، فهذا في الصلاة عند الخوف، يقوم الإمام، وتقوم معه طائفة منهم، وطائفة يأخذون أسلحتهم، ويقفون بإزاء العدو، فيصلي الإمام بمن معه ركعة، ثم يجلس على هيئته، فيقوم القوم، فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية والإمام جالس، ثم ينصرفون فيقفون موقفهم، ثم يقبل الآخرون، فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية، ثم يسلم، فيقوم القوم، فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية، فهكذا صلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم بطن نخلة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ إلى قوله: ﴿فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾، فإنه كانت تأخذ طائفة منهم السلاح فيقبلون على العدو، والطائفة الأخرى يصلون مع الإمام ركعة، ثم يأخذون أسلحتهم، فيستقبلون العدو، ويرجع أصحابهم فيصلون مع الإمام ركعة، فيكون للإمام ركعتان، ولسائر الناس ركعة واحدة، ثم يقضون ركعة أخرى، وهذا تمام من الصلاة(2).

3. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ يقول: فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك في صلاتك تصلي بصلاتك، ففرغت من سجودها؛ ﴿فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ يقول: فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم خلفكم مصافي(3)، العدو، في المكان الذي فيه سائر الطوائف التي لم تصل معك ولم تدخل معك في صلاتك(4).

4. روي أنّه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في غزاة له، فلقي المشركين بعسفان، فلما صلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الظهر فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه قال بعضهم لبعض: لو حملتم عليهم ما علموا بكم حتى تواقعوهم، فقال قائل منهم: إن لهم صلاة أخرى هي أحب إليهم من أهليهم وأموالهم، فاصبروا حتى تحضر، فنحمل عليهم حملة، فأنزل الله: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ إلى آخر الآية، وأعلمه بما ائتمر به المشركون، فلما صلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم العصر، وكانوا قبالته في القبلة؛ جعل المسلمين خلفه صفين، فكبر، فكبروا معه جميعا، ثم ركع، وركعوا معه جميعا، فلما سجد سجد معه الصف الذين يلونه، ثم قام الذين خلفهم مقبلين على العدو، فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من سجوده وقام سجد الصف الثاني، ثم قاموا، وتأخر الصف الذين يلونه، وتقدم الآخرون، فكانوا يلون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما ركع ركعوا معه جميعا، ثم رفع فرفعوا معه، ثم سجد فسجد معه الذين يلونه، وقام الصف الثاني مقبلين على العدو، فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من سجوده وقعد قعد الذين يلونه، وسجد الصف المؤخر، ثم قعدوا فسجدوا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما سلم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سلم عليهم جميعا، فلما نظر إليهم المشركون يسجد بعضهم ويقوم بعض قالوا: لقد أخبروا بما أردنا(5).

5. روي أنّه قال: نزلت في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك أنه غزا محاربا وبني أنمار، فنزلوا ولا يرون من العدو أحدا، فوضع الناس أسلحتهم، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لحاجة له قد وضع سلاحه حتى قطع الوادي والسماء ترش، فحال الوادي بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين أصحابه، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ظل شجرة، فبصر به غورث بن الحارث المحاربي، فقال: قتلني الله إن لم أقتله، ثم انحدر من الجبل ومعه السيف، فلم يشعر به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سله من غمده، فقال: يا محمد، من يعصمك مني الآن!؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الله)، ثم قال: اللهم، اكفني غورث بن الحارث بما شئت)، ثم أهوى بالسيف إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليضربه، فأكب لوجهه من زلخة(6)، زلخها من بين كتفيه، وندر(7)، سيفه، فقام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأخذه، ثم قال: يا غورث، من يمنعك مني الآن!؟)، قال لا أحد، قال: تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله وأعطيك سيفك؟)، قال لا، ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبدا، ولا أعين عليك عدوا، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سيفه، فقال غورث: والله، لأنت خير مني، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أجل، أنا أحق بذلك منك)، فرجع غورث إلى أصحابه، فقالوا: ويلك، ما منعك منه؟ قال لقد أهويت إليه بالسيف لأضربه، فوالله، ما أدري من زلخني بين كتفي؛ فخررت لوجهي، وذكر حاله، قال وسكن الوادي، فقطع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الوادي إلى أصحابه، فأخبرهم الخبر، وقرأ عليهم هذه الآية: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾(8).

__________

(1) الطبراني في الكبير ١٢/٢٥٢.

(2) ابن جرير ٧/٤٣٧.

(3) مصافي: مقابلي، النهاية (صفف).

(4) ابن جرير ٧/٤٢٤.

(5) الحاكم ٣/٣٢.

(6) الزُّلَّخة: وجع يأخذ في الظهر لا يتحرك الإنسان من شدته، النهاية (زلخ).

(7) ندر: سقط ووقع، النهاية (ندر).

(8) أورده الثعلبي ٣/٣٧٨.

جابر:

روي عن جابر بن عبد الله (ت 73 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: صلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلاة الخوف، فصففنا خلفه صفين، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكبرنا جميعا، ثم ركع، وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع، ورفعنا جميعا، ثم انحدر للسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود، ثم قاموا، ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر المقدم، ثم ركع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع، ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود، فسجدوا، ثم سلم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وسلمنا جميعا، قال جابر?: كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم(1).

2. روي أنّه قال: غزا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ست غزوات قبل صلاة الخوف، وكانت صلاة الخوف في السنة السابعة(2).

__________

(1) مسلم ١/٥٧٤.

(2) أحمد ٢٣/٨٠.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إذا حضرت الصلاة في الخوف فرقهم الإمام فرقتين: فرقة مقبلة على عدوهم، وفرقة خلفه، كما قال الله تبارك وتعالى، فيكبر بهم ثم يصلي بهم ركعة ثم يقوم بعد ما يرفع رأسه من السجود فيتمثل قائما، ويقوم الذين صلوا خلفه ركعة، فيصلي كل إنسان منهم لنفسه ركعة، ثم يسلم بعضهم على بعض، ثم يذهبون إلى أصحابهم فيقومون مقامهم، ويجيء الآخرون والإمام قائم فيكبرون ويدخلون في الصلاة خلفه فيصلي بهم ركعة، ثم يسلم فيكون للأولين استفتاح الصلاة بالتكبير، وللآخرين التسليم مع الإمام، فإذا سلم الإمام قام كل إنسان من الطائفة الأخيرة فيصلي لنفسه ركعة واحدة، فتمت للإمام ركعتان، ولكل إنسان من القوم ركعتان: واحدة في جماعة، والاخرى وحدانا، وإذا كان الخوف أشد من ذلك مثل المضاربة والمناوشة والمعانقة وتلاحم القتال، فإن الإمام علي ليلة صفين ـ وهي ليلة الهرير ـ لم يكن صلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء عند وقت كل صلاة إلا بالتهليل والتسبيح والتحميد والدعاء، فكانت تلك صلاتهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة، وإذا كانت المغرب في الخوف فرقهم فرقتين، فصلى بفرقة ركعتين ثم جلس، ثم أشار إليهم بيده فقام كل إنسان منهم فصلى ركعة، ثم سلموا وقاموا مقام أصحابهم، وجاءت الطائفة الاخرى فكبروا ودخلوا في الصلاة، وقام الإمام فصلى بهم ركعة ثم سلم، ثم قام كل إنسان منهم فصلى ركعة فشفعها بالتي صلى مع الإمام، ثم قام فصلى ركعة ليس فيها قراءة، فتمت للإمام ثلاث ركعات، وللأولين ثلاث ركعات: ركعتين في جماعة، وركعة وحدانا، وللآخرين ثلاث ركعات، ركعة جماعة، وركعتين وحدانا، فصار للأولين افتتاح التكبير وافتتاح الصلاة، وللآخرين التسليم(1).

2. روي أنّه قال: في صلاة المغرب في السفر لا يضرك أن تؤخر ساعة ثم تصليها إن أحببت أن تصلي العشاء الآخرة، وإن شئت مشيت ساعة إلى أن يغيب الشفق، إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى صلاة الهاجرة والعصر جميعا، والمغرب والعشاء الآخرة جميعا، وكان يؤخر ويقدم، إن الله تعالى قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ إنما عنى وجوبها على المؤمنين لم يعن غيرهم، إنه لو كان كما يقولون لم يصل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هكذا، وكان أعلم وأخبر، ولو كان خيرا لأمر به محمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد فات الناس مع الإمام علي يوم صفين صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة وأمرهمالإمام علي فكبروا وهللوا وسبحوا رجالا وركبانا لقول الله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ فأمرهم علي عليه السلام فصنعوا ذلك(2).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/272.

(2) تفسير العيّاشي 1/273.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾، إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام، والتقصير لا يحل إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة، والتقصير ركعة، يقوم الإمام، ويقوم جنده جندين؛ طائفة خلفه، وطائفة يوازون العدو، فيصلي بمن معه ركعة، ويمشون إليهم على أدبارهم حتى يقوموا في مقام أصحابهم، وتلك المشية القهقرى، ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصلي مع الإمام ركعة، ثم يجلس الإمام، فيسلم، فيقومون فيصلون لأنفسهم ركعة، ثم يرجعون إلى صفهم، ويقوم الآخرون فيضيفون إلى ركعته، والناس يقولون: لا، بل هي ركعة واحدة، لا يصلي أحد منهم إلى ركعته شيئا، تجزئه ركعة الإمام؛ فيكون للإمام ركعتان، ولهم ركعة، فذلك قول الله: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ إلى قوله: ﴿وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤١٥.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: صلاة المغرب في الخوف أن يجعل أصحابه طائفتين: بإزاء العدو واحدة، والاخرى خلفه، فيصلي بهم، ثم ينصب قائما ويصلون هم تمام ركعتين، ثم يسلم بعضهم على بعض، ثم تأتي طائفة اخرى فيصلي بهم ركعتين فيصلون هم ركعة، فتكون للأولين قراءة، وللآخرين قراءة(1).

2. روي أنّه قال: صلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأصحابه في غزاة ذات الرقاع ففرق أصحابه فرقتين، فأقام فرقة بإزاء العدو وفرقة خلفه، فكبر وكبروا، فقرأ وأنصتوا، فركع وركعوا، فسجد وسجدوا، ثم استمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قائما فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم سلم بعضهم على بعض، ثم خرجوا إلى أصحابهم فقاموا بإزاء العدو، وجاء أصحابهم فقاموا خلف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فكبر وكبروا، وقرأ فأنصتوا، وركع فركعوا، وسجد فسجدوا، ثم جلس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فتشهد، ثم سلم عليهم فقاموا فقضوا لأنفسهم ركعة، ثم سلم بعضهم على بعض، وقد قالالله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ فهذه صلاة الخوف التي أمر الله عز وجل بها نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم(2)، وقال: من صلى المغرب في خوف بالقوم، صلى بالطائفة الاولى ركعة، وبالطائفة الثانية ركعتين(3).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/272.

(2) من لا يحضره الفقيه 1/293.

(3) من لا يحضره الفقيه 1/294.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ثم رخص لهم في وضع السلاح عند المطر أو المرض، فقال: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ من عدوكم عند وضع السلاح، ﴿إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ يعني: الهوان، وكان تقصير الصلاة بعسفان بين مكة والمدينة، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بإزاء الذين خافوه، وهم غطفان(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٠٣.

الرسّي:

ذكر الإمام القاسم الرسي (ت 246 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾، يريد: في سفر وخوف معهم، فأقمت الصلاة لهم ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾، يقول سبحانه: من جميعهم معك، وليأخذوا أسلحتهم كلهم، من قام معك في الصلاة، ومن لم يقم معك منهم.

2. ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾، يعني: الذين معه في صلاتهم آخر سجدة منها، فأتموا، وفرغوا من صلاتهم كلها، وسلموا، ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ كلهم، من صلى معك، ومن لم يصل منهم، ولا يقال للطائفة الآخرة: لم يصلوا، إلا والطائفة الأولى قد صلوا.. ولا تصلى صلاة الخوف إلا في سفر، ولا يصلى شيء منها في حضر؛ لأن أهل الحضر في بيوتهم وحصونهم مستترون، وأهل السفر لعدوهم بارزون مصحرون.. وصلاة الخوف: أن يصلي الإمام بإحدى الطائفتين ركعة واحدة، ثم يقومون، فيتمون الركعة الثانية، ثم يسلمون، والطائفة الأخرى الواقفة للعدو في سلاحهم مستلمون، وليس لهم شغل من صلاة ولا غيرها، سوى المواقفة والحراسة لأنفسهم وإخوانهم من عدوهم بالمصافة؛ فإذا رجعوا إليهم من صلاتهم، وقعدوا للعدو موقفهم، ولم يزايلوا أبدا مواضعهم، حتى يتم إخوانهم من آخر الصلاة ما أتموا، ويسلموا من صلاتهم كما سلموا، فتكون كل واحدة من الطائفتين قد حرست كما حرست، وأخذت منهما من الحراسة ما أخذت، وأعطت من الحراسة ما أعطت، وصلى بها من الصلاة مع الإمام ما صلت؛ فهذا عندنا أحسن ما سقط إلينا في صلاة الخوف، وكذلك صلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما بلغنا صلاة الخوف في غزوة له غزاها، يقال لها: ذات الرقاع؛ وفقنا الله وإياك للتقوى، في كل محنة نزلت بنا أو بلوى، وصلى الله على محمد وآله الأبرار، الطيبين الأخيار.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/267.

الهادي إلى الحق:

ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾، هو قصرها مع الإمام عما جعل الله من فرضها الذي هو ركعتان، وذلك والحمد لله فأبين البيان، لمن أنصف من العالمين، وكان عارفا بتأويل قول أرحم الراحمين.

2. ألا تسمع كيف يقول ربنا تبارك وتعالى لرسوله: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾، فقال في أول الآية: ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾، يريد: فإذا أتموا ركعة وسجدوا سجدتيها، فليتموا الركعة الثانية وحدهم، ثم لينصرفوا إلى عدوهم، ولتأت الطائفة الأخرى التي لم تصل، فلتصل معك الركعة الثانية الباقية؛ فكل قد قسم صلاته قسمين، وصلاها جزئين: جزءا مع إمامه، وجزءا وحده؛ فهذا معنى القصر؛ حدثني أبي عن أبيه أنه كان يقول: القصر في كل سفر واجب على كل من سافر.. وكان يقول: قلنا بقصر الصلاة للمسافر من كل بر وفاجر؛ لأن فرضها المقدم كان في السفر والحضر على ركعتين، وقلنا بذلك وأخذناه لما فهمناه عن كتاب الله المبين، ولم نأخذ ذلك عن رواياتهم، وإن كانوا قد رووه، ولم نقبله عنهم ـ والحمد لله ـ وإن رأوه؛ قال الله سبحانه فيما قلنا به من ذلك بعينه، وفيما فهمناه عن الله بالكتاب من تبيينه فيه لرسوله صلى الله عليه وآله: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾، والضرب فيها هو: المسافرة إليها، ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)﴾، فأبان في هذه الآية نفسها قصرها في السفر تبيينا، ودل على أن فرضها فيه ركعتان، وأنهما عليهم كلما ضربوا في الأرض ثابتتان، وقصرها في هذه الآية إنما هو تنصيفها مع الإمام، مجمعين جميعا معه في مقام؛ ألا تسمع كيف يقول الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وآله: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا﴾، يقول: فإذا أتموا ركعة وسجدوها، فلتأت الطائفة الأخرى التي لم تصل، فلتصل معك الركعة الثانية بعدها؛ فكل طائفة من الطائفتين فقد قصرت صلاتها عن أن تتمها؛ إذ لم تصل مع الرسول إلا بعضها، وهو القصر للصلاة في الخوف، الذي ذكره الله عنهم، وهذا الذي أمرهم الله إذا صلوا خائفين أن يكون منهم.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/266.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف أهل العلم في صلاة الخوف:

أ. قال بعض أهل العلم: يجعل الإمام القوم طائفتين، يصلي بالطائفة الأولى، ركعة، ويصف الطائفة الأخرى مصاف العدو، فإذا صلى بهم ركعة؛ فيقومون ويصلون الركعة الثانية: وحدانًا، ثم ينصرفون ويقومون مقامهم بإزاء العدو، وترجع الطائفة التي كانت مصاف العدو فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية، ثم يسلم بهم الإمام، فيقومون ويقضون الركعة الأولى: وحدانًا، ويقولون: لأنه ليس في الآية إتيان الطائفة الأولى: وعودها إلى الإمام؛ لذلك لا يفعل، وقالوا ـ أيضًا ـ بأن القيام بعد الفراغ من الصلاة مصاف العدو أطمع وأرجى من القيام قبل الفراغ منها.

ب. وقيل: بل القيام مصاف العدو، وهم في الصلاة أطمع وأرجى من القيام في غير الصلاة.

ج. وأما أصحابنا (2) فإنهم ذهبوا إلى ما روي في الأخبار:

روي عن ابن عمر قال: صلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلاةَ الخوف: فصلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهو العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم، مقبلين على العدو، وجاء أُولَئِكَ، فصلى بهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ركعة ثم سلم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم قضى هَؤُلَاءِ ركعة، وهَؤُلَاءِ ركعة.

وعن عبد الله قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلاة الخوف، فقاموا صفين: فقام صف خلف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفٌّ مستقبل العدو، وصلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالصف الذي يلونه ركعة، ثم قاموا فذهبوا وقاموا مقام أُولَئِكَ، واستقبل هَؤُلَاءِ العدو، وجاء أُولَئِكَ فقاموا مقام هَؤُلَاءِ، فصلى بهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ركعة، ثم سلم، فقاموا يصلون لأنفسهم ركعة، ثم سلموا، فذهبوا فقاموا مقام أُولَئِكَ مستقبلين العدو، وجاء أُولَئِكَ إلى مقامهم، فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا.

وروى ابن عَبَّاسٍ وزيد بن ثابت وحذيفة بن اليمان عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نحو ذلك، فاتفق على هذه الرواية عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هَؤُلَاءِ الجماعة من الصحابة: ابن مسعود، وابن عمر، وابن عَبَّاسٍ، وزيد بن ثابت، وحذيفة؛ كلهم يقولون: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهو العدو، ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعة، وإن واحدًا منهم لم يقض بقية صلاته حتى فرغ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من صلاته كلها، فصلى المؤتمون ما بقي عليهم من صلاتهم؛ وهذا نظرًا لما عليه المسلمون جميعًا فيما سبقهم الإمام: لا يقضونه حتى يفرغ الإمام من صلاته، ثم يقضون ما فاتهم، والأخبار التي جاءت بخلاف ذلك يحتمل أن تكون في الوقت الذي كانوا يقضون الفائتة قبل فراغ الإمام من صلاته، ثم نسخ ذلك بما توارث الأمة القضاء بعد الفراغ.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾:

أ. قيل: هم الطائفة التي بإزاء العدو، يأخذون السلاح؛ ليكون أهيب للحرب والقتال.

ب. وقيل: هم الطائفة الذي يصلون، يأخذون السلاح حتى إذا استقبلهم العدو والحرب يقدرون على ذلك.

ج. وقيل: إذا وقع بينهم الحرب فلهم تأخير الصلاة إلى وقت انقطاع الحرب بينهم.

د. وقال الحسن: يصلي الإمام بكل طائفة تمام الصلاة؛ لأنه ذكر في الخبر أنه كان يصلي بكل طائفة سجدة، والسجدة هي اسم التمام، وهذا جائز في اللغة.

هـ. لكن عندنا ما ذكرنا من الأخبار عن الصحابة: عن عمر، وابن عَبَّاسٍ، وغيرهما حيث قالوا: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الفطر والأضحى ركعتان، وصلاة الخوف ركعة تمام غير قصر، وما روينا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سجد بالصف الأول، ولم يسجد معه الصف الثاني، فلما رفع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رأسه من السجدتين سجدهما أهل الصف الثاني؛ فهذا يدل على أن الأمر ما وصفنا، وإذا كان العدو مواجَهةَ القبلة فالإمام بالخيار: إن شاء جعل القوم صفين: صفا أمامه بإزاء العدو، وصفًّا معه يصلي بهم؛ هكذا روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه فعل ذلك بالمسلمين: وروى جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى بهم والعدو في القبلة، فصلى بطائفة ركعة، وجاءت الأخرى فصلى بها أخرى، وإن شاء جعل القوم كلهم خلفه صفين فيصلي بهم، فإذا انتهوا إلى السجود، سجد الصف الأول، والصف الثاني يحرس العدو، فلما فرغ هَؤُلَاءِ من السجود سجد الآخرون، ثم كذلك يفعل بهم في الثانية، وهذا ـ أيضًا ـ روي أنه فعل؛ فيختار أيهما شاء.

3. ﴿فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ أي: ليكونوا مصاف العدو يحرسونهم من العدو.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٤٣.

(2) يقصد الحنفية

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ وهذا خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما عزم المشركون الإيقاع به وبمن كان معه من المسلمين إذا استقبلوا بصلاتهم فأطلع الله عز وجل على سرائرهم وأمره بالتحرز منهم فكل من قام مقامه صلّى الله عليه وآله وسلّم فله أن يصلي صلاة الخوف بأصحابه عند حال الضرورة إلى ذلك ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ أي مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الصلاة وطائفة بإزاء العدو.

2. ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ والذين يأخذون السلاح هم الذين بإزاء العدو ويحرسون ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ يعني الطائفة إذا سجدت التي معك في الصلاة فليكونوا من ورائكم بعد فراغ من كان معك في الصلاة من ركعتهم الثانية لأنهم يرجعون إلى مواقف أصحابهم والإمام واقف بمكانه حتى يصلي بالفرقة الثانية ركعة أخرى وتقوم الفرقة والإمام جالس في الثانية حتى يتم ويسلم بهم وهذا تفسير قوله: ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/193.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ هذا خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يصلي في الخوف بأصحابه، واختلف أهل العلم فيه هل خص به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ على قولين:

أ. أحدهما: أنه خاص له وليس لغيره من أمته أن يصلي في الخوف كصلاته، لأن المشركين عزموا على الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بصلاتهم، فاطلع الله نبيه على سرائرهم وأمره بالتحرز منهم، فكان ذلك سبب إسلام خالد بن الوليد، فلذلك صار هذا خاصاً للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا القول محكي عن أبي يوسف.

ب. الثاني: أن ذلك عام للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولغيره من أمته إذا كان على مثل حاله في خوفه، لأن ذكر السبب الذي هو الخوف يوجب حمله عليه متى وجد كما فعل الصحابة بعده حين خافوا وهو قول الجمهور.

2. ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ يعني مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الصلاة، وطائفة بإزاء العدو، ثم قال تعالى: ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ فيه قولان:

أ. أحدهما: أن المأمورين بأخذ السلاح هم الذين مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا قول الشافعي.

ب. الثاني: هم الذين بإزاء العدو يحرسون، وهذا قول ابن عباس.

3. ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ يعني فإذا سجدت الطائفة التي معك في الصلاة، ﴿فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ يعني بإزاء العدو، واختلفوا في قوله تعالى: ﴿مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ هل ذلك بعد فراغهم من الصلاة وتمامها بالركعة التي أدركوها معه؟ على قولين:

أ. أحدهما: قد تمت بالركعة حتى يصلوا معها بعد فراغ الإمام ركعة أخرى، وهذا قول من أوجب عليه الخوف ركعتين، ومن قال بهذا اختلفوا هل يتمون الركعة الباقية عليهم قبل وقوفهم بإزاء العدو أو بعده؟ على قولين:

أحدهما: قبل وقوفهم بإزاء العدو، وهو قول الشافعي.

الثاني: بعده وهو قول أبي حنيفة.

4. ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ يريد الطائفة التي بإزاء العدو تأتي فتصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الركعة التي بقيت عليه، وتمضي الطائفة التي صلّت فتقف موضعها بإزاء العدو، وإذا صلت مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الركعة الباقية عليه ففيه قولان:

أ. أحدهما: أن ذلك فرضها وتسلم بسلامه، وهذا قول من جعل فرضه في الخوف ركعة.

ب. الثاني: أن عليها ركعة أخرى، وهذا قول من جعل فرضه في الخوف ركعتين كالأمن، فعلى هذا متى تفارقه؟ فعلى قولين:

أحدهما: قبل تشهده.

الثاني: بعده، وقد روى القولين معاً سهل بن أبي حَثمة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

5. هل تتم ركعتها الباقية وقوفها بإزاء العدو؟ على قولين:

أ. أحدهما: تتمها قبل الوقوف بإزائه، وهو قول الشافعي.

ب. الثاني: تقف بإزائه قبل إتمامها حتى إذا أتمت الطائفة الأولى: ركعتها عادت فوقفت بإزاء العدو، ثم خرجت هذه فأتمت ركعتها، وهذا قول أبي حنيفة، وهذه الصلاة هي نحو صلاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بذات الرقاع.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٢٥).

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ معناه في الضاربين في الأرض من أصحابك يا محمد الخائفين عدوهم أن يفتنوهم، فأقمت لهم الصلاة يعني أتممت لهم الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها، ولم تقصرها القصر الذي يجب في الصلاة شدة الخوف من الاقتصار على الإيماء، فلتقم طائفة من أصحابك الذين كنت فيهم معك في صلاتك وليكن سائرهم في وجه العدو، ولم يذكر ما ينبغي أن تفعله الطائفة غير المصلية لدلالة الكلام عليه‏.

2. ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾

أ. قال قوم: الفرقة المامورة بأخذ السلاح هي المصلية مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والسلاح مثل السيف يتقلد به والخنجر يشده إلى درعه وكذلك السكين ونحو ذلك من سلاحه وهو الصحيح.

ب. وقال ابن عباس الطائفة المأمورة بأخذ السلاح هي التي بإزاء العدو ودون المصلية.

3. ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ يعني الطائفة التي قامت معك مصلية بصلاتك، وفرغت من سجودها ﴿فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ يعني فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم مصافين للعدو، وعندنا انهم يحتاجون أن يتموا صلاتهم ركعتين، والامام قائم في الثانية: ثم ينصرفون إلى موضع أصحابهم ويجيء الآخرون فيستفتحون الصلاة فيصلي بهم الامام الركعة الثانية، ويطيل تشهده حتى يقوموا فيصلوا بقية صلاتهم ثم يسلم بهم الامام، ومن قال إن صلاة الخائف ركعة، قال الأولون إذا صلوا ركعة فقد فرغوا، وكذلك الفرقة الثانية، وروى ذلك أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام، ورواه مسلمة عن أبي عبد الله عليه السلام وهذا عندنا انما يجوز في صلاة شدة الخوف، وفي الناس من قال ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يسلم بهم ثم يقومون فيصلون تمام صلاتهم، وقد بينا اختلاف الفقهاء في مسائل الخلاف في صلاة الخوف.

4. اللام في قوله: ﴿فَلْتَقُمْ﴾ لام الأمر وهي تجزم الفعل، ومن حقها أن‏ تكون مكسورة إذا ابتدئ بها، وبنو سليم يفتحونها، يقولون: ليقم زيد، كما تنصب تميم لام كي يقولون جئت لآخذ حقي، فإذا اتصلت بما قبلها من الواو والفاء جاز تسكينها وكسرها، ذكره الفراء.

5. قال: ﴿طَائِفَةٌ أُخْرَى﴾ ولم يقل: آخرون، ثم قال: ﴿لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ ولم يقل: فلتصل معك حملا للكلام تارة على اللفظ وأخرى على المعنى كما قال: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ ولو قال اقتتلنا لكان جائزا ومثله‏ ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ﴾ وفي قراءة أبي: حق عليه الضلالة ومثله‏ ﴿نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ﴾ ولم يقل منتصرون ومثله كثير.

6. في الآية دلالة على نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك ان الآية نزلت والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعسفان والمشركين بضجنان، فتواقفوا فصلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع، والسجود فهم بهم المشركون أن يغيروا عليهم، فقال بعضهم: لهم صلاة أخرى أحب إليهم من هذه يعنون العصر، فأنزل الله عليه الآية فصلى بهم العصر صلاة الخوف، ويقال: إنه كان ذلك سبب اسلام خالد بن الوليد، لأنه كان هم بذلك فعلم أنه ما أطلع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على ما هموا به غير الله تعالى فأسلم وفي الناس من قال من حكم صلاة الخوف اختص به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال آخرون ـ وهو الصحيح ـ انه يجوز لغيره.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/309.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الحذر: التحرز، ورجل حَذِرٌ: متيقظ متحرز، وحَذَارِ بمعنى احذر كسَماعِ بمعنى اسمع، وقرأ حاذرون بمعنى متأهبون، حذرون خائفون.

ب. الأذى: مصدر أَذِيَ يَأْذَى أذًى، مثل فزع يفزع فزعًا، وهو ما يؤذيك.

ج. والميلة: أصله الميل، وهو الانحطاط، مال يميل ميلاً، وأماله إمالة، ويقال: مال إليه ميلاً إذا أحبه؛ لأنه مال إليه بوده.

د. الجناح: الإثم، واشتقاقه من جنحت إذا عدلت عن المكان، وأخذت جانبًا عن القصد.

2. عن ابن عباس وجابر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى بأصحابه الظهر، ورأى المشركون، ذلك فندموا أن لم يوقعوا بهم، وعزموا على الإيقاع بالمسلمين إن اشتغلوا بصلاتهم، فأطلع الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم على أسرارهم، وروي أن بعضهم قال لبعض: دعوهم فإن لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم، يعني العصر، فإذا رأيتموهم قاموا إليها فشدوا عليهم واقتلوهم، ونزل جبريل بصلاة الخوف، ويُقال: إنه كان سبب إسلام خالد بن الوليد.

3. بَيَّنَ تعالى صلاة الخوف فقال: ﴿وَإِذَا كُنْتَ﴾ يا محمد ﴿فِيهِمْ﴾ يعني في أصحابك الضاربين في الأرض الخائفين عدوهم ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾:

أ. قيل: أقمت لهم الصلاة بحدودها، عن الحسن.

ب. وقيل: أقمت لهم الصلاة بأن تؤمهم.

4. ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ يعني تقوم فرقة معك في الصلاة، وفيه محذوف تقديره: وطائفة تجاه العدو؛ لأن جعلهم طائفتين لهذا المعنى.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾:

أ. قيل: المأمور بأخذ السلاح الطائفة المأمورة بالصلاة معه، تأخذ من السلاح السيف والخنجر والسكين ونحوه، والدرع يلبسه.

ب. وقيل: بل الطائفة التي تكون تجاه العدو، عن ابن عباس، وتقديره: ولتأخذ الطائفة الأخرى أسلحتهم، ويكونوا بإزاء العدو، ويحتمل أن يكون الأمر للفرقتين ليحملوا السلاح احتياطًا.

6. ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ يعني الطائفة المصلية إذا فرغوا من السجدة ﴿فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ أي من خلفكم بإزاء العدو، واختلفوا إذا سجدت الطائفة الأولى، وفرغوا من ركعة كيف يصنعون على أقوال:

أ. الأول: يسلم، ويمضى إلى وجه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى، ويصلي بهم ركعة ويسلم، وهذا مذهب من يرى صلاة الخوف ركعة: وللإمام ركعتان، وللقوم ركعة، وهو مذهب جابر ومجاهد.

ب. الثاني: أنه يتم الصلاة لكل طائفة، فيصلي ركعتين، لكل طائفة مرة، هذا مروي عن الحسن.

ج. الثالث: تصلي الطائفة الأولى: ركعة أخرى وتسلم، والإمام قائم حتى تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة، ثم يجلس في التشهد إلى أن يتموا ركعة أخرى، ثم يسلم بهم، عن سهل بن أبي خيثمة، وهو مذهب الشافعي.

د. الرابع: أن الطائفة الأولى: يصلي بهم ركعة، ويعودون إلى وجه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى يكبرون، يصلي بهم الركعة الثانية، ويسلم الإمام ويعودون هم إلى وجه العدو، وتأتي الطائفة الأولى، فيقضون ركعة بغير قراءة؛ لأنهم لاحقون ويسلمون، ويرجعون إلى وجه العدو، وتأتي الطائفة الثانية، ويقضون ركعة بغير قراءة؛ لأنهم مسبوقون، عن عبد الله بن مسعود وجماعة من الصحابة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.

7. ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا﴾ وهم الَّذِينَ كانوا بإزاء العدو.

8. تدل الآية الكريمة على:

أ. صلاة الخوف، وتدل أن للخوف تأثيرا.

ب. صفة صلاة الخوف، وقد اختلفوا فالأكثر أن صلاة الخوف ثابتة بعد الرسول، وروي عن جماعة منهم أبو يوسف أنه كان في أيامه وسقط بموته، ومن أثبتها اختلفوا في صفتها على ما قدمنا، منهم من يرى ركعة، ومنهم من يرى الصلاة مرتين، ومنهم من يرى ركعتين، ثم اختلفوا إذا صلت الطائفة الأولى: ركعة على ما بَيَّنَّا من قول أبي حنيفة والشافعي، وذهب مالك إلى ما ذهب إليه الشافعي، إلا أنهما اختلفا فقال مالك: يسلم في الركعتين، ثم تقضي الطائفة الثانية: ركعتهم، وقال الشافعي: لا يسلم، بل ينتظر حتى يصلوا، ثم يسلم بهم، وعن ابن أبي ليلى أنه يكبر بالجميع، ثم يجعلهم طائفتين، وذلك يخالف قولهم لم يصلوا، وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى ببطن نخلة مثل ما روي عن الحسن، وروى ابن مسعود وابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مثل قول أبي حنيفة، وروي مثل قول مالك والشافعي عن ابن عباس يصلى بكل طائفة ركعة، قال أبو علي: كان هذا الخوف بالحديبية، وصلى بهم صلاة كثيرة في أيام، فاختلف التعبد فيها على نحو ما جاءت به الروايات، وإذا [كان] الخوف في العصر صلى بكل طائفة ركعتين، وفي المغرب يصلى بالأولى: ركعتين، وبالثانية: ركعة، ولو رأى سوادًا فظنه عدوًّا فصلى صلاة الخوف، ثم بانَ له أنه ليس بالعدو، لم تجز صلاتهم.

ج. جواز تركِ المأموم متابعةَ الإمام عند الخوف، وإذا جاز للخوف وضرورته جاز أيضًا للضرورة إذا سبقه الحدث، ومن اشتدت الزحمة فلم يمكنه السجود.

د. وجوب التعديل على الإمام بين الناس، فتدل على التعديل في سائر الأشياء أيضًا.

هـ. أن الجماعة فرض؛ لأنه لا يجوز ترك الفرض لمكان السنة.

و. أن تأخير الصلاة عن الوقت لا يجوز، ولو جاز لجاز عند الخوف.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/48.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. أسلحة: جمع سلاح، مثل حمار وأحمرة، والسلاح: اسم لجملة ما يدفع به الناس عن أنفسهم في الحروب، مما يقاتل به خاصة، ولا يقال للدواب وما أشبهها سلاح.

ب. ولجناح: الاسم من جنحت عن المكان: إذا عدلت عنه وأخذت جانبا عن القصد.

ج. أذى مقصور: يقال أذى فلان، يأذى، أذى: مثل فزع، يفزع، فزعا.

2. ابتدأ الله تعالى ببيان صلاة الخوف في جماعة فقال: ﴿وَإِذَا كُنْتَ﴾ يا محمد ﴿فِيهِمْ﴾ يعني: في أصحابك الضاربين في الأرض، الخائفين عدوهم أن يغزوهم ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾:

أ. بحدودها، وركوعها، وسجودها، عن الحسن.

ب. وقيل: معناه أقمت لهم الصلاة بأن تؤمهم.

3. ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ أي: من أصحابك الذين أنت فيهم ﴿مَعَكَ﴾ في صلاتك، وليكن سائرهم في وجه العدو، وتقديره: ولتقم طائفة منهم تجاه العدو، ولم يذكر ما ينبغي أن تفعله الطائفة غير المصلية، لدلالة الكلام عليه.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾:

أ. قيل: المأمور بأخذ السلاح: الطائفة المصلية مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يأخذون من السلاح مثل السيف، يتقلدون به، والخنجر يشدونه إلى دروعهم، وكذلك السكين ونحو ذلك، وهو الصحيح.

ب. وقيل: هم الطائفة التي بإزاء العدو، دون المصلية، عن ابن عباس.

5. ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ يعني: الطائفة التي تصلي معه، وفرغوا من سجودهم ﴿فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ يعني: فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم، مصافين للعدو، واختلف في الطائفة الأولى: إذا رفعت رؤوسهم من السجود، وفرغت من الركعة، كيف يصنعون:

أ. عندنا (2) أنهم يصلون ركعة أخرى، ويتشهدون، ويسلمون، والامام قائم في الثانية، ثم ينصرفون إلى مواقف أصحابهم، ويجئ الآخرون، فيستفتحون الصلاة، ويصلي بهم الامام الركعة الثانية، حسب، ويطيل تشهده حتى يقوموا فيصلوا بقية صلاتهم، ثم يسلم بهم الامام، فيكون للطائفة الأولى: تكبيرة الافتتاح، وللثانية التسليم، وهو مذهب الشافعي أيضا.

ب. وقيل: إن الطائفة الأولى: إذا فرغت من ركعة، يسلمون ويمضون إلى وجه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى، ويصلي بهم ركعة، وهو مذهب مجاهد، وجابر، ومن يرى أن صلاة الخوف ركعة واحدة.

ج. وقيل: إن الامام يصلي بكل طائفة ركعتين، فيصلي بهم مرتين بكل طائفة مرة، عن الحسن.

د. وقيل: إنه إذا صلى بالطائفة الأولى: ركعة، مضوا إلى وجه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى، فيكبرون ويصلي بهم الركعة الثانية، ويسلم الامام، ويعودون إلى وجه العدو، وتأتي الطائفة الأولى، فيقضون ركعة بغير قراءة، لأنهم لاحقون، ويسلمون ويرجعون إلى وجه العدو، وتأتي الطائفة الثانية، فيقضون ركعة بغير قراءة، لأنهم مسبوقون، عن عبد الله بن مسعود، وهو مذهب أبي حنيفة.

6. ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا﴾ وهم الذين كانوا بإزاء العدو ﴿فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾

7. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿وَلْيَأْخُذُوا﴾: القراءة على سكون اللام، والأصل وليأخذوا بالكسر، إلا أن الكسر يستثقل، فيحذف استخفافا، وكذلك فلتقم، ولتأت.

ب. موضع ﴿أَنْ تَضَعُوا﴾ نصب: أي لا إثم عليكم في أن تضعوا، فلما سقطت في عمل ما قبل ﴿إِنَّ﴾ فيها، وعلى المذهب الآخر يكون موضعها جرا بإضمار حرف الجر، وإنما قال: ﴿طَائِفَةٌ أُخْرَى﴾، ولم يقل آخرون.

ج. قال: ﴿لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا﴾، ولم يقل لم تصل فلتصل، حملا للكلام تارة على اللفظ، وأخرى على المعنى، كما قال: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ ولم يقل اقتتلا، ومثله كثير.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/154.

(2) يقصد الإمامية.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾: أنّ المشركين لمّا رأوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأصحابه قد صلّوا الظّهر، ندموا إذ لم يكبّوا عليهم، فقال بعضهم لبعض: دعوهم فإنّ لهم صلاة هي أحبّ إليهم من آبائهم وأبنائهم، يعنون العصر، فإذا قاموا فشدّوا عليهم، فلمّا قاموا إلى صلاة العصر، نزل جبريل بهذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

2. ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا يدلّ على أن الحكم مقصور عليه، فهول كقوله تعالى:‏ ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ وقال أبو يوسف: لا تجوز صلاة الخوف بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والهاء والميم من (فيهم) تعود على الضّاربين في الأرض.

3. ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ أي: ابتدأتها، ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ أي: لتقف، ومثله‏ ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾

4. في قوله تعالى: ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنهم الباقون، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: أنهم المصلّون معه، ذكره ابن جرير، قال وهذا السّلاح كالسّيف، يتقلّده الإنسان، والخنجر يشدّه إلى ذراعه.

5. ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ يعني المصلّين معه‏ ﴿فَلْيَكُونُوا﴾ في المشار إليهم قولان:

أ. أحدهما: أنهم الطّائفة التي لم تصلّ، أمرت أن تحرس الطائفة المصلّية، وهذا معنى قول ابن عباس.

ب. الثاني: أنهم المصلّون معه، أمروا إذا سجدوا أن ينصرفوا إلى الحرس.

6. اختلف العلماء كيف ينصرفون بعد السّجود:

أ. فقال قوم: إذا أتمّوا مع الإمام ركعة أتمّوا لأنفسهم ركعة، ثم سلّموا وانصرفوا، وقد تمّت صلاتهم.

ب. وقال آخرون: ينصرفون عن ركعة، واختلف هؤلاء، فقال بعضهم: إذا صلّوا مع الإمام ركعة وسلّموا، فهي تجزئهم.

وقال آخرون منهم أبو حنيفة: بل ينصرفون عن تلك الرّكعة إلى الحرس وهم على صلاتهم، فيكونوا في وجه العدو مكان الطّائفة التي لم تصلّ، وتأتي تلك الطّائفة.

7. اختلفوا في الطّائفة الأخرى:

أ. فقال قوم: إذا صلّى بهم الإمام أطال التشهد حتى يقضوا الركعة الفائتة، ثم يسلّم بهم.

ب. وقال آخرون: بل يسلّم هو عند فراغه من الصّلاة بهم، فإذا سلّم قضوا ما فاتهم.

ج. وقال آخرون: بلى يصلّي بالطّائفة الثانية: ركعة ويسلّم هو، ولا تسلّم هي، بل ترجع إلى وجه العدو، ثم تجيء الأولى، فتقضي ما بقي من صلاتها وتسلّم، وتمضي وتجيء الأخرى، فتتمّ صلاتها، وهذا مذهب أبي حنيفة.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/462.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما بيّن الله تعالى في الآية المتقدمة حال قصر الصلاة بحسب الكمية في العدد، بيّن في هذه الآية حالها في الكيفية، واختلفوا:

أ. قال أبو يوسف والحسن بن زياد: صلاة الخوف كانت خاصة للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا تجوز لغيره، وقال المزني: كانت ثابتة ثم نسخت، واحتج أبو يوسف على قوله بوجهين:

الأول: أن قوله تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ ظاهره يقتضي أن إقامة هذه الصلاة مشروطة بكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيهم، لأن كلمة (إذا) تفيد الاشتراط.

الثاني: أن تغيير هيئة الصلاة أمر على خلاف الدليل، إلا أنا جوزنا ذلك في حق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لتحصل للناس فضيلة الصلاة خلفه، وأما في حق غير الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فهذا المعنى غير حاصل، لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول، فلا يحتاج هناك إلى تغيير هيئة الصلاة.

ب. أما سائر الفقهاء فقالوا: لما ثبت هذا الحكم في حق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بحكم هذه الآية وجب أن يثبت في حق غيره:

لقوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأعراف: 158] ألا ترى أن قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ [التوبة: 103] لم يوجب كون الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مخصوصا به دون غيره من الأمة بعده.

أما التمسك بلفظ (إذا) فالجواب أن مقتضاه هو الثبوت عند الثبوت.

أما العدم عند العدم فغير مسلم.

أما التمسك بإدراك فضيلة الصلاة خلف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فليس يجوز أن يكون علة لإباحة تغيير الصلاة، لأنه لا يجوز أن يكون طلب الفضيلة يوجب ترك الفرض، فاندفع هذا الكلام.

2. شرح صلاة الخوف هو أن الإمام يجعل القوم طائفتين ويصلى بهم ركعة واحدة، ثم إذا فرغوا من الركعة فكيف يصنعون؟ فيه أقوال:

أ. الأول: أن تلك الطائفة يسلمون من الركعة الواحدة ويذهبون إلى وجه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى ويصلي بهم الإمام ركعة أخرى ويسلم، وهذا مذهب من يرى أن صلاة الخوف للإمام ركعتان، وللقوم ركعة، وهذا مروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد.

ب. الثاني: إن الإمام يصلي بتلك الطائفة ركعتين ويسلم، ثم تذهب تلك الطائفة إلى وجه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي الإمام بهم مرة أخرى ركعتين، وهذا قول الحسن البصري.

ج. الثالث: أن يصلي الإمام مع الطائفة الأولى: ركعة تامة، ثم يبقى الإمام قائما في الركعة الثانية: إلى أن تصلي هذه الطائفة ركعة أخرى، ويتشهدون ويسلمون ويذهبون إلى وجه العدو، ثم تأتي الطائفة الثانية: ويصلون مع الإمام قائما في الركعة الثانية: ركعة، ثم يجلس الإمام في التشهد إلى أن تصلي الطائفة الثانية: الركعة الثانية، ثم يسلم الإمام بهم، وهذا قول سهل بن أبي حثمة ومذهب الشافعي.

د. الرابع: أن الطائفة الأولى: يصلي الإمام بهم ركعة ويعودون إلى وجه العدو، وتأتي الطائفة الثانية: فيصلي بهم بقية الصلاة وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تعود الطائفة الأولى: فيقضون بقية صلاتهم بقراءة وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تعود الطائفة الثانية: فيقضون بقية صلاتهم بقراءة، والفرق أن الطائفة الأولى: أدركت أول الصلاة، وهم في حكم من خلف الإمام، وأما الثانية: فلم تدرك أول الصلاة، والمسبوق فيما يقضي كالمنفرد في صلاته، وهذا قول عبد الله بن مسعود، ومذهب أبي حنيفة.

3. وردت الروايات المختلفة بهذه الصلاة، فلعله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلّى بهم هذه الصلاة في أوقات مختلفة بحسب المصلحة، وإنما وقع الاختلاف بين الفقهاء في أن الأفضل والأشد موافقة لظاهر الآية أي هذه الأقسام، أما الواحدي فقال: الآية مخالفة للروايات التي أخذ بها أبو حنيفة، وبين ذلك من وجهين:

أ. الأول: أنه تعالى قال: ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا﴾ وهذا يدل على أن الطائفة الأولى: قد صلّت عند إتيان الثانية، وعند أبي حنيفة ليس الأمر كذلك؛ لأن الطائفة الثانية: عنده تأتي الأولى: بعد في الصلاة وما فرغوا منها.

ب. الثاني: أن قوله: ﴿فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ ظاهره يدل على أن جميع صلاة الطائفة الثانية: مع الإمام لأن مطلق قولك: صليت مع الإمام يدل على أنك أدركت جميع الصلاة معه، وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك، وأما أصحاب أبي حنيفة فقالوا: الآية مطابقة لقولنا، لأنه تعالى قال: ﴿فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ وهذا يدل على أن الطائفة الأولى: لم يفرغوا من الصلاة، ولكنهم يصلون ركعة ثم يكونون من وراء الطائفة الثانية: للحراسة، وأجاب الواحدي عنه فقال: هذا إنما يلزم إذا جعلنا السجود والكون من ورائكم لطائفة واحدة، وليس الأمر كذلك، بل هو لطائفتين السجود للأولى، والكون من ورائكم الذي‏ بمعنى الحراسة للطائفة الثانية.

4. ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ أي وإذا كنت أيها النبي مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم‏ ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ والمعنى فاجعلهم طائفتين، فلتقم منهم طائفة معك فصل بهم وليأخذوا أسلحتهم، والضمير إما للمصلين وإما لغيرهم، فإن كان للمصلين فقالوا: يأخذون من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر، وذلك لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط وأمنع للعدو من الإقدام عليهم، وإن كان لغير المصلين فلا كلام فيه، ويحتمل أن يكون ذلك أمرا للفريقين بحمل السلاح لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط.

5. ﴿فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا﴾، يعني غير المصلين‏ ﴿مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ يحرسونكم، وقد ذكرنا أن أداء الركعة الأولى: مع الإمام في صلاة الخوف كهو في صلاة الأمن، إنما التفاوت يقع في أداء الركعة الثانية: فيه، وقد ذكرنا مذاهب الناس فيها.

6. ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ وقد بينا أن هذه الآية دالة على صحة قول الشافعي، ﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ والمعنى أنه تعالى جعل الحذر وهو التحذر والتيقظ آلة يستعملها الغازي، فلذلك جمع بينه وبني الأسلحة في الأخذ وجعلا مأخوذين، قال الواحدي: وفيه رخصة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/205.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ روى الدارقطني عن أبي عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعسفان، فاستقبلنا المشركون، عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الظهر، فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، قال ثم قالوا تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، قال: فنزل جبريل صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذه الآية بين الظهر والعصر ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾، وذكر الحديث، وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى، وهذا كان سبب إسلام خالد.

2. وقد اتصلت هذه الآية بما سبق من ذكر الجهاد، وبين الرب تعالى أن الصلاة لا تسقط بعذر السفر ولا بعذر الجهاد وقتال العدو، ولكن فيها رخص على ما تقدم في البقرة وهذه السورة، بيانه من اختلاف العلماء، وهذه الآية خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة، ومثله قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ هذا قول كافة العلماء، وشذ أبو يوسف وإسماعيل بن علية فقالا: لا نصلي صلاة الخوف بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن الخطاب كان خاصا له بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ وإذا لم يكن فيهم لم يكن ذلك لهم، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليس كغيره في ذلك، وكلهم كان يحب أن يأتم به ويصلي خلفه، وليس أحد بعده يقوم في الفضل مقامه، والناس بعده تستوي أحوالهم وتتقارب، فلذلك يصلي الإمام بفريق ويأمر من يصلي بالفريق الآخر، وأما أن يصلوا بإمام واحد فلا، وقال الجمهور: إنا قد أمرنا باتباعه والتأسي به في غير ما آية وغير حديث، فقال تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فلزم اتباعه مطلقا حتى يدل دليل واضح على الخصوص، ولو كان ما ذكروه دليلا على الخصوص للزم قصر الخطابات على من توجهت له، وحينئذ كان يلزم أن تكون الشريعة قاصرة على من خوطب بها، ثم إن الصحابة اطرحوا توهم الخصوص في هذه الصلاة وعدوه إلى غير النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهم أعلم بالمقال وأقعد بالحال، وقد قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ وهذا خطاب له، وأمته داخلة فيه، ومثله كثير، وقال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ وذلك لا يوجب الاقتصار عليه وحده، وأن من بعده يقوم في ذلك مقامه، فكذلك في قوله: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾

3. ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ يعني جماعة منهم تقف معك في الصلاة، ليأخذوا أسلحتهم يعني الذين يصلون معك، ويقال: ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ الذين هم بإزاء العدو، على ما يأتي بيانه، ولم يذكر الله تعالى في الآية لكل طائفة إلا ركعة واحدة، ولكن روي في الأحاديث أنهم أضافوا إليها أخرى، على ما يأتي، وحذفت الكسرة من قوله: ﴿فَلْتَقُمْ﴾ و﴿فَلْيَكُونُوا﴾ لثقلها، وحكى الأخفش والقراء والكسائي أن لام الأمر ولام كي ولام الجحود يفتحن، وسيبويه يمنع من ذلك لعلة موجبة، وهي الفرق بين لام الجر ولام التأكيد، والمراد من هذا الأمر الانقسام، أي وسائرهم وجاه العدو حذرا من توقع حملته.

4. اختلفت الروايات في هيئة صلاة الخوف، واختلف العلماء لاختلافها، فذكر ابن القصار أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم صلاها في عشرة مواضع، قال ابن العربي: روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة، وقال أحمد ابن حنبل، وهو إمام أهل الحديث والمقدم في معرفة علل النقل فيه: لا أعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت، وهي كلها صحاح ثابتة، فعلى أي حديث صلى منها المصلي صلاة الحوف أجزأه إن شاء الله، وكذلك قال أبو جعفر الطبري، وأما مالك وسائر أصحابه إلا أشهب فذهبوا في صلاة الخوف إلى حديث سهل بن أبي حثمة.

5. اختلفوا في صلاة الخوف عند التحام الحرب وشدة القتال وخيف خروج الوقت، فقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء: يصلي كيفما أمكن، لقول ابن عمر: فإن كان خوف أكثر من ذلك فيصلي راكبا أو قائما يومئ إيماء، قال في الموطأ: مستقبل القبلة وغير مستقبلها، وقد تقدم في البقرة قول الضحاك وإسحاق، وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا يجزئهم التكبير ويؤخروها حتى يأمنوا، وبه قال مكحول، وحكاه الكيا الطبري في أحكام القرآن) له عن أبي حنيفة وأصحابه، قال الكيا: وإذا كان الخوف أشد من ذلك وكان التحام القتال فإن المسلمين يصلون على ما أمكنهم مستقبلي القبلة ومستدبريها، وأبو حنيفة وأصحابه الثلاثة متفقون على أنهم لا يصلون والحالة هذه بل يؤخرون الصلاة، وإن قاتلوا في الصلاة قالوا: فسدت الصلاة وحكي عن الشافعي أنه إن تابع الطعن والضرب فسدت صلاته، قلت: وهذا القول يدل على صحة قول أنس: حضرت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال فلم نقدر على الصلاة إلا بعد ارتفاع النهار، فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا، قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها، ذكره البخاري وإليه كان يذهب شيخنا الأستاذ أبو جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بأبي حجة، وهو اختيار البخاري فيما يظهر، لأنه أردفه بحديث جابر، قال جاء عمر يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول: يا رسول الله، ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: وأنا والله ما صليتها) قال فنزل إلى بطحان فتوضأ وصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى المغرب بعدها.

6. اختلفوا في صلاة الطالب والمطلوب، فقال مالك وجماعة من أصحابه هما سواء، كل واحد منهما يصلي على دابته، وقال الأوزاعي والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث وابن عبد الحكم: لا يصلي الطالب إلا بالأرض وهو الصحيح، لأن الطلب تطوع، والصلاة المكتوبة فرضها أن تصلى بالأرض حيثما أمكن ذلك، ولا يصليها راكب إلا خائف شديد خوفه وليس كذلك الطالب.

7. ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ الضمير في ﴿سَجَدُوا﴾ للطائفة المصلية فلينصرفوا، هذا على بعض الهيئات المروية، وقيل: المعنى فإذا سجدوا ركعة القضاء، وهذا على هيئة سهل بن أبي حثمة، ودلت هذه الآية على أن السجود قد يعبر به عن جميع الصلاة، وهو كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين)، أي فليل ركعتين وهو في السنة، والضمير في قوله: ﴿فَلْيَكُونُوا﴾ يحتمل أن يكون للذين سجدوا، ويحتمل أن يكون للطائفة القائمة أولا بإزاء العدو.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/364.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ هذا خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولمن بعده من أهل الأمر، حكمه كما هو معروف في الأصول، ومثله قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ ونحوه، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، وشذ أبو يوسف، وإسماعيل بن علية فقالا: لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأن هذا الخطاب خاص برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قالا: ولا يلحق غيره به لما له صلّى الله عليه وآله وسلّم من المزية العظمى، وهذا مدفوع، فقد أمرنا الله باتباع رسوله والتأسي به، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم (صلّوا كما رأيتموني أصلّي) والصحابة أعرف بمعاني القرآن، وقد صلوها بعد موته في غير مرّة كما ذلك معروف.

2. معنى: ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ أردت الإقامة، كقوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ «، المائدة: 6،»، وقوله: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله﴾

3. ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ يعني: بعد أن تجعلهم طائفتين؛ طائفة تقف بإزاء العدوّ، وطائفة تقوم منهم معك في الصلاة ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ أي: الطائفة التي تصلي معه؛ وقيل: الضمير راجع إلى الطائفة التي بإزاء العدوّ، والأوّل أظهر، لأن الطائفة القائمة بإزاء العدوّ لا بدّ أن تكون قائمة بأسلحتها، وإنما يحتاج إلى الأمر بذلك من كان في الصلاة، لأنه يظن أن ذلك ممنوع منه حال الصلاة فأمره الله بأن يكون آخذا لسلاحه، أي: غير واضع له، وليس المراد الأخذ باليد، بل المراد أن يكونوا حاملين لسلاحهم ليتناولوه من قرب إذا احتاجوا إليه، وليكون ذلك أقطع لرجاء عدوّهم من إمكان فرصته فيهم، وقد قال بإرجاع الضمير من قوله: ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ إلى الطائفة القائمة بإزاء العدوّ ابن عباس، قال لأن المصلية لا تحارب، وقال غيره: إن الضمير راجع إلى المصلية، وجوّز الزجاج، والنحاس أن يكون ذلك أمرا للطائفتين جميعا، لأنه أرهب للعدوّ، وقد أوجب أخذ السلاح في هذه الصلاة أهل الظاهر حملا للأمر على الوجوب، وذهب أبو حنيفة: إلى أن المصلين لا يحملون السلاح وأن ذلك يبطل الصلاة، وهو مدفوع بما في هذه الآية وبما في الأحاديث الصحيحة.

4. ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ أي: القائمون في الصلاة ﴿فَلْيَكُونُوا﴾ أي: الطائفة القائمة بإزاء العدوّ ﴿مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ أي: من وراء المصلين، ويحتمل أن يكون المعنى: فإذا سجد المصلون معه، أي: أتموا الركعة، تعبيرا بالسجود عن جميع الركعة، أو عن جميع الصلاة ﴿فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ أي: فلينصرفوا بعد الفراغ إلى مقابلة العدوّ للحراسة.

5. ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى﴾ وهي القائمة في مقابلة العدو التي لم تصلّ‏ ﴿فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ على الصفة التي كانت عليها الطائفة الأولى‏.

6. وردت صلاة الخوف في السنة المطهرة على أنحاء مختلفة، وصفات متعددة، وكلها صحيحة مجزئة، من فعل واحدة منها فقد فعل ما أمر به، ومن ذهب من العلماء إلى اختيار صفة دون غيرها فقد أبعد عن الصواب، وقد أوضحنا هذا في شرحنا للمنتقى، وفي سائر مؤلفاتنا.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/587.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ أثبَـتَّهَا لهم وقُمتَ إليها وأردتَها، علَّم الله جلَّ وعلا رسوله صلاة الخوف ليقتدي به الأئمَّة في عصره وبعده، فإنَّهم نواب عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، كقوله تعالى: ﴿خُذْ مِنَ اَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة: 103]، فإنَّه لغيره كما أنَّه له، والخطاب في القرآن له صلّى الله عليه وآله وسلّم أو لغيره أو لهما، فليس كما قال أبو يوسف والحسن بن زيَّاد وإسماعيل بن عليَّة من تخصيص صلاة الخوف به صلّى الله عليه وآله وسلّم .

2. روى ابن عبَّاس وجابر بن عبد الله أنَّ المشركين رأوا رسول الله وأصحابه قاموا إلى الظهر يصلُّون جميعًا، حتَّى فرغوا فندموا على أن لم يكبُّوا عليهم، فقال بعضهم: لهم صلاة أحبُّ إليهم من آبائهم وأبنائهم، يعني صلاة العصر، فإذا اشتغلوا بها فاقتلوهم، فنزل بين الظهر والعصر هذه الآيات الثلاث: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾

3. ﴿فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ﴾ يصلُّون ركعة والأخرى تواجه العدوَّ، ﴿وَلْيَاخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ﴾ يعني الطائفة القائمة معك في الصلاة، أَمَرَهم أنْ يكون معهم سلاحهم في الصلاة، للحزم والحذر ﴿فَإِذَا سَجَدُواْ﴾ أي: هذه الطائفة المصلِّية معك، وكذا قبل السجود إلَّا أنَّه خصَّ السجود بالذكر لأنَّهم في السجود أشدُّ غرَّة، ولأنَّهم حال القيام قد يظنُّ المشركون أنَّهم قاموا للقتال، ﴿فَلْيَكُونُواْ مِنْ وَّرَآئِكُمْ﴾ أي: الطائفة الأخرى لأنَّه لم يبق إلَّا هي، إذِ الأُولى هي معه، وهي المخاطَبة معه صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله: ﴿مِنْ وَّرَآئِكُمْ﴾، ويجوز أنْ يراد بقوله: ﴿وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ هذه الطائفة الأخرى التي ليست في الصلاة يأخذون أسلحتهم، وعلى كلٍّ يحرسون النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حال الصلاة، والخطاب في: ﴿مِنْ وَّرَآئِكُمْ﴾ للنبيِّ والطائفةِ التي معه في الصلاة، وله صلّى الله عليه وآله وسلّم بمقتضى الأصل، ولغيره معه تغليبًا للمخاطَب على الغُـيَّاب.

4. ﴿وَلْتَاتِ﴾ بعد أنْ تسجد الأولى: وتذهب إلى العدوِّ بلا تسليم، ويثبت صلّى الله عليه وآله وسلّم قائمًا ﴿طَآئِفَةٌ اُخْرَىٰ﴾ نكَّرها لأنَّها لم تذكر قبل، ﴿لَمْ يُصَلُّواْ﴾ وهي الحارسة لهم من ورائهم، ﴿فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ﴾ الركعة الثانية، فلك ركعتان، ولكل طائفة ركعة، ولا تحيَّة للأولى فيسلِّم فيسلِّمون جميعًا، الثانية زالأولى: المواجهة للعدوِّ، وروى ابن أبي حاتم وابن أبي شيبة وابن جرير: (إنَّ صلاة الخوف ركعة)، صلَّى صلّى الله عليه وآله وسلّم ركعة بطائفة ثمَّ بأخرى ركعة، وإنَّما القصر واحدة عند القتال؛ فصلاة الحضر أربع، والسفر ركعتان، والخوف ركعة، وروي أنَّه صلَّى بطائفةٍ ركعةً فثبت قائمًا، وصلَّوْا ركعةً ثمَّ ذهبوا، وجاءت الأخرى فصلَّى بهم ركعة وثبت قاعدًا، وصلَّوا ركعة، فسلَّم وسلَّم الكلُّ، وكلتاهما قرأت التحيَّات، وكذا فعل صلّى الله عليه وآله وسلّم بذات الرقاع، وعليه الشافعيُّ، وروى البخاريُّ ومسلم: (أنه صلَّى في بطن نخل ركعتين بطائفة، فذهبت فجاءت أخرى فصلَّى بها ركعتين)، فله أربع، و(نخل) موضعٌ من نجدٍ من غطفان، بينه وبين المدينة يومان، وعن ابن مسعود: صلَّى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بطائفة ركعة وبأخرى ركعة وذهبت، وجاءت الأولى: وقضت ركعة بلا قراءة وسلَّمت وذهبت، وجاءت الأخرى وفضوا الأولى: بقراءة، وعليه أبو حنيفة، وسقط عن الأولى: القراءة في الثانية: بعد سلامه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لأنَّهم في مقابلة العدوِّ عنه.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/271.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما كان النص السابق الوارد في مشروعية القصر مجملا بيّن كيفيته بصورة في مزيد الحاجة إليها، ويكتفي فيما عداها ببيان السنة، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ أي: مع أصحابك شهيدا وأنتم تخافون العدوّ ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ أي: أردت أن تقيم بهم الصلاة بالجماعة التي، لوفور أجرها، بتحمل مشاقها ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ في الصلاة، أي بعد أن جعلتم طائفتين، ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدوّ ليحرسوكم منهم، وإنما لم يصرح به لظهوره‏ ﴿وَلْيَأْخُذُوا﴾ أي الطائفة التي قامت معك‏ ﴿أَسْلِحَتَهُمْ﴾ معهم لأنه أقرب للاحتياط ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ أي: القائمون معك، سجدتي الركعة الأولى: وأتموا الركعة، فارقوك وأتموا صلاتهم، وتقوم إلى الثانية: منتظرا، فإذا فرغوا ﴿فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ أي: فلينصرفوا إلى مقابلة العدوّ للحراسة ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا﴾ وهي الطائفة الواقعة تجاه العدوّ ﴿فَلْيُصَلُّوا﴾ ركعتهم الأولى‏ ﴿مَعَكَ﴾ وأنت في الثانية، فإذا جلست منتظرا، قاموا إلى ثانيتهم وأتموها ثم جلسوا ليسلموا معك، ولم يبين في الآية الكريمة حال الركعة الرابعة الباقية لكل من الطائفتين اكتفاء ببيانه صلّى الله عليه وآله وسلّم لهم، كما يأتي‏.

2. في هذه الآية مشروعية صلاة الخوف وصفتها، وأنه لا يجب قضاؤها، وأنه يطلب فيها حمل السلاح إلا لعذر.

3. تعلّق بظاهر قوله تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ من لم ير صلاة الخوف بعده صلّى الله عليه وآله وسلّم، زاعما أنها خاصة بعهده صلّى الله عليه وآله وسلّم، لاشتراطه كونه فيهم، ولا يخفى أن الأئمة بعده نوّابه قوّام بما كان يقوم به، فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما في قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة: 103]، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم‏: صلوا كما رأيتموني أصلي، وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم.

4. قال ابن كثير: صلاة الخوف أنواع كثيرة، فإن العدوّ تارة يكون تجاه القبلة، وتارة يكون في غير صوبها، ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، ورجالا وركبانا، ولهم أن يمشوا والحالة هذه، ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة، ومن العلماء من قال يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم، وبه قال أحمد ابن حنبل، قال المنذريّ: وبه قال عطاء وجابر والحسن ومجاهد والحكم وقتادة وحماد، وإليه ذهب طاووس والضحاك، وقد حكى أبو عاصم العباديّ عن محمد بن نصير المروزيّ أنه يرى ردّ الصبح إلى ركعة في الخوف، وإليه ذهب ابن حزم أيضا، وقال إسحاق بن راهويه: أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة تومئ بها إيماء، فإن لم تقدر فسجدة واحدة، لأنها ذكر الله، وقال آخرون: يكفي تكبيرة واحدة، فلعله أراد ركعة واحدة، كما قاله أحمد بن حنبل وأصحابه، وبه قال جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وكعب وغير واحد من الصحابة والسدّيّ، ورواه ابن جرير، ولكن الذين حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرة واحدة، كما هو مذهب إسحاق بن راهويه: وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بخت المكيّ حتى قال فإن لم يقدر على التكبير فلا يتركها في نفسه، يعني بالنية، رواه سعيد بن منصور في (سننه) عن إسماعيل بن عياش عن شعيب بن دينار عنه، فالله أعلم، ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة، كما أخر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم الأحزاب الظهر والعصر، فصلاهما بعد الغروب، ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء، وكما قال بعدها، يوم بني قريظة حين جهز إليهم الجيش: لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة، فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق، فقال منهم قائلون: لم يرد منا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا تعجيل المسير، ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها، فصلّوا الصلاة لوقتها في الطريق، وأخر آخرون منهم صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب، ولم يعنف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أحدا من الفريقين، فاحتج في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد من الطائفة الملعونة، اليهود، وأما الجمهور فقالوا: هذا كله منسوخ بصلاة الخوف فإنها لم تكن نزلت بعد، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك، وهذا أبين في حديث أبي سعيد الخدريّ الذي رواه الشافعيّ وأهل السنن، ولكن يشكل عليه ما حكاه البخاريّ‏ في (صحيحه) حيث قال: (باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدوّ) وقال الأوزاعيّ: إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء، كل امرئ لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا، وبه قال مكحول، وقال أنس بن مالك: حضرت عند مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار، فصليناها ونحن مع أبي موسى، ففتح لنا، وقال أنس: وما يسرني، بتلك الصلاة، الدنيا وما فيها.

5. استدلّ بقوله تعالى:‏ ﴿طَائِفَةٌ﴾ على أنه لا يشترط استواء الفريقين في العدد، لكن لا بد أن تكون التي تحرس تحصل الثقة به في ذلك، قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): والطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد، فلو كانوا ثلاثة ووقع لهم الخوف، جاز لأحدهم أن يصلي بواحد، ويحرس واحد، ثم يصلي الآخر، وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة.

6. استدلّ بالآية على عظم أمر الجماعة بل على ترجيح القول بموجبها، لارتكاب أمور كثيرة لا تغتفر في غيرها، ولو صلى كل امرئ منفردا لم يقع الاحتياج إلى معظم ذلك، أفاده الحافظ ابن حجر في (الفتح)، قال ابن كثير: وما أحسن ما استدلّ به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة، حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة، فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/309.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال عز وجل بعد ما تقدم من الإذن بالقصر من الصلاة: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ أي وإذا كنت أيها الرسول في جماعتك من المؤمنين ومثله في هذا كل إمام في كل جماعة ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ إقامة الصلاة تطلق على الذكر الذي يدعى به إلى الدخول فيها وهو نصف ذكر الأذان وزيادة (قد قامت الصلاة) مرتين بعد كلمة (حي على الفلاح) كما ثبت في السنة الصحيحة، وقيل هو كالأذان مع زيادة ما ذكر، وتطلق على الإتيان بها مقومة تامة الأركان والشرائط والآداب، والظاهر هنا المعنى الأول، لتعديته باللام ولأن الصلاة المبينة في الآية ليست تامة بل هي مقصور منها، وتقابل صلاة الخوف هنا صلاة الاطمئنان المأمور بها في الآية التالية، فمعنى أقمت لهم الصلاة دعوتهم إلى أدائها جماعة، أي والزمن زمن الحرب وفتنة الكفار مخوفة.

2. ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ في الصلاة يقتدون بك ويبقى الآخرون مراقبين للعدو يحرسون المصلين خوفا من اعتدائه: ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ أي وليحمل الذين يقومون معك في الصلاة أسلحتهم ولا يدعوها وقت الصلاة لئلا يضطروا إلى المكافحة عقبها مباشرة أو قبل إتمامها فيكونوا مستعدين لها، وعن ابن عباس أن الأمر بأخذ السلاح أي حمله هو للطائفة الأخرى لقيامها بالحراسة، ويجوز الزجاج والنحاس أن يكون للطائفتين جميعا أي وليكن المؤمنون حين انقسامهم إلى طائفتين واحدة تصلي وواحدة تراقب وتحرس حاملين للسلاح لا يتركه منهم أحد، ووجه تقديم الأول أن من شأن الجميع في مثل تلك الحال أن يحملوا أسلحتهم إلا في وقت الصلاة التي لا يكون فيها قتال ولا نزال فاحتيج إلى الأمر بحمل السلاح في الصلاة لأنه مظنة المنع والامتناع، والأسلحة جمع سلاح وهو كل ما يقاتل به وإنما يحل منه في حال إقامة الصلاة التامة الأركان ما يسهل حمله فيها كالسيف والخنجر والنبال من أسلحة الزمن الماضي، ومثل البندقية على الظهر والمسدس في الحزام أو الجيب من أسلحة هذا العصر.

3. ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ أي فإذا سجد الذين يقومون معك في الصلاة: ﴿فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ أي فليكن الآخرون الذين يحرسونكم من خلفكم، وأحوج ما يكون المصلي للحراسة ساجدا لأنه لا يرى حينئذ من يهم به، أو عبر بالسجود عن الصلاة أي إتمامها لأنه آخر صلاة الطائفة الأولى، ويجب حينئذ أن يكون الباقون مستعدين للقيام مقامهم، والصلاة مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما صلوا، وهو قوله: ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ أي ولتأت الطائفة الذين لم يصلوا لاشتغالهم بالحراسة فليصلوا معك كما صلت الطائفة الأولى.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/304.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم بين سبحانه ما قبله من النص المجمل الوارد في مشروعية القصر وبيان كيفيته عند الضرورة، وذكر هذا البيان في القرآن واكتفى فيما عداه بالبيان بطريق السنة لمزيد الحاجة إليه، لما فيه من كثرة التغيير عن الهيئة الأصلية فقال: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ أي وإذا كنت أيها الرسول في جماعتك من المؤمنين وأردت أن تقيم بهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك بعد أن تجعلهم طائفتين، ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدوّ يحرسون المصلين خوفا من الاعتداء، وليحمل الذين يقومون معك في الصلاة أسلحتهم ولا يدعوها وقت الصلاة، لئلا يضطروا إلى المكافحة عقبها مباشرة أو قبل إتمامها فيكونوا مستعدين لها.

2. ﴿فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ أي فإذا سجد الذين يقومون معك في الصلاة فليكن الذين يحرسونكم من خلفكم، إذ أحوج ما يكون المصلّى للحراسة حين السجود لأنه لا يرى من يهمّ به، ويجب حينئذ أن يكون الباقون مستعدين للقيام مقامهم والصلاة مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما صلوا، وهو قوله: ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ أي ولتأت الطائفة الأخرى الذين لم يصلوا لاشتغالهم بالحراسة فليصلوا كما صلت الطائفة الأولى، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم في الصلاة كما فعل الذين من قبلهم.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/141.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وبمناسبة الحديث عن صلاة الضارب في الأرض، الخائف من فتنة الذين كفروا، يجيء حكم صلاة الخوف في أرض المعركة؛ وتحتشد جنبات هذا الحكم الفقهي بلمسات نفسية وتربوية شتى.

2. إن المتأمل في أسرار هذا القرآن؛ وفي أسرار المنهج الرباني للتربية، المتمثل فيه، يطلع على عجب من اللفتات النفسية، النافذة إلى أعماق الروح البشرية، ومنها هذه اللفتة في ساحة المعركة إلى الصلاة..

3. إن السياق القرآني لا يجيء بهذا النص هنا لمجرد بيان الحكم (الفقهي) في صفة صلاة الخوف، ولكنه يحشد هذا النص في حملة التربية والتوجيه والتعليم والإعداد للصف المسلم وللجماعة المسلمة:

أ. وأول ما يلفت النظر هو الحرص على الصلاة في ساحة المعركة! ولكن هذا طبيعي بل بديهي في الاعتبار الإيماني، إن هذه الصلاة سلاح من أسلحة المعركة، بل إنها السلاح! فلا بد من تنظيم استخدام هذا السلاح، بما يتناسب مع طبيعة المعركة، وجو المعركة! لقد كان أولئك الرجال ـ الذين تربوا بالقرآن وفق المنهج الرباني ـ يلقون عدوهم بهذا السلاح الذي يتفوقون فيه قبل أي سلاح، لقد كانوا متفوقين في إيمانهم بإله واحد يعرفونه حق المعرفة؛ ويشعرون أنه معهم في المعركة، متفوقين كذلك في إيمانهم بهدف يقاتلون من أجله؛ ويشعرون أنه أرفع الأهداف جميعا، متفوقين أيضا في تصورهم للكون والحياة ولغاية وجودهم الإنساني، تفوقهم في تنظيمهم الاجتماعي الناشئ من تفوق منهجهم الرباني.. وكانت الصلاة رمزا لهذا كله، وتذكيرا بهذا كله، ومن ثم كانت سلاحا في المعركة، بل كانت هي السلاح!

ب. والأمر الثاني الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه العدو، وهذا الحذر الذي يوصى المؤمنون به تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم، ليميل عليهم ميلة واحدة!

4. ومع هذا التحذير والتخويف، التطمين والتثبيت؛ إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون قوما كتب الله عليهم الهوان: ﴿إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾.. وهذا التقابل بين التحذير والتطمين؛ وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض الثقة؛ هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف المسلم، في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم!

5. أما كيفية صلاة الخوف؛ فتختلف فيها آراء الفقهاء، أخذا من هذا النص، ولكننا نكتفي بالصفة العامة، دون دخول في تفصيل الكيفيات المتنوعة، ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾.. والمعنى: إذا كنت فيهم فأممتهم في الصلاة، فلتقم طائفة منهم تصلي معك الركعة الأولى، على حين تقف طائفة أخرى بأسلحتها من ورائكم لحمايتكم، فإذا أتمت الطائفة الأولى الركعة الأولى رجعت فأخذت مكان الحراسة، وجاءت الطائفة التي كانت في الحراسة ولم تصل، فلتصل معك ركعة كذلك، (وهنا يسلم الإمام إذ يكون قد أتم صلاته ركعتين)، عندئذ تجيء الطائفة الأولى فتقضي الركعة الثانية التي فاتتها مع الإمام، وتسلم ـ بينما تحرسها الطائفة الثانية: ثم تجيء الثانية فتقضي الركعة الأولى التي فاتتها وتسلم ـ بينما تحرسها الطائفة الأولى.. وبذلك تكون الطائفتان قد صلتا بإمامة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وكذلك مع خلفائه وأمرائه، وأمراء المسلمين (منهم) في كل معركة.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/748.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يبين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية حكم الصلاة مع النبيّ في ميدان القتال.. وإنها لصلاة مراعى فيها الحذر والحيطة من مباغتة العدو، وانتهاز الفرصة في المسلمين، وهم بين يدى الله في الصّلاة.. فتلك فرصة للعدوّ، لا يدعها تمر، خاصة إذا ألقى المسلمون أسلحتهم، وفرغوا للصلاة، يؤدونها كاملة، بركوعها وسجودها، وعدد ركعاتها..

2. وإذا علم المشركون أن المسلمين يؤدون صلاتهم في الحرب كما يؤدونها في السلم، فإنهم سيرصدون الوقت الملائم للهجوم عليهم، وهم في تلك الحال التي أخلو فيها أنفسهم من الحرب، واتجهوا لله بقلوبهم وأجسامهم! لهذا شرع الله للنبيّ أن يصلّى بالمسلمين على هذا الوجه الذي بيّنته الآية الكريمة، وهو أن يقيم النبيّ الصلاة، وأن تجى‏ء طائفة من المؤمنين لتصلى مع النبي، ومعها أسلحتها، وتبقى طائفة أخرى ترصد العدوّ، وتتلقى صدمته الأولى إن هو حاول الهجوم، وعندها تكون الجماعة التي تصلى مع النبيّ قد وضعت يدها على سلاحها وخفّت لنجدة إخوانهم المشتبكين في الحرب، وبهذا لا يأخذ العدو فرصته! فإذا صلّت الجماعة الأولى الركعة الأولى من الصلاة؛ سلّمت ومضت، لتأخذ مكان الجماعة التي لم تصلّ، ثم لتأت هذه الجماعة وتأخذ مكانها في الصلاة خلف‏ النبيّ آخذة حذرها وأسلحتها، وليصلّوا الركعة الثانية، التي بها يختم النبيّ بها صلاة السفر.

3. ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ تنويه بشأن المؤمنين المجاهدين في سبيل الله، حيث تشير كلمة (فيهم) إلى إحاطة المسلمين بالنبيّ، والتفافهم حوله، حتى كأنهم الظرف الزماني والمكانىّ له، وحتى كأن مشاعر النبيّ الكريم ونفحاته تملأ هذا الظرف، زمانا ومكانا، بأضوائها، وأنوارها..

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/884.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ هذه صفة صلاة الخوف في الجماعة لقوله: ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾، واتّفق العلماء على أنّ هذه الآية شرعت صلاة الخوف، وأكثر الآثار تدلّ على أنّ مشروعيتها كانت في غزوة ذات الرّقاع بموضع يقال له: نخلة بين عسفان وضجنان من نجد، حين لقوا جموع غطفان: محارب وأنمار وثعلبة، وكانت بين سنة ستّ وسنة سبع من الهجرة، وأنّ أوّل صلاة صلّيت بها هي صلاة العصر، وأنّ سببها أنّ المشركين لما رأوا حرص المسلمين على الصلاة قالوا: هذه الصلاة فرصة لنا لو أغرنا عليهم لأصبناهم على غرّة، فأنبأ الله بذلك نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم ونزلت الآية، غير أنّ الله تعالى صدّر حكم الصلاة بقوله: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ فاقتضى ببادئ الرأي أنّ صلاة الخوف لا تقع على هذه الصفة إلّا إذا كانت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فهي خصوصية لإقامته، وبهذا قال إسماعيل بن علية، وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة في أحد أقواله، وعلّلوا الخصوصية بأنّها لحرص الناس على فضل الجماعة مع الرسول، بخلاف غيره من الأئمّة، فيمكن أن تأتمّ كلّ طائفة بإمام، وهذا قول ضعيف: لمخالفته فعل الصحابة، ولأنّ مقصد شرع الجماعة هو اجتماع المسلمين في الموطن الواحد، فيؤخذ بهذا المقصد بقدر الإمكان، على أنّ أبا يوسف لا يرى دلالة مفهوم المخالفة فلا تدلّ الآية على الاختصاص بإمامة الرسول، ولذلك جزم جمهور العلماء بأنّ هذه الآية شرعت صلاة الخوف للمسلمين أبدا، ومحمل هذا الشرط عندهم جار على غالب أحوالهم يومئذ من ملازمة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لغزواتهم وسراياهم إلّا للضرورة، كما في الحديث:‏ (لو لا أنّ قوما لا يتخلّفون بعدي ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلّفت عن سريّة سارت في سبيل الله)، فليس المراد الاحتراز عن كون غيره فيهم ولكن التنويه بكون النبي فيهم، وإذ قد كان الأمراء قائمين مقامه في الغزوات فالذي رخّص الله للمسلمين معه يرخّصه لهم مع أمرائه، وهذا كقوله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة: 103]

2. في نظم الآية إيجاز بديع فإنّه لمّا قال: ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ علم أنّ ثمة طائفة أخرى، فالضمير في قوله: ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ للطائفة باعتبار أفرادها، وكذلك ضمير قوله: ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ للطائفة التي مع النبي، لأن المعية معية الصلاة، وقد قال: ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾، وضمير قوله: ﴿فَلْيَكُونُوا﴾ للطائفة الأخرى المفهومة من المقابلة، لظهور أنّ الجواب وهو ﴿فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ متعيّن لفعل الطائفة المواجهة العدوّ.

3. ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى﴾ هذه هي المقابلة لقوله: ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾، وقد أجملت الآية ما تصنعه كلّ طائفة في بقية الصلاة، ولكنّها أشارت إلى أنّ صلاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واحدة لأنّه قال: ﴿فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾، فجعلهم تابعين لصلاته، وذلك مؤذن بأنّ صلاته واحدة، ولو كان يصلّي بكل طائفة صلاة مستقلّة لقال تعالى: فلتصلّ بهم، وبهذا يبطل قول الحسن البصري: بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلّى ركعتين بكلّ طائفة، لأنّه يصير متمّا للصلاة غير مقصّر، أو يكون صلّى بإحدى الطائفتين الصلاة المفروضة وبالطائفة الثانية صلاة: نافلة له، فريضة للمؤمنين، إلّا أن يلتزم الحسن ذلك، ويرى جواز ائتمام المفترض بالمتنفّل، ويظهر أنّ ذلك الائتمام لا يصحّ، وإن لم يكن في السنّة دليل على بطلانه.

4. ذهب جمهور العلماء إلى أنّ الإمام يصلّي بكلّ طائفة ركعة، وإنّما اختلفوا في كيفية تقسيم الصلاة: بالنسبة للمأمومين، والقول الفصل في ذلك هو ما رواه مالك في (الموطأ)، عن سهل بن أبي حثمة: إنه صلّى مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع، فصفّت طائفة معه وطائفة وجاه العدوّ، فصلّى بالذين معه ركعة ثم قام، وأتمّوا ركعة لأنفسهم، ثم انصرفوا فوقفوا وجاه العدوّ، وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم الركعة التي بقيت له، ثم سلّم، ثم قضوا الركعة التي فاتتهم وسلّموا وهذه الصفة أوفق بلفظ الآية، والروايات غير هذه كثيرة.

5. الطائفة: الجماعة من الناس ذات الكثرة، والحقّ أنّها لا تطلق على الواحد والاثنين، وإن قال بذلك بعض المفسّرين من السلف، وقد تزيد على الألف كما في قوله تعالى: ﴿عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا﴾ [الأنعام: 156]، وأصلها منقولة من طائفة الشيء وهي الجزء منه.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/242.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى وجوب الهجرة على المؤمن للجهاد في سبيل الله تعالى، ولطلب الرزق، إن ضاقت أرضه التي نشأ فيها، ثم‏ ذكر سبحانه وتعالى ما سهل به على المسافر من قصر الصلاة، وفى هذا النص الكريم بين سبحانه حال الصلاة إذا كان المسافر في حال جهاد، وهو ما يسمى في عرف الفقهاء بصلاة الخوف، أي الصلاة التي تكون في حال الخوف من العدو، بأن يكونوا في حال حرب معه، فالمراد بالخوف هو الحذر من مباغتة العدو.

2. ولذا قال سبحانه: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ هذا النص الكريم فيه بيان الصلاة حال القتال، بأن يجمع المؤمنون بين الصلاة التي بها تطهير القلوب من كل الأدناس والأرجاس وبين الاستعداد للقاء العدو، والحذر منه.

3. ومعنى النص السامي إذا كنت أيها الرسول في المؤمنين، فأردت إقامة الصلاة على وجهها في هذا المقام، فلتقم طائفة منهم معك، بأن تبتدئ بالصلاة معها، على أن يكون معها السلاح، وهي في حال الصلاة، حتى يكونوا على أهبة القتال دائما، وحمل السلاح في الصلاة لا يبطلها، ولا يؤثر في حال الخشوع، وخصوصا إذا كان حمل السلاح لإعلاء كلمة الله تعالى وخفض الباطل، فهو عبادة من أعظم العبادات، فكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقسم المؤمنين المجاهدين صفين، صفا يبتدئ بالصلاة معه، فإذا سجدوا للصلاة وقد ألقوا وجوههم على الأرض، لا يرون شيئا ولا يستحضرون إلا عظمة الله تعالى، فإن الصف الثاني يكون من وراء هؤلاء، يدفع عنهم أذى الكفار، والاعتداء على أهل الحق والايمان، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾، أي فليكن الصف الآخر، أو الطائفة الأخرى من ورائكم، حامية لظهوركم، مانعة نزول الأذى بكم، ومن بعد ذلك تجى‏ء الطائفة الحارسة، وتكون من بعد ذلك في محل المصلية، وتذهب الأخرى حارسة، وهذا قوله تعالى: ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾، أي إذا صلت الطائفة الأولى، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم ينه صلاته، جاءت الأخرى فصلى بها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد أمر الله بأن تكون معها أسلحتها، وشدد في الأمر بأن أمرها مع ذلك بأخذ الحذر والاحتراس، وقدم الأمر بأخذ الحذر على أخذ الأسلحة؛ لأن أخذ الأسلحة من الحذر، ولأن الحذر عند انتقال الصفوف واجب، خشية أن يباغتهم العدو، وهم يغيرون صفوفهم؛ لأن هذا يشبه التغيير في الخطط وقت القتال، وهو لا يخلو من خطورة يجب معها الحذر، ولأن الطائفة الأولى عند سجودها، عسى أن يتنبه العدو لحالها فيطمع، وخصوصا إذا رأى الصفوف تتغير، وتتحرك في داخل الجيش نفسه.

4. اتفق الفقهاء على أن صلاة الخوف تقتضى أن يصلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بطائفة، ثم يصلى بالأخرى التي تكون أمام العدو ابتداء، وتحل الأولى محلها، ولكن اختلفوا بعد ذلك في كيفية صلاة الخوف تبعا لما فهموا من اختلاف الروايات في صلاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وها هي ذي الروايات ومن اختاروها:

أ. الأولى: رواية عبد الله بن مسعود التي أخرجها أبو داوود والدار قطني وخلاصتها أن الصلاة في هذه الحال ركعتان إن كانت رباعية، ويقسم النبي المجاهدين إلى صفين: أحدهما يصلى به ركعة، ثم يقوم، حتى تجى‏ء الطائفة الأخرى فيصلى بها الركعة الثانية، حيث تكون الأولى في مواجهة العدو، ثم يسلم، وتأتى الأولى فتتم صلاتها بغير قراءة، لأنها كما يعبر الحنفية لا حقة، أي كأنها وراء الإمام حكما طول الصلاة، ولا قراءة وراء الإمام، فإذا أتمت جاءت الثانية فصلت بقراءة، لأنها تكون مسبوقة، إذ تكون كمن أدرك آخر صلاة الإمام وفاتته ركعة، فتكون القراءة واجبة، وبهذه الرواية أخذ أبو حنيفة وأصحابه.

ب. الثانية: هي ما رواه الإمام مالك في موطئه، أن صلاة الخوف أن يصلى الإمام بالطائفة الأولى ركعة ولا يسلم، وتتم هي الصلاة وحدها، فإذا أتمتها جاءت الأخرى، فصلى الإمام معها الركعة الأخرى وسلم، وهم يتمون الركعة، وبذلك تقل الحركات عن الرواية الأولى، وبهذه الرواية أخذ الإمام مالك؛ وروى‏ أن الإمام لا يسلم إلا بعد أن تنتهى الثانية من صلاتها، وبهذا أخذ الشافعي رضى الله عنه، واختاره أحمد، وإن كان يجوز غيره، كما سنبين موقفه من هذه الروايات.

ج. الثالثة: أن الرسول صلى بالطائفة ركعة، وبها تتم صلاتها، ثم قام حتى تجى‏ء الثانية، فصلى بها الركعة الثانية، وسلم، وبها تتم صلاتها فتكون صلاة الخوف على هذه الرواية ركعة واحدة بالنسبة للمأموم، وركعتين للإمام، وبهذا أخذ بعض الفقهاء.

د. الرابعة: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى ركعتين بالأولى ولم يسلم، وذهبت، وجاءت الثانية فصلى بها اثنتين أخريين، ثم سلم معها، وفى رواية أنه سلم بينهما، فسلم مع الأولى، وسلم مع الثانية، وقد اختار بعض الفقهاء هذه الرواية الأخيرة.

5. قال أحمد بن حنبل، وهو عالم السنة الأول في عصره: (لا أعلم أنه روى في صلاة الخوف إلا حديث ثابت، وهي كلها صحاح ثابتة، فعلى أي حديث صلى منها المصلى صلاة الخوف أجزأه، إن شاء الله)، وإن كل هذه الروايات تتفق مع النص الكريم، واختلاف الرواية الصحيحة يدل على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صلاها بكل هذه الوجوه المختلفة، لبيان أنها جائزة بكل وجه من هذه الوجوه.

6. بعض العلماء قالوا: إن صلاة الخوف خاصة بما إذا كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع المجاهدين، أي أنها خاصة بعصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبشرط أن يكون هو قائد الجند، وحجتهم في ذلك أن الخطاب خاص بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذ يقول: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾، فالكيفية مقيدة بشرط، وهو إقامته فيهم، وليست كل التكليفات التي يوجه فيها الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، على أن يكون موجها لكل الأمة، مشروطا فيها هذا الشرط، فالتكليف مقيد بالشرط، وليس بمطلق، وليس أحد بعده يقوم في الفضل مقامه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال الجمهور: أمرنا باتباعه، والتأسي به في كثير من الأحاديث وآيات القرآن الكريم، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (صلوا كما رأيتموني أصلى)، وإن كثيرا من المطالب التكليفية يكون الخطاب فيها للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم لأمته، وإن الصحابة جميعا فهموا عموم الرخصة في صلاة الخوف، فعدوها إلى كل إمام في الجيش، وهو أعلم بمقاصد الإسلام؛ لأنهم تلقوا علمهم عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن الإمام القائم بالجهاد هو خليفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على أمته، ولأن المعنى في صلاة الخوف لا يتحقق فقط مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل يتحقق مع كل أمير جهاد، ولأن صلاة الخوف هي من نوع الحذر، والجمع بين المضى في القتال، والمضي في الصلاة التي هي عماد الدين، والحذر مطلوب دائما، وقد بين الله سببها فقال: ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ﴾

7. هذا، ولا بد من التنبيه لأمرين:

أ. أحدهما: صلاة المغرب، فقد كانت الصلاة التي تكلم فيها الفقهاء هي الصلاة الثنائية بالأصالة، وهي الفجر، أو الثنائية بالقصر، وهي صلاة الظهر والعصر، والعشاء، وأما المغرب فقد روى عن النبي فيها روايتان: إحداهما أنه صلى بالطائفة الأولى ثلاثا، وبالثانية مثلها، وبهذه الرواية أخذ الحسن البصرى، والرواية الثانية أنه صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية واحدة، وهذا قول أبى حنيفة ومالك، وروى أن الشافعي قال يصلى ب الأولى واحدة، وبالثانية اثنتين.

ب. الثاني: أنه لا يلزم الاتجاه إلى القبلة إذا خيف أن يأخذ العدو المؤمنين على غرة، وذلك في حال الالتحام الشديد، وإذا خيف فوات الوقت يصلى متى أمكن له أن يصلى، وبذلك قال مالك، والثوري والأوزاعي والشافعي وقال غيرهم: يصلون بالإيماء، ولا يتركون الوقت.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1829.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾، هذا بيان لصلاة الخوف جماعة، والمعنى إذا أردت يا محمد الصلاة جماعة بالمقاتلين فاجعلهم طائفتين: واحدة تصلي معك، وهي حاملة السلاح، والثانية تقف بإزاء العدو للحراسة، وكما تصح جماعة مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تصح مع غيره أيضا.

2. ﴿فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾، أي إذا سجد من يصلي مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فلتقف الطائفة الحارسة خلف المصلين، ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾، أي بعد أن تنتهي الأولى من الصلاة تأخذ الثانية مكان الأولى في الصلاة، وتأخذ الأولى مكان الثانية في الحراسة.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/426.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ الآية، تذكر كيفية صلاة الخوف، وتوجه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بفرضه إماما في صلاة الخوف، وهذا من قبيل البيان بإيراد المثال ليكون أوضح في عين أنه أوجز وأجمل، فالمراد بقوله: ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ هو الصلاة جماعة، والمراد بقوله: ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ قيامهم في الصلاة مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بنحو الايتمام، وهم المأمورون بأخذ الأسلحة، والمراد بقوله: ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ إذا سجدوا وأتموا الصلاة ليكون هؤلاء بعد إتمام سجدتهم من وراء القوم، وكذا المراد بقوله: ﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ أن تأخذ الطائفة الثانية: المصلية مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حذرهم وأسلحتهم.

2. المعنى ـ والله أعلم ـ: وإذا كنت أنت يا رسول الله فيهم والحال حال الخوف فأقمت لهم الصلاة أي صليتهم جماعة فأممتهم فيها، فلا يدخلوا في الصلاة جميعا بل لتقم طائفة منهم معك بالاقتداء بك وليأخذوا معهم أسلحتهم، ومن المعلوم أن الطائفة الأخرى يحرسونهم وأمتعتهم فإذا سجد المصلون معك وفرغوا من الصلاة فليكونوا وراءكم يحرسونكم والأمتعة ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك، وليأخذ هؤلاء المصلون أيضا كالطائفة الأولى: المصلية حذرهم وأسلحتهم.

3. توصيف الطائفة بالأخرى، وإرجاع ضمير الجمع المذكر إليها رعاية تارة لجانب اللفظ وأخرى لجانب المعنى، كما قيل.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/63.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا كُنْتَ﴾ يا محمد ﴿فِيهِمْ﴾ إذا ضربوا في الأرض وخافوا أن يفتنهم الذين كفروا ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ بإقامة المؤذن وشروعك فيها بالتكبير ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ في الركعة الأولى: ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ استعداداً للعدو إن هجم وهم مصلون ليدافعوه وهم مصلون ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ فُسِّر بالسجدتين، واتفقت عليه الروايات في (صلاة الخوف) أي لا تكفي سجدة واحدة، فأما التفسير فقد فسرت بإتمامهم صلاتهم، تقول: سلم أي التسليمتين، فلا يستمروا مع الإمام في صلاتهم بل عليهم أن يصيروا من وراء المصلين محافظين عليهم مراقبين للعدو.

2. ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا﴾ ومفهومه: أن الطائفة الأولى: قد صلت، فقيل: لأنها إذا سجدت قامت فأتَمَّت صلاتها بسرعة والإمام قائم منتظرٌ للطائفة الثانية، وقيل: تكفيها ركعة واحدة وتذهب تجاه العدو، وقيل: تؤخر الثانية: ثم تقضيها وتعيين الحكم في الركعة الثانية: للطائفة الأولى: يرجع فيه إلى السنة، وقد اختلفت فيه الروايات.

3. وقد قيل: إن صلاة الخوف خاصة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ حكى هذا في (الكشاف) وهو قريب إلا أنها رويت عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في (مجموع الإمام زيد بن علي) عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام أنه قال في صلاة الخوف: (يقسم الإمام أصحابه طائفتين)، فأثبتها للإمام، والطائفة: اسم لناسٍ ولو قلّوا، والمراد: بعض الحاضرين معه، وقوله: ﴿مَعَكَ﴾ أي يقوموا مصلين معك جماعة، وفيه دلالة على أهمية الجماعة، بل وجوبها عند إقامتها لهم بالأذان والإقامة والشروع فيها.

4. ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ وهذا بعد انصراف الطائفة الأولى: الذي دل عليه قوله تعالى: ﴿فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ أي لحمايتكم من العدو، وقوله: ﴿لَمْ يُصَلُّوا﴾ يشعر بأن هناك غيرهم قد صلوا، فيؤكد أن الطائفة الأولى: قد صلت، وبذلك احتج الإمام القاسم عليه السلام على أن الطائفة الأولى: تتم صلاتها قبل انصرافها إلى مواجهة العدو، كما رواه في صلاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (صلاة الخوف) ﴿فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ بقية صلاتك ويتموا لأنفسهم بعد تسليم الإمام كما في الأحاديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/155.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ فيصلّون صلاة جماعة ويبقى الآخرون في حالة حراسة، ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ في حال الصلاة ليكونوا على استعداد في حالة هجوم العدو عليهم، من دون أن يخرجهم ذلك عن جو العبادة؛ لأن الجهاد في سبيل الله وقفة مع الله، كما هي الصلاة وقفة روحية معه.

2. ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ وفرغوا من الصلاة بعد أن أتموها وحدهم في الركعة الثانية، ﴿فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ لأخذ مواقعهم في حراسة أرض المعركة، ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/431.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد آيات الجهاد السابقة تبيّن هذه الآية للمسلمين طريقة صلاة الخوف التي تؤدى في ساحة الحرب، فتخاطب الآية النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلة: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ فإذا سجدت جماعة وانقضت الركعة الأولى: من الصّلاة، على النّبي أن يقف في مكانه فتؤدي الجماعة ـ سريعا ـ الركعة الثّانية وتعود إلى ساحة القتال لمواجهة العدو، وتأتي بعد ذلك الجماعة الثّانية التي لم تصل بعد، وتأخذ مكان الجماعة الأولى: فتصلّي مع النّبي: ﴿فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ وعلى الجماعة الثّانية أن لا تضع أرضا لامة حربها، بل تحتفظ بها معها: ﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾

2. واضح أنّ الهدف من وجود النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بين المسلمين في حال إقامة صلاة الخوف، لا يعني أنّ هذه الصّلاة لا تقام إلّا بوجود النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل القصد والهدف هنا في الآية هو أن يكون للمقاتلين والمجاهدين إمام أو قائد يتقدمهم ويؤمهم في صلاة الجماعة أثناء الحرب، ومن هذا المنطلق نرى الإمام علي والإمام الحسين عليهما السّلام قد أقاما صلاة الخوف، كما أنّ العديد من قادة الجيوش الإسلامية كحذيفة قد قاموا بهذه العبادة الإسلامية في ساعات الضرورة.

3. الآية تأمر المجموعة الأولى: بأن تحتفظ بسلاحها أثناء أداء صلاة الخوف، لكنها تقول للمجموعة الثّانية أن لا تلقي أرضا بوسائلها الدفاعية كالدروع والأسلحة الأخرى، ومن المحتمل أن يكون الفرق بين هاتين المجموعتين هو أنّ العدو قد لا يكون على علم بعد بخطة المسلمين أثناء أداء المجموعة الأولى: لصلاتها، وفي‏ هذه الحالة يكون احتمال هجوم العدو على المسلمين ضعيفا، أمّا بالنسبة للمجموعة الثانية: حين ـ ينتبه العدو لمراسم الصّلاة فيكون هجومه على المسلمين أكثر احتمالا.

4. لا يبدو في الآية الكريمة التوضيح اللازم لكيفية أداء صلاة الخوف، وهذا هو أسلوب القرآن إذ يبيّن كليات الحكم، ويترك شرح الأحكام إلى السنّة الشريفة، وطريقة أداء صلاة الخوف ـ كما توضحها السنّة ـ هي أن تتحول الصّلاة الرباعية إلى صلاة ثنائية، أي تحويل صلاة الظهر أو العصر مثلا التي هي أربع‏ ركعات في كل منهما إلى صلاة بركعتين، فتصلي المجموعة الأولى: ركعة واحدة مع الإمام، ثمّ يتوقف الإمام بعد أداء الركعة الأولى: فتؤدي المجموعة الأولى: الركعة الثانية: فرادى، ثمّ تعود إلى جبهة القتال، فتأتي المجموعة الثانية: لتأخذ مكان المجموعة الأولى: خلف الإمام، فتؤدي الركعة الأولى: جماعة مع الإمام وتؤدي الركعة الثّانية فرادى (وقد وردت طرق أخرى لأداء صلاة الخوف، ولكن أشهرها الطريقة التي تحدثنا عنها هنا)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/421.

97. الحذر ووضع السلاح

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈97⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [النساء: 102]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يحتمل قوله تعالى: ﴿حِذْرَهُمْ﴾، أي: يأخذون ما يستترون به ويحرسون العدو، من نحو الترس، والدرع، ونحوه.

2. ﴿وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾: ما يقاتل به من السلاح ويحارب، ويحتمل ما يتحصن به من الحصن، من نحو الجبال وغيرها، وفيه الأمر بتعلم آداب الحرب والقتال، وأخذ الأهبة والإعداد للعدو دون أن يَكِلُوا الأمر إلى ذلك؛ ولكن يكلوا الأمر إلى ما وعد الله لهم من النصر بقوله تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾، وبقوله: ﴿وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾، وقوله: ﴿فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا﴾، وغيره من الآيات، فيها الدلالة على تعلم آداب الحرب وأخذ الأهبة فيه؛ حيث أمرهم عز وجل بمجاهدة العدو في غير آي من القرآن.

3. ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ﴾ الآية، هذا يعلم بالطبع أن كل أحد يطلب الفرصة على عدوه والغفلة منه، هذا معروف في طباع الخلق.

4. ﴿عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ﴾: ما يحارب به ويقاتل، ﴿وَأَمْتِعَتِكُمْ﴾ ـ يحتمل: أمتعتكم: ما يحرس به العدو ويستتر به منه، أي: يطلبون الغفلة عن الأسلحة والأمتعة، ويحتمل: الأمتعة أن يريد بها غيرها، من: الثياب وغيرها.

5. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ في الآية دلالة أن الله تعالى لم يرد بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ﴾، ـ بَذْلَها للقتل؛ حيث رخص لهم وضع الأسلحة وأخذ الحذر عندما بُلُوا بالمطر والمرض؛ لأنه لو كان المراد بشراء الأنفس منهم بذلها للقتل ـ لكان لا يرفع ذلك عندما يخافون على أنفسهم من الهلاك؛ إذ الحرض وخوف الهلاك لا يرفع ذلك في الأحوال كلها إذا كان الأمر بذلك أمرًا بالقتل والهلاك؛ ألا ترى أن من وجب عليه الرجم لم يرفع عنه بالمرضِ الرجم؛ لأن في الرجم هلاكه، فلما رفع عنهم القتال في حال المرض، أو في الحال الذي يخاف الهلاك ـ دل أنه لم يرد بشراء الأنفس بذلها للقتل؛ ولكن أراد إظهار دين الله، ونصر أهل دينه؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: ﴿فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، جعل الثواب والأجر عند الغلبة على عدوه مثل ما جعل عند القتل، ولو كان الأمر بذلك أمرًا بالقتل خاصة ـ لا يستوجب الأجر والثواب بغيره؛ دل أنه ما ذكرنا؛ ألا ترى أنه قال: ﴿فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا﴾: جعل الوعد للقاتل ما جعل للمقتول، هذا كله يدل أن الأمر بذلك ليس على القتل.

6. ﴿وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ قد ذكرنا أن الأمر بأخذ الحذر يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: فيه الأمر بتعلم آداب الحرب وأسباب القتال، وألا يكلوا الأمر إلى ذلك خاصة؛ لكن إلى ما وعد لهم من النصر والظفر على عدوهم بعد أخذ الأهبة؛ ألا ترى أنه قال: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ الآية، وقال تعالى: ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ الآية.

ب. الثاني: يحتمل أن يأمرهم بأخذ ما يدفعون به سلاح العدو عن أنفسهم ويتقون به، نحو الترس، أو الدرع، أو البنيان.

7. ﴿إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ أي: أعد لهم من العذاب ما يهانون به، نصروا أو غلبوا، وأعد لكم من الثواب ما تشرفون وتفوزون به، نصرتم أو غلبتم؛ فما لكم لا تقاتلون!؟

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٤٦.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ يعني الطائفة الثانية: يأخذون السلاح والحذر في حال الصلاة، وذلك يبين ان المأمورة بأخذ السلاح في الأول هم المصلون دون غيرهم.

2. ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ﴾ معناه تمنى الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم وتشتغلون عن أخذها تأهباً للقتال وعن أمتعتكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها.

3. ﴿فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾ معناه يحملون عليكم، وأنتم متشاغلون بصلاتكم عن أسلحتكم، وأمتعتكم حملة واحدة فيصيبون منكم غرة فيقتلونكم، ويستبيحون عسكركم، وما معكم، والمعنى لا تشاغلوا بأجمعكم بالصلاة عند مواقفة العدو، فتمكنوا عدوكم من أنفسكم، وأسلحتكم، ولكن أقيموها على ما بينت، وخذوا حذركم بأخذ السلاح، ومن عادة العرب أن يقولوا: ملنا عليهم بمعنى حملنا عليهم، قال العباس بن عبادة بن نصلة الانصاري لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة العقبة الثانية: والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن غداً على أهل منى بأسيافنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم نؤمر بذلك يعني في ذلك الوقت‏.

4. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ معناه لا جرم عليكم ولا اثم إن كان بكم أذى من مطر يعني إن نالكم من مطر، وأنتم مواقفوا عدوكم، أو كنتم مرضى يعني أعلا، أو جرحى ان تضعوا أسلحتكم إذا ضعفتم عن حملها، لكن إذا وضعتموها، فخذوا حذركم، يعني احترسوا منهم أن يميلوا عليكم وأنتم غافلون غارون.

5. ﴿إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ يعني عذابا مذلا يبقون فيه أبداً.

6. ﴿أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ نزلت في عبد الرحمن بن عوف وكان جريحاً، ذكره ابن عباس.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/311.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. السلاح: ما يقاتل به، وجمعه، أسلحة.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: رَفْعُ الجناح في موضع الأسلحة نزل في عبد الرحمن بن عوف، ومن خرج في تلك الوقعة.

ب. وقيل: نزل في النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم لما وضع السلاح وانفرد فأتاه مشرك، ونجاه الله منه.

3. ﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ أي لتكونوا حذرين من عدوكم متأهبين لقتالهم بأخذ السلاح، عن أبي ـ علي ﴿وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ آلات الحرب، وقال الأصم: كونوا على حذر.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾:

أ. قيل: تمنى الكفار.

ب. وقيل: أحبوا.

5. ﴿لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ﴾ عن آلات الحرب ﴿وَأَمْتِعَتِكُمْ﴾ ما بها بلاغكم في أسفاركم ﴿فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾ أي يحملون حملة واحدة عند تضييعكم الحزم، فيحولون بينكم وبين الأسلحة، فيقتلونكم غرة.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾:

أ. قيل: أي لا حرج ولا إثم عليكم.

ب. وقيل: لا تعدلوا عن الحق، عن الزجاج.

7. ﴿إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ﴾ أي نالكم مطر وأنتم بإزاء العدو، ﴿أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ أي بكم علة أو جراح، وضعفتم عن حمل السلاح ﴿أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ﴾ يعني لا حرج في وضع السلاح، ولكن خذوا حذركم، أي احذروا كي لا يميلوا عليكم ﴿إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ﴾ هيأ ﴿عَذَابًا مُهِينًا﴾ عذاب النار يهينهم فيها.

8. تدل الآية الكريمة على:

أ. وجوب الحذر من العدو.

ب. أن أفعال العباد فعلهم؛ إذ لو كان خلقه لما صح قوله: ﴿فَيَمِيلُونَ﴾، ولكان يجب أخذ الحذر من فعله، ويستحيل الحذر من الله تعالى، وإذا كان ذلك كذلك ثبت أن ذلك فعلهم ليصح الحذر منه؛ ولذلك وبخهم وأوعدهم.

9. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿فَلْتَقُمْ﴾ اللام لام الأمر، واختلفوا في المأمور فقيل: الطائفة المصلية، وقيل: الطائفة التي بإزاء العدو، زالأول الوجه، وذلك محذوف.

ب. اسم ﴿كَانَ﴾ في التاء، وخبره في قوله: ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ كأنه قيل: إذا كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مقيمًا لصلاتهم.

ج. ﴿فَيَمِيلُونَ﴾ ليس جوابًا للتمني بقوله: ﴿وَدُّوا﴾ ولكن جعل عطفًا، والمعنى: ودوا لو تكفرون ولو يميلون عليكم، ولو كان نصبًا لقال: فيميلوا.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/48.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ يعني: وليكونوا حذرين من عدوهم، متأهبين لقتالهم بأخذ الأسلحة: أي آلات الحرب، وهذا يدل على أن الفرقة المأمورة بأخذ السلاح في الأول، هم المصلون دون غيرهم.

2. ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ معناه: تمنى الذين كفروا ﴿لَوْ تَغْفُلُونَ﴾: لو تعتزلون ﴿عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ﴾، وتشتغلون عن أخذها تأهبا للقتال، ﴿وَأَمْتِعَتِكُمْ﴾ أي: وعن أمتعتكم التي بها بلاغكم في أسفاركم، فتسهون عنها.

3. ﴿فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾ أي: يحملون عليكم حملة واحدة، وأنتم متشاغلون بصلاتكم، فيصيبون منكم غرة، فيقتلونكم، ويستبيحون عسكركم، وما معكم، لا تتشاغلوا بأجمعكم بالصلاة عند مواقفة العدو، فيتمكن عدوكم من أنفسكم، وأسلحتكم، ولكن أقيموها على ما أمرتم به، ومن عادة العرب أن يقولوا: ملنا عليهم بمعنى حملنا، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري، لرسول الله، ليلة العقبة الثانية: (والذي بعثك بالحق! إن شئت لنميلن غدا على أهل منى بأسيافنا! فقال رسول الله: لم نؤمر بذلك)، يعني في ذلك الوقت.

4. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ﴾ معناه: لا حرج عليكم، ولا إثم، ولا ضيق، إن نالكم أذى من مطر، وأنتم مواقفو عدوكم ﴿أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ يعني: أعلاء، أو جرحى، ﴿أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ﴾ إذا ضعفتم عن حملها، لكن إذا وضعتموها فاحترسوا منهم، ﴿وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ لئلا يميلوا عليكم، وأنتم غافلون ﴿إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾، مذلا يبقون فيه أبدا.

5. في الآية دلالة على صدق النبي، وصحة نبوته، وذلك أنها نزلت والنبي بعسفان، والمشركون بضجنان فتواقفوا، فصلى النبي وأصحابه صلاة الظهر، بتمام الركوع والسجود، فهم المشركون بأن يغيروا عليهم، فقال بعضهم: إن لهم صلاة أخرى أحب إليهم من هذه، يعنون صلاة العصر، فأنزل الله عليه هذه الآية، فصلى بهم العصر صلاة الخوف، وكان ذلك سبب إسلام خالد بن الوليد القصة.

6. وفيها دلالة أخرى: ذكر أبو حمزة في تفسيره أن النبي غزا محاربا، وبني أنمار، فهزمهم الله، وأحرزوا الذراري والمال، فنزل رسول الله والمسلمون، ولا يرون من العدو واحدا، فوضعوا أسلحتهم، وخرج رسول الله ليقضي حاجته، وقد وضع سلاحه، فجعل بينه وبين أصحابه الوادي، فإلى أن يفرغ من حاجته، وقد درأ الوادي، والسماء ترش، فحال الوادي بين رسول الله وبين أصحابه، وجلس في ظل شجرة، فبصر به غورث بن الحارث المحاربي، فقال له أصحابه: يا غورث هذا محمد قد انقلع من أصحابه! فقال: قتلني الله إن لم أقتله! وانحدر من الجبل، ومعه السيف، ولم يشعر به رسول الله إلا وهو قائم على رأسه، ومعه السيف قد سله من غمده، وقال: يا محمد من يعصمك مني الآن؟ فقال الرسول: الله، فانكب عدو الله لوجهه، فقام رسول الله، فأخذ سيفه وقال: يا غورث من يمنعك مني الآن؟قال: لا أحد، قال أتشهد أن لا إله إلا الله وأني عبد الله ورسوله؟ قال لا، ولكني أعهد أن لا أقاتلك أبدا، ولا أعين عليك عدوا، فأعطاه رسول الله سيفه، فقال له غورث: والله لأنت خير مني! قال عليه السلام: إني أحق بذلك، وخرج غورث إلى أصحابه، فقالوا: يا غورث لقد رأيناك قائما على رأسه بالسيف، فما منعك منه؟قال: الله، أهويت له بالسيف لأضربه، فما أدري من زلجني بين كتفي، فخررت لوجهي، وخر سيفي، وسبقني إليه محمد، وأخذه، ولم يلبث الوادي أن سكن، فقطع رسول الله إلى أصحابه، فأخبرهم الخبر وقرأ عليهم: ﴿إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ﴾ الآية كلها.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/155.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ قال ابن عباس: يريد الذين صلّوا أوّلا، وقال الزجّاج: يجوز أن يريد به الذين وجاه العدوّ، لأن المصلّي غير مقاتل، ويجوز أن يكون الجماعة أمروا بحمل السّلاح، لأنه أرهب للعدوّ، وأحرى أن لا يقدموا عليهم.

2. (الجناح) الإثم، وهو من: جنحت: إذا عدلت عن المكان، وأخذت جانبا عن القصد، فالمعنى: أنكم إذا وضعتم أسلحتكم، لم تعدلوا عن الحقّ.

3. ﴿إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ﴾ قال ابن عباس: رخّص لهم في وضع الأسلحة لثقلها على المريض وفي المطر، وقال: وخذوا حذركم كي لا يتغفّلوكم.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/464.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سؤال وإشكال: لم ذكر في الآية الأولى‏ ﴿أَسْلِحَتَهُمْ﴾ فقط، وذكر في هذه الآية حذرهم وأسلحتهم؟ والجواب: لأن في أول الصلاة قلما يتنبه العدو لكون المسلمين في الصلاة، بل يظنون كونهم قائمين لأجل المحاربة أما في الركعة الثانية: فقد ظهر للكفار كونهم في الصلاة، فههنا ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم، فلا جرم خص الله تعالى هذا الموضع بزيادة تحذير فقال: ﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾

2. ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾ أي بالقتال، عن ابن عباس وجابر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صلّى بأصحابه الظهر، ورأى المشركون ذلك، فقالوا بعد ذلك: بئسما صنعنا حيث لم نقدم عليهم، وعزموا على ذلك عند الصلاة الأخرى، فأطلع الله نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم على أسرارهم بهذه الآية.

3. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ﴾ والمعنى أنه إن تعذر حمل السلاح إما لأنه يصيبه بلل المطر فيسود وتفسد حدته، أو لأن من الأسلحة ما يكون مبطنا فيثقل على لا بسه إذا ابتل بالماء، أو لأجل أن الرجل كان مريضا فيشق عليه حمل السلاح، فههنا له أن يضع حمل السلاح.

4. ﴿وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ المعنى أنه لما رخص لهم في وضع السلاح حال المطر وحال المرض أمرهم مرة أخرى بالتيقظ والتحفظ والمبالغة في الحذر، لئلا يجترئ العدو عليهم احتيالا في الميل عليهم واستغناما منهم لوضع المسلمين أسلحتهم.

5. قول الله تعالى في أول الآية ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ أمر، وظاهر الأمر للوجوب، فيقتضي أن يكون أخذ السلاح واجبا ثم تأكد هذا بدليل آخر، وهو أنه قال: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ﴾ فخص رفع الجناح في وضع السلاح بهاتين الحالتين، وذلك يوجب أن فيما وراء هاتين الحالتين يكون الإثم والجناح حاصلا بسبب وضع السلاح، ومنهم من قال إنه سنة مؤكدة، والأصح ما بيناه ثم الشرط أن لا يحمل سلاحا نجسا إن أمكنه، ولا يحمل الرمح إلا في طرف الصف، وبالجملة بحيث لا يتأذى به أحد.

6. قال أبو علي الجرجاني صاحب النظم: قوله تعالى: ﴿وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ يدل على أنه كان يجوز للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذرا غير غافل عن كيد العدو، والذي نزل به القرآن في هذا الموضع هو وجه الحذر، لأن العدو يومئذ بذات الرقاع كان مستقبل القبلة، فالمسلمون كانوا مستدبرين القبلة، ومتى استقبلوا القبلة صاروا مستدبرين لعدوهم، فلا جرم أمروا بأن يصيروا طائفتين: طائفة في وجه العدو، وطائفة مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مستقبل القبلة، وأما حين كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعسفان وببطن نخل فإنه لم يفرق أصحابه طائفتين، وذلك لأن العدو كان مستدبر القبلة، والمسلمون كانوا مستقبلين لها، فكانوا يرون العدو حال كونهم في الصلاة فلم يحتاجوا إلى الاحتراس إلا عند السجود، فلا جرم لما سجد الصف الأول بقي الصف الثاني يحرسونهم، فلما فرغوا من السجود وقاموا تأخروا وتقدم الصف الثاني وسجدوا وكان الصف الأول حال قيامهم يحرسون الصف الثاني، فثبت بما ذكرنا أن قوله تعالى: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ يدل على جواز كل هذه الوجوه؛ والذي يدل على أن المراد من هذه الآية ما ذكرناه أنا لو لم نحملها على هذا الوجه لصار تكرارا محضا من غير فائدة، ولوقع فعل الرسول بعسفان وببطن نخل على خلاف نص القرآن وإنه غير جائز.

7. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: إن الله تعالى أمر بالحذر، وذلك يدل على كون العبد قادرا على الفعل وعلى الترك وعلى جميع وجوه الحذر، وذلك يدل على أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله تعالى، وجوابه ما تقدم من المعارضة بالعلم والداعي.

8. دلت الآية الكريمة على وجوب الحذر عن العدو، فيدل على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنونة، وبهذا الطريق كان الإقدام على العلاج بالدواء والعلاج باليد والاحتراز عن الوباء وعن الجلوس تحت الجدار المائل واجبا.

9. سؤال وإشكال: كيف طابق الأمر بالحذر قوله: ﴿إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ والجواب: أنه تعالى لما أمر بالحذر عن العدو أوهم ذلك قوة العدو وشدتهم، فأزال الله تعالى هذا الوهم بأن أخبر أنه يهينهم ويخذلهم ولا ينصرهم البتة حتى يقوي قلوب المسلمين ويعلموا أن الأمر بالحذر ليس لما لهم من القوة والهيبة، وإنما هو لأجل أن يحصل الخوف في قلب المؤمنين، فحينئذ يكونون متضرعين إلى الله تعالى في أن يمدهم بالنصر والتوفيق، ونظيره قوله تعالى: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا الله كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: 45].

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/207.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ وقال: ﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ هذا وصاة بالحذر وأخذ السلاح لئلا ينال العدو أمله ويدرك فرصته، والسلاح ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب، قال عنترة:

çكسوت الجعد جعد بني أبان...سلاحي بعد عري وافتضاحé

يقول: أعرته سلاحي ليمتنع بها بعد عريه من السلاح، قال ابن عباس: ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ يعني الطائفة التي وجاه العدو، لأن المصلية لا تحارب، وقال غيره: هي المصلية، أي وليأخذ الذين صلوا أولا أسلحتهم، ذكره الزجاج، قال ويحتمل أن تكون الطائفة الذين هم في الصلاة أمروا بحمل السلاح، أي فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإنه أرهب للعدو، قال النحاس: يجوز أن يكون للجميع، لأنه أهيب للعدو، ويحتمل أن يكون للتي وجاه العدو خاصة، قال أبو عمر: أكثر أهل العلم يستحبون للمصلي أخذ سلاحه إذا صلى في الخوف، ويحملون قوله: ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ على الندب، لأنه شي لولا الخوف لم يجب أخذه، فكان الأمر به ندبا، وقال أهل الظاهر: أخذ السلاح في صلاة الخوف واجب لأمر الله به، إلا لمن كان به أذى من مطر، فإن كان ذلك جاز له وضع سلاحه، قال ابن العربي إذا صلوا أخذوا سلاحهم عند الخوف، وبه قال الشافعي وهو نص القرآن، وقال أبو حنيفة: لا يحملونها، لأنه لو وجب عليهم حملها لبطلت الصلاة بتركها، قلنا: لم يجب حملها لأجل الصلاة وإنما وجب عليهم قوة لهم ونظرا.

2. ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي تمنى وأحب الكافرون غفلتكم عن أخذ السلاح ليصلوا إلى مقصودهم، فبين الله تعالى بهذا وجه الحكمة في الأمر بأخذ السلاح، وذكر الحذر في الطائفة الثانية: دون الأولى، لأنها أولى بأخذ الحذر، لأن العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت لأنه آخر الصلاة، وأيضا يقول العدو قد أثقلهم السلاح وكلوا، وفي هذه الآية أدل دليل على تعاطي الأسباب، واتخاذ كل ما ينجي ذوي الألباب، ويوصل إلى السلامة، ويبلغ دار الكرامة، ومعنى ﴿مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾ مبالغة، أي مستأصلة لا يحتاج معها إلى ثانية.

3. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ﴾ الآية، للعلماء في وجوب حمل السلاح في الصلاة كلام قد أشرنا إليه، فإن لم يجب فيستحب للاحتياط، ثم رخص في المطر وضعه، لأنه تبتل المبطنات وتثقل ويصدأ الحديد، وقيل: نزلت في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم بطن نخلة لما انهزم المشركون وغنم المسلمون، وذلك أنه كان يوما مطيرا وخرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لقضاء حاجته واضعا سلاحه، فرآه الكفار منقطعا عن أصحابه فقصده غورث بن الحارث فانحدر عليه من الجبل بسيفه، فقال: من يمنعك مني اليوم؟ فقال: ﴿اللهُ﴾ ثم قال: (اللهم اكفني الغورث بما شئت)، فأهوى بالسيف إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليضربه، فانكب لوجهه لزلقة زلقها، وذكر الواقدي أن جبريل عليه السلام دفعه في صدره على ما يأتي في المائدة، وسقط السيف من يده فأخذه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: (من يمنعك مني يا غورث)؟ فقال: (لا أحد، فقال تشهد لي بالحق وأعطيك سيفك)؟ قال لا، ولكن أشهد ألا أقاتلك بعد هذا ولا أعين عليك عدوا، فدفع إليه السيف ونزلت الآية رخصة في وضع السلاح في المطر، ومرض عبد الرحمن بن عوف من جرح كما في صحيح البخاري.

4. فرخص الله سبحانه لهم في ترك السلاح والتأهب للعدو بعذر المطر، ثم أمرهم فقال: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ أي كونوا متيقظين، وضعتم السلاح أو لم تضعوه، وهذا يدل على تأكيد التأهب والحذر من العدو في كل الأحوال وترك الاستسلام، فإن الجيش ما جاءه مصاب قط إلا من تفريط في حذر، وقال الضحاك في قوله تعالى: ﴿وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ يعني تقلدوا سيوفكم فإن ذلك هيئة الغزاة.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/371.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلْيَأْخُذُوا﴾ أي: هذه الطائفة الأخرى‏ ﴿حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ زيادة التوصية للطائفة الأخرى بأخذ الحذر مع أخذ السلاح، قيل: وجهه: أن هذه المرة مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في شغل شاغل، وأما في المرة الأولى: فربما يظنونهم قائمين للحرب، وقيل: لأن العدوّ لا يؤخر قصده عن هذا الوقت، لأنه آخر الصلاة، والسلاح: ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب، ولم يبين في الآية الكريمة كم تصلي كل طائفة من الطائفتين؟

2. ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾ هذه الجملة متضمنة للعلة التي لأجلها أمرهم الله بالحذر وأخذ السلاح، أي: ودّوا غفلتكم عن أخذ السلاح وعن الحذر ليصلوا إلى مقصودهم، وينالوا فرصتهم، فيشدّون عليكم شدّة واحدة، والأمتعة: ما يتمتع به في الحرب، ومنه: الزاد والراحلة.

3. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ﴾ رخص لهم سبحانه في وضع السلاح إذا نالهم أذى من المطر وفي حال المرض، لأنه يصعب مع هذين الأمرين حمل السلاح، ثم أمرهم بأخذ الحذر لئلا يأتيهم العدو على غرّة وهم غافلون.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/588.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلْيَاخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ أمرٌ للطائفة الحارسة بأن تصحب معها سلاحها في الصلاة إذا جاءت تصلِّي، وذكر هنا الحذر والسلاح معًا لأنَّ المشركين قلمَّا ينتبهون للمسلمين أوَّل الصلاة، بل يظنُّونهم قائمين للقتال، فإذا قاموا في الركعة الثانية: تنبَّهوا أنَّهم في الصلاة، فيفترِصون.

2. شبَّه الحذر ـ وهو معنًى ـ بجسمٍ يُتناول، فأطلق عليه الأخذ على الاستعارة بالكناية، وفيه المشاكلة، أو ذلك جمع بين الحقيقة والمجاز، أو ذلك من عموم المجاز، أو معناه: تستعمل الحذر، وأشار إلى علَّة أخذ الحذر والسلاح بقوله: ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ﴾

3. (لَوْ) مصدريَّة، أي: ودُّوا غفلتكم في صلاتكم، ﴿عَنَ اَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ﴾ ما تتمتَّعون به في أسفاركم أيُّها الطائفتان المسلمتان، ﴿فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم﴾ يشُدُّون عليكم ﴿مَّيْلَةً وَاحِدَةً﴾ شدَّة واحدة ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمُ إِن كَانَ بِكُمُ أَذًى مِّن مَّطَرٍ اَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ﴾ لا إثم عليكم في وضعها عند المطر أو المرض، إن تأذَّيتم بحملها عند أحدهما، وإلَّا فاحملوها، ولا تضرُّوا بها أحدا، أو لا تشغلكم عن الصلاة، فإنْ شَغَلَكُم حملُها عن الصلاة وخفتم العدوَّ فاحملوها وحافظوا على الصلاة، ورجَّح البخاريُّ ومسلم أنَّ حملها سنَّة إذا لم يكن الأذى، وقيل: يجب بل يستحبُّ، وللشافعيِّ القولان.

4. ﴿وَخُذُواْ حِذْرَكُم﴾ في البخاريِّ: نزلت في عبد الرحمن بن عوف، وكان جريحًا من العدوِّ، أي: خذوا حذركم من العدوِّ مع ذلك ما استطعتم حتَّى تغلبوهم، أو تنجوا منهم، كما علَّله بقوله: ﴿إنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾، هو أن يكونوا مغلوبين بخذلان الله تعالى إيَّاهم ونصره لكم، فباشِرُوا الأسباب ليكون ذلك على أيديكم، ولا تغفلوا عن إهلاكهم والنجاة منهم، وذلك وعدٌ بالنصر مع إيجاب تعاطي الأسباب؛ فالجملة علَّة لأخذ الحذر، أو مستأنفة لدفع توهُّم غلبة العدوِّ.

5. قال ابن عبَّاس: غزا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بني محارب وبني أنمار، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمون وأخذوا أموالهم وذراريهم، ولا يرون أحدًا من العدوِّ فوضعوا أسلحتهم، فقطع الوادي صلّى الله عليه وآله وسلّم لحاجة الإنسان، والسماء ترشُّ، فسال الوادي، فحال بينه صلّى الله عليه وآله وسلّم وبينهم، فجلس تحت شجرة، فانحدر إليه غورث بن الحارث من الجبل قائلا: (قتلني الله إن لم أقتله)، ولم يشعر به صلّى الله عليه وآله وسلّم إِلَّا وهو قائم على رأسه بسيف مسلول، فقال: (يا محمَّد من يمنعني منك الآن؟) فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (الله)، ثمَّ قال: (اللهمَّ اكفني غورث بن الحارث بما شئت)، فأهوى ليضربه، فأكبَّ على وجهه من زلخة زلخها، فندر السيف من يده، فقام رسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخذ السيف، وقال: (يا غورث، من يمنعك منِّي الآن؟)، فقال: (لا أحد)، فقال: (أتشهد أن لا إله إلَّا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله)، فقال: (لا، ولكن أشهد أن لا أقاتلك ولا أعين عليك)، فأعطاه صلّى الله عليه وآله وسلّم سيفه، فقال غورث: (أنت خير منِّي)، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أنا أحقُّ بذلك منك)، والسيف لغورث جاء به، وقيل إنَّه سيفه صلّى الله عليه وآله وسلّم سلَّه غورث في تلك الغفلة، وإنَّه لم يعطه بعد، ورجع إلى أصحابه فقالوا: (ويلك ما منعك من قتله؟) فذكر لهم القصَّة، والزلخةُ: الدفعة، وندر: سقط.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/273.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ﴾ أي: تيقظهم، لأن العدوّ يتوهمون في الأولى: كون المسلمين قائمين في الحرب، فإذا قاموا إلى الثانية: ظهر لهم أنهم في الصلاة فههنا ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم، فلذا خص هذا الموضع بزيادة تحذير فقال: وليأخذوا حذرهم وجعله كالآلة، فأمر بأخذه وعطف عليه‏.

2. ﴿وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ قال الواحديّ: فيه رخصة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة، قال أبو السعود: وتكليف كل من الطائفتين بما ذكر، لما أن الاشتغال بالصلاة مظنة لإلقاء السلاح والإعراض عن غيرها، ومئنّة لهجوم العدوّ، كما ينطق به قوله تعالى:‏ ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي تمنوا ﴿لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ﴾ فتضعونها ﴿وَأَمْتِعَتِكُمْ﴾ أي: حوائجكم التي بها بلاغكم‏ ﴿فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾ أي يحملون حملة واحدة فيقتلونكم، فهذا علة الأمر بأخذ السلاح، والأمر بذلك للوجوب، لقوله تعالى: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي لا حرج ولا إثم عليكم‏ ﴿إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ﴾ يثقل معه حمل السلاح‏ ﴿أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ يثقل عليكم حمله‏ ﴿أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ﴾

3. أخرج البخاريّ‏ عن ابن عباس قال نزلت: ﴿إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾، في عبد الرحمن بن عوف كان جريحا، ثم أمروا مع ذلك بالتيقظ والاحتياط، فقيل‏ ﴿وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ لئلا يهجم عليكم العدوّ غيلة ﴿إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ أي: يهانون به، ويقال: شديدا، قال أبو السعود: هذا تعليل الأمر بأخذ الحذر، أي: أعدّ لهم عذابا مهينا، بأن يخذلهم وينصركم عليهم، فاهتموا بأموركم ولا تهملوا في مباشرة الأسباب، كي يحل بهم عذابه بأيديكم، وقيل: لما كان الأمر بالحذر من العدوّ موهما لتوقع غلبته واعتزازه، نفي ذلك الإيهام بأنه الله تعالى ينصرهم ويهين عدوّهم لتقوى قلوبهم.

4. قال بعض المفسرين: اختلف في المأمور بأخذ السلاح في قوله تعالى:‏ ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ فقيل: هم الطائفة الذين يواجهون العدوّ، وهذا ظاهر، وقيل: بل هم الطائفة المصلون، وأراد ما لا يشغل عن الصلاة من الدرع والخنجر والسيف ونحو ذلك، وقيل: للطائفتين، وهو قول القاسم، قال الناصر في (الانتصاف): والظاهر أن المخاطب بأخذ الأسلحة المصلون، إذ من لم يصل إنما أعد للحرس، فالظاهر الاستغناء عن أمرهم بذلك وتنبيههم عليه، وهم إنما أخروا الصلاة لذلك، أما المصلون فهم في مظنة طرح الأسلحة لأنهم لم يعتادوا حملها في الصلاة، فنبهوا على أنهم لا ينبغي لهم طرح الأسلحة وإن كانوا في الصلاة، لضرورة الخوف وخشية الغرة، وأيضا فصنيع الآية يعطي ذلك، لأنه قال‏ ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ وعقب ذلك بقوله: ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ فالظاهر رجوع الضمير إليهم، وحيث يعاد إلى غير المصلين يحتاج إلى تكلف في صحة العود إليهم، بدلالة قوة الكلام عليهم، وإن لم يذكروا، وناقش الناصر أيضا، الزمخشريّ في جعله المراد بقوله تعالى:‏ ﴿فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا﴾ غير المصلين، فقال: الظاهر أن معنى السجود هاهنا الصلاة، وقد عبر عنها بالسجود كثيرا، والمراد: فإذا صلت الطائفة، (أي أتمت صلاتها) فليكونوا من ورائكم.

5. قال أبو علي الجرجانيّ صاحب النظم: قوله تعالى: ﴿وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ يدل على أنه كان يجوز للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذرا، غير غافل من كيد العدوّ، والذي نزل به القرآن في هذا الموضع هو وجه الحذر، لأن العدوّ يومئذ بذات الرقاع كان مستقبل القبلة، فالمسلمون كانوا مستدبرين القبلة، ومتى استقبلوا القبلة صاروا مستدبرين لعدوّهم، فلا جرم، أمروا بأن يصيروا طائفتين: طائفة في وجه العدوّ، وطائفة مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مستقبل القبلة، وأما حين كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعسفان وببطن نخل، فإنه لم يفرق أصحابه طائفتين، وذلك لأن العدوّ كان مستدبر القبلة، والمسلمون كانوا مستقبلين لها، فكانوا يرون العدوّ حال كونهم في الصلاة، فلم يحتاجوا إلى الاحتراس إلا عند السجود، فلا جرم، لما سجد الصف الأول بقي الصف الثاني يحرسونهم، فلما فرغوا من السجود، وقاموا، تأخروا وتقدم الصف الثاني وسجدوا، وكان الصف الأول حال قيامهم يحرسون الصف الثاني، فثبت بما ذكرنا أن قوله تعالى: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ يدل على جواز كل هذه الوجوه، والذي يدل على أن المراد من هذه الآية ما ذكرناه، أنا لو لم نحملها على هذا الوجه لصار تكرارا محضا من غير فائدة، ولوقع فعل الرسول بعسفان وببطن نخل على خلاف نص القرآن، وإنه غير جائز، نقله الرازيّ.

6. وقال الخطابيّ: (صلاة الخوف أنواع صلاها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في أيام مختلفة وأشكال متباينة، يتحرى في ذلك كله ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ في الحراسة، فهي مع اختلاف صورها متفقة المعنى)، وأنواعها مبينة في شروح السنة.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/310.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ في الصلاة كما فعل الذين من قبلهم، وزاد هنا الأمر بأخذ الحذر وهو التيقظ والاحتراس من المخاوف، وتقدم تحقيق القول فيه في تفسير قوله تعالى من هذه السورة بل من هذا السياق فيها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء: 71]

2. قيل إن حكمة الأمر بالحذر للطائفة الثانية: هو أن العدو قلّما يتنبه في أول الصلاة لكون المسلمين فيها بل يظن إذا رآهم صفا أنهم قد اصطفوا للقتال، واستعدوا للحرب والنزال، فإذا رآهم سجدوا علم أنهم في صلاة، فيخشى أن يميل على الطائفة الأخرى عند قيامها في الصلاة، كما يتربص ذلك بهم عند كل غفلة.

3. وقد بين تعالى لنا هذا معللا به الأمر بأخذ الحذر والسلاح حتى في الصلاة فقال: ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾ أي تمنى أعداؤكم الذين كفروا بالله وبما أنزل عليكم لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم التي بها بلاغكم في سفركم بأن تشغلكم صلاتكم عنها فيميلون حينئذ عليكم أي يحملون عليكم حملة واحدة وأنتم مشغولون بالصلاة واضعون للسلاح، تاركون حماية المتاع والزاد، فيصيبون منكم غرة فيقتلون من استطاعوا قتله، وينتهبون ما استطاعوا أخذه، فلا تغفلوا عنهم، ولا تجعلوا لهم سبيلا عليكم، وهذا الخطاب عام لجميع المؤمنين لا يختص الطائفة الحارسة دون المصلية، وهو استئناف بياني على سنة القرآن في قرن الأحكام بعللها وحكمها.

4. ولما كان الخطاب عاما لجميع المحاربين، وكان يعرض لبعض الناس من العذر ما يشق معه حمل السلاح، عقب على العزيمة بالرخصة لصاحب العذر فقال: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ أي ولا تضييق عليكم ولا إثم في وضع أسلحتكم إذا أصابكم أذى من مطر تمطرونه فيشق عليكم حمل السلاح مع ثقله في ثيابكم، وربما أفسد الماء السلاح لأنه سبب الصدأ، أو إذا كنتم مرضى بالجراح أو غير الجراح من العلل، ولكن يجب عليكم حتى في هذه الحال أن تأخذوا حذركم ولا تغفلوا عن أنفسكم، ولا عن أسلحتكم وأمتعتكم، فإن عدوكم لا يغفل عنكم ولا يرحمكم، والضرورة تتقدر بقدرها.

5. ﴿إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ بما هداكم إليه من أسباب النصر، كإعداد كل ما يستطاع من القوة وأخذ الحذر، والاعتصام بالصلاة والصبر، ورجاء ما عند الله من الرضوان والأجر، فالظاهر أن العذاب ذا الإهانة هو عذاب الغلب وانتصار المسلمين عليهم إذا قاموا بما أمرهم الله تعالى به من الأسباب النفسية والعملية، وسيأتي قريبا ما يؤيد هذا المعنى في هذا السياق كالأمر بذكر الله كثيرا، وقوله: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 104]، ويؤيده قوله تعالى: ﴿﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 14]، وقال جمهور المفسرين إن المراد به عذاب الآخرة، وإنه مع ذلك ينفي ما ربما يخطر في البال من أن الأمر بأخذ السلاح والحذر يشعر بتوقع النصر للأعداء.

6. روى البخاري أن الرخصة في الآية للمرضى نزلت في عبد الرحمن بن عوف وكان جريحا، والمعنى عندي أن الآية قد انطبق حكمها عليه وإلا فهي قد نزلت في سياق الآيات بأحكام أعم وأشمل، وروى أحمد والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن عياش الرزقي قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في عسفان فاستقبلنا المشركون وعليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الظهر، فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ الحديث وروى الترمذي نحوه عن أبي هريرة، وابن جرير نحوه عن جابر بن عبد الله وابن عباس اه من لباب النقول.

7. ورد في أداء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لصلاة الخوف جماعة كيفيات متعددة أوصلها بعضهم إلى سبعة عشر، والتحقيق ما قاله ابن القيم من أن أصولها ست وأن ما زاد على ذلك فإنما هو من اختلاف الرواة في وقائعها واعتمده الحافظ ابن حجر، والحق أن كل كيفية منها صحت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فهي جائزة.

8. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بكيفية صلاة الخوف، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/305.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ أي ولتأت الطائفة الأخرى الذين لم يصلوا لاشتغالهم بالحراسة فليصلوا كما صلت الطائفة الأولى، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم في الصلاة كما فعل الذين من قبلهم.

2. وحكمة الأمر بالحذر للطائفة الثانية: أن العدوّ قلّما يتنبه أول الصلاة لبدء المسلمين فيها، إذ هو إذا رآهم صفا ظن أنهم قد اصطفوا للقتال واستعدوا للحرب والنزال، فإذا رآهم سجدوا علم أنهم في صلاة، فيخشى أن يميل على الطائفة الأخرى عند قيامها في الصلاة كما يتربص ذلك بهم عند كل غفلة.

3. وقد بين الله تعالى علة الأمر بأخذ الحذر والسلاح حتى في الصلاة بقوله: ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾ أي تمنى أعداؤكم الذين كفروا بالله وبما أنزل عليكم لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم التي بها بلاغكم في سفركم بأن تشغلكم صلاتكم عنها فيميلون حينئذ عليكم ويحملون حملة واحدة وأنتم مشغولون بالصلاة واضعون السلاح تاركون حماية المتاع والزاد فيصيبون منكم غرّة فيقتلون من استطاعوا قتله وينتهبون ما استطاعوا نهبه فلا تغفلوا عنهم.

4. وقد يعرض لبعض المحاربين أعذار يشق فيها حمل السلاح ومن ثم رخص في تركه لصاحب العذر فقال: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ أي ولا إثم عليكم في وضع أسلحتكم إذا أصابكم أذى من مطر تمطرونه فيشق عليكم حمل السلاح مع ثقله في ثيابكم، وربما أفسد الماء السلاح إذ يجعله يصدأ، أو إذا كنتم مرضى بالجراح أو غير الجراح من العلل، ولكن يجب عليكم في جميع الأحوال أن تأخذوا حذركم ولا تغفلوا عن أنفسكم ولا عن أسلحتكم وأمتعتكم، فإن عدوكم لا يغفل عنكم ولا يرحمكم، والضرورات تقدر بقدرها.

5. ﴿إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ بما هداكم إليه من أسباب النصر بأخذ الأهبة والحذر والاعتصام بالصبر والصلاة رجاء ما عند الله من المثوبة والأجر، فهذا العذاب المهين هو عذاب غلب المسلمين وانتصارهم عليهم إذا قاموا بما أمرهم الله تعالى به، ويؤيده قوله تعالى:‏ ﴿فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لَا يَرْجُونَ﴾، وقوله: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ﴾

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/142.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾.. وهي رغبة في نفوس الكفار تجاه المؤمنين دائمة، والسنون تتوالى، والقرون تمر، فتؤكد هذه الحقيقة، التي وضعها الله في قلوب المجموعة المؤمنة الأولى، وهو يضع لها الخطط العامة للمعركة، كما يضع لها الخطة الحركية أحيانا، على هذا النحو الذي رأينا في صلاة الخوف.

2. على أن هذا الحذر، وهذه التعبئة النفسية، وهذا الاستعداد بالسلاح المستمر، ليس من شأنه أن يوقع المسلمين في المشقة، فهم يأخذون منه بقدر الطاقة: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ﴾ فحمل السلاح في هذه الحالة يشق، ولا يفيد، ويكفي أخذ الحذر؛ وتوقع عون الله ونصره: ﴿وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾..

3. ولعل هذا الاحتياط، وهذه اليقظة، وهذا الحذر يكون أداة ووسيلة لتحقيق العذاب المهين الذي أعده الله للكافرين، فيكون المؤمنون هم ستار قدرته؛ وأداة مشيئته.. وهي الطمأنينة مع ذلك الحذر؛ والثقة في النصر على قوم أعد الله لهم عذابا مهينا.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/750.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ﴾ هو استثناء من الأمر الوارد في قوله تعالى: ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾.. فهذا الأمر ليس على إطلاقه، وليس على سبيل الوجوب، وإنما هو للنصح والإرشاد، وأن للمجاهدين أن يتحلّلوا منه، وأن يضعوا أسلحتهم، إذا كان بهم أذى من مطر، أو كانوا في حال ضعف.. فإن وضع الأسلحة في تلك الحال فرصة لهم لتجديد نشاطهم وقوّتهم.. والأمر في هذا كله متروك للحال التي عليها المجاهدون، ولتقديرهم للموقف، وأن لهم أن يأخذوا منه ما يرون، وأن يدعو ما يرون، والمهمّ في هذا كله أن يكونوا على حذر، وأن يقدّروا الموقف بهذا الاعتبار، وأنهم في وجه عدوّ لا يتورع أن يبغتهم وهم بين يدى الله.

2. ولهذا جاء قوله تعالى: ﴿وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ مختتما هذا التوجيه، الذي يقوم أولا وآخرا على أخذ الحيطة والحذر من هذا العدوّ الراصد المتربص!

3. ﴿إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ تعزية للمسلمين، وتسلية لهم من هذه الأحوال التي يلبسونها من هذا العدوّ، الذي لا يوقّر حرمات الله، ولا يرعى للمسلمين حرمة فيها، بل إنه يتخذها ذريعة للنيل من المجاهدين، والتنكيل بهم.. فليحتمل المجاهدون هذا الموقف، الذي يجمعون فيه بين أداء الصلاة، والجهاد في سبيل الله.. فإن الله قد أعدّ لهم الكرامة والرضوان، على حين أعد لعدوّهم العذاب والهوان..

4. هذا، وللقائد الذي يقوم على أمر المسلمين في الجهاد ما للنبيّ في هذا الموقف، حيث يصلى بالمسلمين الصلاة للّه، على هذا الوجه الذي شرعه للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/885.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ استعمل الأخذ في حقيقته ومجازه: لأنّ أخذ الحذر مجاز، إذ حقيقة الأخذ التناول، وهو مجاز في التلبّس بالشيء والثبات عليه، وأخذ الأسلحة حقيقة، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [الحشر: 9]، فإنّ تبوّأالإيمان الدخول فيه والاتّصاف به بعد الخروج من الكفر، وجاء بصيغة الأمر دون أن يقول: ولا جناح عليكم أن تأخذوا أسلحتكم، لأنّ أخذ السلاح فيه مصلحة شرعية.

2. ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، ودّهم هذا معروف إذ هو شأن كلّ محارب، فليس ذلك المعنى المعروف هو المقصود من الآية، إنّما المقصود أنّهم ودّوا ودّا مستقربا عندهم، لظنّهم أنّ اشتغال المسلمين بأمور دينهم يباعد بينهم وبين مصالح دنياهم جهلا من‏ المشركين لحقيقة الدين، فطمعوا أن تلهيهم الصلاة عن الاستعداد لأعدائهم، فنبه الله المؤمنين إلى ذلك كيلا يكونوا عند ظنّ المشركين، وليعوّدهم بالأخذ بالحزم في كلّ الأمور، وليريهم أنّ صلاح الدين والدنيا صنوان.

3. الأسلحة جمع سلاح، وهو اسم جنس لآلة الحرب كلّها من الحديد، وهي السيف والرمح والنبل والحربة وليس الدرع ولا الخوذة ولا التّرس بسلاح، وهو يذكّر ويؤنث، والتذكير أفصح، ولذلك جمعوه على أسلحة وهو من زنات جمع المذكّر.

4. الأمتعة جمع متاع وهو كلّ ما ينتفع به من عروض وأثاث، ويدخل في ذلك ما له عون في الحرب كالسروج ولامة الحرب كالدروع والخوذات.

5. ﴿فَيَمِيلُونَ﴾ مفرّع عن قوله: ﴿لَوْ تَغْفُلُونَ﴾، وهو محلّ الودّ، أي ودّوا غفلتكم ليميلوا عليكم، والميل: العدول عن الوسط إلى الطرف، ويطلق على العدول عن شيء كان معه إلى شيء آخر، كما هنا، أي فيعدلون عن معسكرهم إلى جيشكم، ولمّا كان المقصود من الميل هنا الكرّ والشدّ، عدّي ب (على)، أي فيشدّون عليكم في حال غفلتكم، وانتصب (ميلة) على المفعولية المطلقة لبيان العدد، أي شدّة مفردة، واستعملت صيغة المرّة هنا كناية عن القوّة والشدّة، وذلك أنّ الفعل الشديد القويّ يأتي بالغرض منه سريعا دون معاودة علاج، فلا يتكرّر الفعل لتحصيل الغرض، وأكّد معنى المرّة المستفاد من صيغة فعلة بقوله: ﴿وَاحِدَةٌ﴾ تنبيها على قصد معنى الكناية لئلّا يتوهّم أنّ المصدر لمجرّد التأكيد لقوله: ﴿فَيَمِيلُونَ﴾

6. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ﴾ رخصة لهم في وضع الأسلحة عند المشقّة، وقد صار ما هو أكمل في أداء الصلاة رخصة هنا، لأنّ الأمور بمقاصدها وما يحصل عنها من المصالح والمفاسد، ولذلك قيّد الرخصة مع أخذ الحذر، وسبب الرخصة أنّ في المطر شاغلا للفريقين كليهما، وأمّا المرض فموجب للرخصة لخصوص المريض.

7. ﴿إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ تذييل لتشجيع المسلمين؛ لأنّه لمّا كرّر الأمر بأخذ السلاح والحذر، خيف أن تثور في نفوس المسلمين مخافة من العدوّ من شدّة التحذير منه، فعقّب ذلك بأنّ الله أعدّ لهم عذابا مهينا، وهو عذاب الهزيمة والقتل والأسر، كالذي في قوله: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ﴾ [التوبة: 14]، فليس الأمر بأخذ الحذر والسلاح إلّا لتحقيق أسباب ما أعدّ الله لهم، لأنّ الله إذا أراد أمرا هيّأأسبابه، وفيه‏ تعليم المسلمين أن يطلبوا المسبّبات من أسبابها، أي إن أخذتم حذركم أمنتم من عدوّكم.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/243.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. السبب في شرعية صلاة الخوف هو الحذر، والخوف من المباغتة، ولذا كرر الله الأمر بأخذ الأسلحة والحذر، وبين ما يوده الكفار فقال: ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾، في هذا النص الكريم إشارة إلى السبب في صلاة الخوف، وهو ترقب العدو لحال المسلمين، عساهم يجدون منفذا ينفذون منه إلى صفوفهم، أو ثغرة يدخلون منها، أو غفلة ينتهزونها، فكان الحذر أن تسد عليهم كل المنافذ التي ينفذون منها لتحقيق مآربهم، فلا يصح للمسلمين أن يغفلوا بالعبادة عن الجهاد، ولا يتركوا العبادة.

2. معنى: ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ تمنى الذين كفروا، وهم أعداؤكم الذين نصبوا راية العداوة لكم، أن تأخذكم الغفلة عن أسلحتكم التي بها شوكتكم وقوتكم، وعن أمتعتكم التي فيها زادكم وبها تستمرون على القتال من غير أن يصيبكم جوع أو عرى، وأنهم يريدون هذه الغفلة ليميلوا بقوتهم وكلكلهم عليكم، فيكونوا ثقلاء الوطأة، ويضربونكم الضربة القاصمة الفاصلة، فيما يتوهمون ويزعمون! وهذا معنى قوله سبحانه: ﴿فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾، أي يثقلون الوطأة عليكم ويضربونكم الضربة المستأصلة في زعمهم ووهمهم!.

3. في هذه النصوص كلها نجد الأمر المتكرر بوجوب أخذ الأهبة دائما، وحمل السلاح باستمرار، ولكن قد يتعسر حمل السلاح، وهنا يرخص في عدم حمله، مع أخذ الحذر، بحيث يكون في مكان قريب، كي يعمل عند أول صيحة، ولذا قال سبحانه: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ لا إثم عليكم في أن تضعوا أسلحتكم في أغمدتها، إذا كان في الميدان مطر شديد يعوق استعمالها ولقاء الأعداء، فإنها إن لم توضع تعرضت للصدإ، ووراء ذلك تلفها، والاحتياط لسلامتها في الميدان واجب، وكذلك من يكون به مرض يغمد سلاحه حتى يستطيع استعماله، فإن تركه من غير استعمال يفسده، فلا يصلح عند وجوبه.

4. ﴿أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ الخطاب للجميع، ويراد به البعض من وجه؛ لأنه يبعد أن يكون جميع الجيش مريضا، فالله تعالى يرخص للمريض في أن يدع القتال حتى يشفى، فليس على المريض‏ حرج، وهو خطاب للجميع من جهة أخرى؛ إذ على الجماعة أن توفر للمريض راحته، فتغنيه عن حمل السلاح وهو مريض، وتحمل هي عنه العبء ومع أنه لا إثم في وضع السلاح عند المطر المعوق الذى يعد أذى، ولا يعد غيثا، والترخيص للمريض في غمد سلاحه، فلا بد من الحذر، فيترقبون من العدو دائما انتهازه للفرصة، ومن ذلك أن يتقلدوا السيوف‏، ولو أنها في أغمدتها، ووضع الرقباء، وبث العيون على العدو ليعرفوا حاله، فعسى أنه يحاول الهجوم من ثغرة أو طريق سهلة عليه، وإن ذلك لأن الله تعالى يريد أن تعلو كلمة الإيمان في الدنيا، وتنخفض كلمة الكفر.

5. ﴿إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ أي إن الله أعد للجاحدين به وبالحق عذابا مذلا لهم في الدنيا والآخرة، ففي الآخرة بالعذاب الشديد الذى لا نجاة منه، وفى الدنيا بالغلب عليهم، وإذهاب صولتهم، ودولتهم، وذلك يكون بأخذ الأهبة والحذر، والاعتماد على الله تعالى، وقد أكد سبحانه العذاب المهين الذى ينزل بهم في الآخرة بثلاثة مؤكدات: بحرف (إن)، وبأن الله تعالى هو الذى ينزله، وما أراده الله تعالى لا بد واقع، وبالتعبير بكلمة (أعد)، فإنها تفيد أنه هيئ لهم فعلا، وهو يستقبلهم، وهم صائرون إليه لا محالة.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1833.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾، هذا بيان للحكمة التي استدعت تشريع الصلاة في هذه الحال بهذا الشكل، وهي ان لا يغتنم العدو فرصة اشتغال المسلمين المقاتلين بالصلاة، فيباغتهم، وينال منهم ما يريد.

2. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ﴾، بعد أن أمر سبحانه المصلين بحمل السلاح أذن لهم بتركه، إن ثقل عليهم حمله بسبب المطر أو المرض، ولكنه تعالى أوجب عليهم الحيطة والتيقظ، كي لا يصيب العدو منهم غرة.

3. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾، المراد بالصلاة هنا صلاة الخوف وبقضائها الفراغ منها، والمعنى أن ذكر الله حسن على كل حال، لا في الصلاة فقط، قال الامام علي عليه السلام: افترض الله من ألسنتكم الذكر، وأوصاكم بالتقوى، وجعلها منتهى حاجته من خلقه، وقال ابن العربي في الجزء الرابع من الفتوحات المكية: من حاز على ذكر الله في قيامه وقعوده واضطجاعه فقد حاز الوجود.

4. ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ المراد بالكتاب ان الصلوات الخمس مكتوبة ومفروضة، والمراد بالموقوت انها محدودة بأوقات معينة صباحا ومساء، والقصد انه متى وضعت الحرب أوزارها، وزال الخوف فعليكم ان تؤدوا الصلاة في أوقاتها، ولا تتهاونوا بها، وتكلمنا عن الصلاة واهتمام الإسلام بها فيما سبق من الآيات، وان تركها يؤدي إلى الكفر.

5. سؤال وإشكال: الآية أوجبت صلاة الخوف، حيث كان القتال بالسيف والرمح والخنجر، أما الآن فقد تطور سلاح الحرب إلى ما نعلم من آلاته الجهنمية، وعليه ينبغي ارتفاع صلاة الخوف لارتفاع موضوعها، والجواب: ان السبب الموجب لهذه الصلاة هو الخوف من حيث هو بصرف النظر عن الحرب وآلاته قديمة كانت، أو حديثة، فإذا حصل الخوف بسبب غير الحرب جاز قصرها كما وكيفا، قال صاحب الجواهر: (إذا خاف من سيل أو سبع أو حية أو حريق، أو غير ذلك جاز أن يصلي صلاة شدة الخوف، فيقصر عددا وكيفية، لعدم الفرق في أسباب الخوف المسوغة، فقد سئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام عمن خاف من سبع أو لص: كيف يصلي؟ قال يكبر ويومئ إيماء)، ومرة ثانية نقول مؤكدين: ان الصلاة لا تسقط بحال، وان كل إنسان يؤديها بالنحو الذي يستطيعه من القول والفعل، فإن عجز عنهما أومأ إلى الصلاة بطرفه، فإن عجز عن الإيماء استحضر صورة الصلاة في ذهنه.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/426.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ نوع من الاستعارة لطيف، وهو جعل الحذر آلة للدفاع نظير السلاح حيث نسب إليه الأخذ الذي نسب إلى الأسلحة، كما قيل.

2. ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ﴾ إلى قوله: ﴿وَاحِدَةٌ﴾ في مقام التعليل للحكم المشرع، والمعنى ظاهر.

3.﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ إلى آخر الآية، تخفيف آخر وهو أنهم إن كانوا يتأذون من مطر ينزل عليهم أو كان بعضهم مرضى فلا مانع من أن يضعوا أسلحتهم لكن يجب عليهم مع ذلك أن يأخذوا حذرهم، ولا يغفلوا عن الذين كفروا فهم مهتمون بهم.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/63.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ جعل الحذر كالشيء الذي يؤخذ لدفع شر العدو كالدرع والدرقة، ولعله خص الطائفة الثانية: بذكر الحذر؛ لأن العدو يزداد حرصهم على مهاجمة المصلين في الركعة الثانية: من حيث هي عندهم فرصة كادت أن تفوت.

2. ﴿فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ﴾ في حال غفلتكم ﴿مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾ وهي الهجوم، ولعله سمي ميلة لكونه على غفلة، كأن العدو كانوا متجهين إلى أمورهم غير مقبلين عليكم فعدلوا إليكم، وتوحيد الْمَيلة لاجتماع العدو عليها ووقوعها دفعة واحدة لشدة عداوتهم وحرصهم على الأسلحة والأمتعة، والمتاع: ما ينتفع به، وهذا تأكيد للحث على الحذر والتيقظ وأخذ الأسلحة، أو تعليل لقصر الصلاة على الصفة المذكورة.

3. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ هذا ترخيص في وضع الأسلحة حالة المطر لمشقة حملها مع المطر، وكون حالة المطر ليست مظنة هجوم العدو، أما حالة المرض فلضعف المريض عن حمله، ومع هذا الترخيص أمِروا بأخذ الحذر، وهو الانتباه والنظر إلى جهة العدو في الحين بعد الحين.

4. ﴿إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ بيان لحال الكافرين أن الله مكنهم من محاربة المسلمين؛ لأنه أعد لهم عذاباً مهيناً، ولولا أنه يجزيهم بجرائمهم لما مكنهم، فلإعداد العذاب مكنهم؛ ولتمكينهم وجب أن تحذروهم؛ لأنه أعد لهم عذاباً جامعاً بين الألم والإهانة.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/157.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ﴾ من العدو، بأن يكونوا في حالة استعداد دائم للدفاع والمقاومة ﴿وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ ليستعملوها عند الحاجة، لأن العدو لا يؤمن له، فيمكن أن يستغل فرصة انشغالهم بالصلاة، فيهجم عليهم‏ ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾ في هجوم صاعق.

2. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ لا تستطيعون حمل السلاح في حال الصلاة، ﴿أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ لتمنعوا العدو من الهجوم عند أول بادرة عدائية من قبله‏ ﴿إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ في الدنيا والآخرة.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/431.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تشير الآية إلى أنّ أداء الصّلاة بهذا الأسلوب من أجل أن يبقى المسلمون في مأمن من أي هجوم مباغت قد يقوم به العدو عليهم، لأنّه يتحين الفرص دائما لتنفيذ هذا الهجوم، ويتمنى لو تخلى المسلمون وغفلوا عن أسلحتهم وأمتعتهم ليشنّ عليهم حملته الغادرة: ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾.

2. ولما كان حمل السلاح والوسائل الدفاعية الأخرى صعبا أثناء أداء الصّلاة في بعض الأحيان مثل أن يكون بعض المسلمين يعانون من ضعف بدني أو مرضي أو جراحات تحملوها من ساحة القتال، فيشق عليهم بذلك حمل السلاح أو وسائل الدفاع الأخرى، لذلك تأمر الآية في الختام قائلة: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ﴾، وهذا مشروط بأن يحتفظ المسلمون بما يقيهم من وسائل الدفاع كالدروع، وأمثالها حتى في حالة وجود العذر كالضعف أو المرض، وذلك لحماية أنفسهم إذا باغتهم العدو بهجومه إلى أن تصلهم الإمدادات حيث تقول الآية: ﴿وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾

3. إنّ القصد من الاحتفاظ بالمتاع المطلوب من المسلمين في الآية الكريمة هو أن يراقب المسلمون وسائلهم الأخرى الحربية والشخصية والغذائية والحيوانات التي جلبوها لتكون غذاء لهم، بالإضافة إلى الدفاع عن أنفسهم.

4. من الواضح أنّ أداء الصّلاة جماعة ليست واجبة في الإسلام، لكنّها من المستحبات المؤكدة كثيرا، وهذه الآية تعتبر أحد الأدلة الحية على التأكيد بالنسبة لأهمية مراسيم صلاة الجماعة في الإسلام، بحيث إنّ هذه الصّلاة ـ صلاة الجماعة ـ تقام حتى في ساحة الحرب بالاستفادة من أسلوب وطريقة صلاة الخوف، ويستدل من هذا الموضوع على أهمية الصّلاة نفسها بالإضافة إلى أهمية إقامتها جماعة، ومن الطبيعي أن يكون لصلاة الجماعة تأثير نفسي ومعنوي على المقاتلين من زاوية التنسيق في الهدف، كما أنّ لها تأثير على العدو ـ أيضا ـ حين يرى أنّ المسلمين حتى وهم في ساحة القتال يهتمون بواجباتهم الدينية.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/426.

98. الذكر والصلاة على كل الأحوال والأوقات

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈98⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 103]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنه بلغه أن قوما يذكرون الله قياما، فأتاهم، فقال: ما هذا؟ قالوا: سمعنا الله يقول: ﴿فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾، فقال: إنما هذه إذا لم يستطع الرجل أن يصلي قائما؛ صلى قاعدا(1).

__________

(1) ابن أبي شيبة ٢/٤٨٧.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا﴾، يقول: لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما، ثم عذر أهلها في حال عذر، غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، فقال: ﴿فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾، بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَقُعُودًا﴾، قال يصلي الرجل قائما، فإن لم يستطع فقاعدا(2).

3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾، يعني: مفروضا(3).

4. روي أنّه قال: قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك(4).. وصلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، وصلى بي من الغد الظهر حين كان ظل كل شيء مثله، وصلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إلي، فقال: يا محمد، هذا الوقت وقت النبيين قبلك، الوقت ما بين هذين الوقتين(5).

5. روي أنّه قال: لما كان قتال أحد، وأصاب المسلمين ما أصاب؛ صعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الجبل، فجاء أبو سفيان، فقال: يا محمد، ألا تخرج! ألا تخرج! الحرب سجال، يوم لنا ويوم لكم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأصحابه: (أجيبوه)، فقالوا: لا سواء، لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان: عزى لنا، ولا عزى لكم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (قولوا له: الله مولانا، ولا مولى لكم)، قال أبو سفيان: اعل هبل، اعل هبل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (قولوا له: الله أعلى وأجل)، فقال أبو سفيان: موعدنا وموعدكم بدر الصغرى، ونام المسلمون وبهم الكلوم، قال عكرمة أنّه قال: وفيها أنزلت: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ وفيهم أنزلت: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾(6).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٤٦.

(2) ابن أبي حاتم ٤/١٠٥٦.

(3) ابن جرير ٧/٤٤٩.

(4) الشراك: أحد سيور النعل التي تكون على وجهها، وأراد بقدر الشِّراك: الوقت الذي لا يجوز لأحد أن يتقدمه في صلاة الظهر، يعني: فوق ظل الزوال، فقدَّره بالشِّراك لدقته، وهو أقل ما يتبين به زيادة الظل حتى يعرف منه ميل الشمس عن وسط السماء، النهاية (شرك، قيد).

(5) أحمد ٥/٢٠٢.

(6) ابن جرير ٧/٤٥٥.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾، يعني: إذا نزل(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٥٦.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾، قال إذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾ يقول: فإذا أمنتم ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ يقول: أتموها(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٤٧.

(2) عزاه السيوطي إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وأخرج الشطر الثاني ابن جرير ٧/٤٤٨.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾: يعني مفروضا، وليس يعني وقت فوتها، إذا جاز ذلك الوقت ثم صلاها لم تكن صلاته هذه مؤداة، ولو كان كذلك لهلك سليمان بن داود عليه السلام حين صلاها لغير وقتها، ولكنه متى ما ذكرها صلاها(1).

2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً: أي موجوبا(2).

3. روي أنّه قال: قول الله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ يعني كتابا مفروضا، وليس يعني وقت وقتها، إن جاز ذلك الوقت ثم صلاها لم تكن صلاته مؤداة، لو كان ذلك كذلك لهلك سليمان بن داود عليه السلام حين صلاها لغير وقتها، ولكنه متى ما ذكرها صلاها(3).

4. روي أنّه سئل عن هذه الآية ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾؟ فقال:(إن للصلاة وقتا، والأمر فيه واسع يقدم مرة ويؤخر مرة، إلا الجمعة فإنما هو وقت واحد، وإنما عنى الله ﴿كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ أي واجبا، يعني بها أنها الفريضة(4).

5. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ لو عنى أنها في وقت لا تقبل إلا فيه كانت مصيبة، ولكن متى أديتها فقد أديتها(4).

6. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ إنما يعني وجوبها على المؤمنين، ولو كان كما يقولون إذن لهلك سليمان بن داود عليه السلام حين قال: ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ لأنه لو صلاها قبل ذلك كانت في وقت، وليس صلاة أطول وقتا من صلاة العصر(4).

7. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ يعني بذلك وجوبها على المؤمنين، وليس لها وقت، من تركه أفرط في الصلاة، ولكن لها تضييع(4).

8. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ فقال: كتاب واجب، أما إنه ليس مثل وقت الحج ولا رمضان إذا فاتك فقد فاتك، وإن الصلاة إذا صليت فقد صليت(4).

__________

(1) الكافي 3/294.

(2) الكافي 3/272.

(3) تفسير العيّاشي 1/273.

(4) تفسير العيّاشي 1/274.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾، يقول: إذا اطمأننتم في أمصاركم فأتموا الصلاة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾، قال عبد الله بن مسعود: إن للصلاة وقتا كوقت الحج(1).

__________

(1) عبد الرزاق ١/١٧٢.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ معناه فرض مفروض(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 122.

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾، قال منجما، كلما مضى نجم جاء نجم آخر، يقول: كلما مضى وقت جاء وقت آخر(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٥١.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ كتابا ثابتا، وليس إن عجلت قليلا أو أخرت قليلا بالذي يضرك ما لم تضيع تلك الإضاعة، فإن الله عز وجل يقول لقوم: ﴿أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ لو كانت موقوتا كما يقولون لهلك الناس، ولكان الأمر ضيقا، ولكنها كانت على المؤمنين كتابا موجوبا(2).

3. روي أنّه قال: إن الله قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ قال: إنما عنى وجوبها على المؤمنين، ولم يعن غيره(3).

__________

(1) الكافي 3/270.

(2) تفسير العيّاشي 1/273.

(3) تفسير العيّاشي 1/274.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾، يعني: فريضة معلومة، كقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ [البقرة: ٢١٦]، يعني: فرض عليكم القتال(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٠٣.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾، قال إذا اطمأننتم فصلوا الصلاة، لا تصلها راكبا، ولا ماشيا، ولا قاعدا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾، قال مفروضا، الموقوت: المفروض(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٤٧.

(2) ابن جرير ٧/٤٤٩.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ﴾، أي: إذا فرغتم منها، فاذكروا الله على كل حال، تستعينون به بالنصر على عدوكم، كقوله تعالى: ﴿فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا﴾ أمر بالثبات عند لقاء العدو؛ وذكر الله؛ استعانة منه على عدوهم؛ فعلى ذلك الأول.

ب. ويحتمل: أن يكون معناه: إذا أردتم أن تقضوا الصلاة فاذكروا الله كثيرًا في أي حال كنتم: في حال القيام، والركوع، والسجود؛ كقوله: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ معناه: إذا كنت فيهم فأردت أن تقيم لهم الصلاة فافعل كذا؛ فعلى ذلك الأول.

2. ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ وهذا مقابل قوله: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ،﴾ الآية، وقد ذكرنا أن القصر يحتمل وجوهًا:

أ. يحتمل: القصر للضرب في الأرض، وهو القصر في عدد الركعات.

ب. ويحتمل: القصر للمرض والخوف، فهو قصر الإيماء، فنحن نأخذ بذلك كله على اختلاف الأحوال؛ فعلى ذلك قوله: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾ يحتمل الوجوه التي ذكرنا، أي: اذا اطماننتم صرتم أصحاء؛ فصلوا كذا صلاة الأصحاء.

ج. ويحتمل: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾: أمنتم من الخوف؛ فصلوا كذا.

د. ويحتمل ـ أيضًا ـ: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾ إذا رجعتم وأقمتم، فصلوا صلاة المقيمين أربعًا؛ فهذا على ما ذكرنا مقابل قوله: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ الآية.

3. ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ أي: مفروضا، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، وقيل: ﴿كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ أي: لها وقت كوقت الحج، وهو قول ابن مسعود، وقيل: ﴿كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾: محدودا، فنحن نقول بهذا كله، نقول: إنها مفروضة، موقوتة، محدودة؛ على ما قيل.

4. الآية ترد على من يقول بأن على الكافر الصلاة؛ لأنه أخبر أنها كانت على المؤمنين كتابًا موقوتا، وهم يقولون: على الكافرين والمؤمنين، لكنها كتبت على المؤمنين فعلا، وعلى الكافرين قولا؛ هذا معنى قوله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾، أي: فعلها على المؤمنين كتابا موقوتا.

5. ثم يحتمل قوله: ﴿كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ أي: لم تزل هي كانت كتابًا موقوتًا على الأمم السالفة، لا أن هذه الأمة خصت بها؛ كقول إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾، وكقول عيسى عليه السلام: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ﴾، وكقول موسى عليه السلام: ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾.

6. ويحتمل قوله تعالى: ﴿كَانَتْ﴾، أي: الصلوات صارت ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ بعد أن لم تكن، وكل ذلك محتمل، ولكن لا نشهد على الله أنه أراد كذا، وكذلك في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾

7. ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾ نتأول فيه ونعمل فيه بالوجوه كلها على اختلاف الأحوال؛ لاحتماله الوجوه التي ذكرنا؛ فلا نقطع القول فيه، ولا نشهد على الله أنه أراد كذا، وهكذا السبيل في جميع المجتهدات أن نعمل بها، ولا نشهد على الله أنه أراد ذا أو أمر بذا.

8. ذكر الله تعالى ما بَيَّنَ فرض الصلاة ووجوبها في غير موضع من كتابه، منها الآية التي ذكرناها، ومنها قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾، ولم تدل هذه الآيات على كيفية الصلاة وعددها؛ إنما دلت على وجوبها ولزوم فرضها، ودلت آيات أخر على عددها وجمل أوقاتها:

أ. قال الله سبحانه وتعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾، فهذه ثلاثة أوقات ذكر الله تعالى فيهن ثلاث صلوات، روي عن مجاهد، عن ابن عَبَّاسٍ قال سالته عن قول الله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾؛ قال إذا زالت الشمس عن بطن السماء، لصلاة: الظهر ﴿إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ وقال: بذا صلاة المغرب، وعن ابن عمر قال: ﴿لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ قال دلوكها: زيغها بعد نصف النهار، وهو وقت الظهر، وعن ابن عَبَّاسٍ قال دلوكها: زوالها، وعن عبد الله قال: ﴿لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ قال زوالها وقد روي عن ابن مسعود وابن عَبَّاسٍ قالا: ﴿لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾: غروبها، فأيَّ التأويلين كان دلوك الشمس فقد أوجب فيه صلاة، وصلاة عند غسق الليل، وصلاة عند الفجر؛ فهذه ثلاث صلوات.

ب. قال الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾؛ فأحد طرفي النهار يجب فيه صلاة الفجر، وقد ذكر في هذه الآية، والطرف الآخر قبل غروب الشمس؛ فهذه أربعة، وهي العصر، وروي عن الحسن أن الصلوات الخمس مجموعة في هذه الآية: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾، قال صلاة الفجر، والطرف الآخر: الظهر والعصر: ﴿وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾، المغرب والعشاء، فأي التأويلين كان فإن صلاة العصر مذكورة في هذه الآية.

ج. وعن ابن عَبَّاسٍ قال جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة: ﴿فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ﴾، المغرب والعشاء، ﴿وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾: الفجر، ﴿وَعَشِيًّا﴾ العصر، ﴿وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾: الظهر.

د. وعن ابن عَبَّاسٍ أيضًا: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾؛ قال الصلاة المكتوبة.

9. دلت هذه الآيات أن الله تعالى فرض على عباده في كل يوم وليلة خمس صلوات، وبيِّن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كيف فرضت الصلاة؟ ومتى فرضت؟

أ. وروي عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (خَمْسُ صَلَوَاتٍ كتبهَا اللهُ تعالى عَلَى العِبَادِ، فَمَنْ أَتَى بِهِنَّ لَم يُضَيعْ مِنْ حَقهِنَّ شَيئا اسْتِخْفَافًا بِحَقهِنَّ؛ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللهَ عَهْدًا أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَم يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيسَ لَهُ عِنْدَ اللهَ عَهْدٌ: إِنْ شَاءَ عَذبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ)

ب. وعن أبي معبد، عن ابن عَبَّاسٍ ما أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين بعث مُعاذًا إلى اليمن قال: (إِنَكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ الكِتَابِ، فَادْعُهُم إِلَى شَهادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَني رَسُولُ اللهَ، فَإِنْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأعْلِمْهُم أَن اللهَ سبحانه وتعالى فَرَضَ عَلَيهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُل يَوْمٍ وَلَيلَةٍ)، وعلى ذلك اتفاق الأمة لا اختلاف بينهم، إلا أن قومًا زعموا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أوجب بعد ذلك الوتر؛ بقوله: (إِنَّ اللهَ زَادَكُمْ صَلَاةً، ألَا وَهِيَ الوَتْرُ)

10. ليس في الكتاب ذكر ولا دليل وجوبه؛ فتركنا الكلام فيها، لكن أبا حنيفة سلك فيها مسلك المكتوبة؛ احتياطا.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٤٨.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا﴾ يعني بذكر الله التعظيم والتسبيح والتقديس في خوف وغيره ولم يعذر واحداً من تركه إلا مغلوباً على عقله ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أي أمنتم بعد خوفكم فأتموا الركوع والسجود من غير إيماء ولا مشي.. وقد روينا عن أمير المؤمنين أنه كان صلاته وصلاة أصحابه يوم الهرير على ظهور الخيل بالتسبيح والتكبير.

2. ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ أي فرضاً واجباً مؤقتة في أوقاتها.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/194.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا﴾ يعني ذكر الله بالتعظيم والتسبيح والتقديس بعد صلاته في خوفٍ وغيره: قال ابن عباس: لم يعذر أحد في تركه إلا مغلوباً على عقله.

2. في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: يعني فإذا أقمتم بعد السفر فأتموا الصلاة من غير قصر، وهذا قول الحسن، وقتادة، ومجاهد.

ب. الثاني: معناه فإذا أمِنْتم بعد خوفكم فأتموا الركوع والسجود من غير إيماء ولا مشي، وهذا قول السدي.

3. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: أي فرضاً واجباً، وهو قول ابن عباس، والحسن.

ب. الثاني: يعني مؤقتة في أوقاتها ونجومها، كلما مضى نجم جاء نجم، وهو قول ابن مسعود، وزيد بن أسلم.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٢٧).

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى الآية انكم أيها المؤمنون إذا فرغتم من صلاتكم ـ وأنتم مواقفوا عدوكم ـ التي بيناها لكم‏ ﴿فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا﴾ أي في حال قيامكم وفي حال قعودكم، ومضطجعين على جنوبكم.

2. والجنب: الجانب تقول نزلت جنبه أي جانبه بالتعظيم له والدعاء لأنفسكم بالظفر على عدوكم لعل الله أن يظفركم بهم، وينصركم عليهم، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وهو قول ابن عباس وأكثر المفسرين.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾:

أ. قال قوم: معناه إذا استقررتم في أوطانكم وأقمتم في أمصاركم‏ ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ يعني أتموا التي أذن لكم في قصرها في حال خوفكم في سفركم وضربكم في الأرض، ذهب إليه مجاهد، وقتادة.

ب. قال آخرون معناه إذا استقررتم بزوال الخوف من عدوكم، وحدوث الامن لكم، فأقيموا الصلاة أي فأتموا حدودها بركوعها، وسجودها، ذهب إليه السدي، وابن زيد، ومجاهد في رواية أخرى، وهو اختيار الجبائي، والبلخي والطبري.

4. أقوى التأويلين قول من قال: إذا زال خوفكم من عدوكم، وأمنتم فأتموا الصلاة بحدودها غير قاصرين لها عن شيء من حدودها، لأنه تعالى عرف عبادة الواجب عليهم من فرض صلاتهم بهاتين الآيتين في حالين:

أ. إحداهما: حال شدة الخوف أذن لهم فيها بقصر الصلاة على ما بيناه من قصر حدودها، والاقتصار على الإيماء.

ب. الثانية: حال غير شدة الخوف أمرهم فيها بإقامة حدودها وإتمامها على ما مضى من معاقبة بعضهم بعضاً في الصلاة خلف أئمتها، لأنه قال: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ فلما قال: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ كان معلوماً انه يريد إذا اطمأنتم من الحال التي لم تكونوا فيها مقيمين صلاتكم فأقيموا الصلاة بجميع حدودها غير قاصرين لها، وقال ابن مسعود نزلت الآية في صلاة المرضى، والظاهر بغيره أشبه.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾:

أ. قال قوم: معناه ان الصلاة كانت على المؤمنين فريضة مفروضة، ذهب إليه عطية العوفي، وابن عباس، وابن زيد، والسدي، ومجاهد، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام وأبي عبد الله عليه السلام.

ب. وقال آخرون: كانت على المؤمنين فرضاً واجباً، ذهب إليه الحسن، ومجاهد، في رواية، وابن عباس في رواية وأبو جعفر في رواية أخرى عنه، والمعنيان متقاربان بل هما واحد.

ج. وقال آخرون: معناه كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً يعني منجماً يؤدونها في أنجمها ذهب إليه ابن مسعود وزيد بن أسلم وقتادة.

6. هذه الأقوال، متقاربة، لأن ما كان مفروضاً فهو واجب وما كان واجباً أداؤه في وقت بعد وقت فمفروض منجم، واختار الجبائي والطبري القول الأخير قال: لأن موقوتاً مشتق من الوقت فكأنه قال هي عليهم فرض في وقت وجوب أدائها.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/312.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. اطمأن به المكان يطمئن طمأنينة، وطأمنته منه سكنت.

ب. أصل الكتابة الجمع، يقال: كتبت الكتاب أكتبه، والكتاب: الفرض أيضًا والحكم، والكتاب: القدر، قال النابغة:

çيا ابنَةَ عَمِّي كِتابُ الله أَخرَجَني...عَنكُم وَهَل أَمنَعَنَّ الله ما فَعَلاé

قال ابن الأعرابي: الكاتب عنده العالم.

ج. الوقت: الزمان، والموقوت: الشيء المحدود، والميقات: مصير الوقت، قال أبو مسلم: العرب تقول للشيء المحدود موقوت، وفي الذي يضرب له أجله يُسَمَّى له وقت موقت.

2. لما بين الله تعالى حال الخوف أوجب الانقطاع إلى الله تعالى، وذكره في كل حال واستنجاز وعده، فقال تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ﴾ أي فرغتم أيها المؤمنون من صلاة الخوف وأنتم بإزاء العدو ﴿فَاذْكُرُوا اللهَ﴾ على كل أحوالكم.

3. في قوله تعالى: ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ قولان:

أ. الأول: اذكروه بالتعظيم والتسبيح والتحميد والدعاء والاستعانة به على العدو بكل حال، عن الحسن وابن عباس والأصم، وقيل: فاذكروه بتوحيده.

ب. الثاني: أنه أراد بالذكر الصلاة يعني إذا عزمتم على الصلاة فأدوها قائمين إن استطعتم، وقعودًا إن لم تستطيعوا القيام، وعلى جنوبكم إن كنتم مرضى لا تستطيعون القعود، وروي ذلك عن ابن عباس، قال القاضي: الأول أقرب، والثاني يبعد؛ لأنه يصير كأنه قيل: إذا قضيتم الصلاة فصلوا.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾:

أ. قيل: هو الرجوع إلى الوطن في دار الإقامة، فيجب إتمام الصلاة من غير قصر، عن الحسن وقتادة ومجاهد.

ب. وقيل: زوال الخوف والمرض والقتال، فيجب أن تتموا ركوعها وسجودها غير مشاة ولا ركبان، عن السدي وابن زيد.

5. ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ يعني فأتموها ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ قيل: فرضًا موقتًا، عن الأخفش وأبي مسلم.

6. تدل الآية الكريمة على:

أ. وجوب ذكر الله في جميع الأحوال، فإن حمل على الثناء والتسبيح والدعاء فلأنه تقوية على العدو، وإن حمل على الذكر بالقلب ـ وهو المعرفة واعتقاد التوحيد ـ فهو واجب في جميع الأحوال وهو أقرب، قال ابن عباس: لم يعذر أحد في تركه إلا مغلوبًا على عقله، وإن حمل على الصلاة فتدل على أن كل من عجز عن ذِكْرٍ سقط عنه.

ب. فساد قول الْمُجْبِرَةِ؛ لأنه لو كان الكافر لا يقدر على الإيمان وغير المصلي لا يقدر على الصلاة، أو كان القاعد لا يقدر على القيام لكان معذورًا، ويسقط عنه ما لا يقدر عليه.

ج. أن عند زوال السفر يجب الإتمام، وكذلك عند زوال الخوف.

د. أن الصلاة مؤقتة، وكل صلاة لها أول وآخر، فصلاة الصبح أولها: بطلوع الفجر وآخرها عند طلوع الشمس بالاتفاق، وأول الظهر عند زوال الشمس، واختلفوا في آخره، قيل: حين يسير ظل كل شيء مثله في الزوال وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي، ورواية عن أبي حنيفة، وقيل: مثليه، روي ذلك عن أبي حنيفة، وأول وقت العصر على الخلاف الذي ذكرنا في آخر الظهر؛ لأنه يدخل عند خروج وقت الظهر، وروي عن أبي حنيفة رواية أخرى أنه إذا صار ظل كل شيء مثله خرج وقت الظهر، ولا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه، ثم اتفقوا أن آخر وقت العصر عند غروب الشمس، وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس وآخره إذا غاب الشفق، واختلفوا فقال أبو حنيفة: الشفق البياض، وأكثر العلماء على أنه الحمرة وهو رواية عن أبي حنيفة، ثم يدخل وقت العشاء الآخرة إلى أن يطلع الفجر، واختلفوا فقال أبو حنيفة: الوجوب يتعلق بآخر الوقت، وما يفعل في أوله مراعي، وقال الشافعي: يتعلق بأول الوقت وله تأخيره من غير بدل، وقال محمد بن شجاع وجماعة: الوجوب يتعلق بأول الوقت وجوبًا موسعًا له تركه إلى بذل هو العزم ومضيق بآخره، فأما أي وقت أفضل فقال أبو حنيفة: الإسفار في الفجر، وفي الظهر في الشتاء التعجيل، وفي العصر التأخير إلى وقت تكون الشمس بيضاء نقية، والتعجيل في المغرب والتأخير في العشاء إلى نصف الليل، وقال الشافعي: التعجيل في الجميع أفضل، واختلفوا فقال أبو حنيفة: للمغرب وقتان، وقال الشافعي: وقت واحد، واختلفوا في الجمع، فقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا بعرفة والمزدلفة، وقال الشافعي: يجوز في السفر والمطر، ومن الصلاة ما يكون وقته معتبرًا سببه كصلاة الكسوف والاستسقاء، وصلاة الجنازة، فأما صلاة العيد فموقتة، والجمعة وقتها وقت الظهر، والوتر موقت من بعد العشاء إلى طلوع الفجر، والنوافل منها ما يختص بوقت كسنن الصلاة والتراويح ونحوها، ومنها ما لا يختص، وفي الأوقات ما تكره فيه الصلاة، ومنها ما يختار، وتفصيل ذلك في كتب الفقه.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/52.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اطمأن الشيء أي سكن، وطأمنه، وطمأنه: سكنه، وقد قيل: اطبأن بالباء، بمعنى اطمأن.

2. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ﴾ معناه: فإذا فرغتم من صلاتكم أيها المؤمنون، وأنتم مواقفو عدوكم ﴿فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا﴾ أي: في حال قيامكم وقعودكم ﴿وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ أي مضطجعين.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾:

أ. قيل: ﴿وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ في موضع نصب، عطفا على ما قبله من الحال: أي ادعوا الله في هذه الأحوال، لعله ينصركم على عدوكم، ويظفركم بهم، مثل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ عن ابن عباس، وأكثر المفسرين.

ب. وقيل: معناه فإذا أردتم الصلاة، فصلوا قياما إذا كنتم أصحاء، وقعودا إذا كنتم مرضى، لا تقدرون على القيام، وعلى جنوبكم إذا لم تقدروا على القعود، عن ابن مسعود، وروي أنه قال عقيب تفسير الآية: (لم يعذر الله أحدا في ترك ذكره إلا المغلوب على عقله)

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾:

أ. قيل: معناه فإذا استقررتم في أوطانكم، وأقمتم في أمصاركم، فأتموا الصلاة التي أذن لكم في قصرها، عن مجاهد، وقتادة.

ب. وقيل: معناه إذا استقررتم بزوال خوفكم، فأتموا حدود الصلاة، عن السدي، وابن زيد، ومجاهد، في رواية أخرى.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾:

أ. قيل: معناه إن الصلاة كانت على المؤمنين واجبة مفروضة، عن ابن عباس، وعطية العوفي، والسدي، ومجاهد، وهو المروي عن الباقر، والصادق عليه السلام.

ب. وقيل: معناه فرضا موقوتا: أي منجما تؤدونها في أنجمها، عن ابن مسعود، وقتادة، والقولان متقاربان.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/157.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ﴾ يعني صلاة الخوف، و﴿قَضَيْتُمُ﴾ بمعنى: فرغتم.

2. ﴿فَاذْكُرُوا اللهَ﴾ في هذا الذّكر قولان:

أ. أحدهما: أنه الذّكر لله في غير الصّلاة، وهذا قول ابن عباس، والجمهور قالوا: وهو التّسبيح، والتّكبير، والدّعاء، والشّكر.

ب. الثاني: أنّه الصلاة، فيكون المعنى: فصلّوا قياما، فإن لم تستطيعوا فقعودا، فإن لم تستطيعوا فعلى جنوبكم، هذا قول ابن مسعود.

3. في المراد بالطّمأنينة قولان:

أ. أحدهما: أنه الرجوع إلى الوطن عن السّفر، وهو قول الحسن، ومجاهد وقتادة.

ب. الثاني: أنه الأمن بعد الخوف، وهو قول السّدّيّ، والزجّاج، وأبي سليمان الدّمشقيّ.

4. في إقامة الصّلاة قولان:

أ. أحدهما: إتمامها، قاله مجاهد وقتادة والزجّاج وابن قتيبة.

ب. الثاني: أنه إقامة ركوعها وسجودها، وما يجب فيها مما قد يترك في حالة الخوف، هذا قول السّدّيّ.

5. ﴿كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ أي: فرضا، وفي ﴿مَوْقُوتًا﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه بمعنى المفروض، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسّدّيّ، وابن زيد.

ب. الثاني: أنه الموقّت في أوقات معلومة، وهو قول ابن مسعود، وقتادة، وزيد بن أسلم، وابن قتيبة.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/464.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ قولان:

أ. الأول: فإذا قضيتم صلاة الخوف فواظبوا على ذكر الله في جميع الأحوال، فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدو جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه.

ب. الثاني: أن المراد بالذكر الصلاة، يعني صلوا قياما حال اشتغالكم بالمسابقة والمقارعة، وقعودا حال اشتغالكم بالرمي، وعلى جنوبكم حال ما تكثر الجراحات فيكم فتسقطون على الأرض، فإذا اطمأننتم حين تضع الحرب أوزارها فأقيموا الصلاة، فاقضوا ما صليتم في حال المسابقة، هذا ظاهر على مذهب الشافعي في إيجاب الصلاة على المحارب في حال المسابقة إذا حضر وقتها، وإذا اطمأنوا فعليهم القضاء إلا أن على هذا القول إشكالا، وهو أن يصير تقدير الآية: فإذا قضيتم الصلاة فصلوا، وذلك بعيد لأن حمل لفظ الذكر على الصلاة مجاز فلا يصار إليه إلا لضرورة.

2. ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ هذه الآية مسبوقة بحكمين: أولهما: بيان القصر وهو صلاة السفر، الثاني: صلاة الخوف، ثم إن قوله: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾ يحتمل نقيض الأمرين، فيحتمل أن يكون المراد من الاطمئنان أن لا يبقى الإنسان مسافرا بل يصير مقيما، وعلى هذا التقدير يكون المراد: فإذا صرتم مقيمين فأقيموا الصلاة تامة من غير قصر ألبتة، ويحتمل أن يكون المراد من الاطمئنان أن لا يبقى الإنسان مضطرب القلب، بل يصير ساكن القلب ساكن النفس بسبب أنه زال الخوف، وعلى هذا التقدير يكون المراد: فإذا زال الخوف عنكم فأقيموا الصلاة على الحالة التي كنتم تعرفونها، ولا تغيروا شيئا من أحوالها وهيآتها.

3. ثم لما بالغ الله سبحانه وتعالى في شرح أقسام الصلاة فذكر صلاة السفر، ثم ذكر بعد ذلك صلاة الخوف ختم هذه الآية بقوله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ أي فرضا موقتا، والمراد بالكتاب هاهنا المكتوب كأنه قيل: مكتوبة موقوتة، ثم حذف الهاء من الموقوت كما جعل المصدر موضع المفعول والمصدر مذكر، ومعنى الموقوت أنها كتبت عليهم في أوقات موقتة، يقال: وقته ووقته مخففا، وقرئ وإذا الرسل وقتت [المرسلات: 11] بالتخفيف.

4. بيّن الله تعالى في هذه الآية أن وجوب الصلاة مقدّر بأوقات مخصوصة، إلا أنه تعالى أجمل ذكر الأوقات هاهنا وبينها في سائر الآيات، وهي خمسة:

أ. أحدها: قوله تعالى:‏ ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة: 238] فقوله: ﴿الصَّلَوَاتِ﴾ يدل على وجوب صلوات ثلاثة، وقوله: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ يمنع أن يكون أحد تلك الثلاثة وإلا لزم التكرار، فلا بد وأن تكون زائدة على الثلاثة ولا يجوز أن يكون الواجب أربعة، وإلا لم يحصل فيها وسطى، فلا بد من جعلها خمسة لتحصل الوسطى، وكما دلت هذه الآية على وجوب خمس صلوات دلت على عدم وجوب الوتر، وإلا لصارت الصلوات الواجبة ستة، فحينئذ لا تحصل الوسطى فهذه الآية دلت على أن الواجب خمس صلوات إلا أنها غير دالة على بيان أوقاتها.

ب. ثانيها: قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ [الإسراء: 78] فالواجب من الدلوك إلى الغسق هو الظهر والعصر، والواجب من الغسق إلى الفجر هو المغرب والعشاء والواجب في الفجر هو صلاة الصبح، وهذه الآية توهم أن للظهر والعصر وقتا واحدا وللمغرب والعشاء وقتا واحدا.

ج. ثالثها: قوله سبحانه‏ ﴿فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: 17] والمراد منه الصلاتان الواقعتان في طرفي النهار وهما المغرب والصبح، ثم قال: ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ [الروم: 18] فقوله: ﴿وَعَشِيًّا﴾ المراد منه الصلاة الواقعة في محض الليل وهي صلاة العشاء، وقوله: ﴿وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ المراد الصلاة الواقعة في محض النهار، وهي صلاة الظهر كما قدم في قوله: ﴿حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: 17] صلاة الليل على صلاة النهار في الذكر، فكذلك قدم في قوله: ﴿وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ صلاة الليل على صلاة النهار في الذكر، فصارت الصلوات الأربعة مذكورة في هذه الآية، وأما صلاة العصر فقد أفردها الله تعالى بالذكر في قوله: ﴿وَالْعَصْرِ﴾ تشريفا لها بالإفراد بالذكر.

د. رابعها: قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ [هود: 114] فقوله: ﴿طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾ يفيد وجوب صلاة الصبح ووجوب صلاة العصر لأنهما كالواقعتين على الطرفين، وإن كانت صلاة الصبح واقعة قبل حدوث الطرف الأول وصلاة العصر واقعة قبل حدوث الطرف الثاني، وقوله: ﴿وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ يفيد وجوب المغرب والعشاء، وكان بعضهم يستدل بهذه الآية على وجوب الوتر قال لأن الزلف جمع، وأقله ثلاثة، فلا بدّ وأن يجب ثلاث صلوات في الليل عملا بقوله: ﴿وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾

هـ. خامسها: قوله تعالى: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ﴾ فقوله: ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ [طه: 130] إشارة إلى الصبح والعصر، وهو كقوله: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ [هود: 114]، وقوله: ﴿وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ﴾ إشارة إلى المغرب والعشاء، وهو كقوله: ﴿وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ وكما احتجوا بقوله: ﴿وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ فكذلك احتجوا عليه بقوله: ﴿وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ﴾ لأن قوله آناء الليل جمع وأقله ثلاثة، فهذا مجموع الآيات الدالة على الأوقات الخمسة للصلوات الخمس.

5. تقدير الصلوات بهذه الأوقات الخمسة في نهاية الحسن والجمال نظرا إلى المعقول، وبيانه أن لكل شيء من أحوال هذا العالم مراتب خمسة:

أ. أولها: مرتبة الحدوث والدخول في الوجود، وهو كما يولد الإنسان ويبقى في النشو والنماء إلى مدة معلومة، وهذه المدة تسمى سن النشو والنماء.

ب. الثانية: مدة الوقوف، وهو أن يبقى ذلك الشيء على صفة كماله من غير زيادة ولا نقصان وهذه المدة تسمى سن الشباب.

ج. الثالثة: مدة الكهولة، وهو أن يظهر في الإنسان نقصان خفي، وهذه المدة تسمى سن الكهولة.

د. الرابعة: مدة الشيخوخة، وهو أن يظهر في الإنسان نقصانات ظاهرة جليلة إلى أن يموت ويهلك، وتسمى هذه المدة سن الشيخوخة.

هـ. الخامسة: أن تبقى آثاره بعد موته مدة، ثم بالآخرة تنمحي تلك الآثار وتبطل وتزول، ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر.

6. هذه المراتب الخمسة حاصلة لجميع حوادث هذا العالم سواء كان إنسانا أو غيره من الحيوانات أو النباتات، والشمس حصل لها بحسب طلوعها وغروبها هذه الأحوال الخمس، وذلك لأنها حين تطلع من مشرقها يشبه حالها حال المولود عندما يولد، ثم لا يزال يزداد ارتفاعها ويقوى نورها ويشتد حرها إلى أن تبلغ إلى وسط السماء، فتقف هناك ساعة ثم تنحدر ويظهر فيها نقصانات خفية إلى وقت العصر، ثم من وقت العصر يظهر فيها نقصانات ظاهرة فيضعف ضوؤها ويضعف حرها، ويزداد انحطاطها وقوتها إلى الغروب، ثم إذا غربت يبقى بعض آثارها في أفق المغرب وهو الشفق، ثم تنمحي تلك الآثار وتصير الشمس كأنها ما كانت موجودة في العالم، فلما حصلت هذه الأحوال الخمسة لها وهي أمور عجيبة لا يقدر عليها إلا الله تعالى لا جرم‏ أوجب الله تعالى عند كل واحد من هذه الأحوال الخمسة لها صلاة، فأوجب عند قرب الشمس من الطلوع صلاة الفجر شكرا للنعمة العظيمة الحاصلة بسبب زوال تلك الظلمة وحصول النور، وبسبب زوال النوم الذي هو كالموت وحصول اليقظة التي هي كالحياة، ولما وصلت الشمس إلى غاية الارتفاع ثم ظهر فيها أثر الانحطاط أوجب صلاة الظهر تعظيما للخالق القادر على قلب أحوال الأجرام العلوية والسفلية من الضد إلى الضد، فجعل الشمس بعد غاية ارتفاعها واستعلائها منحطة عن ذلك العلو وآخذة في سن الكهولة، وهو النقصان الخفي، ثم لما انقضت مدة الكهولة ودخلت في أول زمان الشيخوخة أوجب تعالى صلاة العصر، ونعم ما قال الشافعي: أن أول العصر هو أن يصير ظل كل شيء مثليه، وذلك لأن من هذا الوقت تظهر النقصانات الظاهرة، ألا ترى أن من أول وقت الظهر إلى وقت العصر على قول الشافعي ما ازداد الظل إلا مثل الشيء ثم ان في زمان الطيف يصير ظله مثليه، وذلك يدل على أن من الوقت الذي يصير ظل الشيء مثلا له تأخذ الشمس في النقصانات الظاهرة، ثم إذا غربت الشمس أشبهت هذه الحالة ما إذا مات الإنسان، فلا جرم أوجب الله تعالى عند هذه الحالة صلاة المغرب، ثم لما غرب الشفق فكأنه انمحت آثار الشمس ولم يبق منها في الدنيا خبر ولا أثر، فلا جرم أوجب الله تعالى صلاة العشاء، فثبت أن إيجاب الصلوات الخمس في هذه الأوقات الخمسة مطابق للقوانين العقلية والأصول الحكمية، والله أعلم بأسرار أفعاله.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/209.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ﴾ معناه فرغتم من صلاة الخوف وهذا يدل على أن القضاء يستعمل فيما قد فعل قي وقته، ومنه قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ وقد تقدم.

2. ﴿فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ ذهب الجمهور إلى أن هذا الذكر المأمور به إنما هو إثر صلاة الخوف، أي إذا فرغتم من الصلاة فاذكروا الله بالقلب واللسان، على أي حال كنتم ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ وأديموا ذكره بالتكبير والتهليل والدعاء بالنصر لا سيما في حال القتال، ونظيره ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ويقال: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ﴾ بمعنى إذا صليتم في دار الحرب فصلوا على الدواب، أو قياما أو قعودا أو على جنوبكم إن لم تستطيعوا القيام، إذا كان خوفا أو مرضا، كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ وقال قوم: هذه الآية نظيرة التي في آل عمران)، فروي أن عبد الله بن مسعود رأى الناس يضجون في المسجد فقال: ما هذه الضجة؟ قالوا: أليس الله تعالى يقول ﴿فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾؟ قال إنما يعني بهذا الصلاة المكتوبة إن لم تستطع قائما فقاعدا، وإن لم [تستطع] فصل على جنبك، فالمراد نفس الصلاة، لأن الصلاة ذكر الله تعالى، وقد اشتملت على الأذكار المفروضة والمسنونة، والقول الأول أظهر.

3. ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾ أي أمنتم، والطمأنينة سكون النفس من الخوف، ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أي فأتوها بأركانها وبكمال هيئتها في السفر، وبكمال عددها في الحضر، ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ أي مؤقتة مفروضة، وقال زيد ابن أسلم: ﴿مَوْقُوتًا﴾ منجما، أي تؤدونها في أنجمها، والمعنى عند أهل اللغة: مفروض لوقت بعينه، يقال: وقته فهو موقوت، ووقته فهو مؤقت، وهذا قول زيد بن أسلم بعينه، وقال: ﴿كِتَابًا﴾ والمصدر مذكر، فلهذا قال: ﴿مَوْقُوتًا﴾

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/373.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿قَضَيْتُمُ﴾ بمعنى: فرغتم من صلاة الخوف، وهو أحد معاني القضاء، ومثله: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾، ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ﴾

2. ﴿فَاذْكُرُوا الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ أي: في جميع الأحوال، حتى في حال القتال، وقد ذهب جمهور العلماء: إلى أن هذا الذكر المأمور به إنما هو إثر صلاة الخوف، أي: إذا فرغتم من الصلاة فاذكروا الله في هذه الأحوال؛ وقيل: معنى قوله: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ﴾: إذا صليتم فصلوا قياما وقعودا أو على جنوبكم، حسبما يقتضيه الحال عند ملاحمة القتال، فهي مثل قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾

3. ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾ أي: أمنتم وسكنت قلوبكم، والطمأنينة: سكون النفس من الخوف‏ ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أي: فأتوا بالصلاة التي دخل وقتها على الصفة المشروعة من الأذكار والأركان، ولا تغفلوا ما أمكن، فإن ذلك إنما هو في حال الخوف، وقيل: المعنى في الآية: أنهم يقضون ما صلوه في حال المسايفة، لأنها حالة قلق وانزعاج وتقصير في الأذكار والأركان، وهو مرويّ عن الشافعيّ، والأوّل أرجح.

4. ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ أي: محدودا معينا، يقال: وقته فهو موقوت ووقّته فهو مؤقّت، والمعنى: إن الله افترض على عباده الصلوات، وكتبها عليهم في أوقاتها المحدودة، لا يجوز لأحد أن يأتي بها في غير ذلك الوقت إلا لعذر شرعي، من نوم أو سهو أو نحوهما.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/589.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ﴾ فرغتم منها، فالقضاء يستعمل بمعنى التأدية في الوقت، كما يستعمل فيها بعد الوقت، كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ﴾ [البقرة: 200]، والمراد الصلاة الواجبة، وذَكَرَ صلاةَ النفل وسائرَ الذكر لله تعالى على كلِّ حال بقوله: ﴿فَاذْكُرُواْ اللهَ قِيَامًا﴾ جمع قائم، ﴿وَقُعُودًا﴾ ولو قدرتم على القيام، جمع قاعد.

2. ﴿وَعَلَىٰ جُنُوبِكُم﴾ أي: وثابتين أو مضطجعين على جنوبكم، قدرتم على القعود أو القيام أو لم تقدروا لخوفٍ أو جراحٍ أو مرضٍ، والمراد: الجَنْب الأيمن مع الاستقبال في الصلاة بالوجه والجسد، وإن لم يمكن إلَّا على الأيسر جاز، وكلُّ ما لم يمكن إلَّا هو جاز، ولو لم يجز في الاختيار، وينوي الاستقبال، وأمَّا الفرض فلا يجوز في قعود أو اضطجاع إلَّا لضرورة خوفٍ أو مرض أو جرح، أو نحو ذلك من الأعذار، ويصلِّيها ولا بدَّ كما أمكنه، ولا يؤخِّرها عن الوقت عندنا وعند الشافعيِّ، ويومئ لِمَا فيه إيماء وهو الركوع والسجود، وأمَّا التحيَّات فلا إيماء لها، ولو أومأ لها بانحناء لفسدت صورة قعودها، يقعد بها على استقامة، كما يقعد الصحيح البدن، فيُلغَزُ بأنَّ لنا ركوعا أخفض من التحيَّات، وهو ركوع المصلِّي بإيماء، وهو أنَّه يومئه للتحيَّات ولتمام قعود السجدة الأولى: دون إيماء الركوع وفوق إيماء السجود.

3. ويجوز أن يكون المعنى: فإذا أردتم قضاء الصلاة ـ أي: أداءها ـ فاذكروا الله، أي: صلُّوا قائمين صلاة المسايفة إن لم تجدوا الصلاة طائفتين مع الإمام واحدة بعد الأخرى، أو قاعدين رامين بالسهام، أو مضطجعين لعدم القدرة بالجراح، ولا قضاء بعد ذلك، ولا إعادة في الوقت ولو زال العذر، وَقَالَ الشافعيُّ بوجوب القضاء بعد الوقت، والإعادة فيه إذا زال العذر؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِذَا اَطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ﴾ اقضوها بعد الوقت، أو أعيدوها في الوقت إن زال العذر.

4. والمذهب أنَّه لا إعادة ولا قضاء، نسبه بعض المحقِّقِينَ للشافعيِّ، وإن صلَّوْها لمظنَّة خوف، كسواد رأوه فتبيَّن في الوقت عدمه فليعيدوها، وأنَّ المعنى: إذا زال العذر فصلُّوا الصلوات الآتية بعده تامَّات بشروطها وشطورها، وزعم أبو حنيفة أنَّ المحارب لا يصلِّي حتَّى يطمئنَّ، وأنَّ معنى الآية ذلك، وليس كذلك، بل يصلِّي كما أمكنه، ولو بتكييفها في قلبه من حيث أعمالها، وأمَّا أقوالها فلا بدَّ منها ما أمكن، والحجَّة قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم)، ولأنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر رجلا بقتل كافر، فذهب إلى قتله وهو يصلِّي في ذهابه إليه بذكر وإيماء خوف أن يموت ولم يصلِّ، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم ينهه، قال ابن عبَّاس عقب تفسير الآية: (لم يعذر الله تعالى أحدًا في ترك ذكره إِلَّا المغلوب على عقله)، يعني: مَن تَرَكَ ذكرَهُ تعالى عدَّه الله مقصِّرًا.

5. ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُومِنِينَ كِتَابًا﴾ فرضًا، لَمَّا جرى في العرف أنَّ الشيء يكتب، لأنَّه لَا بُدَّ منه ولو كان قد لا يجب، استعمل الكتاب في معنى الفرض، أي: مكتوبة، أو ذات كتْب، ﴿مَوْقُوتًا﴾ أي: محدودا لا تُترك، ولا تُقدَّم ولا تُؤخَّر، وأنَّه يؤتى بها كيفما أمكن ولو في طعان أو مسايفة، والمراد: محدودة بأوقاتها وشروطها وعدد ركعاتها في الحضر والسفر والخوف، لا يزاد فيها حال السفر، ولا ينقص في الحضر والسفر.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/274.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ﴾ أي: أتممتم‏ ﴿الصَّلَاةَ﴾ أي: صلاة الخوف، على ما فصّل‏ ﴿فَاذْكُرُوا الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ أي: فداوموا على ذكره تعالى في جميع الأحوال، فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدوّ جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه، قاله الرازيّ، وقال ابن كثير: أمر تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف، وإن كان مشروعا مرغبا فيه أيضا بعد غيرها، ولكن هنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب، وغير ذلك مما ليس يوجد في غيرها كما قال تعالى: (في الأشهر الحرم): ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36]، وإن كان هذا منهيّا عنه في غيرها، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمها.

2. ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾ أي: سكنت قلوبكم بالأمن‏ ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أي: على الحالة التي كنتم تعرفونها، فلا تغيروا شيئا من هيئاتها ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ أي: فرضا موقتا، لا يجوز إخراجها عن أوقاتها وإن لزمها نقائص في رعايتها.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/311.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ﴾ أي أديتموها وأتممتوها في حال الخوف كما بينا لكم من القصر منها، وهو كقوله: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ﴾ [الجمعة: 10]، وقوله: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ [البقرة: 200] ﴿فَاذْكُرُوا الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ أي اذكروه في أنفسكم بتذكر وعده بنصر من ينصرونه في الدنيا وإعداد الثواب والرضوان في الآخرة، وإن ذلك جزاؤهم عنده ما داموا مهتدين بكتابه، جارين على سننه في خلقه، وبألسنتكم بالحمد والتكبير والتسبيح والتهليل والدعاء اذكروه على كل حال تكونون عليها من قيام في المسايفة والمقارعة، وقعود للرمي أو المصارعة، واضطجاع من الجراح أو المخادعة، لتقوى قلوبكم وتعلو هممكم، وتحتقروا متاعب الدنيا ومشاقها في سبيله، فهذا مما يرجى به الثبات والصبر، وما يعقبهما من الفلاح والنصر، وهذا كقوله تعالى في سورة الأنفال ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا الله كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: 46]

2. وإذا كنا مأمورين بالذكر على كل حال نكون عليها في الحرب كما يعطيه السياق، فأجدر بنا أن نؤمر بذلك في كل حال من أحوال السلم كما يعطيه الإطلاق، على أن المؤمن في حرب دائمة وجهاد مستمر، تارة يجاهد الأعداء، وتارة يجاهد الأهواء، ولذلك وصف الله المؤمنين العقلاء بقوله: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 191] وأمرهم بكثرة الذكر في عدة آيات، وذكر الله أعون ما يعين على تربية النفس وإن جهل ذلك الغافلون، روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية: لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء معلوما ثم عذر أهلها في حال عذر، غير الذكر فإن الله لم يجعل له حدا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه، إلا مغلوبا على عقله، فقال: ﴿فَاذْكُرُوا الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال اه.

3. ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾ أي فإذا اطمأنت أنفسكم بالأمن وزال خوفكم من العدو ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أي ائتوا بها مقومة تامة الأركان والحدود والآداب، لا تقصروا من هيئتها كما أذن لكم في حال من أحوال الخوف، ولا من ركعاتها ونظام جماعتها كما أذن لكم في حال أخرى منها، وقيل إن المراد بالاطمئنان الاستقرار في دار الإقامة بعد انتهاء السفر لأنه مظنته، وإذا كان هذا الحكم مقابلا لما تقدم من حكم القصر من الصلاة إذا عرض الخوف، ومن كيفية صلاة الخوف، فالمراد بالاطمئنان فيه ما يقابل السفر والخوف جميعا، كما أن المراد بإقامة الصلاة ما يقابل القصر منها بنوعيه: القصر من هيئتها وحدودها والقصر من عدد ركعاتها، وذلك أن السفر تقابله الإقامة ولم يقل فإذا أقمتم، والخوف يقابله الأمن كما قال في آية أخرى: ﴿وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: 4] ولم يقل هنا فإذا أمنتم، ومعنى الاطمئنان السكون بعد اضطراب وانزعاج فهو يقابل كلا من الخوف والسفر مجتمعين ومنفردين إذ يصدق على من زال خوفه في سفره أنه اطمأن نوعا من الاطمئنان، كما يصدق على من انتهى سفره واستقر في وطنه أنه اطمأن نوعا من الاطمئنان.

4. وهذا المعنى يلتئم مع قول من قال إن الآيتين السابقتين وردتا في صلاة الخوف لا صلاة السفر سواء منهم من قال إن صلاة السفر قد ثبت القصر فيها بالسنة المتواترة ومن قال إنها شرعت ركعتين ركعتين إلا المغرب فقط فإنها ثلاث، ومع قول من قال إنهما جامعتان لصلاة السفر بقصر الرباعية فيه ولصلاة الخوف بأنواعها، ومنها ما تكون فريضة المأموم فيها ركعة واحدة ومنها ما يكون بالإيماء، سواء منهم من تأول في اشتراط الخوف فلم يجعل له مفهوما أو جعل مفهومه منسوخا، ومن فصل فجعل شرط السفر خاصا بقصر الرباعية إلى ثنتين وشرط الخوف خاصا بقصرها إلى ركعة واحدة، أو القصر من هيئتها وأركانها.

5. وذهب الزمخشري إلى أن الآية بمعنى آية البقرة في صلاة الخوف فجعل قضاء الصلاة فيها عبارة عن أدائها، والذكر بمعنى الصلاة، والمعنى فإذا صليتم في حال الخوف والقتال فصلوا قياما مسايفين ومقارعين، وقعودا جاثين على الركب مرامين، وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح، وفسر الاطمئنان بالأمن وإقامة الصلاة بعده بقضاء ما صلّي بهذه الكيفية أي القضاء المصطلح عليه في الفقه وهو إعادة الصلاة بعد فوات وقتها، وجعل الآية بهذا حجة للشافعي في إيجابه الصلاة على المسافر في حال القتال في المعركة كيفما اتفق ثم قضائها في وقت الأمن خلافا لأبي حنيفة الذي يجيز ترك الصلاة في حال القتال وتأخيرها إلى أن يطمئن، وقد خرج الزمخشري بهذا عن الظاهر المتبادر من استعمال لفظي القضاء وإقامة الصلاة في القرآن، وهو الدقيق في فهم اللغة وتفسير أكثر الآيات بما يفصح عنه صميمها المحض، وأسلوبها الغض، فسبحان المنزه عن الذهول والسهو.

6. ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ هذا تذييل في تعليل وجوب المحافظة على الصلاة حتى في وقت الخوف ولو مع القصر منها، أي إن الصلاة كانت في حكم الله ومقتضى حكمته في هداية عباده كتابا أي فرضا مؤكدا ثابتا ثبوت الكتاب في اللوح أو الطرس، موقوتا أي منجّما في أوقات محدودة لابد من أدائها فيها بقدر الإمكان، وإن أداءها في أوقاتها مقصورا منها بشرطه خير من تأخيرها لقضائها تامة، وسنبين ذلك في بحث حكمة التوقيت، روى ابن جرير عن ابن مسعود (رضي الله عنه) أنه قال إن للصلاة وقتا كوقت الحج، وروي عن زيد بن أسلم أنه قال في تفسير) موقوتا) منجما كلما مضى نجم جاء نجم (قال) يقول كلما مضى وقت جاء وقت آخر اه يقال وقت العمل يقته (كوعده يعده) ووقته توقيتا إذا جعل له وقتا يؤدي فيه، ويقال أقته أيضا بالهمزة بدلا من الواو كما يقال وكدت الشيء توكيدا وأكدته تأكيدا.

7. سؤال وإشكال: التشكيك شنشنة لأهل الجدل والمراء من دعاة الملل، ومتعصبي مقلدة المذاهب والنحل، وناهيك بمن يتخذونه صناعة وحرفة كدعاة النصرانية الذين عرفناهم في بلادنا، وقد صار بعض شبهاتهم على الإسلام يروح في سوق المتفرنجين، فيما يوافق أهواءهم من التفصي من عقل الدين، ومن أغرب ذلك اعتراضهم على توقيت الصلاة وزعمهم أنه عبارة عن جعلها رسوما صورية، وعادات بدنية، وأن المعقول أن يوكل كل هذا إلى اختيار المؤمن فيذكر ربه ويناجيه عندما يجد فراغا تسلم به الصلاة من الشواغل، ولا توجد قاعدة من قواعد الشرائع أو القوانين، ولا نظرية من نظريات العلم والفلسفة، ولا مسألة من مسائل الاجتماع والآداب، إلا ويمكن الجدال فيها، والمراء في نفعها أو ضرها، وقد سئلت عن هذه المسألة في شعبان سنة1328 وأنا في القسطنطينية فأجبت عنها جوابا وجيزا مستعجلا، وهذا نص السؤال وقد ورد مع أسئلة أخرى: (إذا كانت الغاية من الصلاة هي الإخلاص للخالق بالقلب مما يؤدي إلى تهذيب الأخلاق وترقية النفوس، وكان من المحتم على كل مسلم أن يقيم صلاته بمواعيد، فكيف يعقل والناس على ما ترى أن كل الصلوات التي تقام في المساجد والبيوت هي بإخلاص عند كل المسلمين؟ وإذا كان الجزء القليل منها هو المقصود من الدين والمبني على الفضيلة فلماذا لا تترك الحرية التامة للناس في تحديد مواعيد إقامة صلواتهم؟ وإلا فما هي الفائدة التي تعود على النفس من الركوع والسجود بلا إخلاص ولا ميل حقيق للعبادة، بل اتباعا للمواعيد، واحتراما للتقاليد؟)، والجواب (2):

أ. الجواب عن هذا يتضح لكم إذا تدبرتم تفاوت البشر في الاستعداد وكون الدين هداية لهم كلهم لا خاصة بمن كان مثلكم قوي الاستعداد لتكميل نفسه بما يعتقد أنه الحق وفيه الفائدة والخير، بحيث لو ترك إلى اجتهاده لا يترك العناية بتكميل إيمانه، وتهذيب نفسه، وشكر ربه وذكره، وقد رأيت بعض المتعلمين في المدارس العالية والباحثين في علم النفس والأخلاق ينتقدون مشروعية توقيت الصلوات والوضوء وقرن مشروعية الغسل بعلل موجبة وعلل غير موجبة على الحتم، ولكن تقتضي الاستحباب، وربما انتقدوا أيضا وجوب غير ذلك من أنواع الطهارة بناء على أن هذه الأمور يجب أن تترك لاجتهاد الإنسان يأتيها عند حاجته إليها، والعقل يحدد ذلك ويوقته!! هؤلاء تربوا على شيء وتعلموا فائدته فحسبوا لاعتيادهم واستحسانهم إياه أنهم اهتدوا إليه بعقولهم ولم يحتاجوا فيه إلى إيجاب موجب ولا فرض شارع، وإن ما جاز عليهم يجوز على غيرهم من الناس، وكلا الحسبانين خطأ فهم قد تربّوا على أعمال من الطهارة (النظافة) منها ما هو مقيد بوقت معين كغسل الأطراف في الصباح (التواليت) وهو مثل الوضوء، أو الغسل العام، ومنها ما هو مقيد بعمل من الأعمال وتعلموا ما فيه من النفع والفائدة فقياس سائر الناس عليهم في البدو والحضر خطأ جليّ.

ب. إن أكثر الناس لا يحافظون على العمل النافع في وقته إذا ترك الأمر فيه إلى اجتهادهم ولذلك ترى البيوت التي لا يلتزم أصحابها أو خدمها كنسها وتنفيض فرشها وأثاثها كل يوم في أوقات معينة عرضة للأوساخ، فتارة تكون نظيفة، وتارة تكون غير نظيفة، وأما الذين يكنسونها وينفضون فرشها وبسطها كل يوم وقت معين وإن لم يلم بها أذى ولا غبار فهي التي تكون نظيفة دائما، فإذا كانت الفلسفة تقضي بأن يزال الوسخ والغبار بالكنس والمسح والتنفيض عند حدوثه وأن يترك المكان أو الفراش أو البساط على حاله إذا لم يطرأ عليه شيء فالتربية التجريبية تقضي بأن تتعهد الأمكنة والأشياء بأسباب النظافة في أوقات معينة ليكون التنظيف خلقا وعادة لا تثقل على الناس ولا سيما عند حدوث أسبابها، فمن اعتاد العمل لدفع الأذى قبل حدوثه أو قبل كثرته فلأن يجتهد في دفعه بعد حدوثه أولى وأسهل، وعندي أن أظهر حكمة للتيمم هي تمثيل حركة طهارة الوضوء عند القيام إلى الصلاة ليكون أمرها مقررا في النفس محتما لا هوادة فيه، وقد قال لي متشل أنس وكيل المالية بمصر في عهد كرومر أنه يوجد إلى الآن في أوربة أناس لا يغتسلون مطلقا إننا نحن الإنكليز أكثر الأوروبيين استحماما وإنما اقتبسنا عادة الاستحمام عن أهل الهند ثم سبقنا جميع الأمم فيها، فتأمل ذلك وقابله بعادات الأمم في النظافة التي هي الركن العظيم للصحة والهناء، واعتبر هذه المسألة في الأعمال العسكرية كالخفارة عند عدم الحاجة إليها لئلا يتهاون فيها عند الحاجة إليها وجعلها مرتبة موقوتة مفروضة بنظام غير موكولة إلى غيرة الأفراد واجتهادهم.

ج. إذا تدبرت ما ذكرنا فاعلم أن الله تعالى شرع الدين لأجل تكميل فطرة الناس وترقية أرواحهم وتزكية نفوسهم، ولا يكون ذلك إلا بالتوحيد الذي يعتقهم من رق العبودية والذلة لأي مخلوق مثلهم، وبشكر نعم الله عليهم باستعمالها في الخير ومنع الشر، ولا عمل يقوي الإيمان والتوحيد ويغذيه ويزع النفس عن الشر ويحبب إليها الخير ويرغبها فيه مثل ذكر الله عز وجل، أي تذكر كماله المطلق وعلمه وحكمته، وفضله ورحمته، وتقرب عبده إليه بالتخلق بصفاته من العلم والحكمة والفضل والرحمة وغير ذلك من صفات الكمال، ولا تنس أن الصلاة شاملة لعدة أنواع من الذكر والشكر كالتكبير والتسبيح وتلاوة القرآن والدعاء، فمن حافظ عليها بحقها قويت مراقبته لله عز وجل وحبه له، أي حبه للكمال المطلق، وبقدر ذلك تنفر نفسه من الشر والنقص، وترغب في الخير والفضل، ولا يحافظ العدد الكثير من طبقات الناس في البدو والحضر على شيء ما لم يكن فرضا معينا وكتابا موقوتا، فهذا النوع من ذكر الله المهذب للنفس (وهو الصلاة) تربية عملية للأمة تشبه الوظائف العسكرية في وجوب اطرادها وعمومها وعدم الهوادة فيها، ومن قصر في هذا القدر القليل من الذكر الموزع على هذه الأوقات الخمسة في اليوم والليلة فهو جدير بأن ينسى ربه ونفسه، ويغرق في بحر من الغفلة، ومن قوي إيمانه وزكت نفسه لا يرضى بهذا القليل من ذكر الله ومناجاته بل يزيد عليه من النافلة ومن أنواع الذكر الأخرى ما شاء الله أن يزيد، ويتحرى في تلك الزيادة أوقات الفراغ والنشاط التي يرجو فيها حضور قلبه وخشوعه، وهو الذي استحسنه السائل، وجملة القول أن الصلوات الخمس إنما كانت موقوتة لتكون مذكرة لجميع أفراد المؤمنين بربهم في الأوقات المختلفة لئلا تحملهم الغفلة على الشر أو التقصير في الخير ولمريدي الكمال في النوافل وسائر الأذكار أن يختاروا الأوقات التي يرونها أوفق بحالهم.

د. وإذا راجعت تفسير ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ [البقرة: 238] تجد بيان ذلك واضحا وبيان كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر إذا واظب المؤمن عليها، ومن لا تحضر قلوبهم في الصلاة على تكرارها فلا صلاة لهم فليجاهدوا أنفسهم.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/312.

(2) تقسيم الفروع هنا ليس منهجيا، وإنما من باب التبسيط فقط

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ أي فإذا أديتم الصلاة على هذه الصورة فاذكروا الله تعالى في أنفسكم بتذكر وعده بنصر من ينصرونه‏ في الدنيا ونيل الثواب في الآخرة، وبألسنتكم بالحمد والتكبير والدعاء وعلى كل حال تكونون عليها من قيام في المسابقة والمقارعة، وقعود للرمى أو المصارعة، واضطجاع من الجراح أو المخادعة، فذكر الله مما يقوّى القلوب ويعلى الهمم، ويجعل متاعب الدنيا حقيرة ومشاقها سهلة، والثبات والصبر يعقبهما الفلاح والنصر كما قال تعالى في سورة الأنفال‏ ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا الله كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾

2. والخلاصة: إننا أمرنا بالذكر على كل حال نكون عليها في الحرب كما يدل على ذلك السياق، فأجدر بأن نؤمر به في حال السلم، إلى أن المؤمنين في جهاد مستمر وحروب دائمة، فهم تارة يجاهدون الأعداء، وأخرى يجاهدون الأهواء، ومن ثم أمرهم الله بالذكر في كثير من الآي كقوله: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ لما في ذلك من تربية النفس وصفاء الروح وتذكر جلال الله وعظمته، وأن كل شيء هيّن في سبيله وابتغاء مرضاته.

3. ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ الاطمئنان: السكون بعد اضطراب وانزعاج: أي فإذا سكنت قلوبكم من الخوف وأمنتم بعد أن تضع الحرب أوزارها فأدوا الصلاة بتعديل أركانها ومراعاة شرائطها ولا تقصروا من هيئتها كما أذن لكم حال الخوف.

4. ثم علل وجوب المحافظة على الصلاة حتى في وقت الخوف ولو مع القصر منها فقال‏ ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ يقال وقت العمل يقته ووقته توقيتا إذا جعل له وقتا يؤدّى فيه: أي إن الصلاة كانت في حكم الله فرضا مؤكدا في أوقات‏ محدودة لا بد من أدائها فيها بقدر الإمكان، فأداؤها في أوقاتها مع القصر بشرطه خير من تأخيرها لتؤدى تامة كاملة.

5. والحكمة في توقيتها في تلك الأوقات المعلومة أن الأشياء إن لم يكن لها وقت معين لا يحافظ عليها الجم الغفير من الناس، إلى ما في هذا النوع من الذكر المهذب للنفس من التربية العملية للأمة الإسلامية، بأن تلتزم أداء أعمالها في أوقات معينة مع عدم الهوادة فيها، ومن قصر فيها في تلك الأوقات الخمسة في اليوم والليلة فهو جدير بأن ينسى ربه ويغرق في بحار الغفلة، ومن قوى إيمانه وزكت نفسه لا يكتفى بهذا القدر القليل من ذكر الله ومناجاته بل يزيد عليه من النوافل ما شاء الله أن يزيد.

6. والخلاصة: إن الصلوات الخمس إنما كانت موقوتة لتكون مذكرة للمؤمن بربه في الأوقات المختلفة، لئلا تحمله الغفلة على الشر أو التقصير في الخير، ولمن يريد الكمال في النوافل والأذكار أن يختار الأوقات التي يرى أنها أوفق بحاله.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/143.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾.. وهكذا يوجههم إلى الاتصال بالله في كل حال، وفي كل وضع، إلى جانب الصلاة.. فهذه هي العدة الكبرى، وهذا هو السلاح الذي لا يبلى..

2. فأما حين الاطمئنان‏ ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾.. أقيموها كاملة تامة بلا قصر ـ قصر الخوف الذي تحدثنا عنه ـ فهي فريضة ذات وقت محدد لأدائها، ومتى زالت أسباب الرخصة في صفة من صفاتها عادت إلى صفتها المفروضة الدائمة.

3. ومن قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾.. يأخذ الظاهرية رأيهم في عدم قضاء الفائتة من الصلاة لأنها لا تجزي ولا تصح، لأن الصلاة لا تصح إلا في ميقاتها المعين، فمتى فات الميقات، فلا سبيل لإقامة الصلاة.. والجمهور على صحة قضاء الفوائت، وعلى تحسين التبكير في الأداء، والكراهية في التأخير.. ولا ندخل بعد هذا في تفصيلات الفروع..

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/750.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. فإذا أمن المجاهدون هجمة العدوّ عليهم، وبعدت يده عن أن تنالهم، رجع المجاهدون إلى حالهم الأولى من إقامة الصلاة على وجهها، وعلى إعطاء كل جوارحهم للّه، وذكر الله.. فيذكرونه قائمين، وعلى جنوبهم، ذكرا متدبرا متفكرا، فليس هناك شيء يشغلهم عن الله، وعن التفكر والتدبّر في ملكوت الله، وملء قلوبهم خشية لجلاله، وعظمته.

2. ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ هو تنويه بشأن الصلاة، وأنها فرض لازم، لا يتحلل منه المسلم بحال أبدا.. فهي كتاب موقوت، كتبه الله على المؤمنين، أي فرضه، وحدّد لكل صلاة وقتها، الذي هو الظرف الحاوي لكل صلاة.. ومن هنا كان رأى بعض الفقهاء أن الصلاة إذا لم تصلّ في وقتها، لا يمكن‏ جبرها بإعادتها في وقت آخر.. كالحج الذي لا يؤدّى إلا في وقت معلوم، وكالصوم في رمضان.. وأنه إذا كان للمفطر في رمضان بعذر مشروع أن يجبر الأيام التي أفطرها بصوم مثلها، أو بإطعام مسكين، على حسب ما هو مبين في أحكام الصوم ـ فانه ليس للمصلّى مثل هذا الذي للصائم، إذ كان للصائم المفطر عذر يقوم له، على حين أنه ليس للمصلّى أي عذر يبيح له أن يدع الصلاة حتى يفوت وقتها، فقد جعل الله الصلاة كتابا موقوتا، وقطع المعاذير فيها على كل ذي عذر.. وعذر واحد هو الذي تسقط فيه الصلاة، وهو ما تكون عليه المرأة في حال الحيض والنفاس، وهو عذر مسقط للصلاة عنها في هذه المدة إسقاطا كاملا، فلا تعيد ما فاتها من صلاة!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/886.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. القضاء: إتمام الشيء كقوله: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة: 200]، والظاهر من قوله: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ﴾ أنّ المراد من الذكر هنا النوافل، أو ذكر اللسان كالتسبيح والتحميد، (فقد كانوا في الأمن يجلسون إلى أن يفرغوا من التسبيح ونحوه)، فرخّص لهم حين الخوف أن يذكروا الله على كلّ حال والمراد القيام والقعود والكون على الجنوب ما كان من ذلك في أحوال الحرب لا لأجل الاستراحة.

2. ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ تفريع عن قوله: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ﴾ [النساء: 101] إلى آخر الآية، فالاطمئنان مراد به القفول من الغزو، لأنّ في الرجوع إلى الأوطان سكونا من قلاقل السفر واضطراب البدن، فإطلاق الاطمئنان عليه يشبه أن يكون حقيقة، وليس المراد الاطمئنان الذي هو عدم الخوف لعدم مناسبته هنا، وقد تقدّم القول في الاطمئنان عند قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ من سورة البقرة [260]

3. ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ صلّوها تامّة ولا تقصروها، هذا قول مجاهد وقتادة، فيكون مقابل قوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ [النساء: 101]، وهو الموافق لما تقدّم من كون الوارد في القرآن هو حكم قصر الصلاة في حال الخوف، دون قصر السفر من غير خوف، فالإقامة هنا الإتيان بالشيء قائما أي تامّا، على وجه التمثيل كقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ﴾ [الرحمن: 9]، وقوله: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13]، وهذا قول جمهور الأئمّة: مالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يؤدّي المجاهد الصلاة حتّى يزول الخوف، لأنّه رأى مباشرة القتال فعلا يفسد الصلاة، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ إلى قوله: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾ [النساء: 101 ـ 103] يرجح قول الجمهور، لأنّ قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ مسوق مساق التعليل للحرص على أدائها في أوقاتها.

4. والموقوت: المحدود بأوقات، والمنجّم عليها، وقد يستعمل بمعنى المفروض على طريق المجاز، والأول أظهر هنا.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/245.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ أي إذا أديتم الصلاة على حال الخوف، فإن العبادة لم تنته، بل إن معناها قائم مطلوب منكم، وهو أن تذكروا الله تعالى في كل أحوالكم، قائمين في الميدان، أو غادين ورائحين صلّى الله عليه وآله وسلّم أو قاعدين مستريحين، أو نائمين على جنوبكم، فإن ذكر الله تعالى هو العبادة المستمرة التي بها تطمئن القلوب، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد]

2. التعبير عن صلاة الخوف بقوله: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ﴾ في مقابل قوله تعالى عند الاطمئنان: ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ فيه إشارة إلى أنها بدل عن الصلاة الكاملة تؤدى معناها، وإن لم تكن مثلها في الصورة الظاهرة.

3. ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ أي إذا ذهب الخوف، وعادت القضب إلى أجفانها، ورجعتم إلى مساكنكم، فأقيموا الصلاة أي أدوها كاملة، مستقبلين القبلة، موصولة من غير فاصل بين أجزائها، والكمال هنا كمال الصورة، وإلا فالمعنى يتحقق في صلاة الخوف بمقدار لا يقل عن كماله في الإقامة، إذ إنها عبادة في عبادة، هي عبادة الصلاة في عبادة الجهاد، وهو أشق عبادة، ولا شاغل قد يشغل المصلى عن صلاته إلا هذه العبادة العالية، وفى الإقامة قد تشغله بعض أعراض الدنيا.

4. وقد بين سبحانه مكان الصلاة في الإسلام، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾، أي الصلاة مكتوبة على المؤمنين مؤقتة بأوقاتها، وهذا تأكيد لفرضيتها، وقد أكدت الفرضية بأربعة مؤكدات:

أ. أولها (إن) التي للتوكيد.

ب. ثانيها (كانت) التي تدل على الدوام والاستمرار في الماضي والمستقبل،

ج. ثالثها، التعبير عن فرضية الصلاة بأنها (كتاب) فهو تعبير عن الوصف بالمصدر، وفيه فضل توكيد،

د. رابعها، التعبير بقوله تعالى: ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾، فإن ذلك يفيد الإلزام والحتمية، اللهم وفقنا لإقامة الصلاة، وإقامة الحق، والعمل على إعلاء شأن الإسلام، إنك سميع الدعاء.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1835.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لَا يَرْجُونَ﴾، لو نزل اليوم وحي من السماء في وضعنا مع إسرائيل لما زاد حرفا واحدا على هذه الآية.. ان أحوج ما نحتاج اليه لمقاومة العدو الشرس المتغطرس، وردعه عن الغي والبغي هو ان نشد عزائمنا، ونثق بالله وبأنفسنا، وان لا نصغي إلى المستعمرين والانتهازيين الذين يبغون استغلالنا وهزيمتنا، ويلفقون الدعايات والاشاعات المضللة ليخدعونا عن واقعنا وطاقاتنا.

2. ان مجرد القلق يفيد العدو، ويكون عونا له على ما يريد فضلا عن الخوف والانهيار، ومن أجل هذا نهانا سبحانه عن الخوف من عدو الله والإنسانية، مهما كان ويكون، وأمرنا بالثبات على مقاومته، وأنبأنا بأنه يألم منا كما نألم منه، ولكنا أعلى منه، لايماننا بالله واعتمادنا عليه.. أما إسرائيل فإنها تعتمد على الاستعمار والمستعمرين واخوان الشياطين الذين أوجدوها، وأمدوها بالمال والسلاح، وشجعوها على الاعتداء، وناصروها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وما من شك انه إذا وثقنا بأنفسنا، وثبتنا في المقاومة مخلصين، وبذلنا ما نملك من طاقات، كما أمرنا الله عز وجل يكون النصر لنا لا محالة، وقال تعالى في آية ثانية: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَالله مَعَكُمْ﴾ [محمد: 35].. والمسلمون هم الأعلون بعقيدتهم وتاريخهم وعددهم ومقدراتهم، ولا تذهب هذه الطاقات، ولن تذهب هباء.. ولا بد ان يظهر أثرها بإذن الله عاجلا أو آجلا.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/427.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ والقيام والقعود جمعان أو مصدران، وهما حالان وكذا قوله‏ ﴿عَلى‏ جُنُوبِكُمْ﴾ وهو كناية عن الذكر المستمر المستوعب لجميع الأحوال.

2. ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ المراد بالاطمينان الاستقرار، وحيث قوبل به قوله: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ على ما يؤيده السياق كان الظاهر أن المراد به الرجوع إلى الأوطان، وعلى هذا فالمراد بإقامة الصلاة إتمامها فإن التعبير عن صلاة الخوف بالقصر من الصلاة يلوح إلى ذلك.

3. ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ الكتابة كناية عن الفرض والإيجاب كقوله تعالى:‏ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 183] والموقوت‏ من وقت كذا أي جعلت له وقتا فظاهر اللفظ أن الصلاة فريضة موقتة منجمة تؤدي في أوقاتها ونجومها.

4. الظاهر أن الوقت في الصلاة كناية عن الثبات وعدم التغير بإطلاق الملزوم على لازمه فالمراد بكونها كتابا موقوتا أنها مفروضة ثابتة غير متغيرة أصلا فالصلاة لا تسقط بحال، وذلك أن إبقاء لفظ الموقوت على بادئ ظهوره لا يلائم ما سبقه من المضمون إذ لا حاجة تمس إلى التعرض لكون الصلاة عبادة ذات أوقات معينة مع أن قوله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ﴾ في مقام التعليل لقوله: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ فالظاهر أن المراد بكونها موقوتة كونها ثابتة لا تسقط بحال، ولا تتغير ولا تتبدل إلى شيء آخر كالصوم إلى الفدية مثلا.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/63.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ﴾ أنهيتموها وفرغتم منها ﴿فَاذْكُرُوا الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ ﴿فَاذْكُرُوا الله﴾ في أحوالكم لتكثروا من ذكره، كقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا الله كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال:45] والْجُنوب: هي الضلوع يضطجع عليها عند إرادة النوم وفي حالة التعب أو نحوه.

2. ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾ ذهب الخوف ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ اجعلوها قيِّمة كما أمرتم في حالة الأمن، ولا تجعلوها كصلاة الخوف ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ﴾ مكتوبة ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ محدودة بفروضها وشروطها.

3. معنى ﴿مَوْقُوتًا﴾ محدوداً، وحدود الصلاة عدد ركعاتها وركوعها وسجودها وقيامها وقعودها كما أمر الله، وأذكارها من التكبير والقراءة وغير ذلك، ومن حدودها: أن تكون جامعة لشروطها من الطهارة، واستقبال القبلة وغير ذلك، ولهذا لا يزاد فيها ولا ينقص منها، بل يؤتى بها على عدد ركعاتها وأركانها بلا زيادة ولا نقصان، وكذلك أذكارها.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/157.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾، لأن ذلك هو الزاد الروحي للمؤمن المقاتل الذي يمنحه الشعور بالقوة، عندما يحسّ بحضور الله معه في المعركة وفي كل حالات التحدي، فيؤدّي به ذلك إلى طرد كل نوازع الخوف والقلق والضياع من نفسه، ليحلّ ـ بدلا منها ـ الشعور بالأمن والثبات ووضوح الرؤيا والامتلاء الروحي بعظمة الله.

2. ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾ وذهب عنكم الخوف بذهاب الأسباب التي تثيره وتدعو له، ورجعتم إلى أوطانكم ـ كما قيل ـ ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ بتمامها ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾؛ فقد أنزلها الله فرائض مؤقتة بأوقاتها ـ على بعض التفاسير ـ فريضة ثابتة لا تتغيّر ولا تتبدّل بحال ـ على رأي بعض آخر ـ وقد أكدت هذا المعنى الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام، فقد ورد في الكافي، بإسناده عن داوود بن فرقد قال‏ قلت: لأبي عبد الله عليه السّلام: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾؟ قال كتابا ثابتا، وليس إن عجّلت قليلا أو أخرت قليلا بالذي يضرك ما لم تضيّع تلك الإضاعة.

3. الظاهر من الآية أنها واردة في صلاة الخوف مطلقا، سواء أكان المسلمون في السفر أم في غيره، وإنما ذكر السفر من جهة أنه الحالة الغالبة في الحرب التي كان المسلمون يخوضونها، ولا اختصاص لها به، ولذلك التزم الفقهاء بقصر الصلاة في حال الحرب حتى لو كان ذلك في الحضر، كما إذا هاجم‏.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/432.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن ذكرت الآية السابقة صلاة الخوف، وأكدت ضرورة إقامتها حتى في جبهات الحرب، تحث الآية المسلمين على أن لا ينسوا ذكر الله بعد أداء الصّلاة، وليذكروا الله حين قيامهم وقعودهم وأثناء نومهم على جنوبهم وليسألوه العون والنصر، والقصد من ذكر الله في حالة القيام والقعود والنوم على الجنبين، يحتمل أن يكون في فترات الاستراحة التي تسنح للمسلمين وهم في ساحة الحرب، كما يحتمل أن تكون في الحالات المختلفة للقتال، أي أثناء وقوف المقاتل أو جلوسه أو استلقائه على أحد جنبيه وهو يقاتل بأحد أنواع الأسلحة الحربية كالقوس والسهم مثلا.

2. إنّ هذه الآية تشير في الحقيقة إلى أمر إسلامي مهم، يدل على أنّ أداء الصّلاة في أوقات معينة ليس معناه أن ينسى الإنسان ذكر الله في الحالات الأخرى، فالصّلاة أمر انضباطي يحيى ويجدد روح التوجه إلى الله لدى الفرد، فيستطيع في أوقات أخرى غير وقت الصّلاة أن يحتفظ بذكر الله في ذهنه، سواء كان في ساحة القتال أو في مكان آخر.

3. وقد فسّرت هذه الآية في روايات عديدة على أنّها تبيّن كيفية أداء الصّلاة بالنسبة للمرضى، أي أنّهم إذا استطاعوا فليؤدوا الصّلاة قياما، وإن لم يقدروا على ذلك فقعودا، وإذا عجزوا عن القعود فعلى أحد جنبيهم، وهذا التّفسير في الحقيقة نوع من التعميم والتوسع في معنى الآية، ولو أنّها لا تخص هذا المجال‏.

4. وتؤكد هذه الآية أنّ حكم صلاة الخوف هم حكم استثنائي طارى‏ء، وعلى المسلمين إذا ارتفعت عنهم حالة الخوف أن يؤدوا صلاتهم بالطريقة المعتادة ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾

5. وتوضح الآية في النهاية سر التأكيد على الصّلاة بقولها إن الصّلاة فريضة ثابتة للمؤمنين وأنّها غير قابلة للتغيير: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾، إنّ عبارة (موقوت) من المصدر (وقت)، وعلى هذا الأساس فإن الآية تبيّن أنّه حتى في ساحة الحرب يجب على المسلمين أداء هذه الفريضة الإسلامية، لأنّ للصّلاة أوقات محددة لا يمكن تخطيها، لكن الروايات العديدة التي وردت في شرح هذه الآية تبيّن أنّ عبارة (موقوتا) تعني (ثابتا) و(واجبا) ممّا لا ينافي مفهوم الآية أيضا، والنتيجة هي أنّهما قريبين من المعنى الأوّل.

6. سؤال وإشكال: يقول البعض: إنّهم لا ينكرون فلسفة واهمية الصّلاة وآثارها التربوية، ولكنهم يسألون عن ضرورة إقامتها في أوقات محددة، ويرون أن الأحسن أن يترك الناس أحرارا لكي يؤدي كل منهم الصّلاة متى ما سنحت له الفرصة أو متى ما وجد استعدادا روحيا لأداء هذه الفريضة؟ والجواب: إنّ التّجربة قد أثبت أنّ القضايا التربوية لو لم تخضع لشروط وقيود معينة، فإن العديد من الناس سيتجاهلون ويتركون هذه القضايا، وسيؤدي هذا التجاهل إلى أن تتزلزل أركانها، لذلك فإن القضايا التربوية يجب أن تخضع لقيود خاصّة ويخصص لأدائها أوقات محددة، وأن لا يسمح لأحد بتخطي هذه القيود أو تجاهل تلك الأوقات، خاصّة وإنّ أداء فريضة كالصّلاة وفي وقت معين وبصورة جماعية يظهر عظمتها وهيبتها وتأثيرها القوي الذي لا يمكن لأحد نكرانه، والصّلاة في الحقيقة من أهم العوامل في تربية الإنسان وتكوين شخصيته الإنسانية.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/426.

99. الجهاد والوهن والألم والرجاء

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈99⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 104]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾، ولا تضعفوا(1).

2. روي أنّ نافع بن الأزرق سأله، فقال: فأخبرني عن قول الله تعالى: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ﴾، ما الألم؟ قال الوجع، قال فيه الأعشى(2):

çلا نقيهم حد السلاح ولا... نألم جرحا ولا نبالي السهاماé

3. روي أنّه قال: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ﴾، توجعون(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾، ترجون الخير(4).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٥٧.

(2) ابن الأنباري في الوقف والابتداء ١/٨٠.

(3) ابن جرير ٧/٤٥٤.

(4) ابن أبي حاتم ٤/١٠٥٨.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾، يقول: ولا تعجزوا، كقوله: ﴿فَمَا وَهَنُوا﴾ [آل عمران: ١٤٦]، يعني: فما عجزوا في طلب أبي سفيان وأصحابه يوم أحد بعد القتل بأيام(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا﴾ بخلقه، ﴿حَكِيمًا﴾ في أمره(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٠٤.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله: ﴿تَأْلَمُونَ﴾: ألم الجراح ووجعها عند الجهاد، ومحاربة أهل الكفر والعناد، مع التعب في الحركة والأسفار، والمسير في الليل والنهار؛ فأخبرهم عز وجل: أن عدوهم يألم كما يألمون، ويجد من الألم أكثر مما يجدون، وأنتم فترجون من الله من الرحمة والرضوان، والمغفرة والجنان ـ ما لا يرجون الكفرة الأشرار؛ فإذا صبروا على ما فيه هلكتهم، ولا نجاة عند الله سبحانه لهم، فأنتم أولى بذلك، وأحق به؛ إذ أنتم أهل الثواب الكريم، والمحل عند الله العظيم؛ فكان هذا تثبيتا من الله لنيات المؤمنين، وتقوية منه سبحانه لعزائم المتقين، أهل الصدق واليقين، والطاعة لرب العالمين.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/268.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآية دلالة فرضية الجهاد؛ لأنه عز وجل أخبر أنهم يألمون ويتوجعون بما يصيبهم من الجراحات كما تألمون أنتم وتتوجعون بها؛ فلو كان نفلا لكان يرفع عنهم الجهاد عند الألم والتوجع؛ على ما يرفع سائر النوافل عند الألم والتوجع؛ فدل أنه فرض، لكنه فرض كفاية، وفرض الكفاية يسقط بقيام البعض عن الباقين، وقد ذكرنا فيما تقدم الوجه فيه.

2. ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾، فمعناه أي: لا عذر لكم في تألمكم أن تهنوا في ابتغائهم؛ ﴿فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ ولا أيضعفون في ذلك، و﴿وَتَرْجُونَ﴾ أنتم العاقبة من الثواب الجزيل ﴿مَا لَا يَرْجُونَ﴾، ثم هم لا يضعفون؛ فكيف تضعفون أنتم في ذلك!؟ وكل أمر لا عاقبة له فهو عبث، وليس لأمرهم عاقبة؛ فهو عبث، ولأمركم عاقبة محمودة؛ فأنتم أولى في ذلك.

3. دل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ على تأكد فرضية الجهاد؛ إذ لم ياذن لهم في التخلف عن ذلك، على ما فيه من التالم، وخوف هلاك النفس في ذلك، ثم بين ما يخفف لمثله بحمل المكروه على الطبع له، وقد يختار له مباشرة الأتعاب في النفس من عواقب تنقطع وتزول؛ فكيف فيما ألا انقطاع، له من رجاء الثواب بذلك التألم!؟.

4. ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا﴾، بتألمكم، أي: عن علم بالتألم أمركم بذلك، لا عن جهل، وقد ذكرنا ذلك في غير موضع.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٥٣.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾ أي ما أصابهم منكم يألمون به كما تألمون مما أصابكم منهم.

2. ثم قال: ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾ من النصرة لكم والعون على عدوكم مع تساويكم في الألم، وقد يكون الرجاء بمعنى الخوف كما قال عز وجل: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا﴾ [نوح]، أي لا تخافون له عظمة، قال الشاعر:

çلا نرتجي حين تلاقي الزائدا... أسبعة لاقت معاً أم واحداé

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/194.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ أي لا تضعفواْ في طلبهم لحربهم. ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ أي ما أصابهم منكم فإنهم يألمون به كما تألمون بما أصابكم منهم.

2. ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾ أي هذه زيادة لكم عليهم وفضيلة خُصِصْتُم بها دونهم مع التساوي في الألم، وفي هذا الرجاء اثنان من التأويلات:

أ. أحدهما: معناه أنكم ترجون من نصر الله ما لا يرجون.

ب. الثاني: تخافون من الله لا يخافون، ومنه قوله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا﴾ [نوح: 31] أي لا تخافون لله عظمة، ومنه قول الشاعر:

çلا ترتجي حين تلاقي الذائدا … أسبعةً لاقت معاً أم واحداًé

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٢٧).

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ لا تضعفوا يقال وهو فلان في الأمر يهن وهناً ووهوناً، وقوله، في ابتغاء القوم يعني في طلب القوم، والقوم هم أعداء الله وأعداء المؤمنين من أهل الشرك‏.

2. ﴿إِنْ تَكُونُوا﴾ أيها المؤمنون‏ ﴿تَأْلَمُونَ﴾ مما ينالكم من الجراح منهم في الدنيا ﴿فَإِنَّهُمْ﴾ يعني المشركين‏ ﴿يَأْلَمُونَ﴾ أيضاً مما ينالهم منكم من الجراح والأذى مثل ما تألمون أنتم من جراحهم واذاهم‏ ﴿وَتَرْجُونَ﴾ أنتم أيها المؤمنون‏ ﴿مِنَ اللهِ﴾ الظفر عاجلا والثواب آجلا على ما ينالكم منهم‏ ﴿مَا لَا يَرْجُونَ﴾ هم على ما ينالهم منكم يقول: فأنتم إن كنتم مؤمنين من ثواب الله لكم‏ على ما يصيبكم منهم بما هم مكذبون به فأولى وأحرى أن تصبروا على حربهم وقتالهم منهم على قتالكم وحربكم، وهو قول قتادة، والسدي، ومجاهد، والربيع، وابن زيد، وابن عباس، وابن جريج.

3. قال ابن عباس، وعكرمة: الآية نزلت في أهل أحد لما أصاب المسلمين ما أصابهم وصعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الجبل وجاء أبو سفيان وقال يا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم لنا ويوم لكم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أجيبوه، فقال المسلمون: لا سواء لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان: عزى لنا ولا عزى لكم، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، قال أبو سفيان: اعل هبل، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قولوا له: الله أعلى وأجل، فقال أبو سفيان موعدنا وموعدكم بدر الصغرى‏، ونام المسلمون وبهم الكلوم وفيهم نزلت‏ ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ﴾ الآية، وفيهم نزلت‏ ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ لأن الله تعالى أمرهم على ما بهم من الجراح ان يتبعوهم وأراد بذلك إرهاب المشركين فخرجوا إلى بعض الطريق وبلغ المشركين ذلك فاسرعوا حتى دخلوا مكة.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾:

أ. قال بعضهم: معنى‏ ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾ أي تخافون من جهته ما لا يخافون كما قال: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ﴾ بمعنى لا يخافون.

ب. وقال قوم لا يعرف في كلام العرب الرجاء بمعنى الخوف إلا إذا كان في الكلام جحد سابق كما قال: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا﴾ بمعنى لا تخافون لله عظيمة، وقال الشاعر:

çلا ترتجى حين تلاقي الزائدا...أسبعة لاقت معاً أو واحدé

وقال أبو ذؤيب الهذلي:

çإذا لسعته النحل لم يرج لسعها...وحالفها في بيت نوب عوامل‏é

قال الفراء: نوب ونوب، وهو النحل، ولا يجوز أن تقول رجوتك بمعنى خفتك، وانما استعمل الرجاء بمعنى الخوف لأن الرجاء أمل قد يخاف ألا يتم، وهي لغة حجازية، قال الكسائي: لم أسمعها إلا بتهامة ويذهبون معناها إلى قولهم: (ما أبالي وما أحفل) قال الشاعر:

çلعمرك ما أرجوا إذا كنت مسلما...على أي جنب كان لله مصرعي‏é

أي ما أبالي.

5. ﴿كانَ اللهُ عَلِيماً﴾ يعني بمصالح خلقه حكيماً في تدبيره إياهم وتقديره أحوالهم.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/314.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الوهن: الضعف، يقال: وهن في الأمر يهن وهنا ووهونًا فهو واهن وأوهنه يوهنه فهو مُوهَن، ووهنه توهينًا، وهذا الوهن من ذلك..

ب. الألم: الوجع، والألم جنس من الأعراض يكون من فعل الله تعالى ابتداءً أو لسبب، وقد يكون من فعل العباد ولا يكون إلا بسبب، وإنما يكون ألمًا إذا أدركه مع [الضعف]، فإن أدركه مع الشهوة يكون لذة.

ج. الابتغاء: الطلب، ومنه الباغي لطلبه ما ليس له، ومنها البَغِيُّ لطلبها الفجور، ووزن ﴿ابْتِغَاءَ﴾ افتعال، وفعلت وافتعلت بمعنًى، يقال: بعت الشيء وابتعته.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت في الذهاب إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان يوم أحد، فلما وافاها ألقى الله تعالى في قلوب المشركين الرعب، فلم يكن قتال، عن الأصم.

ب. وقيل: نزلت في الذهاب خلف أبي سفيان وخلف عسكره إلى حمراء الأسد يوم أحد، عن عكرمة.

3. عاد الكلام إلى الحث على الجهاد، فقال سبحانه ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ أي لا تضعفوا ﴿فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ أي في طلبهم ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ﴾ بالموت أيها المؤمنون من ألم الجراح والتعبـ ﴿فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ﴾ يصيبهم من الألم والتعب مثل ما يصيبكم.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾:

أ. قيل: تؤملون من الثواب والجزاء عند الله ما لا يأملون، عن الحسن وقتادة وابن جريج وأكثر أهل العلم.

ب. وقيل: ترجون من الظفر والنصر والغنيمة وإظهار دينكم على سائر الأديان بوعد الله ما لا يرجون هم.

ج. وقيل: تخافون الله ما لا يخافون هم، قال الفراء: أكثر ما يستعمل الرجاء موضع الخوف إذا صحبه الجحد.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾:

أ. قيل: ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا﴾ بمصالحكم حيث أمركم بالجهاد ﴿حَكِيمًا﴾ في تدابيره في عباده.

ب. وقيل: عليمًا بعباده إذ وكل بعضهم إلى حرب بعض، حكيمًا فيما قضى من ذلك.

ج. وقيل: عليم بكم وبهم، حكيم فيما أمركم فيهم، واتباع أمر الحكيم واجب، عن أبي مسلم.

6. تدل الآية الكريمة على:

أ. وجوب الجهاد وإن أصابته الآلام لما يرجى من عواقبه.

ب. وجوب تقوية النفس ما أمكن.

ج. وجوب الجهاد ابتداء؛ لأنه أوجب طلبهم من غير تقدم سبب.

د. أن الواجب لا يسع تركه لخوف المكاره، وتدل على أن للمجاهد أن يجاهد لطلب الثواب.

هـ. أنه يجوز له طلب المعونة.

و. جواز الحجاج وصحة المعارضة؛ لأن قوله: ﴿فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ معارضة.

7. ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ﴾ يجري مجرى قوله: مُتَأَلِّمِينَ فنصبه على الحال، وهو جواب المجازاة.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/55.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الوهن: الضعف، وهن فلان في الامر، يهن، وهنا، ووهونا، فهو واهن.

ب. الألم: الوجع، والألم: جنس من الاعراض يكون من فعل الله ابتداء، وبسبب، وقد يكون من فعل العباد بسبب.

ج. الرجاء قد يستعمل بمعنى الخوف نحو قول الشاعر:

çلا ترتجي حين تلاقي الزائدا... أسبعة لاقت معا أو واحداé

وقال أبو ذؤيب:

çإذا لسعته النحل لم يرج لسعها... وخالفها في بيت نوب عواملé

قال الفراء: نوب ونوب: وهي النحل، وقال تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا﴾ والمعنى: لا تخافون لله عظمة، وإنما استعمل على معنى الخوف، لان الرجاء أمل، وقد يخاف أن لا يتم.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل نزلت في الذهاب إلى بدر الصغرى، لموعد أبي سفيان، يوم أحد.

ب. وقيل: نزلت يوم أحد في الذهاب خلف أبي سفيان وعسكره إلى حمراء الأسد، عن عكرمة.

3. عاد الكلام إلى الحث على الجهاد، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ أي: ولا تضعفوا ﴿فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ أي: في طلب القوم الذين هم أعداء الله، وأعداء المؤمنين من أهل الشرك ﴿إِنْ تَكُونُوا﴾ أيها المؤمنون ﴿تَأْلَمُونَ﴾ مما ينالكم من الجراح منهم، ﴿فَإِنَّهُمْ﴾ يعني المشركون ﴿يَأْلَمُونَ﴾ أيضا مما ينالهم منكم من الجراح والأذى ﴿كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ أي: مثل ما تألمون أنتم من جراحهم وأذاهم ﴿وَتَرْجُونَ﴾ أنتم أيها المؤمنون ﴿مِنَ اللهِ﴾ الظفر عاجلا، والثواب آجلا، على ما ينالكم منهم ﴿مَا لَا يَرْجُونَ﴾ هم على ما ينالهم منكم: أي وأنتم إن كنتم موقنين من ثواب الله لكم، على ما يصيبكم منهم، بما هم مكذبون به، أولى وأحرى أن تصبروا على حربهم وقتالهم، منهم على حربكم وقتالكم، عن ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والسدي ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا﴾ بمصالح خلقه ﴿حَكِيمًا﴾ في تدبيره إياهم، وتقديره أحوالهم.

4. قال ابن عباس وعكرمة: (لما أصاب المسلمين ما أصابهم يوم أحد، وصعد النبي الجبل، قال أبو سفيان: يا محمد! لنا يوم ولكم يوم، فقال: أجيبوه، فقال المسلمون لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار! فقال أبو سفيان: لنا عزى، ولا عزى لكم، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم! فقال أبو سفيان: أعل هبل، فقال النبي: قولوا الله أعلى وأجل، فقال أبو سفيان: موعدنا وموعدكم يوم بدر الصغرى، ونام المسلمون وبهم الكلوم، وفيهم نزلت ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ الآية، وفيهم نزلت: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ﴾ الآية لان الله أمرهم على ما بهم من الجراح، أن يتبعوهم، وأراد بذلك إرهاب المشركين، وخرجوا إلى حمراء الأسد، وبلغ المشركين ذلك، فأسرعوا حتى دخلوا مكة.

5. روي في الشواذ عن عبد الرحمن الأعرج: (أن تكونوا تألمون) بفتح الألف، قال ابن جني: إن محمولة على قوله: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم لأنكم تألمون) فمن اعتقد نصب أن بعد حذف الجر عنها فأن هنا منصوبة الموضع، وهي على مذهب الخليل مجرورة الموضع باللام المرادة، وصارت أن لكونها حرفا كالعوض في اللفظ من اللام.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/158.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)

1. سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر أصحابه لمّا انصرفوا من أحد أن يسيروا في أثر أبي سفيان وأصحابه، فشكوا ما بهم من الجراحات، فنزلت هذه الآية.

قال الزجّاج: ومعنى (تهنوا): تضعفوا، يقال: وهن يهن: إذا ضعف، وكلّ ضعف فهو وهن، وابتغى القوم: طلبهم بالحرب، و(القوم) هاهنا: الكفّار ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ﴾ أي: توجعون، فإنهم يجدون من الوجع بما ينالهم من الجراح والتّعب، كما تجدون، وأنتم مع ذلك ترجون ما لا يرجون.

2. في هذا الرّجاء قولان:

أ. أحدهما: أنه الأمل، قاله مقاتل، قال الزجّاج: وهو إجماع أهل اللغة الموثوق بعلمهم.

ب. الثاني: أنه الخوف، رواه أبو صالح عن ابن عباس، قال الفرّاء: ولم نجد الخوف بمعنى الرّجاء إلا ومعه جحد، فإذا كان كذلك كان الخوف على جهة الرجاء والخوف، وكان الرجاء كذلك، كقوله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا﴾، ﴿لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ﴾ قال الشاعر:

çلا ترتجي حين تلاقي الذّائدا...أسبعة لاقت معا أم واحداé

وقال الهذليّ:

çإذا لسعته النّحل لم يرج لسعها...وخالفها في بيت نوب عوامل‏é

ولا يجوز رجوتك وأنت تريد خفتك، ولا خفتك وأنت تريد رجوتك، قال الزجّاج: وإنما اشتمل الرّجاء على معنى الخوف، لأنه أمل قد يخاف أن لا يتمّ.

3. على القول الأول يكون المعنى: ترجون النّصر وإظهار دينكم والجنّة، وعلى الثاني: تخافون من عذاب الله ما لا يخافون.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/466.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى بعض الأحكام التي يحتاج المجاهد إلى معرفتها عاد مرة أخرى إلى الحث على الجهاد فقال‏: ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ أي ولا تضعفوا ولا تتوانوا ﴿فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ أي في طلب الكفار بالقتال، ثم أورد الحجة عليهم في ذلك فقال: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ والمعنى أن حصول الألم قدر مشترك بينكم وبينهم، فلما لم يصر خوف الألم مانعا لهم عن قتالكم فكيف صار مانعا لكم عن قتالهم:

أ. ثم زاد في تقرير الحجة وبين أن المؤمنين أولى بالمصابرة على القتال من المشركين، لأن المؤمنين مقرون بالثواب والعقاب والحشر والنشر، والمشركين لا يقرون بذلك، فإذا كانوا مع إنكارهم الحشر والنشر يجدون في القتال فأنتم أيها المؤمنون المقرون بأن لكم في هذا الجهاد ثوابا عظيما وعليكم في تركه عقابا عظيما، أولى بأن تكونوا مجدين في هذا الجهاد، وهو المراد من قوله تعالى: ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لَا يَرْجُونَ﴾

ب. ويحتمل أيضا أن يكون المراد من هذا الرجاء ما وعدهم الله تعالى في قوله: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة: 33] [الفتح: 28] [الصف: 9] وفي قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 64]

ج. وفيه وجه ثالث، وهو أنكم تعبدون الإله العالم القادر السميع البصير فيصح منكم أن ترجو ثوابه، وأما المشركون فإنهم يعبدون الأصنام وهي جمادات، فلا يصح منهم أن يرجو من تلك الأصنام ثوابا أو يخافوا منها عقابا.

2. قرأ الأعرج‏ ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ﴾ بفتح الهمزة بمعنى: ولا تهنوا لأن تكونوا تألمون، وقوله: ﴿فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ تعليل.

3. ﴿وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أي لا يكلفكم شيئا ولا يأمركم ولا ينهاكم إلا بما هو عالم بأنه سبب لصلاحكم في دينكم ودنياكم.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/211.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ أي لا تضعفوا، وقد تقدم في آل عمران، ﴿فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ طلبهم، قيل: نزلت في حرب أحد حيث أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالخروج في آثار المشركين، وكان بالمسلمين جراحات، وكان أمر ألا يخرج معه إلا من كان في الوقعة، كما تقدم في آل عمران وقيل: هذا في كل جهاد.

2. ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ﴾ أي تتألمون مما أصابكم من الجراح فهم يتألمون أيضا مما يصيبهم، ولكم مزية وهي أنكم ترجون ثواب الله وهم لا يرجونه، وذلك أن من لا يؤمن بالله لا يرجون من الله شيئا، ونظير هذه الآية ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ وقد تقدم، وقرأ عبد الرحمن الأعرج ﴿إِنْ تَكُونُوا﴾ بفتح الهمزة، أي لأن وقرأ منصور بن المعتمر ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ﴾ بكسر التاء، ولا يجوز عند البصريين كسر التاء لثقل الكسر فيها.

3. ثم قيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف، لأن من رجا شيئا فهو غير قاطع بحصوله فلا يخلو من خوف فوت ما يرجو، وقال الفراء والزجاج: لا يطلق الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي، كقوله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا﴾ أي لا تخافون لله عظمة، وقوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ﴾ أي لا يخافون، قال القشيري: ولا يبعد ذكر الخوف من غير أن يكون في الكلام نفي، ولكنها ادعيا أنه لم يوجد ذلك إلا مع النفي.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/374.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ أي: لا تضعفوا في طلبهم، وأظهروا القوّة والجلد، ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ تعليل للنهي المذكور قبله، أي: ليس ما تجدونه من ألم الجراح ومزاولة القتال مختصا بكم، بل هو أمر مشترك بينكم وبينهم، فليسوا بأولى منكم بالصبر على حر القتال ومرارة الحرب، ومع ذلك فلكم عليهم مزية لا توجد فيهم، وهي: أنكم ترجون من الله من الأجر وعظيم الجزاء ما لا يرجونه لكفرهم وجحودهم، فأنتم أحقّ بالصبر منهم، وأولى بعدم الضعف منهم، فإن أنفسكم قوية، لأنها ترى الموت مغنما، وهم يرونه مغرما.

2. نظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ وقيل: إن الرجاء هنا بمعنى الخوف، لأن من رجا شيئا فهو غير قاطع بحصوله، فلا يخلو من خوف ما يرجو، وقال الفراء والزجاج: لا يطلق الرجاء بمعنى الخوف إلّا مع النفي، كقوله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا﴾ أي: لا تخافون له عظمة، وقرأ عبد الرحمن الأعرج: ﴿إِنْ تَكُونُوا﴾ بفتح الهمزة، أي: لأن تكونوا، وقرأ منصور بن المعتمر: تئلمون، بكسر التاء، ولا يجوز عند البصريين كسر التاء لثقله.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/590.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تقدَّم أنَّ أبا سفيان نادى عند انصرافه من أُحد: (موعدكم بدر مِن قابِلٍ إن شئت يا محمَّد)، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إن شاء الله)، فخرج صلّى الله عليه وآله وسلّم إليه من قابل وقد وهنوا لِمَا أصابهم في أُحُد ولم يخرج هو، وفي ذلك نزل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُواْ﴾ تضعفوا، ﴿فِي ابْتِغَآءِ﴾ طلب ﴿الْقَوْمِ﴾ الكفَّار بالقتال، ﴿إِن تَكُونُواْ تَالَمُونَ﴾ تشجيع للصحابة  ، وتعليلٌ لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُواْ﴾، أي: لا تهنوا لأنَّه أصابهم مثلُ ما أصابكم فصَبَروا، فكيف لا تصبرون أنتم مع أنَّ لكم ـ لا لهم ـ عاقبةَ الخير في الدُّنيا والأخرى، وأنتم على الهدى وهم على الباطل، والآية في الذهاب إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان يوم أحد للقتال، ألا ترى قوله: ﴿فِي ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ﴾، إذْ ثقل عليهم القتال ثانيًا، أو يوم أحد في الذهاب خلف أبي سفيان وعسكره ليقاتلوه في حمراء الأسد.

2. ﴿فَإِنَّهُمْ يَالَمُونَ كَمَا تَالَمُونَ﴾ ولا يحسن لكم أن يردَّكم التألُّم عنه وهم لا يردُّهم، ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾ من الجنَّة والنصر على القتال، فيجب أن تكونوا أصبر منهم عليه، وأرغب فيه.

3. وعبارة بعض أنَّها نزلت في الذهاب إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان يوم أحد، وقيل: نزلت يوم أحد في الذهاب خلف أبي سفيان وعسكره إلى حمراء الأسد، وهو مرويٌّ عن عكرمة.

4. ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا﴾ بأحوالكم وضمائركم ﴿حَكِيمًا﴾ فيما يأمـر بـه وما ينهى عنه.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/277.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. حثهم الله تعالى على الجهاد بقوله: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ أي: لا تضعفوا في طلب عدوّكم بالقتال بل جدّوا فيهم واقعدوا لهم كل مرصد، ثم ألزمهم الحجة بقوله سبحانه:‏ ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ أي: ليس ما تجدون من الألم بالجرح والقتل مختصا بكم بل هو مشترك بينكم وبينهم، كما قال تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ [آل عمران: 140]

2. ثم زاد في تقرير الحجة، وبيّن أن المؤمنين أولى بالمصابرة على القتال من المشركين بقوله تعالى: ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لَا يَرْجُونَ﴾ يعني وتأملون من القرب من الله واستحقاق الدرجات من جناته وإظهار دينه، كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ما لا يأملونه، فأنتم أولى بالجهاد منهم وأجدر بإقامة كلمة الله‏ ﴿وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أي: فلا يكلفكم إلا بما يعلم أنه سبب لصلاحكم في دينكم ودنياكم، فجدوا في الامتثال بذلك فإن فيه عواقب حميدة.

3. قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة وجوب الجهاد وأنه لا يسقط لما يحصل من المضرة بالجراح ونحوه، وأن التجلد وطلب ما يقوّى لازم، وما يحصل به الوهن لا يجوز فعله، وتدل على جواز المعارضة والحجاج لقوله: ﴿فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ﴾ وتدل على أن للمجاهد أن يجاهد لطلب الثواب لقوله: ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لَا يَرْجُونَ﴾ فجعل هذا سببا باعثا على الجهاد، هذا معنى كلام الحاكم، ونظير هذا: لو صلى لطلب الثواب أو السلامة من العقاب، وقد ذكر في ذلك خلاف، فعن الراضي بالله: يجزي ذلك، وقواه الفقيه يحيى بن أحمد، وعن أبي مضر: لا يجزي، لأنه لم ينو الوجه الذي شرع الواجب له.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/319.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. روى ابن جرير أن عكرمة قال نزلت هذه الآية في غزوة أحد كما نزل فيها ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ [آل عمران: 140] حين باتوا مثقلين بالجراح، وقبل آية آل عمران هذه ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139] فالظاهر أن عكرمة ذكر مسألة أحد رواية عن ابن عباس واستنبط من موافقة معنى الآية التي نحن بصدد تفسيرها لآية آل عمران أنها نزلت مثلها في غزوة أحد، ثم جاء الجلال فنقل رأي عكرمة بالمعنى من غير عزو فأخطأ في تصويره إذ قال: (إنها نزلت لما بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم طائفة في طلب أبي سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد فشكوا الجراحات) وقد ردّ قوله محمد عبده في الدرس فقال: المعروف في القصة أن الصحابة كانوا بعد غزوة أحد يرغبون اقتفاء أثر أبي سفيان على أثقالهم بالجراح، ولا حاجة في فهم الآية إلى ما ذكر بل هو مناف للأسلوب البليغ إذ القصة ذكرت في سورة آل عمران تامة وهذه جاءت في سياق أحكام أخرى.

2. ثم قال: كان الكلام فيما سبق في شأن الحرب وما يقع فيها وبيان كيفية الصلاة في أثنائها وما يراعى فيها إذا كان العدو متأهبا للحرب من اليقظة وأخذ الحذر وحمل السلاح في أثنائها، وبين للمؤمنين في هذا السياق شدة عداوة الكفار لهم وتربصهم غفلتهم وإهمالهم ليوقعوا بهم، بعد هذا نهى عن الضعف في لقائهم، وأقام الحجة على كون المشركين أجدر بالخوف منهم، لأن ما في القتال والاستعداد له من الألم والمشقة يستوي فيه المؤمن والكافر، ويمتاز المؤمن بأن عنده من الرجاء بالله ما ليس عند الكافر، فهو يرجو منه النصر الذي وعد به، ويعتقد أنه قادر على إنجاز وعده، ويرجو ثواب الآخرة على جهاده لأنه في سبيل الله، وقوة الرجاء تخفف كل ألم وربما تذهل الإنسان عنه وتنسيه إياه.

3. فالآية تفسر هكذا ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ أي عليكم بالعزيمة وعلوّ الهمة مع أخذ الحذر والاستعداد حتى لا يلمّ بكم الوهن (وهو الضعف مطلقا أو في الخلق أو الخلق كما قال الراغب) في ابتغاء القوم الذين ناصبوكم العداوة أي طلبهم، فهو أمر بالهجوم بعد الفراغ من الصلاة، بعد الأمر بأخذ الحذر وحمل السلاح عند أدائها، وذلك أن الذي يلتزم الدفاع في الحرب تضعف نفسه وتهن عزيمته، والذي يوطن نفسه على المهاجمة تعلو همته وتشتد عزيمته، فالنهي عن الوهن نهي عن سببه، وأمر بالأعمال التي تضاده فتحول دون عروضه.

4. ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ لأنهم بشر مثلكم، يعرض لهم من الوجع والألم مثل ما يعرض لكم، لأن هذا من شأن الأجسام الحية المشترك بينكم وبينهم.

5. ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لَا يَرْجُونَ﴾ لأنكم تعلمون من الله ما لا يعلمون، وتخصونه بالعبادة والاستعانة وهم به مشركون، وقد وعدكم الله إحدى الحسنيين النصر أو الجنة بالشهادة إذا كنتم للحق تنصرون، وعن الحقيقة تدافعون، فهذا التوحيد في الإيمان والوعد من الرحمن، هما مدعاة الأمل والرجاء، ومنفاة اليأس والقنوط، والرجاء يبعث القوة، ويضاعف العزيمة، فيدأب صاحبه على عمله بالصبر والثبات، واليأس يميت الهمة، ويضعف العزيمة، فيغلب على صاحبه الجزع والفتور، فإذا استويتم معهم في آلام الأبدان، فقد فضلتموهم بقوة الوجدان، وجرأة الجنان، والثقة بحسن العاقبة، فأنتم إذا أجدر بالمهاجمة، فلا تهنوا بالتزام خطة المدافعة، وكان الله عليما حكيما وقد ثبت في علمه المحيط، واقتضت حكمته البالغة، ومضت سنته الثابتة، بأن يكون النصر للمؤمنين على الكافرين، ما داموا بهديه عاملين، وعلى سننه سائرين، لأن أقل شأن المؤمنين حينئذ أن يكونوا مساوين للكفار في عدد القتال وأسبابه الظاهرة، وهم يفضلونهم بالقوى والأسباب الباطنة، وإذا أقاموا الإسلام كما أمر الله تعالى أن يقام فإنهم يكونون أشد للقتال استعدادا، وأحسن نظاما وسلاحا.

6. فهذه الآية برهان علمي عقلي على صدق وعد الله للمؤمنين بالنصر، وقد بينا هذه المسألة من قبل في التفسير وغير التفسير من مباحث المنار، ونقلنا في الكلام على حرب الإنكليز لأهل الترنسفال اعتراف الأوربيين بكون الإيمان من أسباب النصر في الحرب، فما بال المسلمين في أكثر البلاد لا يحاسبون أنفسهم بعرضها على القرآن، والنظر فيما بينه من مزايا الإيمان؟؟

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/316.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان الكلام فيما سلف في شأن الحرب وما يقع فيها، وبيان كيفية الصلاة في أثنائها، وما يلاحظ فيها إذا كان العد ومتأهبا للحرب من اليقظة وأخذ الحذر وحمل‏ السلاح في أثنائها، وبين في أثناء السياق شدة عداوة الكفار لهم وتربصهم غفلتهم وإهمالهم ليوقعوا بهم، وهنا نهى عن الضعف في لقائهم، وأقام الحجة على كون المشركين أجدر بالخوف منهم، لأن ما في القتال من الألم والمشقة يستوى فيه المؤمن والكافر، ويمتاز المؤمن بأن له من الرجاء في ربه ما ليس عند الكافر، فهو يرجو منه النصر والمعونة، ويعتقد أنه قادر على إنجاز وعده، كما يرجو منه المثوبة على حسن بلائه في سبيله وقوة الرجاء تخفف الآلام، وتنسيه التعب والنّصب.

2. ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ أي ولا تضعفوا في طلب القوم الذين ناصبوكم العداوة بل عليكم أن تستعدوا لقتالهم بعد الفراغ من الصلاة مع أخذ الحذر وحمل السلاح عند أدائها، وذلك في معنى الأمر بالهجوم، وسرّ هذا أن الذي يوجه همته إلى المهاجمة تشتد عزيمته وتعلو همته، أما الذي يلتزم الدفاع فحسب فإنه يكون خائر العزيمة ضعيف القوة.

3. ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ أي إن ما ينالكم من الآلام ينالهم منه مثله، فهم بشر مثلكم، وهم مع هذا يصبرون، فما لكم لا تصبرون وأنتم أولى منهم بالصبر؟ وبين سبب هذا بقوله:

4. ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لَا يَرْجُونَ﴾ من ظهور دينكم الحق على سائر الأديان الباطلة ومن الثواب الجزيل والنعيم المقيم في الآخرة، إلى أنه تعالى قد وعدكم إحدى الحسنيين النصر: أو الجنة بالشهادة إذا نصرتم دينه ودافعتم عن حماه، وهذا الوعد من الرحمن مع خلوص الإيمان يدعوان إلى الرجاء والأمل ويضاعفان العزيمة، ويحثان صاحبهما على العمل بصبر وثبات، أما اليائس من هذا الوعد الكريم فإنه يكون ضعيف العزيمة ميت الهمة، يغلب عليه الجزع والفتور، فإن تساويتم في الآلام فقد فضلتموهم في الثقة بحسن العاقبة، فأنتم أجدر منهم بالإقدام والجرأة.

5. ﴿وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ وقد ثبت في واسع علمه ومضت به سننه أن العاقبة للمتقين والنصرة لهم على الكافرين، ما داموا عاملين بهديه سائرين على الطريق التي وضعها لنصرة الحق على الباطل من الأخذ بالأسباب وكثرة العدد والغدد، فإذا هم فعلوا ذلك كانوا أشد منهم قتالا وأحسن منهم نظاما، وبذا يفوزون بالمطلوب وبحسن العاقبة.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/145.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يختم هذا الدرس بالتشجيع على المضي في الجهاد؛ مع الألم والضنى والكلال.. ويلمس القلوب المؤمنة لمسة عميقة موحية، تمس أعماق هذه القلوب، وتلقي الضوء القوي على المصائر والغايات والاتجاهات: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾.. إنهن كلمات معدودات، يضعن الخطوط الحاسمة، ويكشفن عن الشقة البعيدة، بين جبهتي الصراع.. إن المؤمنين يحتملون الألم والقرح في المعركة.. ولكنهم ليسوا وحدهم الذين يحتملونه.. إن أعداءهم كذلك يتألمون وينالهم القرح واللأواء.. ولكن شتان بين هؤلاء وهؤلاء.. إن المؤمنين يتوجهون إلى الله بجهادهم، ويرتقبون عنده جزاءهم.. فأما الكفار فهم ضائعون مضيعون، لا يتجهون للّه، ولا يرتقبون عنده شيئا في الحياة ولا بعد الحياة..

2. فإذا أصر الكفار على المعركة، فما أجدر المؤمنين أن يكونوا هم أشد إصرارا، وإذا احتمل الكفار آلامها، فما أجدر المؤمنين بالصبر على ما ينالهم من آلام، وما أجدرهم كذلك أن لا يكفوا عن ابتغاء القوم ومتابعتهم بالقتال، وتعقب آثارهم، حتى لا تبقى لهم قوة، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين للّه.

3. إن هذا لهو فضل العقيدة في الله في كل كفاح، فهناك اللحظات التي تعلو فيها المشقة على الطاقة، ويربو الألم على الاحتمال، ويحتاج القلب البشري إلى مدد فائض وإلى زاد، هنالك يأتي المدد من هذا المعين، ويأتي الزاد من ذلك الكنف الرحيم.

ولقد كان هذا التوجيه في معركة مكشوفة متكافئة، معركة يألم فيها المتقاتلون من الفريقين، لأن كلا الفريقين يحمل سلاحه ويقاتل، ولربما أتت على العصبة المؤمنة فترة لا تكون فيها في معركة مكشوفة متكافئة.. ولكن القاعدة لا تتغير، فالباطل لا يكون بعافية أبدا، حتى ولو كان غالبا! إنه يلاقي الآلام من داخله، من تناقضه الداخلي؛ ومن صراع بعضه مع بعض، ومن صراعه هو مع فطرة الأشياء وطبائع الأشياء، وسبيل العصبة المؤمنة حينئذ أن تحتمل ولا تنهار، وأن تعلم أنها إن كانت تألم، فإن عدوها كذلك يألم، والألم أنواع، والقرح ألوان.

4. ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لَا يَرْجُونَ﴾.. وهذا هو العزاء العميق، وهذا هو مفرق الطريق.. ﴿وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾.. يعلم كيف تعتلج المشاعر في القلوب، ويصف للنفس ما يطب لها من الألم والقرح.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/750.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. حيث لا يزال المؤمنون هنا في مواقع الجهاد، فقد جاء قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ دعوة من الله، تستحثّ عزائم المسلمين، وتوقظ مشاعرهم للجهاد في سبيل الله، بعد أن طال وقوفهم في هذا المقام، وما واجهوا فيه من شدائد وأهوال.. وابتغاء القوم: هو طلبهم، ولقاؤهم في ميدان القتال.. والوهن الضعف، أي ولا تضعفوا ولا تفتروا في طلب العدو الذي يطلبكم للقتال.

2. نعم.. إن أعباء الجهاد ثقيلة، ولكنها على نفس المؤمن أخفّ وأهون مما هي على غير المؤمنين.. طريق الرحمة، وينزلهم عند الله منازل الرضوان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لَا يَرْجُونَ﴾

3. فالمؤمنون في قتالهم العدو يقاتلون وهم على شعور بأنهم إن كتب لهم النصر رجعوا بالسلامة والغنيمة، وإن كتب لهم الاستشهاد ظفروا بما عند الله للشهداء من رضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم.. إنها إحدى الحسنيين للمجاهدين: النصر أو الاستشهاد.. وليس للعدو إلّا واحدة منهما.. وهي النصر، أو الموت على الكفر!

4. سؤال وإشكال: قد يقال: إن الكافرين يقاتلون ومعهم هذا الشعور بأنهم على الحقّ، وأنهم إنما ينتصرون لمبدأ، وأنهم إذا فاتهم النصر لم يفتهم الموت في سبيل المبدأ! والجواب: هو أن الخطاب هنا للمسلمين، وأنهم على يقين من أمرهم وأمر عدوّهم، وأنه يكفى هنا أن يدرك المؤمنون هذه الحقيقة وأن يستحضروها، وأن يقاتلوا عدوّهم عليها، ولا عليهم ما يعتقده عدوهم فيهم أو في نفسه! وإن أي حال يكون عليها العدوّ لن تبلغ الحال التي يكونون هم عليها، من وثاقة الإيمان بالله، والثقة فيما عنده لهم عن حسن الجزاء، وعظيم الثواب!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/887.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ عطف على جملة ﴿وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [النساء: 102] زيادة في تشجيعهم على قتال الأعداء، وفي تهوين الأعداء في قلوب المسلمين، لأنّ المشركين كانوا أكثر عددا من المسلمين وأتمّ عدّة، وما كان شرع قصر الصلاة وأحوال صلاة الخوف، إلّا تحقيقا لنفي الوهن في الجهاد.

2. الابتغاء مصدر ابتغى بمعنى بغي المتعدّي، أي الطلب، وقد تقدّم عند قوله: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ﴾ في سورة آل عمران [83]، والمراد به هنا المبادأة بالغزو، وأن لا يتقاعسوا، حتّى يكون المشركون هم المبتدئين بالغزو، تقول العرب: طلبنا بني فلان، أي غزوناهم، والمبادئ بالغزو له رعب في قلوب أعدائه، وزادهم تشجيعا على طلب العدوّ بأنّ تألّم الفريقين المتحاربين واحد، إذ كل يخشى بأس الآخر، وبأنّ للمؤمنين مزية على الكافرين، وهي أنّهم يرجون من الله ما لا يرجوه الكفّار، وذلك رجاء الشهادة إن قتلوا، ورجاء ظهور دينه على أيديهم إذا انتصروا، ورجاء الثواب في الأحوال كلّها، وقوله: ﴿مِنَ الله﴾ متعلّق ب ﴿تَرْجُونَ﴾

3. حذف العائد المجرور بمن من جملة ﴿مَا لَا يَرْجُونَ﴾ لدلالة حرف الجرّ الذي جرّ به اسم الموصول عليه، ولك أن تجعل ما صدق‏ ﴿مَا لَا يَرْجُونَ﴾ هو النصر، فيكون وعدا للمسلمين بأنّ الله ناصرهم، وبشارة بأنّ المشركين لا يرجون لأنفسهم نصرا، وأنّهم آيسون منه بما قذف الله في قلوبهم من الرعب، وهذا ممّا يفتّ في ساعدهم، وعلى هذا الوجه يكون قوله: ﴿مِنَ الله﴾ اعتراضا أو حالا مقدّمة على المجرور بالحرف، والمعنى على هذا كقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: 11]

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/245.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات السابقة كان بيان ما يتبعه المؤمنون من الصلاة عند الخوف، ولقاء العدو، ومن قبل ذلك ذكر الله سبحانه وتعالى ما ينبغي أن يتبعه المؤمنون المغلوبون على أمرهم في دولة غير إسلامية من الهجرة، فالآيات كلها في وجوب الجهاد، وما حول الجهاد.

وذلك أكد سبحانه طلبه بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ قال بعض العلماء: إن ذلك الأمر المرشد بعد غزوة أحد، ورويت في ذلك روايات إن صحت لم تعين أن يكون هذا النص في موضعها، ولكن الذى يتفق مع السياق، إن هذا النص بعد صلاة الخوف يدل على وجوب الاستمرار في القتال من غير وهن ولا ضعف، وجوب الاستمرار في طلب مواطن الضعف في الأعداء، ليكون الغلب لكلمة الحق وكلمة الله سبحانه وتعالى، فالسياق على هذا يكون: إنكم إذا أديتم الصلاة، فاتجهوا من بعدها، وقد تسلحتم بذكر الله، إلى القتال.

2. معنى النص الكريم: لا يصيبكم وهن، أي ضعف في همتكم وعزيمتكم، في ابتغاء العدو وطلبه، وتحرى موضع ضعفه والنيل منه، ولا تقعد بكم آلام الحرب عن متابعته، واللحاق به، فإن تكونوا قد أصابتكم جراح فقد أصابته، ولذا قال سبحانه: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ مرمى النص الكريم أنه لا يصح أن تكون الجراح، وويلات الحرب وآلامها مثبطة لكم عن الاستمرار في طلب المعتدين وملاقاتهم؛ لأنه إن أصابكم من الجراح والآلام ما أصابهم، فهم يجرحون ويألمون من غير رجاء في الآخرة، ولم يوعدوا بالنصر المؤزر الباقي في الدنيا، ولا بالنعيم في الآخرة، فهم يألمون في غير أمل مرجو، وأنتم إن ألمتم، فلرجاء النصر ولرجاء النعيم، فأنتم أحق بالصبر، وأولى بأن تطلبوهم، ولا تهنوا وتضعفوا في طلبهم.

3. يسوق الزمخشري النص الكريم مساقا فيه شبه لوم للمؤمنين، فيقول في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ﴾: (أى ليس ما تكابدون من الألم بالجرح والقتل مختصا بكم، إنما هو أمر مشترك بينكم وبينهم، يصيبهم كما يصيبكم، ثم إنهم يصبرون عليه، ويتشجعون، فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم؛ لأنكم ترجون من الله ما لا يرجون من إظهار دينكم على سائر الأديان، ومن الثواب العظيم في الآخرة)، ونحن نرى أن النص فيه تحريض على الصبر، ولا لوم فيه ولا شبه لوم، فما كان عند المشركين صبر كصبر المؤمنين، حتى يوازنوا بهم ويحرضوا على مثل ما هم عليه.

4. في جعل رجاء المؤمنين من الله، في قوله تعالى: ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ الله﴾، إشعار للمؤمنين بأنهم في جانب الله تعالى، وأن رجاءهم عنده، وهو يجيب رجاء المؤمن ودعاءه، ويؤيده بنصره: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران‏]، وليس للمشركين من يرجون إلا أن يكون أصناما لا تضر ولا تنفع!.

5. وإذا كان الرجاء من الله، فهو رجاء من العليم بكل شيء الحكيم الذى يضع الأمور في مواضعها، وينصر من ينصره بحكمته، ولذا قال سبحانه: ﴿وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أي ثبت وتقرر أن العلم والحكمة من أسماء الله تعالى الحسنى، جلت قدرته، وإذا كان الله سبحانه وتعالى عليما حكيما، فإنه يعلم جهاد المؤمنين للحق، واعتداد المشركين بالباطل، وبمقتضى حكمته، لا يستوى الصالح والمفسد، والمحق والمبطل، ولا يستوى عنده الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فالمؤمنون إذ يرجون ما عنده، ويطلبون رضاه، يجدون العليم الحكيم: ﴿وَالله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [آل عمران‏]، ﴿كَتَبَ الله لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة]

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1836.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. من تتبع التفاسير، وتأمل في هذه الآيات، وتدبّر معانيها يطمئن إلى انها نزلت في رجل من المسلمين سرق متاعا، ورمى بجريمته بريئا، وان قوم السارق وأقاربه ذهبوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحاولوا أن يقنعوه بشتى الأساليب ان يدافع عن صاحبهم، ويبرئه من السرقة، وانه إذا لم يفعل ذلك هلك صاحبهم، وكاد النبي يستجيب لدعوة هؤلاء المضللين، ولكن الله سبحانه رفق بأمين وحيه، ومبلّغ شريعته، وعصمه عما تآمروا به عليه، وأطلعه على الحقيقة، وفضح السارق، وبرأ الذي رماه بجرمه ظلما وبهتانا.. وقيل: ان المتهم البريء كان من اليهود، والسارق كان من الأنصار، وانه بعد أن افتضح هرب وانضم إلى المشركين.. وظاهر الآيات ينطبق كل الانطباق على هذه الحادثة، واليك البيان.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/429.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ الوهن‏ الضعف، والابتغاء الطلب، والألم‏ مقابل اللذة.

2. ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لَا يَرْجُونَ﴾ حال من ضمير الجمع الغائب، والمعنى: أن حال الفريقين في أن كلا منهما يألم واحد، فلستم أسوأ حالا من أعدائكم، بل أنتم أرفه منهم وأسعد حيث إن لكم رجاء الفتح والظفر والمغفرة من ربكم الذي هو وليكم، وأما أعداؤكم فلا مولى لهم ولا رجاء لهم من جانب يطيب نفوسهم، وينشطهم في عملهم، ويسوقهم إلى مبتغاهم، وكان الله عليما بالمصالح، حكيما متقنا في أمره ونهيه.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/64.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿تَهِنُوا﴾ من الوَهَن ضِدُّ الصلابة و﴿ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ طلبهم، أي طلب أخذهم أو قتلهم، فالمعنى: اطلبوهم بصلابة وقسوة.

2. ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ﴾ في طلبهم بالسفر والقتال ﴿فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ فاصبروا ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ الله﴾ بقتالهم وطلبهم ﴿مَا لَا يَرْجُونَ﴾ من قتالهم إياكم، فأنتم ترجون الجنة ورضوان الله وهم لا يرجون ذلك فاصبروا لتنالوا الجنة ورضوان الله ﴿وَكَانَ الله عَلِيمًا﴾ بما في نفوسكم وما في نفوسهم، وبكل شيء ﴿حَكِيمًا﴾ في أمركم بقتالهم وفي كل ما يقضي وما يخلق.

3. قال الشرفي: (قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: دلت الآية الكريمة على أن خوف الآلام والأسقام في سفر الجهاد لا يرخص في تركه) لأن المعنى: ابتغوهم بصلابة وإن أُلِمتُم، لكن لعله الألم الذي لا يمنع من القتال كالحر والبرد والتعب والجراح وقتل بعض الأصحاب، فأما ألم المرض الذي يمنع من القتال فليس من توابع الجهاد العادية وقد رخص الله للمرضى، ويحتمل: أنه إذا لم يوقن بالمرض وجب الطلب حتى يمرض؛ لأن الحر والبرد ليسا عذراً مع أنهما مظنة التسبيب لمرض، فظهر: أن الظن للمرض ليس عذراً.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/158.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إنّها دعوة للأخذ بأسباب القوة، من خلال ما يوحيه الإيمان بالله والثقة بنصره وعدم الاستسلام للوهن، وذلك لما يهوّله الشيطان ويثيره من نوازع الضعف، ولا تَهِنُوا أي: لا تضعفوا، بل تابعوا الهجوم والملاحظة فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أي: في طلب الكفار والمشركين في المعركة، فإن حالكم ليس بأسوا من حال أعدائكم ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾، لأن آلام المعركة تفرض نفسها على جميع المقاتلين، ولكنكم تتفوقون عليهم في نقطة مهمة، ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ﴾ ما لا يَرْجُونَ من النصر والمعونة والتأييد والرضوان والجنة؛ فأنتم تتحركون من موقع الثقة بالله والأمل الكبير به، بخلافهم، فإنهم لا يتمسكون بشيء من ذلك، ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾ بما تعملون، ﴿حَكِيمًا﴾ فيما يفرضه عليكم من المواقف.

2. ربما نستوحي من أجواء الآية أن القضية المطروحة هي أن يبقى المسلمون في خط المواجهة للأعداء، الذين يعملون على إسقاط الواقع الثقافي والسياسي والاقتصادي والأمني، بالرغم من اختلال موازين القوى، ومن الآلام الروحية والجسدية، المادّية والمعنوية، لأن طبيعة الصراع في عملية الكرّ والفرّ في حركة التجاذب المتبادل بين الفريقين، تفرض توزيع الآلام على الجميع، فقد ينتصر هذا الفريق ليجلب الآلام للفريق الآخر وقد يردّ الفريق المهزوم الكرّة على الفريق المنتصر ليفرض عليه الآلام بشكل أقسى، وهكذا يفرض الإسلام على المسلمين أن لا يسمحوا للمأساة الذاتية أن تأكل الإرادة القوية الصلبة في حركة جهادهم، لأن لا جهاد من دون ألم، ولا نصر من دون معاناة، وفي ضوء ذلك تتحرك الآية من أجل الدعوة إلى أن يتسلّم المسلمون زمام المبادرة في حركة الصراع، لأن الذين يبادرون هم‏ الذين يمسكون ـ غالبا ـ بزمام القضية، لا أن تكون مبادرتهم الهجومية عدوانا من خلال العقدة الذاتية ضد الإنسان الآخر، بل هي مبادرة وقائية ضد الذين يريدون السبق إلى الهجوم ليكونوا في موقع القوّة كأيّ مهاجم، لا في موقع الضعف كأي مدافع، وهكذا ينطلق الموقف المتحدّي في رحلة الآلام الجهادية من قاعدة الإيمان بالله والأمل به، لأنهم يجاهدون في سبيله ويعملون من أجل تأكيد دينه ويستهدفون ـ في نهاية المطاف ـ الحصول على رضاه في كل شيء وإذا كان الرجاء ينطلق في واقع الدنيا من النصر الإلهي الذي يهيّئ الله أسبابه، وفي واقع الآخرة من الشهادة التي قد تفرضها المعركة، فإن المؤمن يعيش الرجاء في كلتا الحالتين، وكلاهما ـ النصر أو الشهادة ـ ربح في الدنيا وسعادة في الآخرة.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/436.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إنّ سبب النّزول هذا(2) يعلّمنا أنّ المسلمين يجب أن لا يغيب عن بالهم أنواع التكتيك الذي يستخدمه العدو، وأن يواجهوا كل أسلوب حربي يتبعه العدو، سواء الأسلوب القتالي أو النفسي بأسلوب إسلامي أقوى، وأعنف من أسلوب العدو، وأن يواجهوا منطق الأعداء بمنطق أقوى وأشد، ويقابلوا سلاحهم بسلاح أمضى، وحتى شعارات الأعداء يجب أن تقابل بشعارات إسلامية ضاربة، وبغير ذلك فإنّ الرياح ستجري بما يشتهيه الأعداء.

2. ومن هذا المنطلق، فإنّنا نحن المسلمين ـ بدلا من أن نجلس ونذرف الدموع على ما مر ويمر علينا من أحداث مؤلمة مريرة، وما تشهده مجتمعاتنا من مفاسد رهيبة تحيط بهذه المجتمعات من كل جانب، علينا أن نبادر بصورة فعالة إلى‏ العمل، فنواجه العدوان المكتوب بكتابات تدحضه وتقمعه، ونواجه الإعلام الضال المسموم المضلل بأسلوب إعلامي يحبطه ويقضي على أمره، ونقابل مراكز اللهو الخليع ببناء مراكز للهو البريء السليم لشبابنا وأبنائنا، ونقرع الأفكار والأطروحات والمذاهب السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالفكر الإسلامي الجامع بأسلوب عصري يفهمه الجميع، وإذا استطعنا أن نواجه أعداءنا بهذه الصورة فقد أفلحنا في الحفاظ على كياننا الإسلامي، وفي أن نبرز للعالم بشكل مجتمع تقدمي أصيل.

3. أعقبت الآية ـ موضوع البحث هذه ـ الآيات السابقة التي تحدثت عن الجهاد والهجرة واستهدفت إحياء روح التضحية والفداء لدى المسلمين بقولها: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ وهذا تأكيد على ضرورة أن لا يواجه المسلمون عدوهم اللدود بأسلوب دفاعي، بل عليهم أن يقابلوا هذا العدو بروح هجومية دائما، لأنّ هذا الأسلوب الأخير له أثر قامع للعدو ومؤكد على معنوياته، وقد جرّب المسلمون هذا الأمر في مواجهتهم للعدو بعد واقعة أحد التي هزموا فيها، فارغموا العدو على الفرار مع أنّه كان لم يزل يتلذذ بطعم الانتصار الذي أحرزه في أحد، إذ لما علم المشركون بقدوم المسلمين خافوا من العودة إلى ساحة القتال، وأسرعوا مبتعدين عن المدينة.

4. بعد ذلك تأتي الآية باستدلال حي وواضح للحكم الذي جاءت به، فتسأل المسلمين لماذا الوهن؟ فأنتم حين يصيبكم ضرر في ساحة الجهاد فإنّ عدوكم سيصيبه هو الآخر سهم من هذا الضرر، مع فارق هو أنّ المسلمين يأملون أن يعينهم الله ويشملهم برحمته الواسعة، بينما الكافرون لا يرجون ولا يتوقعون ذلك، حيث تقول الآية: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لَا يَرْجُونَ﴾.

5. وفي الختام ـ ومن أجل إعادة التأكيد ـ تطلب الآية من المسلمين أن لا ينسوا علم الله بجميع الأمور، فهو يعلم معاناة المسلمين ومشاكلهم وآلامهم ومساعيهم وجهودهم، ويعلم أنّهم أحيانا يصابون بالتهاون والفتور، فتقول الآية: ﴿وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ وسيرى المسلمون نتيجة كل الحالات تلك.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/429.

(2) ذكر ما ورد في سبب النزول الذي سبق ذكره.

100. الكتاب والحاكمية والحق والخونة

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈100⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 105 ـ 106]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إن نفرا من الأنصار غزوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فأظن بها رجلا من الأنصار، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها، فألقاها في بيت رجل بريء، وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع، وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده، فانطلقوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: يا نبي الله، إن صاحبنا بريء، وإن سارق الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علما، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس، وجادل عنه، فإنه إلا يعصمه الله بك يهلك، فقام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فبرأه، وعذره على رؤوس الناس؛ فأنزل الله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾، يقول: بما أنزل الله إليك، إلى قوله: ﴿خَوَّانًا أَثِيمًا﴾، ثم قال للذين أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلا: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ﴾ إلى قوله: ﴿وَكِيلًا﴾، يعني: الذين أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مستخفين يجادلون عن الخائنين، ثم قال: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً﴾ الآية، يعني: السارق، والذين جادلوا عن السارق(1).

2. روي أنّه قال: إياكم والرأي، فإن الله قال لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾، ولم يقل: بما رأيت(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٦٣.

(2) ابن أبي حاتم ٤/١٠٥٩.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار استودع درعا، فجحد صاحبها، فلحق به رجال من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فغضب له قومه، وأتوا نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: خونوا صاحبنا وهو أمين مسلم، فأعذره، يا نبي الله، وازجر عنه، فقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فعذره، وكذب عنه، وهو يرى أنه بريء، وأنه مكذوب عليه؛ فأنزل الله بيان ذلك، فقال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ إلى قوله: ﴿أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ فبين خيانته، فلحق بالمشركين من أهل مكة، وارتد عن الإسلام؛ فنزل فيه: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ إلى قوله: ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٦٩.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: إن رجلا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم اختان درعا من حديد، فلما خشي أن توجد عنده ألقاها في بيت جار له من اليهود، وقال: تزعمون إني اختنت الدرع!؟ فوالله، لقد أنبئت أنها عند اليهودي، فرفع ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وجاء أصحابه يعذرونه، فكأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عذره حين لم يجد عليه بينة، وجدوا الدرع في بيت اليهودي، وأبى الله إلا العدل؛ فأنزل الله على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ إلى قوله: ﴿أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾، فعرض الله بالتوبة لو قبلها، إلى قوله: ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾ اليهودي، ثم قال لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾ إلى قوله: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾، فأبرئ اليهودي، وأخبر بصاحب الدرع، قال قد افتضحت الآن في المسلمين، وعلموا أني صاحب الدرع، ما لي إقامة ببلد، فتراغم، فلحق بالمشركين؛ فأنزل الله: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾ إلى قوله: ﴿ضَلَالًا بَعِيدًا﴾(1).

__________

(1) عزاه السيوطي إلى ابن المنذر، وذكر يحيى بن سلام ـ كما في تفسير ابن أبي زمنين ١/٤٠٣.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾، قال بما بين الله لك(1).

2. عن قال قتادة أنّه قال: ذكر لنا: أن هذه الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق، وفيما هم به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من عذره، فبين الله شأن طعمة بن أبيرق، وعظ نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحذره أن يكون للخائنين خصيما، وكان طعمة بن أبيرق رجلا من الأنصار، ثم أحد بني ظفر، سرق درعا لعمه كانت وديعة عندهم، ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم يقال له: زيد بن السمين، فجاء اليهودي إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يهتف، فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليعذروا صاحبهم، وكان نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد هم بعذره، حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل، فقال: ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾، وكان طعمة قذف بها بريئا، فلما بين الله شأن طعمة نافق، ولحق بالمشركين، فأنزل الله في شأنه: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الآية(2).

__________

(1) عزاه السيوطي إلى عبد بن حميد.

(2) ابن جرير ٧/٤٦٢.

الوراق:

روي عن مطر الوراق (ت 125 هـ) أنّه قال: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾، بالبينات، والشهود(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٥٩.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾، بما أوحى الله إليك(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٦٦.

ربيعة الرأي:

روي عن ربيعة الرأي (ت 136 هـ) أنّه قال: إن الله أنزل القرآن، وترك فيه موضعا للسنة، وسن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم السنة، وترك فيها موضعا للرأي(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٥٨.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لا والله ما فوض الله الكتاب إلى أحد من خلقه إلا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإلى الأئمة قال عز وجل: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ وهي جارية في الأوصياء عليهم السلام(1).

2. عن موسى بن أشيم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أني أريد أن تجعل لي مجلسا، فواعدني يوما فأتيته للميعاد، فدخلت عليه فسألته عما أردت أن أسأله عنه، فبينا نحن كذلك إذ قرع علينا رجل الباب، فقال: (ما ترى هذا رجل بالباب)؟ فقلت: جعلت فداك، أما أنا فقد فرغت من حاجتي فرأيك، فأذن له فدخل الرجل فتحدث ساعة، ثم سأله عن مسائلي بعينها لم يخرم منها شيئا، فأجابه بغير ما أجابني، فدخلني من ذلك ما لا يعلمه إلا الله، ثم خرج فلم يلبث إلا يسيرا حتى استأذن عليه آخر فأذن له فتحدث ساعة، ثم سأله عن تلك المسائل بعينها فأجابه بغير ما أجابني وأجاب الأول قبله، فازددت غما حتى كدت أن أكفر، ثم خرج فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء ثالث فسأله عن تلك المسائل بعينها، فأجابه بخلاف ما أجابنا أجمعين، فأظلم علي البيت ودخلني غم شديد، فلما نظر إلي ورأى ما قد دخلني ضرب بيده على منكبي ثم قال: يا بن أشيم، إن الله عز وجل فوض إلى سليمان بن داود عليه السلام ملكه فقال: هذا ﴿عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ وإن الله عز وجل فوض إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر دينه، فقال: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ وإن الله فوض إلينا من ذلك ما فوض إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(2).

__________

(1) الكافي 1/210.

(2) مختصر بصائر الدرجات: 92.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ يعني: القرآن ﴿بِالْحَقِّ﴾، لم ننزله باطلا عبثا لغير شيء؛ ﴿لِتَحْكُمَ﴾ يعني: لكي تحكم ﴿بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾، يعني: بما علمك الله في كتابه، كقوله سبحانه: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [سبأ: ٦]، ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ يعني: طعمة(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٠٥.

مالك:

روي عن مالك بن أنس (ت 179 هـ) أنّه قال: الحكم الذي يحكم به بين الناس على وجهين: فالذي يحكم بالقرآن والسنة الماضية، فذلك الحكم الواجب والصواب، والحكم يجتهد فيه العالم نفسه فيما لم يأت فيه شيء، فلعله أن يوفق، وثالث التكلف لما لا يعلم، فما أشبه ذلك ألا يوفق(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٥٩.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ أراد الله عز وجل: إكرام نبيه وتعظيمه، من بعد إقامة الحجة على أهل الشرك من أهل الكتاب: ألا يكون لهم خصيما في ما قد بان لهم من الحق، وعرفوه معه ـ صلى الله عليه ـ من الصدق، ووجدوه في كتبهم، وثبت في عقولهم، وهم يجادلون في الحق بعد ما تبين؛ مضادة لله ولرسوله؛ فأمره الله: ألا يكون لهم خصيما من بعد ذلك، وأن يحكم بما أراه الله من الحق، وينفذه عليهم وعلى غيرهم وهم كارهون.

2. وقد ذكر ذلك عز وجل، فقال: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [المائدة: 49]؛ فأمر الله سبحانه: أن يحكم بينهم بما أنزل الله؛ فكان صلى الله عليه ينفذ أحكام الله فيهم، ويمضيها ـ برغمهم ـ عليهم، وقال عز وجل: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: 94]؛ فأمره أن يصدع بالحق، وما أنزل الله عليهم من الصدق، وأن يعرض عن مخاطبة الجاهلين، وأهل الزيغ المردة المعاندين.

3. وقد قيل: إن هذه الآية في طعمة؛ وذلك أنه سرق درعا لبعض أصحاب النبي، ثم استعدي عليه، فقامت عشيرته دونه، وجحدوا عنه، وسألوا النبي صلى الله عليه أن يبرأه عند الناس مما شيع به عليه؛ فأنزل الله: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾؛ معارضة لكلامهم، ولم يكن النبي ليحتج عنه، ولا يفعل ما قالوا؛ فأنزل الله تحقيق ما ذكر عليه، فقطع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يده، وكلاهما معنى حسن، والمعنى الأول فأحسن عندنا، وأصوب لدينا.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/269.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿بِالْحَقِّ﴾ يتوجه وجوهًا:

أ. بحق الله عليكم، أنزل إليك الكتاب.

ب. ويحتمل: بحق بعض على بعض أنزل إليك الكتاب؛ لتحكم بين الناس.

ج. يحتمل قوله تعالى: ﴿بِالْحَقِّ﴾، أي: بالمحنة يمتحنهم بها؛ إذ في عقل كل أحد ذلك، وإهمال كل ذي لبٍّ لا يؤمر ولا ينهى ـ خروج عن الحكمة.

د. أو أن يقال: ﴿بِالْحَقِّ﴾، أي: بالعواقب؛ لتكون لهم العاقبة.

هـ. ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي: بالحق الذي للهِ، أو لبعض على بعض، أو لأمر كانت، وهو البعث؛ لِيُعَدَّ له، ويتزودوا بالذي يحمد عليه فاعله؛ إذ الحق صفة لكل ما يحمد عليه فاعله، والباطل لما يذم.

و. وقد يحتمل بالعدل والصدق على الأمر من التغيير والتبديل، والله الموفق.

2. ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ قيل: إن في الآية دلالة جواز الاجتهاد؛ لأنه قال: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾

3. دل قوله تعالى: ﴿بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ أن ثمة معنى يدرك بالنظر والتأمل؛ لأنه لو كان يحكم بالكل بالكتاب، لكان لا معنى لقوله: ﴿بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾، ولكن يقول له: لتحكم بين الناس بالكتاب؛ دل أنه يحكم بما يريه الله بالتدبر فيه والتأمل، لكن اجتهاده كالنص؛ لأنه لا يخطئه؛ لأنه أخبر أنه يريه ذلك؛ فلا يحتمل أن يريه غير الصواب، وأما غيره من المجتهدين فيجوز أن يكون صوابًا، ويجوز أن يكون خطأ؛ لأنه لا ينكر أن يكون الشيطان هو الذي أراه ذلك فيكون خطأ؛ فلا يجوز أن يشهد عليه بالصواب ما لم يظهر، وأما اجتهاده صلّى الله عليه وآله وسلّم فهو كله يكون صوابًا؛ لأن الله تعالى هو الذي أراه ذلك؛ فنشهد أنه صواب.

4. ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ قال أكثر أهل التفسير: إنه هَمَّ أن يُقَوِّي سارقًا ـ يقال له: طُعْمَة ـ ويصدقه في قوله؛ فنزل قوله: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾؛ فلو لم يقولوا ذلك كان أوفق وأحسن، فإن كان ما قالوا، فذلك لم يظهر منه الخيانة عنده؛ إذ ذكر في القصة أنه وجد السرقة في دار غيره، فلئن كان ذلك إنما كان لما ذكرنا، وأما النهي عن أن يكون للخاثنين خصيما: نهي وإن كان يعلم أنه لا يكون لما عصمه الله؛ كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾، إن كان عصمه من أن يكون منهم، والعصمة إنما تنفع إذا كان ثمة أمر ونهي، فأما إذا لم يكن ثمة لا أمر ولا نهي فلا معنى للعصمة والتوفيق.

5. ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللهَ﴾، ليس هو قول الناس: نستغفر الله، ولكن كأنه قال كونوا على الحال التي تكون أعمالكم مكفرة للذنوب؛ ألا ترى إلى قول هود لقومه: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ الآية، وقال نوح عليه السلام لقومه: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ الآية، لم يريدوا أن يقولوا: نستغفر الله قولا حسب؛ ولكن أرادوا أن يكونوا على الحال التي تكون أعمالهم مكفرة لذنوبهم؛ لأنهم لو قالوا بلسانهم ألف مرة: نستغفر الله، لكان لا ينفعهم ذلك؛ فعلى ذلك قوله: ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾

6. حقيقة الاستغفار وجهان:

أ. أحدهما: الانتهاء عما أوجب العقوبة؛ لقوله: ﴿إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ وعلى ذلك معنى قول من ذكر.

ب. الثاني: طلب الستر بالعفو والتجاوز.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٥٣.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾، أي بما أراك الله من دينه، وعلمك من حكمه ويقينه، وليس يريد بذلك اجتهاد الرأي كما يتوهم الجاهلون، ويذهب إليه من الجهل والتخبط هؤلاء الغافلون، لأن رأي الله أحق من رأي العباد، وحكمه أقرب إلى الحق والرشاد، وأنفى للاختلاف، وأبعد من الفساد.

2. معنى قوله: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾، أي لا تخاصم عنهم، ولا تجادل دونهم، وذرهم في لعنة الله هم وأشكالهم، ولا تمدحهم فليسوا بأهل ذلك ولا كرامة لهم.. وقد يحتمل أن يكون نهى عن كثرة الحديث معهم، وأمر بالإعراض والاحتراز منهم، والخصام في بعض اللغة هو الحديث والكلام.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/249.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ أي حقٌّ ما فيه ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ أي بما أعلمك الله وأبان لك أنه حق، ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ أي مخاصماً عنهم.

2. هذه الآية نزلت في طعمة بن أبيرق وسبب نزولها أنه كان قد أودع طعاماً ودرعاً فجحده ولم تقم عليه بينة فهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالدفع عنه فبين أمره وقيل إنه قد كان سرق درعاً وطعاماً فأنكره واتهم غيره وألقاه في منزله فأعانه قوم من الأنصار وخاصم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم بذلك على ما ظهر له من أمره حتى أنزل الله فيه هذه الآية.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/195.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه:

أ. أحدها: أن الكتاب حق.

ب. الثاني: أن فيه ذكر الحق.

ج. الثالث: أنك به أحق.

2. قوله تعالى: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: بما أعلمك الله أنه حق.

ب. الثاني: بما يؤديك اجتهادك إليه أنه حق.

3. ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ أي مخاصماً عنهم، وهذه الآية نزلت في طعمة بن أبيرق، واختلف في سبب نزولها فيه:

أ. فقال السدي: كان قد أودع درعاً وطعاماً فجحده ولم تقم عليه بينه، فهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالدفع عنه، فبين الله تعالى أمره، وقال الحسن: إنه كان سرق درعاً وطعاماً فأنكره واتهم غيره وألقاه في منزله، وأعانه قوم من الأنصار، وخاصم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عنه أو هَمّ بذلك، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية إلى قوله: ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾ يعني الذي اتهمه السارق وألقى عليه السرقة، وقيل: إنه كان رجلاً من اليهود يقال له يزيد بن السمق.

ب. وقيل: بل كان رجلاً من الأنصار يُقال له لبيد بن سهل، وقيل: طعمة بن أبيرق فارتد فنزلت فيه هذه الآية، ولحق بمشركي أهل مكة فأنزل الله تعالى فيه: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ الآية [النساء: 115].

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٢٨).

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. خاطب الله بهذه الآية نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ يا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿الْكِتَابِ﴾ يعني القرآن‏ ﴿بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ يعني بما أعلمك الله في كتابه‏ ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ نهاه أن يكون لمن خان مسلماً أو معاهداً في نفسه أو ماله خصيماً يخاصم عنه، ويدفع من طالبه عنه بحقه الذي خانه فيه.

2. ثم أمره بأن يستغفر الله في مخاصمته عن الخائن مال غيره‏ ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ يصفح عن ذنوب عباده ويسترها عليهم، ويترك مؤاخذتهم بها، وعندنا (2) أن الخطاب وإن توجه إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من حيث خاصم من رآه على ظاهر الايمان والعدالة، وكان في الباطن بخلافه فلم يكن ذلك معصية، لأنه عليه السلام منزه عن القبائح فإنما ذكر ذلك على وجه التأديب له في أن لا يبادر فيخاصم ويدفع عن خصم إلا بعد أن يبين الحق منه، والمراد بذلك أمته عليه السلام، على أنا لا نعلم أن ما روي في هذا الباب وقع من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأن طريقه الآحاد، وليس توجه النهي إليه بدال على أنه وقع منه ذلك المنهي قال‏: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ ولا يدل ذلك على وقوع الشرك منه، وقال قوم من المفسرين: انه لم يخاصم عن الخصم وإنما هم به فعاتبه الله على ذلك.

3. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: الآية نزلت في بني أبيرق كانوا ثلاثة أخوة بشر وبشير ومبشر وكان بشر يكنى أبا طعمة فنقبوا على عم قتادة بن النعمان وأخذوا له طعاماً وسيفاً، ودرعاً فشكى ذلك إلى ابن أخيه قتادة وكان قتادة بدريا فجاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكر له القصة، وكان معهم في الدار رجل يقال له لبيد بن سهل وكان فقيراً شجاعاً مؤمناً، فقال بنو أبيرق لقتادة هذا عمل لبيد بن سهل، فبلغ لبيداً ذلك، فأخذ سيفه وخرج إليهم، وقال يا بني أبيرق أترموني بالسرق وأنتم أولى به منى، وأنتم المنافقون تهجون رسول الله وتنسبون إلى قريش لتبينن ذلك أو لأضعن سيفي فيكم فداروه، وقالوا: ارجع رحمك الله فأنت بريء من ذلك، وبلغهم ان قتادة مضى إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فمشوا إلى رجل من رهطهم يقال له أسير بن عروة، وكان منطيقاً لسناً فأخبروه، فمشى أسير إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في جماعة، فقال: يا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إن قتادة بن النعمان رمى جماعة من أهل الحسب منا بالسرق واتهمهم بما ليس فيهم وجاء قتادة إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأقبل‏ عليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال: عمدت إلى أهل بيت حسب ونسب رميتهم بالسرق وعاتبه فاغتم قتادة ورجع إلى عمه، فقال: ليتني مت ولم أكن كلمت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد قال لي ما كرهت، فقال عمه الله المستعان، فنزلت هذه الآية ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾ يعني لبيد بن سهل حين رماه بنوا بيرق بالسرق‏ ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ إلى قوله: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ فبلغ ذلك بني أبيرق فخرجوا من المدينة، ولحقوا بمكة وارتدوا فلم يزالوا بمكة مع قريش فلما فتح مكة هربوا إلى الشام فانزل الله فيهم‏ ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾ إلى آخر الآيات، ولما مضى إلى مكة نزل على سلامة بنت سعد ابن شهيد امرأة من الأنصار كانت ناحكاً في بني عبد الدار بمكة فهجاها حسان، فقال:

çوقد أنزلته بنت سعد وأصبحت...ينازعها جلد استها وتنازعه‏

ظننتم بأن يخفي الذي قد صنعتم...وفينا نبي عنده الوحي واضعةé

فحملت رحله على رأسها وألقته بالأبطح وقالت، ما كنت تأتيني بخير أهديت إلى شعر حسان، ونزل فيه قوله: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ هذا قول مجاهد، وقتادة بن النعمان، وابن زيد، وعكرمة، إلا أن قتادة، وابن زيد، وعكرمة قالوا: إن بني أبيرق طرحوا ذلك على يهودي يقال له زيد بن السمين، فجاء اليهودي إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبمثله قال ابن عباس، وقال ابن جريج: هذه الآيات كلها نزلت في أبي طعمة بن أبي أبيرق إلى قوله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ وقال: رمى بالدرع في دار أبي مليك ابن عبد الله الخزرجي فلما نزل القرآن لحق بقريش.

ب. قال الضحاك: نزلت في‏ رجل من الأنصار استودع درعاً فجحد صاحبها فخونه رجال من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فغضب له قوم فأتوا نبي الله، فقالوا: أخونوا صاحبا، وهو أمين مسلم؟ فعذره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وكذب عنه، وهو يرى أنه بريء مكذوب عليه فأنزل الله فيه الآيات، واختار الطبري هذا الوجه وقال: لأن الخيانة إنما تكون في الوديعة فأما السارق فلا يسمى خائناً فحمله عليه أولى وكل ذلك جائز.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/316.

(2) يقصد الإمامية.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الحق: وضع الشيء موضعه على ما تقضيه الحكمة، ويقال لله تعالى الحق، أي ذو الحق، وفي الكتاب أنه حق معنيان: أحدهما: ذو الحق، الثاني: أنه وضع على ما تدعو إليه الحكمة.

ب. المخاصمة: المنازعة، والخصم يستوي فيه الواحد والجمع والذكر والأنثى، والخصام مصدر خاصمته مخاصمة وخصامًا.

ج. الخائن: ضد الأمين، وأصله الخيانة، وأصله النقصان، والتخون: التنقص، يخون فلان حقي أي ينقص.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت الْآية في درعٍ كانت وديعة عند طعمة بن أبيرق، فجحدها، ولم يكن عليه بينة وجادل عنه قومه، وأبوا عليه، فقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهمّ بالدفع عنه، فنزلت الآية، وبَيَّنَ أمره، عن السدي والضحاك.

ب. وقيل: إنه سرق درعًا فجادل عنه قومه عن الحسن وابن زيد، وعن قتادة بن النعمان قال كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر، وكان بشر منافقًا، وكان شاعرًا يهجو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وينحله غيره، فنقب بيت رفاعة بن زيد وحمل منه طعامًا وسلاحا فاتهم هو به، فرمى به لبيد بن سهل وكان مسلمًا صالحًا، فاخترط لبيد سيفه وقال: والله لتبينن بأني بريء من هذه السرقة أو ليخالطنكم هذا السيف، فقالوا: إليك عنا... [ما أنت بصاحبها] فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فجمعهم، فقالوا: إن قتادة بن النعمان عمد إلى أهل بيت منا أهل صلاحٍ وإسلام يرميهم بالسرقة من غير بينة، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا قتادة، عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح فرميتهم بالسرقة من غير بينة)، فوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يلبث أن نزل جبريل ونزل القرآن: ﴿وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ يعني بني أبيرق ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللهَ﴾ مما قلت لقتادة، ولما نزل القرآن بخيانة بشر لحق بالمشركين.

ج. وقيل: إن رجلاً سرق درعًا فطرحه على يهودي فقال اليهودي: ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طُرِحت عليّ، فكان جيران السارق يبرئونه ويطرحونه على اليهودي حتى قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ببعض القول عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأنزل التوبة، فعرض على الرجل فلم يقبل، وخرج إلى مكة فنقب بيتًا للسرقة فهدم عليه، فقتله.

د. وقيل: إن طعمة سرق الدرع ووضعها في وعاء دقيق فانتثر الدقيق، من مكان سرقته إلى بيته فاتهم، فخاضوا في أمره فمضى بالدرع إلى يهودي، فأودعه فطلب عنده فحلف لهم، ثم رمى اليهودي بالسرقة، فأخذ وشهد جماعة أنه أودعها طعمة، وجاء قوم طعمة يجادلون عنه عند رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى همّ بمعاقبة اليهودي، فأنزل الله تعالى براءة اليهودي وخيانة طعمة، وأمر بالاستغفار، عن ابن عباس.

3. في علاقة الآية الكريمة بما قبلها وجوه:

أ. قيل: لما بين الأحكام والشرائع في السورة عقبها بأن جميع ذلك أنزل بالحق.

ب. وقيل: لما تقدم ذكر المنافقين والكافرين وأمر بمجانبتهم عقب ذلك بذكر الخائنين وأمر بمجانبتهم.

ج. وقيل: إنه يتصل بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾، وقوله: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ﴾ قال كيف يزكون حكمُك وقد أنزلنا عليك الكتاب لتحكم بينهم بحكمه، عن أبي مسلم.

د. وقيل: إنه يتصل بقوله: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ فئة تجادل عنها، وفئة تميل عليها، فنهي عن الدفع عنهم، وبين أن ما أنزل فيهم أنزل بالحق، ويقال: لما بين أنه أنزل الكتاب بالحق بين أن من خالفه وخان الله ورسوله فلا تجادل عنه.

4. ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ يعني القرآن بالحق:

أ. قيل: بالأمر والنهي والفصل.

ب. وقيل: بالحق الذي يجب لله على عباده بقوله.

ج. وقيل: بالحق الذي أمر بفعله.

د. وقيل: مبينًا للحق وهو الحلال والحرام وما يجب وما لا يجب.

5. ﴿لِتَحْكُمَ﴾ يا محمد ﴿بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾:

أ. قيل: بما بين لك من الشرائع.

ب. وقيل: بما بين في الكتاب والحكمة.

6. ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ معناه: وأوحى إليك ألَّا ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ﴾ من خان مسلمًا أو معاهدًا في نفسه أو ماله ﴿خَصِيمًا﴾ أي مخاصمًا له ودافعًا عنه:

أ. قيل: الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم

ب. وقيل: المراد غيره، كقوله: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ﴾ وهو لا يشك.

ج. وقيل: ولا تك أيها السامع.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللهَ﴾:

أ. قيل: أي اطلب المغفرة من الله مما هممت به من قطع يد اليهودي، عن ابن عباس.

ب. وقيل: من جدالك، عن طعمة عن مقاتل.

ج. وقيل: استغفر الله مما قلته لقتادة بن النعمان، ويحمل على الجميع أي استغفر الله مما أقدمت عليه في فذه الواقعة مما لم يؤذن لك فيه.

د. وقيل: كان ذنبًا صغيرًا.

هـ. وقيل: لم يكن ذنبًا وأمر بالاستغفار على وجه التسبيح.

و. وقيل: الاستغفار للقوم، استغفر الله لمن جادل عن هذا الخائن عندك.

ز. وقيل: الخطاب لغيره.

8. ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا﴾ ساترًا لذنوب عباده ﴿رَحِيمًا﴾ بهم حيث ينعم عليهم نعم الدين والدنيا، وقيل: رحيم بكم حيث بين لكم هذه الأحوال.

9. أدخل ﴿كَانَ﴾ لوجهين:

أ. أحدهما لتدل أن الرحمة والغفران من صفته،

ب. ثانيها: لتدل أنه كالواقع.

10. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن الكتاب دلالة على الأحكام.

ب. أن جميع ما يتضمنه حق وصدق، ولا يكون كذلك إلا وهو كلام حكيم لا يختار القبيح، فيبطل القول بالجبر..

ج. حدوث القرآن؛ لأن ما يجوز إنزاله لا يكون قديمًا، ولأنه إنما أنزله أو أنزل محله وكلاهما يوجب حدثه على أن إرادته وغرضه أن يحكم به، فيبطل قول الْمُجْبِرَة إن غرضه ألا يحكم به.

د. أن الرؤية تكون بمعنى العلم؛ لأن قوله: ﴿أَرَاكَ﴾ علمك.

هـ. النهي عن الدفع عن الخائن.

و. أن مَنْ هَمَّ بشيء فهو معصية، وإن لم تكن كبيرة؛ ولذلك أوجب الاستغفار، وقد بَيَّنَّا ما قيل فيه.

11. الباء في قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ يعني أنزل، على وجه الحق، وقيل: نزل على الحق، وتبين الحق.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/57.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت في بني أبيرق، وكانوا ثلاثة أخوة: بشر، وبشير، ومبشر، وكان بشير يكنى أبا طعمة، وكان يقول الشعر، يهجو به أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم يقول: قاله فلان، وكانوا أهل حاجة في الجاهلية والإسلام، فنقب أبو طعمة على علية رفاعة بن زيد، وأخذ له طعاما، وسيفا، ودرعا، فشكا ذلك إلى أخيه قتادة بن النعمان، وكان قتادة بدريا، فتجسسا في الدار، وسألا أهل الدار في ذلك، فقال بنو أبيرق: والله ما صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل ذو حسب ونسب، فأصلت عليهم لبيد بن سهل سيفه، وخرج إليهم وقال: يا بني أبيرق أترمونني بالسرق، وأنتم أولى به مني، وأنتم منافقون تهجون رسول الله، وتنسبون ذلك إلى قريش! لتبينن ذلك، أو لأضعن سيفي فيكم! فداروه، وأتى قتادة رسول الله، فقال: يا رسول الله! إن أهل بيت منا، أهل بيت سوء عدوا على عمي، فخرقوا علية له من ظهرها، وأصابوا له طعاما وسلاحا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنظروا في شأنكم، فلما سمع بذلك رجل من بطنهم الذي هم منه، يقال له أسير بن عروة، جمع رجالا من أهل الدار، ثم انطلق إلى رسول الله، فقال: إن قتادة بن النعمان، وعمه، عمدا إلى أهل بيت منا، لهم حسب، ونسب، وصلاح، وأبنوهم بالقبيح، وقالوا لهم ما لا ينبغي، وانصرف، فلما أتى قتادة رسول الله بعد ذلك، ليكلمه، جبهه رسول الله جبها شديدا، وقال: عمدت إلى أهل بيت حسب ونسب، تأتيهم بالقبيح، وتقول لهم ما لا ينبغي!؟ قال فقام قتادة من عند رسول الله، ورجع إلى عمه، وقال: يا ليتني مت، ولم أكن كلمت رسول الله، فقد قال لي ما كرهت! فقال عمه رفاعة: الله المستعان، فنزلت الآيات ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾، فبلغ بشيرا ما نزل فيه من القرآن، فهرب إلى مكة، وارتد كافرا، فنزل على سلافة بنت سعد بن شهيد، وكانت امرأة من الأوس من بني عمرو بن عوف، نكحت من بني عبد الدار، فهجاها حسان فقال:

çفقد أنزلته بنت سعد وأصبحت... ينازعها جلد استها وتنازعه

ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتموا... وفينا نبي عنده الوحي واضعهé

فحملت رحله على رأسها، فألقته بالأبطح، وقالت: ما كنت تأتيني بخير، أهديت إلي شعر حسان، هذا قول مجاهد، وقتادة بن النعمان، وعكرمة، وابن جريج، إلا أن عكرمة قال إن بني أبيرق طرحوا ذلك على يهودي يقال له زيد بن السهين، فجاء اليهودي إلى رسول الله، وجاء بنو أبيرق إليه، وكلموه أن يجادل عنهم، فهم رسول الله أن يفعل، وأن يعاقب اليهودي، فنزلت الآية وبه قال ابن عباس.

ب. وقال الضحاك: نزلت في رجل من الأنصار، استودع درعا، فجحد صاحبها، فخونه رجال من أصحاب النبي، فغضب له قومه، فقالوا: يا نبي الله! خون صاحبنا، وهو مسلم أمين! فعذره النبي، وكذب عنه، وهو يرى أنه برئ مكذوب عليه، فأنزل الله فيه الآيات، واختار الطبري هذا الوجه قال لان الخيانة إنما تكون في الوديعة، لا في السرقة.

2. خاطب الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿الْكِتَابِ﴾ يعني: القرآن ﴿بِالْحَقِّ﴾:

أ. الذي يجب لله على عباده.

ب. وقيل معناه: إنك به أحق.

3. ﴿لِتَحْكُمَ﴾ يا محمد ﴿بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ أي أعلمك الله في كتابه ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ نهاه أن يكون لمن خان مسلما، أو معاهدا في نفسه، أو ماله، خصيما يدافع من طالبه عنه بحقه الذي خانه فيه، ويخاصم.

4. ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللهَ﴾: أمره بأن يستغفر الله في مخاصمته عن الخائن ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ يصفح عن ذنوب عباده المسلمين، ويترك مؤاخذتهم بها.

5. الخطاب وإن توجه إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، من حيث خاصم عمن رآه على ظاهر الايمان والعدالة، وكان في الباطن بخلافه، فالمراد بذلك أمته، وإنما ذكر ذلك على وجه التأديب له في أن لا يبادر بالخصام والدفاع عن خصم، إلا بعد أن يتبين وجه الحق فيه، جل نبي الله عن جميع المعاصي والقبائح، وقيل: إنه لم يخاصم عن الخصم، وإنما هم بذلك، فعاتبه الله عليه.

6. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:

أ. قيل: لما تقدم ذكر المنافقين والكافرين، والامر بمجانبتهم، عقب ذلك بذكر الخائنين، والامر باجتناب الدفع عنهم.

ب. وقيل: إنه تعالى لما بين الاحكام والشرائع في السورة، عقبها بأن جميع ذلك أنزل بالحق.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/160.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أن طعمة بن أبيرق سرق درعا لقتادة بن النّعمان، وكان الدّرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتشر من خرق في الجراب، حتى انتهى إلى الدّار، ثم خبّأها عند رجل من اليهود، فالتمست الدّرع عند طعمة، فلم توجد عنده، وحلف: ما لي بها علم، فقال أصحابها: بلى والله، لقد دخل علينا فأخذها، وطلبنا أثره حتى دخل داره، فرأينا أثر الدّقيق، فلمّا حلف تركوه، واتّبعوا أثر الدّقيق حتى انتهوا إلى منزلي اليهوديّ فأخذوه، فقال: دفعها إليّ طعمة، فقال قوم طعمة: انطلقوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وليجادل عن صاحبنا فإنه بريء فأتوه فكلّموه في ذلك، فهمّ أن يفعل، وأن يعاقب اليهوديّ، فنزلت هذه الآيات كلها، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

ب. الثاني: أنّ رجلا من اليهود، استودع طعمة بن أبيرق درعا، فخانها، فلما خاف اطّلاعهم عليها، ألقاها في دار أبي مليل الأنصاريّ، فجادل قوم طعمة عنه، وأتوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فسألوه أن يبرّئه، ويكذّب اليهوديّ، فنزلت الآيات، هذا قول السّدّيّ، ومقاتل.

ج. الثالث: أن مشربة رفاعة بن زيد نقبت، وأخذ طعامه وسلاحه، فاتّهم به بنو أبيرق، وكانوا ثلاثة: بشير، ومبشّر، وبشر، فذهب قتادة بن النّعمان إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله إنّ أهل بيت منّا فيهم جفاء نقبوا مشربة لعمي رفاعة بن زيد، وأخذوا سلاحه، وطعامه، فقال: أنظر في ذلك، فذهب قوم من قوم بني أبيرق إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: إنّ قتادة بن النّعمان، وعمّه عمدوا إلى أهل بيت منّا يرمونهم بالسّرقة وهم أهل بيت إسلام وصلاح، فقال النبيّ لقتادة: رميتهم بالسّرقة على غير بيّنة! فنزلت هذه الآيات، قاله قتادة بن النّعمان.

2. الكتاب: القرآن، والحقّ: الحكم بالعدل، ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾: أي لتقضي بينهم، وفي ﴿بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ قولان‏:

أ. أحدهما: أنه الذي علّمه، والذي علّمه أن لا يقبل دعوى أحد على أحد إلا ببرهان.

ب. الثاني: أنه ما يؤدّي إليه اجتهاده، ذكره الماورديّ.

3. ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ قال الزجّاج: لا تكن مخاصما، ولا دافعا عن خائن، واختلفوا هل خاصم عنه أم لا؟ على قولين:

أ. أحدهما: أنه قام خطيبا فعذره، رواه العوفيّ عن ابن عباس‏.

ب. الثاني: أنه همّ بذلك، ولم يفعله، قاله سعيد بن جبير، وقتادة.

4. قال القاضي أبو يعلى: هذه الآية تدلّ على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه، وهو غير عالم بحقيقة أمره، لأن الله تعالى عاتب نبيّه على مثل ذلك.

5. ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللهَ﴾ في الذي أمر بالاستغفار منه قولان‏:

أ. أحدهما: أنه القيام بعذر.

ب. الثاني: أنه العزم على ذلك.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/466.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في علاقة الآية الكريمة بما قبلها وجوه:

أ. الأول: أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين على سبيل الاستقصاء ثم اتصل بذلك أمر المحاربة، واتصل بذكر المحاربة ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية، مثل قتل المسلم خطأ على ظن أنه كافر، ومثل بيان صلاة السفر وصلاة الخوف، رجع الكلام بعد ذلك إلى أحوال المنافقين، وذكر أنهم كانوا يحاولون أن يحملوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على أن يحكم بالباطل ويذر الحكم الحق، فأطلع الله رسوله عليه وأمره بأن لا يلتفت إليهم ولا يقبل قولهم في هذا الباب.

ب. الثاني: أنه تعالى لما بيّن الأحكام الكثيرة في هذه السورة بيّن أن كل ما عرف بإنزال الله تعالى وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قومه.

ج. الثالث: أنه تعالى لما أمر بالمجاهدة مع الكفار بيّن أن الأمر وإن كان كذلك لكنه لا تجوز الخيانة معهم ولا إلحاق ما لم يفعلوا بهم، وأن كفر الكافر لا يبيح المسامحة بالنظر له، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل على رسوله، وأن لا يلحق الكافر حيف لأجل أن يرضى المنافق بذلك.

2. اتفق المفسرون على أن أكثر هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق، ثم في كيفية الواقعة روايات:

أ. أحدها: أن طعمة سرق درعا فلما طلبت الدرع منه رمى واحدا من اليهود بتلك السرقة، ولما اشتدت الخصومة بين قومه وبين قوم اليهودي جاء قومه إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وطلبوا منه أن يعينهم على هذا المقصود وأن يلحق هذه الخيانة باليهودي، فهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك فنزلت الآية.

ب. ثانيها: أن واحدا وضع عنده درعا على سبيل الوديعة ولم يكن هناك شاهد، فلما طلبها منه جحدها.

ج. ثالثها: أن المودع لما طلب الوديعة زعم أن اليهودي سرق الدرع واعلم أن العلماء قالوا هذا يدل على أن طعمة وقومه كانوا منافقين، وإلا لما طلبوا من الرسول نصرة الباطل وإلحاق السرقة باليهودي على سبيل التخرص والبهتان، ومما يؤكد ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ [النساء: 113] ثم‏ روي‏ أن طعمة هرب إلى مكة وارتد وثقب حائطا هناك لأجل السرقة فسقط الحائط عليه ومات.

3. ﴿أَرَاكَ الله﴾ قال أبو علي الفارسي: قوله: ﴿أَرَاكَ الله﴾ إما أن يكون منقولا بالهمزة من رأيت التي يراد بها رؤية البصر، أو من رأيت التي تتعدى إلى المفعولين، أو من رأيت التي يراد بها الاعتقاد، والأول باطل لأن الحكم في الحادثة لا يرى بالبصر، والثاني أيضا باطل لأنه يلزم أن يتعدى إلى ثلاثة لا إلى المفعولين بسبب التعدية، ومعلوم أن هذا اللفظ لم يتعد إلا إلى مفعولين أحدهما: الكاف التي هي للخطاب، والآخر المفعول المقدر، وتقديره: بما أراكه الله، ولما بطل القسمان بقي الثالث، وهو أن يكون المراد منه رأيت بمعنى الاعتقاد.

4. ثبت بما قدمنا أن قوله: ﴿بِمَا أَرَاكَ الله﴾ معناه بما أعلمك الله، وسمي ذلك العلم‏ بالرؤية لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية في القوة والظهور، وكان عمر يقول: لا يقولن أحد قضيت بما أراني الله تعالى، فإن الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيّه، وأما الواحد منا فرأيه يكون ظنا ولا يكون علما.

5. قال المحققون: هذه الآية تدل على أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ما كان يحكم إلا بالوحي والنص، ويتفرع عليه مسألتان:

أ. إحداهما: أنه لما ثبت أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ما كان يحكم إلا بالنص ثبت أن الاجتهاد ما كان جائزا له.

ب. الثانية: أن هذه الآية دلت على أنه ما كان يجوز له أن يحكم إلا بالنص، فوجب أن يكون حال الأمة كذلك لقوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأعراف: 158] وإذا كان كذلك وجب أن يكون العمل بالقياس حراما، والجواب عنه أنه لما قامت الدلالة على أن القياس حجة كان العمل بالقياس عملا بالنص في الحقيقة، فإنه يصير التقدير كأنه تعالى قال مهما غلب على ظنك أن حكم الصورة المسكوت عنها مثل حكم الصورة المنصوص عليها بسبب أمر جامع بين الصورتين فاعلم أن تكليفي في حقك أن تعمل بموجب ذلك الظن، وإذا كان الأمر كذلك كان العمل بهذا القياس عملا بعين النص.

6. ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ معنى الآية: ولا تكن لأجل الخائنين مخاصما لمن كان بريئا عن الذنب، يعني لا تخاصم اليهود لأجل المنافقين، قال الواحدي: خصمك الذي يخاصمك، وجمعه الخصماء، وأصله من الخصم وهو ناحية الشيء وطرفه، والخصم طرف الزاوية وطرف الأشفار، وقيل للخصمين خصمان لأن كل واحد منهما في ناحية من الحجة والدعوى، وخصوم السحابة جوانبها.

7. سؤال وإشكال: قال الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام: دلّت هذه الآية على صدور الذنب من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنه لولا أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أراد أن يخاصم لأجل الخائن ويذب عنه وإلا لما ورد النهي عنه، والجواب: أن النهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي فاعلا للمنهى عنه، بل‏ ثبت في الرواية أن قوم طعمة لما التمسوا من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يذب عن طعمة وأن يلحق السرقة باليهودي توقف وانتظر الوحي فنزلت هذه الآية، وكان الغرض من هذا النهي تنبيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على أن طعمة كذاب، وأن اليهودي بريء عن ذلك الجرم.

8. سؤال وإشكال: الدليل على أن ذلك الجرم قد وقع من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله بعد هذه الآية ﴿وَاسْتَغْفِرِ الله إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فلما أمره الله بالاستغفار دل على سبق الذنب، والجواب: من وجوه:

أ. الأول: لعله مال طبعه إلى نصرة طعمة بسبب أنه كان في الظاهر من المسلمين فأمر بالاستغفار لهذا القدر، وحسنات الأبرار سيئات المقربين.

ب. الثاني: لعلّ القوم لما شهدوا على سرقة اليهودي‏ وعلى براءة طعمة من تلك السرقة ولم يظهر للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ما يوجب القدح في شهادتهم هم بأن يقضي بالسرقة على اليهودي، ثم لما أطلعه الله تعالى على كذب أولئك الشهود عرف أن ذلك القضاء لو وقع لكان خطأ، فكان استغفاره بسبب أنه هم بذلك الحكم الذي لو وقع لكان خطأ في نفسه وإن كان معذورا عند الله فيه.

ج. الثالث: قوله: ﴿وَاسْتَغْفِرِ الله﴾ يحتمل أن يكون المراد: واستغفر الله لأولئك الذين يذبون عن طعمة ويريدون أن يظهروا براءته عن السرقة.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/212.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآية تشريف للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتكريم وتعظيم وتفويض إليه، وتقويم أيضا على الجادة في الحكم، وتأنيب على ما رفع إليه من أمر بني أبيرق، وكانوا ثلاثة إخوة: بشر وبشير ومبشر، وأسير بن عروة ابن عم لهم، نقبوا مشربة لرفاعة بن زيد في الليل وسرقوا أدراعا له وطعاما، فعثر على ذلك، وقيل إن السارق بشير وحده، وكان يكنى أبا طعمة أخذ درعا، قيل: كان الدرع في جراب فيه دقيق، فكان الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره، فجاء ابن أخي رفاعة واسمه قتادة بن النعمان يشكوهم إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فجاء أسير بن عروة إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله، إن هؤلاء عمدوا إلى أهل بيت هم أهل صلاح ودين فأنبوهم بالسرقة ورموهم بها من غير بينة، وجعل يجادل عنهم حتى غضب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على قتادة ورفاعة، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ الآية، وأنزل الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾ وكان البريء الذي رموه بالسرقة لبيد بن سهل، وقيل: زيد بن السمين وقيل: رجل من الأنصار، فلما أنزل الله ما أنزل، هرب ابن أبيرق السارق إلى مكة، ونزل على سلافة بنت سعد بن شهيد، فقال فيها حسان بن ثابت بيتا يعرض فيه بها، وهو:

çوقد أنزلته بنت سعد وأصبحت...ينازعها جلد استها وتنازعه

ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتمو...وفينا نبي عنده الوحي واضعهé

فلما بلغها قالت: إنما أهديت لي شعر حسان، وأخذت رحله فطرحته خارج المنزل، فهرب إلى خيبر وارتد، ثم إنه نقب بيتا ذات ليلة ليسرق فسقط الحائط عليه فمات مرتدا، ذكر هذا الحديث بكثير من ألفاظه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني، وذكره الليث والطبري بألفاظ مختلفة، وذكر قصة موته يحيى بن سلام في تفسيره، والقشري كذلك وزاد ذكر الردة، ثم قيل: كان زيد بن السمين ولبيد بن سهل يهوديين، وقيل: كان لبيد مسلما، وذكره المهدوي، وأدخله أبو عمر في كتاب الصحابة له، فدل ذلك على إسلامه عنده، وكان بشير رجلا منافقا يهجو أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وينحل الشعر غيره، وكان المسلمون يقولون: والله ما هو إلا شعر الخبيث، فقال شعرا يتنصل فيه، فمنه قوله: أوكلما قال الرجال قصيدة...نحلت وقالوا ابن الأبيرق قالهاوقال الضحاك: أراد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقطع يده وكان مطاعا، فجاءت اليهود شاكين في السلاح فأخذوه وهربوا به، فنزل ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ يعني اليهود.

2. ﴿بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ معناه على قوانين الشرع، إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سنن الوحي، وهذا أصل في القياس، وهو يدل على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا رأى شيئا أصاب، لأن الله تعالى أراه ذلك، وقد ضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة، فأما أحدنا إذا رأى شيئا يظنه فلا قطع فيما رآه، ولم يرد رؤية العين هنا، لان الحكم لا يرى بالعين، وفي الكلام إضمار، أي بما أراكه الله، وفيه إضمار آخر، وامض الأحكام على ما عرفناك من غير اغترار باستدلالهم.

3. ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ اسم فاعل، كقولك: جالسته فأنا جليسه، ولا يكون فعيلا هنا بمعنى مفعول، يدل على ذلك ﴿وَلَا تُجَادِلْ﴾ فالخصيم هو المجادل وجمع الخصيم خصماء، وقيل: خصيما مخاصما اسم فاعل أيضا، فنهى الله تعالى رسوله عن عضد أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة، وفي هذا دليل على أن النيابة عن المبطل والمتهم في الخصومة لا تجوز، فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق، ومشى الكلام في السورة على حفظ أموال اليتامى والناس، فبين أن مال الكافر محفوظ عليه كمال المسلم، إلا في الموضع الذي أباحه الله تعالى، المسألة

4. قال العلماء: ولا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم ليحموهم ويدفعوا عنهم، فإن هذا قد وقع على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وفيهم نزل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾، وقوله: ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من المسلمين دونه لوجهين:

أ. أحدهما: أنه تعالى أبان ذلك بما ذكره بعد بقوله: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾

ب. والآخر: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان حكما فيما بينهم، ولذلك كان يعتذر إليه ولا يعتذر هو إلى غيره، فدل على أن القصد لغيره.

5. ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ذهب الطبري إلى أن المعنى: استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين، فأمره بالاستغفار لما هم بالدفع عنهم وقطع يد اليهودي، وهذا مذهب من جوز الصغائر على الأنبياء، صلوات الله عليهم، قال ابن عطية: وهذا ليس بذنب، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما دافع على الظاهر وهو يعتقد برأتهم، والمعنى: واستغفر الله للمذنبين من أمتك والمتخاصمين بالباطل، ومحلك من الناس أن تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع، وتستغفر للمذنب، وقيل: هو أمر بالاستغفار على طريق التسبيح، كالرجل يقول: أستغفر الله، على وجه التسبيح من غير أن يقصد توبة من ذنب، وقيل: الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد بنو أبيرق، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ﴾، ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ﴾

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/375.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿بِمَا أَرَاكَ الله﴾ إما بوحي، أو بما هو جار على سنن ما قد أوحى الله به، وليس المراد هنا رؤية العين، لأن الحكم لا يرى، بل المراد: بما عرّفه الله به وأرشده إليه، قوله: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ﴾ أي: لأجل الخائنين، خصيما: أي: مخاصما عنهم، مجادلا للمحقين بسببهم، وفيه دليل، على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق.

2. ﴿وَاسْتَغْفِرِ الله﴾ أمر لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالاستغفار، قال ابن جرير: إن المعنى: استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين، وسيأتي بيان السبب الذي نزلت لأجله الآية، وبه يتضح المراد، وقيل: المعنى: واستغفر الله للمذنبين من أمتك، والمخاصمين بالباطل.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/590.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سرق طعمة بن أُبَيْرِق ـ بصيغة التصغير ـ الأنصاريُّ من بني ظفر درعًا وجده في جراب فيه دقيق، من جاره قتادة بن النعمان، وخبَّأها عند زيد بن السمين اليهوديِّ وديعةً عنده، ووجدوا أثر الدقيق متناثرًا، فَقَالَ أصحابه نتبع أثر الدقيق، فوجدوه في دار اليهوديِّ، فَقَالَ: (وضعه عندي طعمةٌ)، وشهد له قومه، فأنكر طعمة، وحلف طعمة: إنِّي ما وضعته عنده وما سرقته، وعزم قومه أن يشهدوا له أنَّ اليهوديَّ هو السارق، وفعلوا، وسألوه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجادل عن طعمة، فهمَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بقطعه، فارتدَّ، فهرب إلى مكَّة، ونقب فيها حائطًا ليسرق، فوقع عليه فمات، وقيل: ركب سفينة إلى جدَّة فسرق فيها كيسًا فيه دنانير فألقوه في البحر، وقيل: لحق بقريش فنقب غرفة للحجَّاج، فأخرجوه، فلحق بركب من قضاعة، فَقَالَ: (إنِّي ابن السبيل)، فحملوه وسرق منهم، وهرب فأدركوه فقتلوه رجمًا، وقيل: نزل على الحجَّاج المذكور ـ وهو الحجَّاج بن علاط ـ فنقب بيته ليسرق، ففطن له، فَقَالَ: (ضيفي وابن عمِّي تريد أن تسرق منِّي!)، فأخرجه ومات بحرَّة بني سالم، وفي جميع ذلك مات كافرًا مرتدًّا، وفيه نزلت الآية الكريمة.

2. ﴿إِنَّا أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللهُ﴾ بما عرَّفك الله بالوحي، ﴿وَلَا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ﴾ لأجل الخائنين ونفعهم، أو عن الخائنين، وهم بنو أُبيرق، أو طعمة ومن معه، أو للخائنين مطلقًا، والعطف عطف إنشاء على إخبار، أو على محذوف، أي: اُحكم بالحقِّ ولا تكن، أو يقدَّر قولٌ، أي: (قلنا إنَّا أنزلنا) فإنَّه لا إشكال في قولنا: (وقلنا ولا تكن) إلخ، ﴿خَصِيمًا﴾ على خصمهم، أو لا تكن خصيمًا ثابتًا لهم على خصمهم، زجرا له صلّى الله عليه وآله وسلّم عمَّا ظهر له ومال إليه من تبرئة طعمة، والاقتصار على تحليفه، والحكم على اليهوديِّ لوجود الدرع عنده، وبطلان شهادة المشركين له على المسلم.

3. وذلك كلُّه حقٌّ بحسب ما ظهر له صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وهو الذي كَلَّف الله به العباد، إِلَّا أنَّ الله سبحانه بيَّن له صلّى الله عليه وآله وسلّم أنَّ اليهودي بريء، وأنَّ طعمة هو السارق، ونهاه أنْ يحكم على اليهوديِّ، فجرى على هذا الغيب الذي أخبره الله به، ولو لم يخبره الله به لجرى على ذلك الذي ظهر له من الحكم على اليهوديِّ، وكان محقًّا مصيبًا له أجران، لأنَّه مصيب فيما كُلِّف به، كما في سائر حكمه بحسب ما ظهر له، وقوله: (إنِّي أجذو جذوة من نار لمن حكمت له بغير حقِّه لظاهر الأمر، وهو عالم بأنَّ الحقَّ ليس له)

4. ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللهَ﴾ لميلك في عجلة بلا تأنٍّ وتدبُّر إلى الحكم على اليهوديِّ مع أنَّه حقٌّ، أو من تغليظك على قتادة بلا تأنٍّ، أو من اهتمامك قبل التدبُّر، وذلك لعلوِّ مقامه صلّى الله عليه وآله وسلّم حتَّى إنَّه يعدُّ هذا في حقِّه ذنبًا مثل ما يقال: (حسنات الأبرار سيِّئات المقرَّبين)، أو أراد: استغفر لمن أرادوا الذبَّ عن طعمة من قومه، وإظهار براءته من السرقة لندمهم على ذلك، أو من ميلك إلى الذبِّ عنه بإغراء قومه لك، وأيضًا النهي عن الشيء لا يوجب أن يكون المنهيُّ مرتكبًا للمنهيِّ عنه، وأيضًا قد تكون الآية من باب: ﴿لَئِنَ اَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65]، كما قيل: إنَّ الخطاب لمطلق الإنسان، ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ للمستغفرين.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/278.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أما إيضاح ألفاظ الآيات وثمراتها(2) فنقول: قوله تعالى: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله﴾، أي: بما عرفك وأعلمك وأوحى به إليك، سمي ذلك العلم بالرؤية، لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية، في القوة والظهور، قال الزمخشريّ: وعن عمر: لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكن ليجتهد رأيه، لأن الرأي من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مصيبا، لأن الله كان يريه إياه، وهو منا الظن والتكلف.

2. قال ابن الفرس: في هذه الآية إثبات الرأي والقياس، وتعقبه السيوطيّ بما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: إياكم والرأي، فإن الله تعالى قال لنبيه: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله﴾، ولم يقل: بما رأيت، ثم قال السيوطيّ: وقال غيره: يحتمل قوله: ﴿بِمَا أَرَاكَ الله﴾، الوحي والاجتهاد معا.

3. وقال ابن كثير: احتج من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلّى الله عليه وآله وسلّم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية، وبما ثبت في الصحيحين‏ عن أم سلمة؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليحملها أو ليذرها، رواه أحمد عنها أيضا بلفظ: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في موارث بينهما قد درست، ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته (أو قد قال لحجته) من بعض، فإني أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، يأتي بها إسطاما في عنقه يوم القيامة، فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أما إذ قلتما، فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه، قد رواه أبو داود وزاد: إني إنما أقضي بينكما برأيي، فيما لم ينزل عليّ فيه.

4. قال السيوطيّ: في الآية الرد على من أجاز أن يكون الحاكم غير عالم، لأن الله تعالى فوّض الحكم إلى الاجتهاد، ومن لا علم عنده كيف يجتهد؟

5. ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ﴾، أي: لأجلهم والذبّ عنهم، وهم طعمة ومن يعينه من قومه على ما تقدم‏ ﴿خَصِيمًا﴾ أي مخاصما، وفيه أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق، ﴿وَاسْتَغْفِرِ الله﴾، أي مما قلت لقتادة، كما تقدم مفسرا.

6. قال الرازيّ: تمسك بهذه الآية من يرى جواز صدور الذنب من الأنبياء، وقالوا: لو لم يقع من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ذنب لما أمر بالاستغفار، ثم أجاب عن ذلك بوجوه، وقال القاضي عياض في (الشفا): إن تصرف الأنبياء عليهم السلام بأمور لم ينهوا عنها ولا أمروا بها، ثم عوتبوا بسببها، أو أتوها على وجه التأويل ـ إنما هي ذنوب بالإضافة إلى عليّ منصبهم وإلى كمال طاعتهم، لا أنها كذنوب غيرهم ومعاصيهم، وأطال في هذا المقام وأطاب، ثم قال وأيضا، فإن في التوبة والاستغفار معنى آخر لطيفا أشار إليه بعض العلماء، وهو استدعاء محبة الله، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222]

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/320.

(2) ذكر قبل هذا بتفصيل ما ورد في سبب النزول الذي سبق ذكره.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وجه الاتصال والتناسب بين هذه الآيات وما قبلها فقد قال محمد عبده: بعد أن حذر الله المنافقين من أعداء الحق الذين يحاولون طمسه بإهلاك أهله، أراد أن يحذرهم من ما يخشى على الحق من جهة الغفلة عنه، وترك العناية بالنظر في حقيقته وترك حفظه، فإن إهمال العناية بالحق أشد الخطرين عليه لأنه يكون سببا لفقد العدل أو تداعي أركانه وذلك يفضي إلى هلاك الأمة وكذلك إهمال غير العدل من الأصول العامة التي جاء بها الدين، فالعدو لا يمكنه إهلاك أمة كبيرة وإعدامها، ولكن ترك الأصول المقومة للأمة كالعدل وغيره يهلك كل أمة تهمله ولذلك قال: (وذكر الآية الأولى)

2. أما اتصال الآيات بما قبلها مباشرة فالأقرب فيه ما قاله محمد عبده ويمكن بيانه بأنه تعالى لما أمر المؤمنين بأن يأخذوا حذرهم من الأعداء ويستعدوا لمجاهدتهم حفظا للحق أن يؤتى من الخارج، أمرهم بأن يقوموا بما يحفظه في نفسه فلا يؤتى من الداخل، وأن يقيموه على وجهه كما أمر الله تعالى ولا يحابوا فيه أحدا.

3. وأما اتصالها بمجموع ما قبلها فقد علمنا مما مرّ أن أول السورة في أحكام النساء والبيوت إلى قوله تعالى: ﴿﴿وَاعْبُدُوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: 36] ومن هذه الآية إلى هنا تنوعت الآيات بالانتقال من الأحكام العامة إلى مجادلة اليهود وبيان حالهم مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين، وتخلل ذلك الأمر بطاعة الله ورسوله والنعي على المنافقين الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت كاليهود، وتأكيد الأمر بطاعة الرسول، وبيان أنه تعالى لم يبعث رسولا إلا ليطاع، والترغيب في هذه الطاعة، ثم انتقل من ذلك إلى أحكام القتال وبيان حال المؤمنين والكافرين والمنافقين فيه، وقد عاد في هذا السياق أيضا إلى تأكيد طاعة الرسول وحال المنافقين فيها ـ فناسب أن ينتقل الكلام من هذا السياق إلى بيان ما يجب على الرسول نفسه أن يحكم به بعدما حتم الله التحاكم إليه وأمر بطاعته فيما يحكم ويأمر به، فكان هذا الانتقال في بيان واقعة اشترك فيها الخصام بين من سبق القول فيهم من أهل الكتاب والمنافقين الذين سبق شرح أحوالهم في الآيات السابقة.

4. ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله﴾ أي إنا أوحينا إليك هذا القرآن بتحقيق الحق وبيانه لأجل أن تحكم بين الناس بما أعلمك الله به من الأحكام فاحكم به ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ تخاصم عنهم وتناضل دونهم، وهو طعمه وقومه الذين سرقوا الدرع وأرادوا أن يلصقوا جرمهم باليهودي البريء فهو كقوله تعالى في السورة الآتية:' ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [المائدة: 49] فالحق هو المطلوب في الحكم سواء كان المحكوم عليه يهوديا أو مجوسيا، أو مسلما حنيفيا، قال شيخ المفسرين ابن جرير ﴿بِمَا أَرَاكَ الله﴾ يعني بما أنزل الله إليك من كتابه ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ يقول ولا تكن لمن خان مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله خصيما تخاصم عنه وتدافع عنه من طالبه بحقه الذي خانه فيه) وتسمية إعلامه تعالى لنبيه بالأحكام إراءة يشعر بأن علمه صلّى الله عليه وآله وسلّم بها يقيني كالعلم بما يراه بعينه في الجلاء والوضوح.

5. قال محمد عبده: هذه الجملة مستأنفة فعطفها على ما قبلها ليس من قبيل عطف المفرد على المفرد المشارك له في الحكم بل من قبيل عطف الجملة الابتدائية على جملة قبلها لارتباطها بالمعنى العام، والمعنى ولا تتهاون بتحري الحق اغترارا بلحن الخائنين وقوة صلابتهم في الخصومة لئلا تكون خصيما لهم وتقع في ورطة الدفاع عنهم، وهذا الخطاب ليس خاصا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بل هو عام لكل من يحكم بين الناس بما أنزل الله كما أمر الله، أقول ويؤيد قول محمد عبده حديث أم سلمة المتفق عليه في الصحيحين والسنن: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار)

6. من مباحث الأصول في هذه الآية مسألة حكمه صلّى الله عليه وآله وسلّم بالوحي فقط أو بالوحي تارة وبالاجتهاد أخرى، وقد تقدم أن قوله تعالى: ﴿أَرَاكَ الله﴾ معناه أعلمك علما يقينيا كالرؤية في القوة والظهور وما ذلك إلا الوحي الذي يفهم صلّى الله عليه وآله وسلّم منه مراد الله فهما قطعيا، وروي أن عمر كان يقول: لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله تعالى فإن الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم وأما أحدنا فرأيه يكون ظنا لا علما، ذكره الرازي ثم قال: (إذا عرفت هذا فنقول قال المحققون: هذه الآية تدل على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما كان يحكم إلا بالوحي والنص) ثم فرع عن ذلك أن الاجتهاد ما كان جائزا له وإنما يجب عليه الحكم بالنص، وذكر أن الأمر باتباعه يقتضي تحريم القياس وعدم جوازه لولا أن أجيب عن ذلك بأن القياس ثبت بالنص أيضا.

7. وقال الإمام سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي في كتاب (الإشارات الإلهية، إلى مباحث الأصولية): (﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله﴾ يحتمل أن المراد بما نصه لك في الكتاب ويحتمل أن المراد بما أراكه بواسطة نظرك واجتهادك في أحكام الكتاب وأدلته وفيه على هذا دليل على أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يجتهد فيما لا نص عنده فيه من الحوادث وهي مسألة خلاف في أصول الفقه، وحجة من أجاز هذه الآية وأن الاجتهاد في الأحكام منصب كمال، فلا ينبغي أن يفوته عليه السلام، وقد دل على وقوعه منه قوله عليه السلام: (لو قلت نعم لوجب ولو سمعت شعره قبل قتله لم أقتله) في قضيتين مشهورتين، وحجة المانع ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 4،3] ولأنه قادر على يقين الوحي والاجتهاد لا يفيد اليقين لجوازه في حقه والحالة هذه كالتيمم مع القدرة على الماء، ثم على القول الأول وهو أن الاجتهاد جائز له هل يقع منه الخطأ فيه أم لا؟ فيه قولان للأصوليين أحدهما لا لعصمته، والثاني نعم بشرط أن لا يقر عليه استدلالا بنحو ﴿عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 9] ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنفال: 67] ونحو ذلك، ويتعلق بهذا مسألة التفويض وهو أنه هل يجوز أن يفوض الله عز وجل إلى نبي حكم الأمة بأن يقول أحكم بينهم باجتهادك وما حكمت به فهو حق، أو وأنت لا تحكم إلا بالحق؟ فيه قولان أقربهما الجواز وهو قول موسى بن عمران من الأصوليين لأنه مضمون له إصابة الحق، وكل مضمون له ذلك جاز له الحكم أو يقال هذا التفويض لا محذور فيه وكل ما كان كذلك كان جائزا)

8. الآية في الحكم بكتاب الله لا في الاجتهاد ولكنها لا تدل على منع الاجتهاد، ولا عليه أيضا ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ لأن هذا في القرآن خاصة وإلا كان كل كلامه صلّى الله عليه وآله وسلّم وحيا وقد ورد أن الوحي كان ينقطع أياما متعددة وأنه كان يسأل عن الشيء فينتظر الوحي كما كان يسأل أحيانا فيجيب من غير انتظار للوحي.

9. ﴿وَاسْتَغْفِرِ الله﴾ قال ابن جرير: (وسله أن يصفح لك عن عقوبة ذنبك في مخاصمتك عن الخائن) وأورد الرازي في الاستغفار ثلاثة وجوه:

1 لعله مال إلى نصرة طعمة لأنه في الظاهر من المسلمين.

2 لعله هم أن يحكم على اليهودي عملا بشهادة قوم طعمة التي لم يكذبها شيء حتى نزل الوحي، فعلم أنه لو حكم لوقع قضاؤه خطأ لبنائه على كذب القوم وزوّرهم وكل من هذين الأمرين مما يستغفر منه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والذنب فيه من قبيل قولهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

3 يحتمل أن المراد واستغفر الله لأولئك الذين يذبون عن طعمة ويريدون أن يظهروا براءته، اه ملخصا.

وقال محمد عبده: واستغفر الله مما يعرض لك من شؤون البشر من نحو ميل إلى من تراه ألحن بحجته، أو الركون إلى مسلم لأجل إسلامه تحسينا للظن به، فإن ذلك قد يوقع الاشتباه، وتكون صورة صاحبه صورة من أتى الذنب الذي يوجب له الاستغفار، وإن لم يكن متعمدا للزيغ عن العدل، والتحيز إلى الخصم، فهذا من زيادة الحرص على الحق، كأن مجرد الالتفات إلى قول المخادع كاف في وجوب الاحتراس منه، وناهيك بما في ذلك من التشديد فيه.

أقول: ظاهر الروايات أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مال إلى تصديق المسلمين وإدانة اليهودي لما كان يغلب على المسلمين في ذلك العهد من الصدق والأمانة، وعلى اليهود من الكذب والخيانة، ولذلك قال العلماء في القديم والحديث إن أولئك المسلمين، لم يكونوا إلا منافقين، لأن مثل عمل طعمة وتأييد من أيده فيه لا يصدر عمدا إلا من منافق، وتبع ذلك أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ود لو يكون الفلج بالحق في الخصومة للمسلمين الذين يرجح صدقهم فأراد أن يساعدهم على ذلك ولكنه لم يفعل انتظارا لوحي الله تعالى، فعلمه الله تعالى بهذه الآيات وعلمنا أن الاعتقاد الشخصي، والميل الفطري والديني، لا ينبغي أن يظهر لهما أثر ما في مجلس القضاء، ولا أن يساعد القاضي من يظن أنه هو صاحب الحق، بل عليه أن يساوي بين الخصمين في كل شيء وإذا كان هذا هو الواجب وكان ذلك الميل إلى تأييد من غلب على الظن صدقه يفضي إلى مساعدته في الخصومة فيكون الحاكم خصيما عنه لو فعل، وإذا كان طلب الانتصار لهم من الخائنين في الواقع ونفس الأمر في هذه القضية فقد وجب الاستغفار من هذا الاجتهاد وحسن الظن فهذا أحسن ما يوجه به ما ذهب إليه الرازي على تقدير صحة الرواية في سبب نزول الآيات، وما قاله محمد عبده أبلغ في تنزيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مما لا يليق به، أما العصمة فلا ينقضها شيء مما ورد ولا الأمر بالاستغفار، لأن الأنبياء معصومون من الحكم أو العمل بغير ما أوحاه الله تعالى إليهم أو ما يرون باجتهادهم أنه الصواب، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يحكم في هذه القضية قبل نزول الآيات بشيء، ولم يعمل بغير ما يعتقد أنه تأييد للحق، ولكنه أحسن الظن في أمر بين له علام الغيوب حقيقة الواقع فيه وما ينبغي له في معاملة ذويه، ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أي كان شأنه ذلك وتقدم شرح مثل هذه الجملة مرارا.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/322.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن حذر الله المؤمنين من المنافقين أعداء الحق وأمرهم أن يستعدوا لمجاهدتهم خوف أن يطمسوا معالم الحق ويهلكوا أهله ـ أمرهم هنا أن يقوموا بحفظ الحق وألا يحابوا فيه أحدا.

2. ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله﴾ أي إنا أنزلنا إليك هذا القرآن بتحقيق الحق وبيانه، لأجل أن تحكم بين الناس بما أعلمك الله به من الأحكام.

3. ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ أي ولا تكن لمن خان خصما: أي مخاصما ومدافعا تدافع عنه من طالبه بحقه الذي خان فيه.

4. وخلاصة ذلك ـ إن عليك ألا تتهاون في تحرى الحق اغترارا بلحن الخائنين وقوة جدلهم في الخصومة، لئلا تكون خصيما لهم وتقع في ورطة الدفاع عنهم، ويؤيد هذا حديث أم سلمة: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلىّ ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار)

5. ﴿وَاسْتَغْفِرِ الله﴾ مما يعرض لك من شئون البشر وأحوالهم بالميل إلى من تراه ألحن بحجته، أو الركون إلى مسلم لأجل إسلامه تحسينا للظن به، فهذا ونحوه صورته صورة من أتى ذنبا يوجب الاستغفار وإن لم يكن متعمدا للزيغ عن العدل، والتحيز للخصم.

6. وفى هذا من زيادة الحرص على الحق والتشديد فيه ما لا يخفى، حتى كأن مجرد الالتفات إلى قول المخادع يجب الاحتراس منه، كما أن فيه إيماء إلى أن الاعتقاد الشخصي والميل الفطري والديني لا ينبغي أن يظهر لهما أثر في مجلس القضاء، وإلى أن القاضي لا يساعد من يظن أنه صاحب الحق، بل عليه أن يساوى بين المتخاصمين في كل شيء والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يحكم في هذه القضية قبل نزول الآيات ولم يعمل بغير ما يعتقد أنه تأييد للحق، لكنه أحسن الظن في أمر بيّن له علام الغيوب حقيقة الواقع فيه، وما ينبغي له أن يعامل به ذويه.

7. ثم رغبهم في المغفرة فقال: ﴿إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أي إنه تعالى مبالغ في المغفرة والرحمة لمن استغفره.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/148.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآيات تحكي قصة لا تعرف لها الأرض نظيرا، ولا تعرف لها البشرية شبيها.. وتشهد ـ وحدها ـ بأن هذا القرآن وهذا الدين لا بد أن يكون من عند الله؛ لأن البشر ـ مهما ارتفع تصورهم، ومهما صفت أرواحهم، ومهما استقامت طبائعهم ـ لا يمكن أن يرتفعوا ـ بأنفسهم ـ إلى هذا المستوي الذي تشير إليه هذه الآيات؛ إلا بوحي من الله.. هذا المستوي الذي يرسم خطا على الأفق لم تصعد إليه البشرية ـ إلا في ظل هذا المنهج ـ ولا تملك الصعود إليه أبدا إلا في ظل هذا المنهج كذلك! إنه في الوقت الذي كان اليهود في المدينة يطلقون كل سهامهم المسمومة، التي تحويها جعبتهم اللئيمة، على الإسلام والمسلمين؛ والتي حكت هذه السورة وسورة البقرة وسورة آل عمران جانبا منها ومن فعلها في الصف المسلم..

2. في الوقت الذي كانوا فيه ينشرون الأكاذيب؛ ويؤلبون المشركين؛ ويشجعون المنافقين، ويرسمون لهم الطريق؛ ويطلقون الإشاعات؛ ويضللون العقول؛ ويطعنون في القيادة النبوية، ويشككون في الوحي والرسالة؛ ويحاولون تفسيخ المجتمع المسلم من الداخل، في الوقت الذي يؤلبون عليه خصومه ليهاجموه من الخارج.. والإسلام ناشئ في المدينة، ورواسب الجاهلية ما يزال لها آثارها في النفوس؛ ووشائج القربي والمصلحة بين بعض المسلمين وبعض المشركين والمنافقين واليهود أنفسهم، تمثل خطرا حقيقا على تماسك الصف المسلم وتناسقه..

3. في هذا الوقت الحرج، الخطر، الشديد الخطورة.. كانت هذه الآيات كلها تتنزل، على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى الجماعة المسلمة، لتنصف رجلا يهوديا، اتهم ظلما بسرقة؛ ولتدين الذين تآمروا على اتهامه، وهم بيت من الأنصار في المدينة، والأنصار يومئذ هم عدة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وجنده، في مقاومة هذا الكيد الناصب من حوله، ومن حول الرسالة والدين والعقيدة الجديدة..!

4. أي مستوى هذا من النظافة والعدالة والتسامي! ثم أي كلام يمكن أن يرتفع ليصف هذا المستوي؟ وكل كلام، وكل تعليق، وكل تعقيب، يتهاوى دون هذه القمة السامقة؛ التي لا يبلغها البشر وحدهم، بل لا يعرفها البشر وحدهم، إلا أن يقادوا بمنهج الله، إلى هذا الأفق العلوي الكريم الوضي‏ء!؟

5. والقصة التي رويت من عدة مصادر في سبب نزول هذه الآيات أن نفرا من الأنصار ـ قتادة بن النعمان وعمه رفاعة ـ غزوا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم (رفاعة)، فحامت الشبهة حول رجل من الأنصار من أهل بيت يقال لهم: بنو أبيرق، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي، (وفي رواية: إنه بشير بن أبيرق.. وفي هذه الرواية: أن بشيرا هذا كان منافقا يقول الشعر في ذم الصحابة وينسبه لبعض العرب!) فلما رأى السارق ذلك عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل يهودي (اسمه زيد بن السمين)، وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع، وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده، فانطلقوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: يا نبي‏ الله: إن صاحبنا بريء وإن الذي سرق الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علما، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس، وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك.. ولما عرف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن الدرع وجدت في بيت اليهودي، قام فبرأ ابن أبيرق وعذره على رؤوس الناس، وكان أهله قد قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل ظهور الدرع في بيت اليهودي ـ إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت! قال قتادة: فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فكلمته، فقال: (عمدت إلى أهل بيت يذكر منهم إسلام وصلاح وترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة؟) قال فرجعت، ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: الله المستعان.. فلم نلبث أن نزلت: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ ـ أي بني أبيرق ـ وخصيما: أي محاميا ومدافعا ومجادلا عنهم ـ (واستغفر الله) ـ أي مما قلت لقتادة ـ ﴿إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.. ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ ـ إلى قوله تعالى: ﴿رحيما﴾ ـ أي لو استغفروا الله لغفر لهم ـ ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ ـ إلى قوله: ﴿إِثْمًا مُبِينًا﴾.. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾، إلى قوله: ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.. فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالسلاح فرده إلى رفاعة.. قال قتادة: لما أتيت عمي بالسلاح ـ وكان شيخا قد عمي ـ أو عشي ـ في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولا، فلما أتيته بالسلاح قال يا ابن أخي هي في سبيل الله، فعرفت أن إسلامه كان صحيحا! فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾

6. إن المسألة لم تكن مجرد تبرئة بريء تآمرت عليه عصبة لتوقعه في الاتهام ـ وإن كانت تبرئة بريء أمرا هائلا ثقيل الوزن في ميزان الله ـ إنما كانت أكبر من ذلك، كانت هي إقامة الميزان الذي لا يميل مع الهوى، ولا مع العصبية، ولا يتأرجح مع المودة والشنآن أيا كانت الملابسات والأحوال.

7. وكانت المسألة هي تطهير هذا المجتمع الجديد؛ وعلاج عناصر الضعف البشري فيه مع علاج رواسب الجاهلية والعصبية ـ في كل صورها حتى في صورة العقيدة، إذا تعلق الأمر بإقامة العدل بين الناس ـ وإقامة هذا المجتمع الجديد، الفريد في تاريخ البشرية، على القاعدة الطيبة النظيفة الصلبة المتينة التي لا تدنسها شوائب الهوى والمصلحة والعصبية، والتي لا تترجرج مع الأهواء والميول والشهوات!

8. ولقد كان هناك أكثر من سبب للإغضاء عن الحادث، أو عدم التشديد فيه والتنديد به وكشفه هكذا لجميع الأبصار، بل فضحه بين الناس ـ على هذا النحو العنيف المكشوف.. كان هناك أكثر من سبب، لو كانت الاعتبارات الأرضية هي التي تتحكم وتحكم، ولو كانت موازين البشر ومقاييسهم هي التي يرجع إليها هذا المنهج:

أ. كان هناك سبب واضح عريض.. أن هذا المتهم (يهودي).. من (يهود).. يهود التي لا تدع سهما مسموما تملكه إلا أطلقته في حرب الإسلام وأهله، يهود التي يذوق منها المسلمون الأمرين في هذه الحقبة (ويشاء الله أن يكون ذلك في كل حقبة!) يهود التي لا تعرف حقا ولا عدلا ولا نصفة، ولا تقيم اعتبارا لقيمة واحدة من قيم الأخلاق في التعامل مع المسلمين على الإطلاق!

ب. وكان هنالك سبب آخر؛ وهو أن الأمر في الأنصار، الأنصار الذين آووا ونصروا، والذين قد يوجد هذا الحادث بين بعض بيوتهم ما يوجد من الضغائن، بينما أن اتجاه الاتهام إلى يهودي، يبعد شبح الشقاق!

ج. وكان هنالك سبب ثالث، هو عدم إعطاء اليهود سهما جديدا يوجهونه إلى الأنصار، وهو أن بعضهم يسرق بعضا، ثم يتهمون اليهود! وهم لا يدعون هذه الفرصة تفلت للتشهير بها والتغرير!

9. ولكن الأمر كان أكبر من هذا كله، كان أكبر من كل هذه الاعتبارات الصغيرة، الصغيرة في حساب الإسلام، كان أمر تربية هذه الجماعة الجديدة لتنهض بتكاليفها في خلافة الأرض وفي قيادة البشرية، وهي لا تقوم بالخلافة في الأرض ولا تنهض بقيادة البشرية حتى يتضح لها منهج فريد متفوق على كل ما تعرف البشرية؛ وحتى يثبت هذا المنهج في حياتها الواقعية، وحتى يمحص كيانها تمحيصا شديدا؛ وتنفض عنه كل خبيئة من ضعف البشر ومن رواسب الجاهلية، وحتى يقام فيها ميزان العدل ـ لتحكم به بين الناس ـ مجردا من جميع الاعتبارات الأرضية، والمصالح القريبة الظاهرة، والملابسات التي يراها الناس شيئا كبيرا لا يقدرون على تجاهله!

10. واختار الله سبحانه هذا الحادث بذاته، في ميقاته.. مع يهودي.. من يهود التي يذوق منها المسلمون الأمرين إذ ذاك في المدينة؛ والتي تؤلب عليهم المشركين، وتؤيد بينهم المنافقين، وترصد كل ما في جعبتها من مكر وتجربة وعلم لهذا الدين! وفي فترة حرجة من حياة المسلمين في المدينة، والعداوات تحيط بهم من كل جانب، ووراء كل هذه العداوات يهود! اختار الله هذا الحادث في هذا الظرف، ليقول فيه سبحانه للجماعة المسلمة ما أراد أن يقول، وليعلمها به ما يريد لها أن تتعلم! ومن ثم لم يكن هناك مجال للباقة! ولا للكياسة! ولا للسياسة! ولا للمهارة في إخفاء ما يحرج، وتغطية ما يسوء! ولم يكن هناك مجال لمصلحة الجماعة المسلمة الظاهرية! ومراعاة الظروف الوقتية المحيطة بها! هنا كان الأمر جدا خالصا، لا يحتمل الدهان ولا التمويه! وكان هذا الجد هو أمر هذا المنهج الرباني وأصوله.

11. وأمر هذه الأمة التي تعد لتنهض بهذا المنهج وتنشره، وأمر العدل بين الناس، العدل في هذا المستوي الذي لا يرتفع إليه الناس ـ بل لا يعرفه الناس ـ إلا بوحي من الله، وعون من الله، وينظر الإنسان من هذه القمة السامقة على السفوح الهابطة ـ في جميع الأمم على مدار الزمان ـ فيراها هنالك.. هنالك في السفوح.. ويرى بين تلك القمة السامقة والسفوح الهابطة صخورا متردية، هنا وهناك، من الدهاء، والمراء، والسياسة، والكياسة، والبراعة، والمهارة، ومصلحة الدولة، ومصلحة الوطن، ومصلحة الجماعة.. إلى آخر الأسماء والعنوانات.. فإذا دقق الإنسان فيها النظر رأى من تحتها.. الدود..! وينظر الإنسان مرة أخرى فيرى نماذج الأمة المسلمة ـ وحدها ـ صاعدة من السفح إلى القمة.. تتناثر على مدار التاريخ، وهي تتطلع إلى القمة، التي وجهها إليها المنهج الفريد، أما العفن الذي يسمونه (العدالة) في أمم الجاهلية الغابرة والحاضرة، فلا يستحق أن نرفع عنه الغطاء، في مثل هذا الجو النظيف الكريم..

12. ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ الله إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.. إننا نحس في التعبير صرامة، يفوح منها الغضب للحق، والغيرة على العدل؛ وتشيع في جو الآيات وتفيض منها: وأول ما يبدو هذا في تذكير رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بتنزيل الكتاب إليه بالحق ليحكم بين الناس بما أراه الله، واتباع هذا التذكير بالنهي عن أن يكون خصيما للخائنين، يدافع عنهم ويجادل، وتوجيهه لاستغفار الله سبحانه عن هذه المجادلة.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/751.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله﴾ هو بلاغ مبين لما بين يدى النبيّ من آيات الله، وما فيها من حق، وأن هذا الحق الذي بين يديه، هو رحمة وهدى للناس، وما كان هذا شأنه فلا يكون سببا في ضر أو أذى.. شأن الطبيب الذي يحمل إلى الأجسام الدواء، يبغى سلامتها وعافيتها..!

2. وفي الناس الظالمون، الخائنون، الذين يمدون أيديهم إلى الناس بالبغي والعدوان، ثم إذا جى‏ء بهم إلى ساحة القصاص رموا بما في أيديهم من ظلم وبغى على غيرهم من الأبرياء، وجاءوا إلى ذلك بالزور والبهتان، وبشهود الزور والبهتان..

3. وموقف النبيّ الكريم مع هؤلاء المبطلين، هو أن يحكم فيهم بما أراه الله، وبما في يديه من كتاب الله، وأن يستمع إلى طرفي الخصومة، دون أن يكون خصيما، أي معاديا لأىّ من الطرفين، حتى ولو استبانت خيانة الخائن، وظهر بهتانه.. إنه ـ مهما كان جرمه ـ لا يؤخذ بغير الجزاء الراصد لجريمته، عندما تثبت إدانته.. فلا يقف منه القاضي موقف العداء، الذي قد يميل به إلى الجور على هذا المتهم، وتجاوز الحدّ في العقاب الذي يستحقه! وانظر كيف تدبير الإسلام في حمايته للإنسان، ودفع الظلم عنه، حتى وهو الظالم الأثيم.. ذلك أن الظلم لا يدفع بالظلم، وإنما الذي يدفعه هو تحقيق العدل، وأخذ الظالم بظلمه، دون مجاوزة حدود الله فيه..

4. وإذ كان الظالم المفترى على الله وعلى الناس الكذب ـ في وجه البغضة والكراهية من الناس، وخاصة عند من يقومون على العدل، ورفع المظالم، الأمر الذي قد يحمل ولىّ الأمر على التنكيل به، والمبادرة إلى إلقاء ثقل التهمة كلها عليه، دون مراعاة للظروف المخففة، التي لو نظر فيها ولىّ الأمر نظرة لا تحمل العداوة والشنآن، فربما كان ذلك مما يمسك به عن الجور ومجاوزة الحد، ـ نقول: إذ كان الظالم الخائن لأمانة الله ورسوله والمؤمنين، في وجه هذه العداوة ـ فقد كان من تدبير الشريعة الإسلامية، وحكمتها، أن تحمى هذا المجرم من الجور، وأن تأخذه بحكم الله فيه.. ولهذا جاء قوله تعالى للنبي الكريم: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ ـ جاء هذا القول من ربّ العالمين، لرسوله الكريم، دستورا في القضاء بين الناس، والفصل في المنازعات التي تحدث بينهم..

5. وهو أمر يلتزم به ولىّ الأمر، القائم على القضاء بين المتخاصمين ـ جانب الحيدة المطلقة، وأن يخلى نفسه من كل ما يندسّ إليها من مشاعر البغضة والعداوة للمذنب، الذي ينتظر جزاء ذنبه.. وأنه إذا كان لولى الأمر أن ينكر المنكر وأن يأخذ أهله بالقصاص، فإنه ليس له أن يكون خصما للمجرم، المذنب، وهو قاضيه، والحاكم عليه.. إذ لا يتفق أن يكون الإنسان خصما وحكما في وقت معا.. والشاعر العربي يقول:

çيا أعدل الناس إلا في معاملتى‏...كيف الخصام وأنت الخصم والحكم؟é

إن ذلك لا يتفق أبدا! حتى في مقام النبوة، وبين يدى النبىّ..! ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ فكيف بغير النبي من عباد الله؟

6. ﴿وَاسْتَغْفِرِ الله إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.. هو دعوة إلى طلب المغفرة من الله، لما يكون قد طاف بالنفس من مشاعر العداوة والشنآن لأهل السوء الذين أخذوا بذنبهم، وربما كان لذلك أثره في الشدة عليهم، وسدّ كل منافذ التسامح دونهم، فيما كان يمكن أن يحمل على التسامح! وهذا الأدب السماوي للنبي الكريم تأديب لنا، وتحذير من الجور في القضاء، وحراسة للنفس من الدوافع التي تدفع بها إلى الانحياز إلى جانب أحد المتخاصمين، وهو المعتدى عليه، والشدة المجاوزة للحدّ على المعتدى.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/889.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اتّصال هذه الآية بما قبلها يرجع إلى ما مضى من وصف أحوال المنافقين ومناصريهم، وانتقل من ذلك إلى الاستعداد لقتال المناوين للإسلام من قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا﴾ [النساء: 71] الآية، وتخلّل فيه من أحوال المنافقين في تربّصهم بالمسلمين الدوائر ومختلف أحوال القبائل في علائقهم مع المسلمين، واستطرد لذكر قتل الخطأ والعمد، وانتقل إلى ذكر الهجرة، وعقّب بذكر صلاة السفر وصلاة الخوف، عاد الكلام بعد ذلك إلى أحوال أهل النفاق، والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا.

2. جمهور المفسّرين على أنّ هاته الآية نزلت بسبب حادثة رواها الترمذي حاصلها: أنّ إخوة ثلاثة يقال لهم: بشر وبشير ومبشّر، أبناء أبيرق، وقيل: أبناء طعمة بن أبيرق، وقيل: إنّما كان بشير أحدهم يكنى أبا طعمة، وهم من بني ظفر من أهل المدينة، وكان بشير شرّهم، وكان منافقا يهجو المسلمين بشعر يشيعه وينسبه إلى غيره، وكان هؤلاء الإخوة في فاقة، وكانوا جيرة لرفاعة بن زيد، وكانت عير قد أقبلت من الشام بدرمك ـ وهو دقيق الحوّارى أي السميذ ـ فابتاع منها رفاعة بن زيد حملا من درمك لطعامه، وكان أهل المدينة يأكلون دقيق الشعير، فإذا جاء الدرمك ابتاع منه سيّد المنزل شيئا لطعامه فجعل الدرمك في مشربة له وفيها سلاح، فعدى بنو أبيرق عليه فنقبوا مشربته وسرقوا الدقيق والسلاح، فلمّا أصبح رفاعة ووجد مشربته قد سرقت أخبر ابن أخيه قتادة بن النعمان بذلك، فجعل يتحسّس، فأنبئ بأنّ بني أبيرق استوقدوا في تلك الليلة نارا، ولعلّه على بعض طعام رفاعة، فلمّا افتضح بنو أبيرق طرحوا المسروق في دار أبي مليل الأنصاري، وقيل: في دار يهودي اسمه زيد بن السمين، وقيل: لبيد بن سهل، وجاء بعض بني ظفر إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فاشتكوا إليه أنّ رفاعة وابن أخيه اتّهما بالسرقة أهل بيت إيمان وصلاح، قال قتادة: فأتيت رسول الله، فقال لي (عمدت إلى أهل بيت إسلام وصلاح فرميتهم بالسرقة على غير بيّنة)، وأشاعوا في الناس أنّ المسروق في دار أبي مليل أو دار اليهودي، فما لبث أن نزلت هذه الآية، وأطلع الله رسوله على جليّة الأمر، معجزة له، حتى لا يطمع أحد في أن يروّج على الرسول باطلا، هذا هو الصحيح في سوق هذا الخبر، ووقع في (كتاب أسباب النزول) للواحدي، وفي بعض روايات الطبري سوق القصة ببعض مخالفة لما ذكرته: وأنّ بني ظفر سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجادل عن أصحابهم كيلا يفتضحوا ويبرأ اليهودي، وأنّ رسول الله همّ بذلك، فنزلت الآية، وفي بعض الروايات أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لام اليهودي وبرّأالمتّهم، وهذه الرواية واهية، وهذه الزيادة خطأ بيّن من أهل القصص دون علم ولا تبصّر بمعاني القرآن، والظاهر أنّ صدر الآية تمهيد للتلويح إلى القصة، فهو غير مختصّ بها، إذ ليس في ذلك الكلام ما يلوّح إليها، ولكن مبدأ التلويح إلى القصة من قوله: ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾

3. ﴿بِمَا أَرَاكَ الله﴾ الباء للآلة جعل ما أراه الله إيّاه بمنزلة آلة للحكم لأنّه وسيلة إلى مصادفة العدل والحقّ ونفي الجور، إذ لا يحتمل علم الله الخطأ، والرؤية في قوله: ﴿أَرَاكَ الله﴾ عرفانية، وحقيقتها الرؤية البصرية، فأطلقت على ما يدرك بوجه اليقين لمشابهته الشيء المشاهد، والرؤية البصرية تنصب مفعولا واحدا فإذ أدخلت عليها همزة التعدية نصبت مفعولين كما هنا، وقد حذف المفعول الثاني لأنّه ضمير الموصول، فأغنى عنه الموصول، وهو حذف كثير، والتقدير: بما أراكه الله.

4. فكلّ ما جعله الله حقّا في كتابه فقد أمر بالحكم به بين الناس، وليس المراد أنّه يعلمه الحقّ في جانب شخص معيّن بأنّ يقول له: إن فلانا على الحقّ، لأنّ هذا لا يلزم اطّراده، ولأنّه لا يلفى مدلولا لجميع آيات القرآن وإن صلح الحمل عليه في مثل هذه الآية، بل المراد أنّه أنزل عليه الكتاب ليحكم بالطرق والقضايا الدالّة على وصف الأحوال التي يتحقّق بها العدل فيحكم بين الناس على حسب ذلك، بأن تندرج جزئيات أحوالهم عند التقاضي تحت الأوصاف الكلية المبيّنة في الكتاب، مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ [الأحزاب: 4]، فقد أبطل حكم التبنّي الذي كان في الجاهلية، فأعلمنا أنّ قول الرجل لمن ليس ولده: هذا ولدي، لا يجعل للمنسوب حقّا في ميراثه، ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يخطئ في إدراج الجزئيات تحت كليّاتها، وقد يعرض الخطأ لغيره، وليس المراد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يصادف الحقّ من غير وجوهه الجارية بين الناس، ولذلك‏ قال‏ (إنّما أنا بشر وإنّكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحقّ أخيه فلا يأخذه فإنّما أقتطع له قطعة من نار)، وغير الرسول يخطئ في الاندراج، ولذلك وجب بذل الجهد واستقصاء الدليل، ومن ثمّ استدلّ علماؤنا بهذه الآية على وجوب الاجتهاد في فهم الشريعة، وعن عمر بن الخطاب أنّه قال: (لا يقولنّ أحد قضيت بما أراني الله تعالى فإنّ الله تعالى لم يجعل ذلك إلّا لنبيّه وأمّا الواحد منّا فرأيه يكون ظنّا ولا يكون علما)، ومعناه هو ما قدّمناه من‏ عروض الخطأ في الفهم لغير الرسول دون الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

5. اللام في قوله: ﴿لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ لام العلّة وليست لام التقوية، ومفعول‏ ﴿خَصِيمًا﴾ محذوف دلّ عليه ذكر مقابله وهو ﴿لِلْخَائِنِينَ﴾ أي لا تكن تخاصم من يخاصم الخائنين، أي لا تخاصم عنهم، فالخصيم هنا بمعنى المنتصر المدافع كقوله: (كنت أنا خصمه يوم القيامة)، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد الأمّة، لأنّ الخصام عن الخائنين لا يتوقّع من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنّما المراد تحذير الذين دفعتهم الحميّة إلى الانتصار لأبناء أبيرق.

6. الأمر باستغفار الله جرى على أسلوب توجيه الخطاب إلى الرسول، فالمراد بالأمر غيره، أرشدهم إلى ما هو أنفع لهم وهو استغفار الله ممّا اقترفوه، أو أراد: واستغفر الله للخائنين ليلهمهم إلى التوبة ببركة استغفارك لهم فذلك أجدر من دفاع المدافعين عنهم، وهذا نظير قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا الله﴾ [النساء: 64] وليس المراد بالأمر استغفار النبي لنفسه، كما أخطأ فيه من توهّم ذلك، فركّب عليه أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خطر بباله ما أوجب أمره بالاستغفار، وهو همّه أن يجادل عن بني أبيرق، مع علمه بأنّهم سرقوا، خشية أن يفتضحوا، وهذا من أفهام الضعفاء وسوء وضعهم الأخبار لتأييد سقيم أفهامهم.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/247.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إن العليم الحكيم هو الذى أنزل القرآن مشتملا على شريعته، ليكون القسطاس المستقيم، والحكم العدل، ولذا قال سبحانه: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله﴾

2. يذكر العلماء في سبب نزول هذه الآية (2).. وسواء أصح ذلك الخبر سببا للنزول أم لم يصح، فإن الآية لها صفة العموم، وتفسر بعمومها، لا بخصوص سببها، ومعنى النص الكريم على ذلك: إن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن الكريم المكتوب المسجل ليحكم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بما توجبه نصوصه، وبما يريه الله تعالى وينير قلبه لإدراك الحق، وهنا ثلاث إشارات بيانية:

أ. الأولى: أن الله تعالى عبر عن القرآن بـ ﴿الْكِتَابِ﴾ للإشارة إلى أنه مكتوب مسجل مدون، باق إلى يوم القيامة.

ب. الثانية: كلمة ﴿بِالْحَقِّ﴾، والباء تدل على الملابسة والاتصال والمعية، فهو مع الحق، وبالحق، وناطق بالحق، ومشتمل عليه، ولا شيء في هذا الكتاب إلا ما هو حق، ولا يخالفه إلا ما هو باطل.

ج. الثالثة: قوله تعالى:‏ ﴿بِمَا أَرَاكَ الله﴾، فإنها مقابلة لقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾، وهذه المقابلة تقتضى أن تكون كلمة ﴿بِمَا أَرَاكَ الله﴾ لها معنى خاص، وهو النظر بنور الله تعالى في الأقضية التي يقضى فيها، فالقاضى لكى يكون قضاؤه عدلا لا بد من أمرين:

أحدهما: قانون عادل هو الحق من كل نواحيه، وهو هنا الكتاب الكريم، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

والثاني: أن يكون فحصه للقضية ببصيرة نيرة نافذة، وقلب مشرق مدرك، وهذا يكون بنور الله، وهو للنبي ما عبر عنه بقوله تعالى: ﴿بِمَا أَرَاكَ الله﴾

3. لكن نور الحق لا يكون إلا إذا نظر القاضي فيما يعرض عليه نظرة غير متحيزة، ولا منحرفة، وهذا هو ما نهى الله عنه نبيه، والنهى لعموم أمته، ولذا قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ تبادر إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في القصة السابقة أن من فيه صلاح وإسلام يكون على الحق، فانحاز فكره ككل البشر، فالله سبحانه وتعالى نبهه، تعليما لأمته، ولكل قاض من بعده، إلى أنه لا يجوز أن ينحاز فكره إلى أحد الخصمين، فعسى أن يكون هو الخائن، وغيره هو البريء ولا بد أن يسمع البينات، ويجعلها هي الحاكمة، والخصيم بمعنى المخاصم، كالجليس بمعنى‏ المجالس، والمعنى على هذا: ولا تكن أيها الرسول الأمين مخاصما لأجل الخائنين، بأن تجعل فكرك ينحاز إليهم قبل سماع البينات الهادية المرشدة إلى الحق.

4. سمي هؤلاء خائنون؛ لأنهم في علم الله كانوا كذلك، وهو يخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بخيانتهم، والله تعالى خير شاهد، وهذا إرشاد لكل قاض أن ينظر إلى المتخاصمين نظرا غير متحيز، لكى يستمع إلى البينات منصفا مقدرا، ويجعل الأدلة توجهه إلى الحق، ولا يوجهها، وإن على كل قاض أن يستغفر الله دائما في أقضيته؛ لأنه لا يدرى: لعله أصاب الباطل! والعصمة لله تعالى وحده، ولأنبيائه.

5. ولذا قال سبحانه: ﴿وَاسْتَغْفِرِ الله إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ الأمر في ظاهره للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو في عمومه لكل أمته، ولكل قاض يفصل بين الناس، وطلب الاستغفار دائم يوجهه الله تعالى إلى النبي وإلى كل مؤمن تقى، لأن الاستغفار إنابة، وعبادة، وهي مطلوبة، وإذا كانت القصة قد ذكرت أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تبادر إلى ذهنه براءة خائن، فإن هذا ليس بذنب، ولكنه يوجب الاستغفار من الرسول، فإن علو مقامه يجعل مثل هذه التي لا تعتبر ذنبا من الناس، موجبة للاستغفار، على حد قول العلماء: (حسنات الأبرار سيئات المقربين)

6. وفوق ذلك فإن طلب الاستغفار، مع ما فيه من القنوت والطاعة، حث لكل قاض يفصل بين الناس على الاستغفار في كل قضية، وقد بين سبحانه أن هذا الاستغفار الضارع يقبله الله تعالى؛ لأنه سبحانه قد ثبت واستقر له أن المغفرة بأقصى درجاتها، والرحمة بأوسع معانيها، صفتان له سبحانه، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، وقد أكد سبحانه اتصافه تعالى بهاتين الصفتين بأربعة مؤكدات:

أ. أولها: (إن) التي تفيد التوكيد،

ب. ثانيها: (كان) التي تفيد الاستمرار،

ج. ثالثها: صيغة المبالغة في غفور ورحيم،

د. رابعها: الجملة الاسمية.. اللهم لا تجعلنا في جانب الخائنين والعصاة، واجعلنا مع الأبرار الأتقياء.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1839.

(2) ذكر ما ورد في سبب النزول الذي سبق ذكره.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله﴾، نقول ـ ونستغفر الله ـ ان هذا الخطاب من الله لنبيه الأكرم يومئ إلى نحو من العتاب، فكأنه جلت عظمته يقول له: اني اصطفيتك لنفسي ورسالتي دون الخلق، وأنزلت عليك القرآن لكي تحكم بين الناس بما تعلم علم اليقين انه حكم الله، والآن أوشك المخادعون أن يغرروا بك، ولكن الله عصمك عما دبروه لك من حملك على تبرئة غير البريء حيث أطلعك على حقيقتهم ومؤامراتهم، وان دل هذا على شيء فإنما يدل على أن العصمة ليست أمرا قهريا كالطول والقصر، وانما هي وصف يصرف صاحبه عن الحرام، مع قدرته على فعله، ويدفع به إلى فعل الواجب، مع قدرته على تركه.

2. هذه الآية رد وإبطال لقول القائلين بأن النبي يحكم في بعض المسائل باجتهاده، لأنها صريحة واضحة في أنه لا يحكم إلا بوحي من الله.. هذا، إلى أن المجتهد يصيب ويخطئ، والنبي يفصل في خلاف المجتهدين، ويبيّن خطأ من أخطأ وصواب من أصاب.

3. ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾، النبي ما خاصم، ومحال أن يخاصم عن الخائنين، ونهيه عن التخاصم عنهم لا يستلزم وقوعه منه، بل ان النهي عن المحرم يقع قبل اقترافه، ولو ورد بعده لانتقض الغرض منه.

4. سؤال وإشكال: إذا كان فعل الحرام محالا على النبي لمكان عصمته، فما هو المسوغ ـ اذن ـ لنهيه عنه؟ والجواب: ان لله ان يوجه أمره إلى نبيه في جميع الحالات، لأنه أمر من الأعلى إلى من هو دونه في العلو.. هذا، إلى أن الأمر بالواجب، والنهي عن المحرم كثيرا ما يوجهان من الله إلى الأنبياء لمجرد الاعلام بالحكم.

5. ﴿وَاسْتَغْفِرِ الله إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، قال الطبري في تفسيره: ان‏ الله أمر النبي أن يستغفر عن عقوبة ذنبه في المخاصمة عن الخائنين.. ونحن نستغفر الله من هذا التفسير، فان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كما قدمنا ـ لم يخاصم عن الخائنين بدليل الآية الآتية 113: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾، أما الأمر بالاستغفار من الذنب فانه لا يستلزم وجود الذنب.. والذي نراه في تفسير الآية ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بصفته بشرا قد يحسن الظن بمن لا يستحقه، ثم تنكشف له الحقيقة عن طريق الوحي أو غيره قبل ان يرتب أي أثر على حسن ظنه، فأمره سبحانه أن يستغفر الله مما يعرض له من حسن الظن بمن ليس أهلا له.. والقصد أن يتحفظ ويحتاط، ولا يركن إلا بعد اليقين.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/431.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الذي يفيده التدبر في الآيات أنها ذات سياق واحد تتعرض للتوصية بالعدل في‏ القضاء، والنهي عن أن يميل القاضي في قضائه، والحاكم في حكمه إلى المبطلين، ويجور على المحقين كائنين من كانوا، وذلك بالإشارة إلى بعض الحوادث الواقعة عند نزول الآيات، ثم البحث فيما يتعلق بذلك من الحقائق الدينية والأمر بلزومها ورعايتها، وتنبيه المؤمنين أن الدين إنما هو حقيقة لا اسم، وإنما ينفع التلبس به دون التسمي.

2. الظاهر أن هذه القصة هي التي يشير إليها قوله تعالى:‏ ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ حيث يدل على أنه كان هناك شيء من المعاصي التي تقبل الرمي كسرقة أو قتل أو إتلاف أو إضرار ونحوها، وأنه كان من المتوقع أن يهتموا بإضلال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في حكمه والله عاصمه.

3. والظاهر أن هذه القصة أيضا هي التي تشير إليها الآيات الأول كما في قوله تعالى:‏ ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾، وقوله: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ﴾، وقوله: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ﴾ فإن الخيانة وإن كان ظاهرها ما يكون في الودائع والأمانات لكن سياق قوله: ﴿إِنَّ الله لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ﴾ كما سيجيء بيانه يعطي أن المراد بها ما يتحقق في سرقة ونحوها بعناية أن المؤمنين كنفس واحدة، وما لبعضهم من المال مسئول عنه البعض الآخر من حيث رعاية احترامه، والاهتمام بحفظه وحمايته، فتعدي بعضهم إلى مال البعض خيانة منهم لأنفسهم.

4. فالتدبر يقرب أن القصة كأنها سرقة وقعت من بعضهم ثم رفع الأمر إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فرمى بها السارق غيره ممن هو بريء منها، ثم ألح قوم السارق عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقضي لهم، وبالغوا في أن يغيروه صلّى الله عليه وآله وسلّم على المتهم البريء فأنزلت الآيات وبرأه الله مما قالوا.

5. فالآيات أشد انطباقا على ما روي في سبب النزول من قصة سرقة أبي طعمة بن الأبيرق، وإن كانت أسباب النزول ـ كما سمعت مرارا ـ في أغلب ما رويت من قبيل تطبيق القصص المأثورة على ما يناسبها من الآيات القرآنية.

6. ويستفاد من الآيات حجية قضائه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعصمته وحقائق أخر سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

7. ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله﴾ ظاهر الحكم بين الناس هو القضاء بينهم في مخاصماتهم ومنازعاتهم مما يرجع إلى الأمور القضائية ورفع الاختلافات بالحكم، وقد جعل الله تعالى الحكم بين الناس غاية لإنزال الكتاب فينطبق مضمون الآية على ما يتضمنه قوله تعالى:‏ ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة: 213] وقد مر تفصيل القول فيه.

8. فهذه الآية ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ في خصوص موردها نظيرة تلك الآية ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ في عمومها، وتزيد عليها في أنها تدل على جعل حق الحكم لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والحجية لرأيه ونظره فإن الحكم وهو القطع في القضاء وفصل الخصومة لا ينفك عن إعمال نظر من القاضي الحاكم وإظهار عقيدة منه مضافا إلى ما عنده من العلم بالأحكام العامة والقوانين الكلية في موارد الخصومة فإن العلم بكليات الأحكام وحقوق الناس أمر، والقطع والحكم بانطباق مورد النزاع على بعضها دون بعض أمر آخر.

9. فالمراد بالإراءة في قوله: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله﴾ إيجاد الرأي وتعريف الحكم لا تعليم الأحكام والشرائع كما احتمله بعضهم.

10. ومضمون الآية على ما يعطيه السياق أن الله أنزل إليك الكتاب وعلمك أحكامه وشرائعه وحكمه لتضيف إليها ما أوجد لك من الرأي وعرفك من الحكم فتحكم بين الناس، وترفع بذلك اختلافاتهم.

11.﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ عطف على ما تقدمه من الجملة الخبرية لكونها في معنى الإنشاء كأنه قيل: فاحكم بينهم ولا تكن للخائنين خصيما، والخصيم‏ هو الذي يدافع عن الدعوى وما في حكمها، وفيه نهيه صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أن يكون خصيما للخائنين على من يطالبهم بحقوقه فيدافع عن الخائنين ويبطل حقوق المحقين من أهل الدعوى.

12. ربما أمكن أن يستفاد من عطف قوله: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ﴾ على ما تقدمه‏ وهو أمره صلّى الله عليه وآله وسلّم أمرا مطلقا بالحكم أن المراد بالخيانة مطلق التعدي على حقوق الغير ممن لا ينبغي منه ذلك لا خصوص الخيانة للودائع وإن كان ربما عطف الخاص على العام لعناية ما بشأنه لكن المورد كالخالي عن العناية، وسيجيء لهذا الكلام تتمة.

13.﴿وَاسْتَغْفِرِ الله إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ الظاهر أن الاستغفار هاهنا هو أن يطلب من الله سبحانه الستر على ما في طبع الإنسان من إمكان هضم الحقوق والميل إلى الهوى ومغفرة ذلك، وقد مر مرارا أن العفو والمغفرة يستعملان في كلامه تعالى في شئون مختلفة يجمعها جامع الذنب، وهو التباعد من الحق بوجه، فالمعنى ـ والله أعلم ـ: ولا تكن للخائنين خصيما ولا تمل إليهم، واطلب من الله سبحانه أن يوفقك لذلك ويستر على نفسك أن تميل إلى الدفاع عن خيانتهم ويتسلط عليك هوى النفس.

14. الدليل على إرادة ذلك ما في ذيل الآيات الكريمة ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ فإن الآية تنص على أنهم لا يضرون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن بذلوا غاية جهدهم في تحريك عواطفه إلى إيثار الباطل وإظهاره على الحق فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في أمن إلهي من الضرر، والله يعصمه فهو لا يجور في حكمه ولا يميل إلى الجور، ولا يتبع الهوى، ومن الجور والميل إلى الهوى المذموم أن يفرق في حكمه بين قوي وضعيف، أو صديق وعدو، أو مؤمن وكافر ذمي، أو قريب وبعيد، فأمره بأن يستغفر ليس لصدور ذنب ذي وبال وتبعة منه، ولا لإشرافه على ما لا يحمد منه بل ليسأل من الله أن يظهره على هوى النفس، ولا ريب في حاجته في ذلك إلى ربه وعدم استغنائه عنه وإن كان على عصمة، فإن لله سبحانه أن يفعل ما يشاء.

15. وهذه العصمة مدار عملها ما يعد طاعة ومعصية، وما يحمد أو يذم عليه من الأعمال لا ما هو الواقع الخارجي، وبعبارة أخرى الآيات تدل على أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم في أمن من اتباع الهوى، والميل إلى الباطل، وأما إن الذي يحكم ويقضي به بما شرعه من القواعد وقوانين القضاء الظاهرية كقوله: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ونحو ذلك يصادف دائما ما هو الحق في الواقع فينتج دائما غلبة المحق، ومغلوبية المبطل في دعواه، فالآيات لا تدل على ذلك أصلا، ولا أن القوانين الظاهرية في استطاعتها أن تهدي إلى ذلك قطعا فإنها أمارات مميزة بين الحق والباطل غالبا لا دائما، ولا معنى لاستلزام‏ الغالب الدائم وهو ظاهر.

16. مما تقدم يظهر ما في كلام بعض المفسرين حيث ذكر في قوله تعالى:‏ ﴿وَاسْتَغْفِرِ الله﴾، إنه أمر بالاستغفار عما هم به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من الدفاع والذب عن هذا الخائن المذكور في الآية، وقد سأله قومه أن يدفع عنه ويكون خصيما له على يهودي، وذلك أن هذا القدر أيضا تأثير منهم بأثر مذموم، وقد نفى الله سبحانه عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كل ضرر.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/70.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الْكِتَابِ﴾ القرآن ﴿لِتَحْكُمَ﴾ به ﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾ لأن فيه الحقَّ، وهذا في الدلالة على أن القرآن هو الحاكم بين الناس، كقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة:213] ﴿بِمَا أَرَاكَ الله﴾ من الحق، فهو صلّى الله عليه وآله وسلّم يستند في الحكم إلى ما أراه الله في القرآن أو في غيره مما أوحاه إليه، فالمعنى: لتحكم بين الناس بما أراك الله في القرآن بالقرآن، وتحكم بسائر الوحي فيما لم تجد في القرآن، وبهذا تختلف هذه الآية، وقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ﴾ [البقرة:213]؛ لأن هذه في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يعلم ما أوحي إليه من غير القرآن ومن القرآن، أما مَن بعده فإنهم إذا لم يعلموا غير الكتاب واختلفوا في السنة لم يكن حاكم إلا الكتاب فيما اختلفوا فيه أَمِن السنة أم لا، وفي القضية التي هي غير الخلاف ذلك وليس هذا الاختلاف من التدافع لما بينت.

2. ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ قال الشرفي: (قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: قال المرتضى عليه السلام: أراد الله عزَّ وجل إكرام نبيئه وتعظيمه من بعد إقامة الحجة على أهل الشرك من أهل الكتاب أن لا يكون لهم خصيماً فيما قد بان لهم من الحق وعرفوه معه صلّى الله عليه وآله وسلّم من الصدق ووجدوه في كتبهم وثبت في عقولهم) فحاصل المعنى: أنُ احكم بما أنزل الله ولا تجادل من أبى قبول الحق من أهل الكتاب الذين خانوا بكتمان ما عندهم من الحق كصفات النبي الأمي.

3. ﴿وَاسْتَغْفِرِ الله إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ﴿اسْتَغْفِرِ الله﴾ أطلبه أن يغفر ﴿إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا﴾ للمستغفرين ﴿رَحِيمًا﴾ لهم وغفوراً كثير الغفران، رحيماً يرحم عباده؛ فلكونه يرحم تُطلب منه الرحمة بالاستغفار، وقد جاء عن أمير المؤمنين تفسير الاستغفار بستة معان، وهو في حق أهل الكبائر، فأما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فهو مطهر من الأرجاس، واستغفاره يكون من الخطأ والنسيان، وما يقع بتأويل كالأذن لمن يستأذن؛ لأنه إن استأذن عن الجهاد لعذر فهو معذور، وإن استأذن لغير عذر فهو كاره للجهاد غير مأمون أن ينهزم فيضر غيره من المجاهدين أو يفسد، فأنزل الله تعالى: ﴿عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة:43] فالاستغفار من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من مثل هذا.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/159.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نلاحظ على هاتين الروايتين‏(2) أنهما لا تنسجمان مع أخلاقية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعصمته وعدالته وابتعاده عن النطق عن الهوى:

أ. فقد ذكرت الرواية الأولى، أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد استجاب لأهل السارق المسلم الذين كلموه في الدفاع عن صاحبهم خوفا من ثبوت الحكم عليه وافتضاحه، وخوفا من تبرئة اليهودي الذي يعلمون ببراءته، فهمّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يفعل، لأن هواه كان معهم، وصمم أن يعاقب اليهودي انسجاما مع هواه، على حسب إيحاء الرواية، لولا أن الله سبحانه أنقذه من هذا الموقف الظالم الذي يسيء إلى موقعه الرسالي، إن الصورة هي صورة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي لا يدقق في الدعوى ولا يطلب عليها شهودا، بل يستجيب لكلام هؤلاء الناس الذين يهواهم ـ كما تقول الرواية ـ من دون أن يسألهم عن طبيعة الدعوى وعن الأساس في اتهام اليهودي الذي لا تمنع عداوته لله ورسوله أن يعدل النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم معه، فيسأله عن دفاعه عن نفسه وعن طبيعة اتهام الآخرين له، والله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لله شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8].

ب. أما الرواية الثانية، فإنها تصور النبي لنا في الوهلة الأولى: عندما أخبره قتادة بالحادث وقال: انظروا في شأنكم ـ بأنه يدقّق في طبيعة القضايا والبحث عن وسائل الإثبات، مما يجعله في موقع المنتظر للنتائج من حيث الشهود، ولكنه عندما جاءه الرجل الذي هو من بطنهم، وشكا له قتادة وعمه، لم يتثبت من صحة الحديث ولم يتأكد من طبيعة المسألة التي سبق لقتادة أن حدثه عنها، فوبخ قتادة على كلامه مع هؤلاء، كما لو كانوا أبرياء، من دون أن يسأله عن ظروف الحديث وطبيعته، مما جعل قتادة يتمنى موته وجعل عمه يلجأ إلى الله ليستعين به، لأنه لم يجد هناك من يثبت له حقه، حتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حسب الرواية.

2. إن مثل هذا النوع من الروايات يخضع لاجتهادات المفسرين أكثر مما يخضع للروايات الموثقة المباشرة التي تتحدث عن سماع ذلك، مما يجعلنا نتصور أنهم استنطقوا الآية في مدلولها الحرفي، ففهموا منها أن الله كان يعاتب نبيّه على دفاعه عن الخائنين وجداله عنهم، لا سيّما أنه أمره بالاستغفار كما لو كان قد صدر منه ذنب في الانحراف عن خط العدالة والتعاطف مع المنحرفين، ولكنهم لم ينفتحوا على الأسلوب القرآني الذي يخاطب الأمة من خلال مخاطبته للنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم تماما كما لو كان هو الذي تتمثل في سلوكه المفردات.

3. إن القضية هي أن الرواة، أو المفسرين، لم يدرسوا شخصية النبي الأخلاقية وعدالته الرسالية التي لا يمكن أن تنجذب إلى أي شخص وضد أي شخص من خلال عاطفة ذاتية متصلة بالنوازع النفسية الخاصة وهو صاحب الخلق العظيم، ورسول العدل والإحسان، فكيف يبتعد عن خط العدل وروحية الإحسان!

4. نحن الآن أمام آيات كريمة نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، لتعالج حالة معينة من الحالات المقلقة التي كانت تحدث داخل المجتمع الإسلامي، فتثير بعض المشاعر والانفعالات والأفكار؛ الإيجابية منها من جهة والسلبيّة منها من جهة أخرى، وكان القرآن ينزل من أجل مواجهة الأفكار والمشاعر السلبية التي كانت تشد الناس إلى جاهليتهم، وتربطهم بالقيم الفاسدة التي أراد الله لها أن تزول من حياتهم، وتلك هي إحدى وسائل القرآن التربوية، فقد كان يرصد الوقائع والأحداث التي كانت تمر بالمسلمين، ليوجههم من خلال الوجهة الصحيحة، فلا تغرق أفكارهم في بحار الخيال والمثال، بل يحركونها في حركة الواقع، عندما يعيشون المشاكل كأشّد ما تكون إلحاحا وتأثيرا وضغطا على الكيان، ثم تنطلق الحلول في حجم الواقع، ليتطابق الحل مع المشكلة على صعيد واحد.

5. ولهذه الآيات قصة ذكرها المفسرون في أسباب النزول، وخلاصتها أن أحد المسلمين سرق مالا من شخص مسلّم، وكان للسارق عشيرة تملك مواقع متقدمة في المجتمع، وكانت الدلائل التي اتبعها المسلمون ـ أو أرادوا أن يتبعوها في التحقيق ـ تهدي إلى السارق الحقيقي، واجتمعت عشيرته للتشاور، وقرروا أن يبعدوا التهمة عنه، فجاءوا بالمال المسروق ووضعوه عند يهودي هناك، لتثبت الجريمة عليه ويبرّأ السارق، وحاولوا أن يخلقوا جوا يوحي بالثقة بالنتائج التي أرادوها أمام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ظنا منهم أن يهودية هذا الشخص تساهم في استبعاد دفة الاتهام عن السارق الحقيقي في التحقيق في المسألة، وتسهّل ـ بالتالي ـ ثبوت التهمة عليه، وقد خيّل إليهم أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ربما يميل إلى ما أرادوه أو ظنوه، إرادة منه لتبرئة المسلّم على كل حال، ولكن الله أراد أن يسدّد رسوله ويطلعه على جانب الغيب في المسألة، حتى لا يتوقف أمام الإثباتات الظاهرية للقضية، على أساس أن القضاء في الإسلام يخضع للبيّنات والأيمان، فهي الوسائل المطروحة لدى القضاة، حتى ولو كان النبي هو القاضي، ولا مسئولية له بعد ذلك في خطأ النتيجة أو صوابها، ما دام غير مكلّف بأن يعلم الغيب في حقائق الأشياء، لأنه لا يملك وسائله بشكل ذاتي، كما أن القضاء لا يغيّر ولا يبدّل شيئا في واقع الموضوع، فإذا لم يكن للمدعي حقّ في دعوى، وكانت البيّنة إلى جانبه وحكم القاضي بها، فإن ذلك لا يحلّ له أكل الباطل فيما انتهت إليه الدعوى، ولكن ذلك جار على الأوضاع العادية في مسائل التحاكم؛ أما في القضايا التي تتعلق بالخط المستقيم للعدالة بشكل عام، فإنها ترتبط بالأجواء الداخلية والسلوكية للتصور الإسلامي للعلاقات التي تعطي المسلمين الجوّ الرائع في الأخلاق والسلوك، فيما يجب أن يتمثلوه ويعيشوه في حياتهم، كما حدث في هذه القضية التي أراد الله من خلالها تقرير مبادئ عدة في حياة المسلمين العاطفية والاجتماعية، من أجل أن لا تنحرف عن خط العدالة في ذلك كله.

6. ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله﴾، إن الله أنزل الكتاب بالحق ليكون هو القاعدة الفكرية والعملية التي ينطلق منها المؤمنون في تسيير جميع شؤون حياتهم، فلا مجال لاتباع الآراء والأهواء التي تبتعد عنه، لأن الله يريد للحياة أن تقوم على أساس الحق الذي يواجه القضايا من منطلق الواقع، بعيدا عن أية علاقة أو انتماء أو مطمع.. وفي هذا الجو لا بد أن يحكم الحاكم، في كل المسائل التي تثار أمامه، بما أراه الله من الحق فلا يتطلع إلى أيّ شيء آخر فيما يدخل في حيثيات حكمه، مهما كانت الظروف والاعتبارات، والنتائج، لأن ذلك يمثل انحرافا عن الحق وابتعادا عنه، وهذا هو الخط الذي نستهديه في كل مجالاتنا الفكرية والاجتماعية والسياسية؛ فإذا كان الكتاب هو الذي أنزله الله بالحق، فإن علينا أن ننطلق من مفاهيمه وتعاليمه في كل شيء وأن ننطلق من أجوائه في منهج التفكير وطريقته.

7. ﴿وَاسْتَغْفِرِ الله إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ الاستغفار من وسائل التربية الروحية التي يريد الإسلام من الإنسان أن يمارسها بوعي المؤمن الذي قد يرتكب المعصية، أو وقد يهمّ بها، أو قد تطوف بخاطره، أو يعيش في مناخها.. من أجل تحقيق هدفين:

أ. الأول: القرب من الله بعد أن أبعدته تلك الأجواء والمشاعر والأفكار عنه، لأنه يمثل الإحساس بالذنب في عملية اعتراف وندم وتراجع.

ب. الثاني: الحصول على المناعة الداخلية من خلال الإيحاء بالتأنيب الداخلي للذات وهو في موقع الابتهال إلى الله، وقد يلاحظ الإنسان ويتساءل كيف يوجّه القرآن الخطاب إلى الرسول بالاستغفار، وهو المعصوم الذي لا تخطر بباله المعصية، فضلا عن ارتكابها؛ وقد يجاب عن ذلك بأن الأسلوب القرآني يوحي بالخطاب للأمة من خلال خطاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إمعانا في تأكيد الأهمية للموضوع، وربما يخطر بالبال أن الاستغفار لا يراد منه معناه الحرفي الذي يدلّ على وقوع الإنسان في الذنب أو حضوره في أجوائه، بل يقصد منه الابتهال إليه تعالى ليسدّد الإنسان بالابتعاد عن ذلك، من باب التعبير عن عصمة الله للإنسان بتوفيقه للبعد عن الذنب، بطريقة الطلب إلى الله أن‏ يغفر له ذلك، كأسلوب من أساليب التعبير عن النتائج بالمقدمات؛ والله العالم.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏‏7/440.

(2) ذكر قبل هذا ما ورد في سبب النزول الذي سبق ذكره.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لقد نقلوا واقعة مفصلة عن سبب نزول الآيتين المذكورتين، خلاصتها أنّ في قبيلة بني الأبيرق المعروفة نسبيا كان ثلاثة أشقاء هم (بشر) و(بشير) و(مبشر) سطا أحدهم وهو (بشير) على دار أحد المسلمين ويدعى (رفاعة) فسرق سيفه ودرعه وكمية من الغذاء، وكان ابن أخيه ويدعى (قتادة) من مجاهدي بدر فأخبر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالواقعة، ولكن الأشقاء الثّلاثة اتهموا شخصا من المسلمين اسمه (لبيد) الذي كان يسكن في دار واحد معهم، فتألم لبيد ألما شديدا من هذه التهمة الباطلة واستل سيفه وتوجه إلى الأشقاء الثلاثة صارخا في وجوههم قائلا: (ا تتهمونني أنا بالسّرقة وأنتم أجدر بهذا العمل؟ فأنتم هم أولئك المنافقون الذين كنتم تهجون النّبي وتنسبون أبيات الهجو إلى قريش، فأمّا أن تثبتوا ما تنسبونه لي من تهمة، أو أن أهوى بسيفي على رؤسكم). فلمّا رأى إخوة السارق ذلك حاولوا استرضاء (لبيد) ولكنّهم لمّا علموا أنّ القضية قد وصلت إلى أسماع النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بواسطة (قتادة) لجؤوا إلى أحد متكلمي قبيلتهم فطلبوا منه أن يذهب مع جمع من الناس إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويتظاهر بأنّ الحق إلى جانبهم ليبرئ السارق ويتهم (قتادة) بتلفيق التهمة على شقيقهم، وقد قبل النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم استنادا إلى واجب العمل بظاهر الأمور ـ شهادة تلك المجموعة وأنّب (قتادة) على عمله. وقد تألم (قتادة) الذي كان يعرف نفسه برئيا.. تألم من هذه الواقعة وعاد إلى عمّه وأخبره بالحادث مظهرا أسفه الكبير لما حصل، فخفف عليه عمّه وقال: (لا تحزن يا قتادة إن الله في عوننا) فنزلت الآيتان المذكورتان لتعلنا براءة الرجل، وتؤنبا مرتكبي الخيانة الحقيقيين.

2. ونقلوا ـ أيضا ـ واقعة أخرى في سبب نزول الآيتين، وهي أن درعا لأحد الأنصار كانت قد سرقت في إحدى الحروب، وكان الشك يدور على شخص من قبيلة (الأبيرق) في سرقة ذلك الدرع، ولما علم السارق بأنّ الشكوك بدأت تدور حوله رمى بالدرع في دار أحد اليهود، وطلب من قبيلته أن يشهدوا ببراءته أمام النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويستدلوا بذلك على وجود الدرع في دار اليهودي، ولمّا رأى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الأمر بتلك الصورة برأ هذا السارق بحسب ظاهر الشهادة التي جاءت لصالحه وأدين الرجل اليهودي بسرقة الدرع، فنزلت الآيتان المذكورتان لتوضحا الحقيقة.

3. يعرّف الله سبحانه وتعالى ـ في بداية الآية من سورة النساء ـ نبيّه محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنّ الهدف من إنزال الكتاب السماوي هو تحقيق مبادئ الحق‏ والعدالة بين الناس، إذ تقول الآية: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله﴾، ثمّ يحذّر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من حماية الخائنين أبدا بقوله: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾، ومع أنّ الآية خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكن ممّا لا شك فيه هو أنّ هذا الحكم حكم عام لجميع القضاة والمحكمين، وبهذا الدليل فإنّ مثل هذا الخطاب ليس المفهوم منه أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تبدر منه مثل هذه الأعمال، لأن الحكم المذكور يشمل جميع الأفراد.

4. أمّا الآية الأخرى فهي تأمر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بطلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى، إذ تقول: ﴿وَاسْتَغْفِرِ الله إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، وحول سبب الاستغفار المطلوب في هذه الآية توجد احتمالات عديدة، هي:

أ. الأوّل: إنّ الاستغفار هو لترك الأولى: الذي حصل بسبب الاستعجال في الحكم في القضية التي نزلت بسببها الآيتان، أي مع أنّ ذلك القدر من الاعتراف، وشهادة الطرفين كان كافيا لإصدار الحكم من قبل النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلّا أنّه كان الأحرى أن يجري تحقيق أكثر في ذلك المجال.

ب. والثّاني: هو أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد حكم في تلك القضية وفقا لقوانين القضاء الإسلامي، وبما أنّ الأدلة التي جاء بها الخائنون كانت بحسب الظاهر أقوى، لذلك أعطى الحق لهم، وبعد انكشاف الحقيقة ووصول الحق إلى صاحبه يأتي الأمر بطلب المغفرة من الله، ليس لذنب مرتكب، بل لتعرض حق فرد مسلم إلى خطر الزوال بسبب خيانة البعض من الأشخاص (أي أن الاستغفار بحسب الاصطلاح ـ لأجل الحكم الحقيقي لا الحكم الظاهري)، وقد احتمل البعض أن يكون الاستغفار مطلوبا من طرفي الدعوى اللذين‏ ظهر منهما الخلاف في عرض ومتابعة دعواهما، في حديث عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (إنّما أنا بشر، وإنّكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم يكون الحن بحجته من بعض، فأقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنّما أقطع له قطعة من نار)، يتبيّن لنا من هذا الحديث أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مكلّف بالحكم وفقا لظاهر القضية واستنادا إلى أدلة طرفي الدعوى، وبديهي أن الحق في مثل هذه الحالة يصل إلى صاحبه، ويحتمل أحيانا أن لا ينطبق ظاهر الدليل وشهادة الشهود مع الحقيقة، فيجب الانتباه هنا إلى أنّ حكم الحاكم لا يغير من الحقيقة شيئا فلا يصبح الحق باطلا ولا الباطل حقا.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/433.

101. النهي عن الجدال عن الخائنين وأسبابه

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈101⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ [النساء: 107 ـ 109]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: من صلى صلاة عند الناس لا يصلي مثلها إذا خلا؛ فهي استهانة، استهان بها ربه، ثم تلا هذه الآية: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ﴾(1).

__________

(1) عبد الرزاق ٢/٣٦٩.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ثم قال للذين أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلا: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ﴾ إلى قوله: ﴿وَكِيلًا﴾، يعني: الذين أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مستخفين يجادلون عن الخائنين(1).

2. روي أنّه قال: ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ﴾، يعني: يقولون(2).

3. روي أنّه قال: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، يعني: الذين أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مستخفين يجادلون عن الخائن(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٦٣.

(2) تفسير الثعلبي ٣/٣٨٢.

أبو رزين:

روي عن أبي رزين مسعود (ت 85 هـ) أنّه قال: ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ﴾، إذ يؤلفون ما لا يرضى من القول(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٧٢.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ﴾ إلى قوله: ﴿يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾، محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقوم طعمة(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٦٨.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ إلى قوله: ﴿أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾، فعرض الله بالتوبة لو قبلها(1).

__________

(1) ذكر يحيى بن سلام ـ كما في تفسير ابن أبي زمنين ١/٤٠٥.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ فلان وفلان وأبو عبيدة بن الجراح(1).

__________

(1) تفسير العياشي 1/274.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ): أنّه قال: ﴿بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾، يقول: أحاط علمه بأعمالهم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٦١.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَسْتَخْفُونَ﴾ يعني: يستترون بالخيانة ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ يعني: طعمة، ﴿وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ﴾ ولا يستترون بالخيانة من الله، ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ﴾ يعني: إذ يؤلفون ﴿مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ لقولهم: إنا نأتي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فنقول له كذا وكذا، فألقوا قولهم بينهم، يعني: قتادة وأصحابه؛ ليدفعوا عن صاحبهم ما لا يرضى الله من القول، ﴿وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ يعني: أحاط علمه بأعمالهم، يعني: قوم الخائن قتادة بن النعمان وأصحابه(1).

2. روي أنّه قال: ثم قال يعنيهم: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ قوم الخائن ﴿جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ﴾ نبيكم ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ عن طعمة، ﴿فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ يعني به: قومه، يقول: أم من يكون لطعمة مانعا في الآخرة(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٠٥.

الكاظم:

روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنّه قال: ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ يعني فلانا وفلانا وأبا عبيدة بن الجراح(1).

__________

(1) الكافي 8/334.

الحداد:

روي عن أبي سعيد الحداد (ت 221 هـ) أنّه قال: ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾، قد أحاط بكل شيء علما، ولم يقل مع كل شيء(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٦٢.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ هو ما ذكرنا أن العصمة لا تنفع؛ إذا لم يكن أمر ونهي، ﴿يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾: لا أحد يقصد قصد خيانة نفسه، ولكن لما رجع في العاقبة ضرر الخيانة إلى أنفسهم، صاروا كأنهم اختانوا أنفسهم كقوله: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾، لا أحد يقصد قصد خداع نفسه؛ لكن لما رجع في العاقبة حاصل الخداع إليهم ـ صاروا كأنهم خدعوا أنفسهم؛ فعلى ذلك الأول.

2. قوله تعالى: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ﴾، أي: يحتشمون من الناس أن يعلموا بصنيعهم، ولا يحتشمون من الله، على علم منهم أنه لا يخفى عليه شيء.

ب. ويحتمل: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ﴾، أي: يسترون سرهم من الناس، وكذلك رُويَ في حرف حفصة: ولا يستترون من الله، ولكن الله يطلع الناس على ما يسرون.

3. ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ﴾، أي: لايخفي عليه شيء.

4. قوله تعالى: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ على وجهين:

أ. أحدهما: على نفي القدرة وإثباتها: أن لهم ذلك في الإخفاء من الناس، وليس لهم في الإخفاء عن الله.

ب. الثاني: على قلة المبالاة: يعلم باطلاع الله تعالى عليهم، وتركهم مراقبة الله في الأمور، واجتهادهم في ذلك عن الخلق.

5. ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾:

أ. عن ابن عَبَّاسٍ قال: ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ يقول: من العمل والفرية على اليهودي، بالسرقة.

ب. وقيل: يبيتون: أي يؤلفون القول فيما بينهم، فيقولون: يأتي به النبي، فيقول له كذا وكذا؛ ليدفعوا عن صاحبهم الخيانة والتهمة، وهو طُعْمَة؛ على ما قيل في القصة: إنه سرق درع رجل فرماها في دار يهودي.

ج. وقيل: إنه خبأها في دار يهودي، فلما طلب منه حلف بالله أنه ما سرق.

د. وقيل: التبييت: هو التقدير بالليل، وقد ذكرناه في قوله: ﴿بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ الآية.

6. ﴿وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ هو على الوعيد؛ أي: عن علم منه يفعلون هذا، لا عن غفلة؛ كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾، لكنه يؤخره إلى يوم على علم منه ذلك، وعلى الإعلام أن الله لم يزل عالمًا بما يكون منهم، وعلى ذلك امتحنهم.

7. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ قيل: يعني: أصحاب طعمة؛ أي: لو خاصمتم عنهم يا هَؤُلَاءِ في الدنيا ﴿فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي: لا أحد يخاصم عنهم يوم القيامة، ﴿أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ يخاصم عنهم يوم القيامة، وقيل: كفيلا، أي: في الدفع عنهم؛ كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ﴾، أي: في دفعها وإرادة أن يدحضوا بالباطل، وقيل: رقيبا، وقيل: كفيلا، والوكيل: هو القائم بحفظ الأمور، والقاضي للحوائج، والمزيح للعلل.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٥٥.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نهى الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجادل عن الذين يختانون أنفسهم بمعنى يخونون أنفسهم فيجعلونها خونة بخيانتهم ما خانوا من الأموال، وهم الذين تقدم ذكرهم من بني أبيرق فقال: لا تخاصم عنهم فيما خانوا فيه، ثم أخبر ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ يعني من كان صنعته خيانة الناس في أموالهم (أثيماً) يعني مأثوماً وبمثله قال من تقدم من المفسرين قال قتادة: وفيهم نزلت الآيات إلى قوله: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾

2. ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ﴾ معنى يستخفون يكتمون فأخبر الله تعالى ان هؤلاء الخائنين يكتمون خيانتهم من الناس الذين لا يقدرون لهم على شيء إلا الذكر لهم بقبيح ما أتوه من فعلهم وتشنيع ما ركبوه إذا اطلعوا منهم على ذلك حياء منهم وحذراً من قبح‏ الأحدوثة ولا يستخفون من الله الذي هو معهم بمعنى أنه مطلع عليهم لا يخفي عليه شيء من أمرهم وبيده العقاب، والنكال وتعجيل العذاب فهو أحق بأن يستحيا منه وأولى بأن يعظم من أن يراهم حيث يكره إذ يبيتون ما لا يرضى من القول معناه حين يسرون ليلا ما لا يرضى من القول فيغيرونه عن وجهه، ويكونون فيه.

3. ﴿يُبَيِّتُونَ﴾ التبييت هو كل كلام أو أمر أصلح ليلا وأصله من فكرهم فيه ليلا، وقال الشاعر:

çأتوني فلم أرض ما بيتوا...وكانوا أتوني بشيء نكرé

وحكي عن بعض طيء ان التبييت في لغتهم التبديل، وأنشد الأسود بن عامر بن جوين الطائي في معاتبة رجل:

çوبيت قولي عبد المليك...قاتلك الله عبداً كنوداًé

يعني بدلت قولي، وروي عن الأعمش عن أبي رزين: ان معنى‏ ﴿يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى﴾ يؤلفون ما لا يرضى يعني في رمي البريء بجرم السقيم، والمعنى متقارب، لأن التأليف والتشويه والتغيير عما هو عليه وتحويله عن معناه إلى غيره واحد والمعنى بالآية الرهط الذين مشوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مسألة المدافعة عن بني أبيرق، والجدال عنه‏.

4. ﴿وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ يعني يعلم ما يعلمه هؤلاء المستخفون من الناس وتبييتهم ما لا يرضى من القول وغيره من أفعالهم (محيطاً) بمعنى عالماً محصياً لا يخفي عليه شيء منه حافظاً لجميعه ليجازيهم عليه ما يستخفونه قال الزجاج: الذي بيتوه قولهم إن اليهودي سارق الدرع وعزمهم على أن يحلفوا انهم ما سرقوا وان يمينهم تقبل دون يمين اليهودي، لأنه مخالف الإسلام.

5. ﴿هَا أَنْتُمْ﴾ (ها) للتنبيه وأعيدت مع (أولاء) والمعنى ها أنتم الذين جادلتم، لأن (هؤلاء، وهذا) يكون في الاشارة للمخاطبين التي أنفسهم بمنزلة الذين، وقد يكون لغير المخاطبين بمنزلة الذين، قال يزيد بن مفرغ: (نجوت وهذا تحملين طليق)، أي والذي تحملين طليق، قال الزجاج هؤلاء بمعنى الذين، لأن المخاطب المواجه لا يحتاج إلى الاشارة إلى نفسه، وقال المغربي: هؤلاء كناية عن اللصوص الذين يجادل عنهم، وهو غير أنتم ولذلك حسن التكرير، ومعنى الآية ها أنتم الذين جادلتم.

6. الجدال أشد الخصومة مأخوذ من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله، ورجل مجدول شديد، والأجدل الصقر، لأنه أشد الطيور، والمعنى يا معاشر من جادل عن بني أبيرق في الحياة الدنيا، والهاء والميم في عنهم كناية عن الخائنين، فمن يجادل الله عنهم، ومعناه من ذا يخاصم الله عنهم يوم تقوم الساعة يوم يقوم الناس من قبورهم إلى محشرهم فيدافع عنهم ما الله فاعل بهم، والمعنى إنكم إن دافعتم في عاجل الدنيا فإنهم سيصيرون في الآخرة إلى من لا يدافع عنده عنهم أحد فيما يفعل بهم من العذاب وأليم النكال.

7. ﴿أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ معناه ومن ذا الذي يكون وكيلا على هؤلاء الخائنين يوم القيامة يتوكل عنهم في خصومة الله عنهم يوم القيامة، وقد بينا أن الوكالة هي القيام بأمر من يوكل له.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/319.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. المجادلة والمخاصمة والمناظرة والمحاجة من النظائر، وإن كان بينها فرق، فإن المجادلة المنازعة فيما وقع فيه خلاف بين اثنين، والمحاجة: محاولة إظهار الحجة، والمخاصمة: المنازعة بالمخالفة، والمناظرة فيها معنى النظيرين.

ب. التبييت: التدبير للشيء بالليل؛ لأنه دبر في وقت رواح الناس إلى بيوتهم، وقيل: معناه التبديل في لغة بعض العرب، قال الشاعر:

çوبَيَّتَ قَوْلي عِنْدَ المَلِيكِ...قَاتَلَكَ اللهُ عَبْدًا كَنُودًاé

ج. الوكيل: المجعول إليه القيام بالتدبير.

2. قيل: نزلت الآيات في قصة الذي سرق وقصة طعمة بن أبيرق أو غيره على ما تقدم من قصته.

3. نهى الله تعالى عن المجادلة والذب عن الخائنين، وأكد ذلك، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تُجَادِلْ﴾ أي، لا تخاصم:

أ. قيل: هو خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين هم أن يبرئ طعمة لما أتاه قومه ينفون عنه السرقة ويرمون به اليهودي.

ب. وقيل: الخطاب لقوم طعمة.

ج. وقيل: خطاب له والمراد قومه.

د. وقيل: تقديره: ولا تجادل أيها الإنسان.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾:

أ. قيل: يظلمون أنفسهم بالخيانة ورمي البريء بها.

ب. وقيل: معناه يخونون أنفسهم بأن يجعلوها خائنة كما يقال للظالم: ظلم نفسه من حيث يعود وبال الظلم عليه.

5. ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا﴾ كثير الخيانة، وإنما قال خوانا ولم يقل خائنًا:

أ. قيل: لإزالة الإيهام في خيانة الشيء اليسير الذي لا يلزم به الوعيد.

ب. وقيل: لأنه إنكار لحال الخوان ببراءته، وإن كان في خصلة من الخيانة، فإن الصفة تجوز أن تلزمه تعظيمًا للخيانة.

6. ﴿أَثِيمًا﴾ فاعلاً للإثم، وقيل: لا يحب خوانًا حيث خان الدرع ولا أثيما حيث رمى به اليهودي.

7. ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ﴾ أي يكتمون:

أ. قيل: هم الَّذِينَ مشوا في الدفع، عن ابن أبيرق سارق الدرع.

ب. وقيل: بل هو سارق الدرع ومن كان مثله من الخونة، عن أبي علي.

ج. وقيل: هم الَّذِينَ مضى ذكرهم في قوله: ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ﴾ الآية، عن أبي مسلم.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ﴾:

أ. قيل: وهو مطلع عليهم قادر على أخذهم وتنكيلهم.

ب. وقيل: معناه لا يمكنهم أن يخفوه من الله وإن أخفوه من الناس؛ لأنه عليم لذاته، وهو قديم علمًا بهم وقدرة عليهم.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾:

أ. قيل: هو سارق الدرع دبر بأني أرمي اليهودي بأنه سارق الدرع، وأحلف أني لم أسرق، فيقبل مني لأني على دينهم، ولا يقبل يمين اليهودي، عن الحسن والأصم والزجاج.

ب. وقيل: هم الَّذِينَ ذبوا عن السارق دبروا ليلا بأنهم يذبون عن صاحبهم عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويرمون به اليهودي.

ج. وقيل: هم الذابون عن المنافقين، عن أبي مسلم.

د. وقيل: معناه أنه يعلم ما يبيتون من القول، عن أبي علي، ومعنى يبيتون: يدبرون ليلاً.

هـ. وقيل: يقولون، عن ابن عباس.

و. وقيل: يبدلون من القول ما لا يرضى الله به.

10. ﴿وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ يعني أن علمه أحاط بأعمالهم الخبيثة التي لا يرضاها، وإنما قال: ﴿مُحِيطًا﴾؛ لأنه لا يخفى عليه منه شيء فكأنه محيط بجميعه ومجازيهم عليها.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ﴾:

قيل: إشارة إلى الذابين عن السارق، عن أبي علي.

وقيل: الذابين عن المنافقين، عن أبي مسلم.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿هَؤُلَاءِ﴾:

أ. قيل: أنتم.

ب. وقيل: الَّذِينَ جادلتم عنهم.

﴿جَادَلْتُمْ﴾ خاصمتم، ودفعتم ﴿عَنْهُمْ﴾ قيل: عن الخائنين ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ هو استفهام، والمراد النفي؛ لأنه تقريع وتوبيخ يعني لا يجادل عنهم أحد يوم القيامة فيدفع منهم، قال الله تعالى فأعذبهم في العذابـ ﴿أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ يعني لا يكون على الخائنين وكيلاً:

أ. قيل: كفيلاً لهم لينجيهم من العذاب.

ب. وقيل: قائمًا يقوم بأمرهم ويتولى معونتهم.

ج. وقيل: شاهدًا يشهد عليهم بأنهم لم يفعلوا ذلك كما فعلوه في الدنيا.

13. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن المجادلة عن الخونة والفسقة محظور ذكر ذلك توكيدًا لما تقدم في الآية قبلها.

ب. وعيد عظيم حيث بيّن أنه لا يخفى عليه شيء من ذلك.

ج. أن من رمى غيره بذنب وهو منه بريء فقد ارتكب عظيمًا، وإذا كان رمي الناس كذلك فرمي الله بالقبائح التي هو منها بريء أولى وأعظم، ومن زعم أن السرقة وكل كفر وفساد خَلْقُه وإرادته ومحبته، وأنه يمنعه من صده فقد أعظم الفرية على الله.

د. أن يوم القيامة لا دافع عن الخائنين، فيبطل قول المرجئة في الشفاعة وتدل على أنه ينبغي أن يجادل بالحق، وذلك لا يصح إلا بعد أن يعلم الحق.

هـ. ضروب من الوعظ والزجر إذا تدبرها العاقل كان لطفًا عظيمًا في فعل الطاعة والانتهاء عن المعصية.

14. قراءة العامة ﴿جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ﴾ يرجع إلى الخائنين، وعن أُبَيٍّ بن كعب: جادلتم عنه يرجع إلى الخائن، وهو ابن أبيرق.

15. مسائل لغوية ونحوية:

أ. كثرت هاء التنبيه مع ﴿ذَا﴾ دون ﴿ذَلِكَ﴾ لأن في ﴿ذَلِكَ﴾ زيادة من اللام والكاف، فصارتا كالعوض الذي يغني عن علامة التنبيه مع الاستفتاح ليحمل الاسم كثرة الزيادات.

ب. معنى ﴿هَؤُلَاءِ﴾ ههنا فيه قولان:

الأول: قال الزجاج: بمعنى الذي؛ لأن المخاطب بـ ﴿أَنْتُمْ﴾ لا يحتاج إلى الإشارة إلى نفسه.

الثاني: أن يكون على جهة البيان والتأكيد؛ لأنه ليس فيه أكثر من الأول، فيصير بمنزلة: فعلت أنت، وفعل هو.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/61.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. المخاصمة، والمجادلة، والمناظرة، والمحاجة، نظائر، وإن كان بينها فرق، فإن المجادلة هي المنازعة فيما وقع فيه خلاف بين اثنين، والمخاصمة: المنازعة بالمخالفة بين اثنين على وجه الغلظة.

ب. المناظرة: فيما يقع بين النظيرين، والمحاجة: في محاولة إظهار الحجة، وأصل المجادلة من الجدل، وهو شدة الفتل، ورجل مجدول: كأنه قد جدل: أي فتل، والأجدل: الصقر، لأنه من أشد الطيور قوة.

ج. التبييت: التدبير للشيء بالليل، لأن ذلك يكون في وقت رواح الناس إلى بيوتهم.

ليظهره على الدين

2. نزلت الآيات في القصة التي ذكرناها قبل.

3. نهى تعالى عن المجادلة، والدفع عن أهل الخيانة، مؤكدا لما تقدم، فقال: ﴿وَلَا تُجَادِلْ﴾:

أ. قيل: الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، حين هم أن يبرئ أبا طعمة، لما أتاه قوم ينفون عنه السرقة.

ب. وقيل: الخطاب له، والمراد قومه.

ج. وقيل: تقديره ولا تجادل أيها الإنسان ﴿عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: يخونون أنفسهم، ويظلمونها، أراد من سرق الدرع، ومن شاركه في السرقة والخيانة.

د. وقيل: إنه أراد به قومه الذين مشوا معه إلى النبي، وشهدوا له بالبراءة، عما نسب إليه من السرقة.

هـ. وقيل: أراد به السارق وقومه، ومن هو في معناهم.

4. إنما قال: ﴿يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ وإن خانوا غيرهم، لأن ضرر خيانتهم، كأنه راجع إليهم، لاحق بهم، كما تقول لمن ظلم غيره: ما ظلمت إلا نفسك، وكقوله تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ﴾

5. ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾:

أ. هو فعال الخيانة أي: من كان كثير الخيانة، وقد ألفها واعتادها، وقد يطلق الخوان على الخائن في شيء واحد، إذا عظمت تلك الخيانة، والأثيم: فاعل الإثم.

ب. وقيل معناه: لا يحب من كان خوانا، إذا سرق الدرع، وأثيما إذا رمى به اليهودي.

ج. وقال ابن عباس في معنى الآية: لا تجادل عن الذين يظلمون أنفسهم بالخيانة، ويرمون بالخيانة غيرهم، يريد به سارق الدرع سرق الدرع، ورمى بالسرقة اليهودي، فصار خائنا بالسرقة، أثيما في رميه غيره بها.

6. ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ﴾ أي: يكتمون عن الناس ﴿وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ﴾:

أ. قيل: يعني الذين مشوا في الدفع عن ابن أبيرق، ومعناه: يتسترون عن الناس بمعاصيهم في أخذ الأموال، لئلا يفتضحوا في الناس، ولا يتسترون من الله، وهو مطلع عليهم.

ب. وقيل معناه: يستحيون من الناس، ولا يستحيون من الله وعلمه معهم، فيكون معناه: يخفون الخيانة عن الناس، ويطلبون إخفاءها حياء منهم، ولا يتركونها حياء من الله، وهو عالم بأفعالهم ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ أي: يدبرون بالليل قولا لا يرضاه الله.

ج. وقيل: يغيرون القول من جهته، ويكذبون فيه.

د. وقيل: إنه قول ابن أبيرق في نفسه بالليل، أرمي بهذا الدرع في دار اليهودي، ثم أحلف أني برئ منه، فيصدقني المسلمون، لأني على دينهم، ولا يصدقون اليهودي، لأنه ليس على دينهم، وقيل: إنه رمى بالدرع إلى دار لبيد بن سهل.

7. ﴿وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾:

أ. قال الحسن: حفيظا لأعمالهم.

ب. وقال غيره: عالما بأعمالهم، لا يخفى عليه شيء منها.

8. في هذه الآية تقريع بليغ لمن يمنعه حياء الناس وحشمتهم، عن ارتكاب القبائح، ولا يمنعه خشية الله عن ارتكابها، وهو سبحانه أحق أن يراقب، وأجدر أن يحذر، وفيها أيضا توبيخ لمن يعمل قبيحا، ثم يقرف غيره به سواء كان ذلك الغير مسلما، أو كافرا.

9. ﴿هَا أَنْتُمْ﴾: خطاب للذابين عن السارق ﴿هَؤُلَاءِ﴾ يعني الذين ﴿جَادَلْتُمْ﴾ أي: خاصمتم ودافعتم ﴿عَنْهُمْ﴾: عن الخائنين ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: استفهام يراد به النفي، لأنه في معنى التقريع والتوبيخ، أي: لا مجادل عنهم، ولا شاهد على برأتهم بين يدي الله، يوم القيامة.

10. في هذه الآية النهي عن الدفع عن الظالم والمجادلة عنه.

11. ﴿أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ أي: من يحفظهم، ويتولى معونتهم، يعني لا يكون يوم القيامة عليهم وكيل يقوم بأمرهم، ويخاصم عنهم وأصل الوكيل: من جعل إليه القيام بالأمر، والله يسمى وكيلا:

أ. بمعنى أنه القائم بالأمر.

ب. ويقال: إنه يسمى وكيلا بمعنى الحافظ، ولا يقال إنه وكيل لنا، وإنما يقال إنه وكيل علينا.

12. ها: للتنبيه، وأعيدت في أولاء، والمعنى: ها أنتم الذين جادلتم عنهم، لان هؤلاء وهذا يكونان في الإشارة للمخاطبين إلى أنفسهم، بمنزلة الذين، وقد يكونان لغير المخاطبين بمنزلة الذين نحو قول الشاعر:

çعدس! ما لعباد عليك إمارة... أمنت، وهذا تحملين طليقé

أي: والذي تحملين طليق.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/162.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: يخوّنون أنفسهم، فيجعلونها خائنة بارتكاب الخيانة، قال عكرمة: والمراد بهم: طعمة بن أبيرق، وقومه الذين جادلوا عنه، وفي حديث العوفيّ عن ابن عباس قال انطلق نفر من عشيرة طعمة ليلا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: إنّ صاحبنا بريء.

2. الاستخفاء: الاستتار، والمعنى: يستترون من النّاس لئلّا يطّلعوا على خيانتهم وكذبهم، ولا يستترون من الله، وهو معهم بالعلم، وكل ما فكّر فيه، أو خيض فيه بليل، فقد بيّت، وجمهور العلماء على أن المشار إليه بالاستخفاء والتّبييت، قوم طعمة، والذي بيّتوا: احتيالهم في براءة صاحبهم بالكذب.

3. وقال الزجّاج: هو السّارق نفسه، والذي بيّت أنه قال أرمي اليهوديّ بأنّه سارق الدّرع، وأحلف أني لم أسرقها، فتقبل يميني، ولا تقبل يمين اليهوديّ.

4. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ﴾ قال الزجّاج: (ها) للتنبيه، وأعيدت في أوّله، والمعنى: ها أنتم الذين جادلتم، و(المجادلة، والجدال): شدّة المخاصمة، و(الجدل): شدة الفتل.

5. الكلام يعود إلى من احتجّ عن السّارق، فأما قوله: (عنهم) فإنه عائد إلى السّارق، و(عليهم) بمعنى (لهم)، والوكيل: القائم بأمر من وكّله، فكأنه قال من الذي يتوكّل لهم منكم في خصومة ربّهم!؟

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/468.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. المراد بالذين يختانون أنفسهم طعمة ومن عاونه من قومه ممن علم كونه سارقا، والاختيان كالخيانة يقال: خانه واختانه، وذكرنا ذلك عند قوله تعالى: ﴿عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 187] وإنما قال تعالى لطعمة ولمن ذب عنهم: إنهم يختانون أنفسهم لأن من أقدم على المعصية فقد حرم نفسه الثواب وأوصلها إلى العقاب، فكان ذلك منه خيانة مع نفسه، ولهذا المعنى يقال لمن ظلم غيره: إنه ظلم نفسه.

2. في الآية تهديد شديد، وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما مال طبعه قليلا إلى جانب طعمة، وكان في علم الله أن طعمة كان فاسقا، فالله تعالى عاتب رسوله على ذلك القدر من إعانة المذنب، فكيف حال من يعلم من الظالم كونه ظالما ثم يعينه على ذلك الظلم، بل يحمله عليه ويرغبه فيه أشد الترغيب.

3. ﴿إِنَّ الله لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ قال المفسرون: إن طعمة خان في الدرع، وأثم في نسبة اليهودي إلى تلك السرقة فلا جرم قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الله لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾

4. سؤال وإشكال: لم قال‏: ﴿خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ مع أن الصادر عنه خيانة واحدة وإثم واحد؟ والجواب: علم الله تعالى أنه كان في طبع ذلك الرجل الخيانة الكثيرة والإثم الكثير، فذكر اللفظ الدال على المبالغة بسبب ما كان في طبعه من الميل إلى ذلك، ويدل عليه ما رويناه أنه بعد هذه الواقعة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائط إنسان لأجل السرقة فسقط الحائط عليه ومات، ومن كان خاتمته كذلك لم يشك في خيانته، وأيضا طلب من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يدفع السرقة عنه ويلحقها باليهودي، وهذا يبطل رسالة الرسول، ومن حاول إبطال رسالة الرسول وأراد إظهار كذبه فقد كفر، فلهذا المعنى وصفه الله بالمبالغة في الخيانة والإثم، وقيل: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات، عن عمر أنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمه تبكي وتقول هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه، فقال: كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول الأمر، ولما خص الله تعالى هذا الوعيد بمن كان عظيم الخيانة والإثم دل ذلك على أن من كان قليل الخيانة والإثم فهو خارج عنه.

5. ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله﴾ الاستخفاء في اللغة معناه الاستتار، يقال استخفيت من فلان، أي تواريت منه واستترت، قال تعالى: ﴿وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ﴾ [الرعد: 10] أي مستتر، فقوله: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ﴾ أي يستترون من الناس ولا يستترون من الله، قال ابن عباس: يستحيون من الناس ولا يستحيون من الله، قال الواحدي: هذا معنى وليس بتفسير، وذلك لأن الاستحياء من الناس يوجب الاستتار من الناس والاستخفاء منهم، فأما أن يقال: الاستحياء هو نفس الاستخفاء فليس الأمر كذلك.

6. ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ يريد بالعلم والقدرة والرؤية، وكفى هذا زاجرا للإنسان عن المعاصي، ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ أي يضمرون ويقدرون في أذهانهم وذكرنا معنى التبييت في قوله: ﴿بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 81] والذي لا يرضاه الله من القول هو أن طعمة قال أرمي اليهودي بأنه هو الذي سرق الدرع وأحلف أني لم أسرقها، فيقبل الرسول يميني لأني على دينه ولا يقبل يمين اليهودي.

7. سؤال وإشكال: كيف سمي التبييت قولا وهو معنى في النفس؟ والجواب: أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ على أن الكلام الحقيقي هو المعنى القائم بالنفس، وعلى هذا المذهب فلا إشكال، ومن أنكر كلام النفس فله أن يجيب بأن طعمة وأصحابه لعلّهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية الحيلة والمكر، فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه.

8. ﴿وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ فالمراد الوعيد من حيث إنهم وإن كانوا يخفون كيفية المكر والخداع عن الناس إلا أنها كانت ظاهرة في علم الله، لأنه تعالى محيط بجميع المعلومات لا يخفى عليه سبحانه منها شيء.

9. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ها للتنبيه في‏ ﴿هَا أَنْتُمْ﴾ و﴿هَؤُلَاءِ﴾ وهما مبتدأ وخبر ﴿جَادَلْتُمْ﴾ جملة مبينة لوقوع أولاء خبرا، كما تقول لبعض الأسخياء: أنت حاتم تجود بمالك وتؤثر على نفسك، ويجوز أن يكون أولاء اسما موصولا بمعنى الذي و﴿جَادَلْتُمْ﴾ صلة، وأما الجدال فهو في اللغة عبارة عن شدة المخاصمة، وجدل الحبل شدة فتله، ورجل مجدول كأنه فتل، والأجدل الصقر لأنه من أشد الطيور قوة، هذا قول الزجاج، وقال غيره: سميت المخاصمة جدالا لأن كل واحد من الخصمين يريد ميل صاحبه عما هو عليه وصرفه عن رأيه.

10. هذا خطاب مع قوم من المؤمنين كانوا يذبون عن طعمة وعن قومه بسبب أنهم كانوا في الظاهر من المسلمين، والمعنى: هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا، فمن الذين يخاصمون عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه، وقرأ عبد الله بن مسعود: ها أنتم هؤلاء جادلتم عنه، يعني عن طعمة، وقوله: ﴿فَمَنْ يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ﴾ استفهام بمعنى التوبيخ والتقريع.

11. ﴿أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ فقوله: ﴿أَمْ مَنْ يَكُونُ﴾ عطف على الاستفهام السابق، والوكيل هو الذي وكل إليه الأمر في الحفظ والحماية، والمعنى: من الذي يكون محافظا ومحاميا لهم من عذاب الله؟

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/214.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم، نزلت في أسير بن عروة كما تقدم، والمجادلة المخاصمة، من الجدل وهو الفتل، ومنه رجل مجدول الخلق، ومنه الأجدل للصقر، وقيل: هو من الجدالة وهي وجه الأرض، فكل واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها، قال العجاج:

çقد أركب الحالة بعد الحاله...وأترك العاجز بالجداله منعفراé

ليست له محاله الجدالة الأرض، من ذلك قولهم: تركته مجدلا، أي مطروحا على الجدالة.

2. ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ﴾ أي لا يرضى عنه ولا ينوه بذكر، ﴿مَنْ كَانَ خَوَّانًا﴾ خائنا، و﴿خَوَّانًا﴾ أبلغ، لأنه من أبنية المبالغة، وإنما كان ذلك لعظم قدر تلك الخيانة. ‌

3. ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ قال الضحاك: لما سرق الدرع اتخذ حفرة في بيته وجعل الدرع تحت التراب، فنزلت ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ﴾ يقول: لا يخفى مكان الدرع على الله ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ أي رقيب حفيظ عليهم، وقيل: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ﴾ أي يستترون، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ﴾ أي مستتر، وقيل: يستحيون من الناس، وهذا لأن الاستحياء سبب الاستتار.

4. معنى ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ أي بالعلم والرؤية والسمع، هذا قول أهل السنة، وقالت الجهمية والقدرية والمعتزلة: هو بكل مكان، تمسكا بهذه الآية وما كان مثلها، قالوا: لما قال: ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ ثبت أنه بكل مكان، لأنه قد أثبت كونه معهم تعالى الله عن قولهم، فإن هذه صفة الأجسام والله تعالى متعال عن ذلك ألا ترى مناظرة بشر في قول الله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ حين قال هو بذاته في كل مكان فقال له خصمه: هو في قلنسوتك وفي حشوك وفي جوف حمارك، تعالى الله عما يقولون! حكى ذلك وكيع(2).

5. معنى ﴿يَبِيتُونَ﴾ يقولون، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ﴿مَا لَا يَرْضَى﴾ أي ما لا يرضاه الله لأهل طاعته، ﴿مِنَ الْقَوْلِ﴾ أي من الرأي والاعتقاد، كقولك: مذهب مالك الشافعي، وقيل: ﴿الْقَوْلِ﴾ بمعنى المقول، لأن نفس القول لا يبيت، قوله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ يريد قوم بشير السارق لما هربوا به وجادلوا عنه، قال الزجاج: ﴿هَؤُلَاءِ﴾ بمعنى الذين، ﴿جَادَلْتُمْ﴾ حاججتم، ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ استفهام معناه الإنكار والتوبيخ، ﴿أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ الوكيل: القائم بتدبير الأمور، فالله تعالى قائم بتدبير خلقه، والمعنى: لا أحد لهم يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه وأدخلهم النار.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/351.

(2) للأسف هذه هي الرؤية التجسيمية لله، انظر في الردود عليها ما ذكره الرازي وغيره

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم، والمجادلة: مأخوذة من الجدل، وهو الفتل؛ وقيل: مأخوذة من الجدالة، وهي وجه الأرض، لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها، وسمي ذلك: خيانة لأنفسهم، لأن ضرر معصيتهم راجع إليهم، والخوّان: كثير الخيانة، والأثيم: كثير الإثم، وعدم المحبة: كناية عن البغض.

2. ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ﴾ أي: يستترون منهم، كقوله: ﴿وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ﴾ أي: مستتر؛ وقيل: يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله: أي لا يستترون منه، أو لا يستحيون منه والحال أنه معهم في جميع أحوالهم، عالم بما هم فيه، فكيف يستخفون منه؟

3. ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ﴾ أي: يديرون الرأي بينهم، وسماه: تبييتا؛ لأن الغالب أن تكون إدارة الرأي بالليل‏ ﴿مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ أي: من الرأي الذي أداروه بينهم، وسماه: قولا، لأنه لا يحصل إلا بعد المقاولة بينهم.

4. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ يعني: القوم الذين جادلوا عن صاحبهم السارق كما سيأتي، والجملة مبتدأ وخبر، قال الزجاج: أولاء بمعنى الذين و﴿جَادَلْتُمْ﴾ بمعنى حاججتم‏ ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ الاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي: فمن يخاصم ويجادل الله عنهم يوم القيامة عند تعذيبهم بذنوبهم؟ ﴿أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ أي: مجادلا ومخاصما، والوكيل في الأصل: القائم بتدبير الأمور، والمعنى: من ذاك يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/591.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُم﴾ هم طعمة وقومه، أو بنو أبيرق، أو مطلق الخائنين، ودخل طعمة وقومه فيهم، وذلك أنَّ خيانتهم لغيرهم خيانة لأنفسهم، إذ أوقعوها في موجب العقاب، بيَّتوا أن يشهدوا صباحًا بالسرقة على اليهوديِّ، دفعًا عن طعمة.

2. أو شُبِّهت المعصية بالخيانة للنفس في قوله: ﴿يَخْتَانُونَ﴾، أو الخيانة: المضرَّة مجازًا، وفي قولِهِ: ﴿يَخْتَانُونَ﴾ وقولِهِ: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا اَثِيمًا﴾ مبالغةٌ بالافتعال وفَعَّال وفَعِيل؛ لأنَّ مِن طبعِهِ السرقة، وقد تكرَّرت منه في الجاهليَّة، وعلم قومُهُ بتكرُّرها؛ حتَّى إنَّه مات في مكَّة بعد ذلك تحت حائطٍ نَقَبَه للسرقة، أو هم بنو أبيرق وصيغة المبالغة للنَّسب، فشملت ما لا مبالغة فيه، أو مراعاةٌ لحالِ مَنِ الآيةُ في شأنه، وفيه ما في ﴿وَمَا رَبـُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46] من الأوجه، وذكر الإثم بعد الخيانة مبالغة، أو خيانة باعتبار إنكار السرقة، أو إنكار الوديعة، والإثم باعتبار تهمة البريء، كما قيل عن ابن عبَّاس، وأخِّر لأنَّه مُسَبَّب عن الخيانة، ولتأخُّر وقوعه عنها، وللفاصلة.

3. ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ﴾ حالَ فِعْلِ المعصية أو ما يعاب، وبعدَ فِعْلِ ذلك حياءً وخوفًا، ﴿وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ﴾ الجملة حال أو معطوفة، والمراد أنَّهم لا يقدرون على الإخفاء عن الله، ﴿وَهُوَ مَعَهُم﴾ بالعلم، فهو أحقُّ بأن يستخفوا منه، أي: بأن يتركوا ما نهى عنه خوفًا لعقابه، فسمَّى الترك استخفاء بجامع عدم الظهور، فإنَّه كما لا ظهور في موجود مخفيٍّ، لا ظهور في معدوم، وفيه مشاكلة.

4. ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ﴾ يدبِّرون ليلاً، ﴿مَا لَا يَرْضَىٰ﴾ أي: الله، ﴿مِنَ الْقَوْلِ﴾ البهتان وشهادة الزُّور، واليمين الفاجرة، قال طعمة: (أرمي اليهوديَّ بأنَّه سارق الدرع، وأحلف أنِّي لم أسرقها، فتُقبل يميني لأنِّي على دينهم، ولا تقبل يمين اليهوديِّ)، وقال قومه: (نشهد زورا لدفع السرقة وعقوبتها عمَّن هو واحد منَّا)، وذلك تدبير ليلاً، ولذلك عبَّر عنه بالتبييت، أو إطلاق للمقيَّد على المطلق، أو استعارة لجامع الاتِّفاق، فإنَّ ما دُبِّر ليلاً وَقْتَ الخُلُوِّ أجود، وسمَّى التدبير ـ وهو معنًى في النفس ـ قولاً بناءً على ثبوت الكلام النفسيِّ، ولا بأس به في المخلوق، أو ذلك تلفُّظٌ صدر منهم ليلاً، ﴿وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ فلا يفوته عقابهم.

5. يروى أنَّ بشرًا أخا بشير ومبشّر وهم بنو أبيرق من بيت قتادة بن النعمان  ، كان منافقًا يقول الشعر في ذمِّ الصحابة وينسبه لغيره ويتَّهمونه به، ونَقَبَ غرفة رفاعة بن زيد وسَرَقَ منها دقيقَ الحواريِّ وسلاحًا، فذكر ذلك لابن أخيه قتادة، فقيل له: (قد استوقد بنو أبيرق، وما نرى إِلَّا على طعامكم)، وهم فقراء في الجاهليَّة والإسلام، وأنكروا، وبَهَتُوا بذلك لبيد بن سهل، فأتاهم بسيفه فَقَالَ لهم: (والله لتبيِّـنُنَّه أو لأقتلنَّكم)، فقالوا: (والله ما سرقت)، فاستعانوا بأسير بن عروة وغيره أنَّهم ما سرقوا، فقالوا: (إنَّ قتادة يا رسول الله نَسَبَ أهلَ صَلاحٍ إلى السرقة)، فزجره وأخبر عمه رفاعة، قال رفاعة: (الله المستعان)، فنزلت الآيات في بشر، فقال رفاعة: (ذلك السلاح في سبيل الله)، قال قتادة: (ومن حينئذ زال شكِّي في إخلاص إيمانه)

6. ﴿هَآ﴾ حرف تنبيه تدخل على المبتدأ المخبر عنه بالإشارة، ﴿أَنتُمْ هَؤُلآءِ﴾ أشار إلى المجادلين، كما فسَّره بقوله: ﴿جَادَلْتُمْ﴾ الجدال أشدُّ الخصام، ﴿عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ حالٌ، أو صلة (هَؤُلَاءِ)، بمعنى الذين، وهو قول الكوفيِّين، أو (يا هؤلاء)، فيكون (جَادَلْتُمْ) خبرًا، وحَذْفُ حرف النداء من اسم الإشارة قليل، والخطاب لقوم طعمة بن أبيرق، التفاتا من الغيبة إليه؛ لأنَّ تعدُّد جنايتهم توجب المواجهة بالتوبيخ، ﴿فَمَنْ يُّجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ إذا حضر عذابهم؟، ﴿أَم مَّنْ يَّكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾ يمنع عنهم عذاب الله تعالى ويتولَّى أمرهم؟، والاستفهامان للإنكار.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/280.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: يخونونها بالمعصية، جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم، كما جعلت ظلما لها لرجوع ضررها إليهم، قال الرازيّ: واعلم أن في الآية تهديدا شديدا، وذلك لأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لما مال طبعه قليلا إلى جانب طعمة، وكان في علم الله أن طعمة كان فاسقا، فالله تعالى عاتب رسوله على ذلك القدر من إعانة المذنب، فكيف حال من يعلم من الظالم‏ كونه ظالما، ثم يعينه على ذلك الظلم، بل يحمله عليه ويرغّبه فيه أشد الترغيب؟

2. إنما قيل للخائنين (ويختانون) مع أن الخائن واحد، لأن المراد به هو ومن عاونه من قومه، وهم يعلمون أنه سارق، أو ذكر بلفظ الجمع ليتناوله وكل من خان خيانته، كما أنه إنما ذكر بلفظ المبالغة في قوله تعالى:‏ ﴿إِنَّ الله لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ لأنه تعالى علم منه أنه مفرط في الخيانة وركوب المآثم، ويدل له أنه هرب إلى مكة وارتدّ، كما أسلفنا، قيل: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات، وعن عمر، أنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمه تبكي وتقول: هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه، فقال: كذبت، إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة.

3.﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ﴾ أي: يستترون حياء منهم وخوفا من ضررهم‏ ﴿وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله﴾ فلا يستحيون منه‏ ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ أي: وهو عالم بهم مطلع عليهم لا يخفى عليه خاف من سرهم، قال الزمخشريّ: وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم، مع علمهم، إن كانوا مؤمنين، أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح.

4. ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ أي: يدبرون ويزوّرون الحلف الكاذب ورمي البريء وشهادة الزور، وقوله تعالى:‏ ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾.. الآية، المجادلة: أشد المخاصمة، والمعنى هبوا أنكم خاصمتم عن السارق وقومه في الدنيا، فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه؟ ‏ ﴿أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ حافظا ومحاميا من بأس الله تعالى وانتقامه.

5. قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة هذه الآيات وجوب الحكم من غير محاباة ولا ميل، والنهي عن التعصب والمجادلة عن كل خائن وعاص، ويدل تقييد النهي عن الجدل بالذين يختانون أنفسهم، على إباحة المجادلة.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/325.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي يخونونها بل يتعمدون ويتكلفون ما يخالف الفطرة من الخيانة التي تعود على أنفسهم بالضرر، قال محمد عبده: إن هؤلاء الخائنين يوجدون في كل زمان ومكان، وهذا النهي لم يكن موجها إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة، وإنما هو تشريع وجه إلى المكلفين كافة، وفي جعله بصيغة الخطاب له وهو أعدل الناس وأكملهم مبالغة في التحذير من هذه الخلة المعهودة من الحكام.

2. ﴿إِنَّ الله لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ أي من اعتاد الخيانة وألف الإثم فلم يعد ينفر منه، ولا يخاف العقاب الإلهي عليه، فيراقبه فيه، وإنما يحب الله أهل الأمانة والاستقامة.

3. ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله﴾ أي إن شأن هؤلاء الخوانين الراسخين في الإثم أنهم يستترون من الناس عند ارتكاب خيانتهم واجتراحهم الإثم لأنهم يخافون ضرهم، ولا يستترون من الله تعالى بتركه لأنهم لا إيمان لهم، إذ الإيمان يمنع من الإصرار والتكرار، ولا تقع الخيانة من صاحبه إلا عن غفلة أو جهالة عارضة لا تدوم ولا تتكرر حتى تحيط بصاحبها خطيئته، على أنه لا يمكن الاستخفاء منه تعالى، فمن يعلم أنه تعالى يراه وراء الأستار في حنادس الظلمات وهو المؤمن الصادق فلابد أن يترك الذنب والخيانة حياء منه تعالى أو خوفا من عقابه.

4. ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ أي وهو تعالى شاهدهم في الوقت الذي يدبرون فيه من الليل، ما لا يرضى من القول، لأجل تبرئة أنفسهم، ورمي غيرهم بخيانتهم وجريمتهم، ﴿وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ لا يفوته شيء منه، فلا سبيل إلى نجاتهم من عقابه.

5. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ هذه الآية تدل على أن الذين أرادوا مساعدة بني أبيرق على اليهودي جماعة وأن النهي عن الجدال عنهم موجه إلى هؤلاء وحدهم وإن بدئ بخطاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحده، أي ها أنتم يا هؤلاء جادلتم عنهم وحاولتم تبرئتهم في الحياة الدنيا.

6. ﴿فَمَنْ يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ يوم يكون الخصم والحاكم هو الله المحيط علمه بأعمالهم وأحوالهم وأحوال الخلق كافة؟ أي لا يمكن أن يجادل هنالك أحد عنهم، ولا أن يكون وكيلا بالخصومة لهم، فعلى المؤمنين أن يراقبوا الله تعالى في مثل ذلك ولا يحسبوا أن من أمكنه أن ينال الفلج بالحكم له من قضاة الدنيا بغير حق، يمكنه كذلك أن يظفر في الآخرة، ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله﴾ [الانفطار: 19] الذي يحاسب على الذرة ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47] وفي هذا دليل على أن حكم الحاكم في الدنيا لا يجيز للمحكوم له أن يأخذ به إذا علم أنه حكم له بغير حقه.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/325.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ هذا الخطاب وجه إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو أعدل الناس وأكملهم مبالغة في التحذير من هذه الخلة المعهودة في كثير من الحكام، وسمى خيانة غيرهم خيانة لأنفسهم، لأن ضررها عائد إليهم، والذين يختانون هم هذا السارق ومن عاونه، لأنه شريك له في الإثم والخيانة، ولهم نظراء في كل زمان ومكان، وخلاصة المعنى ـ لا تدافع عن هؤلاء الخونة ولا تساعدهم عند التخاصم.

2. ﴿إِنَّ الله لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ المراد بعدم الحب البغض والسخط: أي إن الله يبغض من اعتاد الخيانة وألفت نفسه اجتراح السيئات وضريت عليها ولم يعدّ للعقاب الإلهىّ الرهبة والخشية التي ينبغي أن يفكّر مثله فيها، وإنما يحب الله أهل الأمانة والاستقامة.

3. ثم بين أحوال الخائنين، ونعى عليهم أفعالهم فقال: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ أي إن شأن هؤلاء الخوانين أنهم يستترون من الناس عند اجتراحهم الآثام إما حياء وإما خوفا من ضررهم، ولا يستترون من الله ولا يستحيون منه بتركها لضعف إيمانهم، إذ الإيمان يمنع من الإصرار وتكرار الذنب ولا تقع الخيانة من صاحبه إلا عن غفلة أو جهالة عارضة لا تدوم، فمن يعلم أن الله يراه في حنادس الظلمات لا بد أن يترك الذنب والخيانة حياء منه تعالى وخوفا من عقابه، وهو تعالى شاهدهم حين يدبرون ليلا ما لا يرضى من القول، تبرئة لأنفسهم ورمى غيرهم بجريمتهم.

4. ثم توعدهم على عظيم جرمهم فقال: ﴿وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ أي حافظا لأعمالهم، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، فلا سبيل إلى نجاتهم من عقابه.

5. ثم حذر المؤمنين من مساعدة هؤلاء الخوانين والحدب عليهم فقال: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ أي يا هؤلاء أنتم جادلتم عنهم وحاولتم تبرئتهم في الحياة الدنيا، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة، يوم يكون الخصم والحاكم هو الله تعالى المحيط بأعمالهم وأحوالهم وأحوال الخلق كافة؟ أي فلا يمكن أن يجادل هناك أحد عنهم ولا أن يكون وكيلا بالخصومة لهم، فعلى المؤمنين أن يراقبوا الله تعالى في مثل ذلك ولا يظنوا أن من أمكنه أن ينال الفوز والحكم له وأخذه من قضاة الدنيا بغير حق، يمكنه أن يظفر به في الآخرة ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله﴾

6. في الآية إيماء إلى أن حكم الحاكم في الدنيا لا يجيز للمحكوم له أن يأخذ به إذا علم أنه حكم له بغير حقه، كما أن فيها توبيخا وتقريعا لأولئك الذين أرادوا مساعدة بنى أبيرق على اليهودي.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/150.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم تكرار هذا النهي؛ ووصف هؤلاء الخائنين، الذين جادل عنهم صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنهم يختانون أنفسهم، وتعليل ذلك بأن الله لا يحب من كان خوانا أثيما: ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ الله لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾، وهم خانوا غيرهم في الظاهر، ولكنهم في الحقيقة خانوا أنفسهم، فقد خانوا الجماعة ومنهجها، ومبادئها التي تميزها وتفردها، وخانوا الأمانة الملقاة على الجماعة كلها، وهم منها.. ثم هم يختانون أنفسهم في صورة أخرى، صورة تعريض أنفسهم للإثم الذي يجازون عليه شر الجزاء، حيث يكرههم الله، ويعاقبهم بما أثموا، وهي خيانة للنفس من غير شك.. وصورة ثالثة لخيانتهم لأنفسهم، هي تلويث هذه الأنفس وتدنيسها بالمؤامرة والكذب والخيانة.

2. ﴿إِنَّ الله لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾.. وهذه عقوبة أكبر من كل عقوبة.. وهي تلقي إلى جانبها إيحاء آخر، فالذين لا يحبهم الله لا يجوز أن يجادل عنهم أحد، ولا أن يحامي عنهم أحد، وقد كرههم الله للإثم والخيانة!

3. ويعقب الوصف بالإثم والخيانة تصوير منفر لسلوك هؤلاء الخونة الآثمين: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾.. وهي صورة زرية داعية إلى الاحتقار والسخرية، زرية بما فيها من ضعف والتواء، وهم يبيتون ما يبيتون من الكيد والمؤامرة والخيانة؛ ويستخفون بها عن الناس، والناس لا يملكون لهم نفعا ولا ضرا، بينما الذي يملك النفع والضر معهم وهم يبيتون ما يبيتون؛ مطلع عليهم وهم يخفون نياتهم ويستخفون، وهم يزورون من القول ما لا يرضاه! فأي موقف يدعو إلى الزراية والاستهزاء أكثر من هذا الموقف؟

4. ﴿وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾.. إجمالا وإطلاقا.. فأين يذهبون بما يبيتون، والله معهم إذ يبيتون، والله بكل شيء محيط وهم تحت عينه وفي قبضته؟

وتستمر الحملة التي يفوح منها الغضب؛ على كل من جادل عن الخائنين: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾.. واللهم لا مجادل عنهم يوم القيامة ولا وكيل، فما جدوى الجدال عنهم في الدنيا وهي لا تدفع عنهم ذلك اليوم الثقيل؟

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/755.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات السابقة كان التوجيه السماوي إلى النبيّ ـ ومن ورائه المسلمون جميعا ـ ألّا يكون خصيما وعدوا لمن تظهر خيانتهم، وينكشف جرمهم، في مجلس الفصل في الخصومات، وفي هذه الآيات، يجيء التوجيه السماوي متمما لتلك الصورة، ضابطا الوجه المقابل لها.. وهو ألا يقف من الخائنين وأولى التّهم موقف الدفاع، الذي يجادل عنهم ويلتمس المعاذير لهم..! فإذا كان العدوان من ولىّ الأمر على الظالم الآثم أمرا تنكره الشريعة، فتفرض حماية على الظالم المعتدى، حتى لا يجاوز بعقابه الحدّ المرصود لجريمته ـ فإن الميل مع الظالم الآثم، والتماس المعاذير لجريمته، ابتغاء التخفيف عنه، لا يقلّ في نظر الشريعة نكرا عن الأمر الأول، لأن في هذا عدوانا على حق الله، وتعطيلا لحدوده!

2. ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ هو تهديد ووعيد لهؤلاء الذين يدبرون السوء، ويؤامرون أنفسهم وأصحابهم على المنكر، في خفاء، وحذر، بعيدا عن أعين الناس، حتى لا ينكشف أمرهم، وينفضح حالهم، ويفسد تدبيرهم..

3. ولكن أين يذهب هؤلاء الذين أخفوا مكرهم السيّئ عن الناس؟ إنهم إن استخفوا من الناس فلن يستخفوا من الله، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.. فهو سبحانه ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾..

4. وهو سبحانه: ﴿مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾! إنهم في سكرة يعمهون.. يحسبون أنهم ـ وقد استخفوا عن الناس ـ قد غاب أمرهم عن الله، وأنهم وقد أفلتوا من يد الناس ـ لن تمسك بهم يد الله! وكلّا، فإن عين الله لا تغفل، وإن ما بيّتوه من سوء قد سجله الله عليهم، وسيأخذهم به.. ﴿وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾

5. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ هو استدعاء لأولئك الذين يتولّون الظالمين، ويمكنون لهم من إمضاء مكرهم السيّئ، وتغطية ما ينكشف عنه، وذلك بالدفاع عنهم، وتبرير أعمالهم المنكرة، والتماس التأويلات الكاذبة لها.. فهؤلاء الذين يقومون وراء الظالمين هم شركاء لهم في هذا الجرم.. وهم مدعوّون معهم إلى ساحة المحاكمة والقصاص بين يدى أحكم الحاكمين! وفي هذا الموقف تخرس ألسنة هؤلاء الأولياء المدافعين عن الظلم والظالمين.. ويتعرّى أولئك الظالمون من كل قوة تدفع عنهم سوء ما عملوا.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/891.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الخطاب في قوله: ﴿وَلَا تُجَادِلْ﴾ للرسول، والمراد نهي الأمّة عن ذلك، لأنّ مثله لا يترقّب صدوره من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كما دلّ عليه قوله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾

2. ﴿يَخْتَانُونَ﴾ بمعنى يخونون، وهو افتعال دالّ على التكلّف والمحاولة لقصد المبالغة في الخيانة، ومعنى خيانتهم أنفسهم أنّهم بارتكابهم ما يضرّ بهم كانوا بمنزلة من يخون غيره كقوله: ﴿عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 187]، ولك أن تجعل‏ ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ هنا بمعنى بني أنفسهم، أي بني قومهم، كقوله: ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ [البقرة: 85]، وقوله: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: 61]، أي الذين يختانون ناسا من أهلهم وقومهم، والعرب تقول: هو تميمي من أنفسهم، أي ليس بمولى ولا لصيق.

3. المجادلة مفاعلة من الجدل، وهو القدرة على الخصام والحجّة فيه، وهي منازعة بالقول لإقناع الغير برأيك، ومنه سمّي علم قواعد المناظرة والاحتجاج في الفقه علم الجدل، (وكان يختلط بعلم أصول الفقه وعلم آداب البحث وعلم المنطق)، ولم يسمع‏ للجدل فعل مجرّد أصلي، والمسموع منه جادل لأنّ الخصام يستدعي خصمين، وأمّا قولهم: جدله فهو بمعنى غلبه في المجادلة، فليس فعلا أصليا في الاشتقاق، ومصدر المجادلة، الجدال، قال تعالى: ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197]، وأمّا الجدل بفتحتين فهو اسم المصدر، وأصله مشتقّ من الجدل، وهو الصرع على الأرض، لأنّ الأرض تسمّى الجدالة ـ بفتح الجيم ـ يقال: جدله فهو مجدول.

4. جملة: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ﴾ بيان ل ﴿يَخْتَانُونَ﴾، وجملة: ﴿وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله﴾ حال، وذلك هو محلّ الاستغراب من حالهم وكونهم يختانون أنفسهم، والاستخفاء من الله مستعمل مجازا في الحياء، إذ لا يعتقد أحد يؤمن بالله أنّه يستطيع أن يستخفي من الله.

5. جملة: ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ حال من اسم الجلالة، والمعية هنا معية العلم والاطّلاع و﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ﴾ ظرف، والتبييت جعل الشيء في البيات، أي الليل، مثل التصبيح، يقال: بيّتهم العدوّ وصبّحهم العدوّ وفي القرآن: ﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾ [النمل: 49] أي لنأتينّهم ليلا فنقلتهم، والمبيّت هنا هو ما لا يرضي من القول، أي دبّروه وزوّروه ليلا لقصد الإخفاء، كقول العرب: هذا أمر قضي بليل، أو تشوور فيه بليل، والمراد هنا تدبير مكيدتهم لرمي البراء بتهمة السرقة.

6. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ﴾ استئناف أثاره قوله: ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾، والمخاطب كلّ من يصلح للمخاطبة من المسلمين، والكلام جار مجرى الفرض والتقدير، أو مجرى التعريض ببعض بني ظفر الذين جادلوا عن بني أبيرق.

القول في تركيب‏ ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ تقدّم في سورة البقرة [85] عند قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ وتقدّم نظيره في آل عمران [119] ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾

7. (أم) في قوله: ﴿أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ منقطعة للإضراب الانتقالي، و(من) استفهام مستعمل في الإنكار، والوكيل مضى الكلام عليه عند قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ في سورة آل عمران [173]

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/249.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الكلام مستمر في نهى المؤمنين عن أن يدافعوا عن رجل يظهر غير ما يبطن، أو يرتكب أمرا، ويحمل غيره وزره، فهو يرتكب الشر مرتين، ويتحمل إثمين: إثم الارتكاب وإثم رمى الأبرياء، والتدليس ولبس الحق بالباطل، وكان النهى موجها إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ليبين وجوب الاحتراس على كل مؤمن، حتى لا يقع في الدفاع عن الآثمين الخاطئين؛ لأنه إذا كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو الذى ينزل عليه الوحى، إن اعتمد على نظره، قد يلبس الأمر عليه، فالاحتراس عن هذا أولى بكل مؤمن وأجدر.

2. وقد قال سبحانه: ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ الجدال هنا الدفاع وإقامة الدليل لمصلحة الخائنين، وذلك للاسترسال في حسن الظن بالمظهر، وترك ما يختفى ولا يستبين، فإن ذلك إن جاز في السياسة لا يجوز في القضاء، وإن جاز في حقوق الله تعالى لا يجوز في حقوق العباد، ليعطى كل ذي حق حقه، ولكيلا تذهب الأموال والأنفس والدماء هدرا، فلا بد لإظهارها من تكشف المستور، وإظهار المخبوء.

3. الجدال في أصل معناه اللغوي مشتق من الجدل بمعنى الفتل، أي تقوية الحجة، ويكون المجادل كمن يفتل الحبل ويقويه، وقيل إنه مأخوذ من الجدالة، والجدالة هي الأرض، فكل واحد من الخصمين يكون كالمصارع يريد أن يلقى صاحبه على الأرض، وإطلاق الجدالة على الأرض منه قولهم: تركته مجدلا، أي مطروحا على الأرض.

4. الاختيان، الذى هو مصدر ﴿يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾، يعرفه الأصفهاني في مفرداته بأنه: (تحرك شهوة الإنسان لتحرى الخيانة)؛ وتحرك الشهوة لتحرى الخيانة قصد إليها وتعمد لها، وعمل على إحكامها، والخيانة والنفاق باب واحد، موضعهما من النفس واحد.

5. معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾: الذين يقصدون خيانة أنفسهم، ويتحرونها، ويحكمون إخفاء المستور من جرائمهم، وأضيفت الخيانة للنفس؛ لأن الذين يصنعون ذلك إنما يحدثون في الأمة ذعرا عاما، يعود ضرره على الجماعة، ويعود عليهم أنفسهم، إذ يعيشون في جماعة قد فسد أمرها، وارتابت في شئونها، وضل عن الناس معرفة الحق، وغاب عنهم لبه! وكذلك لأن تلك الخيانة مغبتها على أنفسهم شديدة أمام الله تعالى، وسيحاسبهم عليها من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولأن هؤلاء الخائنين الذين يتحرون الخيانة، إنما يحلون فطرهم السليمة عن الفطرة التي فطرهم الله عليها، فيصيب الفساد نفوسهم، وتنحل كل العرا فيها، وبذلك تضطرب، وتكون في بلبال مستمر.

6. ﴿إِنَّ الله لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ إذا كان الخائنون الذين تحروا الخيانة وقصدوها، وانحرفوا بفطرهم عن أصلها، ينالون العذاب في الدنيا بالحكم عليهم، وإعراض أهل الفضل عن معاونتهم، فإنهم لا ينالون حب الله تعالى، والمعنى الظاهر للنص: ﴿إِنَّ الله لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ هو أن الله تعالى العلى الحكيم، الذى لا ترجى محبة سواه، لا يحب من كانت الخيانة وصفا من أوصافه، وشأنا من شئونه، وخلقا من أخلاقه، ومن صار الإثم عادة له، حتى صار يوصف بأنه خوان، وأثيم، فكلمة خوان صيغة مبالغة معناها أن الخيانة صارت وصفا ملازما له، وكلمة أثيم صيغة مبالغة من إثم، تفيد أن الإثم صار وصفا ملازما!

7. محبة الله تعالى شأن من شئونه سبحانه تليق بذاته الكريمة، وهي تتضمن معنى الرضوان، وتستلزم فيض رحمته ومنح غفرانه، فمن فقد محبة الله تعالى، فقد حرم من الرضوان، وحرم من رحمة الله تعالى التي تكون للتوابين، وحرم غفرانه؛ لأنه لا يكون إلا لمن أحاطت به خطيئته، حتى لا ينتقل إلا من إثم إلى إثم!.

8. أكد سبحانه نفى محبته لهؤلاء الذين أركست نفوسهم في الخيانة، ودنس الإثم نفوسهم، حتى أصبحوا لا يعيشون إلا في آثام، بالجملة الاسمية المصدرة بحرف (إن) الدال على التوكيد.

9. وهنا إشارة معنوية: وهي أنه تعالى وصف الذين حرموا محبته بأنهم خوانون أثيمون؛ وذلك له معناه لأن اختيان النفس، وتعودها الخيانة يجرها إلى آثام كثيرة، فمن خان يسرق ويكذب، ويأكل أموال الناس بالباطل، ولا يتحرج عن إثم، فكأن الخيانة جاذبة معها كل الآثام!.

10. ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله﴾ إن أولئك الخوانين الأثيمين لا تنالهم محبة الله تعالى، ولا رحمته ولا مغفرته، ومن شأنهم أن يكونوا بعداء عن الناس غير ملتقين بهم، فهم دائما يستخفون من الناس ليدبروا ما يدبرون، ولأنهم في جفوة مستمرة، ولا يحبون الناس ولا يألفونهم، ولا يحبون لقاءهم، وإذا لقوهم أظهروا غير ما يكتمون، وأبدوا غير ما يخفون!، فالخائن لمجتمعه وأمته يتسم بسمة تجمع عيوبا ثلاثة: هذه السمة هي الاستخفاء، وهذه العيوب هي الجفوة التي تحمله على ألا يظهر، وكتمانه أمره حتى لا يكشف، وتدبيره السوء في استخفائه! والباعث على ذلك كله الأنانية الظالمة، والأثرة القاطعة!.

11. وإنهم إذ يستخفون من الناس لا يشعرون برقابة الله على أعمالهم؛ لأن ذلك الشعور ينبعث من ضمير حي قوى موجه للنفس، والوجدان الديني القوى لا يكون في قلب جاف قاس، قد ترك الناس ولم يألفهم، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله﴾، فهو مطلع عليهم، وإن كانوا لا يشعرون، وعليم بأمرهم، وإن كانوا يستخفون من الناس، ويبتعدون عنهم.

12. الاستخفاء المبالغة في طلب الخفاء، والابتعاد، وذلك ليتسنى لهم تدبير ما يريدون، والله سبحانه معهم إذ يدبرون السوء، لذا قال سبحانه تعالت كلماته وجلت قدرته: ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ هؤلاء الذين يستخفون من الناس مجافين لهم، ولا يشعرون برقابة الله تعالى عليهم، والله مطلع على أقوالهم وأعمالهم، اطلاع من يصاحبهم في غدوهم ورواحهم، وهو معهم عندما يدبرون الأعمال في خفية من الناس والأقوال التي لا يرضى الله عنها، فالتبييت تدبير الأمر في البيات، أي الليل، وأطلق على كل ما يدبر بعيدا عن الناس، ويقول الزمخشري في معنى النص الكريم: (يدبرون ويزورون ـ وأصله أن يكون بالليل ـ ما لا يرضى من القول.. فإن قلت: كيف سمى التدبير قولا، وإنما هو معنى في النفس؟ قلت: لما حدث بذلك نفسه سمى قولا على المجاز)

13. فالتبييت معناه التدبير في الخفاء مطلقا، سواء أكان تدبير قول يسترون به عملهم، ويزينون به مظهرهم، أم ترتيب عمل يخفونه، ويقومون به، فإن أعمال المنافقين جميعها تدبر بليل، وتنفذ بليل، حتى تظهر آثارها في الجماعة، ولكن الله سبحانه وتعالى ذكر القول فقط، فقال: (ما لا يرضى من القول)، فلماذا ذكر القول وحده؟ لقد وجه الزمخشري سؤالا قريبا من هذا، وأجاب عنه، ونحن نقول: إنه ذكر القول وحده مقترنا بعدم رضا الله تعالى؛ لأن أقصى ما يتستر به المنافق قول مزخرف يضل، ولذلك بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن عليم اللسان منافق القلب هو أخوف من يخافه على أمته‏، فعناية المنافق بالقول الذى يستر به عمله هي الجزء الأكبر من تدبيره، وإن عمل الليل سهل، ولكن إخفاءه بزخرف القول صعب عند ظهور آثاره، وفوق ذلك فإن القول إذا كان لا رضى، فالعمل أبعد عن الرضا.

14. وقد عبر سبحانه عن فعلهم وقولهم بأنه لا يرضاه، للإشارة إلى مقته لهم، وحسابهم عليه، وإذا كان الله تعالى عليما بما لا يرضى من القول علم من يصاحبهم عند التدبير والتبييت، فهو بعملهم عليم أيضا، وهو أيضا لا يرضى عنه، ولذا قال سبحانه: ﴿وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ فإذا كان الله تعالى مصاحبهم في قولهم الذى لا يرضيه، فهو محيط دائم بكل عملهم إحاطة الدائرة بقطرها، لا يغيب عنه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة منه، والتعبير عن علم الله تعالى لأعمالهم بالإحاطة، فيه إشارة إلى أمور ثلاثة:

أ. أولها: أن علمه كامل لا ينقصه شيء فهو علم إحاطة واستغراق.

ب. ثانيها: أن الله معاقب بقدر ما ارتكبوا.

ج. ثالثها: أن الله واضع أعمالهم في دائرة، فلا يمكن أن يصل إلى أهل الحق أذاهم؛ لأن الله محيط بهم وبما يعملون:

15. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ يستطيع أهل النفاق بحلو قولهم، وقدرتهم على تزوير الكلام وتحسينه، أن يجدوا لهم أنصارا من أهل الحق، يخدعون بمظهرهم، ولطف مداخلهم، فيظنون بهم الخير، ويندفعون للدفاع عنهم، والله سبحانه وتعالى يبين أن هذا الدفاع إن أجدى في الدنيا لهم، فهو جداء يؤدى إلى إيغالهم في الشر والفجور، وإذا كان ينجيهم من عذاب الدنيا، فلن ينجيهم من عذاب الآخرة، إذ لا يكون العقاب إلا من علام الغيوب الذى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، والجدال عنهم في الدنيا أمام البشر، أما الجدال عنهم في الآخرة، فهو أمام الله تعالى العليم‏ الحكيم، والشهود في يوم القيامة عليهم كثيرة متعددة، فإنه تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم وألسنتهم بما كانوا يفعلون، وهنا أربع إشارات بيانية:

أ. أولها: التنبيه إلى مجادلة المؤمنين عن المنافقين، ووقوعها في الماضي وتوقعها في القابل، وذلك للإشارة إلى حسن ظن المؤمنين بالناس، وقد قرر سبحانه التنبيه إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾، فتكررت هاء التنبيه، وذكر اسم الإشارة الذى هو تنبيه ثالث، وذلك التنبيه إلى الواقع والمتوقع للتنبيه إلى الاحتراس، ومراقبة أنفسهم عندما يفرطون في الثقة بمن ليس بها جديرا.

ب. ثانيها: التعبير بالماضي في قوله تعالى:‏ ﴿جَادَلْتُمْ﴾ مع أن النهى منصب على المستقبل، لبيان تحقق وقوع المجادلة عن المنافقين مع توقع وقوعها، إذ النهى لا يكون إلا عن أمر محتمل الوقوع في المستقبل، والصيغة تتضمن اللوم على الواقع، والنهى عما يمكن أن يقع.

ج. ثالثها: الإشارة إلى أن المجادلة في الحياة الدنيا، إنما سببها الجهل بالقلوب، وعدم تحرى ما تنطوي عليه، وأن حالهم ستنجلى يوم القيامة، فإذا كانوا يخدعون أهل الدنيا، فالله سبحانه كاشفهم وخادعهم يوم القيامة.

د. رابعها: أن الله سبحانه وتعالى نبه إلى أن المجادلة عنهم نوع من المحاماة عن الرذيلة، والدفاع عنها، ولذا قال سبحانه:

16. ﴿أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ ومعنى النص الكريم: إذا كانوا يحامون عنهم، ويجادلون عنهم في الدنيا، فسيلقون ربهم يوم القيامة غير راض عنهم ولا محب لهم، فلا يرحمون في ذلك اليوم، ولا يغفر لهم؛ لأنهم لم يتوبوا، واستغرقت نفوسهم الخطيئة، ولا منجاة لهم من العذاب، ولا مخاصم عنهم أمام الله! اللهم ارحم أمتك من نفاق المنافقين واجعلنا من عبادك المخلصين.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1842.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ الله لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾، الخطاب بظاهره للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكن التكليف عام لكل عاقل بالغ، بخاصة القضاة والحكام، أما الذين يختانون أنفسهم فهم من اقترف ذنبا ورمى به بريئا.. ومن جادل عنهم فهو مثلهم، ومعنى خيانة المرء لنفسه ان يحملها ما لا تطيق من العذاب لإخلاله بالواجبات، وارتكابه المحرمات، وقدمنا ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما دافع، ولن يدافع عن الخائنين، وهذه الآية تؤكد قوله: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ وتبين أيضا ان من ظلم غيره فقد ظلم نفسه، وانه تعالى يمقت كل خائن وظالم لنفسه ولغيره.

2. ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾، يخفي المجرم جريمته، ويتوارى في الظلام عن أعين الناس رغبة في مدحهم، أو رهبة من ذمهم، وكان الأولى أن يعكس القضية فيستخفي من الله ـ لو أمكن ـ ولا يعتني إطلاقا بالناس، لأن الله وحده هو مالك الضر والنفع، وغيره لا يغني عنه شيئا، ومديح الناس وذمهم مجرد كلمات تذهب مع الريح.. وإذا كان الاختفاء من الله محالا فطاعته تكون حتما، لا ندبا.. ولا حكمة أبلغ من هذا البيت:

çفليت الذي بيني وبينك عامر... وبيني وبين العالمين خراب‏é

لو أراد الشاعر الخالق، دون المخلوق.

3. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾، الخطاب والاشارة ـ هؤلاء ـ لقوم السارق الخائن، لأنهم وحدهم الذين دافعوا عنه، وناضلوا دونه، وقد أنبهم تعالت كلمته بأن دفاعهم عنه لا يجدي الخائن نفعا يوم يعرض على الله، ويقول له ولكل مجرم من أمثاله وأمثالهم: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ [يس: 59]

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/432.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ قيل: إن نسبة الخيانة إلى النفس لكون وبالها راجعا إليها، أو يعد كل معصية خيانة للنفس كما عد ظلما لها، وقد قال تعالى، ﴿عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 187]، ويمكن أن يستفاد من الآية بمعونة ما يدل عليه القرآن من أن المؤمنين كنفس واحدة، وأن مال الواحد منهم مال لجميعهم يجب على الجميع حفظه وصونه عن الضيعة والتلف، كون تعدي بعضهم على بعض بسرقة ونحوها اختيانا لأنفسهم.

2. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ دلالة على استمرار هؤلاء الخائنين في خيانتهم، ويؤكده قوله: ﴿أَثِيمًا﴾ فإن الأثيم آكد في المعنى من الإثم وهو صفة مشبهة تدل على الثبوت، على أن قوله: ﴿يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ لا تخلو عن دلالة على الاستمرار، وكذا قوله: ﴿لِلْخَائِنِينَ﴾ حيث عبر بالوصف ولم يعبر بمثل قولنا: للذين خانوا، كما عبر بذلك في قوله: ﴿فَقَدْ خَانُوا الله مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾ [الأنفال: 71]

3. فمن هذه القرائن وأمثالها يظهر أن معنى الآية ـ بالنظر إلى مورد النزول ـ: ولا تكن خصيما لهؤلاء، ولا تجادل عنهم فإنهم مصرون على الخيانة مبالغون فيها ثابتون على الإثم، والله لا يحب من كان خوانا أثيما، وهذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول من نزول الآيات في أبي طعمة بن الأبيرق، كما سيجيء ومعنى الآية ـ مع قطع النظر عن المورد ـ: ولا تدافع في قضائك عن المصرين على الخيانة المستمرين عليها، فإن الله لا يحب الخوان الأثيم، وكما أنه تعالى لا يحب كثير الخيانة لا يحب قليلها، ولو أمكن أن يحب قليلها أمكن أن يحب كثيرها وإذا كان كذلك فالله ينهى أن يدافع عن قليل الخيانة كما ينهى عن أن يدافع عن كثيرها وأما من خان في أمر ثم نازع في أمر آخر وهو محق في نزاعه، فالدفاع عنه دفاع غير محظور ولا ممنوع منه، ولا ينهى عنه قوله: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾

4. ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله﴾ وهذا أيضا من الشواهد على ما قدمناه من أن الآيات (105 126) جميعا ذات سياق واحد، نازلة في قصة واحدة، وهي التي يشير إليها قوله: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾، وذلك أن الاستخفاء إنما يناسب الأعمال التي يمكن أن يرمى بها الغير كالسرقة وأمثال ذلك فيتأيد به أن الذي تشير إليه هذه الآية وما تقدمها من الآيات هو الذي يشير إليه قوله: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ﴾، يرضى به الله سبحانه.

5. ثم قيده (ثانيا) بقوله: ﴿وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ ودل على إحاطته تعالى بهم في جميع الأحوال ومنها حال الجرم الذي أجرموه، والتقييد بهذين القيدين أعني قوله: ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ﴾، وقوله: ﴿وَكَانَ الله﴾ تقييد بالعام بعد الخاص، وهو في الحقيقة تعليل لعدم استخفائهم من الله بعلة خاصة ثم بأخرى عامة.

6.﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بيان لعدم الجدوى في الجدال عنهم، وأنهم لا ينتفعون بذلك في صورة الاستفهام والمراد أن الجدال عنهم لو نفعهم فإنما ينفعهم في الحياة الدنيا، ولا قدر لها عند الله، وأما الحياة الأخروية التي لها عظيم القدر عند الله أو ظرف الدفاع فيها يوم القيامة فلا مدافع هناك عن الخائنين ولا مجادل عنهم بل لا وكيل لهم يومئذ يتكفل تدبير أمورهم وإصلاح شئونهم.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/74.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ الله لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ كما نهي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن مخاصمتهم، نُهِي عن الجدال عنهم وعن كل من يخون الله ورسوله وجعل مختاناً لنفسه، كقوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ [هود:101] فكأنه أخذ نفسه واسترقها بخيانته لله ورسوله؛ لأنه خسر نفسه بخيانته، فكأنه أتلفها خيانة وأخذها كما يأخذ الخائن المال خيانة لمن ائتمنه عليه، وكلمة افتعل تستعمل في أخذ الشيء نحو اقتطف واقتبس واشترى وارتدى وأتزر.

2. ﴿إِنَّ الله لَا يُحِبُّ﴾ من يعتاد هذه الجريمة ويعتاد الإثم؛ لأنه مصر على الإثم، ولعل فائدة التكثير الإشارة إلى أنه مصرٌّ فيخرج من ذلك مَن صدرت منه وسارع إلى التوبة، أو إن ﴿الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ معناه: أنه تكرر منهم بغير توبة في خلاله ووقع منهم مراراً عديدة، كما يشعر به الفعل المضارع الذي يستعمل فيما يتكرر من فاعله ويصير عادة له مستمرة، فهو في أناس مخصوصين مثل المنافقين، فأقام قوله: ﴿مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ مقامَ لا يحبهم؛ ليفيد: أنه لا يحبهم بسبب خيانتهم وإثمهم الذي صار عادة لهم، فهو ذم لهم، وبيانٌ لكثرة خيانتهم وإثمهم، فأقامه مقامَ إن الله لا يحبهم لهذه الفائدة وليعم من كان مثلهم.

3. ﴿يَسْتَخْفُونَ﴾ للخيانة من المؤمنين فيُبَيِّتون التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول في مكان يستخفون فيه؛ ليخفى على المؤمنين ما يُبيِّتون ﴿وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله﴾ بترك معصيته فلا يحاولون أن لا يراهم في معصيته ويسمع كلامهم المنكَر؛ لأنهم غافلون عن الله آمنون لمكره لا يستحيون منه.

4. ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ في حال كلامهم الذي لا يرضاه وهم يُبيِّتونه، أي يقولونه في البَيَات؛ لإخفائه وهو معهم يسمع ويرى، أي لا يخفى عليه قولهم ولا يخفون عليه، وليس بينه وبينهم مسافة تُبعدُهم عنه، بل هو أقرب إليهم من حبل الوريد؛ لأنه معهم لا بمقارنة ولا ظرفية؛ لأن معيَّته ليست مثل مَعِيَّة الأجسام أو الأعراض؛ لأنه لا يحتاج إلى مكان ﴿وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ قد أحاط بأعمالهم فلا تضر المؤمنين؛ لأن الله يمنع ضرَّها.

5. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ قال في (الكشاف): (ها، للتنبيه في (أنتم) و(أولاء) وهما مبتدأ وخبر و﴿جَادَلْتُمْ﴾ جملةٌ مبيِّنةٌ لوقوع (أوْلاءِ) خبَراً كما تقول لبعض الأسخياء: أنت حاتمٌ تجود بمالك وتؤثر على نفسك) وجوّز فيه وجهاً آخر، ولكن هذا عندي هو الظاهر، و(أنتم) خطابٌ لبعض الصحابة جادلوا بناءً على حسن الظن، ولعل ذلك كان قبل النهي، أو لجهلهم بأن جدالهم من المنهي؛ لجهلهم بأن مَن جادلوا عنهم خائنون، وقد نزَّل بعض المفسرين تفسير الآيات على سبب خاص وهو بعيد، والأَولى أنها عامَّةٌ وقعت دستوراً، وإن كان السبب خاصاً.

6. ﴿جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ التي فيها يعمل الإنسان ما يشاء من حق وباطل، ويقول ما يشاء؛ لأن الله ترك عباده مخيرين لاختبارهم وتكليفهم حتى يطيع المطيع باختياره، ومن يعصى يعصي باختياره، فإن نفع الجدال عنهم في الحيوة الدنيا فهو متاع قليل ينتهي سريعاً ﴿فَمَنْ يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً ﴿أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ توكل أمورهم إليه ليدافع عنهم. قال الشرفي في (المصابيح): (والوكيل: هو الذي فوِّض إليه تدبير الشيء والقيام عليه)، فالمعنى: أنهم يوم القيامة يردون إلى الله وما لهم من نصير ولا معين ولا شفيع.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/160.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)﴾، إن الإسلام يرفض الخيانة من الإنسان بأيّ شكل كانت، وفي أيّ موقع وجد، في الحقوق العامة والخاصة من حياة الفرد والمجتمع، في قضايا المال والحكم والنفس والعرض والعلاقات.. ويؤكد الإسلام، في رفضه لكل القيم الشريرة، على أن يتحرك الرفض في الفكر والشعور والعمل، فلا يعيش الإنسان فكر الخيانة كطريقة يخطط بها الخطط، ليتحرك الفكر من هذا الموقع، ولا يرضى له بأن يتعاطف مع الخائنين بالشعور والكلمة والموقف، لأن المؤمن لا يجتمع في قلبه حب الأمانة وكره الخيانة مع محبة الخائنين؛ وعلى هذا، فلا بد من مواجهة الخونة بالموقف السلبي الحاسم الذي يتمثل فيه موقف المواجهة لهم، وترك الدفاع عنهم، ومناصرتهم بأية وسيلة كانت؛ وفي ضوء ذلك، لا يبيح الإسلام مهنة المحاماة إذا انطلقت في خط الدفاع عن المجرمين.

2. وقد أكد القرآن هذا الخط في عدة أساليب، فبدأ بالنهي عن أن يكون المؤمن خصيما، أي مدافعا عن المؤمنين، لأن الكتاب يرفض الخيانة، فلا يجوز للمؤمن أن يدافع عنها بالدفاع عن رموزها، وإلا كان ذلك انحرافا عن الوقوف عند الحق، واعتبر الخائنين خائنين لأنفسهم، كما هو خائنون للناس من حولهم، لأنهم أوقعوا أنفسهم في الهلكة بما مارسوا من الأعمال التي تعرضهم لعذاب الله، فكيف يجادل الإنسان عن هؤلاء؟ وهل يكون ذلك إلا نوعا من أنواع مساعدة الإنسان على خيانة نفسه، بالتمرّد على إرادة الله، في الوقت الذي يريد الله للمؤمن أن يساعد العصاة على أنفسهم بهدايتهم إلى سبيل الله في السير على هدى أمره ونهيه؟ ثم تحدثت عن طبيعة العلاقة بين الله وبينهم وبين الخائنين هؤلاء، فهم من الأشخاص الذين لا يحبهم الله.

3. ﴿إِنَّ الله لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾، فكيف يمكن للإنسان المسلّم أن يحب من لا يحبه الله، مع أن علامة إيمان المؤمن هي أن يحب من يحبه الله، ويبغض من يبغضه الله؛ بحيث يكون شعوره السلبي والإيجابي تبعا لإيمانه، فيما يوحيه من مشاعر وعواطف!؟

4. ويطوف القرآن بالمسلمين في الآفاق الروحية للإيمان التي قد يبتعدون عنها، فيما يقتربون من أجواء العصبية الجاهلية؛ فهؤلاء الذين اجتمعوا ليلا ليتداولوا في أمر الخيانة ليبعدوا التهمة عن السارق ويلصقوها بالبري‏ء، كانوا يحاذرون أن يراهم أحد أو يستمع إليهم، لأنهم يخشون من الناس على مصالحهم وعلى مكانتهم، ويخافون من انتقامهم عند انكشاف خطة المؤامرة، ولم يحسبوا لله حسابا في ذلك كله، وهو الذي يعلم سرّهم وعلانيتهم، فكيف يستخفون منه؟ أولا يعيشون الشعور بالحاجة إلى ذلك، فيلحّ عليهم إلحاحا شديدا في داخل كيانهم، ليكتشفوا من خلال ذلك أن الإنسان لا يتمكن من أن يستخفي من الله، مما يدفعه إلى أن لا يفعل ما لا يرضاه، لأنه مطّلع عليه.

5. ﴿وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهذا ما ينبغي للإنسان المؤمن أن ينفتح عليه في حياته، من الإحساس العميق بحضور الله في نفسه، بالمستوى الذي يشعر بإحاطته به من كل جانب، ليمنعه ذلك من المعصية فيما يفعله أو ما يتركه.

6. ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾، ما هي فائدة جدالكم عنهم؟ إنكم قد تستطيعون الدفاع عنهم في الدنيا، فتنقذونهم من عقوباتهم لأنكم تملكون الوسائل المقنعة التي تثبت دعواكم الباطلة بطريقة أو بأخرى، ولا يملك الحاكم وسيلة العلم بالغيب ليكتشف كذبكم، ولكن هل ينتهي الأمر عند هذا؟ ألا تؤمنون بالآخرة وعذابها وثوابها، يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها؟ فهل تستطيعون أن تجادلوا عنهم هناك؟ حيث لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله، ومن الذي يكون عليهم وكيلا، ليتولى الدفاع عنهم إمام الله؟ إن على الإنسان المؤمن أن يفكر بقضية الأمن والمصير على مستوى الآخرة لا على مستوى الدنيا، لأن أمر الدنيا زائل بثوابها وعذابها، أما أمر الآخرة فإلى خلود في كل أجواء النعيم والجحيم؛ وهذا هو المفهوم الإسلامي الذي يريد أن يوحي للناس، أن يتجاوزوا حياتهم إلى الحياة الآخرة، من خلال ما يخوضون فيه من جدال حول القضايا التي يختلف فيها أمر الحق والباطل، مما يدفعهم إلى مراقبة الله في ذلك كله، ليكون هو الأساس في النظرة إلى الأشياء.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/450.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد الآيات التي جاءت بتحريم الدّفاع عن الخائنين، تستطرد الآيات الثلاث الأخيرة في التشديد على حرمة الدفاع عن الخائنين، بالأخص أولئك الذين يخونون أنفسهم، ويجب الانتباه هنا إلى أن الآية تشير إلى الذين يخونون أنفسهم، بينما الذي عرفنا من سبب نزول الآيات السابقة، هو أنّها نزلت في شأن الذين يخونون الغير، وفي هذا إشارة إلى ذلك المعنى الدقيق الذي ينبه إليه القرآن في العديد من الآيات، وهو أن أي عمل يصدر عن الإنسان يتأثر بنتيجته ـ سواء كانت حسنة أو سيئة ـ الإنسان ذاته قبل غيره، كما جاء في الآية من سورة الإسراء، إذ تقول‏ ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾، أو أنّ الآية المذكورة تشير إلى موضوع آخر أكّد عليه القرآن أيضا، وهو أن جميع أفراد البشر هم جميعا كأعضاء جسد واحد، فإذا أضر أحدهم بغيره فكأنما أضرّ بنفسه، أي يكون بالضبط كالذي يصنع نفسه بنفسه.

2. والأمر الآخر في الآية أنّها لا تخص الذين يرتكبون الخيانة لمرّة واحدة ثمّ يندمون على ما فعلوا، حيث لا ضرورة لاستعمال العنف والشدة مع هؤلاء، بل هم بحاجة إلى الرأفة أكثر، والشدّة يجب أن تطبق على أولئك الذين يحترفون الخيانة وتكون جزءا من حياتهم، ويدل على هذه القرينة الواردة في الآية من خلال عبارة ﴿يَخْتَانُونَ﴾ التي هي فعل مضارع يدل على الاستمرارية، بالإضافة إلى القرينة الأخرى التي تفهم من عبارتي‏ ﴿خَوَّانًا﴾ أي كثير الخيانة و﴿أَثِيمًا﴾ أي كثير الذّنب، والكلمة الأخيرة جاءت لتأكيد عبارة (خوان) في الآية، كما أنّ الآية السابقة جاءت بكلمة (خائن) التي هي اسم فاعل والتي لها معنى وصفي يدل على تكرار الفعل.

3. لقد تعرض الخائنون في الآية الأخرى إلى التوبيخ، حيث قالت أن هؤلاء يستحيون أن تظهر بواطن أعمالهم وسرائرهم وتنكشف إلى الناس، لكنهم لا يستحيون لذلك من الله سبحانه وتعالى، إذ تقول الآية: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله﴾ فلا يتورع هؤلاء من تدبير الخطط الخيانية في ظلام الليل، والتحدث بما لا يرضى الله الذي يراهم ويراقب أعمالهم، أينما كانوا: ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾

4. بعد ذلك تتوجه الآية من سورة النساء بالحديث عن شخص السارق الذي تمّ الدفاع عنه، وتقول بأنّه على فرض أن يتمّ الدفاع عن هؤلاء في الدنيا فمن يستطيع الدفاع عنهم يوم القيامة، أن من يقدر أن يكون لهؤلاء وكيلا ليرتب أعمالهم ويحل مشاكلهم!؟ حيث تقول الآية: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾، ولذلك فإنّ الدفاع عن هؤلاء الخونة في الدنيا ليس له أثر إلا القليل، لأنّهم سوف لا يجدون أبدا من يدافع عنهم أمام الله في الحياة الآخرة الخالدة.

5. والحقيقة هي أنّ الآيات الثلاث الأخيرة تحمل في البداية إرشادات إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإلى كل قاض يريد أن يحكم بالحق، بأن ينتبهوا حتى يفوتوا الفرصة على أولئك الذين يريدون انتهاك حقوق الآخرين، عبّر وسائل مصطنعة وشهود مزورين.

6. بعد ذلك تحذر الآية الخائنين ومن يدافع عنهم، بأن ينتظروا عواقب سيئة لأعمالهم في هذه الدنيا وفي الآخرة أيضا.

7. وفي تلك الآيات سر من أسرار البلاغة القرآنية، حيث أنّها أحاطت جميع جوانب القضية وأعطت الإرشادات والتحذيرات اللازمة في كل مورد، مع أنّ موضوع القضية يبدو موضوعا صغيرا بحسب الظاهر، إذ يدور حول درع مسروقة أو مواد غذائية أو يهودي من أعداء الإسلام.

8. وقد تناولت الآية ـ أيضا ـ الإشارة إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي يعتبر إنسانا معصوما عن الخطأ، كما أشارت إلى الأفراد الذين يحترفون الخيانة، أو الذين يدافعون عن الخائنين اندفاعا وراء عصبيات قبلية، إشارات تتناسب ومنزلة الأشخاص المشار إليهم في الآيات المذكورة.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/437.

102. الإثم والظلم والكسب والاستغفار

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈102⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 110 ـ 111]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه، وإذا أصاب البول شيئا منه قرضه بالمقراض، فقال رجل: لقد آتى الله بني إسرائيل خيرا، فقال ابن مسعود: ما آتاكم الله خير مما آتاهم، جعل لكم الماء طهورا، وقال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: إن في القرآن لآيتين، ما أذنب عبد ذنبا، ثم تلاهما واستغفر الله؛ إلا غفر له، فسألوه عنهما، فلم يخبرهم، فقال علقمة والأسود أحدهما لصاحبه: قم بنا، فقاما إلى المنزل، فأخذا المصحف، فتصفحا البقرة، فقالا: ما رأيناهما، ثم أخذا في النساء حتى انتهيا إلى هذه الآية: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، فقالا: هذه واحدة، ثم تصفحا آل عمران حتى انتهينا إلى قوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، فقالا: هذه أخرى، ثم أطبقا المصحف، ثم أتيا عبد الله، فقالا: هما هاتان الآيتان؟ فقال عبد الله: نعم(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٧٥.

(2) سعيد بن منصور في سننه ٤/١٣٧١.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته، فمن أذنب ذنبا صغيرا كان أو كبيرا، ثم استغفر الله؛ يجد الله غفورا رحيما، ولو كانت ذنوبه أعظم من السماوات والأرض والجبال(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٧٦.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه مما قد ستره الله عليه، فأما إذا قلت ما ليس فيه، فذلك قول الله: ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾(1).

__________

(1) تفسير العياشي 1/275.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ثم عرض على طعمة التوبة، فقال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا﴾ يعني: إثما، ﴿أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ يعني: قذف البريء أبا مليك، ﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٠٦.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾:

أ. هما سواء، أي: من عمل سوءًا فقد ظلم نفسه، ومن ظلم نفسه فقد عمل سوءا.

ب. ويحتمل ما قال ابن عَبَّاسٍ: من يعمل سوءًا إلى الناس، أو يظلم نفسه فيما بينه وبين الله.

ج. ثم روي عن عبد الله بن مسعود قال أرجى آية في القرآن هذه قوله: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ الآية، وروي عنه ـ أيضًا ـ قال أربع آيات من كتاب الله تعالى أحب إليَّ من حمر النعم وسُودِها ـ: قوله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾، إِلَى آخره، وقوله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ الآية، وعن علقمة والأسود قالا: قال عبد الله: إن في كتاب الله لآيتين، ما أصاب عبد ذنبها فقرأهما، ثم استغفر الله إلا غفر له: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ إلى آخر الآية، وقوله: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ﴾، وقوله تعالى أيضًا ـ: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا﴾ يحتمل كل واحد منهما أنه الآخر؛ كرر على التأكيد فيما جرى له الذكر.

د. ويحتمل التفريق: أن يكون سوءًا إلى الناس وخطيئة إليهم، أو يظلم نفسه: بما يأثم بما بينه وبين الله.

2. ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ لأن حاصله يرجع إليه؛ فكأنه كسب على نفسه.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٥٧.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ المعنى من يعمل ذنباً، وهو السوء، أو يظلم نفسه باكتساب المعاصي التي يستحق بها العقوبة ﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ﴾ يعني يتوب اليه مما عمل من المعاصي، ويراجعه‏ ﴿يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ومعناه يعلمه ساتراً عليه ذنبه بصفحة له عن عقوبة جرمه ﴿رَحِيمًا﴾ به.

2. اختلفوا فيمن عنى بهذه الآية:

أ. قال قوم: عنى بها الخائبين الذين وصفهم في الآية الاولى.

ب. وقال آخرون: عنى الذين كانوا يجادلون عن الخائفين، قال لهم: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾

ج. الاولى حمل الآية على عمومها في كل من عمل سوءا أو ظلم نفسه، وان كان سبب نزولها فيمن تقدم ذكره من الخائنين أو المجادلين، وبه قال أكثر المفسرين: الطبري، والبلخي، والجبائي، وابن عباس، وعبد الله ابن معقل، وابو وائل، وغيرهم.

3. ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ المعنى من يأت ذنباً على عمد منه ومعرفة فإنما يجترح وبال ذلك الذنب وضره وخزيه وعاره على نفسه دون غيره من سائر خلق الله، والمعنى: ولا تجادلوا أيها الناس الذين يجادلون عن هؤلاء الخونة ـ فإنكم وإن كنتم لهم عشيرة وقرابة ـ فيما أتوه من الذنب، ومن التبعة التي يتبعون بها، فإنكم متى دافعتم عنهم أو خاصمتم بسببهم كنتم مثلهم، فلا تدافعوا عنهم ولا تخاصموا.

4. ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَلِيمًا﴾ يعنى عالماً بما تفعلون أيها المجادلون عن الخائنين أنفسهم، وغير ذلك من أفعالهم وأفعال غيرهم ﴿حَكِيمًا﴾ في أفعاله من سياستكم وتدبيركم، وتدبير جميع خلقه، وقيل: إنها نزلت في بني أبريق.

5. في الآية دلالة على أنه لا يؤخذ أحد بجرم غيره، ولا يعاقب الأولاد بذنوب الآباء على ما يذهب اليه قوم من أهل الحشو، ومثله قوله: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/322.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. السوء: القبيح الذي يؤخذ به صاحبه؛ لأنه من ساءه يسوءه سوءًا إذا واجهه بقبح يكرهه، ومنه رَجُلُ سوء لأن من شأنه أن يواجه الناس بالمكاره، فأما السيئة فجاءت على نقيض الحسنة.

ب. ﴿يَجِدْ﴾ أصله من الوجدان وهو الإدراك، يقال: وجدت الضالة وجدانًا إذا أدركتها بعد ذهابها عنك، ووجدت وجودًا علمت، ووجدت وَجْدًا سخطت، ووجدت جِدَةً سعة، والوجود ضد العدم؛ لأنه يظهر بالوجود كظهوره بالإدراك.

ج. الكسب: فعل يجر به نفعًا أو يدفع به ضررًا؛ ولذلك لا يوصف به تعالى.

د. الذنب: القبيح من الفعل يقال: أذنب فهو مذنب، والإثم: القبيح الذي عليه تبعة؛ ولذلك يقال للصبي: أذنب ولا يقال أثم.

2. نزلت الآية في قصة سرقة الدرع على ما تقدم ذكره.

3. بَيَّنَ تعالى طريق التلافي مما سبق منهم، فقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا﴾:

أ. أي معصية وأمرًا قبيحًا ويظلم نفسه بارتكاب المعاصي.

ب. وقيل: يعمل سوءًا أي يظلم غيره أو يظلم نفسه.

ج. وقيل: سوءًا بأن يسرق الدرع، ويظلم غيره بأن رمى بها بريئًا.

4. ﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ﴾ أي يتوب إليه ويطلب منه المغفرة؛ لأن الاستغفار مع الإصرار من غير التوبة لا يصح ﴿يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أي ساترًا لذنوب عباده رحيمًا بهم؛ إذ جعل لهم طريقًا لنجاتهم وهو التوبة، وفي الكلام حذف دل عليه تقديره: يجد الله غفورًا رحيمًا به؛ لأنه تعالى غفور رحيم قَبِلَ استغفاره وتوبته.

5. ثم بَيَّنَ تعالى أنه إن لم يتب وأصر فإنما ضرره عائد عليه فقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا﴾ أي يعمل ذنبًا ﴿فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ يعني وبال فعله يعود عليه فكأنه جنى على نفسه وقصد إضراره ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾:

أ. قيل: عليم بكسبه حكيم في عقابه.

ب. وقيل: عليم بأفعال عباده حكيم في قضاياه فيهم.

ج. وقيل: عليم بالظالم والمظلوم حكيم في قضائه بينهم.

د. وقيل: عليم بالسارق حكيم في إيجاب القطع.

6. تدل الآية الكريمة على:

أ. أنه لا ذنب إلا ويجب منه التوبة والاستغفار.

ب. أن الذنب نوعان: إساءة إلى الغير، وظلم نفسه؛ فلذلك عطفأحدهما على الآخر.

ج. بطلان الجبر؛ لأنه نسب الظلم إليه، ولو كان خلقًا له لكان إضافته إليه أولى.

د. أن فعل العباد حادث من جهتهم.

هـ. أن وبال الفعل يعود على فاعله.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/64.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. السوء: القبيح، الذي يواجه به صاحبه من ساءه، يسوءه، سوءا: إذا واجهه بقبيح يكرهه، ورجل سوء: من شأنه أن يواجه الناس بالمكاره، فأما السيئة: فهي نقيض الحسنة.

ب. يجد: أصله من الوجدان، وهو الإدراك، يقال: وجدت الضالة وجدانا: إذا أدركتها بعد ذهابك عنها، ووجدت وجودا: علمت، والوجود: ضد العدم، لأنه يظهر بالوجود، كظهوره بالادراك.

ج. الكسب: فعل يجر به نفع، أو يدفع به ضر، ولذلك لا يوصف سبحانه به.

2. بين تعالى طريق التلافي والتوبة مما سبق منهم من المعصية، فقال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾:

أ. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا﴾ أي: معصية، أو أمرا قبيحا، ﴿أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ بارتكاب جريمة.

ب. وقيل: يعمل سوءا بأن يسرق الدرع، أو يظلم نفسه بأن يرمي بها بريئا.

ج. وقيل: المراد بالسوء: الشرك، وبالظلم: ما دون الشرك.

3. ﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ﴾ أي: يتوب إليه، ويطلب منه المغفرة، ﴿يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾

4. ثم بين الله تعالى أن جريمتهم، وإن عظمت، فإنها غير مانعة من المغفرة وقبول التوبة إذا استغفروا وتابوا، فقال: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ ظاهر المعنى ونظيره: ﴿لا تكسب كل نفس إلا عليها﴾، ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾:

أ. قيل: ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا﴾ بكسبه، ﴿حَكِيمًا﴾ في عقابه.

ب. وقيل: عليما في قضائه فيهم.

ج. وقيل: عليما بالسارق، حكيما في إيجاب القطع عليه.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/164.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلفوا في نزول قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ على ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنها نزلت خطابا للسّارق، وعرضا للتّوبة عليه، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد، ومقاتل.

ب. الثاني: أنها للذين جادلوا عنه من قومه، رواه العوفيّ عن ابن عباس.

ج. الثالث: أنه عنى بها كلّ مسيء ومذنب، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ، وإطلاقها لا يمنع أن تكون نزلت على سبب.

2. في هذا السّوء ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه السّرقة.

ب. الثاني: الشّرك.

ج. الثالث: أنه كلّ ما يأثم به.

3. في هذا الظّلم قولان:

أ. أحدهما: أنه رمي البريء بالتّهمة.

ب. الثاني: ما دون الشّرك.

4. ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا﴾ أي: ومن يعمل ذنبا ﴿فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ يقول: إنّما يعود هو بعض المتقدم. وباله عليه، قاله مقاتل، وهذه في طعمة أيضا.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/468.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى الوعيد في هذا الباب أتبعه بالدعوة إلى التوبة، وذكر فيه ثلاثة أنواع من الترغيب، الأول: ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، والمراد بالسوء القبيح الذي يسوء به غيره كما فعل طعمة من سرقة الدرع ومن رمي اليهودي بالسرقة والمراد بظلم النفس ما يختص به الإنسان كالحلف الكاذب، وإنما خص ما يتعدى إلى الغير باسم السوء لأن ذلك يكون في الأكثر إيصالا للضرر إلى الغير، والضرر سوء حاضر، فأما الذنب الذي يخص الإنسان فذلك في الأكثر لا يكون ضررا حاضرا لأن الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه.

2. هذه الآية دالة على حكمين:

أ. الأول: أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب سواء كانت كفرا أو قتلا، عمدا أو غصبا للأموال لأن قوله: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ عم الكل.

ب. الثاني: أن ظاهر الآية يقتضي أن مجرد الاستغفار كاف، وقال بعضهم: أنه مقيد بالتوبة لأنه لا ينفع الاستغفار مع الإصرار.

3. ﴿يَجِدِ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ معناه غفورا رحيما له، وحذف هذا القيد لدلالة الكلام عليه، فإنه لا معنى للترغيب في الاستغفار إلا إذا كان المراد ذلك.

4. النوع الثاني: من الكلمات المرغبة في التوبة ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، والكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة، ولذلك لم يجز وصف الباري تعالى بذلك والمقصود منه ترغيب العاصي في الاستغفار كأنه تعالى يقول: الذنب الذي أتيت به ما عادت مضرته إلي فإنني منزّه عن النفع والضرر، ولا تيأس من قبول التوبة والاستغفار.

5. ﴿وَكَانَ الله عَلِيمًا﴾ بما في قلبه عند إقدامه على التوبة ﴿حَكِيمًا﴾ تقتضي حكمته ورحمته أن يتجاوز عن التائب.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/216.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ قال ابن عباس: عرض الله التوبة على بني أبيرق بهذه الآية، أي ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا﴾ بأن يسرق ﴿أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ بأن يشرك ﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ﴾ يعني بالتوبة، فإن الاستغفار باللسان من غير توبة لا ينفع، وقد بيناه في آل عمران، وقال الضحاك: نزلت الآية في شأن وحشي قاتل حمزة أشرك بالله وقتل حمزة، ثم جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: إني لنادم فهل لي من توبة؟ فنزل: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ الآية، وقيل: المراد بهذه الآية العموم والشمول لجميع الخلق، وروى سفيان عن أبي إسحاق عن الأسود وعلقمة قالا: قال عبد الله بن مسعود من قرأ هاتين الآيتين من سورة النساء ثم استغفر غفر له: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾، وروي عن علي أنه قال: كنت إذا سمعت حديثا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نفعني الله به ما شاء، وإذا سمعته من غيره حلفته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر: قال ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له، ثم تلا هذه الآية ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾

2. ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا﴾ أي ذنبا ﴿فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ أي عاقبته عائدة عليه، والكسب ما يجربه الإنسان إلى نفسه نفعا أو يدفع عنه به ضررا، ولهذا لا يسمى فعل الرب تعالى كسبا.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/380.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا من تمام القصة السابقة، والمراد بالسوء: القبيح الذي يسوء به‏ ﴿أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ بفعل معصية من المعاصي، أو ذنب من الذنوب التي لا تتعدى إلى غيره‏ ﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله﴾ يطلب منه أن يغفر له ما قارفه من الذنب‏ ﴿يَجِدِ الله غَفُورًا﴾ لذنبه‏ ﴿رَحِيمًا﴾ به، وفيه ترغيب لمن وقع منه السرق من بني أبيرق أن يتوب إلى الله ويستغفره، وأنه غفور لمن يستغفره رحيم به، وقال الضحاك: إن هذه الآية نزلت في شأن وحشي قاتل حمزة، أشرك بالله وقتل حمزة، ثم جاء إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: هل لي من توبة؟ فنزلت، وعلى كل حال فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي لكل عبد من عباد الله أذنب ذنبا ثم استغفره الله سبحانه.

2. ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا﴾ من الآثام بذنب يذنبه‏ ﴿فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ أي: عاقبته عائدة عليه، والكسب: ما يجر به الإنسان إلى نفسه نفعا أو يدفع به ضررا، ولهذا لا يسمى فعل الربّ كسبا.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/596.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَّعْمَلْ سُوءًا﴾ ذنبًا يضرُّ به نفسه وغيره، كبهت طعمة اليهوديَّ، أو نفسه وحده، كما قال: ﴿اَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ بعمل ذنب لا يتعدَّى إلى غيره من ذاته، ولو تعدَّى إليه من قِبل الله، كالطاعون والقحط والمضارِّ المُتَرَتِّبَة على المعاصي، أو يدخل هذا في عمل السوء، ويختصُّ ظلم النفس بما لا يترتَّب عليه ذلك، أو الظلم: الشرك، ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]، والسوء ما دونه، أو السوء: الصغيرة، والظلم الكبيرة، ﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ﴾ بالتوبة ﴿يَجِدِ اللهَ غَفُورًا﴾ لذنوبه، ﴿رَّحِيمًا﴾ متفضِّلاً، وفي الآية حثٌّ لطعمة وقومه على التوبة، ولم يتب طعمة ومات مشركًا.

2. ﴿وَمَنْ يَّكْسِبِ اِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ﴾ ضرَّ غيره به، أم لم يضرَّه، لأنَّ عقابه عليه ﴿وَإِنَ اَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: 7]، ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا﴾ بِكُلِّ شيء، ومن ذلك إثمه، ﴿حَكِيمًا﴾ في قوله وفعله، ومنه عقابه على الإثم، وقطع السارق.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/282.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى الوعيد في هذا الباب، أتبعه بالدعوة إلى التوبة بقوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا﴾ أي: قبيحا متعديا، يسوء به غيره، كما في القصة ﴿أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ فيخصها بالمعصية ﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله﴾ بالتوبة الصادقة ﴿يَجِدِ الله غَفُورًا﴾ لذنوبه كائنة ما كانت‏ ﴿رَحِيمًا﴾ أي متفضلا عليه، قال أبو السعود: وفيه مزيد ترغيب لطعمة وقومه في التوبة والاستغفار، لما أن مشاهدة التائب لآثار المغفرة والرحمة نعمة زائدة.

2. ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ أي فليتحرز عن تعريضها للعقاب، ﴿وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/326.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ هذا بيان للمخرج من الذنب بعد وقوعه، والسوء ما يسوء أي ما يترتب عليه الغم والكدر وفسروه بالذنب مطلقا لأن عاقبته تسوء ولو عند الجزاء، وهذه الآيات تشير إلى كل نوع من أنواع الذنوب التي ارتكبت في القصة التي نزل السياق بسببها.

2. قال محمد عبده: هذه الآيات تحذير من أعداء الحق والعدل الذين يحاولون هدم ركنهما وهذا الركن هو المقصود من الشرائع، وإنما يمتثل هذا التحذير بالاجتهاد وتحري العدل وعدم الاغترار بظواهر الخصماء، والسوء ما يسوء به الإنسان غيره، والظلم ما كان ضرره خاصا بالعامل كترك الفريضة (أي هذا هو المراد بهما هنا) والاستغفار طلب المغفرة من الله تعالى ويتضمن ذلك لازمه وهو الشعور بقبح الذنب والتوبة منه، ولسيدنا علي كرم الله وجهه وجه خطبة في تفسير الاستغفار بالتوبة التي تذيب الشحم وتفني العظم، ومعنى وجدانه الله غفورا رحيما: أن الله أكرم من أن يرد توبة عبده إذا اطلع على قلبه وعرف منه الصدق والإخلاص.

3. لعل المراد بوجدان الله غفورا رحيما هو أن التائب المستغفر يجد أثر المغفرة في نفسه بكراهة الذنب وذهاب داعيته، ويجد أثر الرحمة بالرغبة في الأعمال الصالحة التي تطهر النفس وتزيل ذلك الدرن منها، فيكون السوء أو الظلم الذي تاب منه العبد مصداقا لقول ابن عطاء الله الإسكندري: (رب معصية أورثت ذلا وانكسارا، خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا) والمراد الذل والانكسار لله عز وجل الذي يورث صاحبه العزة والرفعة مع غيره، وفي الآية ترغيب لطعمة وأنصاره في التوبة.

4. ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ أي ومن يعمل الإثم عن قصد ويرى أنه قد كسبه وانتفع به فإنما كسبه هذا وبال على نفسه وضرر لا نفع لها كما يتوهم لجهله بعواقب الآثام السيئة في الدنيا والآخرة، ومن العواقب غير المأمونة في الدنيا فضيحة الآثم ومهانته بظهور الأمر للناس وللحاكم العادل كما وقع لأصحاب القصة الذين نزلت بسببهم الآيات وسترى تحديد معنى الإثم في تفسير الآية التي بعد هذه.

5. ﴿وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ قال محمد عبده أي أنه تعالى قد حدد للناس بعلمه حدود الشرائع التي يضرهم تجاوزها، وبحكمته جعل لها عقابا يضر المتجاوز لها، فهو إذا يضر نفسه ولا يضر الله شيئا.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/326.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم رغب في التوبة من الذنوب وحث عليها فقال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أي ومن يعمل قبيحا يسوء به غيره، أو يظلم نفسه بفعل معصية تختص به كالحلف الكاذب يجد الله غفارا لذنوبه، رحيما متفضلا عليه بالعفو والمغفرة، وفى ذلك حث وترغيب لطعمة وقومه في التوبة والاستغفار، كما أن فيها بيانا للمخرج من الذنب بعد وقوعه، وفيها تحذير من أعداء الحق والعدل الذين يحاولون هدمهما، وهما أسس الشرائع، والمراد بوجدان الله غفورا رحيما: هو أن التائب المستغفر يجد أثر المغفرة في نفسه بكراهة الذنب وذهاب داعيته ويجد أثر الرحمة بالرغبة في الأعمال الصالحة التي تطهر النفس وتزيل الدّرن منها.

2. ثم حذر من فعل الذنوب والآثام وذكر عظيم ضرها فقال: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ أي ومن يعمل الإثم وير أنه قد كسبه وانتفع به فإنما كسبه وبال على نفسه وضرر لا نفع له فيه، كما يخطر على بال من يجهل عواقب الآثام في الدنيا والآخرة، من فضيحة للآثم ومهانة له بين الناس وعند الحاكم‏ العادل كما وقع لأصحاب هذه القصة الذين نزلت في شأنهم هذه الآيات، ومن خزى في الآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

3. ﴿وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أي إنه تعالى بعلمه الواسع حدد للناس شرائع يضرهم تجاوزها، وبحكمته جعل لها عقابا يضر المتجاوز لها، فهو إذا يضر نفسه ولا يضر الله شيئا.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/152.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد هذه الحملة الغاضبة على الخونة الأثمة، والعتاب الشديد للمنافحين عنهم والمجادلين، يجيء تقرير القواعد العامة لهذه الفعلة وآثارها، وللحساب عليها والجزاء، ولقاعدة الجزاء عامة، القاعدة العادلة التي يعامل بها الله العباد، ويطلب إليهم أن يحاولوا محاكاتها في تعاملهم فيما بينهم، وأن يتخلقوا بخلق الله ـ خلق العدل ـ فيها.

2. إنها آيات ثلاث تقرر المبادئ الكلية التي يعامل بها الله عباده؛ والتي يملك العباد أن يعاملوا بعضهم بعضا بها، ويعاملوا الله على أساسها فلا يصيبهم السوء.

3. الآية الأولى تفتح باب التوبة على مصراعيه، وباب المغفرة على سعته؛ وتطمع كل مذنب تائب في العفو والقبول: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)﴾.. إنه سبحانه موجود للمغفرة والرحمة حيثما قصده مستغفر منيب.. والذي يعمل السوء يظلم غيره، ويظلم نفسه، وقد يظلم نفسه وحدها إذا عمل السيئة التي لا تتعدى شخصه.. وعلى أية حال فالغفور الرحيم يستقبل المستغفرين في كل حين؛ ويغفر لهم ويرحمهم متى جاءوه تائبين، هكذا بلا قيد ولا شرط ولا حجاب ولا بوّاب! حيثما جاءوا تائبين مستغفرين وجدوا الله غفورا رحيما..

4. والآية الثانية تقرر فردية التبعة، وهي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي في الجزاء، والتي تثير في كل قلب شعور الخوف وشعور الطمأنينة، الخوف من عمله وكسبه، والطمأنينة من أن لا يحمل تبعة غيره، ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)﴾.. ليست هناك خطيئة موروثة في الإسلام، كالتي تتحدث عنها تصورات الكنيسة، كما أنه ليست هناك كفارة غير الكفارة التي تؤديها النفس عن نفسها.. وعندئذ تنطلق كل نفس حذرة مما تكسب، مطمئنة إلى أنها لا تحاسب إلا على ما تكسب.. توازن عجيب، في هذا التصور الفريد، هو إحدى خصائص التصور الإسلامي وأحد مقوماته، التي تطمئن الفطرة، وتحقق العدل الإلهي المطلق؛ المطلوب أن يحاكيه بنو الإنسان.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/759.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إذ يحذّر الله الظالمين وأولياء الظالمين، ويتوعدهم بالعقاب الراصد لهم يوم القيامة، فإنه سبحانه وتعالى لا يسدّ منافذ الخلاص على هؤلاء وأولئك، بل يفتح لهم أبواب التوبة والإنابة، ويدعوهم إلى الرجوع إليه من قريب.. فإنهم إن فعلوا، وأخلوا أيديهم من الإثم، وأنابوا إلى ربهم، وجدوا القبول والرحمة، من رب غفور رحيم.

2. وعمل السوء قد يتعدّى الإنسان إلى غيره، ففيه ظلم للغير، وظلم له.. كالسرقة، والغش، وشهادة الزور.. ففي هذه الأمور السيئة ونحوها ظلم للغير، وظلم للنفس، بما جنى عليها صاحبها من هذه المنكرات، التي تبعد مرتكبها عن ربه، وتعرضه لسخطه، ونقمته، وعذابه، وقد يكون عمل السوء مقصورا أثره على مرتكبه، كالذي يشرب الخمر، أو يفطر في رمضان لغير عذر.. فهذا العمل السيّئ واقع عليه وحده، واثره لا يتعدّاه إلى غيره.. ولهذا جاء قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ جامعا لأفعال السوء كلها، ما كان منها متعديا أثره إلى الغير، وما كان مقصورا على النفس وحدها.

3. في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ استحضار لجلال الله وعظمته، وتلويح بغفرانه ورحمته، حيث أنه سبحانه وتعالى يدعو المذنبين إليه، وينتظر استجابتهم له، وإقبالهم عليه، فمن استجاب للّه، وسعى نحوه، فطريقه إلى الله مفتوح، لا تقوم دونه الحجب، ولا يرده عنه الحجّاب.. بل (يجد الله) في انتظاره، مادّا يده له بالقبول والمغفرة.

4. قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ تحديد للمسئولية، حيث لا يؤخذ أحد بجرم غيره.. ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾.. ولن يخشى البريء أن يلقى عليه جرم المجرم، فإن أمر القضاء إلى عليم حكيم، يعلم عمل كل عامل من خير أو شر، فيجزى بالخير خيرا، وبالشر شرا، كما يقضى بذلك عدله، وحكمته.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/893.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ اعتراض بتذييل بين جملة ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ﴾ وبين جملة: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ [النساء: 109 ـ 113]، وعمل السوء هو العصيان ومخالفة ما أمر به الشرع ونهى عنه، وظلم النفس شاع إطلاقه في القرآن على الشرك والكفر، وأطلق أيضا على ارتكاب المعاصي، وأحسن ما قيل في تفسير هذه الآية: أنّ عمل السوء أريد به عمل السوء مع الناس، وهو الاعتداء على حقوقهم، وأنّ ظلم النفس هو المعاصي الراجعة إلى مخالفة المرء في أحواله الخاصّة ما أمر به أو نهي عنه.

2. المراد بالاستغفار التوبة وطلب العفو من الله عمّا مضى من الذنوب قبل التوبة، ومعنى‏ ﴿يَجِدِ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ يتحقّق ذلك، فاستعير فعل‏ ﴿يَجِدْ﴾ للتحقّق لأنّ فعل وجد حقيقته الظفر بالشيء ومشاهدته، فأطلق على تحقيق العفو والمغفرة على وجه الاستعارة.

3. معنى‏ ﴿غَفُورًا رَحِيمًا﴾ شديد الغفران وشديد الرحمة وذلك كناية عن العموم والتعجيل، فيصير المعنى يجد الله غافرا له راحما له، لأنّه عامّ المغفرة والرحمة فلا يخرج منها أحد استغفره وتاب إليه، ولا يتخلّف عنه شمول مغفرته ورحمته زمنا، فكانت صيغة ﴿غَفُورًا رَحِيمًا﴾ مع‏ ﴿يَجِدْ﴾ دالّة على القبول من كلّ تائب بفضل الله.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/251.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات السابقة ذكر سبحانه أحوال المنافقين والذين يختانون أنفسهم، وأشار إلى الذين يرتكبون الشر، ويرمون به غيرهم، وما يجب أن يكون عليه القاضي المنصف الذى يرد الحقوق إلى أصحابها، وتكون عنده المقاسم الحقيقية للحق والباطل، وكل ذلك في الأحكام الدنيوية، وفى هذا النص يبين الله سبحانه مراتب العصاة أمام الله تعالى فذكر ثلاث مراتب: المرتبة الأولى مرتبة التوابين، والثانية مرتبة الذين لا تتعدى آثامهم أنفسهم أو لا يرمون بها غيرهم، والثالثة، وهي التي تنال أشد الجزاء الأخروي بعد الخزي الدنيوي هي التي ترتكب الشر وترمى به غيرها (2):

أ. وقد بين الله سبحانه المرتبة الأولى بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ السوء هو الأمر الذى يحدث غما وألما، سواء أكان لفاعله، أم كان لغير فاعله، ولكن بمقابلته بقوله تعالى: ﴿أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ لا بد من أن تفسر الكلمتان بمعنيين متغايرين، وقد تكلم في ذلك المفسرون، وأحسن ما رأينا هو ما قاله الزمخشري من أن السوء هو ما يكون فيه أذى للغير، كالقذف والشتم والسب، ونحو ذلك، وأما ما يكون فيه ظلم للنفس، فهو ما لا يكون فيه أذى مباشر للغير ابتداء، كالفاحشة، وشرب الخمر، وترك الصلاة والصوم والحج، وغير ذلك من المعاصي التي لا تتجاوز غير صاحبها مباشرة وابتداء، وإن كانت في مآلها تتعدى إذا تفشت الأمة وكثرت فيها، ولا بد أن نذكر بإجمال عبارات في بعض الإشارات البيانية القرآنية:

الأولى: عن التعبير بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا﴾ فإن هذا التعبير يشير إلى أن نفسه لم تركس في الشر، ولم يستغرقها، بل إنه عمل عارض، ولذا كان التعبير ﴿يَعْمَلْ﴾، وهذا في مقابل قوله في الطبقة الثانية: ﴿يَكْسِبْ﴾، فإن الكسب كما تبين يشير إلى تدنس النفس، وارتكاسها في الشر، أما العمل ففي ظاهر الأمر إنه لا يتجاوز الجوارح؛ ولذا كانت التوبة قريبة، وكان الاستغفار غير بعيد.

الثانية: أن التعبير عن المعاصي الشخصية التي لا تتعدى صاحبها ابتداء بظلم النفس، فيه معان واضحة، فهي تفيد أن كل ما نهى الله عنه فلمصلحة العبد، فإن تجاوز حدود ما نهى الله عنه فقد وقع في ضرر مؤكد، وفيه تنبيه إلى أن المعاصي سواء أكانت إيجابية كشرب الخمر، أم سلبية كترك الصلاة والصوم، مغبة وقوعها تكون على العبد ابتداء، ثم تكون على غيره من بعد، وفى الحق أن كل ما نهى الله عنه، وما أمر به فهو لمصلحة الجماعة، ومخالفة أمر الله فيه ظلم للنفس وإساءة للمجتمع، بيد أن بعضه يكون أثره مباشرا، إما على الغير كالقتل والاعتداء بكل أنواعه، أو يكون أثره المباشر على شخص المرتكب، ثم يتعدى إلى المجتمع من وراء ذلك، حتى أن من ظلم النفس عده الله تعالى اعتداء على حقه تعالى، كالزنا وشرب الخمر، وكونه ظلما للنفس لا يمنع أنه اعتداء على حق الله تعالى وذلك للمآل والآثار، لا بالمباشرة.

الثالثة: أن التعبير بـ (ثم) في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله﴾ ـ للإشارة إلى تفاوت ما بين المعصية والاستغفار، فالتراخى الذى دلت عليه كلمة (ثم) تفاوت معنوي وليس بتراخ زمنى لأن من يعمل السوء أو يظلم نفسه من غير أن يحيط بالنفس، توبته قريبة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء]، والاستغفار هو طلب المغفرة، وذلك يقتضى الإقلاع عن الذنب، والندم على ما كان منه، والالتجاء إلى الله تعالى فالاستغفار هو التوبة النصوح، ومن مقتضيات هذه التوبة أن يرد الحقوق إلى أصحابها، ويطلب العفو ممن أساء إليه؛ لأن حقوق العباد لا تتحقق فيها التوبة إلا إذا ردت إلى أصحابها، أو كان العفو منهم، وقوله تعالى: ﴿يَجِدِ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾، يفيد استجابة طلب الغفران إن تحققت شرائطه، ولم يصب النفس بدنس، فالمعنى إن استغفر وتاب وأناب استحق المغفرة، لأنه يعلم وصف الله تعالى لذاته العلية بأنه المتصف بصفة الغفران والرحمة، وكان من رحمته أن يقبل توبة التائب، ويعاقب العاصي المصر.

ب. ثم ذكر سبحانه المرتبة الثانية في المعاصي بقوله: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ الكسب معناه طلب ما يرغبه الإنسان، ويطلق الكسب على ما يناله الإنسان من أمور الدنيا، وما تناله النفس من حظوظها أو ما تراه حظا لها، وقد ورد الكسب في القرآن بمعنى طلب الرزق، وورد بمعنى فعل الخير، وورد بمعنى فعل الإثم، ولاحظنا في تعبيرات القرآن عن كسب الآثام أنها تقرن بما تدل على استمراء النفس للشر، وتأثرها به، فقد قال تعالى: ﴿أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الأنعام‏] أي تمنع من الخير بسبب ما كسبته من ذنوب، وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا﴾ [الأنعام‏]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾ ﴿يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ﴾ [الأنعام‏]، وغير ذلك، ولذلك يصح أن نفسر كسب الإثم بأن يتحراه وتتدرن به نفسه، حتى يصير كسبا رديئا لها؛ وذلك أن الشر إذا ارتكبه الإنسان خط في النفس خطا، فإذا تكرر ذلك كثرت الخطوط السوداء، حتى يربد القلب، وبذلك يكون قد كسب الإثم، وهو الذنب المبطئ عن الله تعالى، ومن وصل الشر في نفسه إلى هذا الحد، فإن ذلك الذى اكتسبه لا يعود بالشر ابتداء إلا على نفسه، لأنه أفسد فطرتها، وحولها عن طريق الانتفاع بها إلى أركاسها في الشر، وخسارة الشرير في نفسه أكثر من خسارة الناس فيه، ولأنه يصير من الشذاب الذين تلفظهم الجماعات الإنسانية، ولأن عذاب الله يستقبله، ولذا قال سبحانه مهددا بأنه عالم بما يرتكب، ولو أخفاه، حكيم، يضع لكل امرئ ما يستحق، فلا يتساوى عنده المسيء مع المحسن وهو وحده المتصف بأعلى درجات العلم والحكمة، ويلاحظ في الفرق بين التعبير في الآية السابقة وهذه الآية أمران:

أولهما ـ أنه عبر في الأولى عن مرتكب الشر بـ (يعمل) وقد بينا ما فهمناه من ذلك، وفى هذه الآية عبر بـ (يكسب)، للإشارة التي تدنس النفس بالشر، واسوداد القلب به، حتى اربد، وأصبح لا نور فيه.

ثانيهما ـ أنه لم يعبر عن الشر الذى وقع في الأولى بالإثم بل عبر بالسوء أو الظلم للنفس، وهنا عبر بالإثم المبطئ المبعد عن الله تعالى؛ لأن الشخص في الحال السابقة قريب من الخير بالتوبة القريبة، أما هنا فحاله حال من تبطؤ توبته.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1847.

(2) نقلنا حديثه عن المرتبة الثالثة إلى المقطع التالي

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾، هذا هو المخرج من الذنب، الاعتراف به، والتوبة منه، فهي وحدها تكفره وتتداركه.. وكما ان الله سبحانه شديد العقاب فإنه غفور لمن تاب، رحيم بمن التجأ اليه، وفي الحديث: ان الله لا يمل، حتى تملوا، فإذا تركتم ترك، أي إذا تركتم التوبة من الذنب ترك الصفح عنه.. فكان الأولى بالذين دافعوا عن المجرم أن يؤنبوه على جريمته، وينصحوه بالتوبة لو كانوا من الناصحين المؤمنين حقا.

2. في هذه الآيات أربع كلمات لا بد من الاشارة إلى وجه الفرق بينها، ليتضح الفرق بين الآيات التي ظاهرها التكرار.. الكلمة الأولى الإثم في الآية 107 و111 و112، والكلمة الثانية والثالثة السوء وظلم النفس، وقد ذكرا في الآية 111، الرابعة الخطيئة في الآية 112، ويجمع هذه الآية معنى واحد، وهو المعصية، وتفترق هذه الكلمات عن بعضها بأن السوء ما يساء به إلى الغير، وظلم النفس إدخال الضرر عليها بترك واجب، أو فعل محرم، والخطيئة الخطأ الذي لا يعذر فيه صاحبه، كالجاهل المقصر، يخطئ في تأدية ما عليه لجهله، مع قدرته على التعلم، وحكمه حكم المتعمد في المسئولية، لتهاونه في البحث والسؤال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، والإثم ارتكاب الذنب عن علم به، وتصميم على فعله، وهو عام يشمل السوء، وظلم النفس.

3. وعلى هذا يكون معنى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَحِيماً﴾، معناه من أساء إلى غيره بالشتم أو الضرب، وما اليه، أو إلى نفسه فقط كاليمين الكاذبة ثم تاب قبل الله منه، حتى كأنه لم يسيء ولم يظلم.

4. ومعنى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ ان من يتعمد ارتكاب الذنب فقد أساء إلى نفسه، سواء اقتصرت هذه الاساءة عليه وحده، أو تعدت إلى غيره.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/433.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1.﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ فيه ترغيب وحث لأولئك الخائنين أن يرجعوا إلى ربهم بالاستغفار، والظاهر أن الترديد بين السوء وظلم النفس‏ والتدرج من السوء إلى الظلم لكون المراد بالسوء التعدي على الغير، وبالظلم التعدي على النفس، أو أن السوء أهون من الظلم كالمعصية الصغيرة بالنسبة إلى الكبيرة.

2. هذه الآية والآيتان بعدها جميعا كلام مسوق لغرض واحد، وهو بيان أمر الإثم الذي يكسبه الإنسان بعمله، يتكفل كل واحدة من الآيات الثلاث بيان جهة من جهاته:

أ. فالآية الأولى: تبين أن المعصية التي يقترفها الإنسان فيتأثر بتبعتها نفسه وتكتب في كتاب أعماله، للعبد أن يتوب إلى الله منها ويستغفره فلو فعل ذلك وجد الله غفورا رحيما.

ب. والآية الثانية: تذكر الإنسان أن الإثم الذي يكسبه إنما يكسبه على نفسه وليس بالذي يمكن أن يتخطاه ويلحق غيره برمي أو افتراء ونحو ذلك.

ج. والآية الثالثة توضح أن الخطيئة أو الإثم الذي يكسبه الإنسان لو رمى به بريئا غيره كان الرمي به إثما آخر وراء أصل الخطيئة أو الإثم.

3. ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ قد تقدم أن الآية مرتبطة مضمونا بالآية التالية المتعرضة للرمي بالخطيئة والإثم فهذه كالمقدمة لتلك، وعلى هذا فقوله: ﴿فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ مسوق لقصر التعيين، وفي الآية عظة لمن يكسب الإثم ثم يرمي به بريئا غيره، والمعنى ـ والله أعلم ـ: أنه يجب على من يكسب إثما أن يتذكر أن ما يكسبه من الإثم فإنما يكسبه على نفسه لا على غيره، وأنه هو الذي فعله لا غيره وإن رماه به أو تعهد له هو أن يحمل إثمه وكان الله عليما يعلم أنه فعل هذا الكاسب، وأنه الذي فعله لا غيره المرمي به، حكيما لا يؤاخذ بالإثم إلا آثمه، وبالوزر غير وازرتها كما قال تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: 286]، وقال: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164]، وقال: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [العنكبوت: 12]

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/76.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ هذا إرشاد للعصاة الخونة والمجادلين عنهم إن كانوا أثموا ليتوبوا إلى الله؛ لأنه غفور للتائبين؛ رحيم يتوب عليهم برحمته، والاستغفار: طلب المغفرة، فمن طلب المغفرة وجد السبيل إليها، وليس المراد: أنه يغفر له مع الإصرار؛ لأن الاستغفار منه غير مقبول؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة:27]، وقوله: ﴿ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا﴾ إلى قوله: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ الآية [آل عمران:135] وليس في الآية وعْدٌ بالمغفرة لمجرد الاستغفار؛ لأن المراد الطلب الجاد لا باللسان وحده، والطلب الجاد يكون الباعثُ عليه الرغبة في المغفرة والخوف من العقوبة، والطالب بهذا المعنى قد قيل له: إنه ﴿يَجِدِ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فلا يقنط ولكن يطلب ذلك من طريقه، ونظير هذا لو قيل لمريض: إذا أردت الشفاء فاذهب إلى الطبيب فلان فإنه طبيب، فالمراد أن الطبيب يستطيع أن يداوي مرضه لا أنه يُشفَى بمجرد الذهاب إليه.

2. ﴿فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ فهو المسئول عنه والمعاقَب عليه، ولا يتعداه إلى غيره، فالمجادلون عن الخائنين إذا استغفروا الله ولم يكونوا تعمدوا المعصية، فليس عليهم شيء من إثم الخائنين؛ لأنهم لم يشاركوا فيه ولم يرضوا به ﴿وَكَانَ الله عَلِيمًا﴾ بالخائن والمجادل ومن يستحق العقوبة ومن لا يستحقها ﴿حَكِيمًا﴾ فهو يجازي من يستحق ولا يجازي من لا يستحق.

3. سؤال وإشكال: هذه الآية وأمثالُها من القرآن تدل على أن الآمر بالمعصية والراضي بها لا يشاركان فيها؟ والجواب: أما الآمر فهو كاسب لها بالأمر، وكذلك الراضي الذي ترتب وقوعها على رضاه، قال تعالى في ثمود: ﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ﴾ [القمر:29]، وقال تعالى: ﴿فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ﴾ [الشعراء:157] فجعلهم مشاركين في عقرها، ونسَبَه إليهم كلِّهم مع أن المباشر لعقر الناقة واحد من ثمود، فأما من رضي بالمنكر بعد وقوعه، فالدليل على إثمه ما روي فيه عن علي عليه السلام في (نهج البلاغة) وتسميته مشاركاً في المعصية مجاز استعاره.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/163.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ إن الله يفتح باب رحمته ومغفرته لكل خاطئ، من مواقع الرحمة التي جعلها لعباده في كل زمان ومكان؛ وفي ذلك إيحاء للإنسان بأن الخطيئة ليست ضريبة لازمة للخاطئ، بل هي حالة طارئة يمكنه أن يتجاوزها إلى حيث الطاعة والرضوان بالاستغفار الذي يعبر عن الندم والتوبة وإرادة التغيير، والتصميم على أن يصحح الإنسان نفسه وطريقه، كوسيلة من وسائل السمو بالنفس الإنسانية إلى آفاق الله.

2. ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، إن الإنسان يتحمل مسئولية عمله، فيما يكسبه من آثام وخطايا بكل ما تفرضه من نتائج سلبية على مستوى حياته في الدنيا، وعلى مستوى مصيره في الآخرة؛ فإذا كانت القضية تنعكس على شخصيته، فيما يتصل بأمور الكرامة والشرف، فإن عشيرته وأولاده وأهل بلده لا يتحملون شيئا من ذلك، لأن شرف الإنسان يخصه ولا يخص غيره، من خلال ممارسته، وإذا كانت القضية تنعكس على مصيره فيما يتصل بعذاب الله، فلا يعذب إنسان لعمل إنسان آخر، لأن العذاب كان نتيجة كسبه السيئ، فهو الذي يحمل مسئوليته؛ وعلى هذا الأساس ينبغي للإنسان أن يواجه مواقفه ليعرف كيف يتحمل مسئوليته أمامها، وليعي ـ جيدا ـ أن الناس لا يغنون عنه شيئا في قليل أو في كثير، كما أن أخطاء الآخرين لا تلزمه بشيء ولا تخيفه في شيء وعليه أن يراقب الله في كل أموره، فإنه العليم الحكيم الذي يحيط بكل شيء ويدبّر الأمور بحكمته.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/451.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لقد بيّنت هذه الآيات، بعض الأحكام الكلية بعد أن تطرقت الآيات السابقة إلى مسائل خاصّة بالخيانة والتهمة.

أ. لقد وردت في الآية الإشارة أوّلا إلى هذه الحقيقة وهي أن باب التوبة مفتوح أمام المسيئين على كل حال، فإذا ارتكب أحد ظلما بحقّ نفسه أو غيره، وندم حقيقة على فعلته، أو استغفر الله لذنبه، وكفّر عن خطيئته فيجد الله غفورا رحيما، حيث تقول الآية: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾

ب. يجب الانتباه إلى أنّ الآية الأولى: تشير إلى نوعين من الذنوب، حيث جاءت فيها كلمة (سوء) وكلمة (الظلم) للنفس، ولدى النظر إلى قرينة المقابلة، وكذلك الأصل اللغوي لعبارة (سوء) التي تعني هنا الإضرار بالغير، يفهم من الآية أنّ أي نوع من الذنوب ـ سواء كانت من نوع الإضرار بالغير، أو الإضرار بالنفس قابلة للغفران إذا تاب فاعلها توبة حقيقية وسعى إلى التكفير عنها، ويفهم ـ أيضا ـ من العبارة القرآنية: ﴿يَجِدِ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أنّ التوبة الحقيقية لها من الأثر بحيث يجد الإنسان التائب نتيجتها في باطن نفسه، فمن ناحية فإنّ تأنيب الضمير الذي يخلقه ارتكاب الذّنب يزول عن المذنب التائب نظرا للغفران الذي يناله من الله الغفور، ومن جانب آخر يحسّ الإنسان التائب بالقرب إلى الله بسبب رحمته سبحانه وتعالى بعد أن كان يحس بالبعد عنه بسبب الذنب الذي ارتكبه.

ج. إنّ الآية الثانية: تحكي نفس الحقيقة التي وردت بصورة إجمالية في الآيات السابقة، حيث تؤكّد أنّ أي ذنب يقترفه الإنسان ستكون نتيجته في النهاية على المذنب نفسه، ويكون قد أضرّ بنفسه بذنبه، إذ تقول الآية: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾، وفي آخر الآية تأكيد على أنّ الله عالم بأعمال العباد، وهو حكيم يجازي كل إنسان بما يستحقه: ﴿وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، وبالصورة المارة الذكر فإنّ الذنوب مهما اختلفت في الظاهر، فإنّ اضرارها ستلحق أحيانا بالغير وتلحق أحيانا أخرى بمرتكبها، ولكن بالتحليل النهائي، فإنّ الذنب تعود نتيجته كلها إلى الإنسان المذنب نفسه، وإن الآثار السيئة للذنب تظهر قبل كل شيء في روح ونفس الشخص المذنب.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/440.

103. كسب الخطايا واتهام الأبرياء

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈103⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [النساء: 112]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

العوفي:

روي عن عطية العوفي (ت 112 هـ) أن رجلا يقال له: طعمة بن أبيرق، سرق درعا على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فرفع ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فألقاها في بيت رجل، ثم قال لأصحاب له: انطلقوا فاعذروني عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن الدرع قد وجد في بيت فلان، فانطلقوا يعذرونه عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فأنزل الله: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا﴾، قال بهتانه: قذفه الرجل(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٦٣.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل: أن يكون قوله: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا﴾ واحدًا: الخطيئة هي الإثم، والإثم هو الخطيئة.

ب. وقيل: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً﴾ سرقته الدرع ﴿أَوْ إِثْمًا﴾: يقول بيمينه الكاذبة: أنه لم يسرقها، وإنما سرقها فلان اليهودي.

﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾ قيل: لما طلب في داره رماها في دار اليهودي، ثم حلف باطلا وزورًا: أنه لم يسرقها.

2. ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾، يقول: كذبا على آخر بما لم يفعل، والبهتان: هو أن يبهت الرجل الرجل كذبًا بما لم يفعل، ﴿وَإِثْمًا مُبِينًا﴾: بيمينه الكاذبة.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٥٨.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾ يعني الذي اتهمه السارق وألقى عليه السرقة، وقيل: لما نزلت هذه الآية ارتد ابن الأبيرق ولحق مكة بالمشركين فأنزل الله: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾.. الآية.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/195.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الخطيئة، والخطي‏ء: الإثم العمد، تقول: خطئ يخطأ: إذا تعمد الذنب، وأخطأ يخطأ: إذا لم يتعمد، قال الزجاج: لما سمى الله تعالى المعاصي بأنها خطيئة ووصفها دفعة أخرى بأنها إثم، فصل بينهما هاهنا حتى يدخل الجنسان فيه، وقال غيره: المعنى من يعمل خطيئة، وهي الذنب، أو إثما، وهو ما لا يحل من المعصية، وفرق بين الخطيئة والإثم، لأن الخطيئة قد تكون عمداً وغير عمد، والإثم لا يكون إلا عمداً، فبين تعالى أن من يفعل خطيئة على غير عمد منه لها مما يلزمه‏ فيه الغرامة، وان لم يكن إثم فيه، أو آثماً فيه على عمد منه، وهو ما يستحق به العقاب.

2. ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾ يعني أضافه إلى من هو بريء منه‏ ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا﴾ يعني فقد تحمل بفعله ذلك فرية وكذباً ﴿وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ يعني وجرماً عظيما.

3. البهتان: الكذب الذي تتحير فيه من عظمه وبيانه، يقال: بهت فلان: إذا كذب، وبهت يبهت: إذا تحير، قال الله تعالى: ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ وإنما قال: (به)

4. ذكر الخطيئة والإثم قال الفراء: لأنه يجوز أن يكنى عن الفعلين أحدهما مؤنث والآخر مذكر بلفظ التذكير والتوحيد ولو كثر لجازوت الكناية بالتوحيد، لأن (الأفاعيل) تقع على فعل واحد، فكذلك جاز، فان شئت جعلتها لواحد، وإن شئت جعلت الهاء للإثم خاصة كما قال: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ فجعله للتجارة، وفي قراءة عبد الله (وإذا رأوا لهواء أو تجارة) فجعله للتجارة في تقديمها وتأخيرها، ولو ذكر على نية اللهو لجاز وقد جاء مثنى، قال تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ وفي قراءة أبي (إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهم)، وفي قراءة عبد الله بن مسعود مثله، لأنه في مذهب الجمع كما يقول: أصبح الناس صائماً ومفطراً، فأدى اثنان عن الجمع، وقال الزجاج: المعنى ثم يرمي بذلك بريئاً، قال رؤبة:

çفيه خطوط من سواد وبلق...كأنه في الجلد توليع البهق‏é

أي كأن ذلك.

5. اختلفوا فيمن عنى به بقوله: ﴿بَرِيئًا﴾ بعد إجماعهم على أن الرامي ابن أبيرق، فقال قوم: البريء رجل مسلم يقال له: لبيد بن سهل، وقال آخرون: بل‏ هو رجل يهودي يقال له زيد بن السمين، وقد ذكرناه فيما مضى، وبالأخير قال ابن سيرين، ورواه ابو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/323.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الخطيئة تكون ذنبًا بأن يتعمد، وقد يكون خطأ بألا يتعمد.

ب. البهتان: أصله من البهت وهو الكذب الذي يجتر به عظيمًا.

2. ذكر الضحاك عن ابن عباس أن قوله: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا﴾ نزلت في عبد الله بن أبي لَمّا خاض في الإفك وكان من أهل الإفك على عائشة ^ وكانت بريئة.

3. سؤال وإشكال: على هذا كيف تتصل الآية بما قبلها؟ والجواب: بَيَّنَ أن الذب عن الخائن في العظم كرمي البريء في أن كل واحدٍ يوجب عظيم العقاب.

4. بَيَّنَ تعالى أن من ارتكب إثمًا ثم قذف به غيره كيف يعظم عقابه، فقال تعالي ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً﴾:

أ. قيل: يعمل ذنبًا على عمدٍ أو غير عمد ﴿أَوْ إِثْمًا﴾ ذنبًا تعمده.

ب. وقيل: الخطيئة الشرك والإثم ما دون الشرك.

5. ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾ ثم يضف ذنبه إلى بريء:

أ. قيل: هو اليهودي الذي طرح عليه الدرع ابن أبيرق، عن الحسن وابن سيرين وغيرهما.

ب. وقيل: هو أسد بن سهل رجل من المسلمين.

ج. وقيل: عائشة.

6. ﴿بِهِ﴾:

أ. قيل: بواحد منهما.

ب. وقيل: بالإثم.

ج. وقيل: بكسبه.

7. ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ﴾ أي حمل ﴿بُهْتَانًا﴾ أَي كذبًا عظيمًا يتحير من عظمه ﴿وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ أي ذنبًا ظاهرًا بيِّنًا.

8. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن أحدًا لا يؤخذ بذنب غيره.

ب. يدل قوله: ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ﴾ على عظيم عقوبة من رمى بريئًا، وإذا عظم ذلك في الناس ففي الله تعالى أعظم، والْمُجْبِرَة تضيف كل قبيح إلى الله تعالى، وهو منه بريء.

9. ﴿يَرْمِ بِهِ﴾ ولم يقل: يرم بها، وقد تقدم ذكر الخطيئة والإثم لأنه أتى بـ ﴿أَوْ﴾ فكان العائد على أحدهما، كقولك: زيد أو عمرو ضربته، ولو قيل: بالواو زيد وعمرو لما جاز إلا ضربتهما، وقيل: الكناية ترجع إلى الإثم؛ لأنه أقرب إليه أو لأنه أهم، كقوله: ﴿وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/64.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله تعالى أن من ارتكب إثما، ثم قذف به غيره، كيف يعظم عقابه، فقال: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا﴾:

أ. قيل: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً﴾ أي: يعمل ذنبا على عمد، أو غير عمد، ﴿أَوْ إِثْمًا﴾ أي: ذنبا تعمده.

ب. وقيل: الخطيئة الشرك، والاثم: ما دون الشرك.

2. ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾: ثم ينسب ذنبه إلى برئ، وقيل: البريء هو اليهودي الذي طرح عليه الدرع، عن الحسن، وغيره، وقيل: هو لبيد بن سهل، وقد مضى ذكرهما قبل.

3. اختلف في الضمير الذي هو الهاء في به في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾:

أ. قيل: يعود إلى الاثم أي: بالإثم وقيل: إلى واحد منهما.

ب. وقيل: يعني يكسبه.

4. ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا﴾ كذبا عظيما، يتحير من عظمه، ﴿وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ أي: ذنبا ظاهرا بينا.

5. في هذه الآيات دلالة على أنه تعالى لا يجوز أن يخلق أفعال خلقه، ثم يعذبهم عليها، لأنه إذا كان الخالق لها، فهم براء منها، سؤال وإشكال: لو قيل: إن الكسب مضاف إلى العبد، والجواب: إن الكسب لو كان مفهوما، وله معنى، لم يخرج العبد بذلك من أن يكون بريئا، لأنه إذا قيل إن الله تعالى أوجد الفعل، وأحدثه، وأوجد الاختيار في القلب، والفعل لا يتجزى، فقد انتفى عن العبد من جميع جهاته.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/164.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا﴾ جمهور العلماء على أنها نزلت متعلّقة بقصّة طعمة بن أبيرق، وقد روى الضّحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول إذ رمى عائشة عليها السلام بالإفك.

2. في قوله تعالى: ﴿خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا﴾ أربعة أقوال‏:

أ. أحدها: أنّ (الخطيئة) يمين السّارق الكاذبة، و(الإثم): سرقته الدّرع، ورميه اليهوديّ، قاله ابن السّائب.

ب. الثاني: أن (الخطيئة) ما يتعلّق به من الذّنب، و(الإثم): قذفه البريء قاله مقاتل.

ج. الثالث: أن (الخطيئة) قد تقع عن عمد، وقد تقع عن خطأ، و(الإثم): يختصّ العمد، قاله ابن جرير، وأبو سليمان الدّمشقيّ، وذكر الزجّاج أنّ الخطيئة نحو قتل الخطأ الذي يرتفع فيه الإثم.

د. الرابع: أنه لمّا سمّى الله عزّ وجلّ بعض المعاصي خطيئة، وبعضها إثما، أعلم أن من كسب ما يقع عليه أحد هذين الاسمين، ثم قذف به بريئا، فقد احتمل بهتانا، ذكره الزجّاج أيضا.

3. ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾ أي: يقذف بما جناه بريئا منه.

4. سؤال وإشكال: الخطيئة والإثم اثنان، فكيف قال به؟ والجواب: عنه أربعة أجوبة:

أ. أحدها: أنه أراد: ثم يرم بهما، فاكتفى بإعادة الذّكر على الإثم من إعادته على الخطيئة، كقوله تعالى: ﴿انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ فخصّ التّجارة، والمعنى للتّجارة واللهو.

ب. الثاني: أنّ الهاء تعود على الكسب، فلمّا دلّ بـ (يكسب) على الكسب، كنّى عنه.

ج. الثالث: أن الهاء راجعة على معنى الخطيئة والإثم، كأنه قال ومن يكسب ذنبا، ثم يرم به، ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري.

د. الرابع: أنّ الهاء تعود على الإثم خاصّة، قاله ابن جرير الطّبريّ.

5. في المراد بالبري‏ء الذي قذفه هذا السّارق قولان:

أحدهما: أنه كان يهوديّا، قاله ابن عباس، وعكرمة، وابن سيرين وقتادة وابن زيد، وسمّاه عكرمة، وقتادة: زيد بن السمين‏.

الثاني: أنه كان مسلما، روي عن ابن عباس، وقتادة بن النّعمان، والسّدّيّ، ومقاتل، واختلفوا في ذلك المسلم، فقال الضّحّاك عن ابن عباس: هو عائشة لمّا قذفها ابن أبيّ، وقال قتادة بن النّعمان: هو لبيد بن سهل، وقال السّدّيّ، ومقاتل: هو أبو مليل الأنصاريّ.

6. فأمّا البهتان: فهو الكذب الذي يحيّر من عظمه، يقال: بهت الرّجل: إذا تحيّر، قال ابن السّائب: فقد احتمل بهتانا برميه البريء وإثما مبينا بيمينه الكاذبة.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/469.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. النوع الثالث: ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾، وذكروا في الخطيئة والإثم وجوها:

أ. الأول: أن الخطيئة هي الصغيرة، والإثم هو الكبيرة.

ب. ثانيها: الخطيئة هي الذنب القاصر على فاعلها، والإثم هو الذنب المتعدي إلى الغير كالظلم والقتل.

ج. ثالثها: الخطيئة ما لا ينبغي فعله سواء كان بالعمد أو بالخطإ، والإثم ما يحصل بسبب العمد، والدليل عليه ما قبل هذه الآية وهو قوله: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ [النساء: 111] فبيّن أن الإثم ما يكون سببا لاستحقاق العقوبة.

2. ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾ فالضمير في‏ ﴿بِهِ﴾ إلى ماذا يعود؟ فيه وجوه:

أ. الأول: ثم يرم بأحد هذين المذكورين.

ب. الثاني: أن يكون عائدا إلى الإثم وحده لأنه هو الأقرب كما عاد إلى التجارة في قوله: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾

ج. الثالث: أن يكون عائدا إلى الكسب، والتقدير: يرم بكسبه بريئا، فدل يكسب على الكسب.

د. الرابع: أن يكون الضمير راجعا إلى معنى الخطيئة فكأنه قال ومن يكسب ذنبا ثم يرم به بريئا.

3. ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا﴾ فالبهتان أن ترمي أخاك بأمر منكر وهو بريء منه، وصاحب البهتان مذموم في الدنيا أشد الذم، ومعاقب في الآخرة أشد العقاب، فقوله: ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا﴾ إشارة إلى ما يلحقه من الذم العظيم في الدنيا، وقوله وَإِثْماً مُبِيناً إشارة إلى ما يلحقه من العقاب العظيم في الآخرة.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/216.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا﴾ قيل: هما بمعنى واحد كرر لاختلاف اللفظ تأكيدا، وقال الطبري: إنما فرق بين الخطيئة والإثم أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد، وقيل: الخطيئة ما لم تتعمده [خاصة] كالقتل بالخطأ، وقيل: الخطيئة الصغيرة، والإثم الكبيرة، وهذه الآية لفظها عام يندرج تحته أهل النازلة وغيرهم.

2. ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾ قد تقدم اسم البريء [في البقرة]، والهاء في ﴿بِهِ﴾ للإثم أو للخطيئة، لأن معناها الإثم، أو لهما جميعا، وقيل: ترجع إلى الكسب.

3. ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ تشبيه، إذ الذنوب ثقل ووزر فهي كالمحمولات، وقد قال تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾، والبهتان من البهت، وهو أن تستقبل أخاك بأن تقذفه بذنب وهو منه برئ، وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته)، وهذا نص، فرمي البريء بهت له، يقال: بهته بهتا وبهتا وبهتانا إذا قال عليه ما لم يفعله، وهو بهات والمقول له مبهوت، ويقال: بهت الرجل (بالكسر) إذا دهش وتحير، وبهت (بالضم) مثله، وأفصح منهما بهت، كما قال الله تعالى: ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ لأنه يقال: رجل مبهوت ولا يقال: باهت ولا بهيت، قاله الكسائي.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/380.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا﴾ قيل: هما بمعنى واحد، كرر للتأكيد، وقال الطبري: إن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد، وقيل: الخطيئة: الصغيرة، والإثم: الكبيرة.

2. ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾ توحيد الضمير لكون العطف بأو، أو لتغليب الإثم على الخطيئة، وقيل: إنه يرجع إلى الكسب، ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وإِثْماً مُبِيناً﴾ لما كانت الذنوب لازمة لفاعلها كانت كالثقل الذي يحمل، ومثله: ﴿ولَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ﴾، والبهتان: مأخوذ من‏ البهت، وهو الكذب على البريء بما ينبهت له ويتحير منه، يقال: بهته بهتا وبهتانا: إذا قال عليه ما لم يقل، ويقال: بهت الرجل بالكسر: إذا دهش وتحير، وبهت بالضم، ومنه: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، والإثم المبين: الواضح.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/596.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَّكْسِبْ خَطِيئَةً﴾ صغيرة، ﴿اَوِ اِثْمًا﴾ كبيرة، أو الخطيئة ما لا عمد فيه، والإثم ما كان عمدًا، ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ﴾ أي: بواحد منهما؛ لأنَّ العطف بـ (أَوْ)، والمذكَّر يغلب على المؤنَّث، أو بالكسب المدلول عليه بـ (يَكْسِبْ)، كقوله تعالى: ﴿وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: 7]، أي: يرضى الشكر، ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]، أي: العدل أقرب، ولا حاجة إلى أن يقال: ومن يكسب خطيئة ثمَّ يرم بها بريئًا منها أو إثمًا ثمَّ يرم به أحدًا كطعمة.

2. (ثُمَّ) لتراخي الرتبة، فإنَّ البهتان أشدُّ مِنْ ظُلْمِ الإنسانِ نفسَهُ، والكذب محرَّم في جميع الأديان، ﴿بَرِيئًا﴾ منه كاليهوديِّ، ﴿فَقَدِ اِحْتَمَلَ﴾ تحمَّلَ ﴿بُهْتَانًا﴾ برميه، ﴿وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ بيِّـنًا بكسبه، وهو أشدُّ من كاسب إثمٍ بلا بَهْتٍ، فله عقوبتان؛ لأنَّ فيه تبرئة نفسه الخاطئة، ورمي البريء منها.

3. والبهت: الإيقاع في الحيرة والدهش، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (الغِيبَة ذكرُك أخاك بما يكره)، فقيل: (أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟)، قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اِغتَبْتَه، وإن لم يكن فيه فقد بَهتْـتَه)، ولا نسلِّم أنَّ همزة (إِثْم) عن واو، من وَثَم الشيءَ: كَسَرَه، والذنب يكسر الأعمال الصالحات، أي: يُحبِطها.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/283.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا﴾ الخطيئة الذنب، أو ما تعمد منه، والإثم الذنب أيضا، وأن يعلم ما لا يحل له (كذا في القاموس)، قال الراغب: الإثم أعم من العدوان، وقال غيره: هو فعل مبطئ عن الثواب.

2. ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ﴾ أي: يقذف به‏ ﴿بَرِيئًا﴾ أي: مما رماه به، كما اتهم بنو أبيرق بصنيعهم القبيح، ذلك الرجل الصالح، وهو لبيد بن سهل، كما تقدم، وقد كان بريئا.

3. ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا﴾ وهو الكذب على الغير بما يبهت منه‏ ﴿وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ أي بيّنا فاحشا، لأنه بكسب الإثم، آثم، وبرمي البريء باهت، فهو جامع بين الأمرين.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/327.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ يطلق العلماء الخطيئة والإثم والذنب والسيئة على المعصية، ولكل لفظ منها معنى في أصل اللغة يناسبه إطلاق القرآن، ولا يمكن أن يكون الإثم هنا بمعنى الخطيئة، ويقول الراغب: إن الإثم في الأصل اسم للأفعال المبطئة عن الثواب، أي مثل السكر والميسر لأنهما يشغلان صاحبهما عن كل عمل صالح ولذلك قال تعالى: ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: 219] وأما الخطيئة فظاهر أنها من الخطأ ضد الصواب، وصيغة فعلية تدل على معنى أيضا، فالخطيئة الفعلة العريقة في الخطأ لظهوره فيها ظهورا لا يعذر صاحبه بجهله، والخطأ قسمان أحدهما أن تخطئ ما يراد منك، وهو ما يطالبك به الشرع ويفرضه عليك الدين، أو ما جرى عليه العرف والعهد، ويدخل في القسم الثاني ويخطئه الفاعل من مطالب الشرع أي يتجاوزه ولو عمدا، ومن هنا جعلوا الخطيئة بمعنى المعصية مطلقا، وفسرها ابن جرير هنا بالخطأ والإثم بالعمد.

2. قال محمد عبده: الخطيئة ما يصدر من الذنب عن الفاعل خطأ أي من غير ملاحظة أنه ذنب مخالف للشريعة، والإثم ما يصدر عنه مع ملاحظة أنه ذنب، ويعني بالملاحظة تذكر ذلك وتصوره عند الفعل، وقال: إن عدم الملاحظة والشعور بالذنب عند فعله قد يكون سببه تمكن داعيته من النفس ووصولها إلى درجة الملكات الراسخة والأخلاق الثابتة التي تصدر عنها الأعمال بغير تكلف ولا تدبر، وهذا المعنى هو المراد هنا.

3. يصح أن يكون هذا البيان توجيها لقول من فسر الخطيئة هنا بالمعصية الكبيرة، والبهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه أي يحيره ويدهشه، والمعنى أن من يكسب خطيئة أو إثما ثم يبرئ نفسه منه أي مما ذكر ويرمي به بريئا أي ينسبه إليه ويزعم أنه هو الذي كسبه، فقد احتمل أي كلف نفسه أن يحمل وزر البهتان بافترائه على البريء واتهامه إياه ووزر الإثم البين الذي كسبه وتنصل منه، وقد فشا هذا بين المسلمين في هذا الزمان ومع هذا ينسب المارقون ضعفهم إلى دينهم، وإنما سببه ترك هدايته، فالحادثة التي نزلت هذه الآيات في إثر وقوعها كانت فذة في بابها وما زال المفسرون يجزمون بأن المسلمين الذين سرق أو خان بعضهم ونصره آخرون وبهتوا اليهودي برميه بجرمه وهو بريء لم يكونوا مسلمين إلا في الظاهر، وإنما هم منافقون في الباطن، لأن مثل هذا الإثم المبين، والبهتان العظيم، لا يكون من المؤمنين الصادقين، ولكن مثلها صار اليوم مألوفا، بل وجد في حملة العمائم من يفتي بجواز خيانة غير المسلمين، وأكل أموال المعاهدين والمستأمنين بالباطل، كما علمنا من واقعة حال استفتينا فيها ونشرت الفتوى في المنار، ونعوذ بالله من هذا الخذلان.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/291.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ أي ومن يكسب ذنبا خطأ بلا تعمد أو إثما يصدر عنه مع ملاحظة أنه ذنب ثم يبرئ نفسه وينسبه إلى بريء ويزعم أنه هو الذي كسبه فقد كلف نفسه وزر البهتان بافترائه على البريء واتهامه إياه، وقد فشا هذا بين المسلمين في هذا الزمان، ولم يكن لهذا من سبب إلا ترك هداية الدين وقلة الوازع النفسي والغفلة عن الأوامر والنواهي التي جاءت بها الشريعة.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/152.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تقرر الآية الكريمة تبعة من يكسب الخطيئة ثم يرمي بها البري‏ء.. وهي الحالة المنطبقة على حالة العصابة التي يدور عليها الكلام: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)﴾.. البهتان في رميه البريء والإثم في ارتكابه الذنب الذي رمى به البري‏ء.. وقد احتملهما معه، وكأنما هما حمل يحمل، على طريقة التجسيم التي تبرز المعنى وتؤكده في التعبير القرآني المصور.

2. بهذه القواعد الثلاث(2) يرسم القرآن ميزان العدالة الذي يحاسب كل فرد على ما اجترح، ولا يدع المجرم يمضي ناجيا إذا ألقى جرمه على سواه.. وفي الوقت ذاته يفتح باب التوبة والمغفرة على مصراعيه؛ ويضرب موعدا مع الله سبحانه في كل لحظة للتائبين المستغفرين، الذين يطرقون الأبواب في كل حين، بل يلجونها بلا استئذان فيجدون الرحمة والغفران!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/756.

(2) انظر تفسيره للمقطع السابق

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ تهديد ووعيد لأولئك الذين يكسبون الخطايا والآثام، ثم يلقون بها على الأبرياء، ويحمّلونهم تبعاتها، وذلك في هذه الحياة الدنيا، حيث لا يرى الناس منهم ما يرى الله، فيجدون في ذلك سبيلا إلى التخلص من جرائمهم.. وكلّا، فإن جرمهم قد سجله الله عليهم، وهو آخذهم به، ومجازيهم عليه، وهم إذا رموا بهذا الجرم غيرهم فقد اكتسبوا جرما آخر إلى جرمهم، إذ أصابوا بريئا، وجنوا على غير ذي ذنب! وبهذا صار جرمهم (مبينا) أي عظيما، ظاهرا لا يحتاج إلى من يكشف عنه.

2. والخطيئة: الوقوع في المعصية، والإثم: البغي، والعدوان، وهو الطريق إلى الوقوع في الخطيئة، والبهتان: هو الزور.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/894.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر الخطيئة والإثم هنا يدلّ على أنّهما متغايران، فالمراد بالخطيئة المعصية الصغيرة، والمراد بالإثم الكبيرة.

2. الرمي حقيقته قذف شيء من اليد، ويطلق مجازا على نسبة خبر أو وصف لصاحبه بالحقّ أو الباطل، وأكثر استعماله في نسبة غير الواقع، ومن أمثالهم (رمتني بدائها وانسلّت)، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ [النور: 4] وكذلك هو هنا، ومثله في ذلك القذف حقيقة ومجازا.

3. معنى‏ ﴿يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾ ينسبه إليه ويحتال لترويج ذلك، فكأنّه ينزع ذلك الإثم عن‏ نفسه ويرمي به البريء والبهتان: الكذب الفاحش، وجعل الرمي بالخطيئة وبالإثم مرتبة واحدة في كون ذلك إثما مبينا: لأنّ رمي البريء بالجريمة في ذاته كبيرة لما فيه من الاعتداء على حقّ الغير، ودلّ على عظم هذا البهتان بقوله: ﴿احْتَمَلَ﴾ تمثيلا لحال فاعله بحال عناء الحامل ثقلا، والمبين الذي يدلّ كلّ أحد على أنّه إثم، أي إثما ظاهرا لا شبهة في كونه إثما.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/251.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال سبحانه في المرتبة الكبرى من الشر: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا﴾ الخطأ هو العدول عن الجهة، وقد قال في تفسيره الأصفهاني في مفرداته: (الخطأ العدول عن الجهة، وذلك أضرب:

أ. أحدها: أن يريد غير ما تحسن إرادته، وهو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان، يقال خطئ‏ يخطأ خطأ، وخطأة، قال تعالى: ﴿إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً﴾ [الإسراء]، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ [يوسف‏]

ب. الثاني: أن يريد ما يحسن فعله، ولكن يقع منه خلاف ما يريد، فيقال: أخطأ، إخطاء، فهو مخطئ، وهذا قد أصاب في الإرادة، وأخطأ في الفعل، وهذا هو المعنى بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)، وبقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من اجتهد فأخطأ فله أجره)، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء]

ج. الثالث: أن يريد ما لا يحسن فعله، فيقع خلافه، فهذا يخطئ في الإرادة ومصيب في الفعل)

2. ومنها يتبين أن الخطأ الكامل ما يكون انحرافا في الإرادة، بأن يريد ما لا تصح إرادته، ويأثم بهذه الإرادة، ومن ذلك كلمة (خطيئة) فإنها تستعمل في كثير من آي القرآن فيمن يرتكب الشر، منحرف النفس، حتى أنه يصدر عنه من غير تكلف، ولا معاناة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة]، وقوله تعالى أيضا: ﴿وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا﴾ [نوح‏]، وكانت الخاطئة هي الذنب العظيم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ﴾ [الحاقة]

3. وعلى ضوء هذه المعاني نقول: إن الخطيئة هنا في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً﴾ هي الذنب العظيم، الذى تمرست به النفس، حتى صار وصفا من أوصافها، يصدر عنها من غير قصد، بل هو انحراف النفس التي أحاطت بها ظلمات الشر، والإثم هو الذنب المبطئ عن الاتجاه إلى الله بالاستغفار، وإن جريمة هؤلاء جريمتان:

أ. إحداهما ارتكاب الشر والإيغال فيه.

ب. الثانية أنهم يرمون البرآء به، ولذا قال تعالى: ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾، وإن هذه الجريمة تتضمن هي الأخرى في ثناياها جريمتين:

إحداهما ـ البهتان، وهو الكذب الذى لا يتصور عند أهل الخير وقوعه.

الثانية: إثم واضح، وهو إلقاء التبعة على الغير، إذ إنه كذب حير البريء وأذهله.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1853.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ ان من رمى غيره بجرم ليس فيه فإنه يعاقب عقاب المفتري المتعمد، سواء ارتكب هو الجرم، ولصقه بغيره عن قصد، وهذا ما يدل عليه لفظ الإثم، أم لم يرتكب أي جرم، ولكن رمى به بريئا قبل أن يتثبت، وهذا ما يدل عليه لفظ الخطيئة.. والغرض ان المرء لا يجوز له أن يدين غيره بشيء حتى يكون على يقين منه، تماما كالشمس.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/434.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ قال الراغب في المفردات: إن من أراد شيئا فاتفق منه غيره يقال: أخطأ وإن وقع منه كما أراده يقال أصاب، وقد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراد إرادة لا تجمل: إنه أخطأ، ولهذا يقال: أصاب الخطأ، وأخطأ الصواب، وأصاب الصواب، وأخطأ الخطأ، وهذه اللفظة مشتركة كما ترى، مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق أن يتأملها، قال والخطيئة والسيئة تتقاربان لكن الخطيئة أكثر ما تقال فيما لا يكون مقصودا إليه في نفسه بل يكون القصد سببا لتولد ذلك الفعل منه كمن يرمي صيدا فأصاب إنسانا، أو شرب مسكرا فجنى جناية في سكره، والسبب سببان: سبب محظور فعله كشرب المسكر وما يتولد عنه من الخطإ غير متجاف عنه، وسبب غير محظور كرمي الصيد، قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا﴾ فالخطيئة هاهنا هي التي لا تكون عن قصد إلى فعلها)

2. وأظن أن الخطيئة من الأوصاف التي استغني عن موصوفاتها بكثرة الاستعمال كالمصيبة والرزية والسليقة ونحوها، ووزن فعيل يدل على اختزان الحدث واستقراره، فالخطيئة هي العمل الذي اختزن واستقر فيه الخطأ والخطأ، الفعل الواقع الذي لا يقصده الإنسان كقتل الخطإ، هذا في الأصل، ثم وسع إلى ما لا ينبغي للإنسان أن يقصده لو كانت نفسه على سلامتها الفطرية، فكل معصية وأثر معصية من مصاديق الخطإ على هذا التوسع، والخطيئة هي العمل أو أثر العمل الذي لم يقصده الإنسان (ولا يعد حينئذ معصية) أو لم يكن ينبغي أن يقصده (ويعد حينئذ معصية أو وبال معصية)

3. لكن الله سبحانه لما نسبها في قوله: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً﴾ إلى الكسب كان المراد بها الخطيئة التي هي المعصية، فالمراد بالخطيئة في الآية هي التي تكون عن قصد إلى فعلها وإن كان من شأنها أن لا يقصد إليها.

4. مر في قوله تعالى:‏ ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ﴾ [البقرة: 219] أن‏ الإثم‏ هو العمل الذي يوجب بوباله حرمان الإنسان عن خيرات كثيرة كشرب الخمر والقمار والسرقة مما يصد الإنسان عن حيازة الخيرات الحيوية، ويوجب انحطاطا اجتماعيا يسقط الإنسان‏ عن وزنه الاجتماعي ويسلب عنه الاعتماد والثقة العامة.

5. وعلى هذا فاجتماع الخطيئة والإثم على نحو الترديد ونسبتهما جميعا إلى الكسب في قوله: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا﴾ يوجب اختصاص كل منهما بما يختص به من المعنى، والمعنى ـ والله أعلم ـ: أن من يكسب معصية لا تتجاوز موردها وبالا كترك بعض الواجبات كالصوم أو فعل بعض المحرمات كأكل الدم أو يكسب معصية يستمر وبالها كقتل النفس من غير حق والسرقة ثم يرم بها بريئا بنسبتها إليه فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا.

6. وفي تسمية نسبة العمل السيئ إلى الغير رميا ـ والرمي يستعمل في مورد السهم ـ وكذا في إطلاق الاحتمال على قبول وزر البهتان استعارة لطيفة كان المفتري يفتك بالمتهم البريء برميه بالسهم فيوجب له فتكه أن يتحمل حملا يشغله عن كل خير مدى حياته من غير أن يفارقه.

7. ومن ما تقدم يظهر وجه اختلاف التعبير عن المعصية في الآيات الكريمة تارة بالإثم وأخرى بالخطيئة والسوء والظلم والخيانة والضلال، فكل واحد من هذه الألفاظ هو المناسب بمعناه لمحله الذي حل فيه.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/76.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ قيل في تفسيرها: الخطيئة المعصية التي لم يتعمدها فاعلها والتي تعمدها، والإثم ما تعمده صاحبه، وقيل: الخطيئة: ما تخص فاعلها كترك الصلاة والإثم ما يتعداه إلى غيره، وقيل: الخطيئة الصغيرة والإثم الكبيرة، وهذا فيه إشكال؛ لأنه إن أراد بالصغيرة الخطأ فقد جعل في آخر الآية الإثم المبين هذه المعصية فهو متناقض، وإن أراد بالصغيرة بعض العمد على القول بذلك، فليس اشتقاق الخطيئة من الخطأ الذي هو ضد العمد، فمن أين سمي الصغير بهذا المعنى خطيئة!؟ وقد قال تعالى في قوم نوح: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا﴾ الآية [نوح:25] وفي خطيئاتهم الشركُ وتكذيبُ رسولهم والدعوة إلى الشرك وهذه كبائر، والإشكال الوارد على هذا القول واردٌ على الأول؛ لأنه قال في تفسيرِ ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ ما معناه: أن البهتان الكذب والإثم فعله المعصية فهو مشكل مع جعل فعله المعصية يعم العمد والخطأ، والإشكال وقع بسبب تفسير الإثم المبين بالمعصية التي فعلها العاصي ورمى بها بريئاً، وهو بعيد لوجهين: الأول: أنه أدى إلى الإشكال المذكور، والثاني: أنه قد فرض وقوعه في أول الآية فكيف يخبر به في آخرها خبراً مبنياً على فرضِ وقوعه، فالراجح: أن قوله تعالى: ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ خاصٌ برمي البريء، معناه: برمي البريء احتمل إثمَ البهتان الذي هو الكذب؛ لأنه إثم ولو لم يكن رمياً لغيره بما فعل، كما ذكره الله تعالى في قوله: ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا﴾ [النساء:20] واحتمل برمي البريء إثماً مبيناً؛ لأنه ظلَمَه برميه وهو بريء.

2. أعتقد ـ والله أعلم ـ أنه تعالى قال في أول الآية: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا﴾ لِئَلا يتوَهَّم أن المراد في آخر الآية بالإثم المبين ذلك الفعل الذي هو متردد بين أن يكون خطيئة أو إثماً، فالحمد لله الذي بيَّن آياته وفصَّلها كما أنه بدأ بذكر فعله لها، لأن رميه لغيره بها مع كونه فاعلها دون الغير أشنع وأبلغ في القبح مما لو لم يكن هو الفاعل؛ ولذلك رتب عليه بقوله: ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ﴾ فأتى ب ﴿ثُمَّ﴾ لأنه أمر بعيد من حيث أنه لا يتوقع من فاعل المعصية إلا محاولة الستر، فأما رمي غيره بها بعد أن فعلها فذلك غير متوقع منه، فكان هذا كقول الشاعر:

çولا يكشف الغماء إلا بن حرة...يرى غمرات الموت ثم يزورهاé

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/164.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾، ليس للإنسان المؤمن أن يبرّئ نفسه باتهام غيره البريء بل عليه أن يتحمل مسئولية عمله بالالتزام بكل النتائج المترتبة عليه، من دون فرق بين أن يكون هذا البريء الذي يراد إلصاق التهمة به مسلما أو غير مسلّم، لأن القضية قضية المبدأ الذي يفرضه الإيمان كموقف في الحياة، وهو أنه لا يجوز معاقبة أيّ إنسان بريء بما لم يفعله، ولا يجوز اتهامه حتى لو لم تترتب عليه أية نتائج عملية؛ لأن ذلك كذب وظلم وبهتان، والإسلام لا يريد لمجتمعه أن يعيش فيه الناس تحت رحمة الاتهامات الكاذبة والعقد النفسية، والقوى المسيطرة، بل يريد للفرد، مهما كان دينه وعقيدته وموقعه الاجتماعي، أن يشعر بالأمن والطمأنينة تحت ظل العدل الذي يمارسه الحاكم والمحكوم، في حماية الحق أينما كان موقعه، وفي مواجهة الباطل أينما كان مجاله.

2. وبهذه الروح أراد الله لليهودي البريء أن يعيش في حماية الإسلام، من دون أن يكون ليهوديته أية صفة سلبية ضده في ميزان الحكم بالعدل، كما أراد للمسلّم السارق أن يأخذ حصته من العقوبة في خط العدل، من دون أن يكون لإسلامه أية صفة إيجابية في الحكم له بالباطل.

3. إن الإسلام يواجه الواقع في مجالات الحكم على أساس ما هو الحق والباطل، بعيدا عن أية نظرة إيجابية أو سلبية، فيمن له الحق أو فيمن عليه الحق.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/453.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية الكريمة تشير إلى خطورة خطيئة اتهام الناس الأبرياء، إذ تقول: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾، وقد قسمت هذه الآية الذنب الذي يرتكبه شخص وينسبها زورا إلى غيره، إلى قسمين: سمت الأوّل بالخطيئة، والثّاني بالإثم. وقد قال المفسّرون الكثير في شأن الفرق بين هذين النوعين من الذنب، وأقرب الأقوال إلى الذهن هو أنّ الخطيئة مشتقة من الخطأ، والذي يعني في الأصل: الزلل أو الذنب الذي يصدر دون قصد من صاحبه، ويكون أحيانا مشمولا بالكفارة والغرامة لكن معنى الخطيئة قد توسع تدريجيا، وأخذ يشمل كل ذنب سواء المتعمد أو غير المقصود، حيث أنّ روح الإنسان لا تحتمل الذنب ـ أكان عمدا أو عن غير عمد ـ وحين يصدر الذنب من الإنسان إنّما هو في الحقيقة نوع من الزلل والخطأ الذي لا يناسب مقامه كإنسان.

2. والنتيجة من هذا القول أنّ الخطيئة لها معنى واسع يشمل الذنب المتعمد والذنب الصادر عن غير عمد، أمّا كلمة (إثم) فتطلق عادة على الذنوب الصادرة عن عمد، وتعني ـ في الأصل ـ ذلك الشيء الذي يمنع الإنسان من عمل معين، ولما كانت الذنوب تحول دون وصول الخيرات إلى الإنسان فقد سميت (إثما)، نسبته إلى الغير زورا بمثابة رمي السهم صوب الهدف، وهذه إشارة إلى أنّه في حين أن تصويب السهم نحو إنسان آخر قد يؤدي إلى القضاء عليه، فإنّ رمي الإنسان البريء بذنب لم يقترفه يكون بمثابة رمية بسهم يقضي على سمعته التي هي بمنزلة دمه، وبديهي أنّ وزر وعاقبة هذا العمل تكونان في النهاية ـ وإلى الأبد ـ على عاتق الشخص الذي ينسب التهمة زورا إلى غيره، وأن عبارة (احتمل) الواردة في الآية تعني أخذ على عاتقه إنّما جاءت للدلالة على ثقل وبقاء هذه المسؤولية!

3. إنّ اتهام إنسان بريء يعتبر من أقبح الأعمال التي أدانها الإسلام بعنف، وإنّ‏ الآية المذكورة أخيرا التي وردت بهذا الشأن ـ بالإضافة إلى الروايات الإسلامية العديدة التي إلى جانبها ـ توضح رأي الإسلام الصريح عن هذا العمل، ينقل الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام عن أحد الحكماء أنّه قال: (أن البهتان على البريء أثقل من جبال راسيات)، ونقل عنه عليه السّلام قوله: (إذا اتهم المؤمن أخاه انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء) أي أن الإيمان يذوب ويزول من قلب المؤمن بسبب اتهامه لأخيه المؤمن، كما يذوب الملح في الماء ويزول عن النظر،فالتهمة والبهتان ـ في الحقيقة ـ هما أقبح أنواع الكذب، لأنّهما بالإضافة إلى احتوائهما لمفاسد الكذب، فإنّهما أيضا يحملان أضرار الغيبة، وهما كذلك من أسوأ أنواع الظلم والجور ولهذا السبب ‏يقول صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذا الخصوص: (من بهت مؤمنا أو مؤمنة أو قال فيهما ما ليس فيهما أقامه الله تعالى يوم القيامة على تل من نار حتى يخرج ممّا قاله)

4. وحقيقة الأمر أن إشاعة مثل هذا العمل الجبان ـ في أي محيط إنساني كان ـ يؤدي في النهاية إلى انهيار نظام العدالة الاجتماعية، واختلاط الحق بالباطل، وتورط البريء وتبرئة المذنب، وزوال الثقة من بين الناس.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/441.

104. الاعتصام بالله والمضللون

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈104⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾ يعني به: الإسلام، والقرآن ﴿لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ يعني: من ثقيف ﴿أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ وذلك أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: يا محمد، قد جئناك نبايعك على أن لا حشر، ولا بعث، ولا نكسر أصناما بأيدينا، على أن تمتعنا بالعزى سنة، فلم يجبهم إلى ذلك، وعصمه الله بمنه، وأخبره بنعمته عليه أنه في حفظه وكلاءته، فلا يخلص إليه أمر يكرهه، فقال: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ يعني: وفد ثقيف، ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ يعني: لا يستطيعون أن يزيلوا عنك النبوة وقد جعلك الله لها أهلا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، يعني: الأحكام(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللهِ﴾ أي: من الله ﴿عَلَيْكَ﴾ بالنبوة ﴿عَظِيمًا﴾(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/٣٨٣.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾ لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ﴾ قوم طعمة(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٦٨.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾، قال علمه الله بيان الدنيا والآخرة، بين حلاله وحرامه ليحتج بذلك على خلقه(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٦٤.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ثم قال لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾ يعني: ونعمته بالقرآن حين بين لك أمر طعمة، فحولك عن تصديق الخائنين بالقرآن؛ ﴿لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ يقول: لكادت طائفة من قوم الخائنين أن يستنزلوك عن الحق، ﴿وَمَا يُضِلُّونَ﴾ يعني: وما يستنزلون ﴿إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ يعني: وما ينقصونك من شيء ليس ذلك بأيديهم، إنما ينقصون أنفسهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ من أمر الكتاب، وأمر الدين(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٠٦.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ يحتمل وجوها:

أ. قال أكثر أهل التأويل: نزلت هذه الآية في شأن طعمة الذي سرق درع جار له بالذي سبق ذكره، وقالوا: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ﴾، أي: يخطئوك، وليس هو الإضلال في الدِّين، ولكن إن كان كما قالوا فهو تخطئة الحكم.

ب. ويحتمل قوله: ﴿أَنْ يُضِلُّوكَ﴾، أي: يجهلوك في حكم السرقة، ويجوز أن يكون جاهلا في سرقته؛ لمَّا لم يدر أنه سرق، وكان يصدقه في الحكم أنه لم يسرق؛ لأنه إنما كان يعلم الأشياء بالوحي، ثم أعلم أنه قد سرق.

ج. ويحتمل: أن تكون الآية في الكفار كلهم؛ لأن الكفرة والمنافقين لم يزل كانوا يريدون أن يضلوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الهدى، ويصرفوه عنه؛ كقوله تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾، وكقوله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا﴾

د. ثم يحتمل قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾؛ حيث عصمك بالنبوة؛ وإلا لأضلوك عن سبيل الله: الهدى، وهو كقوله عز وجل: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ﴾ أي: بالعصمة، ﴿لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾

هـ. الثاني: ولولا فضل الله عليك ورحمته؛ حيث أعلمك بالحكم في ذلك، وبصّرك به بالوحي، وصرفك عن تصديق ذلك الخائن، إن ثبت ما قالوا؛ وإلا لهموا أن يخطئوك ويجهلوك فيه.

1. ثم في الآية نقض قول المعتزلة؛ لأنه مَنَّ على رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه عصمه، وهم يقولون: كان عليه أن يعصمه، وهو كان يستحق ذلك قبله، فلو كان عليه ذلك لم يكن للامتنان عليه بذلك معنى؛ إذ فعلَ ما كان عليه أن يفعل؛ على زعمهم، ومن فعل فعلا عليه ذلك ـ لم يقل إنه تفضَّلَ؛ دل أنه ليس كما قالوا، وبالله التوفيق والعصمة.

2. قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ يخرج على وجهين:

أ. أحدهما: يكفهم عما هموا.

ب. الثاني: يعصمه عما راموا فيه أن يظفروا منه بعد أن أظهروا ما طلبوا.

3. قوله تعالى: ﴿يُضِلُّوكَ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يجهلوك الحكم بالتلبيس وأنواع التمويه يرجع ذلك إلى نازلة.

ب. الثاني: أن يكون بالإضلال عن السبيل والحيل في الصرف عن الحق، وهذا هو الذي لم يزل أعداء الله يقصدون برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبجميع أهل الخير؛ فكفهم بوجهين، يتوجه كل وجه إلى وجهين:

أحدهما: ظواهر الأسباب من الوحي والآيات.

وكذا في كفهم مرة بالقتال والأسباب الظاهرة، ومرة باللطف والعصمة، وسمى ذلك فضلا ورحمة؛ ليعرف أن ذلك فضله لا حقًّا قبله؛ إذ ليس بذل الحقوق يُعَد في الفضائل.

4. ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ لا أحد يقصد قصد إضلال نفسه؛ لكن لما رجع حاصل ذلك الإضلال إلى أنفسهم كأنهم أضلوا أنفسهم.

5. ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾، أمَّن رسوله عن ضرر أُولَئِكَ؛ كقوله تعالى: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾

6. ﴿وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ قد ذكرناه في غير موضع.

7. ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ من الحلال والحرام والأحكام كلها، وغير ذلك؛ كقوله: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾، فهو كذلك كان.

8. ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ فيما علمك من الأحكام، وعصمك بالنبوة والرسالة، وصرف عنك ضرر الأعداء.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٥٨.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى الآية أنه لولا أنه تعالى تفضل عليك يا محمد فعصمك بتوفيقه وبيانه لك أمر هذا الخائن حتى كففت عن الجدال عنه‏ ﴿لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ﴾ ومعناه لقد همت فرقة منهم، بتقدير (قد) ذكره الفراء، ويعني بالفرقة التي همت من الخائبين أنفسهم‏ ﴿أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ بمعنى يزلوك عن الحق، ويخطئوك، وقيل: يهلكوك بتلبيسهم أمر الخائن عليك وشهادتهم عندك بانه بريء مما ادعي عليه.

2. ﴿وَمَا يُضِلُّونَ﴾ هؤلاء الذين هموا باضلالك عن الواجب في أمر هذا الخائن‏ ﴿إِلَّا أَنْفُسُهُمْ﴾، واضلالهم أنفسهم كان بأن الله لما كان قد بين لهم ما ينبغي أن يعملوا عليه من المعاونة على البر والتقوى، والّا يتعاونوا على الإثم، والعدوان: فلما عدلوا عن ذلك وتعاونوا على الإثم والعدوان، فكانوا بذلك مضلين أنفسهم عن طريق الحق.

3. ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ يعني هؤلاء الذين هموا بإضلالك، لا يضرونك، لان الله قد يثبتك ويسددك في أمورك، ويبين لك أمر المحق والمبطل.

4. ﴿وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ معناه ومن فضل الله عليك يا محمد، ما تفضل به عليك، انزاله عليك الكتاب الذي هو القرآن، وفيه تبيان كل شيء وهدى وموعظة وانزل عليك الحكمة مضافة إلى الكتاب، وهي بيان ما ذكره في الكتاب مجملا من أحكام الكتاب: من الحلال والحرام، والامر والنهي‏ ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ من خبر الأولين والآخرين وما كان وما هو كائن، وكل ذلك من فضل الله.

5. ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ يعني لم يزل فضل الله عليك يا محمد عظيماً، فاشكره على ما أولاك من نعمه وإحسانه، قال الجبائي: وفي الآية دلالة على أن التسمية بالضلال لا تسمى اضلالًا، لأنه لو كان ذلك صحيحاً، لكانوا قد أضلوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث نسبوه إلى الضلال وقد نفى الله عنه ذلك، وهذا ليس بصحيح لأمرين:

أ. أحدهما: انهم ما سموه بهذا الفعل ضالًا، وانما قصدوا التمويه، والتلبيس عليه، فلما كشف الله تعالى ذلك بطل غرضهم.

ب. والثاني: ان من قال إن الضلال يكون بمعنى التسمية لم يقل: إنه لا يكون إلا كذلك، لان الإضلال على وجوه مختلفة: بمعنى التسمية، وغير ذلك مما بيناه فيما تقدم، والإضلال يكون بمعنى الدفن قال النابغة:

çوآب مضلوه بغير جلية...وغودر بالجولان جرم ونائل‏é

يعني دافنوه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/325.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الهَمُّ: ما هممت، وكذلك الهمة، والهُمام: الملك العظيم الهمة.

ب. الإضلال: أصله الإهلاك بالعدول عن طريق النجاة إلى طريق الهلاك.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت في بني أبيرق لما أتوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وشهدوا [ببراءة] صاحبهم، ورموا اليهودي بالسرقة حتى هَمَّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقبول قولهم، فنزلت الآية، عن أبي صالح عن ابن عباس.

ب. وقيل: نزلت في وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقالوا: جئناك نبايعك على ألا نحشر ولا نكسر أصنامًا بأيدينا وعلى أن نتمتع بالعزى سنة، فلم يجبهم إلى ذلك، وعصمه الله عنه، عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس.

3. بَيَّنَ تعالى فضله ولطفه برسوله أن صرف عنه كيدهم وعصمه من الميل إلى قولهم في الذب عن الخائنين، فقال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾:

أ. قيل: فضله: النبوة، ورحمته: نصرته بالوحي حتى حكم بالعدل دون ما أراد قوم طعمة، عن الأصم.

ب. وقيل: هو تأييده بألطافه ونعمه، عن أبي علي.

ج. وقيل: هو الإسلام والقرآن.

د. وقيل: حراسته وحفظه وصرف كيد المنافقين عنه، عن أبي مسلم.

4. ﴿لَهَمَّتْ﴾ أصرت وقصدت ﴿طَائِفَةٌ﴾ جماعة ﴿مِنْهُمْ﴾ من هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تقدم ذكرهم ﴿أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ عن الحق، فيه أقوال:

أ. الأول: قيل: هم الَّذِينَ شهدوا للخائنين من بني أبيرق بالبراءة، عن ابن عباس والحسن وأبي علي، يعني همت جماعة أن يزيلوك عن الحق بشهادتهم للخائن حتى أطلع الله رسوله على أسرارهم، وقيل: كانوا مسلمين، عن الحسن، وقيل: كانوا كافرين، عن أبي علي.

ب. الثاني: وفد ثقيف التمسوا منه ما لا يجوز، عن ابن عباس.

ج. الثالث: لولا فضل الله عليك ولطفه لهمّ المنافقون إضلالك وإدخالك في الكفر معهم، عن الأصم.

د. الرابع: لولا حفظه لهمت طائفة من المنافقين أن يضلوك يهلكوك ومثله ﴿وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾، وهو ما روي أن طائفة من المنافقين هموا بقتله حتى صرف الله عنه كيدهم، ذكر الوجهين أبو مسلم، وقيل: أن يضلوك دعوك إلى الخطأ في الحكم، عن الأصم.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾:

أ. قيل: أي ما يزيلون عن الحق إلا أنفسهم.

ب. وقيل: وما يهلكون إلا أنفسهم، والمعنى: أن وبال ما هموا به من الإضلال والإهلاك يعود عليهم حين لم يضرك شيء واستحقوا العذاب الدائم.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾:

أ. قيل: لا يضرونك بشهادة؛ لأن الله تعالى يسددك في أمورك، ويبين لك ما أضمروا حتى لا تجيبهم إلى ما التمسوا.

ب. وقيل: هم وفد ثقيف لم يضروه بما التمسوا؛ لأنه ثبت بلطف الله فلم يجبهم إلى ذلك.

ج. وقيل: هم المنافقون هموا بالفتك به فدفع الله عنه.

د. وقيل: هم الكافرون لا يضرونك في دينك وإزالة نبوتك؛ لأنه تعالى يؤيدك.

7. ﴿وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ يعني: ومن فضله أنزل عليك قيل: الكتاب: القرآن، والحكمة: ما فيه من الأحكام، وقيل: الحكمة: السنة، وقيل: كيف يضلونك، وهو ينزل عليك الكتاب ويوحي إليك بالأحكام!؟

8. ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾:

أ. قيل: من الشرائع.

ب. وقيل: من أخبار الأولين والآخرين وما كان وما يكون.

9. ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾:

أ. قيل: فضله عليك ـ منذ خلقك إلى أن بعثك ـ عظيم.

ب. وقيل: عظيم حيث جعلك خاتم النبيين وسيد المرسلين، وأعطاك الشفاعة وغيرها.

10. قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي في رواية قتيبة: (فسوف يؤتيه) بالياء ردوا الكناية إلى اسم الله تعالى، والباقون بالنون والتفخيم.

11. تدل الآية الكريمة على:

أ. اللطف؛ لأنه تعالى بَيَّنَ أنه لولا فضله لهمّوا أن يضلوه، فَبَيَّنَ أنه لم يقع منهم ما هموا به للطفه وفضله.

ب. أن فاعل المعصية يضر بنفسه؛ لأن وباله يعود عليه.

ج. أن أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره.

د. أن الذي يدعو إلى الضلال هو المضل، وأن فاعل الضلالة مضل لنفسه، ولو كان ذلك خلقًا له تعالى لكان هو المضل للجميع، تعالى الله عن ذلك.

هـ. أن الدعاء إلى الضلال يسمى إضلالاً.

و. يدل قوله: ﴿وَأَنْزَلَ﴾ على حدث القرآن لصحة إنزاله.

ز. أن سنة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صادرة عن الوحي؛ لأنه المراد بالحكمة.

ح. لا يدل قوله: ﴿وَعَلَّمَكَ﴾ على قول أصحاب المعارف، ولأن المراد عَلَّمَك بالوحي ونصب الأدلة عليه.

12. مسائل لغوية ونحوية:

أ. في موضع ﴿مِنْ﴾ من الإعراب في قوله: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ ثلاثة أوجه:

الأول: موضعها جر على الإتباع لـ الكثير)، يعني: لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة، كقولك: لا خير في القوم إلا في نفر منهم، وتكون النجوى ههنا بمعنى المتناجين، نحو ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾

الثاني: أن تكون نصبًا على الاستثناء المنقطع، كأنه قيل: ليكن من أمر بصدقة أو كذا ففيه خير.

الثالث: أدت تكون رفعًا على قول الشاعر:

çوَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أنيِسُ...إِلَّا الْيَعَافِيُر وَإِلَّا العيسُé

لأنه جعلها أنيس ذلك المكان، فكذلك جعل من أمر بصدقة نجوى الخير على الاتساع، ويجوز وجه آخر في الجر، وهو أن يكون محمولاً على المعنى، كأنه قيل: لا خير في نجوى كثير منهم إلا نجوى من أمر بصدقة، فيكون مردودًا على الكثير، والنجوى بمعنى المصدر، والجر أولى؛ لأن حمل الكلام على الاتصال أولى من الانقطاع، إذا لم يخل بالمعنى.

ب. ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ﴾:

قيل: استثناء حقيقي تقديره: لا خير في نجوى الناس إلا في نجوى الآمرين بالمعروف والصدقة.

وقيل: منقطع بمعنى: لكن من أمر بصدقة، عن أبي مسلم.

وقيل: تقديره: لا خير في هَؤُلَاءِ المتناجين إلا متناجيا في أمر بصدقة.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/67.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الهم: ما هممت به، ومنه الهمة، والهمام: الملك العظيم الهمة.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل نزلت في بني أبيرق، وقد مضت قصتهم، عن أبي صالح، عن ابن عباس.

ب. وقيل: نزلت في وفد من ثقيف، قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقالوا: يا محمد! جئناك نبايعك على أن لا نكسر أصنامنا بأيدينا، وعلى أن نمتع بالعزى سنة، فلم يجبهم إلى ذلك، وعصمه الله منهم، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس.

3. بين سبحانه لطفه برسوله، وفضله عليه، إذ صرف كيدهم عنه، وعصمه من الميل إليهم فقال: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾:

أ. قيل: فضل الله النبوة، ورحمته نصرته إياه بالوحي.

ب. وقيل: فضله تأييده بألطافه، ورحمته: نعمته، عن الجبائي.

ج. وقيل: فضله النبوة، ورحمته العصمة.

4. ﴿لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ لقصدت وأضمرت جماعة من هؤلاء الذين تقدم ذكرهم.

5. في قوله تعالى: ﴿أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ أقوال:

أ. أحدها: إن المعني بهم الذين شهدوا للخائنين من بني أبيرق بالبراءة، عن ابن عباس، والحسن، والجبائي، فيكون المعنى: همت طائفة منهم أن يزيلوك عن الحق، بشهادتهم للخائنين، حتى أطلعك الله على أسرارهم.

ب. ثانيها: إنهم وفد ثقيف الذين التمسوا من رسول الله ما لا يجوز، وقد مضى ذكرهم، عن ابن عباس أيضا.

ج. ثالثها: إنهم المنافقون الذي هموا بإهلاك النبي، والمراد بالإضلال القتل والإهلاك كما في قوله تعالى: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾ فيكون المعنى: لولا حفظ الله تعالى لك، وحراسته إياك، لهمت طائفة من المنافقين أن يقتلوك ويهلكوك، ومثله: وهموا بما لم ينالوا، عن أبي مسلم.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾:

أ. قيل: أي: وما يزيلون عن الحق إلا أنفسهم.

ب. وقيل: ما يهلكون إلا أنفسهم، ومعناه: إن وبال ما هموا به من الإهلاك والإذلال، يعود عليهم حتى استحقوا العذاب الدائم.

7. ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ أي: لا يضرونك بكيدهم ومكرهم شيئا، فإن الله حافظك، وناصرك، ومسددك، ومؤيدك.

8. ﴿وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ أي: القرآن والسنة، واتصاله بما قبله أن المعنى كيف يضلونك وهو ينزل عليك الكتاب، ويوحي إليك بالاحكام ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ أي: ما لم تعلمه من الشرائع وأنباء الرسل الأولين، وغير ذلك من العلوم ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ قيل: فضله عليك منذ خلقك إلى أن بعثك عظيم، إذ جعلك خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وأعطاك الشفاعة وغيرها.

9. قرأ (فسوف يؤتيه) بالياء: أبو عمرو، وحمزة، وقتيبة، والكسائي، وسهل، وخلف، والباقون: بالنون.. من قرأ بالياء فلما تقدمه من قوله: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ﴾ وأنزل عليك الكتاب، ومن قرأ بالنون فلانه أشبه بما بعده من قوله: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾

10. ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ﴾ يجوز أن يكون ﴿مِنَ﴾ في موضع جر، المعنى إلا في نجوى من أمر، ويجوز أن يكون استثناء ليس من الأول، ويكون موضعها نصبا، ويكون معناه لكن من أمر بصدقة أو معروف، ففي نجواه خير ونصيب، ابتغاء مرضاة الله، لأنه مفعول له، ويجوز أن يكون ﴿مِنْ أَمْرِ﴾ مجرور الموضع أيضا، على اتباع لكثير بمعنى: لا خير في كثير إلا فيمن أمر بصدقة، كما يقال: لا خير في القوم إلا نفر منهم، ويكون النجوى هنا بمعنى المتناجين نحو قوله: ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾، ويجوز أيضا أن يكون استثناء حقيقيا على تقدير لا خير في نجوى الناس إلا نجوى من أمر، وهذا أولى مما تقدم من الاستثناء المنقطع لان حمل الكلام على الاتصال أولى، إذا لم يخل بالمعنى.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/165.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنها متعلّقة بقصّة طعمة وقومه، حيث لبّسوا على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر صاحبهم، هذا قول ابن عباس من طريق ابن السّائب‏.

ب. الثاني: أنّ وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: جئناك نبايعك على أن لا نحشر ولا نعشر، وعلى أن تمتّعنا بالعزّى سنة، فلم يجبهم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس في رواية الضّحّاك.

2. في المراد بفضل الله ورحمته قولان:

أ. أحدهما: النّبوّة والعصمة.

ب. الثاني: الإسلام والقرآن، رويا عن ابن عباس، قال مقاتل: لولا فضل الله عليك حيث بيّن لك أمر طعمة وحوّلك بالقرآن عن تصديق الخائن؛ لهمّت طائفة منهم أن يضلّوك، قال الفرّاء: والمعنى لقد همّت.

3. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ﴾ وقد همّت بإضلاله؟ والجواب: أنه لولا فضل الله، لظهر تأثير ما همّوا به، فأمّا الطّائفة، فعلى رواية ابن السّائب عن ابن عباس: قوم طعمة، وعلى رواية الضّحّاك: وفد ثقيف.

4. في الإضلال قولان‏:

أ. أحدهما: التّخطئة في الحكم.

ب. الثاني: الاستزلال عن الحقّ، قال الزجّاج: وما يضلّون إلا أنفسهم، لأنهم يعملون عمل الضّالّين، فيرجع الضّلال إليهم.

5. أما (الكتاب)، فهو القرآن، وفي (الحكمة) ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: القضاء بالوحي، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: الحلال والحرام، قاله مقاتل.

ج. الثالث: بيان ما في الكتاب، وإلهام الصّواب، وإلقاء صحّة الجواب في الرّوع، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

6. في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه الشّرع، قاله ابن عباس ومقاتل.

ب. الثاني: أخبار الأوّلين والآخرين، قاله أبو سليمان.

ج. الثالث: الكتاب والحكمة، ذكره الماورديّ.

7. في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه المنّة بالإيمان.

ب. الثاني: المنّة بالنّبوّة، هذان عن ابن عباس.

ج. الثالث: أنه عامّ في جميع الفضل الذي خصّه الله به، قاله أبو سليمان.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/470.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَوْلا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ المعنى ولولا أن الله خصك بالفضل وهو النبوّة، وبالرحمة وهي العصمة لهمت طائفة منهم أن يضلوك، وذلك لأن قوم طعمة كانوا قد عرفوا أنه سارق، ثم سألوا النبي عليه السلام أن يدفع ويجادل عنه ويبرئه عن السرقة، وينسب تلك السرقة إلى اليهودي، ومعنى يضلوك أي يلقوك في الحكم الباطل الخطأ.

2. ﴿وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان وشهادتهم بالزور والبهتان، فهم لما أقدموا على هذه الأعمال فهم الذين يعلمون عمل الضالين.

3. في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ وجهان:

أ. الأول: قال القفال: وما يضرونك في المستقبل، فوعده الله تعالى في هذه الآية بادامة العصمة له مما يريدون من إيقاعه في الباطل.

ب. الثاني: أن المعنى أنهم وإن سعوا في إلقائك في الباطل فأنت ما وقعت في الباطل، لأنك بنيت الأمر على ظاهر الحال، وأنت ما أمرت إلا ببناء الأحكام على الظواهر.

4. قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ يحتمل وجهين:

أ. إن فسرنا قوله ﴿وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ بأن المراد أنه تعالى وعده بالعصمة في المستقبل كان قوله ﴿وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ مؤكدا لذلك الوعد، يعني لما أنزل عليك الكتاب والحكمة وأمرك بتبليغ الشريعة إلى الخلق فكيف يليق بحكمته أن لا يعصمك عن الوقوع في الشبهات والضلالات.

ب. وإن فسرنا تلك الآية بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان معذورا في بناء الحكم على الظاهر كان المعنى: وأنزل عليك الكتاب والحكمة وأوجب فيها بناء أحكام الشرع على الظاهر فكيف يضرك بناء الأمر على الظاهر.

5. ﴿وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً﴾، قال القفال: هذه الآية تحتمل وجهين:

أ. أحدهما: أن يكون المراد ما يتعلق بالدين، كما قال: ﴿ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ﴾ [الشورى: 52] وعلى هذا الوجه تقدير الآية: أنزل الله عليك الكتاب‏ والحكمة وأطلعك على أسرارهما وأوقفك على حقائقهما مع أنك ما كنت قبل ذلك عالما بشيء منهما، فكذلك يفعل بك في مستأنف أيامك لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك وإزلالك.

ب. الثاني: أن يكون المراد: وعلمك ما لم تكن تعلم من أخبار الأولين، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين ووجوه كيدهم ما تقدر به على الاحتراز عن وجوه كيدهم ومكرهم.

6. ثم قال: ﴿وَكانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً﴾ وهذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف الفضائل والمناقب وذلك لأن الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا القليل، كما قال: ﴿وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85] ونصيب الشخص الواحد من علوم جميع الخلق يكون قليلا، ثم انه سمى ذلك القليل عظيما حيث قال: ﴿وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ وسمى جميع الدنيا قليلا حيث قال قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ [النساء: 77] وذلك يدل على غاية شرف العلم.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/217.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾ ما بعد ﴿لَوْلَا﴾ مرفوع بالابتداء عند سيبويه، والخبر محذوف لا يظهر، والمعنى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾ بأن نبهك على الحق، وقيل: بالنبوءة والعصمة.

2. ﴿لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ عن الحق، لأنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يبرئ ابن أبيرق من التهمة ويلحقها اليهودي، فتفضل الله تعالى على رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن نبهه على ذلك وأعلمه إياه، ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ لأنهم يعملون عمل الضالين، فوباله [لهم] راجع عليهم، ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ لأنك معصوم.

3. ﴿وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ هذا ابتداء كلام، وقيل: الواو للحال، كقولك: جئتك والشمس طالعة، ومنه قول امرئ القيس: (وقد أغتدي والطير في وكناتها) فالكلام متصل، أي ما يضرونك من شي مع إنزال الله عليك القرآن، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ القضاء بالوحي، ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ يعني من الشرائع والأحكام، و﴿تَعْلَمُ﴾ في موضع نصب، لأنه خبر كان، وحذفت الضمة من النون للجزم، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/381.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿ولَوْ لا فَضْلُ الله عَلَيْكَ ورَحْمَتُهُ﴾ خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد بهذا الفضل والرحمة لرسول الله: أنه نبهه على الحق في قصة بني أبيرق، وقيل: المراد بهما: النبوّة والعصمة.

2. ﴿لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ أي: من الجماعة الذين عضدوا بني أبيرق كما تقدّم ﴿أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ عن الحق ﴿وما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ لأن وبال ذلك عائد عليهم ﴿وما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ لأن الله سبحانه هو عاصمك من الناس، ولأنك عملت بالظاهر ولا ضرر عليك في الحكم به قبل نزول الوحي، والجار والمجرور: في محل نصب على المصدرية، أي: وما يضرونك شيئا من الضرر.

3. ﴿وأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتابَ﴾ قيل: هذا ابتداء كلام، وقيل: الواو: للحال، أي: وما يضرّونك من شيء حال إنزال الله عليك الكتاب والحكمة، أو مع إنزال الله ذلك عليك.

4. ﴿وعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ معطوف على أنزل، أي: علمك بالوحي ما لم تكن تعلم من قبل ﴿وكانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً﴾ إذ لا فضل أعظم من النبوّة ونزول الوحي.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/596.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ﴾ يا محمَّد، ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾ بإعلامه إيَّاك بالوحي بما همَّ به طعمة وقومه، من تبرئة طعمة الخائن، أو بنو أبيرق وبهتِ اليهوديِّ، وهذا الإعلام فضل من حيث إنَّه زيادة على إنزال الحلال والحرام، إذ لم يُبقك على ما يجوز لك من العمل بالظاهر، كما تُعبِّد بالعمل به، ورحمة من حيث إنَّه إنعام عليك بالبيان، أو فضله بالنبوَّة ورحمته بالعصمة، أو فضله بالنبوَّة ورحمته بالوحي، أو فضله بالحفظ ورحمته بالحرس.

2. ﴿لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُم﴾ (مِنْ) للبيان، أي: طائفة هي هؤلاء المختانون المجادلون: قوم طعمة، أو المجادلون عن بني أبيرق، المجموع لا الجميع، أو الجميع بأن رضي من لم يبيِّت منهم وصوَّب فعلهم، ولم أجعلها للتبعيض بعود الضمير في (مِنْهُم) لقوله: ﴿الَّذِينَ يَخْتَانُونَ﴾ لأنَّ من اتَّصف بالاختيان كلُّهم همُّوا، اللهمَّ إِلَّا أن يُرَدَّ الهاءُ إلى قومه كلِّهم على أنَّهم لم يهمُّوا كلُّهم بل طائفة فقط، ولو لم يَجْرِ لهم ذكر لصحَّة المعنى، أو يعود الهاء إلى الناس كذلك، وقيل: المراد المنافقون إذ همُّوا أن يقتلوه صلّى الله عليه وآله وسلّم .

3. ﴿أَنْ يُّضِلُّوكَ﴾ أي: بأن يضلُّوك عن القضاء بما في نفس الأمر من أن السارق هو طعمة أو بنو أبيرق إلى الحكم بحسب الظاهر، وهو أنَّه اليهوديُّ، فهذا الإضلال بمعنى مطلق الإذهاب عن الشيء لا الإيقاع في الحرام؛ لأنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم لو حكم بالظاهر دون نزول الوحي لم يأثم.

4. وجواب لولا ينفى لثبوت شرطها، وهمُّهم بالإضلال ثابت غير منتف هنا، لأنَّهم همُّوا، فيجاب بأنَّ المعنى: لأثَّر فيك همُّهم، فاستعمل لفظ السبب في معنى المُسَبَّب، قيل: أو لهمت طائفة من الناس أن يضلُّوك عن دينك مطلقًا، لا في خصوص مسألة طعمة، وفيه أنَّ هذا الهمَّ واقع في مكَّة وفي المدينة، أو الجواب: (لأضلُّوك) محذوفا، و(لَهَمَّتْ) جواب قسم، أي: والله لهمَّت، وفيه أنَّه لا يقع جواب القسم ماضيًا متصرِّفًا مجرَّدًا عن (قد) إِلَّا قليلاً، ودعوى تقدير (قَدْ) تكلُّفٌ، وقد قيل: أراد قوم مبايعته على أن لا يكسروا أصنامهم بأيديهم، فلم يقبل منهم؛ لأنَّ ذلك بقاء على شائبة كفر، وقوم شرطوا أن يتمتَّعوا بالأصنام سنة، ولم يقبل منهم.

5. ﴿وَمَا يُضِلُّونَ﴾ الإضلالَ المهلِك، أو ما يضرُّون؛ لأنَّ الإضلال سبب للإهلاك، ﴿إِلَّآ أَنفُسَهُمْ﴾؛ لأنَّ وبال الإضلال عليهم، وما أثَّروا فيك، وأمَّا إذهابه عن القضاء بما في نفس الأمر لو أذهبوه عنه فليس بضارٍّ له، لأنَّا تعبّدناه بالظاهر.

6. ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ﴾ أي: شيئًا، أي: ضرًّا، ولو قضيت بما أحبُّوا من الحكم على اليهوديِّ؛ لأنَّه هو الظاهر، ولا ميل لك عن الحقِّ، ولا أكلِّفك الغيب، فكيف وقد أخبرك الله بالغيب وجريت عليه؟

7. ﴿وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ القرآن، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ سائر الوحي والآداب، ومن الإنزال إنزال الفهم على قلبه، أو الكتاب، والحكمة القرآن لأنَّه مكتوب وحكمة، ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ﴾ من الغيب مِمَّا سيكون، أو كان في الحال، أو في الأمم السابقة، وما في الصدور، فصرتَ معجِزًا به كما أعجزتهم بالقرآن، ومن الخير والشرِّ، ومن أمر الدِّين، وهو غير القرآن؛ لأنَّ القرآن ألفاظ، أو الحكمة: معاني القرآن، وما لم يعلم هو الغيب، ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ هو رسالة عامَّة تامَّة، خاتمة لا تعقبها نبوَّة ولا كتاب، والشفاعة العظمى، النجوى الخيِّرة، واتِّباع غير سبيل المؤمنين.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/283.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾ بإعلامك ما هم عليه بالوحي وتنبيهك على الحق‏ ﴿لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ برمي البريء والمجادلة عن الخائنين، يعني أسير ابن عروة وأصحابه، يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم وهم صلحاء برآء ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ لأن وباله عليهم‏ ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ لأنك إنما عملت بظاهر الحال وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك.

2. ولما أنزل تعالى فصل القضية وجلّاها لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، امتنّ عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال بقوله: ﴿وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ أي: القرآن والسنة ﴿وَعَلَّمَكَ﴾ من أمور الدين والشرائع‏ ﴿مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ أي: قبل نزول ذلك عليك، كقوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ﴾ [الشورى: 52] الآية، وقال تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ [القصص: 86]، ولهذا قال تعالى: ﴿وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ أي: فيما علمك وأنعم عليك، قال الرازيّ: هذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف الفضائل والمناقب.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/327.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن بين الله تعالى هذه الأحكام والحكم والمواعظ المنطبقة على تلك الواقعة، ووجه إلى كل من له شأن فيها ما يناسبه في سياق هذه القواعد العامة، خاطب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو الحاكم بين الخصمين فيها بقوله: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ﴾، أي لولا فضل الله عليك بالنبوة والتأييد بالعصمة، ورحمته لك ببيان حقيقة الواقعة، لهمت طائفة من الذين يختانون أنفسهم بالمعصية أو بمساعدة الخائن أن يضلوك عن الحكم العادل المنطبق على حقيقة القضية في نفسها، أي يضلوك بقول الزور وتزكية المجرم وبهت اليهودي البريء، لعلمهم أن الحكم إنما يكون بالظواهر، أو بمحاولة الميل إلى إدانة اليهودي توهما منهم أن الإسلام يبيح ترجيح المسلم على غيره ونصره ظالما أو مظلوما كما يعهدون في غيره من الملل، ولكنهم قبل أن يطمعوا في ذلك ويهموا به جاءك الوحي ببيان الحق، وإقامة أركان العدل، والمساواة فيه بين جميع الخلق، وقيل إن الآية نزلت في وفد ثقيف إذ قدموا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقالوا: جئنا لنبايعك على أن لا تكسر أصنامنا ولا تعشرنا، فردهم.

2. ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ بانحرافهم عن الصراط المستقيم الذي هداهم إليه الإسلام واتباع الهوى والتعاون عليه ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ وقد عصمك الله من الناس ومن اتباع الهوى في الحكم بينهم، وهذه الآية ناطقة بأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يجادل عنهم ولا أطمعهم في التحيز لهم قبل نزول الوحي ولا بعده بالأولى.

3. هذا ما ظهر لي الآن، وقد رجعت بعد كتابته إلى مذكراتي التي كتبتها في درس محمد عبده فإذا فيها ما نصه: كان الكلام في المختانين أنفسهم ومحاولتهم زحزحة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الحق، وقد أراد تعالى بعد بيان تلك الأوامر والنواهي وتوجيهها إلى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يبين فضله ونعمته عليه، قال محمد عبده: ولا يصح تفسير الآية بما ورد من قصة طعمة لأنه على ما روي قد همّ هو وأصحابه بإضلال النبي عن الحق الذي أنزله الله عليه، وهو تعالى يقول إنه بفضله ورحمته عليه قد صرف نفوس الأشرار عن الطمع في إضلاله والهمّ بذلك، وذلك أن الأشرار إذا توجهت إرادتهم وهممهم إلى التلبيس على شخص ومخادعته ومحاولة صرفه عن الحق فلابد له أن يشغل طائفة من وقته لمقاومتهم وكشف حيلهم وتمييز تلبيسهم وذلك يشغل المرء عن تقرير الحقائق وصرف وقت المقاومة إلى عمل آخر صالح نافع، ولذلك تفضل الله على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم ورحمه بصرف كيد الأشرار عنه حتى بالهم بغشه وزحزحته عن صراط الله الذي أقامه عليه.

4. ﴿وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ الكتاب: القرآن، والحكمة: فقه مقاصد الكتاب وأسراره ووجه موافقتها للفطرة وانطباقها على سنن الاجتماع البشري واتحادها مع مصالح الناس في كل زمان ومكان، ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ هو في معنى قوله تعالى: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾ [الشورى: 52] ولا دليل فيه على أن المراد به تعليمه الغيب مطلقا بل هو الكتاب والشريعة، وخصوصا ما تضمنته هذه الآيات من العلم بحقيقة الواقعة التي تخاصم فيها بعض المسلمين مع اليهودي.

5. ﴿وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ إذ اختصك بهذه النعم الكثيرة وأرسلك للناس كافة، وجعلك خاتم النبيين، فيجب أن تكون أعظم الناس شكرا له، ويجب على أمتك مثل ذلك ليكونوا بهذا الفضل خير أمة أخرجت للناس، وقدوة لهم في جميع الخيرات.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/328.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وبعد أن ذكر المختانين أنفسهم ومحاولتهم زحزحة الرسول صلوات الله عليه عن الحق، بين فضله ونعمته عليه فقال: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ أي إنه تعالى بفضله ورحمته عليك صرف نفوس الأشرار عن الطمع في إضلالك والهمّ بذلك، لأنه إذا توجهت همتهم إلى التلبيس على شخص ومحاولة صرفه عن الحق، احتاج إلى طائفة من الوقت لمقاومتهم وكشف حيلهم وتمييز تلبيسهم حتى تمحص الحقائق وينجلي الرشد من الغىّ، فيضيع وقت هو في أشد الحاجة إليه لصرفه في عمل نافع، ومن ثم تفضل على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم ورحمه بصرف كيد الأشرار عنه وزحزحته عن صراط الله الذي أقامه عليه.

2. والخلاصة ـ إنه لولا فضل الله عليك بالنبوة والتأييد بالعصمة ورحمته لك ببيان حقيقة الواقع لهمت طائفة منهم أن يضلوك عن الحكم العادل المنطبق على حقيقة القضية في نفسها، ولكنهم قبل أن يطمعوا في ذلك ويهموا به جاءك الوحى ببيان الحق وإقامة أركان العدل والمساواة فيه بين جميع الخلق.

3. ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ بانحرافهم عن الصراط السوىّ الذي هداهم الإسلام إليه‏ ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ وقد عصمك الله من الناس ومن اتباع الهوى في الحكم بينهم.

4. ﴿وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ علمت مما سلف أن الكتاب هو القرآن، والحكمة: فقه مقاصد الدين وأسراره ووجه موافقتها للفطرة وانطباقها على سنن الاجتماع البشرى ومصالح الناس في كل زمان ومكان.

5. ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ من الكتاب والشريعة، وخصوصا ما تضمنته هذه الآيات من العلم بحقيقة الواقعة التي تخاصم فيها بعض المسلمين مع اليهودي.

6. ﴿وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ إذ أرسلك للناس كافة، وجعلك خاتم النبيين، واختصك بنعم كثيرة ومزايا لا تدخل تحت حصر، فيجب أن تكون أعظم الناس شكرا له، كما يجب على أمتك مثل ذلك ليكونوا خير أمة أخرجت للناس قدوة لغيرهم في جميع الخيرات.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/153.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وأخيرا يمن الله على رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن عصمه من الانسياق وراء المتآمرين المبيتين؛ فأطلعه على مؤامراتهم التي يستخفون بها من الناس ولا يستخفون بها من الله ـ وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول ـ ثم يمتن عليه المنة الكبرى في إنزال الكتاب والحكمة وتعليمه ما لم يكن يعلم.. وهي المنة على البشرية كلها، ممثلة ابتداء في شخص أكرمها على الله وأقربها للّه: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾

2. إن هذه المحاولة ليست إلا واحدة من محاولات كثيرة، شتى الألوان والأنواع؛ مما بذله أعداء هذا الرسول الكريم ليضلوه عن الحق والعدل والصواب، ولكن الله سبحانه كان يتولاه بفضله ورحمته في كل مرة، وكان الكائدون المتآمرون هم الذين يضلون ويقعون في الضلالة.. وسيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حافلة بتلك المحاولات؛ ونجاته وهدايته؛ وضلال المتآمرين وخيبتهم، والله سبحانه يمتن عليه بفضله ورحمته هذه؛ ويطمئنه في الوقت ذاته أنهم لا يضرونه شيئا، بفضل من الله ورحمة.

3. وبمناسبة المنة في حفظه من هذه المؤامرة الأخيرة؛ وصيانة أحكامه من أن تتعرض لظلم بريء وتبرئة جارم، وكشف الحقيقة له وتعريفه بالمؤامرة.. تجيء المنة الكبرى.. منة الرسالة: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾ وهي منة الله على (الإنسان) في هذه الأرض، المنة التي ولد الإنسان معها ميلادا جديدا، ونشأ بها (الإنسان) كما نشأ أول مرة بنفخة الروح الأولى.

المنة التي التقطت البشرية من سفح الجاهلية، لترقى بها في الطريق الصاعد، إلى القمة السامقة، عن طريق المنهج الرباني الفريد العجيب.. المنة التي لا يعرف قدرها إلا الذي عرف الإسلام وعرف الجاهلية ـ جاهلية الغابر والحاضر ـ وذاق الإسلام وذاق الجاهلية.. وإذا كانت منة يذكر الله بها رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلأنه هو أول من عرفها وذاقها، وأكبر من عرفها وذاقها، وأعرف من عرفها وذاقها.. ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/757.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي:

1. المنافقون بما يزيّنون من الباطل، وما يموهون من الحجج، لضلالاتهم، وما يلفقون من الأدلة لأباطيلهم ـ يفسدون على كثير من الناس وجه الحق، ويختلونهم عن طريق الهدى، حين يخيّلون إليهم الباطل حقا، والضلال هدى.. وهم إذ يضلون الناس بهذا، إنما يضلون أنفسهم، ويوردونها موارد الهلاك، إذ جنوا على أنفسهم، أولا، بركوب الضلال، ثم جنوا على غيرهم، ثانيا، باستدعائهم إلى ركوب هذا الضلال معهم، وتزيينه لهم.. وقد كان من فضل الله سبحانه وتعالى على النبيّ أن عصمه من كيد هؤلاء المنافقين، ففضحهم، وفضح أساليبهم، وبهذا حرس الله النبيّ وحماه من هذا الكيد الذي كانوا يكيدون له!

2. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ﴾، والطائفة، هي الجماعة من هؤلاء المنافقين، وهي تمثّل رؤوس المنافقين، وأصحاب الرأي والتدبير فيهم..

3. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ ما يشعر بأن هؤلاء المنافقين لم يهمّوا بالسوء، إذ كان فضل الله علي النبي ورحمته به، وحراسته له، ممّا يحجز هؤلاء المنافقين عن أن يهمّوا، فضلا أن يبلغوا من النبي ما همّوا به، وما حدثتهم به أنفسهم من شر وعدوان! والواقع أنه كان من المنافقين هم وعزم على ركوب هذا المنكر نحو النبي، بل وقد خرج هذا الهمّ أحيانا إلى حيّز التنفيذ والعمل، فجاء منهم من يقول للنبيّ في غزوة الخندق: ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾.. ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾ وجاء منهم من يقول للنبيّ في غزوة تبوك: ﴿ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي﴾ [التوبة: 49] وقد أذن النبي لمن استأذنه منهم، فكان من الله هذا العتاب الرفيق للنبي الكريم: ﴿عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة: 43] فما تأويل هذا؟ والجواب: هو أن هذا الهمّ الذي كان من المنافقين، وما تبعه من تدبير وعمل، لم يؤثّر أثره في النبيّ، ولم يخرج به عن طريق الحق والعدل الذي أقامه الله عليه، وأن ما جنى المنافقون من نفاقهم هذا كان حسرة ووبالا عليهم في الدنيا والآخرة، إذ فضحهم الله على الملأ، وفضح نفاقهم، وعرضهم للأعين عراة يجلّلهم الخزي والعار، وأنهم ودّوا لو لم يهمّوا ولم يفعلوا.. فكان همّهم‏ هذا الذي همّوه، وفعلهم ذلك الذي فعلوه، جناية على أنفسهم.. أما النبيّ فلم يخلص إليه من هذا الهمّ شيء وعلى هذا، كان الهمّ الذي همّوه بالنبيّ كأنه لا شيء بالنسبة له، إذا أفسده الله عليهم، وردّه إلى صدورهم.. فكأنهم همّوا ولم يهمّوا!

4. وفي هذا ما يشير إلى علوّ مقام النبيّ الكريم، وإلى قوة هذا الحصن الحصين الذي أقامه الله عليه في وجه المنافقين، بحيث لا يجرؤ أحد منهم أن تحدّثه نفسه ـ لو عرف مكانة هذا النبيّ ومكانه هو منه ـ أن يهجس في نفسه ـ مجرد هاجس ـ بمحاولة إنزاله ولو قيد شعرة من هذا المقام الكريم الذي رفعه الله إليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ أي، أيّ شيء من الضرر، فيما يتصل بدينك، أو مكانك من هذا الدّين!.

5. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ وفي عطف هذا الفعل على الفعل قبله: ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾.. في هذا كبت للمنافقين، وضربة قاصمة من ضربات الحسرة والكمد لهم.. فإنهم وقد أرادوا أن يفسدوا على النبيّ أمره، قد أفسدوا أنفسهم، ولم ينالوا من النبيّ شيئا، بل وأنزل الله عليه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم، حتى لكأن إنزال الكتاب والحكمة على النبيّ وتعليمه من الله ما لم يكن يعلم، قد جاء في أعقاب هذا المكر السيّئ الذي مكروه بالنبيّ ـ زيادة في تكريم النبيّ ومضاعفة لفضل الله عليه، وإمعانا في خزى المنافقين وكبتهم، وملء قلوبهم حسرة وندما، من حيث أرادوا الشرّ بالنبي، فكان أن أضعف الله فضله عليه، وغمره بإحسانه.. وهذا ما تشير إليه خاتمة الآية: ﴿وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ عطف على‏ ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء: 105]، والمراد بالفضل والرحمة هنا نعمة إنزال الكتاب تفصيلا لوجوه الحقّ في الحكم وعصمته من الوقوع في الخطأ فيه، وظاهر الآية أنّ همّ طائفة من الذين يختانون أنفسهم بأن يضلّون الرسول غير واقع من أصله فضلا عن أن يضلّوه بالفعل، ومعنى ذلك أنّ علمهم بأمانته يزعهم عن محاولة ترويج الباطل عليه إذ قد اشتهر بين الناس، مؤمنهم وكافرهم، أنّ محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم أمين فلا يسعهم إلّا حكاية الصدق عنده، وأنّ بني ظفر لما اشتكوا إليه من صنيع قتادة بن النعمان وعمّه كانوا يظنّون أنّ أصحابهم بني أبيرق على الحقّ، أو أنّ بني أبيرق لمّا شكوا إلى رسول الله بما صنعه قتادة كانوا موجسين خيفة أن يطلع الله رسوله على جليّة الأمر، فكان ما حاولوه من تضليل الرسول طمعا لا همّا، لأنّ الهمّ هو العزم على الفعل والثقة به، وإنّما كان انتفاء همّهم تضليله فضلا ورحمة، لدلالته على وقاره في نفوس الناس، وذلك فضل عظيم، وقيل في تفسير هذا الانتفاء: إنّ المراد انتفاء أثره، أي لولا فضل الله لضللت بهمّهم أن يضلّوك، ولكن الله عصمك عن الضلال، فيكون كناية، وفي هذا التفسير بعد من جانب نظم الكلام ومن جانب المعنى.

2. معنى: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ أنّهم لو همّوا بذلك لكان الضلال لا حقا بهم دونك، أي يكونون قد حاولوا ترويج الباطل واستغفال الرسول، فحقّ عليهم الضلال بذلك، ثم لا يجدونك مصغيا لضلالهم، و﴿مِنَ﴾ زائدة لتأكيد النفي، و﴿شَيْءٍ﴾ أصله النّصب على أنّه مفعول مطلق لقوله: ﴿يَضُرُّونَكَ﴾ أي شيئا من الضرّ، وجرّ لأجل حرف الجرّ الزائد.

3. جملة: ﴿وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ عطف على‏ ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾، وموقعها لزيادة تقرير معنى قوله: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾ ولذلك ختمها بقوله: ﴿وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾، فهو مثل ردّ العجز على الصدر، والكتاب: والقرآن، والحكمة: النبوءة، وتعليمه ما لم يكن يعلم هو ما زاد على ما في الكتاب من العلم الوارد في السنّة والإنباء بالمغيّبات.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/252.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إن هؤلاء، مع هذه الذنوب التي يرتكبونها، منافقون يظهرون غير ما يبطنون، وهم شر الجماعة الذين يسعون بالفساد في الأرض، وأن السعاية التي يرتكبونها بنفاقهم توجب قطعهم عن الأمة، ولقد أوجب بعض الفقهاء عقابهم، وإن هؤلاء يفسدون الحكام على شعوبهم، ويسعون في الأرض فسادا بجرمهم، وإن الله يحذر نبيه من أمثالهم، وهو قدوة حسنة لكل الحكام.

2. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ الضمير في قوله تعالى: ﴿لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ يعود على ما يفهم ضمنا من حال هؤلاء الذين أركست نفوسهم في الخطايا، حتى أصبحوا يقدمون عليها من غير قصد خاص إليها، كأن ذلك حال من أحوالهم، فهم منافقون يبتغون الفتنة في الذين آمنوا، وأول فتنة وأقوى فتنة هي التي تجى‏ء في الحكام، فتبعد ما بينهم وبين الأخيار من الأمة، ويتقرب بها الأشرار الذين يرتكبون الشر، ويرمون به الأبرياء.

3. معنى النص الكريم: إن أولئك المنافقين العصاة جريئون على رمى الأبرياء وتضليل الحكام، ولولا أن الله تعالى من عليك بفضله العميم، ورحمته الواسعة، لهمت طائفة منهم أن يجعلوك في ضلال بالنسبة لمن تحكمهم وتهديهم، فهم لم يهموا بذلك؛ لأنهم يعلمون فضل الله تعالى عليه بالوحى الذى يبين له الحق، ورحمته الواسعة التي يمن بها عليه وعلى قومه، فلا يكون منهم ما يعنتهم، كما قال تعالى في وصف نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة]

4. إن هؤلاء إذا حاولوا هذه المحاولة أو لم يحاولوها، واستمروا في غيهم يعمهون، فإنهم باستمرارهم في هذه الغواية يسيرون إلى أقصى المدى في الشر، فيبعدون عن الهداية، ولذلك لا يضلون إلا أنفسهم، فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لن يضل أبدا، وإنهم لا يضرونه بأي قدر من الضرر، ولا بأي نوع منه؛ لأن الله حافظه، وحافظ من اتبعوه إلى يوم القيامة.

5. وقد بين الله حصانه نبيه، إذ قال: ﴿وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ هداية كاملة بالرسالة، بينها الله سبحانه وتعالى بأن الكتاب أنزل عليه مبينا به الشريعة الحق التي لا يأتيها الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو يحكم بقانون القرآن، وعلمه الرسالة، وأنزل عليه الحكمة، وهي الفهم الصحيح، وفقه الوقائع، والمسائل: فلا يقضى إلا بالحق، وقد فسر الإمام الشافعي الحكمة بالسنة، وإن هذا التفسير له موضعه من الحق، فالله تعالى أنزل عليه الوحى بالسنة، فما كان ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى، وإنه يعلم القرآن، وبالحكمة التي أنزلها على قلبه، قد أنار الله بصيرته، فعلمه علما كثيرا لم يكن يعلمه، وكان فضله بهذه الرسالة، وبهذا القرآن، وبهذه الحكمة، وبهذا العلم النورانى الذى علمه إياه، عظيما لا حدود لعظمته.

6. وإن هؤلاء الذين يسعون في الأرض فسادا، كانوا يحاولون أن يضلوا النبي لولا كتاب الله الذى أنزل عليه، وحكمته التي أوحى بها إليه، وما علمه من علم، وأن أمثالهم في كل زمان، وهم أجرأ على الحكام؛ إذ لا هداية من السماء تنزل على الحاكمين، فلا حواجز تحجزهم عن السعاية بالشر، فعلى الحكام أن يأخذوا حذرهم منهم، ولا يجعلوا منهم ألسنة تحكى حال غيرهم، بل عليهم أن يقطعوها، والله من ورائهم محيط.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1853.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾، المراد بالطائفة الذين دافعوا وجادلوا عن السارق، وضمير منهم عائد على قومه وأنصاره، وان يضلوك، أي يخدعوك بلحن القول وصلاح المظهر، ولا يضلون الا أنفسهم، لأن محاولة الإضلال تستلزم الضلال، والمضل ضال وزيادة، والمعنى المحصّل ان فريقا من أنصار السارق وجماعته تآمروا على أن يخدعوك عن الحق، وحاولوا أن يحملوك على الوقوف إلى جانبهم في نصرة صاحبهم، وكدت تركن اليهم مغترا بما أظهروه لك من الصلاح، ولكن الله عصمك منهم، وأطلعك على مؤامرتهم، ورد كيدهم إلى نحورهم.

2. هذه الآية رد صريح على من زعم من المفسرين ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دافع وجادل عن الخائنين، فإن قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾، وقوله: ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾، لا يقبلان التأويل والشك في ان النبي لم يجادل عن السارق، ولم يبرئه من السرقة والخيانة، وان الذي فعل هذا غيره.

3. ﴿وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾، الكتاب القرآن، والحكمة هنا النبوة، وإذا وجب على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يشكر الله، حيث جعله خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وعلمه ما لم يكن يعلم فيجب على العرب أن يشكروا محمدا، حيث أصبحوا به شيئا مذكورا بعد جاهليتهم الجهلاء، ويشكروا الله، حيث جعل أشرف خلقه، دون استثناء منهم لا من غيرهم.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/434.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ﴾ إلى آخر الآية السياق يدل على أن المراد بهمهم بإضلال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو همهم أن يرضوه بالدفاع عن الذين سماهم الله تعالى في صدر الآيات بالخائنين والجدال عنهم وعلى هذا فالمراد بهذه الطائفة أيضا هم الذين عدل الله سبحانه إلى خطابهم بقوله: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وينطبق على قوم أبي طعمة على ما سيجيء وأما قوله: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ فالمراد به بقرينة قوله بعده‏ ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ إن إضلال هؤلاء لا يتعدى أنفسهم ولا يتجاوزهم إليك، فهم الضالون بما هموا به لأنه معصية وكل معصية ضلال، ولهذا الكلام معنى آخر تقدمت الإشارة إليه في الكلام على قوله: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ﴾ ﴿إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [آل عمران: 69]

2. أما قوله: ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ﴾ ففيه نفي إضرارهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نفيا مطلقا غير أن ظاهر السياق أنه مقيد بقوله: ﴿وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ على أن يكون جملة حالية عن الضمير في قوله: ﴿يَضُرُّونَكَ﴾ وإن كان الأغلب مقارنة الجملة الفعلية المصدرة بالماضي بقد على ما ذكره النحاة، وعلى هذا فالكلام مسوق لنفي إضرار الناس مطلقا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في علم أو عمل.

3. ﴿وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ ظاهر الكلام كما أشرنا إليه أنه في مقام التعليل لقوله: ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ أو لمجموع قوله: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ وكيف كان فهذا الإنزال والتعليم هو المانع من تأثيرهم في إضلاله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهو الملاك في عصمته.

4. كلام في معنى العصمة (2):

أ. ظاهر الآية أن الأمر الذي تتحقق به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبس بالمعصية والخطإ، وبعبارة أخرى علم مانع عن الضلال، كما أن سائر الأخلاق كالشجاعة والعفة والسخاء كل منها صورة علمية راسخة موجبة لتحقق آثارها، مانعة عن التلبس بأضدادها من آثار الجبن والتهور والخمود والشره والبخل والتبذير.

ب. والعلم النافع والحكمة البالغة وإن كانا يوجبان تنزه صاحبهما عن الوقوع في مهالك الرذائل، والتلوث بأقذار المعاصي، كما نشاهده في رجال العلم والحكمة والفضلاء من أهل التقوى والدين، غير أن ذلك سبب غالبي كسائر الأسباب الموجودة في هذا العالم المادي الطبيعي فلا تكاد تجد متلبسا بكمال يحجزه كماله من النواقص ويصونه عن الخطإ صونا دائميا من غير تخلف، سنة جارية في جميع الأسباب التي نراها ونشاهدها.

ج. والوجه في ذلك أن القوى الشعورية المختلفة في الإنسان يوجب بعضها ذهوله عن حكم البعض الآخر أو ضعف التفاته إليه كما أن صاحب ملكة التقوى ما دام شاعرا بفضيلة تقواه لا يميل إلى اتباع الشهوة غير المرضية، ويجري على مقتضى تقواه، غير أن اشتعال نار الشهوة وانجذاب نفسه إلى هذا النحو من الشعور ربما حجبه عن تذكر فضيلة التقوى أو ضعف شعور التقوى فلا يلبث دون أن يرتكب ما لا يرتضيه التقوى‏ ويختار سفساف الشره، وعلى هذا السبيل سائر الأسباب الشعورية في الإنسان وإلا فالإنسان لا يحيد عن حكم سبب من هذه الأسباب ما دام السبب قائما على ساق، ولا مانع يمنع من تأثيره، فجميع هذه التخلفات تستند إلى مغالبة التقوى والأسباب، وتغلب بعضها على بعض، ومن هنا يظهر أن هذه القوة المسماة بقوة العصمة سبب شعوري علمي غير مغلوب البتة، ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والإدراك لتسرب إليها التخلف، وخبطت في أثرها أحيانا، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم والإدراكات المتعارفة التي تقبل الاكتساب والتعلم.

د. وقد أشار الله تعالى إليه في خطابه الذي خص به نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: ﴿وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ وهو خطاب خاص لا نفقهه حقيقة الفقه إذ لا ذوق لنا في هذا النحو من العلم والشعور غير أن الذي يظهر لنا من سائر كلامه تعالى بعض الظهور كقوله: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [البقرة: 97]، وقوله: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: 195] أن الإنزال المذكور من سنخ العلم، ويظهر من جهة أخرى أن ذلك من قبيل الوحي والتكليم كما يظهر من قوله: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾ الآية [الشورى: 13]، وقوله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [النساء: 163]، وقوله: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأنعام: 50]، وقوله: ﴿إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأعراف: 203]

هـ. يستفاد من الآيات على اختلافها أن المراد بالإنزال هو الوحي وحي الكتاب والحكمة وهو نوع تعليم إلهي لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم غير أن الذي يشير إليه بقوله: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ ليس هو الذي علمه بوحي الكتاب والحكمة فقط فإن مورد الآية قضاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحوادث الواقعة والدعاوي التي ترفع إليه برأيه الخاص، وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشيء وإن كان متوقفا عليهما بل رأيه ونظره الخاص به.

و. ومن هنا يظهر أن المراد بالإنزال والتعليم في قوله: ﴿وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ نوعان اثنان من العلم، أحدهما التعليم بالوحي ونزول الروح الأمين على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم و، الآخر: التعليم بنوع من الإلقاء في القلب والإلهام الخفي الإلهي من غير إنزال الملك وهذا هو الذي تؤيده الروايات الواردة في علم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ز. وعلى هذا فالمراد بقوله: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ آتاك نوعا من العلم لو لم يؤتك إياه من لدنه لم يكفك في إيتائه الأسباب العادية التي تعلم الإنسان ما يكتسبه من العلوم.

ح. فقد بان من جميع ما قدمناه أن هذه الموهبة الإلهية التي نسميها قوة العصمة نوع من العلم والشعور يغاير سائر أنواع العلوم في أنه غير مغلوب لشيء من القوى الشعورية البتة بل هي الغالبة القاهرة عليها المستخدمة إياها، ولذلك كانت تصون صاحبها من الضلال والخطيئة مطلقا، وقد ورد في الروايات أن للنبي والإمام روحا تسمى روح القدس تسدده وتعصمه عن المعصية والخطيئة، وهي التي يشير إليها قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ [الشورى: 52] بتنزيل الآية على ظاهرها من إلقاء كلمة الروح المعلمة الهادية إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ونظيره قوله تعالى:‏ ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 73] بناء على ما سيجيء من بيان معنى الآية إن شاء الله العزيز أن المراد به تسديد روح القدس الإمام بفعل الخيرات وعبادة الله سبحانه.

ط. وبان مما مر أيضا أن المراد بالكتاب في قوله: ﴿وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ هو الوحي النازل لرفع اختلافات الناس على حد قوله تعالى:‏ ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ الآية [البقرة: 213] وقد تقدم بيانه، والمراد بالحكمة سائر المعارف الإلهية النازلة بالوحي، النافعة للدنيا والآخرة، والمراد بقوله: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ غير المعارف الكلية العامة من الكتاب والحكمة.

ي. وبذلك يظهر ما في كلمات بعض المفسرين في تفسير الآية، فقد فسر بعضهم الكتاب بالقرآن، والحكمة بما فيه من الأحكام، و﴿مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ بالأحكام والغيب‏ وفسر بعضهم الكتاب والحكمة بالقرآن والسنة، و﴿مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ بالشرائع وأنباء الرسل الأولين وغير ذلك من العلوم إلى غير ذلك مما ذكروه، وقد تبين وجه ضعفها بما مر فلا نعيد.

5. ﴿وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ امتنان على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/78.

(2) تقسيم الفروع هنا ليس منهجيا، وإنما من باب التبسيط فقط

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ ﴿مِنْهُمْ﴾ من الذين يختانون أنفسهم ظنوا أنهم يستطيعون أن يستميلوه إلى الباطل فهموا بذلك، فلولا ﴿فَضْلِ الله﴾ على النبي ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾ إياه لضل، وفضل الله ورحمته من جملته العصمة ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾؛ لأن همهم أن يضلوك ضلال منهم، وما يضرونك من شيء لأن الله عصمك.

2. ﴿وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ ﴿وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ فهداك بهما وثبتك على الهدى ﴿وَعَلَّمَكَ﴾ بهما ما لم تكن تعلم علماً نافعاً.

3. ﴿مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ بيان لعِظَم النعمة من الله عليه ﴿وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ من قبل إنزال الكتاب وفي حال إنزال الكتاب والحكمة والرسالة، فهو فضل عظيم؛ لأنه سبب الكرامة في الدنيا والآخرة والشرف الأبدي والسعادة في الآخرة والمقام المحمود والدرجة الوسيلة وغير ذلك، ويحتمل قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ الله﴾ أن جواب ﴿لَوْلَا﴾ قولُه تعالى: ﴿لَهَمَّتْ﴾ فيكون المعنى: إن فضل الله ورحمَتَه منعهم أن يهمُّوا بإضلال النبي ليأسهم من إمكان إضلاله وعلمِهم بقوة إيمانه وثباته على دينه، وذلك لأنهم راغبون في إضلاله ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ برغبتهم في ذلك والله أعلم.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/166.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هؤلاء الناس الذين يملكون مواقع اجتماعية، وحصلوا على الثقة لدى الناس في ظاهر أمرهم، ودخلوا في الإسلام؛ كانوا يحاولون بمختلف أساليبهم أن يصوروا الأمر للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كما لو كان حقيقة، من خلال البينات التي أقاموها والأجواء العاطفية التي أثاروها والضغوط النفسية التي حشدوها، والتي أرادوا من خلالها أن يقنعوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ببراءة السارق الحقيقي وجريمة البريء لينحرفوا بالقضية من خط الهدى إلى خط الضلال؛ ولكن الله يلهم نبيّه ـ في الحالات الصعبة التي تمثل جانبا من الخطورة في حركة الإسلام في الحياة ـ ويعرّفه واقع الأمور من خلال الغيب، ليكشف له وجه الحق، لأن الاعتماد على الوسائل العادية التي يتبعها القضاء الإسلامي من الإيمان والبينات، قد تخطئ السبيل إلى النتائج الحقيقية، فيما يملك الناس أمر التلاعب فيه؛ وربما كانت بعض المراحل لا تتحمل الخطأ الذي قد تتحمله مراحل أخرى، مما يستدعي التدخل الغيبي.

2. وهكذا أوحى الله لنبيه بالحق، فلم يستطع هؤلاء القوم أن ينحرفوا بحكم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن وجه الحق، ولكنهم هم الذين ضلوا بانحرافهم في شهاداتهم الباطلة، وفي دفاعهم عن المجرم واتهامهم للبري‏ء؛ وذلك من فضل الله ورحمته على رسوله وعلى الأمّة، كما كان من فضله عليه أن أنزل عليه الكتاب الذي يفصّل له حقائق الحياة، فيما تريد أن تبلغه من النمو والسمو والتقدم والسّلام، وأنزل عليه الحكمة، فيما يتحرك فيه من مواقف قيادية ونظرات عملية يضع فيها الأمور في مواضعها، وألهمه وعلّمه علم ما لم يكن يعلم من كل الأمور التي يحتاج إليها في رسالته من الناحية الفكرية والتطبيقية، ورفعه أعلى الدرجات؛ وكان فضل الله عليه عظيما.

3. قد نستوحي من هذه الآية أن على الإنسان، الذي يتحمل أية مسئولية في حياة الناس، أن ينتبه إلى هذه النماذج القلقة التي تعمل على تضليل القادة وإبعادهم عن خط العدل بمختلف الأساليب والوسائل الضاغطة، مما يدفعنا إلى التدقيق في طبيعة الطروحات التي يطرحونها والشهادات التي يشهدونها، ليكتشف الإنسان منها بعض الخفايا الدقيقة من وسائلهم، لا سيّما في المسائل التي تتصل بصورة العدالة الإسلامية، مما هو مماثل لهذه القضية التي نزلت هذه الآيات فيها؛ فإن الناس قد يتحمسون كثيرا لاتهام الأشخاص الذين يخالفونهم في العقيدة، أو في الاتجاهات المتنوعة التي تقسم الناس إلى فرق وشيع وأحزاب، كما يعملون على تبرئة الأشخاص المرتبطين بهم بأية صلة عاطفية أو فكرية أو غير ذلك..

4. ولا بد لنا ـ في الوقت ذاته ـ أن نثق بالله عندما نسير على الخط المستقيم، لنعرف أنه سينقذنا من ضررهم، فلا يأخذنا الرعب والهلع من مكانتهم الاجتماعية، في مواجهة كل خططهم الشيطانية بما يحفظ للعدل قوّته ودوره في حفظ مصالح الناس الحقيقية.

5. جاء في تفسير الميزان ـ للعلامة الطباطبائي ـ أن الآية وهي قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ تدل على العصمة من حيث إنها توحي بأن الله سبحانه وهب نبيه العصمة، وهي (سبب شعوري علميّ غير مغلوب البتّة، ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام‏ الشعور والإدراك لتسرّب إليها التخلّف، وخبطت في أثرها أحيانا، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم والإدراكات المتعارفة التي تقبل الاكتساب والتعلّم، وقد أشار الله تعالى إليه في خطابه الذي خصّ به نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: ﴿وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ وهو خطاب خاص لا نفقهه حقيقة الفقه، إذ لا ذوق لنا في هذا النحو من العلم والشعور، غير أن الذي يظهر لنا من سائر كلامه تعالى بعض الظهور كقوله: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [البقرة: 97]، وقوله: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: 193 ـ 195] أن الإنزال المذكور من سنخ العلم، ويظهر من جهة أخرى أن ذلك من قبيل الوحي والتكليم كما يظهر من قوله: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾ [الشورى: 13]، وقوله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [النساء: 163]، وقوله: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأنعام: 50]، وقوله: ﴿إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأعراف: 203]

6. نلاحظ أن دراستنا للآيات المماثلة لهذه الآية توحي بأنّ المراد من العلم الذي لم يكن يعلمه، هو ما قصه عليه من أخبار الأولين والكتاب والحكمة، بحيث تكون جملة ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ بمثابة التفسير للجملة الأولى، للإيحاء بأن ما أنزله الله عليه كان جديدا على وعيه العلمي، وهذا هو ما جاء في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ [هود: 49]، وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ [الشورى: 52] فإن الظاهر من الآيتين أنهما تتحدثان عن أن هذا العلم الذي وهبه الله لنبيه مما يتعلق بأنباء الغيب والكتاب والإيمان، لم يكن مما يعلمه النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل ذلك، أمّا تفسير كلمة ﴿رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ بروح القدس التي تسدده وتعصمه عن المعصية والخطيئة، فهو غير ظاهر من الآية، لا سيما أن الله جعلها موضوعا لوحيه، مما يدل على أنها من نوع المعرفة التي يلقيها الله بالوحي على نبيه من أمره الذي هو سرّه وشأنه، وعلى كل حال، فإنه لم يأت بدليل على أن هذا العلم الذي علّمه الله لنبيّه من الأمور التي لا نفقهها ولا ندركها، باعتبار أنها سرّ الله، الذي يختلف عن الكتاب والحكمة إلا من جهة العطف بالواو الذي يدل على التغاير، ولكنه ـ بقرينة الآيات الأخرى ـ ظاهر في العطف التفسيري لبيان نكتة مهمة، وهي أن ما أوحى به الله إليه لم يكن معلوما عنده.

7. أمّا الاستدلال عليه بأن مورد الآية، قضاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحوادث الواقعة والدعاوي التي ترفع إليه، برأيه الخاص، وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشيء وإن كان متوقفا عليها، بل هو رأيه ونظره الخاص؛ فهو غير دقيق، لأن رأيه الخاص ليس حالة ذاتية تنطلق من علم غيبيّ خفيّ لا يعلمه أحد، لأنه لا يحكم إلا بالوسائل الشرعية التي وضعها الله بين يديه مع مراعاة الخطوط التشريعية التي تمثل الأحكام المتصلة بالقضايا العامة والخاصة للناس، وهذا هو ما نستوحيه من‏ الحديث المأثور عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال‏: (إنما أقضي بينكم بالبينات والإيمان وبعضكم ألحن بحجته من بعض، فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا فإنما قطعت له به قطعة من النار)، مما يوحي بأن ما ذكره العلامة الطباطبائي حجة على اختلاف مدلول قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ عن الكتاب والحكمة، غير صحيح، لا سيما وأننا نعرف أن القضايا التي يختلف فيها الناس تتحرك في دلائلها من خلال الواقع‏ الخارجي الذي تتناثر فيه وقائع الأمور.

8. إننا نؤكّد عصمة النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن دوره الرسالي الذي ينطلق من إرادة الله له تغيير الإنسان على أساس الحق، لا يمكن أن يتناسب مع بناء شخصية الرسول على غير الحق، بحيث يمكن أن يعرض لفكره ولعمله.

9. إن الرسول ليس مجرد مصلح ينطلق من ذاته ليخضع للخطأ والصواب ذاتيا، بل هو الإنسان التغييري على قاعدة روحية الحق كله في الوعي والممارسة، أمّا الاستدلال عليها بهذه الآية، فهذا مما لا نفهمه منها ولا دلالة للفظ في الآية عليها، والله العالم.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/454.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآية الكريمة إشارة أخرى إلى حادثة (بني الأبيرق) التي تحدثنا عنها لدى تطرقنا إلى سبب النّزول في آيات سابقة، وهذه تؤكد أن الله قد صان النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بفضله ورحمته ـ سبحانه وتعالى ـ من كيد بعض المنافقين الذين كانوا يأتمرون به صلّى الله عليه وآله وسلّم ليحرفوه عن طريق الحق والعدل، فكانت رحمة الله أقرب إلى نبيّه فصانته من كيد المنافقين، حيث تقول الآية: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ﴾

2. لقد سعى أولئك المنافقون ـ من خلال اتهامهم لشخص بريء وجرّ النّبي وتوريطه في هذه الحادثة ـ إلى إلحاق ضربة بشخصية النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الاجتماعية والمعنوية أوّلا، وتحقيق مآربهم الدنيئة بحق إنسان مسلم بريء ثانيا، ولكنّ الله العزيز العليم كان لهم بالمرصاد، فصان نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم من تلك المؤامرة وأحبط عمل المنافقين.

3. ويذكر بعض المفسّرين سببا آخر لنزول هذه الآية وهو أنّ جماعة من قبيلة (بني ثقيف) وردوا على النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكروا له أنّهم مستعدون لمبايعته بشرطين:الأوّل هو أن يرغم أفراد هذه القبيلة على كسر أصنامهم بأيديهم، والثّاني أن يسمح النّبي لهم بأن يواصلوا عبادة صنمهم (العزى) لسنة واحدة أخرى! فنزل أمر الله على النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن لا يبدي أية مرونة أمام هؤلاء، حيث نزلت الآية المذكورة وأعلنت بأن فضل الله ورحمته قد شملت النّبي وصانته من تلك الوساوس.

4. بعد ذلك تذكر الآية أن هؤلاء القوم إنّما يرمون بأنفسهم في الضلالة ولا يضرّون بعملهم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئا، إذ تقول.. ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾

5. وأخيرا توضح الآية سبب عصمة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الخطأ والزلل والذنب، فتذكر أنّ الله أنزل على نبيّه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم من قبل:﴿وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ ثمّ تردف الآية ذلك بجملة: ﴿وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾

6. إنّ هذه الآية الأخيرة من الآيات التي تشير إلى عصمة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ارتكاب الخطأ والسهو والذنب، فتقول بأنّ العون الإلهي الذي شمل النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي صانه من الخطأ والضلالة التي كان يريد المنافقون أن يوقعوه فيهما، ولكنّهم وبفضل هذه المعونة الإلهية عجزوا عن تحقيق مآربهم، ولم يلحق النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أي ضرر نتيجة كيد المنافقين.

7. وهكذا فقد عصم الله نبيّه وصانه من كل خطأ أو سهو أو ذنب، كي يستطيع النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يصبح قدوة وأسوة للامّة الإسلامية ونبراسا لها في فعل الخيرات‏ والحسنات، وقد صانه الله العزيز القدير من عواقب كل خطأ يحتمل أن يقع فيه أي زعيم، لكي يبعد الأمّة الإسلامية عن الحيرة في قضية إطاعة الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وليجنبها التناقض بين فعلي الطاعة وعدمها، نعم لقد عصم الله نبيّه محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم من كل خطأ، لكي يضمن له ثقة المسلمين الكاملة به، حيث تعتبر هذه الثقة من أولويات شروط الزعامة الإلهية.

8. وقد ورد في آخر الآية دليل من الأدلة الأساسية لقضية العصمة بشكل مجمل، وهذا الدليل هو قوله تعالى أنّه علم نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم من العلوم والمعارف التي يكون النّبي في ظلها مصونا من الوقوع في أي خطأ أو زلل، ولأنّ العلم والمعرفة تكون نتيجتهما في المرحلة النهائية حفظ الإنسان من ارتكاب الخطأ،فالطبيب ـ مثلا ـ لا يقدم أبدا على شرب ماء ملوث بأنواع الجراثيم الفتاكة، بعد أن أجرى عليه الفحوصات المختبرية واكتشف تلوثه بتلك الجراثيم الخطيرة،نستنتج من هذا المثل أنّ علم الطب الذي تعلمه هذا الطبيب، هو السبب في حفظه ومنعه من شرب الماء الملوث بالجراثيم القاتلة، فقد وفّر هذا العلم العصمة والمصونة للطبيب حيال ارتكاب مثل هذا الخطأ، لكن الإنسان الذي يجهل خطورة ذلك الماء يحتمل كثيرا أن يقدم على شربه.

9. وهكذا يتبيّن أنّ مصدر الكثير من الأخطاء هو الجهل بمقدمات العمل أو مستلزماته أو عواقبه، لذلك فإنّ من يحاط عن طريق الوحي الإلهي إحاطة كاملة بالقضايا المختلفة ومقدماتها ومستلزماتها وعواقبها لن يقع في خطأ، ولن يرتكب أي زلل أبدا، ولن يضل الطريق، ولن يمارس ذنبا مطلقا.

10. ويجب أن لا نقع في الوهم هنا، فإنّ هذا العلم الذي بحوزة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من جانب الله سبحانه وتعالى ليس عملا مفروضا ولا يحمل طابع القسر والإجبار، أي أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليس مجبورا أبدا على أن يعمل بعلمه، بل أنّه يمارس عمله بكامل اختياره، فكما أنّ الطبيب الذي ذكرناه في مثلنا السابق مع علمه بحالة الماء الملوث فإنّه ليس مرغما على عدم شرب هذا الماء، بل هو بإرادته المطلقة يمتنع عن شربه.

11. سؤال وإشكال: لماذا شمل الله نبيّه وحده بهذا الفضل الإلهي، ولم يشمل الآخرين؟ والجواب: إنّ ذلك قد حدث للمسؤولية العظيمة والخطيرة التي تتضمنها القيادة التي أنيطت بالنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحمل أعبائها الثقيلة على عاتقه، ولأن الآخرين لا يحملون مثل هذه الأعباء الثقيلة، لذلك فإن الله اللطيف الخبير يهب لعبده من القدرة والطاقة بمقدار ما يضع على عاتق هذا العبد من مسئوليات، ولن يكلف الله نفسا إلّا وسعها فيجب التعمق في هذا الأمر.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/444.

105. النجوى الصالحة ومظاهرها وجزاؤها

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈105⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 114]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: الآية عامة في حق جميع الناس(1).

__________

(1) تفسير البغوي ٢/٢٨٦.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: (إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عنه من كتاب الله)، ثم قال في بعض حديثه: (إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال) فقيل له: يا بن رسول الله، أين هذا من كتاب الله؟ قال: إن الله عز وجل يقول: لا ﴿خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ وقال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ وقال: ﴿لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾(1).

__________

(1) الكافي 1/48.

القرظي:

روي عن عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت، قال كنت جالسا مع محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ)، فأتاه رجل، فقال له القوم: أين كنت؟ فقال: أصلحت بين القوم، فقال محمد بن كعب: أصبت، لك مثل أجر المجاهدين، ثم قرأ: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٦٥.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾ معناه من أسرارهم(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 123.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ يعني بالمعروف القرض(1).

__________

(1) الكافي 4/34.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ﴾، المعروف: القرض(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾، تصدق، أو أقرض، أو أصلح بين الناس(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٦٥.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾، من جاءك يناجيك في هذا فاقبل مناجاته، ومن جاء يناجيك في غير هذا فاقطع أنت ذاك عنه، لا تناجيه(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٦٥.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في النجوى:

أ. قيل: النجوى: القوم؛ كقوله: ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾، أي: رجال.

ب. وقيل: النجوى: هي الإسرار؛ كقوله: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ﴾ الآية.

2. ثم استثنى: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ الآية:

أ. فإن كان التأويل من النجوى هو فعل النجوى خاصة، فكأنه قال لا خير في كثير من نجواهم إلا الأمر بالصدقة، والأمر بالمعروف، والإصلاح بين الناس.

ب. وإن كان تأويل النجوى هو القوم، فكأنه قال: (لاخير في كثير منهم إلى من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس؛ وكان هذا أقرب، ومعنى الثنيا من الكثير فيما يرجع إلى القوم؛ فكأنه قال لا خير في كثير منهم إلا من يرجع أمره إلى ما ذكر؛ فيصير إلى خير.

ج. وقد يحتمل: أن قومًا منهم يرجع نجواهم إلى خير، وهم أقلهم، ومن الفعل، على أن الفعل ربما يكون فعل خير، وإن كانوا أهل النفاق والكفر، لكن بين أنه غير مقبول إلا أن يبتغي به مرضاة الله، وذلك لا يكون إلا أن يؤمنوا.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٦٠.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ الآية: يريد عز وجل أنه لا خير في كثير من كلامهم، ولا فائدة عند من يعقل في كثير من حديثهم وهذيانهم، لأن أكثر الحديث الذي سمعتم من هؤلاء الجهال، إن لم يضرهم فليس ينفعهم لأنه هذر بعيد من الصواب ولعب ليس فيه قربة إلى رب الأرباب.

2. ثم قال عز وجل واستثنى عباده المؤمنين، الآمرين بالمعروف من الأبرار الموقنين: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾، فجمعت هذه الكلمات أصول جميع الخيرات، لبُعدها من القبائح والشنع والمنكرات، لأن في الأمر بالصدقة إشباع البطون وكسوة الظهور، والأجر لمن فعل ذلك عند الواحد العليم القدير، لما في الصدقة على الضعفة لهم من السرور، والفرح والراحة من النكر والشرور، فنسأل الله أن يبلغنا ما نأمل من سرور عباده المستضعفين، وكشف ما نالهم من بخل هؤلاء السفلة الجائرين، وكذلك الأمر بالمعروف ففيه المصلحة للآمر والمأمور، وخمول القبائح المستقبحة من جميع الأمور، وكذلك الإصلاح بين الناس فيه حقن دمائهم وصلاحهم، وسلامتهم من التعب وسرورهم وفلاحهم، فسبحان الله ما أرحمه للعباد، وما ألطفه في الدلالة لهم على البر والرشاد، فنسأل الله أن يهلك من عصاه، وأن يعجل بنصر دينه على من كره قبول أهل هداه.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/249.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ (فسوف يؤتيه) ـ بالياء ـ ابو عمر، وحمزة، وقتيبة، وخلف، والباقون بالنون من قرأ بالياء حمله على قوله: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ﴾، ومن قرأ بالنون حمله على المعنى.

2. أخبر الله تعالى: أنه لا خير في كثير من نجوى الناس جميعاً، والنجوى هو ما ينفرد به الاثنان أو الجماعة سراً كان أو جهراً، ويقال: نجوت الشيء إذا خلصته وألقيته، يقال: نجوت الجلد: إذا ألقيته عن البعير، وغيره قال الشاعر:

çفقلت انجوا عنها نجا الجلد إنه...سيرضيكما منها سنام وغاربه‏é

ونجوت فلاناً: إذا استنكهته قال الشاعر:

çنجوت مجالداً فوجدت منه...كريح الكلب مات حديث عهدé

ونجوت الوتر واستنجيته إذا خلصته كما قال الشاعر:

çفتبازت فتبازخت لها...جلسة الا عسر يستنجي الوترé

وأصله كله من النجوة، وهو ما ارتفع من الأرض، قال الشاعر يصف سيلا:

çفمن بنجوته كمن بعقوبته...والمستكن كمن يمشي بقرواح‏é

ويقول: ما أنجى فلا شيئاً وما نجا شيئاً منذ أيام إذا لم يتغوّط.

3. التقدير في الآية ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ﴾ مما يديرونه بينهم من الكلام (إلا) كلام‏ ﴿مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾، قال الزجاج يحتمل موضع من نصبا وأن يكون خفضاً، فالخفض على إلا في نجوى من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح، والنصب على أن يكون استثناء منقطعاً بمعنى لكن كأنه قال لكن من أمر بصدقة أو معروف ففي نجواه خير، وطعن بعضهم على الوجه الأول بأن قال لا يجوز أن يعطف بالّا على الهاء والميم في مثل هذا الموضع من أجل أنه لم ينله الجحد، وقال الفرّاء: يحتمل الخفض على‏ تقدير لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة فيكون النجوى على هذا هم الرجال المتناجون كما قال: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ وكما قال: ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾ والنصب على أن يجعل النجوى فعلا فيكون نصباً، لأنه حينئذ يكون استثناء منقطعاً، لان (من) خلاف النجوى ومثله قول الشاعر:

çوقفت فيها اصيلالًا أسائلها...أعيت جواباً وما بالدار من أحد

إلا الأواري لاياما أبينها...والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلدé

ويحتمل وجهاً ثالثاً أن يكون رفعاً كما قال الشاعر:

çوبلدة ليس بها أنيس...إلا اليعافير والا العيس‏é

4. أقوى الوجوه أن تجعل (من) في موضع خفض بالرد على النجوى، ويكون بمعنى المتناجين، خرج مخرج السكرى والجرحى، ويكون التقدير لا خير في كثير من نجواهم يعني من المتناجين يا محمد إلا فيمن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، فان أولئك فيهم الخير.

5. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ اشارة إلى ما تقدم من الامر بالصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس ابتغاء مرضاة الله يعني طلب مرضاة الله ونصب ابتغاء على أنه مفعول له وتقديره لابتغاء مرضاة الله، وهو في معنى المصدر، لأن التقدير ومن يتبع ذلك ابتغاء مرضاة الله.

6. ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ يعني ثواباً جزيلا في المستقبل.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/326.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. النجوى قال علي بن عيسى: هو الإسرار عند سائر أهل اللغة، منهم ابن دريد والخليل، قال وزعم الزجاج أن معنى النجوى ما ينفرد به الجماعة أو الاثنان سرًّا كان أو ظاهرًا، وهو غلط منه، يقال: فلان نَجِيُّ فلان أي مناجيه، والقوم أنجية، وأصل النجوة: الارتفاع، فسمي الإسرار نجوى؛ لأنه رفع السر عنك بإظهاره لغيرك، ونَجَوْتُ الجلدَ: أي كشطتُهُ؛ لأنك رفعته عن موضعه بإزالته، والنجا: السرعة؛ لأنه ارتفاع فيه، ومنه: النجاءَ النجاءَ في كلام أمير المؤمنين أي إسراعًا إلى الطاعة.

2. ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾ أي إسرارهم:

أ. قيل: نجوى الناس.

ب. وقيل: الَّذِينَ ذبوا عن الخائن قوم طعمة

ج. وقيل: هم المنافقون الَّذِينَ حكى الله عنهم.

3. ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ غير أن لا خير في النجوى الذي يخفونه عن النبي والمسلمين، لكن الخير فيمن يأمر بالمعروف عن أبي مسلم، وقيل: هم وفد ثقيف.

4. ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ يعني حثَّ عليها ﴿أَوْ مَعْرُوفٍ﴾:

أ. قيل: أمر بمعروف، وهوَ أبواب البر، سمي معروفًا لاعتراف العقول بها.

ب. وقيل: لأن أهل الخير يعرفونهم.

5. ﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ قيل: يؤلفون بين الناس بالمحبة ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ يعني ما تقدم ذكره ﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله﴾ أي طلب رضاه ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ﴾ يعطيه ﴿أَجْرًا﴾ أي عوضًا ومثوبة عظيمة في الكثرة والمنزلة والصفة، أما الكثرة فلأنه دائم، وأما المنزلة فلأنه مع التعظيم، وأما الصفة فلأنه لا يشوبه ما ينغصه، فهو مستحق.

6. تدل الآية الكريمة على:

أ. يدل قوله: ﴿لَا خَيْرَ﴾ الآية، أن في نجواهم خيرًا وشرًّا.

ب. أن الأمر بالخير حسن، وكذلك سائر أنواع البر.

ج. أن الإصلاح بين الناس من باب البر والعبادة.

د. أن الثواب له منزلة لا نعمة أعظم منه؛ لذلك قال: ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/67.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. النجوى: قال علي بن عيسى: النجوى: هو الإسرار عند أهل اللغة، وقال الزجاج: النجوى في الكلام ما ينفرد به الجماعة، أو الاثنان، سرا كان، أو ظاهرا، ومعنى نجوت الشيء في اللغة: خلصته وألقيته، يقال نجوت الجلد: إذا ألقيته عن البعير، أو غيره، قال الشاعر:

çفقلت انجوا منها نجا الجلد إنه... سيرضيكما منها سنام وغاربهé

ونجوت فلانا إذا استنكهته قال:

çنجوت مجالدا فشممت منه... كريح الكلب مات حديث عهدé

وأصله من النجوة: وهو ما ارتفع من الأرض، فالمراد بنجواهم: ما يديرونه بينهم من الكلام، وفلان نجي فلان: أي مناجيه، والقوم أنجية.

2. ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾ أي: أسرارهم، ومعنى النجوى، لا يتم إلا بين اثنين فصاعدا، كالدعوى، ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ فإن في نجواه خيرا ﴿أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ يعني بالمعروف: أبواب البر:

أ. لاعتراف العقول بها.

ب. وقيل: لان أهل الخير يعرفونها.

3. ﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ أي: تأليف بينهم بالمودة.

4. قال علي بن إبراهيم في تفسيره: حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن أبي عبد الله قال: إن الله فرض التجمل في القرآن فقال، قلت: وما التجمل في القرآن جعلت فداك؟ قال أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك، فتجمل له وهو قوله: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ الآية قال وحدثني أبي رفعه إلى أمير المؤمنين أنه قال: (إن الله فرض عليكم زكاة جاهكم، كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيديكم)

5. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ يعني ما تقدم ذكره ﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ﴾ أي: لطلب رضاء الله ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ﴾ أي: نعطيه ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أي: مثوبة عظيمة في الكثرة، والمنزلة والصفة:

أ. أما الكثرة فلانه دائم.

ب. وأما المنزلة فلانه مقارن للتعظيم والاجلال.

ج. وأما الصفة فلانه غير مشوب بما ينغصه.

6. في الآية دلالة على أن فاعل المعصية، هو الذي يضر بنفسه لما يعود عليه من وبال فعله، وفيها دلالة أيضا على أن الذي يدعو إلى الضلال، هو المضل، وعلى أن فاعل الضلال مضل لنفسه، وعلى أن الدعاء إلى الضلال، يسمى إضلالا.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/1167.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾ قال ابن عباس: هم قوم طعمة، وقال مقاتل: وكلّهم يهود تناجوا في أمر طعمة، وقال مجاهد: هو عامّ في نجوى جميع الناس، قال الزجّاج: ومعنى النّجوى: ما تنفرد به الجماعة أو الاثنان، سرّا كان أو ظاهرا، ومعنى (نجوت الشيء في اللغة، خلّصته وألقيته، يقال: نجوت الجلد: إذا ألقيته عن البعير وغيره، قال الشاعر:

çفقلت انجوا عنها نجا الجلد إنّه‏...سيرضيكما منها سنام وغاربه‏é

وقد نجوت فلانا: إذا استنكهته، قال الشاعر:

çنجوت مجالدا فوجدت منه‏...كريح الكلب مات قديم عهدé

وأصله كلّه من النّجوة، وهو ما ارتفع من الأرض، قال الشاعر يصف سيلا:

çفمن بنجوته كمن بعقوته‏...والمستكنّ كمن يمشي بقرواح‏é

والمراد بنجواهم: ما يدبّرونه بينهم من الكلام.

2. ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ فيجوز أن يكون بمعنى: إلا في نجوى من أمر بصدقة، ويجوز أن يكون استثناء ليس من الأوّل، فيكون بمعنى: لكن من أمر بصدقة، ففي نجواهم خير.

3. ﴿أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ المعنى: حثّ عليها، وأما المعروف، ففيه قولان:

أ. أحدهما: أنه الفرض، روي عن ابن عباس، ومقاتل.

ب. الثاني: أنه عامّ في جميع أفعال البرّ، وهو اختيار القاضي أبي يعلى، وأبي سليمان الدّمشقيّ.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/471.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ هذه إشارة إلى ما كانوا يتناجون فيه حين يبيتون ما لا يرضي من القول، قال الواحدي: النجوى في اللغة سر بين إثنين، يقال ناجيت الرجل مناجاة ونجاء، ويقال: نجوت الرجل أنجو نجوى بمعنى ناجيته، والنجوى قد تكون مصدرا بمنزلة المناجاة، قال تعالى: ﴿ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى‏ ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: 7] وقد تكون بمعنى القوم الذين يتناجون، قال تعالى: ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوى﴾‏ [الإسراء: 47]

2. ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ ذكر النحويون في محل (من) وجوها، وتلك الوجوه مبنية على معنى النجوى في هذه الآية، فإن جعلنا معنى النجوى هاهنا السر فيجوز أن يكون في موضع النصب؛ لأنه استثناء الشيء عن خلاف جنسه فيكون نصبا كقوله إِلَّا أَذىً [آل عمران: 111] ويجوز أن يكون رفعا في لغة من يرفع المستثنى من غير الجنس كقوله: (إلا اليعافير وإلا العيس)،‏ وأبو عبيدة جعل هذا من باب حذف المضاف فقال: التقدير إلا في نجوى من أمر بصدقة ثم حذف المضاف، وعلى هذا التقدير يكون (من) في محل النجوى لأنه أقيم مقامه، ويجوز فيه وجهان:

أ. أحدهما: الخفض بدل من نجواهم، كما تقول: ما مررت بأحد إلا زيد.

ب. الثاني: النصب على الاستثناء فكما تقول ما جاءني أحد إلا زيدا، وهذا استثناء الجنس من الجنس.

3. ان جعلنا النجوى اسما للقوم المتناجين كان منصوبا على الاستثناء لأنه استثناء الجنس من الجنس؛ ويجوز أن يكون (من) في محل الخفض من وجهين:

أ. أحدهما: أن تجعله تبعا لكثير، على معنى: لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة، كقولك: لا خير في القوم إلا نفر منهم.

ب. الثاني: أن تجعله تبعا للنجوى، كما تقول: لا خير في جماعة من القوم إلا زيد، إن شئت أتبعت زيدا الجماعة، وإن شئت أتبعته القوم.

4. هذه الآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها في المعنى عامة، والمراد: لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير، ثم إنه تعالى‏

5. ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع: الأمر بالصدقة، والأمر بالمعروف، والإصلاح بين الناس، وإنما ذكر الله هذه الأقسام الثلاثة، وذلك لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة، أما إيصال الخير فأما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ وإما أن يكون من الخيرات الروحانية، وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم، أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة، ومجموعهما عبارة عن الأمر بالمعروف، وإليه الإشارة بقوله: ﴿أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ وأما إزالة الضرر فإليها الإشارة بقوله: ﴿أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية، ومما يدل على صحة ما ذكرنا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله)، وقيل لسفيان الثوري: ما أشد هذا الحديث! فقال سفيان: ألم تسمع الله يقول: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ﴾ فهو هذا بعينه، أما سمعت الله يقول: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: 1، 2] فهو هذا بعينه.

6. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ المعنى أن هذه الأقسام الثلاثة من الطاعات وإن كانت في غاية الشرف والجلالة إلا أن الإنسان إنما ينتفع بها إذا أتى بها لوجه الله ولطلب مرضاته، فأما إذا أتى بها للرياء والسمعة انقلبت القضية فصارت من أعظم المفاسد.

7. هذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلوب من الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلب في إخلاص النيّة، وتصفية الداعية عن الالتفات إلى غرض سوى طلب رضوان الله تعالى ونظيره قوله تعالى: ﴿وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: 5]، وقوله: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى﴾‏ [النجم: 39] وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنما الأعمال بالنيات)

8. سؤال وإشكال: ﴿لم انتصب ابْتِغاءَ مَرْضاتِ الله﴾؟ والجواب: لأنه مفعول له، والمعنى لأنه لا لابتغاء مرضاة الله.

9. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ ثم قال وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ﴾؟ والجواب: أنه ذكر الأمر بالخير ليدل به على فاعله لأن الأمر بالخير لما دخل في زمرة الخيرين فبأن يدخل فاعل الخير فيهم كان ذلك أولى، ويجوز أن يراد: ومن يأمر بذلك، فعبر عن الأمر بالفعل لأن الأمر أيضا فعل من الأفعال.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/218.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾ أراد ما تفاوض به قوم بني أبيرق من التدبير، وذكروه للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والنجوى: السربين الاثنين، تقول: ناجيت فلانا مناجاة ونجاء وهم ينتجون ويتناجون، ونجوت فلانا أنجوه نجوا، أي ناجيته، فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه، أي خلصته وأفردته، والنجوة من الأرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله، قال الشاعر:

çفمن بنجوته كمن بعقوته...والمستكن كمن يمشي بقرواحé

2. فالنجوى المسارة، مصدر، وقد تسمى به الجماعة، كما يقال: قوم عدل ورضا، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾، فعلى الأول يكون الأمر أمر استثناء من غير الجنس، وهو الاستثناء المنقطع، وقد تقدم، وتكون ﴿مِنْ﴾ في موضع رفع، أي لكن من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ودعا إليه ففي نجواه خير، ويجوز أن تكون ﴿مِنْ﴾ في موضع خفض ويكون التقدير: لا خير في كثير من نجواهم إلا نجوى من أمر بصدقة ثم حذف، وعلى الثاني وهو أن يكون النجوى اسما للجماعة المنفردين، فتكون ﴿مِنْ﴾ في موضع خفض على البدل، أي لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة، أو تكون في موضع نصب على قول من قال ما مررت بأحد إلا زيدا، وقال بعض المفسرين منهم الزجاج: النجوى كلام الجماعة المنفردة أو الاثنين كان ذلك سرا أو جهرا، وفيه بعد.

3. والمعروف لفظ يعم أعمال البر كلها، وقال مقاتل: المعروف هنا الفرض، والأول أصح، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المعروف كاسمه وأول من يدخل الجنة يوم القيامة المعروف وأهله)، وقال علي بن أبي طالب: لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره، فقد يشكر الشاكر بأضعاف جحود الكافر، وقال الحطيئة:

çمن يفعل الخير لا يعدم جوازيه...لا يذهب العرف بين الله والناسé

وأنشد الرياشي:

çيد المعروف غنم حيث كانت...تحملها كفور أو شكور

ففي شكر الشكور لها جزاء...وعند الله ما كفر الكفورé

4. وقال الماوردي: فينبغي لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته، ويبادر به خيفة عجزه، وليعلم أنه من فرص زمانه، وغنائم إمكانه، ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه، فكم من واثق بالقدرة فاتت فأعقبت ندما، ومعول على مكنة زالت فأورثت خجلا، كما قال الشاعر:

çما زلت أسمع كم من واثق خجل...حتى ابتليت فكنت الواثق الخجلاé

ولو فطن لنوائب دهره، وتحفظ من عواقب أمره لكانت مغانمه مذخورة، ومغارمه مجبورة، فقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (من فتح عليه باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه)، وروي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (لكل شي ثمرة وثمرة المعروف السراح)، وقيل لأنوشروان: ما أعظم المصائب عندكم؟ قال أن تقدر على المعروف فلا تصطنعه حتى يفوت، وقال عبد الحميد: (من أخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها)، وقال بعض الشعراء:

çإذا هبت رياحك فاغتنمها...فإن لكل خافقة سكون

ولا تغفل عن الإحسان فيها...فما تدري السكون متى يكونé

وكتب بعض ذوي الحرمات إلى وال قصر في رعاية حرمته:

çأعلى الصراط تريد رعية حرمتي...أم في الحساب تمن بالإنعام

للنفع في الدنيا أريدك، فانتبه...لحوائجي من رقدة النوامé

وقال العباس: (لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيله وتصغيره وستره، فإذا عجلته هنأته، وإذا صغرته عظمته، وإذا سترته أتممته)، وقال بعض الشعراء:

çزاد معروفك عندي عظما...أنه عندك مستور حقير

تتناساه كأن لم تأته...وهو عند الناس مشهور خطيرé

5. ومن شرط المعروف ترك الامتنان به، وترك الإعجاب بفعله، لما فيهما من إسقاط الشكر وإحباط الأجر، وقد تقدم في البقرة بيانه.

6. ﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ عام في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شي يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين، وفي كل كلام يراد به وجه الله تعالى، وفي الخبر: (كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر لله تعالى)، فأما من طلب الرياء والترؤس فلا ينال الثواب، وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: (رد الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن)، وسيأتي في المجادلة ما يحرم من المناجاة وما يجوز إن شاء الله تعالى، وعن أنس بن مالك أنه قال: من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة، وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأبي أيوب: (ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله، تصلح بين أناس إذا تفاسدوا، وتقرب بينهم إذا تباعدوا)، وقال الأوزاعي: ما خطوة أحب إلى الله تعالى من خطوة في إصلاح ذات البين، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة من النار، وقال محمد بن المنكدر: تنازع رجلان في ناحية المسجد فملت إليهما، فلم أزل بهما حتى اصطلحا، فقال أبو هريرة وهو يراني: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد)، ذكر هذه الأخبار أبو مطيع مكحول بن المفضل النسفي في كتاب اللؤلئيات له، وجدته بخط المصنف في وريقة ولم ينبه على موضعها.

7. ﴿ابْتِغَاءَ﴾ نصب على المفعول من أجله.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/382.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

النجوى: السرّ بين الاثنين أو الجماعة، تقول: ناجيت فلانا مناجاة ونجاء وهم ينتجون ويتناجون، ونجوت فلانا أنجوه نجوى، أي: ناجيته، فنجوى: مشتقة من نجوت الشيء أنجوه، أي: خلصته وأفردته، والنجوة من الأرض: المرتفع، لانفراده بارتفاعه عما حوله، فالنجوى: المسارّة، مصدر، وقد تسمى به الجماعة كما يقال قوم عدل، قال الله تعالى: وإِذْ هُمْ نَجْوى‏ فعلى الأوّل يكون الاستثناء منقطعا، أي: لكن من أمر بصدقة، أو متصلا، على تقدير: إلا نجوى من أمر بصدقة، وعلى الثاني يكون الاستثناء متصلا في موضع خفض على البدل من كثير، أي: لا خير في كثير إلا فيمن أمر بصدقة، وقد قال جماعة من المفسرين: إن النجوى كلام الجماعة المنفردة أو الاثنين سواء كان ذلك سرّا أو جهرا، وبه قال الزجاج.

1. ﴿بِصَدَقَةٍ﴾ الظاهر أنها صدقة التطوّع، وقيل: إنها صدقة الفرض، والمعروف: صدقة التطوّع، والأوّل أولى، والمعروف: لفظ عام يشمل جميع أنواع البرّ، وقال مقاتل: المعروف هنا: القرض، والأوّل أولى، ومنه قول الحطيئة:

çمن يفعل الخير لا يعدم جوازيه...لا يذهب العرف بين الله والنّاس‏é

ومنه الحديث: (كلّ معروف صدقة، وإنّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق)، وقيل: المعروف: إغاثة الملهوف، والإصلاح بين الناس عامّ في الدماء والأعراض والأموال، وفي كل شيء يقع التداعي فيه.

2. ﴿ومَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ﴾ إشارة إلى الأمور المذكورة، جعل مجرّد الأمر بها خيرا، ثم رغب في فعلها بقوله: ﴿ومَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ﴾ لأن فعلها أقرب إلى الله من مجرّد الأمر بها، إذ خيرية الأمر بها إنما هي لكونه وسيلة إلى فعلها.

3. ﴿ابْتِغاءَ مَرْضاتِ الله﴾ علة للفعل، لأن من فعلها لغير ذلك فهو غير مستحق لهذا المدح والجزاء، بل قد يكون غير ناج من الوزر، والأعمال بالنيات.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/594.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُم﴾ نجوى الناس عمومًا، وليس المراد قوم طعمة بن أبيرق كما قيل، والنجوى: ما يتحدَّث به اثنان فصاعدًا منحازين به عن غيرهم، كذا ظهر لي، ثمَّ رأيته للزجَّاج، وانحيازهم به مُسارَّة عن غيرهم، ولو جهروا به فيما بينهم، وشَرَطَ بعضٌ الإسرار بينهم، والنجوى: المتناجون، والمفرد (نَجِيٌّ) كمريض ومرضى، أو التناجي.

2. ﴿إِلَّا مَنَ اَمَرَ﴾ منهم غيره، أي: إِلَّا نجوى من أمر، أو إلَّا أمر من أمر، والاستثناء منقطع، وإن أريد بالنجوى المتناجون كان متَّصلاً، فإنَّه يكفي في صحَّة الاتِّصال صحَّة الدخول فيما قبلَ (إِلَّا) ولو لم يجزم به، نحو: (جاءني كثير من الرجال إِلَّا زيدًا)، وشرط بعضهم الجزم، فيكون المثال من المنقطع، وكذا الآية.

3. ﴿بِصَدَقَةٍ اَوْ مَعْرُوفٍ اَوِ اِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ أي: إلَّا متناجين أمروا بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، أو إِلَّا تَنَاجِي مَن أَمَرَ، والصدقة تشمل الواجبة وغيرها، والمعروف: ما يستحسنه الشرع ولو أنكره العقل، لأنَّه لا نقول بالتحسين والتقبيح العقليَّين، وذلك كالكلمة الطيِّبة لأهله، وتعليم العلم، والأمر والنهي، وإغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج والقرض، قالت أمُّ حبيبة  : إنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (كلام ابن آدم كلُّه عليه لا له، إلَّا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكرا لله)، والمعروف يعمُّ الصدقة، خصَّها بالذكر تعظيمًا لها.

4. خصَّ الثلاثة لأنَّ عمل الخير في حقِّ الغير إمَّا إيصال النفع بالمال، وهو الصدقة، وإمَّا بمنفعة روحانيَّة، وهي الأمر بالمعروف، وإمَّا دفع الضُّرِّ، وهو الإصلاح بين الناس في فساد واقع أو مشرف عليه، كذا قيل، وبقيت المنفعة بالبدن، وعن ابن عمر عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أفضل الصدقة إصلاح ذات البين)، وعن أبي الدرداء مرفوعًا: (إصلاح ذات البين أفضل من الصوم والصدقة والصلاة)، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأبي أيوب الأنصاريِّ في رواية البيهقيِّ عنه: (يا أبا أيوب، ألا أدلُّك على صدقة يرضى الله تعالى ورسوله موضعها)؟ قال: بلى، قال: (أن تصلح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقرِّب بينهم إذا تباعدوا)، وفي رواية: (ألا أدلُّك على صدقة هي خير لك من حمر النعم؟) قال: (نعم يا رسول الله) قال: (أن تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرِّب بينهم إذا تباعدوا)، قالت أمُّ كلثوم بنت عقبة: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (ليس الكذَّاب الذي يصلح بين الناس ويقول: خيرًا أو ينمي خيرًا)، رواه البخاري ومسلم وأبو داود.

5. ليس في الآية فعل الصدقة والمعروف والإصلاح، بل الأمر بهنَّ، ففي الآية الآمر بالخير كفاعله، وفيها جواز أن تقول للإنسان: تصدَّق بكذا من مالك للفقراء، أو على الناس أو على فلان، أو في وجه كذا من وجوه الأجر، وفي الفروع منع ذلك، ووجهُهُ: خوف أن يعطي بلا طيب نفس حياء؛ فنقول: تحمل الآية على الأمر تعميمًا، أو حيث لا يعطي إِلَّا بطيب، وذلك أمر الإنسان غيره بالفعل، وذكر نفس الفعل المأمور به في قوله: ﴿وَمَنْ يَّفْعَلْ ذَالِكَ﴾ أي: من يتصدَّق، أو يعمل معروفًا، أو يصلح بين الناس، ويجوز أن يراد بفعل ذلك: الأمر به المذكور، أي: ومن يأمر بذلك فيفهم الفعل بالأولى، والأمْرُ فِعْلٌ، أو عَبَّر بالفعل ليشمل الإشارةَ والكتابةَ في إيقاع ذلك، وفي الأمر به، ولأنَّ المقصود الترغيب في الفعل، وإمَّا أن يراد بالفعل ما يعمُّ الأمرَ بذلك وفعلَهُ، فجمع بين الحقيقة والمجاز، أو من عموم المجاز، والمراد بقوله: ﴿ذَالِكَ﴾ بعض ذلك، أو المراد ما ذكر على ما في الآية من (أَوْ)

6. ﴿ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللهِ﴾ لا رياء أو سمعة أو غرضًا دنيويًّا، (والأعمال بالنيَّات)، والرياء محبط للعمل ومهلك، وذكر الغزاليُّ أنَّه إذا كان الإخلاص غالبًا أثيب وإلَّا أحبط، وقيل: يثاب على قدر الإخلاص ولو قلَّ، ﴿فَسَوْفَ نُوتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ يُستحقَر عنده كلُّ ما فعله من الخير.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/286.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أشار تعالى إلى ما كانوا يتناجون فيه حين يبيّتون ما لا يرضى من القول، بقوله سبحانه: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾ أي: مساررتهم، والسياق، وإن دل على مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض، إلا أنها في المعنى عامة، والمراد: لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث، ثم استثنى النجوى في أعمال الخير بقوله سبحانه‏: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ أي: إلا في نجوى من أمر، بخفية عن الحاضرين، بصدقة ليعطيها سرا، يستر به عار المتصدّق عليه.

2. ﴿أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ أي: بطاعة الله، وأعمال البر كلها معروف، وسر التناجي فيه أن لا يأنف المأمور عن قبوله لو جهر به‏ ﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ يعني الإصلاح بين المتخاصمين ليتراجعا إلى ما كانا فيه من الألفة والاجتماع، على ما أذن الله فيه وأمر به، وسر النجوى فيه أنه لو ظهر أولا ربما لم يتم.

3. قال المهايميّ: قيل في الحصر: الخير إما نفع جسمانيّ وهو في الأمر بالصدقة، أو روحانيّ وهو في الأمر بالمعروف، وإما دفع وهو في الإصلاح ويمكن أن يقال: الخير إما نفع متعد من المأمور وهو الصدقة، أو لازم له وهو المعروف، أو دفع ضرر متعد أو لازم له، وهو الإصلاح، وإنما تتم خيريتها إذا ابتغى بها رضاء الله تعالى كما قال:‏ ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ﴾ أي: طلب‏ ﴿مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ﴾ يعني في الآخرة ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ يساوي أجر الفاعل أو يفوقه، وقد دلت الآية الكريمة على الترغيب في الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس، وقد أكد تعالى الترغيب بقوله: ﴿عَظِيمًا﴾ وأن النية فيها شرط لنيل الثواب، لقوله تعالى:‏ ﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله﴾ وعلى أن كلام الإنسان عليه لا له، إلا ما كان في هذا ونحوه، كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه بسنده إلى محمد بن يزيد بن حنيش قال دخلنا على سفيان الثوريّ نعوده، فدخل علينا سعيد بن حسان، فقال له الثوريّ: الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح اردده عليّ، فقال: حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة، عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: كلام ابن آدم كله عليه لا له، إلا ذكر الله عز وجل، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، فقال سفيان: أو ما سمعت الله في كتابه يقول: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾؟ فهو هذا بعينه، أو ما سمعت الله يقول: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾؟ [النبأ: 38]، فهو هذا بعينه، أو ما سمعت الله يقول في كتابه: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: 1 ـ 2] إلخ، فهو هذا بعينه.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/328.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تقدم في بيان سبب نزول الآيات التي قبل هذه أن (طعمة) الخائن لم يكد يفتضح أمره حتى فر إلى المشركين وأظهر الشرك والطعن في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كأنه كان قد أسلم ليتخذ من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين أعوانا ونصراء يعينونه على اتباع الهوى والخيانة بالعصبية على المخالفين، وما علم أن الإسلام قد جاء ليبطل الخيانة والضلال ويمحق الأباطيل ويؤيد الحق والفضيلة، أفلا يسمع هذا المبطلون من أهل أوروبا الذين لا يزالون يقلدون قسوس قرونهم المظلمة مثيري الحروب الصليبية في زعمهم أن المسلمين كانوا في العصر الأول جمعية لصوص وقطاع طريق!! ألا يدلوننا على حكومة من أرقى حكوماتهم أوصلها دينها ومدنيتها وعلومها وحضارتها إلى الرضا بمساواة أبنائها وأوليائها بأعدى أعدائها، ويشددون في ذلك مثلما شددت الآيات التي تقدم تفسيرها في قصة (طعمة) مع اليهودي؟؟ كيف ونحن نراهم في بلادنا لا يرضون بالمساواة بيننا وبينهم، وأن الرجل من أشرار جناتهم وتحوت صعاليكهم قد يقتل الواحد من خيار الناس في مصر فيحاكمه قنصل دولته كما يريد، ويحكم عليه بأن يغيب عن الأرض التي لوثها بدم الجناية زمنا طويلا أو قصيرا ثم يعود إن شاء؟

2. على هذا الذي تقدم يكون قوله تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ وما بعده نزل في سياق تلك القصة وأن ضمير ﴿نَجْوَاهُمْ﴾ يعود على أولئك المختانين لأنفسهم الذين يبيتون في ليلهم من الأقوال ما لا يرضي ربهم، وهذا هو المختار، والنجوى مصدر أو اسم مصدر معناه المسارة بالحديث، قيل أصله من النجوة وهي المكان المرتفع عما حوله بحيث ينفرد من فيه عمن دونه، وقيل من النجاة كأنه نجا بسره ممن يحذر اطلاعهم عليه، ويوصف به فيقال قوم نجوى ورجلان نجوى ومنه قوله تعالى في سورة الإسراء: ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾ [الإسراء: 47] ومن استعماله بالمعنى المصدري في القرآن قوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: 7]، وقوله: ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ [طه: 62] وأجاز المفسرون هنا أن تكون النجوى بمعنى المتناجين أي المتسارين ويكون المعنى: لا خير في كثير من المتناجين الذي يسرون الحديث من جماعة (طعمة) الذين أرادوا مساعدته على اتهام اليهودي وبهته، ومن سائر الناس إلا من أمر منهم بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، وهذه الثلاثة هي مجامع الخيرات التي يحتاج فيها إلى النجوى، فيكون الاستثناء متصلا على ظاهر قواعد النحو، وأما على القول بأن النجوى هنا بمعنى التناجي فالظاهر أن الاستثناء منقطع أي لا خير في كثير من تناجي هؤلاء الناس ولكن من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فذلك هو الخير الذي يكون في نجواه الخير وإلا فإنهم يقدرون للإعراب مضافا محذوفا والتقدير لا خير في كثير من نجواهم إلا نجوى من أمر بصدقة أو معروف الخ وقد تقدم تحرير مثل هذه المسألة في تفسير: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله﴾ [البقرة: 177] من سورة البقرة ورأي محمد عبده فيه.

3. قال محمد عبده: إن الكلام في الذين يختانون أنفسهم ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، ومعناه أن الغالب عليهم الشر فهو الذي يجري في نجواهم لأنه أكبر همهم وذكر مسألة الاستثناء ثم قال: إن النكتة في ذكر الكثير هنا هو أن من النجوى ما يكون في الشؤون الخاصة كالزراعة والتجارة مثلا فلا توصف بالشر، ولا هي مرادة من الخير، وإنما المراد بالنجوى الكثيرة المنفي الخير عنها النجوى في شؤون الناس ولذلك استثنى الأمور الثلاثة التي هي مجامع الخير للناس.

4. إذا كان الكلام هنا في أولئك الخائنين فنفي الخير عن الكثير من نجواهم ظاهر، ولكننا نرى الكتاب الحكيم يجعل النجوى مظنة الإثم والشر مطلقا ولذلك خاطب المؤمنين بقوله في سورة المجادلة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا الله الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المجادلة: 9 ـ 10]، وهذا بعد أن بين أن بعض الناس نهوا عن النجوى ثم هم يعودون إليها، وهم اليهود والمنافقون.

5. الحكمة في كون النجوى مظنة الشر في الأكثر هي أن العادة الغالبة وسنة الفطرة المتبعة هي استحباب إظهار الخير والتحدث به في الملأ، وإن الشر والإثم هو الذي يخفى، ويذكر في السر والنجوى، وفي الحديث الشريف: (الإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس) وقلما يكتم الناس شيئا من الخير المطلق المتفق على كونه خيرا، وإنما الغالب في كتمان بعض الخير وإسراره وجعل الحديث فيه نجوى أن يكون ذلك الخير خيرا للمتناجين وشرا لغيرهم أو مؤذيا له ولو من بعض الوجوه، كأسرار الحرب والسياسة التي يتوخى بها أهلها نفع أنفسهم وضرر غيرهم فيكتمون أخبارها ويجعلونها نجوى بينهم لئلا تصل إلى خصمهم وعدوهم الذي يضره ما ينفعهم، وينفعه ما يحبط عملهم ويبطل كيدهم، ويشبه ذلك ما يكون بين التجار وغيرهم من طلاب الكسب من التناجي فيما يخافون أن يطلع عليه غيرهم فيسبقهم إليه أو يشاركهم فيه، فإن ما يريدون أن يفوته من الكسب خير لهم وشر له.

6. هنالك أمور من الخير تتوقف خيريتها أو كمال الخير فيها وخلوه من الشوائب على كتمانه وجعل التعاون عليه سرا والحديث فيه نجوى، وهو ما ذكره الله تعالى من هذه الأمور الثلاثة، فما استثناها الله تعالى من النجوى التي لا خير في أكثرها إلا لأنها يحتاج فيها إلى النجوى، وإني لم أفطن لهذا إلا عند كتابة تفسير الآية وليس عندي فيه نقل، وقد عجبت لمحمد عبده كيف ذهل عنه فلم يبينه ما لم أعجب لغيره، فإنه أبو عذرة هذه الدقائق في علم الإنسان والقرآن، على أنني كنت أود لو كان بين يدي جميع كتب التفسير المعتبرة لأراجع تفسير الآية فيها:

أ. أما الصدقة فهي من الخيرات التي لا مرية فيها وإن إظهارها قد يؤذي المتصدق عليه ويضع من كرامته، وقد يكون الجهر بالأمر بها والحث عليها أشد إيذاء وإهانة له من إيتائه إياها جهرا، ولو كان ذلك مع الإخلاص وابتغاء مرضاة الله تعالى، ولهذا قال عز وجل: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 271] فقد مدحها الله تعالى مطلقا، وجعل إخفاء ما يؤتاه الفقير منها خيرا من إظهاره لأن بعض الفقراء يتأذى بالإظهار ويراه إهانة له، ولو كان جميع الفقراء أو أكثرهم يتأذون بالإظهار لحرمة الله تعالى وأوجب الإخفاء إيجابا، فلما ذمّ الله تعالى النجوى وبين أنه لا خير في كثير منها وكان مما قد يترتب على ذلك أن لا يتناجى المتعاونون على الخير فيما بينهم في أمر بعضهم بعضا بالصدقة الخفية على المستحقين لها من أهل الحياء والكرامة الذين يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء من التعفف، استثنى الحكيم الخبير هذا النوع من النجوى حتى لا يتحاماه المتورعون خوفا أن يدخل فيما لا خير فيه.

ب. وأما المعروف فقد يخفى وجه استثنائه، وهو في اللغة ضد المنكر أي ما تعرفه وتقره النفوس وتتلقاه بالقبول، لموافقته للمصالح وانطباقه على الطباع والعقول، قال بعض أهل الفراسة من العرب: إني لأعرف في عيني الرجل إذا عرف، وأعرف في عينيه إذ أنكر، وأعرف فيهما إذا لم يعرف ولم ينكر، الخ ولما كان الشرع مهذبا للنفوس ومرشدا للعقول، ومقوما لما مال وانْآد من أحكام الفطرة البشرية بسوء اجتهاد الناس، صار أعرف المعروف ما أرشد إليه أو أقره واستحسنه، وأنكر المنكر ما نهى عنه وذمه وكرهه، فالذي يؤمر بالمعروف على مسمع من الناس يستاء في الغالب من الآمر، ولا سيما إذا كان من أقرانه حقيقة أو ادعاء، لأنه يرى في أمره إياه استعلاء عليه بالعلم والفضل، واتهاما له بالتقصير أو الجهل، وإشرافا عليه بالتعليم والتهذيب، من أجل هذا كانت النجوى به أبعد عن الإيذاء، وأقرب إلى القبول والإمضاء، وكان من هداية اللطيف الخبير أن يدخله في هذا الاستثناء، ليكف عنه محبو الاستعلاء، ولا يتأثم به من يعرفون فائدة الإخفاء.

ج. وأما الإصلاح بين الناس فهو أيضا من الخير الذي قد يترتب على إظهاره والتحدث به في الملأ شر كبير، وضرر مستطير، فينقلب الإصلاح المطلوب إفسادا، وهذا مما لا يكاد يخفى على أحد عاش بين الناس واختبر أحوالهم فيما يكون بينهم من الخصام والشقاق والتنازع والصلح والتراضي بسعي محبي الإصلاح، فإن منهم من إذا علم أن ما يطالب به من الصلح كان بأمر زيد من الناس، لا يستجيب ولا يقبل، ومنهم من يصده عن الرضا بذلك ذكره بين الناس وعلمهم بأنه كان بسعي وتواطؤ، ومنهم من يشترط أن يكون خصمه هو الذي طلب مصالحته، ومنهم من يشترط أن يظن ذلك، والجهر بالحديث في ذلك قد يبطل ذلك، فالإصلاح بين الناس يحتاج فيه إلى الكتمان وأن يكون الأمر به والسعي إليه بين من يتعاونون عليه بالنجوى فيما بينهم.

7. لو أطلق القول في الكتاب بأن كثيرا من النجوى لا خير فيه ولم يستثن من ذلك شيء لذهب اجتهاد كثير من المتورعين إلى أن هذه الأمور من ذلك الكثير فيتركون النجوى بها خوفا من الوقوع فيما لا خير فيه، وحينئذ إما أن يرجحوا الجهر بالأمر بها فيفوت الغرض المقصود منها، ولو في بعض دون بعض، وإما أن يرجحوا ترك الأمر بها البتة، لئلا يترتب على النفع المقصود من الصدقة الضرر، وتأخذ من يؤمر بالمعروف العزة بالإثم، ويتحول إصلاح ذات البين إلى إفساد، فهذا ما ظهر لي الآن في المسألة.

8. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ بغى الشيء طلبه بالفعل وابتغاه أبلغ من بغاه في الدلالة على الطلب لأنه يدل على الاجتهاد فيه والاعتمال له، وإنما تنال مرضاة الله تعالى بالشيء إذا فعل على الوجه الذي يحصل به الخير ويتم به النفع الذي شرع لأجله، ويكون الفاعل له مظهرا لرحمته تعالى وحكمته، مع تذكر هذا عند العمل والشعور به، وبهذا القيد يكون المؤمن أرقى من الفيلسوف في عمله، وأبعد عن الغرور والدعوى فيه، وأرسخ قدما في الإخلاص، وتحري نفع الناس، والثبات على ذلك وعدم مزاحمة الأهواء الشخصية له وترجيحها عليه، ذلك بأن الفلاسفة وأخص منهم فلاسفة هذا الزمان يقولون إن الخير والفضيلة والكمال في الإنسانية هو أن يفعل الإنسان الخير لأنه خير نافع للهيأة الاجتماعية التي هو منها، والإيمان يهدينا إلى هذا وإلى ما هو أعلى منه وأشرف، وهو أن نشعر أنفسنا عند عمله أننا مظاهر لرحمة الله تعالى ورأفته بعباده، ومجالي لحكمته في إصلاح خلقه، وأن لنا بذلك قربا معنويا من ربنا، وإننا نلنا به مرضاته عنا، وصرنا به أهلا للجزاء الأوفى، في حياة أشرف من هذه الحياة وأرقى، وإن هذا الجزاء هو المعبر عنه بالأجر العظيم، وناهيك بما يشهد الله تعالى بعظمته في كتابه الحكيم، وليس هو من قبل جزاء الملوك والكبراء لمن يحسن خدمتهم، وينال مرضاتهم، بل هو أثر فطري طبيعي لارتقاء النفس بتلك الأعمال الصالحة، التي لا يقصد بها رياء ولا سمعة، إلى ما يزيد صاحبها بفضله وكرمه.

9. إن المؤمن الفقيه في دينه، الذي هو على بصيرة منه، يعمل الخير على هذا الوجه، حتى ترتقي روحه ارتقاء تصل به إلى ذلك الفضل، وأما صاحب تلك النظرية الفلسفية فقلما يعمل بها، وإن عمل بها أحيانا فقلما يكون مخلصا في عمله، وإذا تعارض هواه وشهوته مع خير غيره ومنفعته، فإنه يؤثر نفسه ولو بالباطل، على غيره من أصحاب الحق، فإذا كان مما وصف الله تعالى به المؤمنين أنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فهؤلاء الفلاسفة ومقلدتهم يؤثرون أنفسهم على غيرهم ولو عن ظهر غنى، ثم إنهم يميلون في تأويل الخير والنفع مع الهوى، وقد جرى لي حديث مع بعض كبراء المصريين في تحديد معنى الفضيلة فكان يتكلم بلسان الفلسفة، وأتكلم بلسان الإسلام الجامع بين الدين والحكمة، فلما حددها بما ينفع الهيئة الاجتماعية، قلت: إذا كان هذا هو المعنى فما هو الباعث للنفوس على العمل به؟ قال: هو اعتقاد كل فرد أن نفع الهيئة الاجتماعية نفع له فإذا صلحت عاش فيها سعيدا، وإذا فسدت لحقه شيء من فسادها فكان به شقيا، قلت: معنى الفضيلة إذاً أنْ يطلب الإنسان نفع نفسه مع ملاحظة نفع الهيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، فتختلف الأعمال التي تندرج في مفهومها الكلي فاختلاف آراء أفراد الناس فيما ينفع الهيئة الاجتماعية وفيما هو أرجح من المنافع عند تعارضها، مثال ذلك إذا قدرت أن تسرق مال رجل أو تخونه فيه إذا استودعك إياه ففعلت ذلك لاعتقادك أنك تقدر على ما لا يقدر صاحب المال عليه من نفع الهيئة الاجتماعية أو تنفقه فيما هو أنفع لها تكون بهذه السرقة وهذه الخيانة معتصما بعروة الفضيلة، قال: نعم، قلت: وإذا قدر رجل على أن يخون آخر في عرضه ويزني بامرأته معتقدا أنه لا ضرر في ذلك على الهيئة الاجتماعية لأنه في الخفاء فلا يثير نزاعا ولا خصاما فلا ينافي الفضيلة، أو أنه ربما ينفع الهيئة الاجتماعية بإيلادها ولدا يرث من ذكائه ما يكون فيه خيرا ممن تلدهم تلك المرأة من زوجها الشرعي، أو بما هو أوضح من هذا عنده كأن تكون تلك المرأة لا تلد من ذلك الرجل فهل يكون هذا العمل من مقومات الفضيلة المحدودة بما ذكرتم؟ قال: نعم كل من هذا وذاك يعد من الفضيلة في الواقع ونفس الأمر إذا كان اعتقاد الفاعل بنفعه للهيئة الاجتماعية صحيحا، وإن كان القانون لا يجيز الحكم له بحسب اعتقاده إذا ظهر الأمر ورفع إلى القاضي!!.

10. أقول: وقس على السرقة والخيانة والفاحشة جميع الرذائل حتى القتل فإنها يمكن أن تعد من الفضائل على ذلك التعريف إذا ظن فاعلها أنه ينفع الهيئة الاجتماعية، كأن يقتل من يرى هو في سياسته أو اعتقاده أو عمله ضررا وإن كان المقتول يرى ذلك نافعا، فهذا المذهب الجديد في الفلسفة العملية هو شر مذهب أخرج للناس، فإن الرذائل فيه قد تسمى عقائل الفضائل، والمفاسد تعد فيه من أنفع المصالح، والحاكم في ذلك هو الهوى، ولولا افتتان ضعفاء النفوس ببعض من يقولون به لما استحق أن يحكى، وكان للفلاسفة الأولين مذاهب في الفضيلة معقولة، وآراء صحيحة، وقد أنطقهم الله تعالى بكثير من الحكم، ولكن ثمرات عقولهم لم تكن دانية القطوف، يجنيها القوي والضعيف، ولم يكن لها ما لهداية الوحي من السلطان على القلوب والأرواح، والتأثير السريع في إصلاح شؤون الاجتماع، فمن ثم كان الدين أنفع من الفلسفة للناس.

11. ليس عندي شيء عن محمد عبده في تفسير هذه الآية إلا ما أسندته إليه في أول الكلام عليها، وقوله في تفسير ﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ﴾ إنها تطلب بالإخلاص، وعدم إرادة السمعة والرياء كما يفعل المتفاخرون من الأغنياء: تصدقنا أعطينا منحنا عملنا وعملنا فهؤلاء إنما يبتغون الربح بما يبذلون أو يعملون لا مرضاة الله تعالى، ولذلك يشق عليهم أن يكون خفيا، وأن يخلصوا في الحديث عنه نجيا، لأن الاستفادة منه بجذب القلوب إليهم، وتسخير الناس لخدمتهم، ورفعهم لمكانتهم، إنما تكون بإظهاره لهم، ليتعلق الرجاء فيهم.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/329.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لا يزال الحديث في الذين يختانون أنفسهم ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، وهم طعمة بن أبيرق ومن أراد مساعدته من بنى جلدته.

2. ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ أي لا خير في كثير من تناجى أولئك الذين يسرّون الحديث من جماعة طعمة الذين أرادوا مساعدته على اتهام اليهودي وبهته ومن سائر الناس، ولكن الخير كل الخير في نجواى، من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، وإنما قال في كثير لأن من النجوى ما يكون في الشئون الخاصة كالزراعة والتجارة مثلا فلا توصف بالشر ولا هي مقصودة من الخير، وإنما المراد بالنجوى الكثيرة المنفي عنها الخير هي النجوى في شئون الناس ومن ثم استثنى منها الأشياء الثلاثة التي هي جماع الخير للناس.

3. والكتاب الحكيم يجعل النجوى مظنّة الإثم والشر، ومن ثم خاطب الله المؤمنين بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا الله الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾، والسرّ في كون النجوى مظنة الشر في الأكثر أن العادة قد جرت بحب إظهار الخير والتحدث به في الملأ، وأن الشر والإثم هو الذي يذكر في السر والنجوى، وفي الأثر (الإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطّلع عليه الناس)

4. وقد استثنى الله من النجوى التي لا خير في أكثرها أمورا ثلاثة، لأن خيريتها أو كمالها تتوقف على الكتمان وجعل التعاون عليها سرا والحديث فيها نجوى:

أ. فالصدقة وهي من الخير قد يؤذى إظهارها المتصدّق عليه ويضع من كرامته، ومن ثم قال عزّ من قائل‏ ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾، وقد يكون الجهر بالأمر بها والحث عليها أشد إيذاء وإهانة من إيتائه إياها جهرا ولو مع الإخلاص وابتغاء مرضاة الله.

ب. وكذلك الأمر بالمعروف على مسمع من الناس فكثيرا ما يستاء منه المأمور به ولا سيما إذا كان الآمر من أقرانه لأنه يرى في أمره إياه استعلاء عليه بالعلم والفضل وإبهاما له بالتقصير أو الجهل، فمن ثم كانت النجوى به أبعد عن الإيذاء.

ج. ومثله الإصلاح بين الناس، فإنه ربما ترتب على إظهاره والتحدث به كثير من الشر، ألا ترى أن بعض الناس إذا علم أن ما يطالب به من الصلح كان بأمر فلان من الناس لا يستجيب ولا يقبل، أو يصده عن الرضا به ذكره بين الناس وعلمه بأنه كان بسعي وتواطؤ.

5. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أي ومن يفعل هذه الأعمال الثلاثة من الطاعات لوجه الله وطلب مرضاته فإن الله سيؤتيه الثواب العظيم والأجر الجزيل، وإنما تنال مرضاة الله بالشيء إذا فعل على الوجه الذي يحصل به الخير ويتم به النفع الذي شرع لأجله، وبذا ترقى روح الفاعل له ارتقاء تصل به إلى ذلك الفضل وتنال قربا معنويا من الله وتصير أهلا للجزاء الأوفى في حياة أشرف من هذه الحياة وأرقى.

6. والخلاصة ـ إن ابتغاء مرضاته إنما تطلب بالإخلاص وعدم إرادة السمعة والرياء كما يفعل المتفاخرون من الأغنياء (تصدقنا، أعطينا منحنا، عملنا وعملنا) فهؤلاء إنما يبتغون الربح بما يبذلون أو يعملون لا مرضاة لله تعالى، ولذلك يشق عليهم أن بكون خفيا، وأن يخلصوا في الحديث عنه نجيّا، لأن الاستفادة منه بجذب القلوب إليهم، وتسخير الناس لخدمتهم، ورفعهم لمكانتهم، إنما تكون بإظهاره لهم ليتعلق الرجاء فيهم.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/154.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يتصل هذا الدرس بالدرس السابق، بأكثر من صلة:

أ. فهو أولا نزلت بعض آياته تعليقا وتعقيبا على الأحداث التي تلت حادث اليهودي، من ارتداد (بشير بن أبيرق) ومشاقته للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وعودته إلى الجاهلية؛ التي تحدث هذا الدرس عنها، وعن تصوراتها وحماقاتها وعلاقاتها بالشيطان، ودور الشيطان فيها! ويقرر أن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك ـ لمن يشاء.

ب. وهو ثانيا يتحدث عن النجوى والتآمر؛ وأنه لا خير في كثير مما يتناجون به، من أمثال ما بيتوا في ذلك الحادث وتناجوا، ويحدد أنواع النجوى التي يحبها الله؛ وهي التناجي في فعل الخير والمعروف والإصلاح بين الناس، ويقرر جزاء هذه النجوى وتلك عند الله.. وأخيرا يقرر القواعد العادلة التي يجازي بها الله على الأعمال؛ وأنها ليست تابعة لرغبات أحد من الناس وتمنياتهم، لا أماني المسلمين ولا أماني أهل الكتاب، إنما هي ترجع إلى عدل الله المطلق؛ وإلى الحق الذي لو اتبع أهواءهم لفسدت السماوات والأرض.. فالدرس كله، موضوعا واتجاها، موصول الأسباب بالدرس السابق من هذه الناحية..

ج. ثم هو حلقة من حلقات المنهج التربوي الحكيم، في إعداد هذه الجماعة لتكون الأمة التي تقود البشرية؛ بتفوقها التربوي والتنظيمي؛ وليعالج فيها مواضع الضعف البشري ورواسب المجتمع الجاهلي؛ وليخوض بها المعركة في ميادينها كلها.. وهو الهدف الذي تتوخاه السورة بشتى موضوعاتها، ويتولاه المنهج القرآني كله..

2. ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾.. لقد تكرر في القرآن النهي عن النجوى؛ وهي أن تجتمع طائفة بعيدا عن الجماعة المسلمة وعن القيادة المسلمة، لتبيت أمرا.. وكان اتجاه التربية الإسلامية واتجاه التنظيم الإسلامي كذلك أن يأتي كل إنسان بمشكلته أو بموضوعه، فيعرضه على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مسارة إن كان أمرا شخصيا لا يريد أن يشيع عنه شيء في الناس، أو مساءلة علنية إن كان من الموضوعات ذات الصبغة العامة، التي ليست من خصوصيات هذا الشخص.

3. والحكمة في هذه الخطة، هو ألا تتكون (جيوب) في الجماعة المسلمة؛ وألا تنعزل مجموعات منها بتصوراتها ومشكلاتها، أو بأفكارها واتجاهاتها، وألا تبيت مجموعة من الجماعة المسلمة أمرا بليل، وتواجه به الجماعة أمرا مقررا من قبل؛ أو تخفيه عن الجماعة وتستخفي به عن أعينها ـ وإن كانت لا تختفي به عن الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول.

4. وهذا الموضع أحد المواضع التي ورد فيها هذا النهي عن التناجي والتبييت بمعزل عن الجماعة المسلمة وقيادتها.. ولقد كان المسجد هو ندوة الجماعة المسلمة، تتلاقى فيه وتتجمع للصلاة ولشئون الحياة، وكان المجتمع المسلم كله مجتمعا مفتوحا؛ تعرض مشكلاته ـ التي ليست بأسرار للقيادة في المعارك وغيرها؛ والتي ليست بمسائل شخصية بحتة لا يحب أصحابها أن تلوكها الألسن ـ عرضا عاما، وكان هذا المجتمع المفتوح من ثم مجتمعا نظيفا طلق الهواء، لا يتجنبه ليبيت من وراء ظهره، إلا الذين يتآمرون عليه! أو على مبدأ من مبادئه ـ من المنافقين غالبا ـ وكذلك اقترنت النجوى بالمنافقين في معظم المواضع.

5. وهذه حقيقة تنفعنا، فالمجتمع المسلم يجب أن يكون بريئا من هذه الظاهرة، وأن يرجع أفراده إليه وإلى قيادتهم العامة بما يخطر لهم من الخواطر، أو بما يعرض لهم من خطط واتجاهات أو مشكلات!

6. والنص القرآني هنا يستثني نوعا من النجوى.. هو في الحقيقة ليس منها، وإن كان له شكلها: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾.. وذلك أن يجتمع الرجل الخير بالرجل الخير، فيقول له: هلم نتصدق على فلان فقد علمت حاجته في خفية عن الأعين، أو هلم إلى معروف معين نفعله أو نحض عليه، أو هلم نصلح بين فلان وفلان فقد علمت أن بينهما نزاعا.. وقد تتكون العصبة من الخيرين لأداء أمر من هذه الأمور، وتتفق فيما بينها سرا على النهوض بهذا الأمر، فهذا ليس نجوى ولا تآمرا، ومن ثم سماه (أمرا) وإن كان له شكل النجوى، في مسارة الرجل الخير للخيرين أمثاله بأمر في معروف يعلمه أو خطر له..

7. على شرط أن يكون الباعث هو ابتغاء مرضاة الله: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.. فلا يكون لهوى في الصدقة على فلان، أو الإصلاح بين فلان وعلان، ولا يكون ليشتهر الرجل بأنه ـ والله رجل طيب ـ! يحض على الصدقة والمعروف، ويسعى في الإصلاح بين الناس! ولا تكون هناك شائبة تعكر صفاء الاتجاه إلى الله، بهذا الخير، فهذا هو مفرق الطريق بين العمل يعمله المرء فيرضى الله عنه ويثيبه به.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/759.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أكثر ما يجتمع عليه المنافقون هو الشرّ، وأكثر ما يتناجون به، هو السوء.. والنجوة، والمناجاة، هي المسارّة بالحديث، والتخافت به، بعيدا عمن يسمع أو يرى.. وأصل (النجوة) المكان المرتفع، ينجو به الإنسان والحيوان، ويعتصم فيه من أن تناله يد العدوّ.

2. ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ هو استثناء للجانب الطيب من النجوى، إذ ليس كلّ ما يسارّ به الناس بعضهم بعضا من حديث، وما يحجزونه عن أسماع غيرهم وأبصارهم هو من قبيل الشرّ، الذي يحرص الناس على كتمانه، وإخفاء وجهه عن غيرهم، فقد يكون في هذا الحديث الخفيّ ما يراد به الخير والإحسان، وقد يكون في كشفه والمعالنة به تفويت للخير الذي ينطوي عليه، وتضييع للإحسان المراد منه.. فمن اجتمع إلى غيره، وتناجى معه فيما هو خير له وللناس.. كدعوة إلى صدقة، أو توجيه إلى معروف، أو إصلاح بين الناس فلا حرج عليه في هذه النجوى، متحدّثا أو مستمعا..

3. وإذ كانت (النجوى) غالبا ما تحمل على الرّيب والظنون بأهلها، كان على الإنسان أن يحرس نفسه من أن يكون مظنّة تهمة أو ريبة، وألا يدخل مداخلها إلا إذا كانت غايته منها تحصيل الخير له أو لغيره، وألا يكون وراءها شر يدبّر للناس، أو كيد يكاد لهم به..

4. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، الإشارة هنا بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ متوجهة إلى الأمر بالصدقة أو المعروف أو الإصلاح بين الناس.. أي ومن فعل ذلك في مناجاته، لا يريد به إلا وجه الله، فله أجر عظيم عند الله، وثواب كريم لما فعل.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/897.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لم تخل الحوادث التي أشارت إليها الآي السابقة، ولا الأحوال التي حذّرت منها، من تناج وتحاور، سرّا وجهرا، لتدبير الخيانات وإخفائها وتبييتها، لذلك كان المقام حقيقا بتعقيب جميع ذلك بذكر النجوى وما تشتمل عليه، لأنّ في ذلك تعليما وتربية وتشريعا، إذ النجوى من أشهر الأحوال العارضة للناس في مجتمعاتهم، لا سيما في وقت ظهور المسلمين بالمدينة، فقد كان فيها المنافقون واليهود وضعفاء المؤمنين، وكان التناجي فاشيا لمقاصد مختلفة، فربما كان يثير في نفوس الرائين لتلك المناجاة شكّا، أي خوفا، إذ كان المؤمنون في حال مناواة من المشركين وأهل الكتاب، فلذلك تكرّر النهي عن النجوى في القرآن نحو ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى﴾ [المجادلة: 8] الآيات، وقوله: ﴿إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾ [الإسراء: 47]، وقوله: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ [البقرة: 14]، فلذلك ذمّ الله النجوى هنا أيضا، فقال: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾، فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا لإفادة حكم النجوى، والمناسبة قد تبيّنت.

2. النجوى مصدر، هي المسارّة في الحديث، وهي مشتقّة من النجو، وهو المكان المستتر الذي المفضي إليه ينجو من طالبه، ويطلق النجوى على المناجين، وفي القرآن‏ ﴿إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾ وهو ـ وصف بالمصدر ـ والآية تحتمل المعنيين.

3. الضمير الذي أضيف إليه‏ ﴿نَجْوَى﴾ ضمير جماعة الناس كلّهم، نظير قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ في سورة هود [5]، وليس عائدا إلى ما عادت إليه الضمائر التي قبله في قوله: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ﴾ [النساء: 108] إلى هنا؛ لأنّ المقام مانع من عوده إلى تلك الجماعة إذ لم تكن نجواهم إلّا فيما يختصّ بقضيتهم، فلا عموم لها يستقيم معه الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾

4. وعلى هذا فالمقصود من الآية تربية اجتماعية دعت إليها المناسبة، فإنّ شأن المحادثات والمحاورات أن تكون جهرة، لأنّ الصراحة من أفضل الأخلاق لدلالتها على ثقة المتكلّم برأيه، وعلى شجاعته في إظهار ما يريد إظهاره من تفكيره، فلا يصير إلى المناجاة إلّا في أحوال شاذّة يناسبها إخفاء الحديث، فمن يناجي في غير تلك الأحوال رمي بأنّ شأنه ذميم، وحديثه فيما يستحيي من إظهاره، كما قال صالح بن عبد القدوس:

çالستر دون الفاحشات ولا...يغشاك دون الخير من سترé

5. وقد نهى الله المسلمين عن النجوى غير مرّة، لأنّ التناجي كان من شأن المنافقين فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [المجادلة: 8]، وقال: ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المجادلة: 10]

6. وقد ظهر من نهي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يتناجى اثنان دون ثالث أنّ النجوى تبعث الريبة في مقاصد المتناجين، فعلمنا من ذلك أنّها لا تغلب إلّا على أهل الريب والشبهات، بحيث لا تصير دأبا إلّا لأولئك، فمن أجل ذلك نفى الله الخير عن أكثر النجوى.

7. معنى‏ ﴿لَا خَيْرَ﴾ أنّه شرّ، بناء على المتعارف في نفي الشيء أن يراد به إثبات نقيضه، لعدم الاعتداد بالواسطة، كقوله تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [يونس: 32]، ولأنّ مقام التشريع إنّما هو بيان الخير والشرّ.

8. نفى الخير عن كثير من نجواهم أو متناجيهم، فعلم من مفهوم الصفة أنّ قليلا من نجواهم فيه خير، إذ لا يخلو حديث الناس من تناج فيما فيه نفع.

9. الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ على تقدير مضاف، أي: إلّا نجوى من أمر، أو بدون تقدير إن كانت النجوى بمعنى المتناجين، وهو مستثنى من‏ ﴿كَثِيرٍ﴾، فحصل من مفهوم الصفة ومفهوم الاستثناء قسمان من النجوى يثبت لهما الخير، ومع ذلك فهما قليل من نجواهم:

أ. أمّا القسم الذي أخرجته الصفة، فهو مجمل يصدق في الخارج على كلّ نجوى تصدر منهم فيها نفع، وليس فيها ضرر، كالتناجي في تشاور فيمن يصلح لمخالطة، أو نكاح أو نحو ذلك،

ب. أمّا القسم الذي أخرجه الاستثناء فهو مبيّن في ثلاثة أمور: الصدقة، والمعروف، والإصلاح بين الناس، وهذه الثلاثة لو لم تذكر لدخلت في القليل من نجواهم الثابت له الخير، فلمّا ذكرت بطريق الاستثناء علمنا أنّ نظم الكلام جرى على أسلوب بديع فأخرج ما فيه الخير من نجواهم ابتداء بمفهوم الصفة، ثم أريد الاهتمام ببعض هذا القليل من نجواهم، فأخرج من كثير نجواهم بطريق الاستثناء، فبقي ما عدا ذلك من نجواهم، وهو الكثير، موصوفا بأن لا خير فيه وبذلك يتّضح أنّ الاستثناء متّصل، وأن لا داعي إلى جعله منقطعا، والمقصد من ذلك كلّه الاهتمام والتنويه بشأن هذه الثلاثة، ولو تناجى فيها من غالب أمره قصد الشرّ.

10. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ وعد بالثواب على فعل المذكورات إذا كان لابتغاء مرضاة الله، فدلّ على أنّ كونها خيرا وصف ثابت لها لما فيها من المنافع، ولأنّها مأمور بها في الشرع، إلّا أنّ الثواب لا يحصل إلّا عن فعلها ابتغاء مرضاة الله كما في حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، وقرأ الجمهور: (نؤتيه) ـ بنون العظمة ـ على الالتفات من الغيبة في قوله: ﴿مَرْضَاتِ الله﴾

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/253.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في آخر الآيات السابقة، أشار سبحانه إلى أن هناك طائفة تدبر التدابير للإخلال والإضرار، وأن الله تعالى مبطل مكرهم وتدبيرهم الشر، في هذا النص الكريم يشير إلى أن الشر لا يدبر إلا في خفاء، ولا يكون في إعلان، وأن الناس يعلنون خيرهم ويخفون شرهم، والإسرار بمقتضى الطبيعة البشرية لا يكون إلا فيما يخشى إعلانه، ويتقى اطلاع الناس عليه، ولكن مع ذلك قد يكون من الخير الإسرار في بعض الأمور.

2. ولذا قال تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ يقول الأصفهاني في مفرداته في بيان النجوى: إن أصل هذه المادة الانفصال عن الشيء والنجوة والنجاة المكان المرتفع، والنجوى عنده اسم مصدر للمناجاة، وهي المسارة، وهي عنده أن تخلو بإنسان وتخاطبه كأنك تسر إليه شيئا، ولا خير في كثير من هذه المناجاة، إلا أن تكون أمرا بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس:

أ. فالأمر الأول من التناجى المحمود هو الأمر بالصدقة، والصدقة هي التبرع والتطوع بفعل الخير، من إنفاق مال، أو مساعدة ضعيف، أو إنظار مدين معسر، أو ترك الدين والعفو عنه، يقول تعالى: ﴿وإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ وأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة]، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما تأكله العافية فهو صدقة)، أي ما يقدمه الإنسان من قوة بدنية فهو صدقة، فمعونة الضعيف على حمل ما يحمل صدقة، وبهذا التفسير العام لكلمة الصدقة نقول: كل ما يقدم من معونة إنسانية بالبدن أو المال، عطاء أو تركا، وكل ما يتسامح فيه الإنسان: تأليفا لقلب محب، يكون صدقة، بل إن بعض العلماء جعلها تعم كل أبواب الخير، ومن ذلك قوله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كل معروف صدقة)

ب. والأمر الثاني من التناجى المحمود: الأمر بالمعروف في لغة القرآن الكريم معناها ما يقره العقل ولا يستنكره، ويقوى الروابط الاجتماعية، ويقيمها على دعائم من الفضيلة ورعاية الحقوق والواجبات، فالمعروف لفظ يعم كل أعمال البر، وخصوصا الاجتماعية منها: وإن المعروف مقابل المنكر، من حيث معناه، ومن حيث حكمه، فالمنكر هو كل ما يضر الإنسان والمجتمع، وهو منهى عنه، والمعروف كل ما يصلح الإنسان والمجتمع، وهو مأمور به مطلوب، فالتناجى لتدبير خطة إصلاحية، ومبادئ اجتماعية، وقيام بحق الله تعالى في إقامة مجتمع فاضل، هو من أفضل الفضائل، وإن المعروف يجب القيام به حيثما لاحت فرصته، وقد قال في ذلك الماوردى في كتابه القيم (أدب الدنيا والدين): (ينبغى لمن يقدر على إسداء المعروف‏ أن يجعله حذار فواته، ويبادر خفية عجزه، وليعلم أنه من فرص زمانه، وغنائم إمكانه)

ج. والأمر الثالث الذى يصح التناجى فيه: أمر الإصلاح بين الناس، سواء كانوا جماعات وأمما، أم كانوا آحادا وأفرادا، والإصلاح بين الناس فريضة اجتماعية تجب على أولى العزم من الرجال، وهي ضريبة ذي الجاه والمنزلة، فإذا كان بين اثنين خصام وأزاله، فقد قرب الله بين قلبين، وإن القضاء والفصل في الخصومات يورث في القلوب إحنا، بينما الصلح بينهم يبقى المودة، ولقد قال في ذلك الإمام عمر في كتابه إلى أبى موسى الأشعري: (رد الخصوم حتى يصطلحوا، فإن القضاء يورث بينهم الضغائن)، ولقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من أصلح بين اثنين أعطاه الله تعالى بكل كلمة عتق رقبة)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم لأبى أيوب الأنصاري: (ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله؟ تصلح بين أناس إذا تفاسدوا، وتقرب بينهم إذا تباعدوا)، والإصلاح بين الجماعات المتناحرة أوفر خيرا من إصلاح الآحاد، والله تعالى يقول: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات‏]، فكرر سبحانه الأمر بالإصلاح قبل القتال وبعده، في أثنائه، وإن الذى أذهب النخوة من المسلمين قتال كبرائهم، وعدم وجود من يصلح ذات البين بينهم، حتى ترامى بعضهم في أحضان أعدائه وأعداء الله، وإثم ذلك على من لم يسع بالصلح، ورأب الكلم.

3. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ العبادات في الإسلام ليست مقصورة على الصلاة والصوم والحج، بل إن كل عمل فيه خير إذا قصد به إرضاء الله سبحانه وتعالى يكون عبادة، ولذلك يقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، وإن محبة أي شيء لله تعالى عبادة، ولذلك يقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله)، ومن أجل هذا كان من يفعل الخير بالتناجى والتعاون على إصلاح الجماعة، بإفشاء البر والإصلاح بين الناس، وإقامة المعروف، وإبعاد المنكر ـ من يفعل ذلك طالبا مرضاة الله تعالى ولا يبغى سواه، فإن الله تعالى سيؤتيه جزاء عظيما بالغا أقصى درجات العظمة، وسوف هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل.

4. وعلى الناس من بعد أن يطلبوا مرضاة الله بقوة إيمان في كل ما يتجهون إليه من إصلاح شئون الجماعة، فلا بركة في عمل، مهما يكن صالحا في ذاته، إلا إذا طلب به إرضاء الله، فالقوانين والنظم التعاونية والاشتراكية إذا لم يقصد بها وجه الله لا بركة فيها، فعلينا أن نتجه إلى الله في كل ما نعمل.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1854.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾، بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السابقة الذين يبيتون ما لا يرضى من القول، ويجادلون عن الخائنين قال في هذه الآية: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾ فضمير نجواهم يعود على هؤلاء بدلالة ظاهر السياق، ولكنه في المعنى يعم كل نجوى في شئون الناس، لأن السبب الموجب عام لا يختص بفرد، دون فرد، ولا بفئة دون فئة.. والصدقة بذل المال للبؤساء والمعوزين، والإصلاح بين الناس يوفر عليهم الكثير من المتاعب، ويدفع عنهم الكثير من المشاكل، والمعروف ما يعترف العقل والشرع به ويريانه حسنا، والمنكر ضده، ويشمل العلم وجميع الأعمال الحسنة، ومنها الصدقة، وإصلاح ذات البين، وخصهما الله سبحانه بالذكر للتنبيه على أهميتهما، قال الرازي: (ان مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية).. وأجمع منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾

2. سؤال وإشكال: ان الناس تتناجى في شئون التجارة والصناعة والزراعة، وما إليها من شئون الحياة، فهل هذا التناجي مما لا خير فيه؟ والجواب: ان هذا التناجي خير محض ما دام ضمن حدوده المشروعة، ومنه ما هو واجب شرعا وعرفا وعقلا، وهو كل ما لا تتم الحياة إلا به.. والآية بمعزل عن هذا النوع من التناجي، وانما تعرضت للذين يتناجون ويتحدثون عن الناس، كما هو شأن البطالين، يملئون فراغهم بالقال والقيل، والاشتغال بهذا طويل، وهذا قصير.. وقد جاء لفظ (كثير) في الآية للدلالة على أن النجوى في شئون الناس لا خير فيها إلا إذا عادت عليهم بالفائدة والنفع بجهة من الجهات.. أما التناجي في شئون الحياة فلم تتعرض له الآية سلبا ولا إيجابا.

3. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، الأمر بالمعروف خير، ما في ذلك ريب، ولكن العامل به لوجه الله، لا للكسب‏ والجاه أفضل من الذي يأمر بالمعروف، ويفلسفه، ويبين محاسنه وفوائده ولا يعمل به، بل الحجة على هذا أقوى وأبلغ.. قال تعالى: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف: 30]، ولم يقل: من أحسن قولا.. ان الامر بالمعروف والدعوة اليه وسيلة، والعمل هو الغاية، ومن أمر به وأتمر كان ممن عناه الله بقوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 32]، فالقول المعروف حسن، ويزداد حسنا إذا اقترن بالعمل.. هذا، إلى أن الأقوال وان ترتب على ظاهرها آثار الإسلام، كالزواج والميراث، ولكن لا يدل على الايمان الصحيح إلا الاعمال الصالحات، قال الإمام علي عليه السلام: (فبالإيمان يستدل على الصالحات، وبالصالحات يستدل على الايمان)

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/436.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ قال الراغب: (وناجيته‏ أي ساررته وأصله أن تخلو به في نجوة من الأرض) فالنجوى‏ المسارة في الحديث، وربما أطلق على نفس المتناجين قال تعالى: ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾ [الإسراء: 47] أي متناجون.

2. وفي الكلام أعني قوله: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾ عود إلى ما تقدم من قوله تعالى:‏ ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ بناء على اتصال الآيات وقد عمم البيان لمطلق المسارة في القول سواء كان ذلك بطريق التبييت أو بغيره لأن الحكم المذكور وهو انتفاء الخير فيه إنما هو لمطلق المسارة وإن لم تكن على نحو التبييت، ونظيره قوله: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ﴾ دون أن يقول: ومن يناج للمشاقة، لأن الحكم المذكور لمطلق المشاقة أعم من أن يكون نجوى أو لا.

3. ظاهر الاستثناء أنه منقطع، والمعنى: لكن من أمر بكذا وكذا فيه ففيما أمر به شيء من الخير، وقد سمى دعوة النجوى إلى الخير أمرا وذلك من قبيل الاستعارة، وقد عد تعالى هذا الخير الذي يأمر به النجوى ثلاثة: الصدقة، والمعروف، والإصلاح بين الناس، ولعل إفراد الصدقة عن المعروف مع كونها من أفراده لكونها الفرد الكامل في الاحتياج إلى النجوى بالطبع، وهو كذلك غالبا.

4. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله﴾ تفصيل لحال النجوى ببيان آخر من حيث التبعة من المثوبة والعقوبة ليتبين به وجه الخير فيما هو خير من النجوى، وعدم الخير فيما ليس بخير منه، ومحصله أن فاعل النجوى على قسمين:

أ. أحدهما: من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله، ولا محالة ينطبق على ما يدعو إلى معروف أو إصلاح بين الناس تقربا إلى الله، وسوف يثيبه الله سبحانه بعظيم الأجر.

ب. ثانيهما: أن يفعل ذلك لمشاقة الرسول واتخاذ طريق غير طريق المؤمنين وسبيلهم، وجزاؤه الإملاء والاستدراج الإلهي ثم إصلاء جهنم وساءت مصيرا.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/82.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ (النجوى): الكلام الذي يكون بين متحادثين يكتمونه عن غيرهم، فلا خير في كثير من النجوى؛ لأن الداعي إلى كتمانها في الغالب كونها في ذلك الظرف تناجياً بالباطل الذي يخاف أهله من أن يُطّلع عليه، وقد يكون النجوى لأمرٍ بصدقة أو معروف فهذا حسن، وقد تقتضي الحال إخفاءَه لوجود من يعارض الأمر ويثبط فيخفى ليسلم الأمر من المعارضة، أو لوجود من يطالب في الصدقة، فإذا علم بالأمر بها لغيره ألحَّ في الطلب وآذى وغيره أحق، وقد يكون الإخفاء لغير ذلك من الأغراض الحسنة.

2. وكذلك الأمر بمعروف إن أريد بالمعروف الإحسان، وإن أريد به الواجب، والظاهر: العموم، فقد يكون إخفاؤه أقرب لطاعة الآمر إذا كان المأمور يأنف من الأمر بين الناس كالنصيحة وكذلك الإصلاح بين الناس، فقد يوجد من يعارض الصلح ولو علم به لأفسد واحتال عند أحد الخصمين حيلة لئلا يقبل الصلح، ولعل هذا يشير إلى الاستعانة على الأمور بالكتمان، كما روي في (سلسلة الإبريز بالسند العزيز) عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (استعينوا على الحوائج بالكتمان)، وقوله تعالى: ﴿لَا خَيْرَ﴾ يعم المنكر والمباح الذي يضيع به الوقت في غير مصلحة.

3. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ أي الأمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله﴾ طلباً لمرضاة الله وتوصلاً إليها، وفي هذا ترغيب عظيم؛ لأن مرضاة الله أهم ما يطلب ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ فحصل له النجاة من غضب الله والفوز بثوابه العظيم، وقد قلّ من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله، بل قد يصلح بين الناس بعض الكبراء لطلب حسن الصيت، أو لأخذ الأجرة من المتخاصمين، أو لمجموع الغرضين ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا﴾ [الإنسان:27]

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/167.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لقد كانت حادثة السرقة، التي تقدم الحديث عنها، منطلقا للحديث عن‏ عدة مبادئ تتصل بخصوصياتها وترتبط بالقضايا العامة للناس؛ ومن هذه المبادئ موضوع التناجي الذي يمثل الحديث بين شخصين أو أكثر، والذي يأخذ طابع السريّة والتخفّي حذرا من اطلاع أحد آخر عليه.

2. وقد جاءت هذه الآية لتتحدث عن الموضوع في مستوى القاعدة، فأطلقت الحكم ـ في البداية ـ على سبيل العموم: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾، لأن السرية في الحديث في المجتمع الذي يرتكز على أسس العصبية أو يخضع لبعض أعراف الجاهلية ورواسبها، قد تلتقي غالبا بالأفكار الشريرة التي يخشى أصحابها من اطّلاع الناس عليها، فيحاولون أن يستفيدوا من أجواء السرية التي تشعرهم بالأمن والطمأنينة في الحديث عن كل ما يريدون من أوضاع التآمر على الإسلام والمسلمين، أما الذين يفكرون بالخير، فإنهم لا يخافون من تحمّل مسئوليته، ولا يحاذرون من الإعلان عنه أمام الناس، لأنه يلتقي بالجانب المشرق من حياة الأمة، وبالأجواء الطاهرة من قضاياها وأمانيها، فليست هناك أية مشكلة طبيعية من هذه الناحية، إلا في بعض الحالات التي يحتاج فيها الإنسان إلى الإسرار، حذرا من أعداء الأمة الذين يريدون تعطيل فرص الصلاح والإصلاح للناس.

3. وهذا هو ما استثناه القرآن في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾، ففي موضوع الصدقة التي تمثل جانب العطاء المادي للفئات الكريمة المحرومة التي قد تجد حرجا كبيرا في الإعلان عن حاجتها من خلال إظهار التصدق عليها أمام الناس، أو التداول في الدعوة إلى إعانتها بين الأغنياء، قد تمس الحاجة إلى الإسرار بها والتناجي في شأنها حفظا لكرامة الفقراء، أما المعروف، فهو العنوان الكبير لكل أعمال الخير التي يحبها الله للناس، فيما أمر به ورغّب فيه ودعا إليه، مما يفيد الفرد والمجتمع فيما يدخل في الممارسات الشخصية في شؤون الفرد الخاصة، وفيما يندرج في الأعمال الاجتماعية التي تتحرك في نطاق العلاقات‏ الإنسانية، أو الأعمال السياسية التي تبني للناس حكم العدل وتهدم حكم الظلم وتطور حياتهم نحو الأفضل، فقد يكون التناجي بالقضايا المتصلة به والإسرار بخصوصياته وتفاصيله، مما تدعو إليه الحاجة، حفاظا على سلامة العمل ونجاح الخطة، وذلك إذا كان التنفيذ خاضعا لخطّة معيّنة، فإن أعداء المعروف ـ لا سيّما ما يتصل بالجانب السياسي منه ـ قد يعطلون الخطة التنفيذية إذا اطلعوا على أسرارها وأوضاعها.

4. أما الإصلاح بين الناس، فهو المبدأ الذي جعله الإسلام في مقدّمة النشاطات المهمّة التي أرادها الله من المسلمين، حتى جاء الحديث الشريف عن النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم:‏ (صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام..) فقد تمس الحاجة إلى التحرك نحوه في نطاق المفاوضات السرية المعقّدة والمشاورات الخاصة الخفية، من أجل أن تتجمّع كل خيوط الخطة في يد القائمين بالإصلاح، حذرا من أن يمسكها أو يمسك بعضها الأشخاص الذين يكرهون ذلك، بسبب عقدة ذاتية أو بسبب أطماع خاصة أو عامة..

5. ثم تنطلق الآية في لفتة روحية تدفع الإنسان إلى أن يمارس هذه الأمور الثلاثة، طلبا لما عند الله ورغبة في الحصول على رضاه، لئلا يكون جهده ضائعا إذا سار فيها تبعا لنوازعه الذاتية، فإن الله يعطي العاملين من أجله أجرا عظيما.. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ أما الذين لا يعملون له، فليس لهم على الله شيء.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/459.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لقد أشارت الآيات السابقة إلى اجتماعات سرية شيطانية كان يعقدها بعض المنافقين أو أشباههم، وقد تطرقت الآية الأخيرة إلى هذا الأمر بشيء من التفصيل.

2. كلمة (النجوى) لا تعني الهمس فقط، بل تطلق على كل اجتماع سري أيضا، لأنّها مشتقة من المادة (نجوه) على وزن (دفعه) أي بمعنى الأرض المرتفعة، وبما أنّ الأرض المرتفعة تكون شبه معزولة عن الأراضي التي حولها، وأن الجلسات السرية والهمس يتمّان بمعزل عن الأفراد الذين يكونون في الأراضي المحيطة بها سمّيت هذه الأخيرة بالنجوى، ويرى بعضهم أنّ كلمة (النجوى) مشتقة من مادة (النجاة) أي التحرر، وبمعنى أن البقعة المرتفعة تكون بمنأى ومنجى عن خطر السيل، وإن الاجتماع السري أو الهمس يكونان بمنجى من معرفة الآخرين.

3. الآية هنا تذكر أنّ أغلب الاجتماعات السرّية التي يعقدها أولئك تهدف إلى غايات شيطانية شريرة لا خير فيها ولا فائدة، إذ تقول: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾

4. ولكي لا يحصل وهم من أن كل نجوى أو همس أو اجتماع سري يعتبر عملا مذموما أو حراما جاءت الآية بأمثال كمقدمة لبيان قانون كلي، وأوضحت الموارد التي تجوز فيها النجوى، مثل أن يوصي الإنسان بصدقة أو بمعونة للآخرين أو بالقيام بعمل صالح أو أن يصلح بين الناس، فتقول الآية في هذا المجال: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾، فإذا كان هذا النوع من النجوى أو الهمس أو الاجتماعات السرّية لا يشوبه الرياء والتظاهر، بل كان مخصصا لنيل مرضاة الله، فإنّ الله سيخصص لمثل هذه الأعمال ثوابا وأجرا عظيما، حيث تقول الآية: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾

5. وقد عرف القرآن النجوى والهمس والاجتماعات السرّية ـ من حيث المبدأ ـ بأنّها من الأعمال الشّيطانية، في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ﴾ والسبب هو أنّ هذه الأعمال غالبا ما تحدث لأغراض سيئة، وحيث أنّ عمل الخير والشي‏ء النافع والإيجابي لا يحتاج في العادة إلى أن يكون ـ أو يبقى ـ سرّيا أو مكتوما عن الناس، ولذلك فلا حاجة بالتحدث عن مثل هذه الأعمال بالهمس والنجوى، أو في اجتماعات سرّية، ولمّا كان من المحتمل أن تطرأ ظروف استثنائية تجبر الإنسان على الاستفادة من أسلوب النجوى في أعمال الخير، لذلك ورد الاستثناء بصورة مكررة في القرآن، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾

6. والنجوى إذا حصلت ابتداء في جمع من الناس، أثارت لديهم سوء الظّن حيالها، حتى أنّ سوء الظن قد يبدر من الأصدقاء حيال النجوى التي تحصل بينهم، وعلى هذا الأساس فإنّ الأفضل أن لا يبادر الإنسان إلى النجوى إلّا إذا اقتضت الضرورة ذلك، وهذه هي فلسفة هذا الحكم الوارد في القرآن.

7. وبديهي أنّ سمعة الإنسان تستلزم ـ أحيانا ـ اتباع أسلوب النجوى، ومن جملة هذه الموارد:

أ. تأتي مسألة الصدقات أو المعونات المالية، التي أجاز القرآن استخدام النجوى بشأنها لحفظ ماء الوجه وسمعة الأشخاص الذين يتلقون هذه المعونات.

ب. والمجال الآخر للنجوى هو عند الأمر بالمعروف، حيث أنّ هذا الأمر لو تمّ أحيانا بصورة علنية لأصبح سببا في فضيحة أو خجل الشخص المخاطب بالمعروف بين الناس الحاضرين، وقد يصبح سببا في أن يمتنع عن قبول ذلك ويقاوم هذا الأمر الذي عبّرت عنه الآية بالمعروف.

ج. والحالة الأخرى التي يجوز فيها النجوى هي في مجال الإصلاح بين الناس، الذي يقتضي أن يكون سريا أحيانا لضمان تحقيقه، إذ من الممكن لو أنّ الأمر تمّ بصورة علنية لحال دون حدوث الإصلاح، لذلك يجب أن يتمّ الإصلاح بالتحدث إلى كل طرف من أطراف النزاع بصورة خفية، أي بطريق النجوى.

8. إذن فالنجوى جائزة وقد تكون ضرورية في الحالات الثلاث التي مر الحديث عنها، وكذلك في حالات مشابهة.

9. والملفت للنظر في الحالات الثلاث المذكورة هو أنّها تأتي كلها ضمن معنى (الصدقة) وذلك لأنّ من يأمر بالمعروف إنّما يدفع زكاة علمه، ومن يسعى في إصلاح ذات البين يدفع بذلك زكاة قدرته ومنزلته المؤثرة في الناس. وقد نقل عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السّلام قوله: (إنّ الله فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيديكم)، ونقل عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله لأبي أيوب: (ألا أدلك على صدقة يحبّها الله ورسوله تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا).

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/448.

106. الشقاق واتباع غير سبيل المؤمنين وجزاؤه

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈106⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه عن رجل من الأنصار، قال: خرجت أنا والأشعث الكندي وجرير البجلي حتى إذا كنا بظهر الكوفة بالفرس، مر بنا ضب، فقال الأشعث وجرير: السلام عليك يا أمير المؤمنين، خلافا على الإمام علي (ت 40 هـ)، فلما خرج الأنصاري، قال الإمام علي: دعهما فهو إمامهما يوم القيامة، أما تسمع إلى الله وهو يقول: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/275.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾، نزلت هذه الآية في نفر من قريش قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة، ودخلوا في الإسلام، فأعطاهم رسول الله، ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين، ورجعوا إلى عبادة الأوثان؛ فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾(1).

2. روي أنّه قال: إن هذه الآية نزلت في شيخ من الأعراب جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا نبي الله، إني شيخ متهتك في الذنوب، إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به، ولم أتخذ من دونه وليا، ولم أواقع المعاصي جرأة على الله، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربا، وإني لنادم تائب مستغفر، فما حالي؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية(1).

3. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا يجمع الله أمتي ـ أو قال هذه الأمة ـ على الضلالة أبدا، ويد الله على الجماعة(2).

__________

(1) أورده الثعلبي ٣/٣٨٦.

(2) الترمذي ٤/٢٤١.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾، يقول: ﴿نُوَلِّهِ﴾ في الآخرة ﴿مَا تَوَلَّى﴾ من آلهة الباطل في الدنيا(1).

__________

(1) تفسير مجاهد ص ٢٩٢.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: فلما أنزل الله في الأنصاري ما أنزل استحيا أن يقيم بين ظهراني المسلمين، فلحق بالمشركين؛ فأنزل الله: ‌‌﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾(1).

2. روي أنّه قال: لما أنزل الله في الأنصاري ما أنزل استحيا أن يقيم بين ظهراني المسلمين، فلحق بالمشركين؛ فأنزل الله: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾، ثم استتابه الله، فقال: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية، فلما نزلت هذه الآية رجع إلى المسلمين(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين ١/٤٠٦.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: لما كان أمير المؤمنين في الكوفة أتاه الناس، فقالوا: اجعل لنا إماما يؤمنا في شهر رمضان، فقال: لا، ونهاهم أن يجتمعوا فيه، فلما أمسوا جعلوا يقولون: ابكوا في رمضان وا رمضاناه، فأتاه الحارث الأعور في أناس، فقال: يا أمير المؤمنين، ضج الناس وكرهوا قولك، فقال عند ذلك: دعوهم وما يريدون، ليصلي بهم من شاءوا، ثم قال فمن ﴿يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً﴾(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/275.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾، اختان رجل من الأنصار عما له درعا، فقذف بها يهوديا كان يغشاهم، فجادل عم الرجل قومه، فكأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عذره، ثم لحق بدار الشرك؛ فنزلت فيه: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ الآية(1).

__________

(1) عبد الرزاق ١/١٧٢.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: فلما فضح الله طعمة بالمدينة بالقرآن هرب حتى أتى مكة، فكفر بعد إسلامه، ونزل على الحجاج بن علاط السلمي، فنقب بيت الحجاج، فأراد أن يسرقه، فسمع الحجاج خشخشته في بيته وقعقعة جلود كانت عنده، فنظر، فإذا هو بطعمة، فقال: ضيفي وابن عمي! فأردت أن تسرقني!؟ فأخرجه، فمات بحرة بني سليم كافرا، وأنزل الله فيه: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ إلى: ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٦٧.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ من الآلهة، ﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ يعني: وبئس المصير(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٠٧.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قيل: لما تبين خيانته لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم استحيا أن يقيم بالمدينة؛ فارتد، ولحق بمكة كافرًا؛ فنزل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ يقول: يخالف الرسول ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وعن ابن عَبَّاسٍ: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾، يقول: من بعد ما كان كافرًا تبين له الإسلام وأسلم، وقال: لما أبان أمر طُعْمَة، وعلم أنه سرق الدرع ـ أنزل الله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾؛ قيل له: يا طعمة، إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قاطِعُك؛ فخرج هاربًا إلى مكة.

2. ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني: غير دين المؤمنين، وفي حرف ابن مسعود: (ويسلك غير سبيل المؤمنين)

3. ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾:

أ. أي: نتركه وما تولى من ولاية الشيطان.

ب. وقيل: ندعه وما اختار من الدِّين غير دين المؤمنين.

ج. وقيل: أي: نوله في الآخرة ما تولى في الدنيا.

د. ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ أنه تولى الشيطان؛ فجعله الله وليًّا؛ كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا﴾، وغير ذلك، ويكون نخذله فيما اختاره، ونكون نجزه جزاء توليه، ويكون بخلق توليه منه جورًا باطلا، مهلكًا له.

4. ﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾، أي: ندخله جهنم في الآخرة، ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ يقول: بئس المصير صار إليه.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٦١.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى ﴿يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ يباين الرسول معادياً له، فيفارقه على العداوة، لأن المشاقة هي المباينة على وجه العداوة ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾ معناه من بعد ما تبين له وظهر أنه رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله حق، وهدى موصل إلى الصراط المستقيم بما معه من الآيات والمعجزات مثل القرآن وغيره.

2. ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ معناه ويتبع غير سبيل من صدقه وسلك منهاجا غير منهاجهم‏ ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ معناه نجعل ناصره ما استنصره واستعان به من الأوثان والأصنام وهي لا تغنيه ولا تدفع عنه من عذاب الله شيئاً.

3. ﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾ أي ونجعله صلى نار جهنم معناه نحرقه بها وقد بينا معنى الصلى فيما تقدم‏ ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ يعنى موضعاً يصير اليه من صار اليه.

4. قرأ ابو عمرو وحمزة وأبو بكر البرجمي، والداجوى عن هشام، وأبو جعفر من طريق النهرواني قوله: (ونصله، ونوده) (ولا يؤده) حيث وقع بسكون الهاء فيهن، قال الزجاج يقول في ذلك كسر الهاء، واثبات الياء وضم الهاء واشباعها بالواو وبكسر الهاء بلا ياء، ولا يجوز اسكان الهاء بلا كسر، لان الهاء من حقها أن تكون معها ياء فحذف الياء، واثبات الياء وضم الهاء ضعيف، ولا يجوز حذف الياء إلا إذا كان هناك كسرة يدل عليها النزول والمعنى.

5. نزلت هذه الآية في الخائنين الذين ذكرهم الله في قوله: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ لما أبي التوبة أبو طعمة بن الابيرق ولحق بالمشركين من عبدة الأوثان بمكة مرتدا مفارقا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو قول مجاهد وقتادة، واكثر المفسرين، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.

6. استدلّ خلق من المتكلمين، والفقهاء بهذه الآية على أن الإجماع حجة بأن قالوا: توعد الله على اتباع غير سبيل المؤمنين كما توعد على مشاقة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فلولا أن اتباعهم واجب لم يجز ذلك، وهذا ليس بصحيح من وجوه:

أ. أحدها: أن الآية نزلت في من تقدم ذكره وكان قد ارتد ولحق بالمشركين فيجب أن يتناوله ويتناول كل من يجري مجراه من المرتدين ومخالفي الإسلام.

ب. الثاني: أن من أصحابنا من قال لا نسلم أنه أراد بـ (من) في هذه الآية استغراق، ولا بلفظة (سبيل) جمع السبل، ولا بـ (المؤمنين) جميع المؤمنين، فمن أين لهم وجوب الاستغراق، وإذا احتمل التخصيص، جاز لنا أن نحمل على سبيل الايمان الذي من خالفه كان كافراً، أو المؤمنين أراد به الائمة المعصومين، ولو جاز حملها على العموم، لوجب حملها على أهل جميع الأعصار على وجه الجمع دون أهل كل عصر، لأن العموم يقتضي ذلك، فإذا خصوا بأهل كل عصر، خصصنا ببعض أهل العصر على أنه إنما حرم اتباع غير سبيل المؤمنين، فمن أين وجوب اتباع سبيلهم، ولم لا يجوز أن يكون اتباع غير سبيلهم محصوراً، واتباع سبيلهم موقوفا على الدليل، ويجوز أن يكون أيضاً محظوراً مثله أو مباحاً أو مندوبا، فمن أين الوجوب مع احتمال جميع ذلك على أنه لو سلم جميع ذلك، لكان يجب علينا اتباع إذا كانوا مؤمنين، لأنه هكذا أوجب، فمن أين انهم لا يخرجون عن كونهم مؤمنين، ووجوب الاتباع تابع لكونهم مؤمنين، فيحتاجون إلى دليل آخر في أنهم لا يخرجون عن كونهم مؤمنين غير الآية على أن ظاهر الآية يتضمن أن من شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين يتناوله الوعيد، فمن أين أنه إذا انفرد أحدهما عن الآخر يتناوله الوعيد، ونحن إنما نعلم تناول الوعيد على مشاقة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بانفرادها بدليل غير الآية، فعلى من خالف أن يقول: إن اتباع غير سبيل المؤمنين يتناوله الوعيد بدليل غير الآية، وقد استوفينا ما في هذه الآية في أصول الفقه، وغيره من كتبنا مشروحا لا نطول بذكره ها هنا.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/328.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الشقاق: خِلافٌ مع عداوة، وشق العصا: فارق الجماعة، والشق: النصف، وأصله الشق، وهو القطع طولاً، فسمي العداوة مشاقة؛ لأنه يصير في شق غير شقه من أجل العداوة له، والاشتقاق: قطع الفرع عن الأصل، ومنه المشقة، ويُقال: شق عليه مشقة؛ لأنه يؤلمه بمثل قطع عضو منه.

ب. نولِّه: من ولي الشيء إذا قرب منه، والولْي: القُرْب، يقال: تباعد بَعْدَ وَلْيٍ، وجلست مما يليه مما يقاربه، والولي: المطر؛ لأنه يلي الوَسْمِيَّ فيجيء بعده، ومنه سمي الولي لقربه.

ج. أصل الصلا اللزوم، أَصْلَى يُصْلِي إصْلاءً، وقيل: سمى الصلاة للزوم الدعاء طلبًا للإجابة ومنه المُصَلَّى للفرس اللازم لأثر السابق.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت في شأن ابن أبيرق فإنه لما رأى أن الله تعالى قد أظهر سره وَبرَّأَ اليهودي ارتد ولحق بمكة، ومات بها كافرًا، وروي أنه نقب بيتا للحجاج بن علاط السلمي للسرقة، فتهدم عليه الجدار فقتله، ذكره الأصم، وروي أنه أخذ في ذلك النقب وعذب، فقال: لا تشمتوا بي محمدًا، فأخرجوه من مكة، ولحق ركبًا من قضاعة فسرق منهم فأدركوه وقتلوه بالحجارة، وروي أنه ركب سفينة، فسرق كيسًا فيه دنانير فأخذ، وألقي في البحر، وروي أنه نزل في حرة بني سليم، فكان يعبد صنمًا لهم إلى أن مات فخسر الدنيا والآخرة.

ب. وقيل: نزلت في نفر من قريش قدموا المدينة وأسلموا، ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين، وعبدوا الأصنام، عن الضحاك عن ابن عباس.

3. لما تقدم ذكر التوبة بين عقيبه حال الإصرار، فقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ يخالف ويعادي الرسول يعني محمدًا، صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ﴾ أي ظهر ﴿الْهُدَى﴾:

أ. قيل: الحق والإسلام.

ب. وقيل: بين رسالته بما ظهر عليه من المعجز.

ج. وقيل: التوحيد والدين.

4. ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي طريقهم الذي هو دينهم ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾:

أ. قيل: أي نكله إلى ما انتصر به، واتكل عليه من الأوثان.

ب. وقيل: نكله إلى ما اختار لنفسه، ونخلي بينهما.

5. ﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾ أي نلزمه عذاب جهنم ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ أي بئس المصير جهنم لمن صار إليها.

6. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن مشاقة الرسول كبيرة وقد تكون كفرًا.

ب. أن المعصية أعظم بعد التبيُّنِ.

ج. أن من لم تقم عليه الحجة فهو معذور؛ إذ لو لم يكن معذورا لم يكن لهذا الشرط معنى.

د. أن الإجماع حجة؛ لأن سبيل المؤمنين كل قول أو فعل اتفقوا عليه؛ لأنهم إذا أمسكوا بأمر فقد صار ذلك طريقهم، فإذا ترك الاقتداء بهم لحقه الوعيد..

هـ. أن المراد بالإيمان ما يظهر منه؛ لأن ما وراء ذلك لا يعلم، ولأنه لو كان المراد حقيقة لم يجب اتباعهم إلا بعد العلم بحقيقة إيمانهم، ولأن الإيمان يجب اتباعه كان سبيلاً لغيره أم لا.

7. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿يَتَّبِعْ﴾ جزم؛ لأنه عطف على قوله: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ﴾، وجزم لأنه شرط و﴿نُوَلِّهِ﴾ جواب.

ب. ﴿مَصِيرًا﴾ نصب على التمييز، أي ساءت جهنم موضعًا.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/72.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الشقاق: الخلاف مع العداوة، وشق العصا: أي فارق الجماعة، والشق: النصف، وأصله من الشق، وهو القطع طولا، وسميت العداوة: مشاقة، لان أحد المتعاديين يصير في شق غير شق الآخر من أجل العداوة التي بينهما، ومنه الاشتقاق: فإنه قطع الفرع عن الأصل.

ب. نوله: من الولي، وهو القرب، يقال: ولي الشيء يليه: إذا قرب منه، وكل ما يليك أي: ما يقاربك، والولي: المطر الذي يلي الوسمي.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت في شأن ابن أبي أبيرق، سارق الدرع، ولما أنزل الله في تقريعه وتقريع قومه الآيات، كفر وارتد، ولحق بالمشركين من أهل مكة، ثم نقب حائطا للسرقة، فوقع عليه الحائط فقتله، عن الحسن.

ب. وقيل: إنه خرج من مكة نحو الشام، فنزل منزلا، وسرق بعض المتاع، وهرب فأخذ ورمي بالحجارة حتى قتل، عن الكلبي.

3. لما بين سبحانه التوبة عقبه بذكر حال الإصرار، فقال: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ أي: من يخالف محمدا ويعاده ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾ أي: ظهر له الحق والإسلام، وقامت له الحجة، وصحت الأدلة بثبوت نبوته، ورسالته ﴿وَيَتَّبِعُ﴾ طريقا ﴿غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: غير طريقهم الذي هو دينهم.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾:

أ. قيل: أي نكله إلى من انتصر به، واتكل عليه من الأوثان، وحقيقته: نجعله يلي ما اعتمده من دون الله أي: يقرب منه.

ب. وقيل: معناه نخلي بينه وبين ما اختاره لنفسه.

5. ﴿وَنُصْلِهِ﴾ أي: نلزمه دخول ﴿جَهَنَّمَ﴾ عقوبة له على ما اختاره من الضلالة بعد الهدى ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ قد مر معناه.

6. استدلّ بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة لأنه توعد على مخالفة سبيل المؤمنين، كما توعد على مشاقة الرسول، والصحيح أنه لا يدل على ذلك، لان ظاهر الآية يقتضي إيجاب متابعة من هو مؤمن على الحقيقة ظاهرا وباطنا، لان من أظهر الإيمان لا يوصف بأنه مؤمن إلا مجازا، فكيف يحمل ذلك على إيجاب متابعة من أظهر الايمان، وليس كل من أظهر الايمان مؤمنا، ومتى حملوا الآية على بعض الأمة، حملها غيرهم على من هو مقطوع على عصمته عنده من المؤمنين، وهم الأئمة من آل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، على أن ظاهر الآية يقتضي أن الوعيد إنما يتناول من جمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين، فمن أين لهم أن من فعل أحدهما يتناوله الوعيد، ونحن إنما علمنا يقينا أن الوعيد إنما يتناول بمشاقة الرسول بانفرادها، بدليل غير الآية، فيجب أن يسندوا تناول الوعيد باتباع غير سبيل المؤمنين، إلى دليل آخر.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/168.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه لمّا نزل القرآن بتكذيب طعمة، وبيان ظلمه، وخاف على نفسه من القطع والفضيحة، هرب إلى مكّة، فلحق بأهل الشّرك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، والسّدّيّ، وقال مقاتل: لمّا قدم مكّة نزل على الحجّاج بن علاط السّلميّ فأحسن نزله، فبلغه أنّ في بيته ذهبا، فخرج في الليل فنقب حائط البيت، فعلموا به فأحاطوا بالبيت، فلما رأوه، أرادوا أن يرجموه، فاستحيا الحجّاج، لأنه ضيفه، فتركوه، فخرج، فلحق بحرّة بني سليم يعبد صنمهم حتى مات على الشّرك، فنزل فيه: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾، وقال غيره: بل خرج مع تجّار فسرق منهم شيئا، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، وقيل: ركب سفينة، فسرق فيها مالا، فعلم به، فألقي في البحر.

ب. الثاني: أنّ قوما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأسلموا، ثم ارتدّوا، فنزلت فيهم هذه الآية، روي عن ابن عباس.

2. معنى الآية: ومن يخالف الرسول في التّوحيد، والحدود، من بعد ما تبيّن له التّوحيد والحكم، ويتّبع غير دين المسلمين، نولّه ما تولّى، أي: نكله إلى ما اختار لنفسه، ونصله جهنّم: ندخله إيّاها.

3. قال ابن فارس: تقول صليت اللحم أصليه: إذا شويته، فإن أردت أنك أحرقته، أصليته، وساءت مصيرا، أي: مرجعا يصار إليه‏.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/472.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تعلق هذه الآية بما قبلها هو ما روي أن طعمة بن أبيرق لما رأى أن الله تعالى هتك ستره وبرأ اليهودي عن تهمة السرقة ارتد وذهب إلى مكة ونقب جدار إنسان لأجل السرقة فتهدم الجدار عليه ومات فنزلت هذه الآية.

2. الشقاق والمشاققة: ذكرنا في سورة البقرة أنه عبارة عن كون كل واحد منهما في شق آخر من الأمر، أو عن كون كل واحد منهما فاعلا فعلا يقتضي لحوق مشقة بصاحبه.

3. ﴿مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى﴾‏ أي من بعد ما ظهر له بالدليل صحة دين الإسلام، قال الزجاج: لأن طعمة هذا كان قد تبين له بما أوحى الله تعالى من أمره وأظهر من سرقته ما دلّه ذلك على صحة نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فعادى الرسول وأظهر الشقاق وارتد عن‏ دين الإسلام، فكان ذلك إظهار الشقاق بعد ما تبين له الهدى.

4. ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني غير دين الموحدين، وذلك لأن طعمة ترك دين الإسلام واتبع دين عبادة الأوثان.

5. ﴿نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى﴾ أي نتركه وما اختار لنفسه، ونكله إلى ما توكل عليه، قال بعضهم: هذا منسوخ بآية السيف لا سيما في حق المرتد.

6. ﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾ يعني نلزمه جهنم، وأصله الصلاء وهو لزوم النار وقت الاستدفاء ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ انتصب‏ ﴿مَصِيرًا﴾ على التمييز كقولك: فلان طاب نفسا، وتصبب عرقا.

7. روي أن الشافعي سئل عن آية في كتاب الله تعالى تدل على أن الإجماع حجة، فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى وجد هذه الآية، وتقرير الاستدلال أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام، فوجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين واجبا، بيان المقدمة الأولى: أنه تعالى ألحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين، ومشاقة الرسول وحدها موجبة لهذا الوعيد، فلو لم يكن اتباع غير سبيل المؤمنين موجبا له لكان ذلك ضما لما لا أثر له في الوعيد إلى ما هو مستقل باقتضاء ذلك الوعيد وإنه غير جائز، فثبت أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام، وإذا ثبت هذا لزم أن يكون اتباع سبيلهم واجبا، وذلك لأن عدم اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين، فإذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراما لزم أن يكون عدم اتباع سبيل المؤمنين حراما، وإذا كان عدم اتباعهم حراما كان اتباعهم واجبا، لأنه لا خروج عن طرفي النقيض.

8. سؤال وإشكال: لا نسلم أن عدم اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين، فإنه لا يمتنع أن لا يتبع لا سبيل المؤمنين ولا غير سبيل المؤمنين، والجواب:

أ. المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل ما فعل الغير، فإذا كان من شأن غير المؤمنين أن لا يتبعوا سبيل المؤمنين فكل من لم يتبع سبيل المؤمنين فقد أتى بمثل فعل غير المؤمنين فوجب كونه متبعا لهم.

ب. الاتباع ليس عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير وإلا لزم أن يقال: الأنبياء والملائكة متبعون لآحاد الخلق من حيث انهم يوحدون الله كما أن كل واحد من آحاد الأمة يوحد الله، ومعلوم أن ذلك لا يقال، بل الاتباع عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل أنه فعل ذلك الغير، وإذا كان كذلك فمن ترك متابعة سبيل المؤمنين لأجل أنه ما وجد على وجوب متابعتهم دليلا، فلا جرم لم يتبعهم، فهذا الشخص لا يكون متبعا لغير سبيل المؤمنين، فهذا سؤال قوي على هذا الدليل، وفيه أبحاث أخر دقيقة ذكرناها في كتاب المحصول في علم الأصول.

9. دلّت هذه الآية على وجوب عصمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عن جميع الذنوب، والدليل عليه أنه لو صدر عنه ذنب لجاز منعه، وكل من منع غيره عن فعل يفعله كان مشاققا له، لأن كل واحد منهما يكون في شق غير الشق الذي يكون الآخر فيه، فثبت أنه لو صدر الذنب عن الرسول لوجبت مشاقته، لكن مشاقته محرمة بهذه الآية فوجب أن لا يصدر الذنب عنه.

10. دلّت هذه الآية على أنه يجب الاقتداء بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في أفعاله إذ لو كان فعل الأمة غير فعل الرسول لزم كون كل واحد منهما في شق آخر من العمل فتحصل المشاقة، لكن المشاقة محرمة، فيلزم وجوب الاقتداء به في أفعاله.

11. قال بعض المتقدمين: كل مجتهد مصيب في الأصول لا بمعنى أن اعتقاد كل واحد منهم مطابق للمعتقد، بل بمعنى سقوط الإثم عن المخطئ، واحتجوا على قولهم بهذه الآية قالوا: لأنه تعالى شرط حصول الوعيد بتبين الهدى، والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط، وهذا يقتضي أنه إذا لم يحصل تبين الهدى أن لا يكون الوعيد حاصلا، وجوابه: أنه تمسك بالمفهوم، وهو دلالة ظنية عند من يقول به، والدليل الدال على أن وعيد الكفار قطعي أنه تعالى قال بعد هذه الآية: ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: 116] والقاطع لا يعارضه المظنون.

12. الآية دالة على أنه لا يمكن تصحيح الدين إلا بالدليل والنظر والاستدلال، وذلك لأنه تعالى شرط حصول الوعيد بتبين الهدى، ولو لم يكن تبين الهدى معتبرا في صحة الدين وإلا لم يكن لهذا الشرط معنى.

13. الآية دالة على أن الهدى اسم للدليل لا للعلم، إذ لو كان الهدى اسما للعلم لكان تبين الهدى إضافة الشيء إلى نفسه وأنه فاسد.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/219.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال العلماء: هاتان الآيتان نزلنا بسبب ابن أبيرق السارق، لما حكم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عليه بالقطع وهرب إلى مكة وارتد، قال سعيد بن جبير: لما صار إلى مكة نقب بيتا بمكة فلحقه المشركون فقتلوه، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ إلى قوله: ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾، وقال الضحاك: قدم نفر من قريش المدينة وأسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين فنزلت هذه الآية ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾، والمشاقة المعاداة، والآية وإن نزلت في سارق الدرع أو غيره فهي عامة في كل من خالف طريق المسلمين.

2. و﴿الْهُدَى﴾: الرشد والبيان، وقد تقدم، ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ يقال: إنه نزل فيمن ارتد، والمعنى: نتركه وما يعبد، عن مجاهد، أي نكله إلى الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، وقاله مقاتل، وقال الكلبي، نزل قوله تعالى: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ في ابن أبيرق، لما ظهرت حاله وسرقته هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا لرجل بمكة يقال له: حجاج بن علاط، فسقط فبقي في النقب حتى وجد على حاله، وأخرجوه من مكة، فخرج إلى الشام فسرق بعض أموال القافلة فرجموه وقتلوه، فنزلت: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾، وقرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو ﴿نُوَلِّهِ﴾ ﴿وَنُصْلِهِ﴾ بجزم الهاء، والباقون بكسرها، وهما لغتان.

3. قال العلماء في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ دليل على صحة القول بالإجماع.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/385.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ومَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى‏ المشاققة: المعاداة والمخالفة، وتبين الهدى: ظهوره، بأن يعلم صحة الرسالة بالبراهين الدالة على ذلك ثم يفعل المشاققة.

2. ﴿ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: غير طريقهم، وهو ما هم عليه من دين الإسلام، والتمسك بأحكامه ﴿نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى﴾ أي: نجعله واليا لما توالاه من الضلال، ﴿ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾ قرأ عاصم، وحمزة، وأبو عمرو: نولّه ونصله بسكون الهاء في الموضعين، وقرأ الباقون: بكسر هما، وهما لغتان، وقرئ: ونصله بفتح النون من صلاه، وقد تقدّم بيان ذلك.

3. استدلّ جماعة من أهل العلم بهذه الآية على حجية الإجماع لقوله: ﴿ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ولا حجة في ذلك عندي، لأن المراد بغير سبيل المؤمنين هنا: هو الخروج من دين الإسلام إلى غيره، كما يفيده اللفظ، ويشهد به السبب، فلا تصدق على عالم من علماء هذه الملة الإسلامية؛ اجتهد في بعض مسائل دين الإسلام؛ فأدّاه اجتهاده إلى مخالفة من بعصره من المجتهدين، فإنه إنما رام السلوك في سبيل المؤمنين، وهو الدين القويم والملة الحنيفية ولم يتبع غير سبيلهم.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/596.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يُّشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ يكن في شِقٍّ غير شِقٍّ كان فيه الرَّسول وهو دين الإسلام، وفُكَّ القاف هنا وفي الأنفال [الآية: 13] لانفكاك ما بين الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن خالفه، وأُدغم في الحشر [الآية: 4] لعدم ذكر الرَّسول، وهذا أولى من أنَّه أدغم في الحشر للزوم (ال) في لفظ الجلالة، واللزوم يثقل فخفِّف بإدغام القاف، وهنا (ال) لا تلزم في (الرَّسُول)، وكذا في الأنفال، والمعطوف عليه والمعطوف كشيء واحد فيها، وكأنَّه تلت القاف الرَّسول، وذكر الرسالة للتشنيع على من يخالف مقتضاها.

2. ﴿مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾ بظهور المعجزات الحسِّـيَّة، والإخبار بالغيوب الواقع، ونظم القرآن، وصدقه في الحكم، ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِيَنَ﴾ من اعتقاد وإقرار وعمل.

3. ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ نجعله تاليًا جزاء ما تولَّى من المخالفة، أو نبقيه على ما اختار لنفسه منها، حتَّى يلقانا بها، أو نكله إلى ما ادَّعى من شفاعة الأصنام له يوم القيامة على فرض وقوع يوم القيامة، أو إلى ما انتصر به منها في الدُّنيا، ﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾ ندخله، ﴿وَسَآءَتْ﴾ جهنَّمُ ﴿مَصِيرًا﴾ وهذا لعدم التأويل فيه أولى من تقدير: وساءت التولية مصيرًا.

4. واتِّباع غير سبيل المؤمنين هو مشاقَّة الرَّسول، ومشاقَّته هي اتِّباع غير سبيلهم، ولكن جمعهما نظرًا إلى أنَّ الرَّسول يأتي بالشرع من الله، والمسلمين يعملون به، والإتيانُ بالشرع غيرُ عملهم به، وعملُهم به غيرُه.

5. الآية حجَّة في أنَّ الإجماع حجَّة، روي أنَّه سئل الشافعيُّ عن آية تدلُّ على أنَّ الإجماع حجَّة، فقرأ القرآن ثلاثمائة مرَّة حتَّى وجد هذه الآية، لأنَّ اتِّباع غير سبيل المؤمنين حرام، فوجب اتِّباع سبيلهم، والإنسان إمَّا متَّبع له أو غير متَّبع، ولا خروج عن طرفي النقيض، وقيل: جعل يقرأه ثلاثة أيَّام بلياليهنَّ، وقيل: ثلاث مرَّات، وعنه: (قرأته ثلاث مرَّات في كلِّ يوم وليلة حتَّى وجدت الآية)، واحتجاجه بالآية حقٌّ صحيح.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/288.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ أي يخالفه ويعاديه‏ ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾ أي اتضح له الحق‏ ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي غير ما هم مستمرون عليه من عقد وعمل، وهو الدين القيّم.

2. ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ أي، نجعله واليا مرجحا ما تولاه من المشاقة ومتابعة غير سبيلهم فنزينه له تزين الكفر على الكفرة، استدراجا له ليكون دليلا على شدة العقوبة في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [القلم: 44]، وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: 5]، وقال سبحانه: ﴿وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأنعام: 110]

3. ﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾ أي: ندخله إياها ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ وجعل النار مصيره في الآخرة، لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ [الصافات: 22]، الآية، وقال تعالى: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا﴾ [الكهف: 53]

4. قال ابن كثير: قوله تعالى: ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقا، فإنه قد ضمنت لهم العصمة، في‏ اجتماعهم، من الخطأ، تشريفا لهم وتعظيما لنبيهم، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك، ومن العلماء من ادعى تواتر معناها، والذي عوّل عليه الشافعيّ في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته، هذه الآية الكريمة، بعد التروّي والفكر الطويل، وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك.

5. قال بعض مفسري الزيدية: الآية دلت على أن مشاقة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كبيرة، وقد تبلغ إلى الكفر، ودلت على أن الجهل عذر، لقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾، ودلت على أن مخالفة الإجماع كبيرة، وأنه دليل كالكتاب والسنة لكن إنما يكون كبيرة إذا كان نقله قطعيا، لا آحاديا.

6. وقال المهايميّ: في الآية دليل على حرمة مخالفة الإجماع، لأنه عز وجل رتب الوعيد الشديد على مشاقة الرسول ومخالفة الإجماع، فهو إما لحرمة أحدهما وهو باطل، إذ يقبح أن يقال من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحدّ، إذ لا دخل لأكل الخبز فيه، أو لحرمة الجمع بينهما وهو أيضا باطل، لأن مشاقة الرسول حرام وإن لم يضم إليها غيرها، أو لحرمة كل واحد منهما وهو المطلوب.

7. نقل الخفاجيّ قصة استدلال الشافعيّ من هذه الآية عن المزنيّ قال: كنت عند الشافعيّ يوما، فجاءه شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا، فلما رآه ذا مهابة استوى جالسا، وكان مستندا لأسطوانة، فاستوى وسوى ثيابه، فقال له: ما الحجة في دين الله؟ قال: كتابه قال: وماذا؟ قال: سنة نبيه، قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة، قال: من أين هذا الأخير؟ أهو في كتاب الله؟ فتدبر ساعة ساكتا، فقال له الشيخ: أجّلتك ثلاثة أيام بلياليهن، فإن جئت بآية، وإلا فاعتزل الناس، فمكث ثلاثة أيام لا يخرج وخرج في اليوم الثالث بين الظهر والعصر، وقد تغير لونه، فجاءه الشيخ وسلم عليه وجلس، وقال: حاجتي، فقال: نعم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم‏، قال الله عز وجل: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ ـ إلى آخر الآية، لم يصله جهنم، على خلاف المؤمنين، إلا واتّباعهم فرض، قال صدقت، وقام وذهب، وروي عنه أنه قال: قرأت القرآن في يوم وفي كل ليلة ثلاث مرات، حتى ظفرت بها.

8. وأورد الراغب عليه، أنه لا حجة فيها على ما ذكره، بأن كل موصوف علق به‏ حكم فالأمر باتباعه يكون في مأخذ ذلك الوصف، فإذا قيل اقتد بالمصلي فالمراد في صلاته، فكذا سبيل المؤمنين، يعني به سبيلهم في الإيمان لا غير، فلا دلالة في الآية على اتباعهم في غيره، وردّ بأنه تخصيص بما يأباه الشرط الأول، ثم إنه إذا كان مألوف الصائمين الاعتكاف، تناول الأمر باتباعهم ذلك أيضا، فكذلك يتناول ما هو مقتضى الإيمان فيما نحن فيه، فسبيل المؤمنين، وإن فسر بما هم عليه من الدين، يعمّ الأصول والفروع، الكل والبعض، على أن الجزاء مرتب على كل من الأمرين المذكورين في الشرط، لا على المجموع، للقطع بأن مجرد مشاقة الرسول كافية في استحقاق الوعيد، معنى على أن ترك اتباع سبيل المؤمنين اتباع لغير سبيل المؤمنين، لأن المكلف لا يخلو من اتباع سبيل، البتة.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/330.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال محمد عبده: لما بين الله تعالى في الآية التي قبل هذه وعده بالجزاء الحسن للذين يتناجون بالخير، ويبتغون بنفع الناس مرضاة الله عز وجل، أراد أن يبين في هذه الآية وعيده لأولئك الذين يتناجون بالشر، ويبيتون ما يكيدون به للناس، فهو يقول إن أولئك القوم مشاقون للرسول إذ كانوا يفعلون ما يفعلون بعد أن ظهرت لهم الهداية على لسانه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقامت عليهم الحجة بحقيقة ما جاء به، وأما من لم تتبين لهم الهداية فلا يستحقون هذا الوعيد، وهم متفاوتون فمن نظر منهم في الدليل فلم يظهر له الحق وبقي متوجها إلى طلبه بتكرار النظر والاستدلال مع الإخلاص فهو معذور غير مؤاخذ كالذي لم تبلغه الدعوة، وعليه جمهور الأشاعرة، والمشاقة بعد تبين الهدى إنما تكون عنادا وعصبية أو اتباعا لشهوة تفوت بهذه الهداية.

2. المشاقة المعادة مشتقة من شق العصا، أو هي مفاعلة من الشق كأن كل واحد من المتعاديين يكون في شق غير الذي فيه الآخر كما قالوا، والكلام جاء بصيغة العموم وهو يصدق على (طعمة) كما ذكر في قصته وعلى قليل من الناس منهم بعض علماء اليهود في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنما قلنا إنه يصدق على قليل من الناس لأن أكثر الناس فطروا على ترجيح الهدى على الضلال والحق على الباطل والخير على الشر إذا تبين لهم ذلك وعرفوه وناهيك بمن دخل فيه وعمل به ورأى الفرق بينه وبين ما كان عليه هو وقومه (كطعمة) ولا يشترط في هذا الترجيح الفطري والعمل به أن يكون قد تبين بالبرهان اليقين المنطقي الذي يقبل النقض بل يكفي أن يظهر للمرء أن هذا هو الهدى أو أنه أهدى من مقابله إذا كان هناك مقابل، وسبب هذا ومنشأه أن الإنسان فطر على حب نفسه وحب الخير والسعادة لها والسعي إلى ذلك واتقاء ما ينافيه ويحول دونه لذلك كانت شريعة الإسلام التي هي دين الفطرة مبنية على قاعدة درء المفاسد وجلب المصالح فكل ما حرم فيها على الناس فهو ضار بهم وكل ما فرض عليهم أو استحب لهم فيه فهو نافع لهم، ولهذا كان غير معقول أن يتركها أحد بعد أن يعرفها وتتبين له وكان إن وقع لا بد له من سبب، وهو ما أشار إليه القرآن الحكيم في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: 130]؟ أي لا أحد يرغب عنها إلا من احتقر نفسه وأزراها بالسفه والجهالة، ونحن نبين أصناف الناس في اتباع الهدى وتركه وسبب ذلك فنقول:

أ. الصنف الأول: من تبين له الهدى بالبرهان الصحيح، ووصل فيه إلى حق اليقين، وهذا لا يمكن أن يرجع عنه اعتقادا، ويندر جدا أن يرجع عنه عملا، ولمحمد عبده كلمة كبيرة في هذا المقام لا يقولها إلا مثله من الأعلام، وهي: (الرجوع عن الحق بعد اليقين فيه كاليقين في الحق كلاهما قليل في الناس)، وهو يعني الرجوع بالعمل إذ الإنسان يملك من عمله ما لا يملك من اعتقاده فمن كان موقنا بأن المخلوق لا يكون إلها ولا شريكا لله يؤثر في إرادته ويحمله على فعل ما لم يكن ليفعله لولاه لا يستطيع بعد اليقين الحقيقي في ذلك أن يعتقد أن المسيح أو غيره ممن عبد ومما عبد من دون الله أو مع الله آلهة أو شركاء لله، ولكنه يستطيع ويدخل في إمكانه أن يدعوها من دون الله أو مع الله، وأن يعبدها بغير الدعاء أيضا كالتمسح بها والتعظيم الذي يعده أهلها من شعائر العبادات، لا من عموم العبادات، وهو وإن كان يستطيع ما أشرنا إليه من عباداتها لا يفعله، أي لا يرجع عن الحق بالعمل، إلا أن يكون لما أشرنا إليه من السبب، وسنبينه بعد.

ب. الصنف الثاني: من تبين لهم الهدى بالدلائل المعتادة التي يرجح بها بعض الأشياء على بعض بحسب أفهامهم وعقولهم، لا بالبرهان المنطقي المؤلف من اليقينيات البديهة أو المنتهية إليها، وهؤلاء لا يرجعون عن الهدى إلى الضلال وهم يعلمون أنه الهدى بهذا النوع من العلم الذي أشرنا إليه إذ يكفي أنهم معتقدون به أنهم على الحق والخير والصلاح، فلا يشاقون من جاءهم بذلك ولا يتبعون غير سبيل أهله إلا لسبب يقل وقوعه كما سيأتي.

ج. الصنف الثالث: من اتبع الهدى تقليدا لمن يثق به من الناس كآبائه وخاصة أهله ورؤساء قومه وهذا لا يدخل فيمن تبين لهم الحق والهدى لأنه لم يتبين لهم شيء ولذلك يتركون الهدى إلى كل ما يقرهم عليه رؤساؤهم من البدع والضلالات كما هو مشاهد في جميع الملل والأديان.

د. الصنف الرابع: من لم يتبع الهدى لأنه نشأ على تقليد أهل الضلال، فلما دعي إلى الهدى لم ينظر في دعوة النبي الذي دعي إلى دينه، ولا تأمل في دليله، لأنه صدق الرؤساء الذين قلدهم بأنه ليس أهلا للاستدلال وأن الله حرم عليه وعلى أمثاله النظر في الأدلة والبينات، وفرض عليهم أن يقلدوا أهل الاجتهاد، ومن ينقل إليهم مذاهبهم من العلماء، فمن قلد عالما، لقي الله سالما، ومن نظر واستدل، زل وضل، وهذا ما كان عليه جمهور أهل الكتاب في زمن بعثة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم وكذلك غيرهم من أصحاب الأديان المدونة كالمجوس، وأمثال هؤلاء إذا ترك رؤساؤهم دينهم أو مذهبهم يتبعونهم في الغالب، ولا سيما إذا دخلوا في مذهب أو دين جديد ليس بينهم وبين أهله عداوات دينية ولا سياسية تنفرهم منهم تنفيرا طبيعيا، ولذلك دعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ملوكهم ورؤساءهم إلى الإسلام وكتب لكل رئيس أن عليه إثم قومه أو مرؤوسيه إذا هو تولى عن الإيمان ولم يجب دعوة الإسلام.

هـ. الصنف الخامس: كالذي قبله في التقليد لأهل الضلال تعظيما لجمهور قومه ومن نشأ على احترامهم من آبائه وأجداده، واستعبادا لكونهم كانوا متفقين على اتباع الضلال، وأن يكون هذا الداعي قد عرف الهدى من دونهم، أو أوحى إليه ولم يوح إليهم، وهذا ما كانت عليه عامة العرب عند ظهور الإسلام، والآيات المبينة لحالهم هذه كثيرة ليس هذا محل سردها، وإنما الفرق بينهم وبين مقلدة أهل الكتاب والأديان المدونة ذات الكتب والهياكل والرؤساء الروحيين، أن تقليد هؤلاء العرب أضعف، وجذبهم إلى النظر والاستدلال أسهل، وكذلك كان، وهو من أسباب ظهور الإسلام فيهم دون سائر الناس.

و. الصنف السادس: علماء الأديان الجدليون المغرورون بما عندهم من العلم الناقص بها، الذين دعوا إلى الهدى فلم يتولوا عنه اتباعا لرؤساء فوقهم، ولم ينظروا فيه بالاستقلال والإخلاص، بل أعرضوا احتقارا له لأنه غير ما جروا عليه ووثقوا به، وجعلوه مناط عظمتهم، وحسبوه منتهى سعادتهم، وهم في الحقيقة مقلدون كعامتهم، ولكن عندهم من الصوارف عن قبول الهدى ما ليس عند العامة من معرفة عظمة أسلافهم الذين ينتمون إليهم وما ينسب إليهم من العلم والصلاح والفضائل والكرامات، ومن الأدلة الجدلية على حقية ما هم عليه.

ز. الصنف السابع: الذين بلغتهم دعوة الهدى على غير وجهها الصحيح المحرك للنظر فلم ينظروا فيها ولم يبالوا بها لأنهم رأوها بديهية البطلان، ومن هؤلاء أكثر كفار هذا الزمان الذين لا يبلغهم عن الإسلام إلا أنه دين من جملة الأديان الكثيرة المخترعة فيه وفي أهله من العيوب والأباطيل ما هو كذا وكذا كما اخترع وافترى رؤساء النصرانية وغيرهم على الإسلام ولا سيما ما كتبوه قبل تأليب الشعوب الأوربية على الحرب الشهيرة بالصليبية، فهؤلاء لا يبحثون عن حقيقة الإسلام كما أن المسلمين لا يبحثون عن دين المورمون مثلا.

ح. الصنف الثامن: من بلغتهم دعوة الهدى على وجهها أو غير وجهها فنظروا فيها بالإخلاص ولم تظهر لهم حقيقتها ولا تبينت لهم هدايتها، فتركوها وتركوا إعادة النظر فيها.

ط. الصنف التاسع: هم أهل الاستقلال الذين نظروا في الدعوة كمن سبقهم ولا يتركون النظر والاستدلال إذا لم يظهر لهم الحق من أول وهلة، بل يعودون إليه ويدأبون طول عمرهم عليه، وهم الذين نقل محمد عبده عن محققي الأشاعرة القول بنجاتهم لعذرهم.

ي. الصنف العاشر: من لم تبلغهم دعوة الحق والهدى البتة، وهم الذين يعبر عنهم بعضهم بأهل الفترة، ومذهب الأشاعرة أنهم معذورون وناجون.

3. هذه هي أصناف الناس في الهدى والضلال، بحسب ما خطر للفكر القاصر الآن، ولا يصدق على صنف منها أنه تبين له الهدى إلا الأول والثاني، فمن يشاقق الرسول من أفرادهما في حياته، أو يعادي سنته من بعده.

4. ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الذين هم أهل الهدى، وإنما سبيلهم كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم فهو الذي يقول الله تعالى فيه: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ وهو الذي يصدق عليه قوله تعالى في سورة أخرى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 23] وهم أجدر الناس بدخول جهنم وصليها والاحتراق بها وسائر أنواع عذابها لأنهم استحبوا العمى على الهدى، وعاندوا الحق واتبعوا الهوى.

5. وأما سائر الأصناف فيولي الله كلا منهم ما تولى أيضا كما هي سنته في الإنسان الذي خلقه مريدا مختارا حاكما على نفسه وعلى الطبيعة المحيطة به بحيث يتصرف فيهما التصرف الذي يراه خيرا له، ولذلك غير في أطوار كثيرة أحوال معيشته وأساليب تربيته وسخر قوى الطبيعة العاتية لمنافعه ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 13] فهو مربي نفسه ومربي الطبيعة التي ألهها بعض أصنافه جهلا منهم بأنفسهم وهو لا متصرف فوقه في هذه الأرض إلا رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم، أقول هذا نسفا لأساس جبرية الفلسفة الأوربية الحاضرة بعد نسف أساس جبرية الفلسفة الغابرة، هؤلاء الذين يظنون أن ما يسمونه الأفعال المنعكسة تعمل في الإنسان عملها، وأنه لا عمل له بها، والصواب أنه حاكم عليها كحكمها عليه فإن ترك لها الحكم استبدت وإن أراد أن يتصرف فيه وفيها فعل.

6. إن من سنته تعالى في الإنسان أن يولي كلا من تلك الأصناف ما تولى ولكنه لا يصلي كلا منهم جهنم التي ساء مصيرها، لأن إصلاء جهنم هو تابع لما يتولاه الإنسان من الضلالة في اعتقاده، وناهيك به إذا تولاها بعد أن ظهرت الهداية له، وذلك أن الجزاء أثر طبيعي لما تكون عليه النفس في الدنيا من الطهارة والزكاء والكمال بحسب تزكية صاحبها لها أو من ضد ذلك بحسب تدسيته لها، ويدل على هذا وذاك قوله تعالى: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾

7. لا أتذكر أنني اطلعت على تفسير واضح لهذه الجملة الحكيمة العالية ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ وإنما يفسرون اللفظ بمدلوله اللغوي كأن يقولوا نوجهه إلى حيث توجه، أو نجعله واليا لما اختار أن يتولاه، أو يزيدون على ذلك استدلال كل فرقة بالآية على مذهبها أو تحويلها إليه أعني مذاهبهم في الكسب والقدر والجبر، وتعلق الإرادة الإلهية أو عدم تعلقها بالشر، والذي أريد بيانه وتوجيه الأذهان إلى فهمه هو أن هذه الجملة مبينة لسنة الله تعالى في عمل الإنسان، ومقدار ما أعطيه من الإرادة والاستقلال، والعمل بالاختيار، فالوجهة التي يتولاها في حياته، والغاية التي يقصدها من عمله، يوليه الله إياها ويوجهه إليها أي يكون بحسب سننه تعالى واليا لها، وسائرا على طريقها، فلا يجد من القدرة الإلهية ما يجبره على ترك ما اختار لنفسه، ولو شاء تعالى لهدى الناس أجمعين بخلقهم على حالة واحدة في الطاعة كالملائكة ولكنه شاء أن يخلقهم على ما نراهم عليه من تفاوت الاستعداد والإدراك وعمل كل فرد بحسب ما يرى أنه خير له وأنفع في عاجله أو آجله أو فيهما جميعا الخ ما لا محل لشرحه هنا من طبائع البشر.

8. ذهب بعضهم إلى أن المراد من تولية الله لمثل هذا ما تولى هو ما يلزمها من عدم العناية والألطاف، بناء على أن لله تعالى عناية خاصة ببعض عباده وراء ما تقتضيه سننه في الأسباب والمسببات، وجعل الجزاء في الدنيا والآخرة أثرا طبيعيا للأعمال، وما في ذلك من النظام والعدل العام، والظاهر أن المراد بالجملة ما ذكرنا من حقيقة معناها وحاصله أن من كان هذا شأنه فهو الجاني على نفسه لأن من سنة الله أن يكون حيث وضع نفسه واختار لها، وأن مصيره إلى النار وبئس القرار، نعم إن الله تعالى يختص برحمته من يشاء ويهب للذين أحسنوا الحسنى ويزيدهم من فضله، ولكن ليس هذا المقام مقام بيان سبب الحرمان من مثل هذا الاختصاص إذ ليس من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى مظنة له، فيصرح بنفيه عنه، وليت شعري أيقول الذين فسروا التولية بهذا النفي والحرمان من العناية والألطاف: إن هذا الصنف وحده هو المحروم من ذلك، أم الحرمان شامل لغيره من أصناف الضالين؟ وهل يستلزم حرمانه من ذلك اليأس من هدايته ثانية أم لا؟ لا يمكنهم أن يقولوا في هذا الباب ما تقوم به الحجة ويسلم من الإيرادات التي لا تدفع، والصواب أنه لا مانع يمنع من عودة هذا الصنف من الضالين إلى الهدى لأن علمه بحقيقة ما كان عليه، وبطلان ما صار إليه، لا يبرح يلومه ويوبخه على ما فعله، ولا يبعد أن يجيء يوم يكون فيه الفلج له.

9. أما السبب الذي يحمل من تبين له الهدى على تركه فهو لا بد أن يكون حالا من الأحوال النفسانية القوية كالحسد والبغي، وحب الرياسة والكبر، والشهوة العالية على العقل، والعصبية للجنس، والقول الجامع في اتباع هوى النفس، وقد ثبت أن بعض أحبار اليهود قد تبين لهم صدق دعوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فتولوا عنها حسدا له وللعرب أن يكون منهم خاتم النبيين، وإيثارا لرياستهم في قومهم، على أن يكونوا مرؤوسين في غيرهم، وارتداد جبلة بن الأيهم عن الإسلام، لما رأى أنه يساوي بينه وبين من لطمه من السوقة، وارتد أناس في أزمنة مختلفة عن دينهم لافتتانهم ببعض النساء من الكفار، وعلة ذلك كله أي علة تأثير هذه الأسباب في نفوس بعض الناس هي ضعف النفس ومرض الإرادة بجريان صاحبها من أول نشأته على هواه وعدم تربيتها على تحمل ما لا تحب في العاجل لأجل الخبر الآجل، وهذا هو مرادنا من إرجاع جميع الأسباب إلى اتباع الهوى وهو ما أشرنا إليه من قبل، وهو يرجع إلى ما قلنا من أن الإنسان مفطور عليه من ترجيح ما يرى أنه خير له وأنفع، وصاحب الهوى المتبع لا يتمثل له النفع الآجل، كما يستحوذ عليه النفع العاجل، لضعف نفسه ومهانتها وعجزها عن الوقوف في مهب الهوى من غير أن تميل معه، وقد حكي أن الحجاج مد سماطا عاما للناس فجعلوا يأكلون وهو ينظر إليهم، فرأى فيهم أعرابيا يأكل بشره شديد فلما جاءت الحلوى ترك الطعام ووثب يريدها، فأمر الحجاج سيافه أن ينادي: من أكل من هذه الحلوى قطعت عنقه بأمر الأمير والحجاج يقول ويفعل فصار الأعرابي ينظر إلى السياف نظرة وإلى الحلوى نظرة كأنه يرجح بين حلاوتها ومرارة الموت ولم يلبث أن ظهر له وجه الترجيح، فالتفت إلى الحجاج وقال له: (أوصيك بأولادي خيرا) وهجم على الحلوى وأنشأ يأكل والحجاج يضحك، وهو إنما أراد اختباره.

10. من مباحث الأصول في هذه الآية استدلال بعضهم بها على حجية الإجماع لأن مخالفة متبع غير سبيل المؤمنين وعبر بعضهم في بيان حجيته بأنه هو سبيل المؤمنين وقد علمت أن الإجماع الذي يعنونه هو اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد وفاة نبيها في أي عصر على أي أمر، والآية إنما نزلت في سبيل المؤمنين في عصره لا بعد عصره، وأتذكر إنني بينت عدم اتجاه الاستدلال بالآية على حجية الإجماع في المنار، وكذلك رده محمد عبده، والإمام الشوكاني في إرشاد الفحول، والآية التي تدل على الإجماع الصحيح هي قوله تعالى في هذه السورة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/335.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن وعد الله بالجزاء الحسن من يتناجون بالخير ويبتغون نفع الناس مرضاة الله عزّ وجل ـ أوعد الذين يتناجون بالشر ويبيّتون ما يكيدون به للناس، فقال: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ أي ومن يشاقق الرسول بارتداده عن الإسلام وإظهار عداوته له من بعد ما ظهرت له الهداية على لسانه وقامت عليه الحجة ويتبع سبيلا غير سبيل أهل الهدى ـ نوله ما تولى: أي نتركه وما اختار لنفسه ونكله إلى ما توكل عليه.

2. وفى هذا بيان لسنة الله في عمل الإنسان، وإيضاح لما أوتيه من الإرادة والاستقلال والعمل بالاختيار، فالوجهة التي يتولاها ويختارها لنفسه يوليه الله إياها: أي يجعله واليا لها وسائرا على طريقها، فلا يجد من القدرة الإلهية ما يجبره على ترك ما اختار لنفسه بحسب الاستعداد والإدراك وعمل ما يرى أنه خير له وأنفع في عاجله أو آجله أو فيهما معا، ثم ندخله جهنم ونعذبه أشد العذاب، لأنه استحب العمى على الهدى وعاند الحق واتبع الهوى، وما أقبحها عاقبة لمن تفكر وتدبر!

3. وقد اشترط في هذا الوعيد أن يتبين له الهدى أما من لم يتبين له فلا يدخل فيه وهم أصناف: فمنهم من نظر في الدليل ولم يظهر له الحق وبقي متوجها إلى طلبه بتكرار النظر والاستدلال مع الإخلاص وهذا معذور غير مؤاخذ، ومنهم من لم تبلغه الدعوة الإسلامية أو بلغته مشوهة معكوسة ككثير من أهل أوربا في العصر الحاضر، وحال هؤلاء كحال من سبقهم، ومنهم من اتبع الهدى تقليدا لمن يثق به كآبائه وخاصة أهله، وهذا لم يتبين له الهدى، ولذلك يتركه إلى كل ما يقره عليه أهله ورؤساؤه من البدع والضلالات.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/156.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. العمل نفسه يعمله المرء فيغضب الله عليه، ويكتبه له في سجل السيئات! ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾، وقد ذكر في سبب نزول هذه المجموعة من الآيات، أن بشير بن أبيرق قد ارتد والتحق بالمشركين..

2. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾.. فقد كان في صفوف المسلمين، ثم اتبع غير سبيل المؤمنين.. ولكن النص عام، ينطبق على كل حالة، ويواجه كل حالة من مشاقة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ومشاقته كفر وشرك وردة، ينطبق عليها ما ينطبق على ذلك الحادث القديم.

3. المشاقة ـ لغة ـ أن يأخذ المرء شقا مقابلا للشق الذي يأخذه الآخر، والذي يشاق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي يأخذ له شقا وجانبا وصفا غير الصف والجانب والشق الذي يأخذه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعنى هذا أن يتخذ له منهجا للحياة كلها غير منهجه، وأن يختار له طريقا غير طريقه، فالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم جاء يحمل من عند الله منهجا كاملا للحياة يشتمل على العقيدة والشعائر التعبدية، كما يشتمل على الشريعة والنظام الواقعي لجوانب الحياة البشرية كلها.. وهذه وتلك كلتاهما جسم هذا المنهج، بحيث تزهق روح هذا المنهج إذا شطر جسمه فأخذ منه شق وطرح شق!

4. والذي يشاق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هو كل من ينكر منهجه جملة، أو يؤمن ببعض ويكفر ببعض، فيأخذ بشق منه ويطرح شقا!

5. وقد اقتضت رحمة الله بالناس، ألا يحق عليهم القول، ولا يصلوا جهنم وساءت مصيرا، إلا بعد أن يرسل إليهم رسولا، وبعد أن يبين لهم، وبعد أن يتبينوا الهدى، ثم يختاروا الضلالة، وهي رحمة الله الواسعة الحانية على هذا المخلوق الضعيف، فإذا تبين له الهدى، أي إذا علم أن هذا المنهج من عند الله، ثم شاق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه، ولم يتبعه ويطعه، ولم يرض بمنهج الله الذي تبين له، فعندئذ يكتب الله عليه الضلال، ويوليه الوجهة التي تولاها، ويلحقه بالكفار والمشركين الذين توجه إليهم، ويحق عليه العذاب المذكور في الآية بنصه: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾..

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/760.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الشقاق: المخالفة والمنابذة.. وشقاق الرسول: مخالفة أمره، والخروج عن طاعته.. والذين تبيّن لهم الهدى هنا، هم المنافقون، الذين دخلوا في الإسلام، وعرفوا كثيرا من حقائقه، ولكن غلبت عليهم شقوقهم، فلم يستقيموا على طريق الحق، بل اضطربوا وتخبطوا..

2. فهؤلاء المنافقون أكثر ما تكون لقاءاتهم ومناجاتهم لتدبير الشرّ، وتبييت السوء، والعمل على مشاقّة الرسول ومخالفته، واتخاذ سبيل لهم غير سبيل المؤمنين، وطريقهم.. وقد توعّد الله سبحانه وتعالى من يكون على تلك الحال بقوله: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ أي نقيمه على‏ هذا الوجه الذي اتخذه لنفسه، مخالفا به الطريق المستقيم، طريق المؤمنين، وندعه لهواء الذي غلب عليه، وساقه إلى هذا المساق.. وهذا يعنى أن الله سبحانه وتعالى يخلى هذا المنافق لنفسه، ويتركه في ضلاله، فلا يمدّ إليه يد العون والتوفيق، ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا﴾ [البقرة: 10]

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/899.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾ عطف على‏ ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله﴾ [النساء: 114] بمناسبة تضادّ الحالين، والمشاقّة: المخالفة المقصودة، مشتقّة من الشّقّ لأنّ المخالف كأنّه يختار شقّا يكون فيه غير شقّ الآخر، فيحتمل قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾ أن يكون أراد به من بعد ما آمن بالرسول فتكون الآية وعيدا للمرتدّ، ومناسبتها هنا أن بشير بن أبيرق صاحب القصّة المتقدّمة، لمّا افتضح أمره ارتدّ ولحق بمكة، ويحتمل أن يكون مرادا به من بعد ما ظهر صدق الرسول بالمعجزات، ولكنّه شاقّه عنادا ونواء للإسلام.

2. سبيل كلّ قوم طريقتهم التي يسلكونها في وصفهم الخاصّ، فالسبيل مستعار للاعتقادات والأفعال والعادات، التي يلازمها أحد ولا يبتغي التحوّل عنها، كما يلازم قاصد المكان طريقا يبلغه إلى قصده، قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي﴾ [يوسف: 108]

3. معنى هذه الآية نظير معنى قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا الله شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 32]، فمن اتّبع سبيل المؤمنين في الإيمان واتّبع سبيل غيرهم في غير الكفر مثل اتّباع سبيل يهود خبير في غراسة النخيل، أو بناء الحصون، لا يحسن أن يقال فيه اتّبع غير سبيل المؤمنين، وكأنّ فائدة عطف اتّباع غير سبيل المؤمنين على مشاقّة الرسول الحيطة لحفظ الجامعة الإسلامية بعد الرسول، فقد ارتدّ بعض العرب بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال الحطيئة في ذلك:

çأطعنا رسول الله إذ كان بيننا...فيا لعباد الله ما لأبي بكرé

فكانوا ممّن اتّبع غير سبيل المؤمنين ولم يشاقّوا الرسول.

4. معنى قوله: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ الإعراض عنه، أي نتركه وشأنه لقلّة الاكتراث به، كما ورد في الحديث‏ (وأمّا الآخر فأعرض الله عنه)، وقد شاع عند كثير من علماء أصول الفقه الاحتجاج بهذه الآية، لكون إجماع علماء الإسلام على حكم من الأحكام حجّة، وأوّل من احتجّ بها على ذلك الشافعي، قال الفخر: (روي أنّ الشافعي سئل عن آية في كتاب الله تدلّ على أنّ الإجماع حجّة فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتّى وجد هذه الآية، وتقرير الاستدلال أنّ اتّباع غير سبيل المؤمنين حرام، فوجب أن يكون اتّباع سبيل المؤمنين واجبا، بيان المقدمة الأولى: أنّه تعالى ألحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتّبع غير سبيل المؤمنين، ومشاقّة الرسول وحدها موجبة لهذا الوعيد، فلو لم يكن اتّباع غير سبيل المؤمنين موجبا له، لكان ذلك ضمّا لما لا أثر له في الوعيد إلى ما هو مستقلّ باقتضاء ذلك الوعيد، وأنّه غير جائز، فثبت أنّ اتّباع غير سبيل المؤمنين حرام، فإذا ثبت هذا لزم أن يكون اتّباع سبيلهم واجبا)، وقد قرّر غيره الاستدلال بالآية على حجّيّة الإجماع بطرق أخرى، وكلّها على ما فيها من ضعف في التقريب، وهو استلزام الدليل للمدّعي، قد أوردت عليها نقوض أشار إليها ابن الحاجب في (المختصر)، واتّفقت كلمة المحقّقين: الغزالي، والإمام في (المعالم)، وابن الحاجب، على توهين الاستدلال بهذه الآية على حجّيّة الإجماع.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/255.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾، الشقاق العداوة، وكل من يعصي الله فهو عدو لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: (ان ولي محمد من أطاع الله، وان بعدت لحمته، وان عدو محمد من عصى الله، وان قربت لحمته)، ولكن المراد بعدو الرسول هنا كل من ظهر له الحق، واقتنع به بينه وبين نفسه، وقامت عليه الحجة كافية وافية، مع ذلك أنكره عنادا وتعصبا لهوى في نفسه، كمن يعرف ان الإسلام حق، أو انه أهدى من دين قومه، ومع ذلك يتعصب لدين آبائه حرصا على مصالحه الشخصية من مال أو جاه.

2. ذكر المفسرون ان هذه الآية نزلت في بشير بن أبيرق الذي أسلم، ثم ارتد ولحق بالمشركين، والمعروف من عادة المفسرين انهم يتسامحون في أسباب النزول، ويذكرون له أية حادثة تقترن بزمن نزول الآية إذا كانت تناسبها، وهذه الآية تنطبق على ارتداد بشير، وعلى كل من عاند الحق‏ ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾

3. معنى‏ ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ ان الله سبحانه يكل كل إنسان إلى ما انتصر به، واعتمد عليه، فمن اعتز بمال أو منصب أو صحة أو عشيرة تخلى الله عنه، وتركه إلى ما اعتز به، وفي الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي لاقطعن أمل كل مؤمل من الناس)

4. في هذه الآية فوائد:

أ. منها: ان قوله تعالى: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ صريح في ان الإنسان مخير لا مسير.

ب. ومنها: ان قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾ دليل على أن من بحث ودقق، ولم يتبين له الهدى فهو معذور، تماما كمن لم تبلغه الدعوة، على شريطة ان يكون متوجها إلى طلب الحق، والعمل به متى ظهر له.

ج. ومنها: ان الإنسان مكلف بما يفهمه من الدليل، وغير مسؤول عن الواقع كما هو عند الله، وان المطلوب منه مجرد البحث والتنقيب، حتى يحصل له اليأس من وجود الدلائل والقرائن، فإن أصاب الواقع بعد هذا البحث كان له أجران، وان أخطأه فله أجر واحد، كما جاء في الحديث.

د. ومنها: ما جاء في تفسير الرازي ان الشافعي سئل عن آية في القرآن تدل على أن الإجماع حجة؟ فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة، حتى وجد قوله تعالى: ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ حيث دل على أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام فوجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين واجبا، وسبيلهم هو إجماعهم على الشيء وان دل هذا على شيء فإنما يدل على انه لا مصدر للإجماع في كتاب الله.. ذلك ان المراد بغير سبيل المؤمنين سبيل المشركين والمنافقين الذين يعاندون الله والرسول من بعد ما تبين لهم الهدى، وهذا أجنبي عن الإجماع وبعيد عنه كل البعد.. بالإضافة إلى ما قاله الشيخ محمد عبده: (ان الإجماع الذي يعنونه هو اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد وفاة نبيها، والآية نزلت في عصره، لا بعد عصره)

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/437.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ المشاقة من الشق وهو القطعة المبانة من الشيء فالمشاقة والشقاق كونك في شق غير شق صاحبك، وهو كناية عن المخالفة، فالمراد بمشاقة الرسول بعد تبين الهدى مخالفته وعدم إطاعته، وعلى هذا فقوله: ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بيان آخر لمشاقة الرسول، والمراد بسبيل المؤمنين إطاعة الرسول فإن طاعته طاعة الله قال تعالى:‏ ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾ [النساء: 80]

2. فسبيل المؤمنين بما هم مجتمعون على الإيمان هو الاجتماع على طاعة الله ورسوله ـ وإن شئت فقل على طاعة رسوله ـ فإن ذلك هو الحافظ لوحدة سبيلهم كما قال تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِالله فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103] وقد تقدم الكلام في الآية، وقال تعالى:‏ ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153] وإذا كان سبيله سبيل التقوى والمؤمنون هم المدعوون إليه فسبيلهم مجتمعين سبيل التعاون على التقوى كما قال تعالى:‏ ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2] والآية ـ كما ترى ـ تنهى عن معصية الله وشق عصا الاجتماع الإسلامي، وهو ما ذكرناه من معنى سبيل المؤمنين.

3. فمعنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعود إلى معنى قوله:‏ ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى‏﴾: (الآية) [المجادلة: 9]

4. ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ أي نجره على ما جرى عليه، ونساعده على ما تلبس به من اتباع غير سبيل المؤمنين كما قال تعالى: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء: 20]

5. ﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ عطفه بالواو يدل على أن الجميع أي توليته ما تولى وإصلاءه جهنم أمر واحد إلهي بعض أجزائه دنيوي وهو توليته ما تولى، وبعضها أخروي وهو إصلاؤه جهنم وساءت مصيرا.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/83.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ عام في الكفار والمنافقين الذين يختانون أنفسهم ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ﴾ لهم ﴿الْهُدَى﴾ بالقرآن الحكيم الذي عجزهم أن يأتوا ﴿بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة:23] فلم يفعلوا، وقال: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ [البقرة:23] فكان صدقاً مع شدة حرص أعداء الإسلام على إبطال الرسالة وتكذيب الرسول والقرآن، فقد تبين لهم الهدى بالمعجز العظيم الذي هو القرآن وغيره، ومع ذلك شاقوا الرسول.

2. ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الصادقين في إيمانهم الناصحين لله ورسوله الذين لا يتولون أعداء الله، ولا يتناجون بالإثم والعدوان، بل هم كما قال الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ [التوبة:71] فهذه سبيلهم، وهم الناس الذين إذا قيل للمنافقين: ﴿آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ [البقرة:13] وسبيل المنافقين ذكرها الله تعالى في قوله: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ﴾ إلى آخر الآية [التوبة:67]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾، وقوله تعالى: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ الآية [المائدة:52] وغيرها، فغيرُ سبيل المؤمنين سبيلُ من في قلبه مرض، فليس له إيمان يدعوه إلى الخير ويأمره بتقوى الله، بل يثقل عليه ما يسهل على المؤمن.

3. قد يحتج بالآية على: أن الإجماع حجة؛ لأن مخالف الإجماع متبع لغير سبيل المؤمنين، والراجح: أن المراد ب ﴿سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ما يدعو إليه الإيمان من حيث دعوة الإيمان إليه وهي الخصال السابق ذكرها، ولكن لا يبعد دخول ما أجمع عليه المؤمنون ضمناً في حق من عَلِم الإجماع في المسائل الدينية؛ لأن إيمان أهل الإجماع بعثهم على الإجماع من حيث بعثهم على ما اتفقوا عليه طاعة لله ورسوله، فأما من لم يعلم الإجماع وهو ملتزم بصفات المؤمنين المذكورة في القرآن الفارقة بين المؤمن وغيره فهو متبع لسبيل المؤمنين، ولا يصدق عليه أنه متبع لغير سبيل المؤمنين؛ لأن سبيلهم في الحقيقة ما ذكرتُ وقد اتبعه، وهو المراد في الآية عندي ـ والله أعلم؛ لأن المراد بسبيل المؤمنين السبيل المعروفة التي دل عليها القرآن فهي المعهودة، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ [لقمان:15] فإن معناه: العمل بما تدعو إليه الإنابة إلى الله والرجوع إليه وهي طاعته، وإيثار طاعته على طاعة من سواه، وإلا لزم أن كل منيب إلى الله يجب اتباعه في مذهبه.

4. ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ نخذله ونجعله والياً لما تولاه أي ما اختار لنفسه من مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين، وذلك ببسط النعمة وسلب التوفيق ﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾ نعذبه بصليّها ومباشرتها لجسده ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ ما أسواها مصيراً يصير إليه نعوذ بالله.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/168.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إن الآية تتحدث عن هؤلاء الذين يثيرون الشقاق والنزاع مع الرسول أو مع الرسالة، بعد أن قامت عليهم الحجة من الله ووضح لهم الحق، ولم يعد لهم عذر في أية شبهة أو شك أو رأي مضاد، فإن المفروض فيهم أن ينسجموا مع الدلائل التي يقدّمها لهم الرسول، وينطلقوا في خط الإيمان على النهج الذي يسير فيه المؤمنون في حياتهم العملية ككل إنسان يواجه الحق في مواقع الوضوح؛ فإذا انحرفوا عن ذلك، تركهم الله لما يتولونه من نهج أو طريق، وعذّبهم في نار جهنم التي تمثل سوء المصير.

2. وقد ينبغي لنا أن نلاحظ هذه اللفتة القرآنيّة المعبّرة؛ وهي أن الله لم يواجه الإنسان بالعقوبة والإبعاد، من خلال إنكاره للحق أو مخالفته للرسول؛ بل واجهه بذلك على أساس وضوح الأمر لديه وقيام الحجة عليه، بالمستوى الذي لا يملك معه عذرا مقبولا في الإنكار والانحراف عنه، مما يوحي بأن لديه عقدة مرضية تتحرك في خط العناد وإثارة الفتن والمشاكل؛ وبذلك تكون العقوبة على ما يحمله الإنسان من روح التمرّد على الله، لا على مجرد ما يحمله من رأي مخالف.

3. ربما يستوحي البعض من هذه الآية عدة أمور:

أ. الأول: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾، فقد يستدلّ بها على أن الله يحمّل الإنسان مسئولية اختياره، مما يوحي بأن الإنسان مختار في فعله وليس مجبرا.

ب. الثاني: ‏ ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾، فقد يستوحى منها أن المسؤولية تنطلق من وضوح الحق للإنسان المنحرف عن الخط عمليا بعد أن قامت الحجة عليه في ذلك، وعلى ضوء ذلك، فإن الإنسان الذي حاول معرفة الحق بجهده وسعى إلى ذلك بالوسائل المتعارفة ولم يصل إلى المعرفة بل بقي في حالة شك وارتياب، لا مسئولية عليه لأن الحجة لم تقم عليه مع عدم كونه في طريق التمرّد، ومن خلال ذلك يمكن لنا أن نفهم أنّ الإنسان الذي اجتهد في سبيل الوصول إلى الحق، وأخطأ النتيجة مع المزيد من البحث الذي لم يبق له معه أيّ أمل في الحصول على دليل آخر غير ما لديه، فهو معذور.

ج. الثالث: ذكر الرازي في تفسيره، أن الشافعي سئل عن آية في القرآن في كتاب الله تعالى تدل على أن الإجماع حجة، فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة، حتى وجد هذه الآية: ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وتقرير الاستدلال أنّ اتباع غير سبيل المؤمنين حرام، فوجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين واجبا، ومن الطبيعي أن المؤمنين إذا أجمعوا على شيء كان ذلك مصداقا لما يستفاد من الآية من ضرورة اتباع سبيل المؤمنين، ولكن هذا الدليل غير تام، لأن الآية تتحدث عن الذين يتبعون غير سبيل المؤمنين في الإخلاص لله ولرسوله واتباع أوامره ونواهيه، مما يكون مصداقا لمشاقة الرسول التي تتطابق مع التمرد عليه الذي يلتقي مع واقع المشركين والمنافقين، وأين هذا من مسألة الإجماع الذي يمثل اتفاق المؤمنين على خط عملي لم تقم عليه حجة ولم يثبت أنه صادر عن الرسول كما هو الفرض، لأنه لا طريق له غير الإجماع، فهي تتحدث عن الواقع الذي كان يعيشه الوضع الإسلامي مع القوى المضادة، وقد جاء عن الشيخ محمد عبده: أن الإجماع الذي يعنونه هو اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد وفاة نبيها، والآية نزلت في عصره، لا بعد عصره.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/462.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لقد قلنا في سبب نزول الآية السابقة: إنّ بشير بن الأبيرق كان قد سرق من أحد المسلمين، وأتهم إنسانا بريئا بهذه السرقة، واستطاع بالأجواء المزيفة التي اختلقها أمام النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يبرئ نفسه، ولكن حين نزلت تلك الآيات افتضح أمره، فبدلا من أن يختار طريق التوبة بعد فضيحته، سار في طريق الكفر وارتد عن الإسلام بصورة علنية رسمية، فنزلت الآية الأخيرة متضمنة إشارة إلى هذا الموضوع، بالإضافة إلى بيانها لحكم إسلامي عام وكلي.

2. حين يرتكب الإنسان خطأ ويدرك هذا الخطأ، فليس أمامه سوى طريقين:

أ. أحدهما: طريق العودة والتوبة التي أشارت الآيات السابقة إلى أثرها في‏ غسل الذنوب عن الإنسان.

ب. الثّاني: هو أن يسلك الإنسان سبيل العناد، وقد أشارت الآية الأخيرة إلى الآثار والعواقب السيئة لهذا الطريق، حيث أعلنت أنّ من يواجه النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالعناد والمخالفة بعد وضوح الحق له، ويسير في طريق غير طريق المؤمنين فإنّ الله سوف لن يهديه إلى غير هذا الطريق، وسيرسله الله في يوم القيامة إلى جهنم، وما أسوأ هذا المكان الذي ينتظره! فتقول الآية: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾

3. يجب الانتباه إلى أنّ عبارة ﴿يُشَاقِقِ﴾ مأخوذة من مادة (شقاق) بمعنى المخالفة الصريحة المقرونة بالحقد والضغينة وتؤكّد جملة ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾ هذا المعنى أيضا، وفي الحقيقة فإنّ من يكون هذا شأنه فلن يلقى مصيرا خيرا ممّا ذكرته الآية له، مصير ينطوي على نهاية مشؤومة له في هذه الدنيا وعاقبة سيئة أليمة في الدار الآخرة، فهو في الدنيا ـ كما تقول الآية ـ يستمر منجرفا في الطريق الأعوج الذي اختاره، فتتوسع بذلك زاوية انحرافه عن جادة الحق والصواب، وهذا الطريق هو الذي اختاره لنفسه والبناء الذي وضع أساسه بيده، ولهذا لم يكن قد وقع عليهم أي ظلم من الخارج.

4. أمّا بالنسبة لقول الآية: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ فهو إشارة إلى حرمان هؤلاء من التوفيق المعنوي، لتمييز الحقّ، ومواصلتهم السير في طريق الضلالة، وقد بيّنا تفاصيل هذا الموضوع لدى الحديث عن تفسير الهداية والضلالة في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا، وحين تقول الآية: ﴿نُصْلِهِ جَهَنَّمَ‏﴾ فهي تشير إلى مصير هؤلاء يوم القيامة، وهناك تفسير آخر حول جملة ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ وهو أن هؤلاء وأمثالهم، يوكل أمرهم إلى الآلهة المصطنعة التي انتخبوها لأنفسهم.

5. يعتبر الإجماع أحد الأدلة الفقهية الأربعة، وهو بمعنى اتفاق علماء ومفكري الإسلام حول مسألة فقهية، وذكروا في علم أصول الفقه أدلة مختلفة لإثبات حجية الإجماع، ومن ضمنها الآية الأخيرة التي مرّ البحث في تفسيرها، إذ يعتبرها البعض دليلا على حجية الإجماع لأنّها تقول أنّ من يختار طريقا غير طريق المؤمنين سيكون له مصير مشؤوم أسود في الدنيا والآخرة، وبناء على هذه الآية، فإنّ أي طريق يختاره المؤمنون ـ في أي مسألة كانت ـ يجب على الجميع السير في هذا الطريق، والحقيقة أنّ هذه الآية لا صلة لها بمسألة حجية الإجماع، لا من قريب ولا من بعيد (وطبيعي إنّنا نقبل حجّية الإجماع الذي يكشف لنا عن قول المعصوم، ولكننا نعتبر حجية السنة وقول المعصوم دليلا لحجية هذا الإجماع، وليس الآية المذكورة)

6. السبب في عدم قبولنا دلالة هذه الآية على حجية الإجماع، هو أنّها:

أ. تعين أوّلا: عقوبات للأشخاص الذين يخالفون النّبي صراحة وعن علم وإدراك، ويختارون طريقا غير طريق المؤمنين، فهذان العنصران يشكّلان باتحادهما العلّة لذلك المصير المشؤوم، مع التأكيد بأن هذا المصير إنّما يتحقق لدى اختيار الشخص للعنصرين المذكورين عن علم ودراية، وليس لهذا الموضوع أية صلة بمسألة حجية الإجماع، ولا يدل بوحده على هذه الحجية.

ب. والأمر الثّاني: هو أنّ المقصود بعبارة ﴿سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الواردة في الآية، هو طريق التوحيد والخضوع لله وحده، وهو مبدأ الإسلام، وليس معناه الفتاوى الفقهية أو الأحكام الفرعية، وهذه الحقيقة يثبتها ظاهر الآية بالإضافة إلى ما قيل في سبب نزولها.

7. والحقيقة هي أنّ السير في طريق غير طريق المؤمنين لا يتجاوز عن كونه‏ مخالفة للنّبي، وكلا العنصرين يعودان إلى موضوع واحد، وينقل أنّه حين كان أمير المؤمنين علي عليه السّلام في الكوفة، جاءه جمع من الناس وطلبوا منه أن يعين لهم إماما لصلاة الجماعة (لكي يصلوا خلفه صلاة التراويح جماعة، حيث كان عمر بن الخطاب في زمانه قد أمر بأن تصلّى هذه الصّلاة جماعة) وما كان من الإمام غير أن يمتنع عمّا طلبوا منه، ونهى عن إقامة جماعة كتلك (لأن الجماعة لم تشرع في النوافل) لكن هذه الجماعة التي سمعت الحكم الصريح الحازم من الإمام علي عليه السّلام أصرّت على عنادها، وأخذت بالصراخ والعويل، داعية الناس إلى الاحتجاج على حكم الإمام، فجاءت جماعة أخرى إلى الإمام علي عليه السّلام وأخبرته بما أخذ يفعله أولئك القوم وبعصيانهم لأمره، فطلب أن يتركوا وشأنهم ليختاروا من شاءوا ليصلّي بهم تلك الجماعة غير الشرعية ثمّ تلى هذه الآية الأخيرة، وفي هذا الخبر دليل آخر على التّفسير الذي تحدثنا عنه بالنسبة لهذه الآية.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/452.

107. المغفرة والشرك والذنوب والضلال

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈107⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 116]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآية دليل ألا يصير بكل ذنب مشركًا؛ على ما قاله الخوارج لما قسم الكتاب، ولا يحتمل إضمار التوبة؛ لأن الشرك مما: يُغفر بالتوبة؛ فبطل قولهم.

2. وفيه بطلان قول من يبطل المغفرة في الكبائر بلا توبة؛ لأن الله تعالى جعل لنفسه مشيئة المغفرة، وذلك فيما في الحكمة دفعه سفه؛ فلزم الذي ذكرنا الفريقين جميعًا.

3. ثم الذي ينقض قول الخوارج الذين يكفرون بارتكاب الصغائر ـ ما بلى بها الأنبياء والأولياء؛ وما يكفر صاحبه ـ يُسقط النبوة والولاية، ومن كان وصف إيمانه بالأنبياء عليهم السلام هذا؛ فهو كافر بهم.

4. وعلى المعتزلة في ذلك أن الله وصف الأنبياء عليهم السلام بالدعاء له تضرعًا وخيفة، وخوفًا وطمعًا، وبكائهم على ما كان منهم من الزلات وتضرعهم إليه؛ حتى أجيبوا في دعائهم، ولو لم يكن ذنوبهم بحيث يحتمل التعذيب عليها في الحكمة، لكان في ذلك تعدى الحد والوصف بالجور والتعوذ به، وذلك أعظم من الزلات، فهذا ينقض قول المعتزلة في إثبات المغفرة في الصغائر، وإخراج فعل التعذيب عن الحكمة، وقول الخوارج بإزالة اسم الإيمان بها، ولا عصمة إلا بالله.

5. ثم قوله: ﴿لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ ـ يحتمل: الشرك في الاعتقاد، وهو أن يشرك غيره في ربوبيته وألوهيته، وبين أن يشرك غيره في عبادته؛ ألا ترى أنه قال عز وجل: ﴿أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، ثم قال الله تعالى في آخره: ﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾: جعل الإشراك في الألوهية والربوبية، والإشراكَ في العبادة واحدًا؛ كله شرك بالله.

6. ثم قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ لا يحتمل ما قالت المعتزلة: إنه وعد المغفرة فيما يشاء، ثم بين ذلك في الصغائر بقوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾، وقد ثبت الوعيد في الكبائر؛ بقي الوعد بحقه لم يزل بالذي ذكر لاحتماله.

7. وقيل: قوله: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ كناية عن الأنفس المغفورات، لا عن الآثام والأجرام التي تغفر، لم يجز صرف التخصيص إلى الآثام بالآية المكنى بها عن الأنفس؛ لأنه لم يقل: ما شاء، ولكن قال عز وجل: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾؛ فذلك كناية عن الأنفس.

8. وفي آيات الوعيد تحقيق في الذين جاء بهم، وفيما جاء على ما قيل: لا صرف في ذلك؛ فهو أولى.

9. وبعد: فإنه قال: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾، والصغائر عندهم مغفورة بالحكمة لا بالوعد، والآية في التعريف.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٦٢.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عزوجل: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، يريد عزوجل أنه لا يغفر لمن مات وهو على الشرك، ويغفر ما دون الشرك من الزلل الذي لم يتعمده المؤمن ولم يرد به مقاطعة الله عز وجل، والشرك هو العمد، ألا ترى أن من تعمد مقاطعة الله فقد استخف بحقه، ومن استخف به فقد آثر طاعة إبليس على طاعته، وإن قدم طاعة الشيطان فقد كفر وأشر ك بالرحمن، وقاطعه وباينه وعاداه بأبين البيان.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/251.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغفر الشرك، وأنه يغفر ما دونه، وقد بينا الاستدلال بذلك على ما نذهب اليه من جواز العفو عن مرتكبي الكبائر من أهل الصلاة، وإن لم يتوبوا فيما مضى، فلا وجه لإعادته.

2. قيل أنه عنى بهذه الآية أبا طعمة الخائن حين أشرك ومات على شركه بالله، غير أن الآية وإن نزلت بسببه، فعندنا وعند جميع الأمة أن الله لا يغفر لمن أشرك به بلا توبة: لتناول العموم لهم.

3. سؤال وإشكال: على هذا من لم يشرك بالله بان لا يعبد معه سواه، وإن كان كافراً بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من اليهود النصارى ينبغي أن يكون داخلا تحت المشيئة لأنه مما دون الشرك! والجواب: ليس الامر على ذلك لأن كل كافر مشرك، لأنه إذا جحد نبوة النبي اعتقد أن ما ظهر على يده من المعجزات ليست من فعل الله، ونسبها إلى غيره، وان الذي صدقه بها ليس هو الله، ويكون ذلك اشراكا معه على أن الله تعالى أخبر عنهم بأنهم قالوا: ـ يعني النصاري ـ (المسيح ابن الله، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ﴾ وذلك هو الشرك بالله تعالى على أنه لو لم يكونوا داخلين في الشرك لخصصناهم من جملة من تناولتهم المشيئة لإجماع الأمة على أن الله تعالى لا يغفر الكفر على وجه الا بتوبة.

4. ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ يعني من يجعل في عبادته مع الله شريكا، فقد ذهب عن طريق الحق وزوال عن قصد السبيل ذهاباً بعيداً، لأنه باشراكه مع الله في عبادته فقد أطاع الشيطان، وسلك طريقه وترك طاعة ربه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/331.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نزل قوله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية في شيخ قال يا رسول الله، إني شيخ منهمك في الذنوب، إلا أني لم أشرك بِاللهِ شيئًا مذ آمنت، ولم أتخذ من دونه وليًا، ولم أواقع المعاصي جرأة على الله، وإني لنادم تائب مستغفر، فما حالي عند الله؟ فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية، عن الضحاك عن ابن عباس.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾:

أ. قيل: أي لا يغفر الشرك للمشرك.

ب. وقيل: إذا تاب فلا يكون مشركًا فهو يغفر لمسلم لا لمشرك، فالآية على إطلاقه.

ج. وقيل: أطلق ذلك لما علم بالعقل والسمع أنه يغفر للتائب.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾:

أ. قيل: الصغائر، عن أبي علي.

ب. وقيل: بالتوبة، عن أبي مسلم، جعل تقدير الآية أن الله لا يغفر لمشرك ذنبا ما دام على شركه وإن تاب منه، ويغفر ما دون الشرك إذا تاب عنه.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾:

أ. قيل: بعيدًا عن الغرض المطلوب من دوام النعيم.

ب. وقيل: بعيدًا لا يرجى بعده هدىً.

ج. وقيل: بعيدًا من الحق؛ لأن الكفر أبلغ الضلال.

5. تدل الآية الكريمة على أنه لا يغفر الشرك، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وقد بينا أن الآية مجملة؛ لأنه علق المغفرة بالمشيئة، وبَيَّنَا ما قيل فيها.

6. ﴿ضَلَالًا﴾ نصب على المصدر، و﴿بَعِيدًا﴾ نعتٌ له.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/72.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ أي: ذهب عن طريق الحق والغرض المطلوب، وهو النعيم المقيم في الجنة ذهابا بعيدا، لأن الذهاب عن نعيم الجنة، يكون على مراتب، أبعدها الشرك بالله.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/169.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنها نزلت في حقّ طعمة بن أبيرق لمّا هرب من مكّة، ومات على الشّرك، وهذا قول الجمهور، منهم سعيد بن جبير.

ب. الثاني: أن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إني منهمك في الذّنوب، إلا أنّي لم أشرك بالله منذ عرفته، وإني لنادم مستغفر، فما حالي؟ فنزلت هذه الآية، روي عن ابن عباس، فأمّا تفسيرها، فقد تقدّم.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/472.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. عمومات الوعيد وعمومات الوعد متعارضة في القرآن، وأنه تعالى ما أعاد آية من آيات الوعيد بلفظ واحد مرتين، وقد أعاد هذه الآية دالة على العفو والمغفرة بلفظ واحد في سورة واحدة، وقد اتفقوا على أنه لا فائدة في التكرير إلا التأكيد، فهذا يدل على أنه تعالى خص جانب الوعد والرحمة بمزيد التأكيد، وذلك يقتضي ترجيح الوعد على الوعيد.

2. الآيات المتقدمة إنما نزلت في سارق الدرع، وقوله: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ [النساء: 115] إلى آخر الآيات إنما نزلت في ارتداده، فهذه الآية إنما يحسن اتصالها بما قبلها لو كان المراد أن‏ ذلك السارق لو لم يرتد لم يصر محروما عن رحمتي، ولكنه لما ارتد وأشرك بالله صار محروما قطع عن رحمة الله، ثم إنه أكد ذلك بأن شرح أن أمر الشرك عظيم عند الله فقال‏: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ يعني ومن لم يشرك بالله لم يكن ضلاله بعيدا، فلا جرم لا يصير محروما عن رحمتي، وهذه المناسبات دالة قطعا على دلالة هذه الآية على أن ما سوى الشرك مغفور قطعا سواء حصلت التوبة أو لم تحصل.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/221.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ رد على الخوارج، حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر، وقد تقدم القول في هذا المعنى، وروى الترمذي عن علي ابن أبي طالب قال: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ قال: هذا حديث غريب.

2. قال ابن فورك: وأجمع أصحابنا على أنه لا تخليد إلا للكافر، وأن الفاسق من أهل القبلة إذا مات غير تائب فإنه إن عذب بالنار فلا محالة أنه يخرج منها بشفاعة الرسول، أو بابتداء رحمة من الله تعالى، وقال الضحاك: إن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله، إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا، إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به، فما حالي عند الله؟ فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ الآية. ‌

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/386.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ قد تقدّم تفسير هذه الآية، وتكريرها بلفظ للتأكيد؛ وقيل: كررت هنا لأجل قصة بني أبيرق.

2. وقيل: إنها نزلت هنا لسبب غير قصة بني أبيرق، وهو ما رواه الثعلبي، والقرطبي في تفسيريهما عن الضحاك: أن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله! إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا إلّا أني لم أشرك بالله شيئا مذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أوقع المعاصي جرأة على الله ولا مكابرة له، وإني لنادم وتائب ومستغفر، فما حالي عند الله؟ فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية ومَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ عن الحق ضَلالًا بَعِيداً﴾ لأن الشرك أعظم أنواع الضلال وأبعدها من الصواب.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/596.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿اِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُّشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَنْ يَّشَآءُ وَمَنْ يُّشْرِكْ بِاللهِ فَقَد ضَّلَّ ضَلَالاً بَعِيدًا﴾ عن الحقِّ؛ لأنَّ الشرك أعظم أنواع الضلال، كرَّر مبدأ الآية للتأكيد، أو لأنَّ الآيات المتقدِّمة نزلت في سارق الدرع، ومن يشاقق الرَّسول في ارتداده.

2. ختم الأولى: بقوله: ﴿فَقَدِ افْتَرَى﴾ [الآية: 48]، وهذه بقوله: ﴿فَقَد ضَّلَّ﴾ لأنَّ الأولى: في أهل الكتاب، لأنَّهم يتعاطون الحقَّ عن الله تعالى ، وكذبوا عليه بأنَّ عيسى إله أو ابن إله، وأنَّ عزيزًا ابن الله، وكذبوا في قولهم: محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم غير نبيٍّ، وأنَّ القرآن ليس من الله تعالى، والثانية: في مشركي العرب لا يتعاطون ذلك، فناسب وصفهم بمطلق الضلال البعيد، روي عن ابن عبَّاس أنَّ أعرابيًّا قال لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنِّي شيخ لم أشرك بالله تعالى شيئًا، مذ أسلمت، منهمكٌ في الذنوب للهوى، لا جرأة على الله، وما توهَّمت أنِّي أعجز الله تعالى، فما حالي؟)، فنزلت الآية، وجعلت هنا، وأيضًا تقدَّم هنا ذكر الهدى، والضلالُ ضدُّه، ومن ضلالهم البعيد في الشرك أنَّهم يعبدون جمادات إناثا تنفعل ولا تفعل، ومن شأن الرَّبِّ أن يكون فاعلاً لا منفعلاً، وذلك من شدَّة سفههم.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/290.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ قد مر الكلام على هذه الآية الكريمة في أوائل هذه السورة مطولا، قالوا: تكريرها إما تأكيدا وتشديدا أو لتكميل قصة طعمة، وقد مر موته كافرا، أو إن لها سببا آخر في النزول، على ما رواه الثعلبيّ عن ابن عباس قال جاء شيخ، إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: إني شيخ منهمك في الذنوب، إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به، ولم أتخذ من دونه وليّا، ولم أوقع المعاصي جراءة، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربا، وإني لنادم تائب، فما ترى حالي عند الله سبحانه وتعالى؟ فنزلت.

2. استظهر بعضهم الوجه الأخير قال: لأن التأكيد، مع بعد عهده، لا يقتضي تخصص هذا الموضع، فلا بدّ له من مخصص، وأغرب المهايميّ حيث جعلها مشيرة إلى شقي الآية الكريمة، حيث قال: ثم أشار إلى أن وعيد مشاقة الرسول جازم دون مخالفة الإجماع، لأن مشاقة الرسول دليل تكذيبه، وهو مستلزم للشرك بالله، إذ خلق المعجزات لا يكون إلا لكامل القدرة، ولا يكون إلا لإله، فإذا نفاها عن الله فقد أثبت له شريكا وأن الله لا يغفر أن يشرك به، ومخالفة الإجماع يجوز أن تكون مغفورة، لأنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء، إذ لا تنتهي إلى الشرك، وكل هذه المناسبات دالة دون ذلك قطعا على دلالة هذه الآية، على أن ما سوى الشرك مغفور قطعا، سواء حصلت التوبة أو لم تحصل.

إنما ذكر في الآية الأولى‏ ﴿فَقَدِ افْتَرَى﴾ لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب، ومنشأ شركهم كان نوع افتراء، وهو دعوى التبني على الله تعالى بقولهم‏ ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ قاله القاضي، وفي (السمين): ختمت الآية المتقدمة بقوله: ﴿فَقَدِ افْتَرَى﴾ وهذه بقوله‏ ﴿فَقَدْ ضَلَّ﴾ لأن الأولى: في شأن أهل الكتاب وهم عندهم علم بصحة نبوته، وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع، ومع ذلك فقد كابروا في ذلك وافتروا على الله، وهذه في شأن قوم مشركين ليس لهم كتاب ولا عندهم علم، فناسب وصفهم بالضلال، وأيضا قد تقدم هنا ذكر الهدى وهو ضد الضلال.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/341.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله لنا في الآية التي قبل هذه الآية أن جهنم هي مصير من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين، وكلا هذين الأمرين كان يكون في زمن الرسول ظاهرا جليا بمثل ما فعل طعمة من ترك صحبة النبي والمؤمنين، وموالاة أعدائهم من المشركين، كما يظهر ذلك في عصره وغير عصره في كل من بلغته دعوته وتبين له الهدى فيها فتركها وعادى أهلها ووالى أعدائهم، فإن مشاقة ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مشاقة له، ولكن وراء ذلك أنواعا من الكفر والضلال لا يصدق على كل واحد منها أنه مشاقة للرسول واتباع لغير سبيل المؤمنين، كما بينا ذلك في تفسير تلك الآية وقلنا: إن كل صنف من أصناف الضالين يوليه الله ما تولى ويوجهه إلى حيث توجه بكسبه واجتهاده لأن الله تعالى وكل أمر النوع الإنساني إلى نفسه، إلا أن يختص من شاء من الناس برحمة من لدنه، وبقي علينا أن نعرف ما يجوز أن يغفره الله تعالى للناس من أنواع ضلالهم وخطاياهم ومالا يغفره لهم البتة فإن هذا مما يحتاج إليه في هذا المقام فبينه تعالى بقوله: ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾

2. تقدم هذا النص بعينه في سياق آخر من هذه السورة ولم يمنع ذلك من إعادته هنا لأن القرآن ليس قانونا ولا كتابا فنيا فيذكر المسألة مرة واحدة يرجع إليها حافظها عند إرادة العمل بها وإنما هو كتاب هداية ومثاني يتلى لأجل الاعتبار والاستبصار تارة في الصلاة وتارة في غير الصلاة، وإنما ترجى الهداية والعبرة بإيراد المعاني التي يراد إيداعها في النفوس في كل سياق يوجه النفوس إليها أو يعدها ويهيؤها لقبولها، وإنما يتم ذلك بتكرار المقاصد الأساسية من تلك المعاني، ولا يمكن أن تتمكن دعوة عامة في النفوس إلا بالتكرار، ولذلك نرى أهل المذاهب الدينية والسياسية الذين عرفوا سنن الاجتماع وطبائع البشر وأخلاقهم يكررون مقاصدهم في خطبهم ومقالاتهم التي ينشرونها في صحفهم وكتبهم، بل قال بعض علماء الاجتماع: إن نشر التجار للإعلانات التي يمدحون بها سلعهم وبضائعهم ويدلون الناس على الأماكن التي تباع فيها هو عمل بهذه القاعدة فإن الذهن إذا تكرر عليه مدح الشيء ولو من المتهم في مدحه لا بد أن يؤثر فيه.

3. قال محمد عبده: تقدم صدر هذه الآية في هذه السورة وتتمتها هناك ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 48] وقد تقدمها هنالك إثبات ضلال أهل الكتاب وتحريفهم ودعوتهم إلى الإيمان بما أنزله الله على نبيه مصدقا لما معهم، فقد بين لهم أن اتباع الرسول فيما جاء به والتسليم له درجات فمنها ما تغلب النفوس على مخالفته نزوات الشهوة وثورات الغضب ثم يعود صاحبه ويتوب، فهذا مما قد تناله المغفرة، وأما التوحيد الذي هو أساس الدين فلا يغفر الميل عنه إلى ضرب من ضروب الشرك، والآيات التي قبل هذه الآية تفيد أن السياق هنا كالسياق هناك فأعادها لذلك المقصد وهو بيان أن مشاقة الرسول ومخالفته إنما تكون بالخروج عن التوحيد والوقوع في الشرك لأن التوحيد روح الدين وقوامه، فالمناسبة هنا تقتضي أن يعاد هذا المعنى، وهي إعادة تنادي البلاغة بطلبها ولا تعد من التكرار الذي قالوا إنه ينافي البلاغة، فإن هذا إنما يتحقق إذا كان المخاطبون وقد فهموا منك معنى تمام الفهم كما تريد ثم ذكرته لهم بعبارة لا تزيدهم فائدة ولا تأثيرا جديدا ولا تمكينا للمعنى، وأما ما يفيد شيئا من هذا الذي ذكرناه فهو الذي تقتضيه البلاغة.

4. إن هذا يقال على تقدير كون القرآن يوجه إلى كل فرد من أفراد المكلفين وأنهم جميعهم يسمعونه أو يتلونه كله ويتذكرون عند كل سياق ما يناسبه فيغيره، وإذا أنت تذكرت أن الله تعالى يعلم أن الأمر لا يكون كذلك وأنه ربما يسمع هذا السياق الذي جاءت هذه الآية فيه من لم يكن سمع ذلك السياق الذي جاءت فيه الأخرى سواء كان ذلك في الصلاة أو غير الصلاة، فإنك تجزم بأنه لا محل لجعل هذه الآية من التكرار الذي يفرون منه، لأنه في هذه الحال يكون من قبيل ذكر الشاعر لمعنى من المعاني في قصيدتين يمدح في كل واحدة منهما رجلا غير الذي يمدحه في الأخرى، وعلى هذا لا يتجه قول جمهور المفسرين الذين اطلعنا على كتبهم أن هذا التكرار للتأكيد والتأكيد تكأتهم في تعليل كل تكرار وإنما نقول هذا على تقدير كون التكرار المحض منتقدا ومخلا بالبلاغة وقد علمت أنه ليس كذلك بل هو ركن البلاغة الركين الذي لا يبلغ المتكلم مراده من النفس بدونه.

5. أما معنى ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ فهو ظاهر وتقدم في تفسير الآية السابقة ولا يصدنا ذلك أن نقول فيه شيئا هنا نرجو أن يكون مفيدا: أكد الله للناس أنه لا يغفر لأحد شركه به البتة أنه قد يغفر لمن يشاء من المذنبين ما دون الشرك من الذنوب فلا يعذبهم عليه، وقد بينا في التفسير وفي بعض مباحث المنار أن عقاب الله تعالى للمذنبين هو أثر طبيعي لذنوبهم، وما تحدثه من الصفات القبيحة من أنفسهم، فكما أن السكر يحدث في البدن أمراضا يتعذب صاحبها بها في الدنيا يحدث هو وغيره من الشرور والخطايا أمراضا في القلوب والأرواح يتعذب بها صاحبها في الآخرة، وكما أن قوة البدن وصحة المزاج تغلب بعض جراثيم الأمراض فلا يظهر لها تأثير مؤلم يعذب صاحبه كذلك قوة الروح بالتوحيد وصحة مزاجها بالإيمان والفضائل تغلب بعض المعاصي التي قد يلم بها المؤمن بجهالة أو نسيان ثم يتوب منها من قريب، ولكن قوة البدن لا تدفع ما يعرض للقلب فيقطع نياطه أو للدماغ فيتلفه، وكذلك الشرك يشبه في إفساده للأرواح ما يصيب القلب أو الدماغ من سهم نافذ أو رصاصة قاتلة، فلا مطمع في النجاة من العقاب عليه.

6. ذلك بأن الشرك في نفسه هو منتهى فساد الأرواح وسفاهة النفس وضلال العقول فكل حق أو خير يقارنه لا يقوى على إضعاف شروره ومفاسده، والعروج إلى جوار الله تعالى بروح صاحبه، فإن روحه تكون في الآخرة على ما كانت في الدنيا متعلقة بشركاء يحولون بينها وبين الخلوص إليه عز وجل والله لا يقبل إلا ما كان خالصا له، والمذنب قد يكون في إيمانه وسريرته خالصا لله عبدا له وحده فالعبد المملوك قد يعصي وقد يأبق فلا العصيان ولا الإباق يخرجانه عن كونه عبدا لسيد واحد، ولسيده أن يعاقبه وأن يعفو عنه، ولا يغفر له أن يجعل نفسه عبدا لغيره لا قنا ولا مبعضا ﴿ضَرَبَ الله مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 29] بل هم يجهلون أن شركاءهم الذين استكبروا امتيازهم عليهم بعلم أو عمل غير معتاد كبعض الأنبياء الأولياء والملوك، كل هؤلاء عبيد أمثالهم لا ينبغي أن يكون لهم شركة ما في مقام العبادة لا بدعاء ولا نداء، وكذلك ما استكبروا خلقه أو نفعه أو ضره كالكواكب والنار وبعض الأنهار والحيوانات، ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ أي يدعونهم ويتوسلون بهم هم ﴿يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ التي تقربهم إليه زلفى وهي التوحيد والإخلاص والعمل الصالح ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ أي أقربهم وأعلاهم منزلة كالملائكة والمسيح يبتغي هذه الوسيلة إليه عز وجل ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ وإن أعرفهم به أشدهم خوفا منه ورجاء في فضله ورحمته، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك كما قال عز وجل فتجد الملايين منهم يدعون المسيح ويوجهون كل عبادتهم إليه وحده تارة، ويذكرون اسم الله مع اسمه تارة أخرى، وتجد ملايين من دونهم يدعون وينادون من دون المسيح من الأولياء، ويصمدون إلى قبورهم أو إلى الصور والتماثيل التي اتخذها قدماء المفتونين بهم تذكارا لهم.

7. إنني أكتب هذا في ضواحي مدينة (دلهي من أعظم مدن الهند) وأنا أرى أصنافا من هؤلاء المشركين يجولون أمامي في مصالحهم ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ [الزخرف: 9] وإنما هؤلاء المعبودات أو الأولياء، وسائط بيننا وبينه وشفعاء ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله﴾ [يونس: 18] ولكن الله تعالى لا يقبل العبادة إلا خالصة لوجهه من كل شائبة ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ الله مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لله الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ الله لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ [الزمر: 2 ـ 3]

8. من الناس من يسمون أنفسهم موحدين، وهم يفعلون مثلما يفعل جميع المشركين، ولكنهم يفسدون في اللغة كما يفسدون في الدين، فلا يسمون أعمالهم هذه عبادة، وقد يسمونها توسلا وشفاعة، ولا يسمون من يدعونهم من دون الله أو مع الله شركاء، ولكن لا يأبون أن يسموهم أولياء وشفعاء، وإنما الحساب والجزاء على الحقائق لا على الأسماء، ولو لم يكن منهم إلا دعاء غير الله ونداؤه لقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، لكفى ذلك عبادة له هو وشركا بالله عز وجل، فقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الدعاء هو العبادة) رواه أبو داوود والترمذي وقال: حسن صحيح، وفي رواية ضعيفة (الدعاء مخ العبادة) الأولى: تفيد حصر العبادة الحقيقية في الدعاء، وهو حصر على سبيل المبالغة كأن ما عدا الدعاء لا يعد عبادة بالنسبة إليه، وقد قالوا إن هذا الحديث من قبيل حديث (الحج عرفة) أي هو الركن الأهم الذي لا يعتد بغيره عند تركه.

9. من تأمل تعبير الكتاب العزيز عن العبادة بالدعاء في أكثر الآيات الواردة في ذلك وهي كثيرة جدا يعلم كما يعلم من اختبر أحوال البشر في عباداتهم أن الدعاء هو العبادة الحقيقية الفطرية التي يثيرها الاعتقاد الراسخ من أعماق النفس ولا سيما عند الشدة، وأن ما عدا الدعاء من العبادات في جميع الأديان فكله أو جله تعليمي تكليفي يفعل بالتكلف وبالقدوة وقد يكون في الغالب خاليا من الشعور الذي به يكون القول أو العمل عبادة وهو الشعور بالسلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العادية، حتى أن الأدعية التعليمية في جميع الأديان قد تكون خالية من معنى العبادة وروحها الذي ذكرناه سواء دعي بها الله وحده أو دعي بها غيره معه أو وحده، ولا سيما الأدعية الراتبة في الصلوات الموقوتة أو في غير الصلوات، فإن الحافظ لها يحرك بها لسانه في الوقت المعين وقلبه مشغول بشيء آخر، إنما العبادة جد العبادة في الدعاء الذي يفيض على اللسان من سويداء القلب وقرارة النفس، عند وقوع الخطب، وشدة الكرب، والشعور بشدة الحاجة إلى الشيء واستعصاء الوسائل إليه، وتقطع الأسباب دونه، ذلك الدعاء الذي تسمعه من أصحاب الحاجات، وذوي الكربات، وعند حدوث الملمات، وفي هياكل العبادات، ولدى قبور الأموات، ذلك الدعاء الخالص الذي يغشاه جلال الإخلاص، ويمثل كل حرف من حروفه معنى الخشوع التام، وناهيك بما يفجره هذا الخشوع، من ينابيع الدموع، ذلك الدعاء الذي يستغله سدنة الهياكل، ويستثمره خدمة المقابر، ويضن به ويدافع عنه رؤساء الأديان، لأنه أشد أركان رياستهم على العوام، ومنهم من يضن به، لأنه لا يرى للجمهور الجاهلين غنى عنه، ولا يرى في حيز الإمكان استبدال التوحيد به، على أن الموحدين أعلى إخلاصا، وأشد حبا لله وخشوعا، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ [البقرة: 165]

10. ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله﴾ أي ومن يشرك بالله أحدا أو شيئا فيدعوه معه، ويذكر اسمه مع اسمه، أو يدعوه من دونه، ملاحظا في دعائه أنه يقربه إليه زلفى، أو غير ملاحظ ذلك ولا متذكر له، وإن كان بحيث لو ذكر به لذكره، وهذا النوع من الشرك في العبادة الذي يتجلى في الدعاء هو أقواها لأن الاعتقاد فيه يكون وجدانيا حاكما على النفس مستعبدا لها، ودونه الشرك المبني على الفكر والنظر الذي يحاجك صاحبه بالشبهات المشهورة المنتزعة من تشبيه الخالق بالمخلوقين، وقياسه على الملوك الظالمين، كقولهم: إن الإنسان المذنب الخاطئ والضعيف المقصر، لا يليق به أن يخاطب الإله العظيم كفاحا، ولا أن يدعوه مباشرة، بل عليه أن يتخذ له وليا يكون واسطة بينه وبينه، كما يتخذ آحاد الرعية الوسائط إلى الملوك والأمراء من المقربين إليهم، وقد يكون صاحب هذه العقيدة النظرية مقلدا فيها بالرأي والقول الذي يسميه حجة ودليلا سليم الوجدان من تأثيرها لعدم التقليد فيها بتكرار العمل فهو لا يلابسه إلا قليلا، وكذلك من يشرك في ربوبية الله تعالى باتخاذ بعض المخلوقين شارعين يحلون له ما يرون تحليله، ويحرمون عليه ما يرون تحريمه، فيتبعهم في ذلك من يشرك بالله أي نوع من أنواع الشرك.

11. ﴿فَقَدْ ضَلَّ﴾ عن القصد وتنكب سبيل الرشد، ﴿ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ عن صراط الهداية، موغلا في مهامه الغواية، لأنه ضلال يفسد العقل ويدسي النفس، فيخضع صاحبه ويستخذي لعبد مثله، ويخشع ويضرع أمام مخلوق يحاكيه أو يزيد عليه في عجزه، فيطيع من لا يطاع، ويرجو ولا موضع للرجاء، ويخاف ولا موطن للخوف، ويكون عبدا للأوهام، عرضة للخرافات، لا استقلال لعقله في إدراكه، ولا لإرادته في عمله، بل يكون عقله ورأيه وإرادته في تصرف بعض المخلوقات التي لا تملك له ولا لأنفسها نفعا ولا ضرا، ولا هداية ولا غواية ﴿قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا﴾ ولا نفعا، ولا غواية ﴿وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِنَ الله وَرِسَالَاتِهِ﴾ فهذا أعلى وأعظم ما أعطاه الله تعالى للمصطفين الأخيار من عباده، وميزهم به على سائر عباده، وهو تبليغ رسالته، والدعوة إلى دينه، من غير أن يكونوا مسيطرين ولا جبارين، ولا آلهة أو أربابا معبودين، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]

12. فعلم من هذا ومما بيناه من قبل في مثل هذا البحث أن سبب عدم مغفرة الله للشرك مع جواز غفران غيره يؤخذ من قاعدتين:

أ. إحداهما: إن الجزاء في الآخرة هو بسلامة الأرواح وسعادتها أو هلاكها وشقاوتها، هو تابع لما تكون عليه في الدنيا من سلامة الفطرة وصحة العقيدة، ودرجة الفضيلة التي يلازمها فعل الخيرات، وعمل الصالحات، أو فساد الفطرة، وخطأ العقيدة، والتدنس بالرذيلة.

ب. الثانية: أنَّ لِمَا يكون الناس عليه من الأمرين درجات ودركات، أسفلها وأخسها الشرك، وأعلاها كمال التوحيد، ولكل منهما صفات وأعمال تناسبها، فلو جاز أن يغفر الشرك فتكون روح صاحبه مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، تجول مع الملائكة المقربين في عليين، لكان ذلك نقضا أو تبديلا لسنة الله تعالى في خلق الناس التي ترتب عليها أن يكون منهم شقي وسعيد، فريق في الجنة وفريق في السعير، بعضهم فوق بعض بطبعه وصفاته الروحية كما يكون الأخف من الغازات والمائعات فوق الأثقل بطبعه، سنة الله التي لا تبديل لها ولا تغيير.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/341.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. علمت فيما سلف أن قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ إلخ نزلت في شأن طعمة بن أبيرق سارق الدرع ورميه اليهودي بسرقته، وأن قوله: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ إلخ نزلت في ارتداده عن الدين ولحوقه بالمشركين، وهنا ذكر أنه لو لم يرتد لم يكن محروما من رحمة الله ولكنه بارتداده صار بينه وبين رحمته حجاب أيما حجاب فإن كل ذنب يجوز أن يغفره الله للناس إلا ذنب الشرك، فإن صاحبه مطرود من عفوه ورحمته.

2. ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ تقدم هذا النص بعينه في غرض آخر من هذه السورة، وأعاد هنا مرة أخرى، لأنه إنما ترجى الهداية والموعظة بإبراز المعاني التي يراد إيداعها في نفوس السامعين في كل سياق يقصد فيه توجيها إليها وإعدادها لقبولها، ولن يتم ذلك إلا بتكرار المقاصد الأساسية من تلك المعاني حتى تتمكن في النفوس بذلك التكرار، ومن ثم نرى رجال الدين والسياسة الذين عرفوا سنن الاجتماع وفهموا طبائع البشر وأخلاقهم يكررون في خطبهم ومقالاتهم، أغراضهم ومقاصدهم التي ينشرونها في الصحف والكتب، فإن الذهن إذا تكرر عليه مدح الشيء أو ذمه أثر فيه.

3. المعنى ـ أكد الله لعباده أنه لا يغفر البتة لأحد أشرك به سواه، وأنه قد يغفر لمن يشاء من المذنبين ما دون الشرك من الذنوب فلا يعذبهم عليه، ذاك أن الشرك هو منتهى فساد الأرواح وضلال العقول، فكل خير يلابسه لا يقوى على إضعاف مفاسده وآثامه والعروج بها إلى جوار ربها، إذ أنها تكون‏ موزعة بين شركاء يحولون بينها وبين الخلوص إليه عزّ وجل، والله لا يقبل إلا ما كان خالصا له.

4. بعض الناس ممن يسمون أنفسهم بالموحدين يفعلون كما يفعل سائر المشركين، فيدعون حين يشتد الكرب ويعظم الخطب غير الله وحده أو مع الله ولا يسمون عملهم دعاء، بل يسمونه توسلا واستشفاعا، ويسمون من يدعونهم أولياء وشفعاء، ولو لم يكن منهم إلا هذا الدعاء لقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، لكفى ذلك عبادة وشركا بالله، وقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ (الدعاء هو العبادة) رواه أبو داوود: أي إن العبادة جدّ العبادة إنما تكون في الدعاء الذي يفيض على اللسان من قرارة النفس حين وقوع الخطب، واشتداد الكرب، وهذا ما تسمعه من أصحاب الحاجات، عند حدوث الملمات، وفى هياكل العبادات، ولدى قبور الأموات، فكل ذلك يمثل الخشوع والخضوع، ويذرف من العين الدموع‏ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾

5. وما عدا هذا الدعاء من العبادات، جلّه يفعل بالتعليم، ويكون في الغالب خاليا من الشعور الذي به يكون القول أو الفعل عبادة، إذ هو خال من معنى العبادة وروحها وهو الشعور بالسلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العادية، ولا سيما الأدعية التي تكون في الصلوات أو في غير الصلوات، إذ نرى الحافظ لها يحرك بها لسانه وقلبه مشغول بشواغل أخرى، فمثل هذا لا يمثّل العبادة الحقة التي تملأ القلب نورا، والنفس استسلاما وخضوعا، والروح طهارة وزكاء.

6. ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ أي ومن يشرك بالله شيئا فيدعوه معه ويذكر اسمه مع اسمه، أو يدعوه وحده ملاحظا أنه يقر به إليه زلفى ـ فقد ضل عن القصد، وبعد عن سبيل الرشد ضلالا بعيدا في سبيل الغواية، لأنه ضلال يفسد العقل، ويكدّر صفاء الروح ويجعله يخضع لعبد مثله، ويخضع أمام مخلوق يحاكيه؛ ويكون عبدا للخرافات والأوهام.

7. خلاصة ما تقدم:

أ. إن الشرك في العبادة الذي يتجلى في الدعاء، هو أقوى أنواع الشرك، لأنه يكون باعتقاد ناشئ عن وجدان حاكم على النفس مستعبد لها.

ب. إن دون هذا ـ الشرك المبنى على الفكر والنظر الذي يحاجك فيه صاحبه بالشبهات، المنتزعة من تشبيه الخالق بالمخلوق، وقياسه على ظلمة الملوك، كقولهم: إن الإنسان الخاطئ لا يليق أن يخاطب الإله العظيم مباشرة، بل عليه أن يتخذ له وليا يكون واسطة بينه وبينه، كما يتخذ آحاد الرعية الوسائط إلى الملوك والأمراء من المقربين إليهم، ومثله من يشرك في ربوبية الله باتخاذ بعض المخلوقين شارعين يحلّون له ما يرون تحليله ويحرّمون عليه ما يرون تحريمه فيتبعهم في ذلك.

ج. إن الجزاء في الآخرة يكون تابعا لما تكون عليه النفس في الدنيا من سلامة العقيدة، ومقدار درجة الفضيلة، التي يلازمها فعل الخيرات، أو فساد الفطرة وخطأ العقيدة، والتدنس بالرذيلة، التي يلازمها فعل السيئات.

د. إن الناس متفاوتون فيما بين ذلك من درجات ودركات، أخسها الشرك وأعلاها التوحيد، ولكل منهم صفات تناسبها، فلو جاز أن يغفر الشرك ويجعل صاحبه مع النبيين والصديقين والملائكة المقربين لكان ذلك نقضا لسنة الله التي لا تبديل فيها ولا تغيير.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/158.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يعلل النص هذا المصير البائس السيئ، بأن مغفرة الله سبحانه تتناول كل شيء.. إلا أن يشرك به.. فهذه لا مغفرة لمن مات عليها: ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾.. والشرك بالله ـ كما أسلفنا في هذا الجزء عند تفسير مثل هذه الآية من قبل ـ يتحقق باتخاذ آلهة مع الله اتخاذا صريحا على طريقة الجاهلية العربية وغيرها من الجاهليات القديمة ـ كما يتحقق بعدم إفراد الله بخصائص‏ الألوهية؛ والاعتراف لبعض البشر بهذه الخصائص، كإشراك اليهود والنصارى الذي حكاه القرآن من أنهم‏ ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله﴾ ولم يكونوا عبدوهم مع الله، ولكن كانوا فقط اعترفوا لهم بحق التشريع لهم من دون الله، فحرموا عليهم وأحلوا لهم، فاتبعوهم في هذا، ومنحوهم خاصية من خصائص الألوهية! فحق عليهم وصف الشرك، وقيل عنهم إنهم خالفوا ما أمروا به من التوحيد ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا﴾، فيقيموا له وحده الشعائر، ويتلقوا منه وحده الشرائع والأوامر.

2. ولا غفران لذنب الشرك ـ متى مات صاحبه عليه ـ بينما باب المغفرة مفتوح لكل ذنب سواه.. عندما يشاء الله.. والسبب في تعظيم جريمة الشرك، وخروجها من دائرة المغفرة، أن من يشرك بالله يخرج عن حدود الخير والصلاح تماما؛ وتفسد كل فطرته بحيث لا تصلح أبدا: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾.. ولو بقي خيط واحد صالح من خيوط الفطرة لشده إلى الشعور بوحدانية ربه؛ ولو قبل الموت بساعة.. فأما وقد غرغر ـ وهو على الشرك ـ فقد انتهى أمره وحق عليه القول: ﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/760.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الشرك بالله، ضرب من ضروب الكفر به.. فإذا كان الكفر جحودا بالله، وإنكارا لوجوده، فإن الشرك ضلال عن طريق الله، ورؤية غير واضحة لجلال الله وعظمته، الأمر الذي يجعل الإنسان ينظر إلى الله في هذا المستوي الذي لا يرتفع فيه كثيرا عن بعض مخلوقاته.. وهذا إنكار ضمنى لوجود الله، ذلك الوجود الحق، الذي ينفرد فيه سبحانه بالربوبية المطلقة، ويدين له فيه جميع المخلوقات بالعبودية والولاء.. ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: 93]

2. والقرآن الكريم يتحدث عن المشركين باعتبار أنهم طائفة من طوائف الكافرين، وفرقة من فرقهم.. فالمشرك كافر، لا جدال، فأهل مكة ـ قبل الإسلام ـ كانوا مشركين، يعرفون الله معرفة باهتة، ويرونه من خلال آلهتهم، وكأنه واحد منهم، أشبه بشيخ القبيلة في قبيلته! وقد سماهم القرآن الكريم كافرين، كما سماهم مشركين، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 6] من مراده بعض مشركي مكة، كما أشرنا إلى ذلك في تفسير هذه الآية.. ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال: 12] فإن هذه الآية نزلت في غزوة بدر، وفيما كان فيها من إمداد الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالملائكة في هذه المعركة.. وقد وصف المشركون هنا بالكفر.

3. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾، هو بيان لما قضى به سبحانه وتعالى فيمن يشرك به أو ينكر ألوهيته، وهو أنه سبحانه لا يغفر لمرتكب هذا الإثم إثمه، ولا يناله برحمته، إذ أن هذا المشرك أو المنكر، قد استخفّ بالله، فلم يولّ وجهه إليه، ولم يخلص قلبه له، فكان جزاؤه أن يستخفّ به الله، ولا يقيم له يوم القيامة وزنا، كما يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا﴾ [الكهف: 102 ـ 106]

4. قوله تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ هو استدعاء من الله سبحانه وتعالى للعصاة والمذنبين من عباده الذين آمنوا به، ليتعرضوا لواسع رحمته، وعظيم فضله، فإنهم وقد آمنوا به، وأحلوا قلوبهم ومشاعرهم من كل معبود سواه، فقد دخلوا في محتوى هذا النداء الكريم، الذي نادى الله به عباده المؤمنين في قوله سبحانه‏ ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾ [الزمر: 53 ـ 54]، فما كان من الذنوب دون الشرك والكفر، فهو في ساحة رحمة الله، وفي معرض غفرانه.

5. ليس في قوله تعالى: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ قيدا يحدّ من رحمة الله، أو يحجز من غفرانه، ولكن المراد به وضع الرحمة والمغفرة تحت مشيئة الله، يضعهما حيث يشاء، ويفضل بهما على من يشاء، فضلا وكرما، وليس لأحد أن يتألّى على الله، أو أن يلزمه شيئا من هذا العطاء المتفضّل به.. وبهذا تعظم المنّة، ويتضاعف الإحسان، إذ كان ذلك من غير مقابل، ودون استيفاء لجزاء على عمل، فصاحب العمل له جزاء عمله، كما يقول سبحانه: ﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 56] فرحمة الله واقعة حيث يشاء لمن يشاء.. أما المحسن، فقد كتب الله على نفسه أن يوفيه أجره، بل ويوفيه هذا الأجر أضعافا مضاعفة، كما يقول سبحانه: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾

6. قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ كشف للطريق المهلك الذي ركبه المشرك بشركه، وأنه قد بعد عن طريق النجاة والسلامة، ولن يزيده المضيّ فيه إلا إمعانا في الضلال، وبعدا عن طريق الحق، وشرودا عن مظانّ النجاة!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/900.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ استئناف ابتدائي، جعل تمهيدا لما بعده من وصف أحوال شركهم، وتعقيب الآية السابقة بهذه مشير إلى أنّ المراد باتّباع غير سبيل المؤمنين اتّباع سبيل الكفر من شرك وغيره، فعقّبه بالتحذير من الشرك، وأكّده بأنّ للدلالة على رفع احتمال المبالغة أو المجاز.

2. تقدّم القول في مثل هذه الآية قريبا، غير أنّ الآية السابقة قال فيها: ﴿ومَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرى‏ إِثْماً عَظِيماً﴾ [النساء: 48]، وقال في هذه ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً﴾ وإنّما قال في السابقة ﴿فَقَدِ افْتَرى‏ إِثْماً عَظِيماً﴾ لأنّ المخاطب فيها أهل الكتاب بقوله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ‏ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ﴾ [النساء: 47] فنبّهوا على أنّ الشرك من قبيل الافتراء تحذيرا لهم من الافتراء وتفظيعا لجنسه، وأمّا في هذه الآية فالكلام موجه إلى المسلمين فنبّهوا على أنّ الشرك من الضلال تحذيرا لهم من مشاقة الرسول وأحوال المنافقين فإنها من جنس الضلال، وأكّد الخبر هنا بحرف (قد) اهتماما به لأنّ المواجه بالكلام هنا المؤمنون، وهم لا يشكّون في تحقّق ذلك، والبعيد أريد به القويّ في نوعه الذي لا يرجى لصاحبه اهتداء، فاستعير له البعيد لأنّ البعيد يقصي الكائن فيه عن الرجوع إلى حيث صدر.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/256.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ إن الكثير الذى يتناجى به الآثمون هو في أكثر أحواله يكون منشؤه أنهم لا يندمجون بإحساسهم مع المؤمنين، فهم في جانب بإحساسهم وشعورهم، والرسول والمؤمنون في جانب آخر، وهم في الجانب الذى اختاروه يجعلون السلطان عليهم لجماعة أخرى، كأولئك المنافقين الذين كانوا يجعلون نصرهم في أمرهم لليهود أو للمشركين.

2. وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾، والشقاق أو المشاقة، وهو أن يكون في شق، والآخرون في شق، أي يكون في جانب بإحساسه وولائه، والرسول والمؤمنون في جانب آخر بإيمانهم وولائهم لله تعالى، وذلك كله بعد أن يتبين له الحق وقامت أدلة الهداية، ومن يفعل ذلك فإنه يكون قد خرج من ولاية المؤمنين ونصرتهم إلى ولاية من يتولونه ونصرته، أي أنهم يكونون قد انضموا إلى أعداء الله تعالى، وقد قال الطبري في تفسير هذا النص: (ومن يباين الرسول من بعد ما تبين له أنه رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ويتبع طريقا غير طريق أهل التصديق، ويسلك منهاجا غير منهاجهم، وذلك هو الكفر بالله؛ لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجه.

3. ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾: يجعل ناصره ما استنصره، واستعان به، ونرى من هذا أنه يجعل الشاقين كافرين، وذلك حق، ولكننا نخصهم بالمنافقين من الكفار؛ لأنهم الذين كانوا مع إظهارهم الإسلام يكونون في شق، والمؤمنون والرسول معهم في جانب الحق.

4. وقد ذكر سبحانه العقوبة المترتبة على ذلك فقال: ﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ أصل الصلى إيقاد النار، وصلى بالنار بلى بها، وصلى النار دخل فيها، وأصلاه فيها أدخله فيها، فمعنى قوله تعالى: ﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾ أدخلناه جهنم يشوى فيها كما تشوى الشاة، وأنها باقية، وهو يخلد فيها لا يخرج منها يوم القيامة أبدا، كذا قال تعالى: ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ أي أنها مصيره الدائم الباقي ولا مصير له سواه؛ لأنه كافر معاند للحق بعد أن تبينت له كل الأدلة المثبتة، وما أشد ذلك المصير سوءا وقبحا، وهو جزاء لما كانوا يعملون.

5. قبل أن نختم الكلام في ذلك النص نقول: إن بعض علماء أصول الفقه قالوا إن هذه الآية دليل على أن الإجماع حجة وينسبون ذلك الاستدلال إلى الشافعي ولم نجد فيما كتبه الإمام الجليل ما يدل على أنه استشهد بها في بيان حجية الإجماع، ولا نجد روح الآية ومعناها يدل على ذلك لأنها كانت في قوم منافقين كافرين، شاقوا الرسول والمؤمنين، وقد رد الغزالي في كتاب (المستصفى) القول بأنها دليل على حجية الإجماع، وكان كلامه حقا، والله سبحانه وتعالى أعلم، اللهم لا تجعل ولايتنا لغيرك واجعل ولايتنا لك ولرسولك وللمؤمنين.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1857.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كانت الآية السابقة على هذه النصوص مبينة مصير أولئك الذين يكونون في شق، والنبي وأصحابه في شق آخر، يوالون أعداء المسلمين، ويناصرونهم، ويتخذون النصرة منهم، لا يرجون خيرا إلا منهم، ولا يقدمون الولاء لغيرهم، في هذا النص الكريم يفتح الله تعالى باب التوبة والغفران لهم، حتى لا يسرفوا على أنفسهم، ويقنطوا من رحمة الله تعالى، وقد نهى سبحانه وتعالى عن ذلك فقال: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر]

2. في نص الآية التي نتصدى للكلام في معناها، يبين سبحانه أن كل ذنب قابل للغفران عند التوبة إلا أن يكون مشركا مصرا على الشرك: ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ أي أن الله سبحانه وتعالى لا يغفر الشرك به، والمراد بالشرك أن يعبد مع الله تعالى غيره، فالشرك في ذاته غير قابل للغفران؛ لأنه إلغاء لمعنى الوحدانية التي هي سمة الإسلام، وروح العبادة ومعناها، وإنه يدخل في الإشراك بالله إنكار رسالة الرسل، بعد قيام الأدلة القطعية، لأن ذلك تحكيم للهوى، وإبطال للغاية من الوحدانية؛ إذ هي طريق العبادة الصحيحة، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات‏]

3. إذا كانت العبادة الصحيحة هي ثمرة الخلق والتكوين والخضوع المطلق لسلطان الله تعالى، فإن العبادة في القول والعمل ومعرفة الكون لا تكون إلا برسالة الله تعالى وحده إلى الإنسان، فمن كفر بهذه الرسالة فقد ألغى معنى الوحدانية.

4. والله تعالى لا يغفر الشرك، وكان تعبيره سبحانه بقوله: ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ﴾ للإشارة إلى أنه لا يغفر ذات الشرك، ولكن يغفر للمشرك إذا خلعه وتاب عنه، ودخل فيما يدعو إليه الرسل، كما قال تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال‏]، ولذلك أضيف نفى الغفران إلى الشرك لا إلى من تلبس به، فإن الغفران يلحقه إذا خلعه، وما دون الشرك وإنكار الرسالة من العاصي يكون تحت غفران الله سبحانه وتعالى، ويتعلق بمشيئته، ومشيئته سبحانه قد أشار إلى بعض ما تتعلق به من أعمال العباد، ومنها التوبة، فإن التوبة النصوح تخلع المؤمن من ذل المعصية إلى عزة القبول، ومنها كثرة الحسنات وقلة السيئات، فإن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود]، فمن رجحت كفة الحسنات في ميزانه يوم القيامة، قد وعدنا رب العالمين بأنه يغفر له، ومشيئة الله تعالى لا حدود لها، ولكن منها ما بينه.

5. وقد قالوا في سبب نزول هذه الآية: إنه جاء شيخ من العرب إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: إني شيخ منهمك في الذنوب، إلا أنى لم أشرك بالله منذ عرفته وآمنت به، ولم أتخذ من دونه وليا، ولم أوقع المعاصي جرأة على الله تعالى ولا مكابرة له، وما توهمت طرفة عين أنى أعجز الله هربا، وإني لنادم مستغفر، فما ترى حالي عند الله؟ فنزلت هذه الآية.

6. وفيها ما يدل على أن الله يغفر للتائبين المستغفرين الخارجين من نطاق المعصية إلى سعة الفضيلة، وإن ذلك لا يمنع غفران الله تعالى لمن كانت له معاصي وطاعات، والمعاصي لم تغلب عليه ولم تفسد نفسه، بل استمر قلبه مضيئا بنور الإيمان والحق.

7. سؤال وإشكال: قد يسأل سائل: إذا كانت التوبة تجب ما قبلها، والإيمان يجب ما قبله، فإذا انخلع الشرك، وحلت محله عقيدة الوحدانية، وغفر الله ما تقدم من الشرك، كما ورد النص الذى تلوناه، فلماذا يفرق بين الشرك وغيره من المعاصي؟ والجواب: عن ذلك أن الشرك إذا سكن النفس واستقر فيها، كان الخروج منه صعبا وعسيرا، ولذا قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾

8. الضلال هو السير في غير الطريق الموصل، فالضال في بادية يسير في غير طريق النجاة، وكلما بعد عن الطريق المستقيم أوغل في الضلال، والمشرك الذى تدرنت نفسه بالشرك قد ضل عن طريق النجاة، وكلما استمر في سيره كان مستمرا في الضلال، فمن يشرك بالله غيره، فيدعى أن له شريكا في الخلق والتكوين، أو في الوجود مما يماثله ذاتا أو صفات، أو يدعى أنه يستحق العبادة معه، فقد سار في طريق الشر سيرا بعيدا، ومن ضل سيجد كلما سار أبوابا من الشر، فمن كان في بحبوحة الإيمان قريب الرجوع، وتكون له حسنات بجوار السيئات، فيكون باب الغفران مفتوحا، أما من أشرك بالله، فقد كان في معاص مستمرة، وليس له من الحسنات ما يرجح كفة الميزان؛ لأن الشرك يقتل الحسنات قتلا، فلا تقبل فيه طاعة.

9. الشرك هنا هو نقيض الوحدانية، وهناك شرك خفى، وهو أنه يرائي في عبادته، كما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك)، ولا نرى أن هذا النوع من الشرك داخل في موضوع الشرك الذى ينفى عنه الغفران؛ لأن هذا النوع يقتل ما في العبادة من خير، وقد يكون للمرائى خير آخر، كالبر بأسرته، والعطف على الجيران، والتعاون الاجتماعي الخالص.

10. وقد بين سبحانه صورا من ضلال المشركين، وهي:

أ. عبادة من لا يتصور عبادته عاقل مدرك، إدراكا خاليا من التأثر بالباطل.

ب. ومنها خضوعهم المطلق للشيطان.

ج. ومنها توهم التقرب بما لا يتصور عقلا أنه مقرب، كتقطيع آذان الإبل والبقر والغنم وتغيير خلق الله تعالى فيها.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1859.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تقدمت هذه الآية مع تفسيرها في الآية 48 من هذه السورة، ولا اختلاف بين النصين إلا في التتمة، حيث قال هناك: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ وقال هنا: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ والمعنى واحد.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/439.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ إلى آخر الآية ظاهر الآية أنها في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾ بناء على اتصال الآيات فالآية تدل على أن مشاقة الرسول شرك بالله العظيم، وأن الله لا يغفر أن يشرك به.

2. وربما استفيد ذلك من قوله تعالى:‏ ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا الله شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ﴾ [محمد: 34] فإن ظاهر الآية الثالثة أنها تعليل لما في الآية الثانية: من الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله فيكون الخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله كفرا لا يغفر أبدا، وهو الشرك.

3. والمقام يعطي أن إلحاق قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ بقوله: ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ إنما هو لتتميم البيان، وإفادة عظمة هذه المعصية المشؤومة أعني مشاقة الرسول، وقد تقدم بعض الكلام في الآية.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/84.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما كانت الآية الماضية في المنافقين وهم ينصرون المشركين ويتولونهم وفي المشركين عقَّبها بالتحذير من الشرك فقال تعالى: ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ قد مر تفسير أكثرها، والمرجئة يتمسكون بها ليجعلوا الآيات البينات مجملة، وذلك باطل؛ لأن المجمل يفسر بالمبين، ولا يجوز جعل المبين مجملاً بالمجمل، وإجمال من يشاء الله له الغفران بحكمته ورحمته يؤدي إلى إجمال المغفور من حيث أنه عمل من يشاء الله أن يغفر له لا كل عمل ولو لم يعمله من يشاء أن يغفر له، فلذلك كان مجملاً في العمل؛ لأنه لا نعلم من هو العامل الذي يغفر له فلا نعلم عمله تبعاً للجهل به، وقد ظن (صاحب حاشية الكشاف) أنها وردت في السورة مرتين لتأكيد الإرجاء، والتحقيق: أنها تكررت للتحذير من الشرك واستدعاء السياق لها في الموضعين كما بينت، وقد جاء في هذه السورة الوعيد الجازم موجهاً إلى المسلمين بدليل السياق، وذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾، وقوله تعالى عقيب (آيات المواريث): ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ وهي بيِّنة في عصاة المسلمين؛ لأنها لو كانت في الكفار لقال: أسلمت، أو آمنت كما قال فرعون مع أن السياق قبل الآيتين في المسلمين، وقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾، ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ والسياق في المسلمين، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ ولا إشكال أنهما في الذين أسلموا ولم يهاجروا، وقوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ وظاهر الخطاب في أولها: للمسلمين، فهذه سبع آيات في (سورة النساء)

2. ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ يفيد: تشبيه الضال عن الحق بالضال عن طريق السلامة في متاهة وقد ابتعد عن الطريق؛ ليفيد أن المشرك قد صار بينه وبين الحق مسافة بعيدة، والحق هو طريق السلامة.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/170.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إن قضية التوحيد والشرك ليست قضية فقرة من فقرات العقيدة التي تتحرك في نطاق محدود، بل هي قضية منهج للحياة، ينطلق من القاعدة التي تربط الحياة بالله بكل أفكارها وقضاياها ومواقفها، أو ينطلق من النقطة التي تربطها بغير الله بكل مجالاتها الخاصة والعامة.. وبذلك يكون الشرك انحرافا عن خط الله من حيث الأساس، لأن التفاتك لغير الله، فيما تعتبره شريكا لله، يعني استغراقك في عبادتك له، مما يجعل العبادة لله شيئا لا معنى له في عمق النفس الإنسانية، كما نلاحظه في الكثيرين ممن يعبدون الأصنام والأشخاص والكواكب والشمس والقمر وغيرها.. فإننا نجد أنهم يستغرقون فيها بحيث يبتعدون عن الله، حتى لو هتفوا باسمه، لأن الهتاف يتحوّل إلى لفظ بلا معنى؛ وفي ضوء ذلك لا يبقى لأعمال الإنسان أيّ أساس يربطها بالله، بل تصبح الحياة كلها في قبضة غير الله، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ التوحيد يعتبر من وجهة النظر العقلية، من خلال ما يوحي به القرآن، معبّرا عن الحقيقة الواضحة التي لا شك فيها ولا ارتياب، وذلك فيما يحسه الإنسان بشعوره وتفكيره؛ وبذلك يكون إنكاره إنكارا بعد تبيّن الحق ووضوحه، فلا يستحق رحمة الله ومغفرته، لأنه ابتعد عنه بالطريقة التي لا مجال لأن يلتقي فيها معه من قريب أو من بعيد، أما الأشياء الأخرى التي قد تتعلق ببعض تفاصيل العقيدة أو ببعض مظاهر العمل أو طبيعته، فيمكن أن تنالها المغفرة، لأن الإنسان يتعلق بالله بركن وثيق، لتبقى كل الأشياء قضايا قابلة للمسامحة فيما يشاء الله ذلك على أساس حكمته ورحمته، فهي لا تمثل الخطأ المميت الذي يفقد فيه الإنسان روح العلاقة بالله الذي يبتعد به مسافة بعيدة لا مجال فيها للهدى، لأن أساس العلاقة بالله لا يزال قويا في حركة التوحيد في الفكر والروح والشعور.

2. سؤال وإشكال: هنا ملاحظة حول التكرار في القرآن، فقد وردت هذه الآية في هذه السورة آية، فلماذا تكرر ذكرها؟ والجواب: أن هناك نقطتين:

أ. الأولى: أن القرآن كتاب توعية وتثقيف وتوجيه وموعظة وإصلاح، ولذلك كان من الطبيعي أن يكرر الفكرة الحيوية التي تتصل بأكثر من جانب من جوانب الاستقامة في الخط الفكري والعملي للإنسان، لا سيّما إذا كانت في مستوى مسألة الشرك التي تضاد مسألة التوحيد في العمق والامتداد، وقد جاء الإسلام لإسقاط وثنية الشرك في روح الإنسان ووجدانه وحركة حياته، لتأكيد التوحيد في الفكر والواقع، وذلك لما يمثّله الشرك من خطورة على مصلحة الإنسان العليا في العمق، وهذا هو الذي أراد الله تأكيده للمقارنة بين الشرك كجريمة عقيدية وعملية وبين الذنوب الأخرى التي قد تختلف في حجمها من حيث الكبائر والصغائر، وأن الله لا يغفر الشرك لمن مات مشركا، لأنه لا يرتكز على أيّ أساس وجداني أو علمي، في حين ينطلق التوحيد من الفطرة الإنسانية في العقل والروح، بينما ـ يغفر لمن يشاء ـ أيّ ذنب آخر، لأنه يتصل بانحراف الغريزة تحت تأثير العوامل والعناصر الخارجية المؤثرة في الإنسان بطريقة شعورية أو لا شعورية.

ب. الثانية: أن ذيل الآية الأولى: يختلف في مدلوله عن ذلك هذه الآية فقد جاء في الأولى: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 48]، مما يوحي بأنها تعالج المسألة من حيث إن الشرك يمثل افتراء عظيما على الله وعلى الحقيقة، مما يتصل بعلاقة هذه القضية بالله في نطاق المعرفة، أما هذه الآية، فقد جاء في ذيلها قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ مما يدل على اتصالها بالجانب الإنساني الذي يجعل المشرك إنسانا ضائعا في متاهات الضلال بالمستوى الذي يعرّض الإنسان للخطر الذي يمثله سلوكه في الخط الضائع، وربما كان الحديث عن الشرك ـ من حيث المبدأ ـ كمقدمة للحديث عن التفاصيل في الآية التالية، والله العالم.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/465.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تشير هذه الآية مرة أخرى إلى خطورة جريمة الشرك الذي يعتبر ذنبا لا يغتفر ولا يتصور وجود ذنب أعظم منه، ويأتي هذا البحث بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن المنافقين والمرتدين الذين ينساقون بعد إسلامهم إلى الكفر.

2. ولقد مرّ ما يشابه مضمون هذه الآية، في نفس سورة النساء في الآية وما إعادة تكرار مثل هذه المسائل التربوية إلا دليل على بلاغة القرآن، لأنّ المسائل الأساسية تستلزم التكرار في فواصل مختلفة بغية ترسيخها في الأذهان والنفوس.

3. والحقيقة أنّ الذنوب تشبه سائر الأمراض، فما دام المرض لم يهاجم موقعا مهما في جسم الإنسان ولم يشل أحد هذه المواقع، كانت القدرة الدفاعية للجسم تحمل معها الشفاء والتحسن، ولكن لو هاجم المرض مركزا حساسا في جسم الإنسان ـ مثل الدماغ ـ وأوجد نتيجة لذلك شللا في الجسم، فإنّ أبواب الأمل‏ بالشفاء والتحسن قد تغلق في مثل هذه الحالة التي تنذر بقدوم الموت المحتم، والشرك كهذا المرض الأخير يشل مركزا حساسا في روح الإنسان، وينشر الظلمة في نفسه، وإذا استمر الشرك فلا أمل يرتجى في نجاة الإنسان، بينما لو بقيت حقيقة التوحيد وعبادة الواحد الأحد التي هي ينبوع كل فضيلة وحركة..

4. لو بقيت هذه الحقيقة حية فلا يعدم الإنسان الآمل في غفران ذنوبه الأخرى، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، وقد قلنا: بأنّ هذه الآية قد تكررت مرّتين في هذه السورة، وما ذلك إلّا لتزيل آثار الشرك والوثنية ـ وإلى الأبد ـ من نفوس أولئك الناس الذين ظل الشرك يعشش في أعماق نفوسهم لآماد طويلة، ولتظهر آثار التوحيد المعنوية والمادية على وجوه هؤلاء.

5. ولكن تتمة الآيتين تختلف في إحداهما عن الأخرى اختلافا طفيفا، حيث تقول الآية الأخيرة: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ بينما الآية السابقة تقول: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾، وفي الحقيقة فإنّ الآية السابقة تشير إلى الفساد العظيم الذي ينطوي عليه الشرك فيما يخص الجانب الإلهي، ومعرفة الله، أمّا الآية الأخيرة فقد بيّنت الأضرار التي يلحقها الشرك بنفس الإنسان والتي لا يمكن تلافيها، فهناك تبحث الآية في الجانب العلمي من القضية، وهنا تتناول الآية الأخيرة الجانب العملي منها ونتائجها الخارجية، ويتّضح من هذا أنّ الآيتين تعتبر إحداهما بالنسبة للأخرى بمثابة اللازم والملزوم بحسب الاصطلاح (وقد اشتمل الجزء الثّالث من نفس هذا التّفسير على توضيحات أكثر حول هذه الآية).

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/456.

108. الشرك والشيطان وكيده ووعوده

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈108⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا﴾ [النساء: 117 ـ 122]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

أبيّ:

روي عن أبيّ بن كعب (ت 22 هـ) أنّه قال: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾، قال مع كل صنم جنية(1).

__________

(1) أحمد ٣٥/١٥٤.

عائشة:

روي عن عائشة (ت 57 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه أنّها قالت: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾،: أوثانا(1).

2. روي أنّه أنّها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يلعن القاشرة(2).. والمقشورة، والواشمة، والمستوشمة، والواصلة، والمتصلة(3).

3. روي أنّه أنّها قالت: إن جارية من الأنصار تزوجت، وأنها مرضت فتمعط شعرها، فأرادوا أن يصلوها، فسألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: لعن الله الواصلة، والمستوصلة(4).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٦٧.

(2) القاشرة: التي تعالج وجهها أو وجه غيرها بالغَمرة ـ طلاء يتخذ من الزعفران أو الكركم ـ ليصفو لونها، النهاية (قشر).

(3) أحمد ٤٣/٢٢٦.

(4) البخاري ٧/١٦٥.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾، يعني: إخصاء البهائم(1).

2. روي أنّه قال: إخصاء البهائم مثلة، ثم قرأ: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾، دين الله(3).

4. عن ابن عباس أنّه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن صبر الروح(4).. وإخصاء البهائم(5).

__________

(1) آدم بن أبي إياس ـ كما في تفسير مجاهد ص ٢٩٢.

(2) ابن أبي شيبة ١٢/٢٢٧.

(3) ابن جرير ٧/٤٩٧.

(4) صبر الروح: هو أن يمسك شيئًا من ذات الروح حيًّا ثم يرميه بشيء حتى يموت، النهاية (صبر).

(5) البيهقي في الكبرى ١٠/٤٠.

جابر:

روي عن جابر بن عبد الله (ت 73 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: زجر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن تصل المرأة برأسها شيئا(1).

2. روي أنّه روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: كان إبليس أول من ناح، وأول من تغنى، وأول من حدا، قال لما أكل آدم من الشجرة تغنى، فلما اهبط حدا به، فلما استقر على الأرض ناح، فأذكره ما في الجنة، فقال آدم: رب هذا الذي جعلت بيني وبينه العداوة لم أقو عليه وأنا في الجنة، وإن لم تعني عليه لم أقو عليه، فقال الله: السيئة بالسيئة، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة، قال رب زدني، قال لا يولد لك ولد إلا جعلت معه ملكين يحفظانه، قال رب زدني، قال التوبة معروضة في الجسد ما دام فيه الروح، قال رب زدني، قال أغفر الذنوب ولا أبالي، قال حسبي، قال فقال إبليس: رب هذا الذي كرمته علي وفضلته، وإن لم تفضل علي لم أقو عليه، قال لا يولد له ولد إلا ولد لك ولدان، قال رب زدني، قال تجري منه مجرى الدم في العروق، قال رب زدني، قال تتخذ أنت وذريتك في صدورهم مساكن، قال رب زدني، قال تعدهم وتمنيهم ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾(2).

__________

(1) مسلم ٣/١٦٧٩.

(2) تفسير العيّاشي 1/276.

أبو مالك:

روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾، اللات والعزى ومناة، كلها مؤنث(1).

2. روي أنّه قال: ﴿نَصِيبًا﴾، حظا(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٨٦.

(2) ابن أبي حاتم ٤/١٠٦٨.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾، قال المشركون: إن الملائكة بنات الله، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، قال اتخذوا أربابا، وصوروهن صور الجواري، فحلوا، وقلدوا، وقالوا: هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده، يعنون: الملائكة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾، معلوما(2).

3. روي أنّه قال: ﴿فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾، ليقطعن آذان الأنعام(3).

4. روي أنّه قال: ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾، دين الله، وهو قوله: ﴿فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله﴾ [الروم: ٣٠]، يقول: لدين الله(4).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٦٧.

(2) ابن جرير ٧/٤٩١.

(3) عزاه السيوطي إلى ابن المنذر.

(4) ابن جرير ٧/٥٠٠.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾، الفطرة دين الله(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾، دين الله، ثم قرأ: ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ [الروم: ٣٠](2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٩٩.

(2) عبد الرزاق ١/١٧٣.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونها، يسمونها: أنثى بني فلان؛ فأنزل الله: ‌‌﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾: أي: إن تلك الأوثان لم تدعهم إلى عبادتها، إنما دعاهم إلى عبادتها الشيطان(2).

3. روي أنّه قال: ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾، الوشم(3).

__________

(1) سعيد بن منصور (٦٨٨.

(2) تفسير ابن أبي زمنين ١/٤٠٧.

(3) ابن جرير ٧/٥٠١.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾ دين الله(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/276.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿مَرِيدًا﴾، تمرد على معاصي الله(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾، البتك في البحيرة والسائبة، كانوا يبتكون آذانها لطواغيتهم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾، ما بال أقوام جهلة يغيرون صبغة الله، ولون الله(3).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٩١.

(2) عبد الرزاق ١/١٧٣.

(3) ابن أبي حاتم ٤/١٠٧٠.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾ معناه موات من حجر، أو مدر، أو ما أشبه ذلك(1).

2. روي أنّه قال: ﴿شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾ معناه متمرد(1).

3. روي أنّه قال: ﴿فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ معناه يقطّعنّ(1).

4. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ معناه معدل(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 123.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾، يسمونهم إناثا؛ لات، ومناة، وعزى(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ يشقونها، فيجعلونها بحيرة(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٨٦.

(2) ابن جرير ٧/٤٩٣.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. عن محمد بن إسماعيل الرازي، عن رجل سماه، قال: دخل رجل دخل رجل على الإمام الصادق، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقام على قدميه، فقال: مه، هذا اسم لا يصلح إلا للإمام علي، الله سماه به، ولم يسم به أحد غيره فرضي به إلا كان منكوحا، وإن لم يكن به ابتلي به، وهو قول الله في كتابه: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾ قلت: فما ذا يدعى به قائمكم؟ قال: يقال له: السلام عليك يا بقية الله، السلام عليك يا ابن رسول الله(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾ أمر الله بما أمر به(2).

__________

(1) تفسير القمّي 1/152.

(2) تفسير العيّاشي 1/276.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾، يعني: أوثانا، يعني: أمواتا؛ اللات، والعزى، وهي الأوثان، لا تحرك، ولا تضر، ولا تنفع، فهي ميتة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ﴾ يعني: وما يعبدون من دونه ﴿إِلَّا شَيْطَانًا﴾ يعني: إبليس، زين لهم إبليس طاعته في عبادة الأوثان(1).

3. روي أنّه قال: ﴿و﴾ قال إبليس: ﴿لأضلنهم﴾ عن الهدى، ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ بالباطل، ولأخبرنهم ألا بعث ولا جنة ولا نار(2).

4. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ﴾ يعني: إبليس ﴿وَلِيًّا﴾ يعني: ربا ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ عز وجل ﴿فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ يقول: فقد ضل ضلالا بينا(2).

5. روي أنّه قال: ﴿يَعِدُهُمُ﴾ إبليس الغرور ألا بعث، ﴿وَيُمَنِّيهِمْ﴾ إبليس الباطل، ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ يعني: إلا باطلا، الذي ليس بشيء، وقال: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا﴾(2).

6. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾، يعني: [مفرا] يلجؤون إليه، يعني: [الفرار](2).

7. روي أنّه قال: ثم أخبر بمستقر من لا يتولى الشيطان، فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا﴾ يعني: صدقا أنه منجز لهم ما وعدهم، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا﴾ فليس أحد أصدق قولا منه عز وجل في أمر الجنة، والنار، والبعث، وغيره(2).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٠٧.

(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٠٨.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾، قال آلهتهم: اللات، والعزى، ويساف، ونائلة، هم إناث يدعونهم من دون الله، وقرأ: ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٤٨٦.

ابن سلام:

روي عن يحيى بن سلام (ت 200 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾ [النساء: ١١٧]: إلا مواتا؛ شيئا ليس فيه روح(1).

2. روي أنّه قال: كقوله: ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾، يعني: أصنامهم(2).

__________

(1) تفسير يحيى بن سلام (ت 200 هـ) ١/٥٧.

(2) تفسير ابن أبي زمنين ١/٤٠٦.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سألت: عن قول الله سبحانه في ما يحكي عن إبليس اللعين، في قوله: ﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ يريد: جماعة وحزبا يضلهم، وعن الحق يصدهم، ويختزلهم من طاعة الله سبحانه، ويجترهم في أمره؛ فلما أن كان من شأن الملعون الإفساد والإغواء، والمكر لهم والاستهزاء، والوسوسة في قلوبهم، والتلبيس لدينهم ـ جعل ذلك على نفسه مثل الفريضة سواء.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/271.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله عز وجل: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾:

أ. عن الحسن قال الإناث: الأموات التي لا روح فيها وكذلك روي عن ابن عباس،

ب. وقيل قوله تعالى: ﴿إِلَّا إِنَاثًا﴾: هم الملائكة؛ لأنهم يقولون: الملائكة بنات الله في السماء؛ فعبدوها؛ فإنهم إنما عبدوا الإناث عندهم وفي زعمهم.

ج. وقيل: إناثًا من الوثن؛ وكذلك روي في حرف عائشة ا أنها كانت تقرأ: (إن يدعون من دونه إلا أوثانا)، وهو الصنم؛ سمي إناثًا لما صوروها بصور الإناث، وحلَّوْها، وقلدوها قلائد، وزينوها بزيهم، ثم يعبدونها لم يعبدوها على ما كان في الأصل؛ فسمي بذلك.

د. وقيل: سمي إناثًا؛ لأنهم كانوا يسمون ما يعبدون من الأصنام والأوثان: اللات، والعزى، ومناة؛ فأسماؤهن أسماء إناث.

﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾: أخبر الله عز وجل أنهم وإن كانوا يفرون من الشيطان ويأنفونه ـ فإنهم بعبادتهم الأصنام؛ والأوثان يعبدون الشيطان؛ لأن الشيطان هو الذي يدعوهم إلى عبادتهم الأصنام؛ فكأنهم عبدوه؛ ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال: ﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾: جعل عبادة الصنم عبادة للشيطان؛ حيث قال له: ﴿لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾؛ فدل أن عبادتهم الأوثان عبادة للشيطان، وبالله العصمة.

2. ﴿مَرِيدًا﴾، قال ابن عَبَّاسٍ: المريد: هو العاتي، ﴿لَعَنَهُ اللهُ﴾ اللعنة: هي الإبعاد من رحمة الله، فسمي: ملعونًا؛ لأنه مبعد من رحمة الله، مطرود منها، ﴿وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾، إنه ـ لعنه الله ـ وإن قطع القول فيه: لأتخذن من كذا، قطعا ـ فهو ظن في الحقيقة؛ ألا ترى أنه قال تعالى في آية أخرى: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾؛ دل أن ما قاله، قاله ظنًّا، لكنه خرج مقطوعًا محققًا، ولا قوة إلا بالله.

3. ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾، أي: مبينا معلومًا، والنصيب المفروض هو ما ذكر: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ، إلى آخر ما ذكر ﴿مَفْرُوضًا﴾، أي: مبينًا: من يطيعه ومن لا يطيعه.

4. ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ قيل: هذا إخبار عن الله تعالى عبادَهُ عن صنيع اللعين؛ ليكونوا على حذر منه، ثم قوله: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ ـ ليس على حقيقة الإضلال؛ لأنه لا يقدر أن يضل أحدًا، لكنه يدعو إلى الضلال ويزين عليهم طريقه، ويلبس عليهم طريق الهدى؛ فذلك معنى إضافة الإضلال إليه؛ وإلا لم يملك إضلال أحد في الحقيقة؛ كقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ﴾ الآية، ثم إذا ضلوا بدعائه إلى ذلك وتزيينه عليهم سبيله ـ يمنيهم عند ذلك؛ حتى يتمنوا أشياء؛ كقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ الآية، وكقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾، ونحو ذلك من الأماني، وذلك مما يمنيهم الشيطان، لعنة الله عليه، وعن ابن عَبَّاسٍ: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾، يعني: عن الدِّين، ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ أن يصيبوا خيرًا لا محالة؛ ليأمنوا، وفي حرف ابن مسعود: (ولأعدنهم ولأمنينهم ولأحرمنَّ عليهم الأنعام ولآمرنهم فليبدلن خلقك ولآمرنهم فليبتكن)

5. ﴿فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ فجعلوها نحرًا للأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها.

6. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾ يحتمل هذا وجهين، سوى ما قال أهل التأويل:

أ. أحدهما: أن الله تعالى خلق هذا الخلق؛ ليأمرهم بالتوحيد، وليجعلوا عبادتهم له، لا يعبدون دون الله غيره؛ كقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ،﴾ الآية؛ فهو دعاهم أن يجعلوا عبادتهم لغير الله، وهو ما قيل في قوله عز وجل: ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾، قيل: لدين الله؛ فعلى ذلك يحتمل قوله: ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾، أي: عن الذي كان خَفقُهُ إياهم لذلك.

ب. الثاني: أنه عز وجل خلق الأنعام والبهائم لمنافعهم، وسخرها لهم، فهم حرَّموها على أنفسهم، وجعلوها للأوثان والأصنام: كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام؛ منعوا منافعها التي خلقها لهم عن أنفسهم، وذلك تغيير ما خلق الله لهم، والله تعالى أعلم.

7. وأما أهل التأويل فإنهم قالوا غير الذي ذكرنا:

أ. قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾: الإخصاء، وهو قول ابن عَبَّاسٍ.

ب. وقال آخرون: هو دين الله، وروي عن ابن عَبَّاسٍ أنه قال ـ أيضًا ـ: دين الله.

ج. وقيل: هو ما جاء من النهي عن الواشرة، والنامصة، والمتفلجة، والواصلة، والواشمة.

8. ولا يحتمل أن يكون خطر بباله يومئذ أنه أراد بتغيير خلق الله ما قالوا من الإخصاء، أو المثلة، والواشرة، والنامصة؛ لأنه إنما قال ذلك يوم طلب من ربه النظِرة إلى يوم البعث، ولا يحتمل أن يكون له علم ألا يحل هذا أو النهي عن مثله؛ إذ قد يجوز أن ترد الشريعة في مثله؛ لذلك بعد هذا.

9. ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ﴾، أي: يطيعه ويجيبه إلى ما دعاه، ويعبده دون الله، ﴿فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينً﴾، في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا فذهاب المنافع عنهم التي جعلوها للأصنام والأوثان، وفي الآخرة العقوبة.

10. ﴿يَعِدُهُمُ﴾ إما فقرًا وإما سعة ﴿وَيُمَنِّيهِمْ﴾ هو ما ذكرنا من الأماني وقضاء الشهوات في الدنيا ﴿وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ والغرور: هو أن يرى شيئًا يظهر خلافه.

11. ﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ الآية ظاهرة، قيل: مفرَّا، وقيل: ملجأ.

12. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ قد ذكرنا هذا فيما تقدم: أن الإيمان هو التصديق، والأعمال الصالحات غير التصديق، ﴿وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا﴾ تأويل هذا أن يقال: إنكم ممن تقبلون الأخبار والقول من الناس، ثم لا أحد أصدق قولاً من الله تعالى ولا أنجز وعدا منه؛ كيف لا تقبلون قوله وخبره أنه بَعْثٌ، وجنة، ونار، وتكذبون قول إبليس أن لا جنة، ولا نار، ولا بعث!؟

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٦٤.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله: ﴿فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾، أي فليقطعن آذان الأنعام، وذلك لعمري موجود حتى الآن في هؤلاء الأعراب الطغام، والبتك: هو القطع في اللغة، قال الشاعر: (طارت وفي كفه من ريشها بَتَكُ) أي قطع.

2. معنى قوله عز وجل في التوقيف لعباده على أنه أصدق خلقه: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا﴾، أي ومن أصدق منه قولاً، أو من يكون أيها الجاهلون أوفى منه وعداً، ولكنكم لم تحيطوا بمعرفة فضائله تبارك وتعالى، لأنه عز وجل أعظم الأشياء فضلاً.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/251.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾ يعني اللات والعزى وقيل إنهن الملائكة لأن الجاهلية كانت تقول الملائكة بنات الله.

2. ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ يعني عن الإيمان ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ يعني بطول الأمل في الدنيا ليؤثروها على الآخرة ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ أي يقطعونها نساكاً لأوثانهم كالبحيرة والسائبة ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾ أي دين الله.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/195.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾ أربعة تأويلات:

أ. أحدها: أن الإناث اللات والعزى ومَناة، وهو قول السدي وابن زيد وأبي مالك.

ب. الثاني: أنها الأوثان، وكان في مصحف عائشة: ﴿إِن تَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَاّ إِنَاثاً﴾

ج. الثالث: الملائكة، لأنهم كانواْ يزعمون أنهم بنات الله، وهذا قول الضحاك.

د. الرابع: الموات الذي لا روح فيه، لأن إناث كل شيء أرذله، وهو قول ابن عباس، وقتادة.

2. ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ يعني الإيمان ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ يعني بطول الأمل في الدنيا ليؤثروها على الآخرة، ﴿وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّءَاذَانَ الأَنْعَامِ﴾ أي لَيُقَطِّعُنَّهَا نُسكاً لأوثانهم كالبحيرة والسائبة.

3. في قوله تعالى: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾ ثلاث تأويلات.

أ. أحدها: يعني دين الله، وهذا قول الحسن، وقتادة، ومجاهد، وإبراهيم.

ب. الثاني: أنه أراد به خصاء البهائم، وهذا قول ابن عباس، وأنس، وعكرمة.

ج. الثالث: أنه الوشم، وهو قول ابن مسعود، والحسن، قال ابن مسعود: (لَعَنَ اللهُ الوَاشِمَاتِ والمُسْتَوشِمَاتِ وَالنَّامِصَاتِ والمتنمِّصَاتِ والمُتَفَلِّجَاتِ للحسُنِ المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللهِ)

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٣٠).

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلفوا في تأويل هذه الآية على خمسة أقوال:

أ. فقال أبو ملك، والسدي وابن زيد، والزجاج: ان المراد بذلك آلهتهم، واللات، والعزى، ومنات، وساف، ونائله سماهن إناثاً بتسمية المشركين إياها بأسماء الإناث.

ب. الثاني: قال ابن عباس، وقتادة، والحسن: معناه إن يدعون من دونه الا اناثاً يقول ميتاً ليس فيه روح، قال الحسن: الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح، مثل خشبة يابسة أو حجر يابس، وقال الزجاج: لان الموات يخبر عنها بلفظ التأنيث كما يعبر عن المؤنث تقول: الأحجار تعجبني ولا تقول يعجبوني.

ج. الثالث: قال الحسن في رواية أخرى: إن أهل الأوثان كانوا يسمعون أوثانهم أناثاً، وكان لكل حي صنم يسمونها أنثى.

د. الرابع: قال مجاهد: الإناث هي الأوثان، وروي عن عروة عن أبيه أن في مصحف عائشة الا أوثاناً وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأها إلا وثناً مع وثن كأنه جمع وثناً، وثناً، ثم قلب الواو همزة مضمومة مثل وجوه وأوجه وقتت واقتت، وقرأ بعضهم أنثاً جمع أناث مثل ثمار وثمر والقراءة والمشهورة أناثاً، وعليه القراء من أهل الأمصار.

هـ. الخامس ـ قال الحسين بن علي المغربي: إلا اناثاً معناه ضعافاً عاجزين لا قدرة لهم يقولون: سيف أنيث وميناثة بالهاء وميناث أي غير قاطع، قال صخر الغي:

çفتخبره بأن العقل عندي...جراز لا أفل ولا أنيث‏é

وأنث في أمره: إذا لان، وضعف والانيث المخنث، وقال الكميت:

çوشذبت عنهم شوك كل قتادة...بفارسَ يخشاها الانيث المغمز é

قال الأزهري: والإناث الموات.

2. ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾ المعنى إن هؤلاء الذين يعبدون غير الله ليس يعبدون الا الجمادات، والا الشيطان المريد وهو المتمرد على الله في خلافه فيما أمر به ونهى عنه وهو إبليس، وبه قال قتادة واكثر المفسرين (ويدعون) معناه يعبدون، لأنهم، إذا دعوا الله مخلصين، فقد عبدوه، ومثله قوله: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ اي اعبدوني بدلالة قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾

3. ﴿مَرِيدًا﴾ قال الزجاج: المريد هو الخارج عن الطاعة يقال حائط ممرّد إي مملس وشجرة مرداء إذا تناثر ورقها ومنه سمي أمرد ومن لا لحية له أي أملس موضع اللحية، ويقال مرد الرجل يمرد مروداً ومرادة: إذا عتا وخرج عن الطاعة.

4. ﴿لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ معنى لعنه الله أبعده الله من ثوابه، وأخزاه وأقصاه والهاء في (لعنه) الله كناية عن الشيطان والتقدير، وان يدعون إلا شيطاناً مريداً قد لعنه الله وأبعده من كل خير.

5. ﴿وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ﴾ يعني بذلك ان الشيطان المريد قال لربه عز وجل إذ لعنه: ﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ يعني قسما معلوماً وبه قال الضحاك، واتخاذ الشيطان النصيب من عباد الله يكون باغوائه إياهم عن قصد السبيل، ودعائه إياهم إلى طاعته، وتزيينه لهم الضلال والكفر، فمن أجاب دعاءه واتبعه، فهو من نصيبه المعلوم، وحظه المقسوم، وإنما اخبر بذلك ليعلم الذين شاقوا الرسول من بعد ما تبين له الهدى انهم من نصيب الشيطان الذي لعنه الله.

6. المفروض: الموقت، والمعنى ها هنا ما افترضه عليهم من طاعتي والفرض: القطع والفريضة الثلمة تكون في النهر والفريضة: كل ما أمر الله به والزمه وقوله: ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ أي قطعة من المال وفرضت للرجل: إذا جعلت له قطعة من مال الفيء والفرض التمر قال الشاعر:

çإذا أكلت سمكا وفرضاً...ذهبت طولا وذهبت عرضاًé

وإنما سمي التمر فرضاً لأنه يؤخذ في فرائض الصدقة يقال: سقاها بالفراض والفرض والفرض الحز يكون في المسواك يشد فيه الخيط، والفرض في القوس: الحز يشد فيه الوتر.

7. ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ إخبار عن الشيطان المريد الذي وصف صفته في الآية الاولى انه قال لربه: ﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ ومعناه ولاصدن النصيب المفروض الذي اتخذه من عبادك عن محجة الهدى إلى الضلال ومن الإسلام إلى الكفر.

8. ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ ومعناه أوهمهم انهم ينالون في الآخرة حظاً لأزيغنهم بما أجعل في أنفسهم من الاماني عن طاعتك وتوحيدك إلى طاعتي والشرك بي‏.

9. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ يعني لآمرن النصيب المفروض من‏ عبادك بعبادة غير من الأنداد والأوثان ينسكوا له ويحرموا يحللوا ويشرعوا غير الذي شرعه الله لهم فيتبعوني ويخالفوك، والتبتيك: القطع تقول بتكت الشيء ابتكه تبتيكا: إذا قطعته، وبتكه وبتك مثل قطعة وقطع وسيف باتك، قاطع والمراد في هذا الموضع قطع اذن البحيرة، ليعلم انها بحيرة، وأراد الشيطان بذلك دعاءهم إلى البحيرة فيستجيبون له، ويعلمون بها طاعة له، قال قتادة: البتك قطع اذان البحيرة والسائبة لطواغيتهم وقال السدي: كانوا يشقونها، وبه قال عكرمة.

10. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾ اختلفوا في معناه:

أ. فقال ابن عباس، والربيع بن انس عن انس: انه الإخصاء وكرهوا الإخصاء في البهائم وبه قال سفيان، وشهر بن حوشب، وعكرمة وأبو صالح.

ب. وفي رواية أخرى عن ابن عباس‏ (فليغيرن دين الله) وبه قال إبراهيم ومجاهد وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهم السلام‏، قال مجاهد: كذب العبد يعني عكرمة في قوله: إنه الإخصاء وإنما هو تغيير دين الله الذي فطر الناس عليه في قوله: ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ وهو قول قتادة، والحسن والسدي، والضحاك، وابن زيد.

ج. وقال قوم: هو الوشم، روي ذلك عن الحسن والضحاك وابراهيم ايضاً وعبد الله، وقال عبد الله: لعن الله الواشمات والموتشمات والمتفلجات المغيرات خلق الله.

د. وقال الزجاج: خلق الله تعالى الانعام ليأكلوها، فحرموها على أنفسهم وخلق الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس ينتفعون بها، فعبدها المشركون.

11. أقوى الأقوال من قال فليغيرن خلق الله بمعنى دين الله بدلالة قوله: ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ ويدخل في ذلك جميع ما قاله المفسرون، لأنه إذا كان ذلك خلاف الدين فالآية تتناوله.

12. ثم اخبر تعالى عن حال نصيب الشيطان المفروض الذين شاقوا الله ورسوله من بعد ما تبين له الهدى‏ فقال ومن يتبع الشيطان فيطيعه في معصية الله وخلاف أمره‏ ﴿فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ معناه هلك هلاكاً ظاهراً، ويخس نفسه حظها خسراناً مبينا عن عطبه وهلاكه، لأن الشيطان لا يملك له نصيراً من الله إذا أراد عقابه، ثم اخبر تعالى الشيطان أنه يعد من يتبعه ويمنيهم فيعدهم النصر ممن أرادهم، ويمنيهم الظفر على من أرادهم بمكروه.

13. ثم قال تعالى: ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ يعني باطلا وسماه غروراً، لأنهم كانوا يظنون أن ذلك حق، فلما بان لهم أنه باطل، كان غروراً ﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ إشارة إلى هؤلاء الذين اتخذوا الشيطان ولياً من دون الله مأواهم يعني مصيرهم الذين يصيرهم اليه جهنم.

14. ﴿وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ يعني لا يجدون عنها معدلا إذا حصولها فيها، بقول حاص فلان عن هذا الامر يحيص حيصاً وحوصاً: إذا عدل عنه ومنه حديث ابن عمر: (بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سرية، كنت فيهم فلقينا المشركين فحصنا حيصة) وقال بعضهم: فجاضوا جيضة وهما بمعنى واحد، غير انه لا يقرأ إلا بالصاد والحاج وحصت احوص حوصاً وحياصاً إذا خطت يقال حص عين صقرك، اي خط عينه والحوص في العين مؤخرها، والخوص غورها.

15. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ لما ذكر الله تعالى حكم من يشاقق الرسول، ويتبع غير سبيل المؤمنين، وذكر ان من يشرك به لا يغفر له وبين حكم من يتبع الشيطان ويكون من نصيبه، ذكر في هذه الآية حكم من يؤمن به ويوحده، ويقر بنبيه ويصدقه ويضيف إلى ذلك عمل الصالحات، وانه سيد خلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً على أعمالهم، وجزاء إيمانهم، ويخلدهم فيها ﴿خَالِدِينَ﴾ نصب على الحال والمعنى أن هذه الحال ستدوم لهم، وتتأبد، وان ذلك وعد حق من الله لهم.

16. ﴿وَمِنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا﴾ صورته صورة الاستفهام والمراد به التقرير والإنكار والمعنى لا أحد اصدق من الله قليلًا أي قولا ووعداً، لأنه لا يجوز عليه خلف الميعاد ولا الإخلال بما يجب عليه من الثواب، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/332.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. المَرِيد والمارد والمتمرد بمعنًى، وهو العاتي الخارج عن الطاعة، وأصله الْمُمَلَّس، ومنه ﴿صَرْحٌ مُمَرَّدٌ﴾ يعني مملسا، وشجرة مرداء إذا تناثر ورقها لإملاسه منها، وغلام أمرد؛ لأنه أملس موضع اللحية، وقد مرد الرجل تمرد مرودًا إذا عتا وخرج عن الطاعة لإملاسه؛ لعتوه عنها.

ب. أصل اللعن: البعد، ومنه قيل للطريد: لعين، ويقال: ذئب لعين، أي طريد بعيد من الخير.

ج. الاتخاذ: افتعال من الأخذ، والاتخاذ: أخذ الشيء على جهة الإعداد بحال من الأحوال، ومنه: اتخذ السلاح.

د. الفرض: التقدير، وقيل: الواجب، وأصله: الحَز في سِيَةِ القوس، حيث يشد الوتر، ومنه: الواجب لتأثيره في النفس، ومنه: الفارض المسنّة؛ لأن الزمان أثر فيها، والمفروض: المعلوم؛ لثبات العلم به كثبات الحز.

هـ. التبتيك: التقطيع، بَتَّكَهُ يُبَتّكُهُ تبتيكًا، إذا قطعه، وأصله بتكت الشيء قطعته أَبْتِكُهُ بتكًا، والبتك: أن يقبض على شعره، فيجذبه فيبتك، وكل طائفة من ذلك الشعر بِتْكَة، والجمع بِتَكٌ، قال الشاعر: طَارَتْ وفي كَفِّهِ مِنْ رِيشِهَا بِتَكُ.

و. الأمنية: تقدير ما يشتهى في النفس للاستمتاع به، والجمع أماني.

ز. الغرور: إيهام النفع فيما فيه الضرر، يقال: غره يغره.

ح. الوعد: الخبر بنفع واقع في المستقبل، والوعيد: الخبر بضرر في المستقبل، ثم يستعمل الوعد في الضرر.

ط. المأوى: المستقر الذي يصير إليه صاحبه، يقال: آوى يأوي إلى مأواه، إذا صار إلى منزله، وآوى غَيْرَهُ يُؤْوِيه إيواء: إذا اتخذ له مأوى.

ي. المحيص: العدل، حاص عن الأمر يحيص حيصًا وحُيُوصًا نحو: عدل عنه يعدل عدلاً وعدولاً، ويُقال: حِصْنَا عنه حَيْصَة، والمحاص: المفر والملجأ، ونظيره المحيص: المعدل والمصرف، وقيل: المحيص: المرواغة والهرب.

ك. الصدق: خلاف الكذب، وهو خبر مخبره على ما هو به.

ل. القِيلُ: مصدر قال قولاً وقيلاً، وقال ابن السكيت: القيل والقال اسمان، لا مصدران، وقيل: أصل القيل القول لكن لما سكنت الواو والقاف قبلها مكسورة قلبت الواو ياء.

قيل: نزلت في أهل مكة، وكانوا يعبدون على ما حكى الله عنهم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى.

2. لما ذكر الله تعالى المشركين في الآية المتقدمة، وذكر ضلالهم فسر ذلك في هذه الآية، فقال تعالى: ﴿إِنْ يَدْعُونَ﴾:

أ. قيل: أي ما يدعون هَؤُلَاءِ المشركون وما يعبدون.

ب. وقيل: يدعونه آلهة.

3. ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ من دون الله ﴿إِلَّا إِنَاثًا﴾:

أ. قيل أوثانًا، وكانوا يسمونها باسم الإناث: اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، عن أبي مالك والسدي وابن زيد ومجاهد، قال الحسن: كان لكل حي من العرب وثن يسمونه باسم الأنثى، وقال بعضهم: العزى تأنيث العزيز، واللات تأنيث الله.

ب. وقيل ﴿إِلَّا إِنَاثًا﴾: أي إلا أمواتًا، عن ابن عباس والحسن وقتادة، ووجه ذلك: إلا ما هو كالموات في اتضاع المنزلة؛ لأن الإناث من كل شيء أرذله.

ج. وقيل: إلا ملائكة لأنهم كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله.

د. عن الضحاك ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا﴾

4. سؤال وإشكال: كيف نفى في الثاني ما أثبته في الأول؟ والجواب:

أ. قيل: المعنى: ما يعبدون من دونه إلا إناثًا وهو الأوثان بتوجيههم العبادة إليها، وما يعبدون بعبادتهم إلا شيطانًا بطاعتهم له في عبادتها فتلك العبادة ليست إلا للإناث، وهذه العبادة ليست إلا للشيطان، فالأول دعاء على طريق العبادة، والثاني على طريق الانقياد.

ب. وقيل: عبادتهم للأوثان لا يعتد بها في جنب عبادتهم للشيطان؛ لأنه يستحق ضد العبادة من الاحتقار والإهانة، ونظيره ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ﴾ يعني رميك لا يعتد به مع رميه.

5. أراد بالإناث:

أ. تقبيح فعلهم على أقبح الوجوه، وإلا فالذكر والأنثى سواء في أنه لا تجوز عبادته.

ب. وقيل: ما تدعون بعبادتهم الأوثان إلا الشيطان؛ لأنه أضلهم ودعاهم إليه.

6. ﴿مَرِيدًا﴾ يعني ماردًا، (فَعِيل) بمعنى ﴿فَاعِلٌ﴾، كقدير وقادر، وهو العاتي، الخارج عن طاعة الله تعالى، الشديد في كفره وعصيانه، وهو إبليس لعنه الله:

أ. قيل: فيه حذف، أي وقد لعنه الله، وهو قوله: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾ عن أبي مسلم.

ب. وقيل: لعنه الله في الحال وأخزاه وأبعده من الخير والرحمة، عن الأصم.

7. ﴿وَقَالَ﴾ يعني الشيطان لما لعنه الله ﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾:

أ. قيل: معلومًا، عن الضحاك.

ب. وقيل: لي منهم حظ موجب وهم الَّذِينَ يتبعون خطواته، ويقبلون وساوسه، وذكر في بعض التفاسير عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (من كل ألف واحد لله، وسائرهم للنار ولإبليس)، وإنما حكى ذلك ليعلم المشركون أنهم من نصيب إبليس وأتباعه..

8. سؤال وإشكال: كيف علم إبليس أن له أتباعًا يطيعونه؟ والجواب:

أ. قيل: من قوله: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ﴾

ب. وقيل: لما نال من آدم ما نال طمع في ولده، فقال ذلك، وقد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ عن الأصم.

ج. وقيل: عاين الجنة والنار فعلم أن لكل واحد أهلاً.

9. ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ يعني النصيب المفروض أضلهم عن الحق والإسلام، وإضلاله بالدعاء، فأما نفس الضلال فهو فعلهم، ولكن لما كان ذلك منهم عند دعوته جاز أن يضيفه إليه، كما يقال: هداه إليه.

10. ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ أي لأرغبنهم:

أ. قيل: بما أجعل في أنفسهم من الأماني عن طاعتك وعبادتك إلى عبادة غيرك، وتحريم ما أحللته، وتحليل ما حرمته

ب. وقيل: أمنينهم ركوب الأهواء الداعية إلى العصيان.

ج. وقيل: أمنينهم طول البقاء، ونعيم الدنيا، وليؤثروا ذلك على الآخرة.

د. وقيل: أمنيهم الثواب على مخالفتك.

هـ. وقيل: أمنينهم لألقين في قلوبهم الهموم.

و. وقيل: لأمنينهم أنه لا جنة ولا نار، ويجب حمله على الجميع؛ لأنه يوسوس بجميع ذلك.

11. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ أي ليقطعن آذانها:

أ. وقيل: هي البحيرة والسائبة والوصيلة، عن السدي وقتادة وعكرمة والأصم.

ب. وقيل: يقطعون آذانها نسكا لما يعبدون من الأوثان.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾:

أ. قيل: دين الله، عن ابن عباس وإبراهيم ومجاهد والحسن وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد.

ب. وقيل: هو في التحليل والتحريم، عن أبي مسلم.

ج. وقيل: بالخصي، عن ابن عباس بخلاف وأنس وشهر بن حوشب وعكرمة وأَبي صالح، وقيل بالوشم عن عبد الله والحسن.

د. وقيل: إنه تعالى خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها، فحرموها على أنفسهم، وخلق الشمس والقمر والحجارة لنفع العباد، فعبدوها فغيروا خلق الله، عن الأصم.

هـ. وقيل: إنه تعالى خلقهم لعبادته وهو الفطرة، وهو يأمرهم بعبادة غيره، وتقديره: لأحولنهم عن طاعتك التي خلقتهم لها إلى معصيتك التي نهيتهم عنها ولم تخلقهم لها.

13. ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا﴾ أي ربًّا ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ فيطيعه، وقيل: متبعًا يتبعه فيما أمره به من معصية الله.

14. ﴿فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ قيل: هلك هلاكًا بينا؛ إذ حرم نفسه الثواب، واستوجب العقاب الدائم ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ﴾:

أ. قيل: يعدهم أن يكون ناصرًا لهم ممن أرادهم بسوء.

ب. وقيل: يعدهم الفقر إن أنفقوا أموالهم في أبواب البر.

ج. وقيل: يعدهم أن ينالوا الدنيا والآخرة بالمعصية، عن الأصم.

د. وقيل: يعدهم أن لا بعث ولا جزاء.

هـ. وقيل: يعدهم النصرة على المؤمنين، ويعدهم العلو في الدنيا، ويمنيهم الأباطيل والأكاذيب.

15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾:

أ. قيل: يعني ما يعدهم إلا باطلاً.

ب. وقيل: وعدهم النصر ثم لم ينصرهم.

ج. وقيل: ظنوه وليًّا يربحون بالقبول عنه، فخسروا فكان غرورًا.

د. وقيل: مناهم أن لا ثواب ولا عقاب، فوقعوا في العذاب.

هـ. وقيل: وعدهم الظفر لهم، فكان ـ للمسلمين عليهم.

16. ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني المشركين ﴿مَأْوَاهُمْ﴾ يعني مصيرهم ومرجعهم ﴿جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾:

أ. قيل: معدلا.

ب. وقيل: مفرًّا وخلاصًا.

17. سؤال وإشكال: لماذا كرر وعيد الكفار؟ والجواب: لثلاثة أوجه: للتأكيد، وليكون الزجر مقرونًا بصفتهم، وليكون الوعيد على تفصيل خصال الكفر.

18. ثم لما تقدم الوعيد عقبه بذكر الوعد للمؤمنين، فاتصل به اتصال النقيض بالنقيض ترغيبا وترهيبًا، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾:

قيل: صدقوا الله ورسوله.

وقيل: أتوا بشرائط الإيمان.

19. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ الطاعات، وإنما ضم العمل إلى الإيمان وإن كان ذلك من الإيمان لوجهين:

أ. أحدهما: إزالة الإيهام بأن الوعد على التصديق فقط.

ب. الثاني: بيان الوعد على كل واحد من الصنفين.

﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ قيل: من تحت أشجارها وأبنيتها الأنهار ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ لا تنقطع حياتهم ولا نعيمهم ﴿وَعْدَ اللهِ حَقًّا﴾ يعني وعده لأوليائه حق لا خلف فيه، لا كوعد الشيطان وحزبه ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ﴾ هو استفهام والمراد به النفي، أي لا أحد أصدق من الله قولاً فيما أخبر ووعد وأوعد ﴿مِنَ اللهِ قِيلًا﴾ أي قولاً.

20. تدل الآيات الكريمة على:

أ. أن عبادة غير الله شرك، فيدل أن الكفر قد يكون في غير أفعال القلب.

ب. أن الشيطان يضل.

ج. أن الدعاء إلى الضلال يسمى إضلالاً.

د. بطلان مذهب الْمُجْبِرَة من حيث أضاف الضلال والعدة والاتخاذ وغيرهما إليهم، ولو كان الدعاء خلقًا له والضلال فيهم كذلك لم يكن لهذا الكلام معنى.

هـ. أن من اتخذ وليًّا يدعوه إلى معصية الله فإنه خسر خسرانًا مبينًا، حيث يوقعه في العذاب الدائم الأليم.

و. أن الجنة تنال بالإيمان والأعمال الصالحة، خلاف قول المرجئة.

ز. دوام الجنة، خلاف قول جهم.

ح. أنه لا خلف في وعده ووعيده، خلاف ما يقوله بعض المرجئة من جواز خلف الوعيد.

21. قراءات ووجوه:

أ. القراءة الظاهرة ﴿إِلَّا إِنَاثًا﴾ جمع أنثى، وفي الشواذ عن بعضهم: أنَثًا)، جمع إناث كثمار وثمر، وروي أنه كان في مصحف عائشة: إن يدعون إلا أوثانًا): جمع وثن، وروي عن ابن عامر: إلا أُثُنَا) فكأنه جمع وثن على أن أصله كان وثنا، فقلبت الواو همزة بمنزلة وإذا الرسل أقتت، ووقتت)، وأُجُوه ووجوه)، وهذه روايات لا يجوز القراءة بها، ولا يثبت بمثلها القرآن، وإنما هو بالشائع والمستفيض الذي نقله الخلف عن السلف.

ب. قرأ حمزة والكسائي ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ﴾ بإشمام الزاي، وكذلك كل صاد ساكنة بعدها دال في القرآن نحو ﴿قَصْدُ السَّبِيلِ﴾، ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾

22. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿إِنْ﴾ على أربعة أوجه:

الأول للنفي كقوله: ﴿إِنْ يَدْعُونَ﴾ معناه: لا يدعون.

الثاني: التأكيد على أنها المخففة من الثقيلة، نحو ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾

ثالثها: الجزاء، نحو ﴿وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا﴾

الرابع: الزيادة، نحو: ما إن جاءني زيد، أي ما جاء زيد.

ب. أصل اللات والعزى في اللغة، حتى أنث كتأنيث الأصل: أصل اللات الصخرة، وأصل العزى شجرة، إلا أنهم نقلوها إلى الأوثان فجعلوها عليها عَلَمًا.

ج. الفرق بين أولئك وهَؤُلَاءِ: ﴿أُولَئِكَ﴾ لما بَعُدَ و﴿هَؤُلَاءِ﴾ لما قَرُب، ونظيرهما: هذا وذاك، وإنما قيل: أولئك؛ لأن ذكرهم قد مضى، فصار بمنزلة البعيد في المكان.

د. ﴿وَعَدَ اللهُ﴾ مصدر نصب على المصدر، وما تقدم من الكلام يدل عليه، وقيل: نصب على التمييز كقولهم: هو أكرم فعلاً، وأعظم جودًا.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/75.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. المريد، والمارد، والمتمرد بمعنى: وهو العاتي، والخارج عن الطاعة، والمتملس منها، يقال: حائط ممرد: أي مملس، وشجرة مرداء: تناثر ورقها، ومنه سمي من لم تنبت له اللحية أمرد أي: أملس موضع اللحية، ومرد الرجل، يمرد، مرودا: إذا عتا، وخرج عن الطاعة.

ب. أصل اللعن: البعد، ومنه قيل للطريد: اللعين.

ج. أصل الفرض: القطع، والفرضة: الثلمة تكون في النهر، والفرض: الحز الذي يكون في السواك وغيره، يشد فيه الخيط، والفرض في القوس: الحز الذي يكون فيه الوتر، والفريضة: ما أمر الله به العباد، فجعله حتما عليهم، قاطعا، وأما قول الشاعر:

çإذا أكلت سمكا وفرضا... ذهبت طولا وذهبت عرضاé

فالفرض هنا التمر، وإنما سمي التمر فرضا، لأنه يؤخذ في فرائض الصدقة.

د. التبتيك: التشقيق، والبتك: القطع، بتكته، أبتكه، تبتيكا، والبتكة، مثل القطعة، البتك: القطع، قال زهير:

çحتى إذا ما هوت كف الغلام له... طارت وفي كفه من ريشها بتكé

هـ. المحيص: المعدل، يقال حصت عنه، أحيص، حيصا، وجضت، أجيض، جيضا، بمعنى، قال:

çولم ندر إن جضنا عن الموت جيضة... كم العمر باق والمدى متطاولé

روي باللغتين.

2. لما ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة أهل الشرك وضلالهم، ذكر في هذه الآية حالهم وفعالهم، فقال: ﴿إِنْ يَدْعُونَ﴾ أي: ما يدعون هؤلاء المشركون، وما يعبدون ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ أي: من دون الله.

3. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا إِنَاثًا﴾ أقوال:

أ. أحدها: إلا أوثانا، وكانوا يسمون الأوثان باسم الإناث، اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، وإساف، ونائلة، عن أبي مالك، والسدي، ومجاهد، وابن زيد، وذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره قال: (كان في كل واحدة منهن شيطانة أنثى، تتراءى للسدنة، وتكلمهم)، وذلك من صنع إبليس، وهو الشيطان الذي ذكره الله فقال: ﴿لَعَنَهُ اللهُ﴾ قالوا: واللات كان اسما لصخرة، والعزى كان اسما لشجرة، إلا أنهم نقلوهما إلى الوثن، وجعلوهما علما عليهما، وقيل: العزى: تأنيث الأعز، واللات: تأنيث لفظ الله، وقال الحسن: كان لكل حي من العرب وثن، يسمونه باسم الأنثى.

ب. ثانيها: إن المعنى: إلا مواتا، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، فعلى هذا يكون تقديره: ما يعبدون من دون الله إلا جمادا ومواتا لا تعقل، ولا تنطق، ولا تضر، ولا تنفع، فدل ذلك على غاية جهلهم وضلالهم، وسماها إناثا، لاعتقاد مشركي العرب الأنوثة في كل ما اتضعت منزلته، ولأن الإناث من كل جنس أرذله، وقال الزجاج: (لأن الموات يخبر عنها بلفظ التأنيث، تقول: الأحجار تعجبني، ولا تقول يعجبونني)، ويجوز أن يكون إناثا سماها لضعفها، وقلة خيرها، وعدم نصرها.

ج. ثالثها: إن المعنى: إلا ملائكة، لأنهم كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدون الملائكة، عن الضحاك.

4. ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾ أي: ماردا شديدا في كفره وعصيانه، متماديا في شركه وطغيانه.

5. سؤال وإشكال: يسأل عن هذا فيقال: كيف نفى في أول الكلام عبادتهم لغير الأوثان، ثم أثبت في آخره عبادتهم الشيطان، فأثبت في الآخر ما نفاه في الأول؟ والجواب:

أ. أجاب الحسن عن هذا، فقال: إنهم لم يعبدوا إلا الشيطان في الحقيقة، لان الأوثان كانت مواتا، ما دعت أحدا إلى عبادتها، بل الداعي إلى عبادتها الشيطان، فأضيفت العبادة إلى الشيطان، بحكم الدعاء، وإلى الأوثان، لأجل أنهم كانوا يعبدونها، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن﴾ أضافت الملائكة عبادتهم إلى الجن من قبل أن الجن دعتهم إلى عبادة الملائكة، وقال ابن عباس: (كان في كل واحد من أصنامهم التي كانوا يعبدونها شيطان مريد، يدعو المشركين إلى عبادتها، فلذلك حسن إضافة العبادة إلى الأصنام وإلى الشيطان)

ب. وقيل: ليس في الآية إثبات المنفي، بل ما يعبدون إلا الأوثان وإلا الشيطان، وهو إبليس.

6. ﴿لَعَنَهُ اللهُ﴾: أبعده الله عن الخير، بإيجاب الخلود في نار جهنم ﴿وَقَالَ﴾ يعني الشيطان: لما لعنه الله: ﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا﴾ أي: حظا ﴿مَفْرُوضًا﴾:

أ. أي: معلوما، عن الضحاك.

ب. وقيل: مقدرا محدودا.

7. أصل الاتخاذ: أخذ الشيء على وجه الاختصاص، فكل من أطاعه فإنه من نصيبه وحزبه، كما قال سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ﴾، وروي أن النبي قال في هذه الآية: (من بني آدم تسعة وتسعون في النار، وواحد في الجنة) وفي رواية أخرى: (من كل ألف واحد لله، وسائرهم للنار ولإبليس) أوردهما أبو حمزة الثمالي في تفسيره.

8. سؤال وإشكال: كيف علم إبليس أن له أتباعا يتابعونه؟ والجواب:

أ. قيل: علم ذلك من قوله: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ﴾

ب. وقيل: إنه لما نال من آدم ما نال، طمع في ولده، وإنما قال ذلك ظنا، ويؤيده قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾

9. ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ هذا من مقالة إبليس يعني: لأضلنهم عن الحق والصواب، وإضلاله: دعاؤه إلى الضلال، وتسبيبه له بحبائله، وغروره، ووساوسه.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾:

أ. قيل: يعني: أمنينهم طول البقاء في الدنيا، فيؤثرون بذلك الدنيا ونعيمها، على الآخرة.

ب. وقيل: معناه أقول لهم: ليس وراءكم بعث، ولا نشر، ولا جنة، ولا نار، ولا ثواب، ولا عقاب، فافعلوا ما شئتم، عن الكلبي.

ج. وقيل: معناه أمنينهم بالأهواء الباطلة الداعية إلى المعصية، وأزين لهم شهوات الدنيا وزهراتها، وأدعو كلا منهم إلى نوع يميل طبعه إليه، فأصده بذلك عن الطاعة، وألقيه في المعصية.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾:

أ. قيل: تقديره: ولآمرنهم بتبتيك آذان الانعام، فليبتكن أي: ليشققن آذانهم، عن الزجاج.

ب. وقيل: ليقطعن الآذان من أصلها، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام، وهذا شيء قد كان مشركو العرب يفعلونه، يجدعون آذان الانعام.

ج. ويقال: كانوا يفعلونه بالبحيرة، والسائبة، وسنذكر ذلك في سورة المائدة، إن شاء الله.

12. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾ أي: لآمرنهم بتغيير خلق الله، فليغيرنه، واختلف في معناه:

أ. فقيل: يريد دين الله وأمره، عن ابن عباس، وإبراهيم، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وجماعة، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام، ويؤيده قوله سبحانه وتعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله)، وأراد بذلك تحريم الحلال، وتحليل الحرام.

ب. وقيل: أراد معنى الخصاء، عن عكرمة، وشهر بن حوشب، وأبي صالح، عن ابن عباس، وكرهوا الاخصاء في البهائم.

ج. وقيل: إنه الوشم، عن ابن مسعود، وقيل: إنه أراد الشمس، والقمر، والحجارة، عدلوا عن الانتفاع بها إلى عبادتها، عن الزجاج.

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا﴾:

أ. قيل: أي: ناصرا.

ب. وقيل: ربا يطيعه.

14. ﴿مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ أي: ظاهرا، وأي خسران أعظم من استبدال الجنة بالنار، وأي صفقة أخسر من استبدال رضاء الشيطان برضاء الرحمن؟

15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ﴾:

أ. قيل: ﴿يَعِدُهُمُ﴾ الشيطان أن يكون لهم ناصرا، ﴿وَيُمَنِّيهِمْ﴾ الأكاذيب والأباطيل.

ب. وقيل: معناه يعدهم الفقر إن أنفقوا مالهم في أبواب البر، ويمنيهم طول البقاء في الدنيا، ودوام النعيم فيها، ليؤثروها على الآخرة.

16. ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ أي: لا يكون لما يعدهم ويمنيهم أصل وحقيقة، والغرور: إيهام النفع فيما فيه ضرر، ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إلى الذين اتخذوا الشيطان وليا من دون الله، فاغتروا بغروره، وتابعوه فيما دعاهم إليه، ﴿مَأْوَاهُمْ﴾: مستقرهم جميعا، ﴿جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ أي: مخلصا، ولا مهربا، ولا معدلا.

17. ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا﴾ ومن أصدق من الله حديثا.

18. قراءات ووجوه:

أ. القراءة المشهورة (إلا إناثا) وروي في الشواذ عن النبي (إلا اثنا) بالثاء قبل النون، و﴿إِلَّا إِنَاثًا﴾ بالنون قبل الثاء، روتهما عائشة، وروي عن ابن عباس: (إلا وثنا) و(إلا اثنا) بضمتين، والثاء قبل النون، وعن عطاء بن أبي رباح: (إلا اثنا) الثاء قبل النون، وهي ساكنة.. أما أثن فجمع وثن، وأصله وثن، قلبت الواو همزة، نحو أجوه في وجوه، وأعد في وعد فأما أثن بسكون الثاء فهو كأسد بسكون السين، وأما أنثا بتقديم النون على الثاء، فيمكن أن يكون جمع أنيث، كقولهم سيف أنيث الحديد، ويمكن أن يكون جمع إناث.

ب. ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا﴾ ونحوه بإشمام الزاي كوفي، غير عاصم، ورويس، والباقون بالصاد، وقد ذكرنا الوجه عند ذكر الصراط في الفاتحة.

19. مسائل لغوية ونحوية:

أ. إن: على أربعة أوجه.

أحدها: أن إن النافية كما في الآية: ﴿إِنْ يَدْعُونَ﴾ أي: ما يدعون.

الثاني: إن المخففة من الثقيلة كما في قوله: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ ويلزمها لام التأكيد.

الثالث: إن الجازمة كما في قوله: (وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا)

الرابع: إن المزيدة نحو: ما إن جاءني زيد:

çوما إن طبنا جبن ولكن... منايانا ودولة آخريناé

ب. ﴿لَعَنَهُ اللهُ﴾: جملة في موضع النصب بأنها صفة لقوله: ﴿شَيْطَانًا﴾

ج. اللام في ﴿لَأَتَّخِذَنَّ﴾ وما بعده لام اليمين، وإنما يدخل على جواب القسم، لأنه المقسم عليه، فعلى هذا يكون القسم هنا مضمرا في الجميع.

د. ﴿وَعَدَ اللهُ﴾ نصب على المصدر، وتقديره وعد الله ذلك وعدا، فهو مصدر دل معنى الكلام الذي تقدم على فعله الناصب له، و﴿حَقًّا﴾ أيضا مصدر مؤكد لما قبله، كأنه قال أحقه حقا.

هـ. ﴿قِيلًا﴾: منصوب على التمييز، كما يقال: هو أكرم منك فعلا، ومعناه: وعد الله ذلك وعدا حقا، لا خلاف فيه.

و. ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ﴾: استفهام فيه معنى النفي: أي لا أحد أصدق من الله قولا، فيما أخبره، ووعدا فيما وعده.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/169.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. (إن) بمعنى: (ما) و﴿يُدْعَوْنَ﴾ بمعنى: يعبدون، والهاء في‏ ﴿دُونِهِ﴾ ترجع إلى الله عزّ وجلّ، والقراءة المشهورة ﴿إِنَاثًا﴾، وقرأ سعد بن أبي وقّاص، وعبد الله بن عمر، وأبو مجلز، وأبو المتوكّل، وأبو الجوزاء: (إلا وثنا)، بفتح الواو، والثاء من غير ألف، وقرأ ابن عباس، وأبو رزين: (أنثا)، برفع الهمزة والنون من غير ألف، وقرأ أبو العالية، ومعاذ القارئ، وأبو نهيك: (إناثا)، برفع الهمزة وبألف بعد الثاء، وقرأ أبو هريرة، والحسن، والجونيّ: (إلا أنثى)، على وزن (فعلى)، وقرأ أيوب السّختيانيّ: (إلا وثنا)، برفع الواو والثاء من غير ألف، وقرأ مورّق العجليّ: (أثنا)، برفع الهمزة والثاء من غير ألف، قال الزجّاج: فمن قال إناثا، فهو جمع أنثى وإناث، ومن قال أنثا، فهو جمع إناث، ومن قال أثنا، فهو جمع وثن، والأصل: وثن، إلا أن الواو إذا انضمّت جاز إبدالها همزة، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ﴾ الأصل: وقّتت، وجائز أن يكون أثن أصلها: أثن، فأتبعت الضّمّة الضّمّة، وجائز أن يكون أثن، مثل أسد وأسد.

2. فأما المفسّرون، فلهم في معنى الإناث أربعة أقوال‏:

أ. أحدها: أن الإناث بمعنى الأموات، قاله ابن عباس: والحسن في رواية، وقتادة، وقال الحسن: كلّ شيء لا روح فيه، كالحجر، والخشبة، فهو إناث، قال الزجّاج: والموات كلّها يخبر عنها، كما يخبر عن المؤنّث، تقول من ذلك: الأحجار تعجبني، والدّراهم تنفعني.

ب. الثاني: أن الإناث، الأوثان، وهو قول عائشة، ومجاهد.

ج. الثالث: أن الإناث اللّات والعزّى ومناة، كلّهن مؤنّث، وهذا قول أبي مالك، وابن زيد والسّدّيّ، وروى أبو رجاء عن الحسن قال لم يكن حيّ من أحياء العرب إلّا ولهم صنم يسمّونه: أنثى بني فلان، فنزلت هذه الآية، قال الزجّاج: والمعنى: ما يدعون إلا ما يسمّونه باسم الإناث.

د. الرابع: أنها الملائكة كانوا يزعمون أنها بنات الله، قاله الضّحّاك.

3. في المراد بالشّيطان ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: شيطان يكون في الصّنم، قال ابن عباس: في كل صنم شيطان يتراءى للسّدنة فيكلّمهم، وقال أبيّ بن كعب: مع كل صنم جنّيّة.

ب. الثاني: أنه إبليس، وعبادته: طاعته فيما سوّل لهم، هذا قول مقاتل، والزجّاج.

ج. الثالث: أنه أصنامهم التي عبدوا، ذكره الماورديّ.

4. (المريد) قال الزجّاج: (المريد): المارد، وهو الخارج عن الطّاعة، ومعناه: أنه قد مرد في الشّر، يقال: مرد الرجل يمرد مرودا: إذا عتا، وخرج عن الطاعة، وتأويل المرود: أن يبلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصّنف، وأصله في اللغة: املساس الشيء ومنه قيل للإنسان: أمرد: إذا لم يكن في وجهه شعر، وكذلك يقال: شجرة مرداء: إذا تناثر ورقها، وصخرة مرداء: إذا كانت ملساء.

5. في قوله تعالى: ﴿لَعَنَهُ اللهُ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه ابتداء دعاء عليه باللعن، وهو قول من قال هو الأوثان.

ب. الثاني: أنه إخبار عن لعن متقدّم، وهو قول من قال هو إبليس.

6. قال ابن جرير: المعنى: قد لعنه الله، قال ابن عباس: معنى الكلام: دحره الله، وأخرجه من الجنة.

7. ﴿وَقَالَ﴾ يعني إبليس: ﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾، قال ابن قتيبة: أي حظّا افترضته لنفسي منهم، فأضلّهم، وقال مقاتل: النّصيب المفروض في اللغة: القطع أنّ من كل ألف إنسان واحد في الجنة، وسائرهم في النار، قال الزّجاج: (الفرض) في اللغة: القطع، و(الفرضة): الثّلمة تكون في النهر، و(الفرض) في القوس: الحزّ الذي يشدّ فيه الوتر، والفرض فيما ألزمه الله العباد: جعله حتما عليهم قاطعا.

8. ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ قال ابن عباس: عن سبيل الهدى، وقال غيره: ليس له من الضلال سوى الدّعاء إليه.

9. في قوله تعالى: ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ أربعة أقوال:

أ. أحدها: أنه الكذب الذي يخبرهم به، قال ابن عباس: يقول لهم: لا جنّة، ولا نار، ولا بعث.

ب. الثاني: أنه التّسويف بالتّوبة، روي عن ابن عباس.

ج. الثالث: أنه إيهامهم أنهم سينالون من الآخرة حظّا، قاله الزجّاج.

د. الرابع: أنه تزيين الأماني لهم، قاله أبو سليمان.

10. ﴿فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ قال قتادة، وعكرمة، والسّدّيّ: هو شقّ أذن البحيرة، قال الزجّاج: ومعنى (يبتّكن) يشقّقن، يقال: بتكت الشيء أبتكه بتكا: إذا قطعته، وبتكه وبتك، مثل قطعه وقطع، وهذا في البحيرة كانت الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن، وكان الخامس ذكرا، شقّوا أذن النّاقة، وامتنعوا من الانتفاع بها، ولم تطرد عن ماء، ولا مرعى، وإذا لقيها المعيي، لم يركبها، سوّل لهم إبليس أنّ هذا قربة إلى الله تعالى.

11. في المراد بتغيير خلق الله خمسة أقوال‏:

أ. أحدها: أنه تغيير دين الله، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن في رواية، وسعيد بن المسيب وابن جبير والنّخعيّ والضّحّاك والسّدّيّ وابن زيد ومقاتل، وقيل: معنى تغيير الدّين: تحليل الحرام وتحريم الحلال.

ب. الثاني: أنه تغيير الخلق بالخصاء، رواه عكرمة عن ابن عباس، وهو مرويّ عن أنس بن مالك، وعن مجاهد وقتادة وعكرمة، كالقولين.

ج. الثالث: أنه التغيير بالوشم، وهو قول ابن مسعود، والحسن في رواية.

د. الرابع: أنه تغيير أمر الله، رواه أبو شيبة عن عطاء.

هـ. الخامس: أنه عبادة الشّمس والقمر والحجارة، وتحريم ما حرّموا من الأنعام، وإنما خلق ذلك للانتفاع به، قاله الزجّاج.

12. ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ في المراد بالوليّ قولان:

أ. أحدهما: أنه بمعنى الرّبّ، قاله مقاتل.

ب. الثاني: من الموالاة، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

13. سؤال وإشكال: من أين لإبليس العلم بالعواقب حتى قال ولأضلّنّهم، وقال في سورة الأعراف‏ ﴿وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾، وقال في سورة بني إسرائيل‏ ﴿لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾ والجواب: عنه ثلاثة أجوبة.

أ. أحدها: أنه ظنّ ذلك، فتحقّق ظنّه، وذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ قاله الحسن، وابن زيد، وفي سبب ذلك الظّنّ قولان:

أحدهما: أنه لمّا قال الله تعالى له: ﴿ولَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ‏ فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ علم أنه ينال ما يريد.

الثاني: أنه لما استزلّ آدم، قال: ذرّيّة هذا أضعف منه.

ب. الثاني: أن المعنى: لأحرّضنّ ولأجتهدنّ في ذلك، لا أنه كان يعلم الغيب، قاله ابن الأنباريّ.

ج. الثالث: أن من الجائز أن يكون علم من جهة الملائكة بخبر من الله تعالى أن أكثر الخلق لا يشكرون، ذكره الماورديّ.

14. سؤال وإشكال: لم اقتصر على بعضهم؟ فقال: ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ وقال: ﴿وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ وقال: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾؟ والجواب: عنه ثلاثة أجوبة.

أ. أحدها: أنه يجوز أن يكون علم مآل الخلق من جهة الملائكة، كما بيّنّا.

ب. الثاني: أنه لما لم ينل من آدم كلّ ما يريد، طمع في بعض أولاده، وأيس من بعض.

ج. الثالث: أنه لما عاين الجنّة والنار، علم أنهما خلقتا لمن يسكنهما، فأشار بالنّصيب المفروض إلى ساكني النار.

15. ﴿يَعِدُهُمُ﴾ يعني: الشيطان يعد أولياءه، وفيما يعدهم به قولان:

أ. أحدهما: أنه لا بعث لهم، قاله مقاتل.

ب. الثاني: النّصرة لهم، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ.

16. فيما يمنّيهم قولان:

أ. أحدهما: الغرور والأماني، مثل أن يقول: سيطول عمرك، وتنال من الدنيا مرادك:

ب. الثاني: الظّفر بأولياء الله.

17. ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ أي: باطلا يغرّهم به، فأما المحيص، فقال الزجّاج: هو المعدل والملجأ، يقال: حصت عن الرجل أحيص، ورووا: جضت أجيض بالجيم والضاد، بمعنى: حصت، ولا يجوز ذلك في القرآن، وإن كان المعنى واحدا، لأن القراءة سنّة، والذي في القرآن أفصح مما يجوز، ويقال: حصت أحوص حوصا وحياصة: إذا خطت، قال الأصمعيّ: يقال: حصّ عين صقرك، أي: خط عينه، والحوص في العين: ضيق مؤخّرها، ويقال: وقع في حيص بيص، وحاص باص: إذا وقع فيما لا يقدر على التخلص منه.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/473.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بيّن الله تعالى كون الشرك ضلالا بعيدا، فقال‏: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ الله﴾ (إن) هاهنا معناه النفي ونظيره قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ [النساء: 159] و﴿يُدْعَوْنَ﴾ بمعنى يعبدون لأن من عبد شيئا فإنه يدعوه عند احتياجه إليه، وقوله: ﴿إِلَّا إِنَاثًا﴾ فيه أقوال:

أ. الأول: أن المراد هو الأوثان وكانوا يسمونها باسم الإناث كقولهم: اللّات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، واللات تأنيث الله، والعزى تأنيث العزيز، قال الحسن: لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان، ويدل على صحة هذا التأويل قراءة عائشة: إلا أوثانا، وقراءة ابن عباس: إلا أثنا، جمع وثن مثل أسد وأسد، ثم أبدلت من الواو المضمومة همزة نحو قوله: ﴿وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ﴾ [المرسلات: 11] قال الزجاج: وجائز أن يكون أثن أصلها أثن، فأتبعت الضمة الضمة.

ب. الثاني: قوله: ﴿إِلَّا إِنَاثًا﴾ أي إلا أمواتا، وفي تسمية الأموات إناثا وجهان:

الأول: أن الأخبار عن الموات يكون على صيغة الأخبار عن الأنثى، تقول: هذه الأحجار تعجبني: كما تقول: هذه المرأة تعجبني.

الثاني: أن الأنثى أخس من الذكر، والميت أخس من الحي، فلهذه المناسبة أطلقوا اسم الأنثى على الجمادات الموات.

ج. الثالث: أن بعضهم كان يعبد الملائكة، وكانوا يقولون: الملائكة بنات الله قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى﴾ [النجم: 27] والمقصود من الآية هل إنسان أجهل ممن أشرك خالق السموات والأرض وما بينهما جمادا يسميه بالأنثى.

2. ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾ قال المفسرون: كان في كل واحد من تلك الأوثان شيطان يتراءى للسدنة يكلمهم، وقال الزجاج: المراد بالشيطان هاهنا إبليس بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الآية: ﴿وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ ولا شك أن قائل هذا القول هو إبليس، ولا يبعد أن الذي تراءى للسدنة هو إبليس، وأما المريد فهو المبالغ في العصيان الكامل في البعد من الطاعة ويقال له: مارد ومريد، قال الزجاج: يقال: حائط ممرد أي مملس، ويقال شجرة مرداء إذا تناثر ورقها، والذي لم تنبت له لحية يقال له أمرد لكون موضع اللحية أملس، فمن كان شديد البعد عن الطاعة يقال له مريد ومارد لأنه مملس عن طاعة الله لم يلتصق به من هذه الطاعة شيء.

3. ﴿لَعَنَهُ الله وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ قال صاحب (الكشاف): قوله: ﴿لَعَنَهُ الله وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ﴾ صفتان بمعنى شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله وهذا القول الشنيع، والشيطان هاهنا قد ادعى أشياء:

أ. أولها: قوله: ﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ الفرض في اللغة القطع، والفرضة الثلمة التي تكون في طرف النهر، والفرض الحز الذي في الوتر، والفرض في القوس الحز الذي يشد فيه الوتر، والفريضة ما فرض الله على عباده وجعله حتما عليهم‏ قطعا لعذرهم، وكذا قوله: ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ [البقرة: 237] أي جعلتم لهن قطعة من المال، فمعنى الآية أن الشيطان لعنه الله قال عند ذلك: لأتخذن من عبادك حظا مقدرا معينا، وهم الذين يتبعون خطواته ويقبلون وساوسه، وفي التفسير عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (من كل ألف واحد لله وسائره للناس ولإبليس) سؤال وإشكال: النقل والعقل يدلان على أن حزب الشيطان أكثر عددا من حزب الله، أما النقل: فقوله تعالى في صفة البشر: ﴿فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سبأ: 20]، وقال حاكيا عن الشيطان:‏ ﴿لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 62]، وحكي عنه أيضا أنه قال‏: ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص: 82، 83] ولا شك أن المخلصين قليلون، وأما العقل: فهو أن الفساق والكفار أكثر عددا من المؤمنين المخلصين، ولا شك أن الفساق والكفار كلهم حزب إبليس، إذا ثبت هذا فنقول: لم قال‏: ﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا﴾ مع أن لفظ النصيب لا يتناول القسم الأكثر، وإنما يتناول الأقل؟ والجواب: أن هذا التفاوت إنما يحصل في نوع الشر، أما إذا ضممت زمرة الملائكة مع غاية كثرتهم إلى المؤمنين كانت الغلبة للمؤمنين المخلصين، وأيضا فالمؤمنون وإن كانوا قليلين في العدد إلا أن منصبهم عظيم عند الله، والكفار والفساق وإن كانوا كثيرين في العدد فهم كالعدم، فلهذا السبب وقع اسم النصيب على قوم إبليس.

ب. ثانيها: قوله: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ يعني عن الحق:

قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: هذه الآية دالة على أصلين عظيمين من أصولنا:

● الأول: المضل هو الشيطان، وليس المضل هو الله تعالى قالوا: وإنما قلنا: أن الآية تدل على أن المضل هو الشيطان لأن الشيطان ادعى ذلك والله تعالى ما كذبه فيه، ونظيره قوله: ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾، وقوله: ﴿لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾، وقوله: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: 16] وأيضا أنه تعالى ذكر وصفه بكونه مضلا للناس في معرض الذم له، وذلك يمنع من كون الإله موصوفا بذلك.

● الثاني: وهو أن أهل السنة يقولون: الإضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال وقلنا: ليس الإضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال بدليل أن إبليس وصف نفسه بأنه مضل مع أنه بالإجماع لا يقدر على خلق الضلال.

قال أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ: هذا كلام إبليس فلا يكون حجة، وأيضا أن كلام إبليس في هذه المسألة مضطرب جدا، فتارة يميل إلى القدر المحض، وهو قوله: ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ وأخرى إلى الجبر المحض وهو قوله: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ [القصص: 39] وتارة يظهر التردد فيه حيث قال: ﴿رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا﴾ [القصص: 63] يعني أن قول هؤلاء الكفار: نحن أغوينا فمن الذي أغوانا عن الدين؟ ولا بدّ من انتهاء الكل بالآخرة إلى الله.

ج. ثالثها: قوله: ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ لما ادعى أنه يضل الخلق قال‏: ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ وهذا يشعر بأنه لا حيلة له في الإضلال أقوى من إلقاء الأماني في قلوب الخلق، وطلب الأماني يورث شيئين: الحرص‏ والأمل، والحرص والأمل يستلزمان أكثر الأخلاق الذميمة، وهما كالأمرين اللازمين لجوهر الإنسان‏ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يهرم ابن آدم ويشب معه اثنان الحرص والأمل) والحرص يستلزم ركوب أهوال الدنيا وأهوال الدين فإنه إذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلا بمعصية الله وإيذاء الخلق، وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقا في الدنيا فلا يكاد يقدم على التوبة، ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة.

د. رابعها: قوله: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ البتك القطع، وسيف باتك أي قاطع، والتبتيك التقطيع، قال الواحدي: التبتيك هاهنا هو قطع آذان البحيرة بإجماع المفسرين، وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا، وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها، وقال آخرون: المراد أنهم يقطعون آذان الأنعام نسكا في عبادة الأوثان فهم يظنون أن ذلك عبادة مع أنه في نفسه كفر وفسق.

هـ. خامسها: قوله: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ وللمفسرين هاهنا قولان:

الأول: أن المراد من تغيير خلق الله تغيير دين الله، وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والحسن والضحاك ومجاهد والسدي والنخعي وقتادة، وفي تقرير هذا القول وجهان:

● الأول: أن الله تعالى فطر الخلق على الإسلام يوم أخرجهم من ظهر آدم كالذر وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وآمنوا به، فمن كفر فقد غير فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهذا معنى‏ قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كل مولود يولد على الفطرة) ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه.

● الثاني: في تقرير هذا القول: أن المراد من تغيير دين الله هو تبديل الحلال حراما أو الحرام.

الثاني: حمل هذا التغيير على تغيير أحوال كلها تتعلق بالظاهر، وذكروا فيه وجوها:

● الأول: قال الحسن: المراد ما روى عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لعن الله الواصلات والواشمات) قال وذلك لأن المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا.

● الثاني: روي عن أنس وشهر بن حوشب وعكرمة وأبي صالح أن معنى تغيير خلق الله هاهنا هو الإخصاء وقطع الآذان وفق‏ء العيون، ولهذا كان أنس يكره إخصاء الغنم، وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفا عوروا عين فحلها.

● الثالث: قال ابن زيد هو التخنث، وأقول: يجب إدخال السحاقات في هذه الآية على هذا القول، لأن التخنث عبارة عن ذكر يشبه الأنثى، والسحق عبارة عن أنثى تشبه الذكر

● الرابع: حكى الزجاج عن بعضهم أن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب والوصائل، وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرة للناس ينتفعون بها فعبدها المشركون، فغيروا خلق الله، هذا جملة كلام المفسرين في هذا الباب.

4. ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ يخطر ببالي هاهنا وجه آخر في تخريج الآية على سبيل المعنى، وذلك لأن دخول الضرر والمرض في الشيء يكون على ثلاثة أوجه: التشوش، والنقصان، والبطلان، فادعى الشيطان لعنه الله إلقاء أكثر الخلق في مرض الدين، وضرر الدين هو قوله: ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ ثم إن هذا المرض لا بدّ وأن يكون على أحد الأوجه الثلاثة التي ذكرناها، وهي التشوش والنقصان والبطلان:

أ. فأما التشوش فالإشارة إليه بقوله: ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ وذلك لأن صاحب الأماني يشغل عقله وفكره في استخراج المعاني الدقيقة والحيل والوسائل اللطيفة في تحصيل المطالب الشهوانية والغضبية، فهذا مرض روحاني من جنس التشوش.

ب. وأما النقصان فالإشارة إليه بقوله: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ وذلك لأن بتك الآذان نوع نقصان، وهذا لأن الإنسان إذا صار مستغرق العقل في طلب الدنيا صار فاتر الرأي ضعيف الحزم في طلب الآخرة.

ج. وأما البطلان‏ فالإشارة إليه بقوله: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ وذلك لأن التغيير يوجب بطلان الصفة الحاصلة في المدة الأولى، ومن المعلوم أن من بقي مواظبا على طلب اللذات العاجلة معرضا عن السعادات الروحانية فلا يزال يزيد في قلبه الرغبة في الدنيا والنفرة عن الآخرة، ولا تزال تتزايد هذه الأحوال إلى أن يتغير القلب بالكلية فلا يخطر بباله ذكر الآخرة البتة، ولا يزول عن خاطره حب الدنيا البتة، فتكون حركته وسكونه وقوله وفعله لأجل الدنيا، وذلك يوجب تغيير الخلقة لأن الأرواح البشرية إنما دخلت في هذا العالم الجسماني على سبيل السفر، وهي متوجهة إلى عالم القيامة، فإذا نسيت معادها وألفت هذه المحسوسات التي لا بدّ من انقضائها وفنائها كان هذا بالحقيقة تغييرا للخلقة، وهو كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا الله فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر: 19]، وقال‏: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46]

5. لما حكى الله تعالى عن الشيطان دعاويه في الإغواء والضلال حذر الناس عن متابعته، فقال: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ لا أحد يختار أن يتخذ الشيطان وليا من دون الله، ولكن المعنى أنه إذا فعل ما أمره الشيطان به وترك ما أمره الرحمن به صار كأنه اتخذ الشيطان وليا لنفسه وترك ولاية الله تعالى، وإنما قال‏: ﴿خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ لأن طاعة الله تفيد المنافع العظيمة الدائمة الخالصة عن شوائب الضرر، وطاعة الشيطان تفيد المنافع الثلاثة المنقطعة المشوبة بالغموم والأحزان والآلام الغالبة، والجمع بينهما محال عقلا، فمن رغب في ولايته فقد فاته أشرف المطالب وأجلها بسبب أخس المطالب وأدونها، ولا شك أن هذا هو الخسار المطلق.

6. ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾:

أ. بينا في الآية المتقدمة أن عمدة أمر الشيطان إنما هو بإلقاء الأماني في القلب، وأما تبتيك الآذان وتغيير الخلقة فذاك من نتائج إلقاء الأماني في القلب ومن آثاره، فلا جرم نبّه الله تعالى على ما هو العمدة في دفع تلك الأماني وهو أن تلك الأماني لا تفيد إلا الغرور، والغرور هو أن يظن الإنسان بالشيء أنه نافع ولذيذ، ثم يتبين اشتماله على أعظم الآلام والمضار، وجميع أحوال الدنيا كذلك، والعاقل يجب عليه أن لا يلتفت إلى شيء منها، ومثال هذا أن الشيطان يلقي في قلب الإنسان أنه سيطول عمره وينال من الدنيا أمله ومقصوده، ويستولي على أعدائه، ويقع في قلبه أن الدنيا دول فربما تيسرت له كما تيسرت لغيره، إلا أن كل ذلك غرور فإنه لا بدّ وأن يكون عند الموت في أعظم أنواع الغم والحسرة فإن المطلوب كلما كان ألذ وأشهى وكان الألف معه أدوم وأبقى كانت مفارقته أشد إيلاما وأعظم تأثيرا في حصول الغم والحسرة، فظهر أن هذه الآية منبهة على ما هو العمدة والقاعدة في هذا الباب.

ب. وفي الآية وجه آخر: وهو أن الشيطان يعدهم بأنه لا قيامة ولا جزاء فاجتهدوا في استيفاء اللذات الدنيوية.

7. ﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ ذكرنا أن الغرور عبارة عن الحالة التي تحصل للإنسان عند وجدان ما يستحسن ظاهره إلا أنه يعظم تأذيه عند انكشاف الحال فيه، والاستغراق في طيبات الدنيا والانهماك في معاصي الله سبحانه وإن كان في الحال لذيذا إلا أن عاقبته عذاب جهنم وسخط الله والبعد عن رحمته، فكان هذا المعنى مما يقوي ما تقدم ذكره من أنه ليس إلا الغرور.

8. ﴿وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ المحيص المعدل والمفر، قال الواحدي: هذه الآية تحتمل وجهين:

أ. أحدهما: أنه لا بدّ لهم من ورودها.

ب. الثاني: التخليد الذي هو نصيب الكفار، وهذا غير بعيد لأن الضمير في قوله: ﴿وَلَا يَجِدُونَ﴾ عائد إلى الذين تقدم ذكرهم، وهم الذين قال الشيطان: لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا، والأظهر أن الذي يكون نصيبا للشيطان هم الكفار.

9. لما ذكر الله الوعيد أردفه بالوعد فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ الله حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾، الله تعالى في أكثر آيات الوعد ذكر ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ ولو كان الخلود يفيد التأبيد والدوام للزم التكرار وهو خلاف الأصل، فعلمنا أن الخلود عبارة عن طول المكث لا عن الدوام، وأما في آيات الوعيد فإنه يذكر الخلود ولم يذكر التأبيد إلا في حق الكفار، وذلك يدل على أن عقاب الفساق منقطع.

10. ﴿وَعْدَ الله حَقًّا﴾ قال صاحب (الكشاف): هما مصدران: الأول: مؤكد لنفسه، كأنه قال وعد وعدا وحقا مصدر مؤكد لغيره، أي حق ذلك حقا.

11. ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾ وهو توكيد ثالث بليغ، وفائدة هذه التوكيدات معارضة ما ذكره الشيطان لأتباعه من المواعيد الكاذبة والأماني الباطلة، والتنبيه على أن وعد الله أولى بالقبول وأحق بالتصديق من قول الشيطان الذي ليس أحد أكذب منه.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/222.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ﴾ أي من دون الله ﴿إِلَّا إِنَاثًا﴾، نزلت في أهل مكة إذ عبدوا الأصنام، و﴿أَنْ﴾ نافية بمعنى ﴿مَا﴾، و﴿إِنَاثًا﴾ أصناما، يعني اللات والعزى ومناة، وكان لكل حي صنم يعبدونه ويقولون: أنثى بني فلان، قاله الحسن وابن عباس، وأتى مع كل صنم شيطانه يتراءى للسدنة والكهنة ويكلمهم، فخرج الكلام مخرج التعجب، لأن الأنثى من كل جنس أخسه، فهذا جهل ممن يشرك بالله جمادا فيسميه أنثى، أو يعتقده أنثى، وقيل: ﴿إِلَّا إِنَاثًا﴾ مواتا، لأن الموات لا روح له، كالخشبة والحجر، والموات يخبر عنه كما يخبر عن المؤنث لا تضاع المنزلة، تقول: الأحجار تجبني، كما تقول: المرأة تعجبني، وقيل: ﴿إِلَّا إِنَاثًا﴾ ملائكة، لقولهم: الملائكة بنات الله، وهي شفعاؤنا عند الله، عن الضحاك، وقراءة ابن عباس (إلا وثنا) بفتح الواو والثاء على إفراد اسم الجنس، وقرأ أيضا (وثنا) بضم الثاء والواو، جمع وثن، وأوثان أيضا جمع وثن مثل أسد وآساد، النحاس: ولم يقرأ به فيما علمت، قلت: قد ذكر أبو بكر الأنباري عن عائشة أنها كانت تقرأ: (إن يدعون من دونه إلا أوثانا)، وقرأ ابن عباس أيضا (إلا أثنا) كأنه جمع وثنا على وثان، كما تقول: جمل وجمال، ثم جمع أوثانا على وثن، كما تقول: مثال ومثل، ثم أبدل من الواو همزة لما انضمت، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ﴾ من الوقت، فأثن جمع الجمع، وقرأ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (إلا اثنا) جمع أنيث، كغدير وغدر، وحكى الطبري أنه جمع إناث كثمار وثمر، حكى هذه القراءة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أبو عمرو الداني، قال: وقرأ بها ابن عباس والحسن وأبو حيوة.

2. ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾ يريد إبليس، لأنهم إذا أطاعوه فيما سول لهم فقد عبدوه، ونظيره في المعنى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ أي أطاعوهم فيما أمروهم به، لا أنهم عبدوهم، وسيأتي، وقد تقدم اشتقاق لفظ الشيطان، والمريد: العاتي المتمرد، فعيل من مرد إذا عتا، قال الأزهري: المريد الخارج عن الطاعة، وقد مرد الرجل يمرد مرودا إذا عتا وخرج عن الطاعة، فهو مارد ومريد ومتمرد، ابن عرفة: هو الذي ظهر شره، ومن هذا يقال: شجرة مرداء إذا تساقط ورقها فظهرت عيد انها، ومنه قيل للرجل: أمرد، أي ظاهر مكان الشعر من عارضيه.

3. ﴿لَعَنَهُ اللهُ﴾ أصل اللعن الإبعاد، وقد تقدم، وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط وغضب، فلعنة [الله على] إبليس عليه لعنة الله على التعيين جائزة، وكذلك سائر الكفرة الموتى كفرعون وهامان وأبي جهل، فأما الأحياء فقد مضى الكلام فيه في البقرة.

4. ﴿وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ أي وقال الشيطان، والمعنى: لأستخلصنهم بغوايتي وأضلنهم بإضلالي، وهم الكفرة والعصاة، وفي الخبر (من كل ألف واحد لله والباقي للشيطان)، وهذا صحيح معنى، يعضده قوله تعالى لآدم يوم القيامة: ابعث بعث النار فيقول: وما بعث النار؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، أخرجه مسلم، وبعث النار هو نصيب الشيطان، وقيل: من النصيب طاعتهم إياه في أشياء، منها أنهم كانوا يضربون للمولود مسمارا عند ولادته، ودورانهم به يوم أسبوعه، يقولون: ليعرفه العمار.‌

5. ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ أي لأصرفنهم عن طريق الهدى، ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ أي لأسولن لهم، من التمني، وهذا لا ينحصر إلى واحد من الأمنية، لأن كل واحد في نفسه إنما يمنيه بقدر رغبته وقرائن حاله، وقيل: لأمنينهم طول الحياة الخير والتوبة والمعرفة مع الإصرار، ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ البتك القطع، ومنه سيف باتك، أي أحملهم على قطع آذان البحيرة والسائبة ونحوه، يقال: بتكه وبتكه، مخففا ومشددا، وفي يده بتكة أي قطعة، والجمع بتك، قال زهير: طارت وفي كفه من ريشها بتك

6. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾ اللامات كلها للقسم، واختلف العلماء في هذا التغيير إلى ماذا يرجع، فقالت طائفة: هو الخصاء وفقء الأعين وقطع الآذان، قال معناه ابن عباس وأنس وعكرمة وأبو صالح، وذلك كله تعذيب للحيوان، وتحريم وتحليل بالطغيان، وقول بغير حجة ولا برهان، والآذان في الأنعام جمال ومنفعة، وكذلك غيرها من الأعضاء، فلذلك رأى الشيطان أن يغير بها خلق الله تعالى، وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وأمرتهم أن يغيروا خلقي)، الحديث، أخرجه القاضي إسماعيل ومسلم أيضا.

7. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بهذا، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.

8. قالت طائفة: المراد بالتغيير لخلق الله هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات، ليعتبر بها وينتفع بها، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، قال الزجاج: إن الله تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل فحرموها على أنفسهم، وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها، فقد غيروا ما خلق الله، وقاله جماعة من أهل التفسير: مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة، وروي عن ابن عباس ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾ دين الله، وقاله النخعي، واختاره الطبري قال وإذا كان ذلك معناه دخل فيه فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ووشم وغير ذلك من المعاصي، لأن الشيطان يدعو إلى جميع المعاصي، أي فليغيرن ما خلق الله في دينه، وقال مجاهد أيضا: ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾ فطرة الله التي فطر الناس عليها، يعني أنهم ولدوا على الإسلام فأمرهم الشيطان بتغييره، وهو معنى قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه)، فيرجع معنى الخلق إلى ما أوجده فيهم يوم الذر من الإيمان به في قوله تعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾، قال ابن العربي: روي عن طاووس أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسود، ويقول: هذا من قول الله ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾، قال القاضي: وهذا وإن كان يحتمله اللفظ فهو مخصوص بما أنفذه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من نكاح مولاه زيد وكان أبيض، بظئره بركة الحبشية أم أسامة وكان أسود من أبيض، وهذا مما خفي على طاووس مع علمه، قلت: ثم أنكح أسامة فاطمة بنت قيس وكانت بيضاء قرشية، وقد كانت تحت بلال أخت عبد الرحمن بن عوف زهرية، وهذا أيضا يخص، وقد خفي عليهما.

9. ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ المعنى يعدهم أباطيله وترهاته من المال والجاه والرياسة، وأن لا بعث ولا عقاب، ويوهمهم الفقر حتى لا ينفقوا في الخير ﴿وَيُمَنِّيهِمْ﴾ كذلك ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ أي خديعة، قال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه وفية باطن مكروه أو مجهول، والشيطان غرور، لأنه يحمل على محاب النفس، ووراء ذلك ما يسوء، ﴿أُولَئِكَ﴾ ابتداء ﴿مَأْوَاهُمْ﴾ ابتداء ثان ﴿جَهَنَّمَ﴾ خبر الثاني والجملة خبر الأول، و﴿مَحِيصًا﴾ ملجأ، والفعل منه حاص يحيص، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا﴾ ابتداء وخبر، ﴿قِيلًا﴾ على البيان، قال قيلا وقولا وقالا، بمعنى أي لا أحد أصدق من الله، وقد مضى الكلام على ما تضمنته هذه الآي من المعاني والحمد لله. ‌

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/387.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً﴾ أي: ما يدعون من دون الله إلّا أصناما لها أسماء مؤنثة كاللات والعزى ومناة؛ وقيل: المراد بالإناث: الموات التي لا روح لها، كالخشبة والحجر؛ وقيل: المراد بالإناث: الملائكة، لقولهم: الملائكة بنات الله، وقرئ (وثنا) بضم الواو والثاء جمع وثن، روى هذه القراءة ابن الأنباري عن عائشة، وقرأ ابن عباس: (إلّا أثنا) جمع وثن أيضا، وأصله: وثن، فأبدلت الواو همزة، وقرأ الحسن: إلّا أنثا، بضم الهمزة والنون بعدها مثلثة، جمع أنيث، كغدير وغدر، وحكى الطبري: أنه جمع إناث، كثمار وثمر، وحكى هذه القراءة أبو عمرو الداني عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال وقرأ بها ابن عباس، والحسن وأبو حيوة، وعلى جميع هذه القراءات فهذا الكلام خارج مخرج التوبيخ للمشركين، والإزراء عليهم، والتضعيف لعقولهم، لكونهم عبدوا من دون الله نوعا ضعيفا.

2. ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾ أي: وما يدعون من دون الله إلّا شيطانا مريدا، وهو إبليس لعنه الله، لأنهم إذا أطاعوه فيما سوّل فقد عبدوه، وقد تقدّم اشتقاق لفظ الشيطان، والمريد: المتمرّد العاتي، من مرد: إذا عتا، قال الأزهري: المريد: الخارج عن الطاعة، وقد مرد الرجل مرودا: إذا عتا وخرج عن الطاعة، فهو مارد ومريد ومتمرّد، وقال ابن عرفة: هو الذي ظهر شرّه، يقال: شجرة مرداء: إذا تساقط ورقها وظهرت عيدانها، ومنه قيل للرجل: أمرد، أي: ظاهر مكان الشعر من عارضيه.

3. ﴿لَعَنَهُ الله﴾ أصل اللعن: الطرد والإبعاد، وقد تقدّم وهو في العرف: إبعاد مقترن بسخط، قوله: ﴿وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ معطوف على قوله: ﴿لَعَنَهُ الله﴾، والجملتان صفة لشيطان، أي: شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله له وبين هذا القول الشنيع، والنصيب المفروض: هو المقطوع المقدّر؛ أي: لأجعلنّ قطعة مقدّرة من عباد الله تحت غوايتي، وفي جانب إضلالي، حتى أخرجهم من عبادة الله إلى الكفر به.

4. ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ اللام: جواب قسم محذوف، والإضلال: الصرف عن طريق الهداية إلى طريق الغواية، وهكذا اللام في قوله: ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ﴾ والمراد بالأماني التي يمنيهم بها الشيطان: هي الأماني الباطلة الناشئة عن تسويله ووسوسته.

5. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ أي: ولآمرنهم ببتك آذان الأنعام، أي: تقطيعها فليبتكنها بموجب أمري، والبتك: القطع، ومنه سيف باتك، يقال: بتكه وبتكه مخففا ومشدّدا، ومنه قول زهير: (طارت وفي كفّه من ريشها بتك)‏ أي: قطع، وقد فعل الكفار ذلك امتثالا لأمر الشيطان واتباعا لرسمه، فشقوا آذان البحائر والسوائب، كما ذلك معروف.

6. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ أي: ولآمرنهم بتغيير خلق الله، فليغيرنه بموجب أمري لهم، واختلف العلماء في هذا التغيير ما هو؟ فقالت طائفة: هو الخصاء، وفق‏ء الأعين، وقطع الآذان، وقال آخرون: إن المراد بهذا التغيير: هو أن الله سبحانه خلق الشمس والقمر والأحجار والنار ونحوها من المخلوقات لما خلقها له، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، وبه قال الزجاج، وقيل: المراد بهذا التغيير: تغيير الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا مانع من حملى الآية على جميع هذه الأمور حملا شموليا أو بدليا، وقد رخص طائفة من العلماء في خصاء البهائم إذا قصد بذلك زيادة الانتفاع به لسمن أو غيره، وكره ذلك آخرون، وأما خصاء بني آدم فحرام، وقد كره قوم شراء الخصي، قال القرطبي: ولم يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز، وأنه مثلة، وتغيير لخلق الله، وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود، قاله أبو عمر ابن عبد البر.

7. ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله﴾ باتباعه وامتثال ما يأمر به، من دون اتباع لما أمر الله به ولا امتثال له‏ ﴿فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ أي: واضحا ظاهرا.

8. ﴿يَعِدُهُمُ﴾ المواعيد الباطلة ﴿وَيُمَنِّيهِمْ﴾ الأماني العاطلة ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ أي: وما يعدهم الشيطان بما يوقعه في خواطرهم من الوساوس الفارغة ﴿إِلَّا غُرُورًا﴾ يغرّهم به، ويظهر لهم فيه النفع وهو ضرر محض، وانتصاب غرورا: على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: وعدا غرورا، أو على أنه مفعول ثان، أو مصدر على غير لفظه، قال ابن عرفة: الغرور: ما رأيت له ظاهرا تحبه وله باطن مكروه، وهذه الجملة اعتراضية.

9. ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إلى أولياء الشيطان، وهذا مبتدأ، وخبره الجملة، وهي قوله: ﴿مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾، ﴿مَحِيصًا﴾ أي: معدلا، من حاص يحيص؛ وقيل: ملجأ ومخلصا؛ والمحيص: اسم مكان، وقيل: مصدر.

10. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾، جعل هذا الوعد للذين آمنوا مقترنا بالوعيد المتقدّم للكافرين، ﴿وَعْدَ الله حَقًّا﴾ قال في الكشاف مصدران: الأوّل مؤكد لنفسه، الثاني مؤكد لغيره، ووجهه، أن الأوّل مؤكد لمضمون الجملة الاسمية ومضمونها وعد، الثاني مؤكد لغيره، أي: حق ذلك حقا.

11. ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾ هذه الجملة مؤكدة لما قبلها، والقيل: مصدر قال كالقول، أي: لا أجد أصدق قولا من الله عزّ وجلّ؛ وقيل: إن قيلا: اسم لا مصدر، وإنه منتصب على التمييز.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/596.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿اِنْ يَّدْعُونَ﴾ يعبدون أو ينادون في مصالحهم ﴿مِن دُونِهِ إِلَّآ إِنَاثًا﴾ اللَّات والعزَّى ومناة، وهذه أسماء لأصنام مذكَّرة، مؤنَّثة لفظًا بالتاء والألف، اعتبر تأنيثها في الضمائر والإشارة والنعت وغير ذلك تبعًا لتأنيث اللفظ، كما قد يؤنَّث الخليفة لمذكَّر اعتبارًا لِلَّفظ، وكالقراد يذكَّر، وإذا سمن لحقت اسمه التاء، فقيل: حلمة، فتؤنَّث في ضميرها ونحوه، والمسمَّى واحد، ولأنَّهم يزيِّنونها بزينة النساء، ولأنَّهم يقولون في أصنامهم: إنَّها بنات الله جلَّ الله وعزَّ، ولضعفها وانحطاط قدرها كالأنثى، والعرب تسمِّي ما اتَّضع أنثى، ولأنَّ لِكُلِّ صنم شيطانة تظهر أحيانًا لسدنته، ولكلِّ حيٍّ من العرب صنم، يقال له: أنثى بني فلان، وَقَالَ مقاتل وقتادة والضحَّاك: ﴿إِلَّآ إِنَاثًا﴾ أمواتًا لا روح فيها، والجماد يُدعى أنثى تشبيهًا له بها من حيث إنَّه منفعل لا فاعل، أو الإناث: الملائكة في زعمهم أنَّها بنات الله، مع اعتقادهم أنَّ إناث كلِّ شيء أخسُّه، ﴿لَيُسَمُّونَ الْمَلَآئِكَةَ تَسْمِيَةَ الاُنثَى﴾ [النجم: 27]، وزاد بيانا لبعد ضلالهم أنَّهم يَدْعُون مَن تَجَرَّدَ عن الخير كلِّه إلى الشرِّ كلِّه، ولُعِن، وكان في غاية العداوة لهم، فكيف يصل إليهم خير منه، وهو إبليس؟ كما قال:

2. ﴿وَإِنْ يَّدْعُونَ﴾ في دعائهم لها أو عبادتهم أو طاعتهم ﴿إِلَّا شَيْطَانًا﴾ لأنَّه أمرهم بتلك العبادة، ﴿مَّرِيدًا﴾ متجرِّدًا عن الخير كلَّ تجرُّد، هو إبليس عند مقاتل، ولا يوجد في كلِّ صنم بل نوابه من الجنِّ، وعن سفيان: في كلِّ صنم شيطان، ومادَّة (م رد) التجرُّد عن الشيء بعد حصوله، كتمرُّد الشجرة عن الورق، أو انتقائه عنه من أوَّل كالشيء الصقيل الذي لا يتعلَّق به شيء، والشابِّ الذي لا شعر في وجهه.

3. ﴿لَعَنَهُ﴾ طرده عن الخير، أو خذله بأن يفعل موجب الطرد، ﴿اللهُ﴾ إخبارٌ، عطف عليه في قوله: ﴿وَقَالَ﴾، أي: شيطانًا مريدًا ملعونًا وقائلاً، وليس اللعن دعاءً لأنَّه إِنَّمَا يدعو العاجز [جلَّ الله]، ويجوز أن يكون الشيطان شياطين تتكلَّم من الأصنام على وفق عابديها، ويناسب الأوَّلَ أو كونَه ـ كما قيل ـ هو الذي يتكلَّم منها لهم أنَّه مفرد؛ لأنَّه بعد (إِلَّا) فلا يعمُّ بتقدُّم النفي، ويناسب الأوَّلَ أيضًا قولُه: ﴿لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفرُوضًا﴾

4. ﴿لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفرُوضًا﴾ مقطوعًا لي يطيعونني، وهم الأشقياء من الإنس والجنِّ، وجملتهم تسعمائة وتسعة وتسعون من كلِّ ألف، وفي الخبر: (من كلِّ ألفٍ واحدٌ لله، والباقي للشيطان)، وهم بعث النَّار في قوله تعالى يوم القيامة لآدم: (أَخرِجْ من ذرِّيَّتك بعثَ النار)، فيقول: (يا ربِّ، وما بعث النَّار؟)، فيقول: (أَخرجْ من كلِّ ألفٍ تسعَمائة وتسعةً وتسعين)، ويعدُّ في ذلك ياجوج وماجوج وغيرهم، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ما أنتم فيمن سواكم من الأمم إِلَّا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود)، وذلك قول بلسانه، قاله عند لعنه، وقيل: بلسان الحال، وذلك ظنٌّ منه، كما قال الله تعالى : ﴿وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِمُ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ [سبأ: 20]، وإنَّما ظَنَّ لِمَا نال من آدم عليه السلام ، ولِمَا عَلِمَ من بنيه من داوعي المعصية كالنفس والطبيعة.

5. ﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ﴾ عن الحقِّ إلى الباطل، بالوسوسة والتزيـين، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (خُلِق إبليس مزيِّـنًا، وليس له من الضلال شيء)، بمعنى أنَّه لا يخلق لهم الضلال، إذ لو كان له شيء من الضلال سوى الدعاء إليه لأضلَّ جميع الخلق، ومعنى قول أبي نصر: (إذن قلَّ من ينجو من الإنس والجنِّ) أنَّه لا ينجو أحد، فذلك من القِلَّة بمعنى النفي.

6. ﴿وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ يصيِّرهم متمنِّين المال والأهواء الباطلة الداعية إلى المعصية، والشهوات، وطول العمر، وأن لا بعث ولا حساب ولا جنَّة ولا نار، ونيل الحظِّ الوافر من فضل الله في الآخرة إن كان البعث حقًّا.

7. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ﴾ بالتبتيك، أي: بالمبالغة في بتك آذان الأنعام، أي: قطعها، أو بِكُلِّ معصية على العموم، كما يدلُّ له حذف المعمول، ﴿فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الَانْعَامِ﴾ يقطعون آذانها من أصلها، أو يشقُّونها حجرًا عن استعمالها وأكلها، وحصرًا لها على الأصنام، وعن أن تُمنَع عن ماء أو مرعى، وذلك في ناقة ولدت خمسة أبطن آخرها ذكر، وقيل: سبعة، وخَصُّوها باسم البَحيرة، وفي ناقة يقول صاحبها: إن شفيت أو قدم غائبي، أو إن وصلتُ إلى وطني، أو إن وُلد لي ذكر، أو نحو ذلك، فهي سائبة، وقد يسيِّبها مَن كَثُر مالُهُ شكرًا لله تعالى، وإن ماتت السائبة أكلها الرجال والنساء، وفي شاة ولدت سبعة أبطن آخرها ذكر وأنثى، وتسمَّى: وصيلة، وصلت أخاها عن الذبح، إذ لو كان وحده لذُبِح لأصنامهم وأكله الرجال خاصَّة، أو كان أنثى فكسائر الغنم، وفي جمل ولدَ ولدُ ولَدِهِ، وقيل: ركب ولَدُ ولدِه، وإن مات أكله الرجال والنساء، وكلُّ هؤلاء يشقُّ أذنه علامة.

8. ﴿وَلآمُرَنَّهُمْ﴾ بتغيير خلق الله، ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾ بغير الختان، كنتف اللحية ونتف الشارب وقصِّ اللحية وحلقها، ومنها ما تحت اللحيين، ويجوز حلق ما في العنق إلى أن يصل باطن اللحيين، فيكفُّ، والخضاب بالسواد لغير الجهاد، واللواط، وسحاق النساء، لأنَّهما تغيير للجماع والحرث، والجماع باليد أو غيرها كذلك، وتخنُّث الرجال، وتَرَجُّل النساء، والوشم، وخصاء العبد والحيوان، ونتف شعر الحاجبين ليرقَّا، أو نتف شعر ما فوق الجبهة، ووصل الشعر، ونتف الرجل شعر عانته، فإنَّ السنَّة الحلق أو النورة، ويجوز قصُّه، وترقيق الأسنان، أو جعل الخلل بينها، فإنَّه حرام، وتحمير الوجه ونقطه، والناصية والدلال، ورخص في التحمير والنقط والوصل تزيينًا لزوجها لا غشًّا لمريد تزوُّجها، ورخِّص في الدلال والناصية للعروس، وفي خصاء الحيوان إذا دعت الحاجة إليه.

9. ودخل في التغيير عبادة الشمس والقمر والنجوم والحجارة وغيرها إذ خلقت لغير ذلك، وسائر الكفر والمعاصي، وتضييع المال واستعماله في المعصية، واستعمال الجوارح في المعصية والمكروه، فإِنَّ ذلك تغيير للصفة الموضوع لها الشيء، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (كلُّ مولود يولد على الفطرة) الحديث. ونهى صلّى الله عليه وآله وسلّم عن خصاء الخيل والبهائم، رواه البيهقيُّ عن ابن عمر، وأجازه بعض في الحيوان، وأجاز ابن سيرين خصاء الفحول، وكذا الحسن، وأجازه عطاء إن كانت تعضُّ وساء خُلُقها، ومنع النوويُّ خصاء الحيوان الذي لا يؤكل، وأجاز خصاء ما يؤكل إذا كان صغيرًا قصدًا لطيب لحمه.

10. ﴿وَمَنْ يَّتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللهِ﴾ بمخالفة ما دعا إليه الله إلى ما دعا إليه الشيطان، وذَكَرَ (مِن دُونِ اللهِ) تصريحًا بالواقع كالصفة الكاشفة، لأنَّ اتِّباعه مناف أبدًا لاتِّباع أمر الله تعالى ، ﴿فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا﴾ بتضييع ما له في الجنَّة من النساء والأملاك والخدم، وبأخذ ما للمؤمن في النَّار من العذاب الدائم، متعوِّضًا في ذلك النعم الدنيويَّة القليلة الناقصة، الفانية المتنغِّصة بالهموم والأحزان.

11. ﴿يَعِدُهُمْ﴾ ما لا يَفِي به، من طول العمر، ونيل لذائذ الدُّنيا من الجاه والمال، وقضاء الشهوات، وأن لا بعث ولا حساب ولا جزاء، ونيل الخير في الآخرة إن كان البعث، وواللهِ إنَّه لكائن، ﴿وَيُمَنِّيهِمْ﴾ المعاصي واللذَّات وذلك بالوسوسة وألسنة أوليائه، ﴿وَمَا يَعِدُهُم﴾ بالوسوسة والخواطر الرديئة وألسنة أوليائه ﴿الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ إلَّا وَعْدَ غرورٍ، أو إلَّا أشياء مغرورًا بها، أو لأجل الغرور، أو هو مفعول ثان، والغرور: هو إظهار النفع فيما لا نفع فيه، أو فيه الضُّرُّ، فيتركون له دينهم لذلك، ويطيلون الأمل ويعصون، ويظلمون الناس مالاً وعِرْضًا وبَدَنًا، وتقسو قلوبهم.

12. ﴿أُوْلَئِكَ﴾ متَّخذو الشيطان وليًّا، ﴿مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا﴾ حال من قوله: ﴿مَحِيصًا﴾ لا متعلِّق به؛ لأنَّه اسم مكان لا يقبل التعلُّق، أي: موضع نفار وميل، أو مصدر ميميٌّ، أي: نفارا وميلاً، إلَّا أن يُتوسَّع في تقدُّم معموله لأنَّه مجرور، ولو انحلَّ إلى حرف المصدر والفعل.

13. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الَانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا وَعْدَ اللهِ﴾ أي: وعد الله لهم ذلك وعدًا، فهو مصدر مؤكِّد لنفسه؛ لأنَّ التَّكَلُّم بقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ إلى قوله: ﴿أَبَدًا﴾ هو نفس الوعد، ﴿حَقًّا﴾ مصدر مؤكِّد لغيره؛ لأنَّ قوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾ ليس نفس الحقِّ، بل نعلم أنَّه حقٌّ من خارج، ومن كونه كلام الله لا بالوضع، أو حال مِنْ (وَعْدَ اللهِ)

14. ﴿وَمَنَ اَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً﴾ أي: قولاً، على أنَّه مصدر، وقيل: اسم لما يحصل من المعنى المصدريِّ، والجملة تأكيد لصدق وعد الله مقابلةً لكذب وعد الشيطان لعنه الله، والاستفهام إنكار لمساواة قول أحد لقول الله جلَّ وعلا في الصدق، ولأن يكون أصدق منه، وفي ذلك ترغيب في تحصيله، استحقاق الجنَّة ليس بالأماني، والعبرة في الجزاء بالعمل.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/290.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ﴾ ما يعبد مشركو مكة ونحوهم من دون الله‏ ﴿إِلَّا إِنَاثًا﴾ قال الرازيّ: (يدعون) بمعنى (يعبدون) لأن من عبد شيئا فإنه يدعوه عند احتياجه إليه.

2. في قوله تعالى:‏ ﴿إِلَّا إِنَاثًا﴾ وجوه:

أ. الأول: ما رواه ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: يعني أوثانا، وعليه فمرجع التسمية بالإناث كون أسماء غالبها مؤنثة، كمناة والعزّى واللات ونحوها، ولأنهم كانوا يلبسونها أنواع الحليّ ويزيّنونها على هيئات النسوان، وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير ومجاهد وأبي مالك والسدّيّ ومقاتل نحو ما لعائشة.

ب. الثاني: أنه عنى الملائكة، لأن بعضهم كان يعبد الملائكة ويقولون عنها: بنات الله، روى ابن جرير عن الضحاك في الآية: قال المشركون، للملائكة: بنات الله، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، قال فاتخذوهن أربابا وصوروهن جواري فحكوا وقلّدوا وقالوا: هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده، يعنون الملائكة، قال ابن كثير: وهذا التفسير شبيه بقول الله تعالى:‏ ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم: 27] الآيات وقال تعالى: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا﴾ [الزخرف: 19].. الآية، وقال‏ ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا﴾ [الصافات: 137]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى﴾

ج. الثالث: ما رواه ابن أبي حاتم عن أبيّ بن كعب في الآية قال: مع كل صنم جنية.

د. الرابع: قال عليّ بن أبي طلحة والضحاك عن ابن عباس والحسن: إناثا يعني موتى، قال الحسن: الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح، إما خشبة يابسة وإما حجر يابس، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وفي (القاموس، وشرحه): الإناث جمع الأنثى، وهو خلاف الذكر من كل شيء والموات الذي هو خلاف الحيوان، كالشجر والحجر والخشب، عن اللحيانيّ، وعن الفراء: تقول العرب اللات والعزى وأشباههما من الآلهة المؤنثة، وقال أبو البقاء: قوله تعالى:‏ ﴿إِلَّا إِنَاثًا﴾ هو جمع أنثى على (فعال) ويراد به كل ما لا روح فيه من صخرة وشمس ونحوهما، ويقرأ (أنثى) على الإفراد، ودل الواحد على الجمع، ويقرأ (أنثا) مثل رسل فيجوز أن تكون صفة مفردة مثل امرأة جنب، ويجوز أن يكون جمع أنيث كقليب وقلب، وقد قالوا: حديد أنيث، من هذا المعنى، ويقرأ اثنا والواحد وثن وهو الصنم وأصله وثن، في الجمع كما في الواحد إلا أن الواو قلبت همزة لما انضمت ضمّا لازما وهو مثل أسد، وأسد، ويقرأ بالواو على الأصل جمعا، ويقرأ بسكون الثاء مع الهمزة والواو، قال البيضاوي: ولعله تعالى ذكرها بهذا الاسم تنبيها على أنهم يعبدون ما يسمونه إناثا، لأنه ينفعل ولا يفعل، ومن حق المعبود أن يكون فاعلا غير منفعل، ليكون دليلا على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم‏ ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ﴾ أي: ما يعبدون من دون الله‏ ﴿إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾ وهو إبليس لعنه الله لطاعتهم له في عبادتها، وإذا ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)﴾ أطاعوه فيما سوّل لهم فقد عبدوه، كما قال تعالى:‏ ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ [يس: 60]، وقال تعالى:‏ ﴿بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ [سبأ: 41] والمريد المتمرد العاتي الطاغي.

3. ﴿لَعَنَهُ الله﴾ صفة ثانية لـ (شيطانا) أي: أبعده الله عن رحمته، فأراد إبعاد من أبعد بسببه‏ ﴿وَقَالَ﴾ حين أبعد ﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ﴾ أي: الذي أبعدتني بسببهم أي: لأجعلن لي منهم‏ ﴿نَصِيبًا﴾ أي: حظّا ﴿مَفْرُوضًا﴾ أي: مقطوعا ومقدرا من عبادتهم بأن يعبدوا غيرك، أو يراءوا فيها، أو يعجبوا بها، أو يتلفوها في المظالم، أو يحبطوها بالكفر بعدها.

4. قال أبو السعود، قوله تعالى:‏ ﴿وَقَالَ﴾ عطف على الجملة المتقدمة أي: شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله، وهذا القول الشنيع الصادر عنه عند اللعن، ولقد برهن على أن عبادة الأصنام غاية الضلال بطريق التعليل بأن ما يعبدونها ينفعل ولا يفعل فعلا اختياريا، وذلك ينافي الألوهية غاية المنافاة، ثم استدلّ عليه بأن ذلك عبادة للشيطان وهو أفظع الضلال من وجوه ثلاثة:

أ. الأول: أنه منهمك في الغيّ لا يكاد يعلق بشيء من الخير والهدى، فتكون طاعته ضلالا بعيدا عن الحق.

ب. الثاني: أنه ملعون لضلاله، فلا تستتبع مطاوعته سوى اللعن والضلال.

ج. الثالث: أنه في غاية السعي في إهلاكهم وإضلالهم، فموالاة من هذا شأنه غاية الضلال، فضلا عن عبادته.

5. ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ أي: عن الهدى‏ ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ أي: الأماني الباطلة من طول الأعمار وبلوغ الآمال، قال الرازيّ: إن الشيطان لما ادعى أنه يضل الخلق قال‏ ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ وهذا يشعر بأنه لا حيلة له في الإضلال أقوى من إلقاء الأماني في قلوب الخلق، وطلب ما يورث شيئين: الحرص والأمل، والحرص والأمل يستلزم أكثر الأخلاق الذميمة، وهما كالأمرين اللازمين لجوهر الإنسان، قال الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم.

6. قال السيوطيّ في (الإكليل): يستدل بالآية على تحريم الخصاء والوشم وما يجري مجراه، من الوصل في الشعر، والتفلج، وهو تفريق الأسنان، والتنميص، وهو نتف الشعر في الوجه.

7. قال بعض الزيدية: ويلحق بالوشر ما يفعل في الخدّ من الشرط للزينة، وحكى الزجاج عن بعضهم، في معنى الآية: إن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها، فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب والوصائل، وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرة للناس ينتفعون بها، فعبدها المشركون فغيروا خلق الله، ولا يخفى أن عموم الآية يصدق على جميع المعاني، إذ كلها من تغيير خلق الله، فلا مانع من حمل الآية عليها.

8. قال البيضاويّ: قوله: ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ أي: عن وجهه وصورته، أو صفته، ويندرج فيه ما قيل من فق‏ء عين الحامي، وخصاء العبيد، والوشم والوشر، واللواط، والسحق، ونحو ذلك، وعبادة الشمس والقمر، وتغيير فطرة الله تعالى التي هي الإسلام، واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا، ولا يوجب لها من الله سبحانه وتعالى زلفى.

9. وهذه الجمل المحكية عن اللعين مما نطق به لسانه مقالا أو حالا، وما فيها من (اللامات) كلها للقسم، والمأمور به في الموضعين محذوف، ثقة بدلالة النظم عليه، ثم حذر تعالى عن متابعته فقال‏ ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله﴾ بإيثار ما يدعو إليه، مجاوزا ولاية الله، بترك ما يدعو إليه‏ ﴿فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ أي: بينا لمصيره إلى النار المؤبدة عليه.

10. ﴿يَعِدُهُمُ﴾ بأنهم الفائزون‏ ﴿وَيُمَنِّيهِمْ﴾ أي: ما لا ينالونه‏ ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ باطلا وضلالا، وإيهام نفع مما ليس فيه إلا الضرر. (2)

11. ﴿أُولَئِكَ﴾ أي: أولياء الشيطان‏ ﴿مَأْوَاهُمْ﴾ مصيرهم ومآلهم يوم القيامة ﴿جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ معدلا ومفرّا، ثم ذكر تعالى حال السعداء والأتقياء ومآلهم من الكرامة فقال سبحانه:

12. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: صدقت قلوبهم‏ ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي: عملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات‏ ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا﴾ أي: من تحت غرفها ومساكنها ﴿الْأَنْهَارُ﴾ أنهار الخمر والماء واللبن والعسل‏ ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ مقيمين في الجنة، لا يموتون ولا يخرجون منها ﴿أَبَدًا وَعْدَ الله حَقًّا﴾ صدقا واقعا لا محالة، وكيف لا يكون وعد الله حقّا ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾ وعدا وخبرا، وهو استفهام بمعنى النفي، أي: لا أحد أصدق منه قيلا، لا إله إلا هو ولا رب سواه، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول‏ في خطبته: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار والمقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانية الكاذبة لقرنائه، بوعد الله الصادق لأوليائه، والمبالغة في توكيده ترغيبا للعباد في تحصيله، و(القيل) مصدر، كالقال والقول.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/342.

(2) تفسير القاسمي: ‏3/347.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين تعالى بعض أحوال المشركين فقال: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾ أي إنهم لا يدعون من دون الله لقضاء حاجتهم وتفريج كروبهم، إلا إناثا كاللات والعزى ومناة، وكان لكل قبيلة صنم يسمونه أنثى بني فلان، أو المراد أسماء معبودات وآلهة ليس لها من حقيقة معنى الألوهية شيء كما قال في سورة أخرى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [الأعراف: 71] أي أسماء مؤنثة في الغالب، أو المراد معبودات ضعيفة أو عاجزة كالإناث لا تدافع عدوا ولا تدرك ثأرا، كما وصفها في موضع آخر بأنها لا تملك لهم ضرا ولا نفعا، وكانت العرب تصف الضعيف بالأنوثة لما ذكرنا من ضعف المرأة بل ضعف إناث الحيوان عن الذكور حتى قالوا للحديد اللين أنيث، ورجح الراغب وغيره أن وجه تسمية معبوداتهم إناثا هو كونها جمادات منفعلة لا فعل لها كالحيوان الذي هو فاعل منفعل كما وصفت في غير هذا الموضع بكونها لا تسمع ولا تبصر وليس لها أيد تبطش بها ولا أرجل تمشي بها، كأنه يذكرهم بهذا النوع من الأدلة على بطلان ألوهيتها بما ارتكبوه من العار والخزي بعبادة ما كان هذا وصفه، وقد استبعد محمد عبده تفسير الإناث بالأصنام المذكورة كما استبعد تفسيره بالملائكة لأنهم سموهم بنات الله، وقال: إن كثيرا من المفسرين قالوا إن المراد بالإناث هنا الموتى لأن العرب تطلق عليهم لفظ الإناث لضعفهم أو يقال لعجزهم ومع ذلك كانوا يعظمون بعض الموتى ويدعونها كما يفعل ذلك كثير من أهل الكتاب ومسلمي هذه القرون وهذا هو الذي اختاره الأستاذ، وقال: إن المراد بالدعاء ذلك التوجه المخصوص بطلب المعونة لهيبة غيبية لا يعقل الإنسان معناها.

2. ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾ أي وما يدعون إلا شيطانا مريدا، قالوا الشيطان يطلق على العارم الخبيث من الجن والإنس، والمريد والمارد المتعري من الخيرات من قولهم: شجر أمرد إذا تعرى من الورق ومنه رملة مرداء لم تنبت شيئا، أو هو من مرد على الشيء إذا مرن عليه حتى صار يأتيه بغير تكلف ومنه قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾ [التوبة: 101] أي شيطانا مرد على الإغواء والإضلال، أو تمرد واستكبر عن الطاعة

3. ثم وصفه وصفا آخر فقال: ﴿لَعَنَهُ الله وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾، واللعن عبارة عن الطرد والإبعاد مع السخط والإهانة والخزي، أي أبعده الله عن مواقع فضله وتوفيقه وموجبات رحمته، أي إنهم ما يدعون إلا ذلك الشيطان المريد الملعون الذي هو داعية الباطل والشر في نفس الإنسان بما يوسوس في صدره ويعده ويمنيه كما بينه قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ الخ النصيب الحصة والسهم من الشيء وهو ليس نصا في قلة ولا كثرة وقد يتبادر منه القلة، والمفروض المعين وأصله من الفرض والحز في الخشبة كما بيناه في أوائل السورة ومنه الفرض في العطاء، يحتمل أن يكون هذا النصيب طائفة الذين يضلهم ويغويهم ويزين لهم الشرك والمعاصي، وأن يكون حظه من نفس كل فرد من أفراد الناس وهو الاستعداد الفطري للباطل والشر المقابل للاستعداد الفطري للحق والخير وهو المختار.

4. قال محمد عبده: النصيب المفروض هو ما للشيطان في نفس كل أحد من الاستعداد للشر الذي هو أحد النجدين في قوله تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 10] فهذا هو عون الشيطان على الإنسان، وهو عام في الناس حتى المعصومين، ولكن أخبرنا الله تعالى أنه ليس له سلطان على عباده المخلصين، فإذا هو زين لهم شيئا لا يغلبهم على عمله، فما من إنسان إلا ويشعر من نفسه بوسوسة الشيطان فإن لم يكن بالشرك فبالمعصية والإصرار عليها أو الرياء في العبادة اه أقول وقد ورد في القرآن والحديث الصحيح ما يؤيد هذا وسنذكره إن شاء الله تعالى في موضع آخر من التفسير.

5. هذا القول وأمثاله في القرآن المجيد في مخاطبة إبليس مع البارئ جل وعلا هو من الأقوال التكوينية أي التي يعبر بها عن تكوين العالم وما خلقه الله عليه كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: 11] فقوله تعالى هذا للسماء والأرض قول تكويني لا تكليفي فهو من قبيل قوله للشيء ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ وقولهما: ﴿أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ تكويني أيضا فهو عبارة عن كونهما وجدتا كما أراد الله تعالى أن توجدا عليه كما يجيب العبد العاقل نداء مولاه، والمعنى أن الشيطان خلق هكذا فدعاؤه دعاء متمرد على الحق بعيد عن الخير مغري بإغواء البشر وإضلالهم كما عبر عن طبعه وسجيته بصيغة القسم.

6. ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ أي لأتخذن منهم نصيبا ولأضلنهم عن الحق ولأشغلنهم بالأماني الباطلة، أي هذا شأنه ومقتضى طبعه، والأماني جمع أمنية، قال الراغب: وهي الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء يقال تمنى الشيء إذا أحب أن يكون له وإن لم يتخذ له أسبابه كما يتمنى المقامر الثروة بالمقامرة وهي ليست سببا طبيعيا للغنى بل ليست من الكسب المعتاد، والمعنى الأصلي لهذه المادة التقدير، يقال منى لك الماني أي قدر لك المقدر، والمصدر المنى بالفتح، قال الراغب ومنه المنا الذي يوزن به فيما قيل، وأقول الأجدر بهذا أن يكون هو الأصل على المذهب المعروف في كون الأشياء الجامدة والمدركة بالحواس هي أصل للأشياء المعنوية، والتمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها، وقد يكون عن تخمين وظن، وقد يكون عن روية وبناء على أصل، ولما كان أكثره عن تخمين صار الكذب له أملك، فأكثره تصور ما لا حقيقة له كما قال الراغب، وقال محمد عبده: إن إضلاله لمن يضلهم هو عبارة عن صرفهم عن العقائد الصحيحة بمعنى أنه يشغلهم عن الدلائل الموصلة إلى الحق والهدى، وأما التمنية فهي في الأعمال بأن يزين لهم الاستعجال باللذات الحاضرة والتسويف بالتوبة وبالعمل الصالح، بل هذا اسم جامع لأنواع وحي الشيطان كلها وتغريره للناس بعفو الله ورحمته ومغفرته.

7. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ البتك يقارب البت في معناه العام الذي هو القطع والفصل فالبت يقال في قطع الحبل والوصل من الحسيات، وفي الطلاق يقال طلقها بتة أي طلاقا بائنا، والبتك يقال في قطع الأعضاء والشعر ونتف الريش وبتكت الشعر تناولت بتكة منه وهي بالكسر القطعة المنجذبة جمعها بتك قال الشاعر: (طارت وفي يده من ريشها بتك)، والمراد به ما كانوا يفعلونه من قطع آذان بعض الأنعام لأصنامهم كالبحائر التي كانوا يقطعون أو يشقون آذانها شقا واسعا ويتركون الحمل عليها، وكان هذا من أسخف أعمالهم الوثنية وسفه عقولهم قال محمد عبده: ولهذا خصه بالذكر وإن كان داخلا فيما قبله.

8. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾ تغيير خلق الله وسوء التصرف فيه عام يشمل التغيير الحسي كالخصاء وقد رووا تفسيره بالخصاء عن ابن عباس وأنس بن مالك وغيرهما فليعتبر به من يطعنون في الإسلام نفسه باتخاذ ملوك المسلمين وأمرائهم للخصيان ويظنون أن خصيهم جائز في هذا الدين ويشمل سائر أنواع التشويه والتمثيل بالناس الذي حرمه الشرع، وإذا كان قد حرم تبتيك آذان الأنعام فكيف لا يحرم سمل أعين الناس وصلم آذانهم وجدع أنوفهم وما أشبه ذلك مما كان يفعله بعض الملوك والأمراء الظالمين بغير حق ولا حجة ويشمل التغيير المعنوي وقد روي عن ابن عباس وغيره أن المراد هنا بخلق الله دينه لأنه دين الفطرة وهي الخلقة، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30] وروي أيضا تفسير تغيير خلق الله بوشم الأبدان ووشر الأسنان وكل منهما يقصد به الزينة وفي الحديث: (لعن الله الواشمة والمستوشمة) ولعل سبب التشديد فيه إفراطهم فيه حتى يصل إلى درجة التشويه بجعل معظم البدن ولا سيما الظاهر منه كالوجه واليدين أزرق بهذا النقش القبيح وكان الناس ولا يزالون يجعلون منه صورا للمعبودات وغيرها كما يرسم النصارى به الصليب على أيديهم وصدورهم، وأما وشر الأسنان بتحديدها وأخذ قليل من طولها إذا كانت فلا يظهر فيه معنى التغيير المشوه بل هو إلى تقليم الأظافر وتقصير الشعر أقرب، ولولا أن الشعر والأظافر تطول دائما ولا تطول الأسنان لما كان ثم فرق، وجملة القول أن التغيير الصوري الذي يجدر بالذم ويعد من إغراء الشيطان هو ما كان فيه تشويه وإلا لما كان من السنة الختان والخضاب وتقليم الأظافر.

9. قال محمد عبده: جرى قليل من المفسرين على أن المراد بتغيير خلق الله تغيير دينه وذهب بعضهم إلى أنه التغيير حسي وبعضهم إلى أنه التغيير المعنوي وبعضهم إلى ما يشملها، وقال كثير منهم إن المراد تغيير الفطرة الإنسانية بتحويل النفس عما فطرت عليه من الميل إلى النظر والاستدلال وطلب الحق وتربيتها على الأباطيل والرذائل والمنكرات، فالله سبحانه قد أحسن كل شيء خلقه وهؤلاء يفسدون ما خلق ويطمسون عقول الناس.

10. إن هذا القول هو بمعنى القول بأن المراد تغيير الدين لأن من قالوا أنه تغيير الدين استدلوا بآية ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ﴾ [الروم: 30] كما ذكرنا ذلك آنفا والدين الفطري الذي هو من خلق الله وآثار قدرته ليس هو مجموع الأحكام التي جاء بها الرسل عليهم السلام فإن هذه الأحكام من كلام الله الذي أوحاه إليهم ليبلغوه ويبينوه للناس، لا مما خلقه في أنفس الناس وفطرهم عليه وقد بينا الدين الفطري في غير هذا الموضع ومعنى كون الإسلام دين الفطرة، وحديث (كل مولود يولد على الفطرة) وقد أشار محمد عبده إلى ذلك بما نقلناه عنه آنفا من كون الإنسان فطر على طلب الحق والاستدلال والأخذ بما يظهر له بالدليل أنه الحق أو الخير إن لم يكن ظاهرا بالبداهة، ومن أصول الدين وأسسه الفطرية العبودية للسلطة الغيبية التي تنتهي إليها الأسباب وتقف دون اكتناه حقيقتها العقول أي لمصدر هذه السلطة والتصرف في الكائنات كلها وهو الله عز وجل، وكان أكبر وأشد مفسدات الفطرة حصر تلك السلطة العليا في بعض المخلوقات التي يستكبرها الإنسان ويعيا في فهم حقيقتها بادي الرأي وإن كان فهمها وعلمها ممكنا في نفسه لو جاءه طالبه من طريقه،وهذا هو أصل الشرك وقد بيناه آنفا في تفسير ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: 48] وفي مواضع أخرى، ويتلو هذا الفساد والإفساد التقليد الذي يمده ويؤيده ويحول بين العقول التي كمل الله بها فطرة البشر وبين عملها الذي خلقت لأجله وهو النظر والاستدلال لأجل التوصل إلى معرفة الحق والخير وترجيح الحق والخير متى تبينا له على ما يقابلهما.

11. ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ أي من يتخذ الشيطان وليا له وتلك حاله في التمرد والبعد من أسباب رحمة الله وفضله وإغوائه للناس وتزيينه لهم الشرور وسوء التصرف في فطرة الله وتشويه خلقه، بأن يواليه ويتبع وسوسته فقد خسر خسرانا بينا ظاهرا في معاشه ومعاده إذ يكون أسيرا للأوهام والخرافات يتخبط في عمله على غير هدى فيفوته الانتفاع التام بما وهبه الله من العقل وسائر القوى والمواهب.

12. ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ﴾ قال تعالى في سورة البقرة: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَالله يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا﴾ [البقرة: 268] أي يعد الناس الفقر إذا هم أنفقوا شيئا من أموالهم في سبيل الله، وهاهنا حذف مفعول الوعد فهو يشمل الوعد بالفقر ويشمل غيره من وعوده التي يوسوس بها فإنه إذا كان يعد من يريد التصدق الفقر ويوسوس إليه قائلا: إن مالك ينفد أو يقل فتكون فقيرا ذليلا، فإنه يسلك في الوسوسة إلى من يغريه بالقمار مسلكا آخر فيعده الغنى والثروة، وكذلك يعد من يغريه بالتعصب لمذهبه وإيذاء مخالفه فيه من أهل دينه الجاه والشهرة وبعد الصيت، ويؤيد وعوده الباطلة بالأماني الباطلة يلقيها إليه ولهذا أعاد ذكر الأمنية في مقام بيان خسران من يتخذ الشيطان وليا بعد أن ذكر عن لسان الشيطان قوله: ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾، ويدخل في وعد الشيطان وتمنيه ما يكون من أوليائه من الإنس وهم قرناء السوء الذين يزينون للناس الضلال والمعاصي ويعدونهم بالمال والجاه، ويمدونهم في الطغيان.

13. قال محمد عبده: لولا وعود الشيطان لما عني أولياؤه بنشر مذاهبهم الفاسدة وآرائهم وأضاليلهم، التي يبتغون بها الرفعة والجاه والمال، وهؤلاء موجودون في كل زمان ويعرفون بمقاصدهم، وقد دل على هذا ما قبله ولكنه ذكره ليصل به قوله: ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ أي إلا باطلا يغترون به ولا يملكون منه ما يحبون، أقول فسر بعضهم الغرور بأنه إظهار النفع فيما هو ضار أي في الحال أو المال كشرب الخمر والقمار والزنا وغير ذلك.

14. ﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ أي أولئك الذين يعبث بهم الشيطان بوسوسته أو بإغواء دعاة الباطل والشر من أوليائه مأواهم جهنم لا يجدون معدلا عنها يفرون إليه لأنهم منجذبون إليها بطبعهم يتهافتون فيها بأنفسهم، كما يتهافت الفراش في النار.

15. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ هؤلاء عباد الله الذين ليس للشيطان ولا لأوليائه عليهم من سبيل ذكرهم في مقابلة أولئك الذين يتولون الشيطان ويتبعون إغواءه على سنة القرآن في قرن الوعد بالوعيد: ﴿وَعْدَ الله حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾ أي لا قيل أصدق من قيله ولا وعد أحق من وعده لأنه هو القادر على أن يعطي كل ما وعد به، وأما الشيطان فهو عاجز عن الوفاء، على أنه لا يطاع لقدرته وإنما يدلي أولياءه بغرور، فوعده باطل وقوله كذب وزور، والقيل بوزن الفعل قلبت واوه ياء لكسر ما قبلها.

16. وقد جعل الله تعالى وعده الكريم بالجنات والخلود في النعيم لمن يؤمن به لا يشرك به شيئا، ويعمل الصالحات التي تغذي الإيمان وترفع النفس، وتقدم مثل هذا مرارا.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/347.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾ أي هؤلاء المشركون لا يدعون لقضاء حاجتهم وتفريج كربهم إلا أمواتا فقد كانوا يعظمون الموتى ويدعونها كما يفعل ذلك كثير من أهل الكتاب ومسلمى هذه القرون، أو إلا إناثا كاللات والعزّى، وقد كان لكل قبيلة صنم يسمونه أنثى بنى فلان‏ ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾ أي وما يعبدون بعبادتها إلا شيطانا مريدا، إذ هو الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم بها، فكانت طاعتهم له عبادة.

2. ﴿لَعَنَهُ الله﴾ أي أبعده الله عن رحمته وفضله، فإنه داعية الشر والباطل في نفس الإنسان بما يوسوس في صدره ويعده ويمنّيه، ﴿وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ النصيب المفروض هو ما للشيطان في نفس كل أحد من الاستعداد للشر، إذ ما من إنسان إلا يشعر من نفسه بوسوسة الشيطان، فإن لم يكن بالشرك فبالمعصية والإصرار عليها أو الرياء في العبادة، لكن الله أخبر أنه ليس له سلطان على عباده المخلصين، وقد جاء في القرآن والحديث ما يدل على هذا، والخلاصة ـ إن الشيطان خلق متمردا على الحق، بعيدا من الخير، مغرى بإغواء البشر وإضلالهم.

3. ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ إضلال الشيطان لمن يضلهم هو صرفهم عن العقائد الصحيحة، وشغلهم عن الدلائل الموصلة إلى الحق والهدى، وتمنيته لهم: تزيينه لهم الاستعجال باللذات الحاضرة والتسويف بالتوبة والعمل الصالح.

4. والخلاصة ـ إن من شأن الشيطان ومقتضى طبعه إضلال العباد وشغلهم بالأماني الباطلة، كرحمة الله للمجرمين بغير توبة، والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة، وتزيين لذّات الحياة العاجلة على ثواب الآجلة ونعيمها.

5. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ أي ولآمرنهم بالضلال فليقطّعنّ آذان الأنعام بموجب أمرى، والمراد به ما كانوا يفعلونه من قطع آذان بعض الأنعام لأصنامهم كالبحائر التي كانوا يقطعون آذانها أو يشقونها شقا واسعا ويتركون الحمل عليها، وهذا من سخيف أعمالهم الوثنية الدالة على ضعف عقولهم.

6. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ تغيير خلق الله وسوء التصرف فيه شامل للتغيير الحسى كالخصاء، وروى ذلك عن ابن عباس وأنس بن مالك، وللتغيير المعنوي، وروى أيضا عن ابن عباس وغيره، وعلى هذا فالمراد بخلق الله دينه، لأنه دين الفطرة وهي‏ الخلقة، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ أي إنه يراد به تغيير الفطرة الإنسانية عما فطرت عليه من الميل إلى النظر والاستدلال وطلب الحق وتربيتها وتعويدها الأباطيل والرذائل والمنكرات، فالله قد أحسن كل شيء خلقه، وهؤلاء يفسدون ما خلق الله ويطمسون عقول الناس.

7. والخلاصة ـ إن الدين الفطري الذي هو من خلق الله وآثار قدرته ليس هو مجموع الأحكام التي جاء بها الرسل ليبلغوها للناس، بل هو ما أودعه الله في فطرة البشر من توحيده والاعتراف بقدرته وجلاله، وهو ما أشار إليه في الحديث (كل مولود يولد على الفطرة)، ومن أهم أسس هذا الدين الفطرية العبودية للسلطة الغيبية التي تنتهى إليها الأسباب، وتقف دون الوصول إلى حقيقتها العقول.

8. ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ أي ومن يتبع الشيطان ووسوسته وإغواءه وهو البعيد من أسباب رحمة الله وفضله، فقد خسر خسرانا ظاهرا في الدنيا والآخرة؛ إذ أنه يكون أسير الأوهام والخرافات، يتخبط في عمله على غير هدى، ويفوته الانتفاع التام بما وهبه الله من العقل والمواهب الكسبية التي أوتيها الإنسان وميّز بها من بين أصناف الحيوان.

9. ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ﴾ فيعد الناس الفقر إذا هم أنفقوا شيئا من أموالهم في سبيل الله، ويوسوس لهم بأن أموالهم تنفد أو تقلّ ويصبحون فقراء أذلاء، ويعدهم الغنى والثروة حين الإغراء بالقمار، ويعد من يغريه بالتعصب لرأيه وإيذاء مخالفه فيه من أهل دينه للجاه والشهرة وبعد الصيت، ويؤيد هذه الوعود بالأماني الباطلة يلقيها إليهم.

10. ويدخل في وعد الشيطان وتمنيته ما يكون من أوليائه من الإنس، وهم قرناء السوء الذين يزينون للناس الضلال والمعاصي ويمدونهم في الطغيان وينشرون مذاهبهم الفاسدة وآراءهم الضالة التي يبتغون بها الرفعة والجاه والمال، وهؤلاء يوجدون في كل زمان ومكان.

11. ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ أي وما يعدهم الشيطان إلا باطلا يغترون به ولا يملكون منه ما يحبون، فيزين لهم النفع في بعض الأشياء وهي مشتملة على كثير من الآلام والمضارّ؛ فالزانى أو المقامر أو شارب الخمر يخيل إليه أنه يتمتع باللذات بينما هو في الحقيقة يتمتع بلذائذ وقتية تعقبها آلام دنيوية طويلة المدى، وخيمة العواقب، إلى عذاب أخروي لا يعلم كنهه إلا من أحاط يكل شيء علما.

12. وبعد أن بين حال أولياء الشيطان وما يعدهم به الشيطان ـ ذكر عاقبتهم فقال: ﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ أي أولئك الذين يعبث بهم الشيطان بوسوسته، أو بإغواء دعاة الباطل من أوليائه، مأواهم جهنم لا يجدون عنها مهربا يفرّون إليه، إذ هم بطبيعتهم ينجذبون إليها ويتهافتون عليها تهافت الفراش على النار، فتصلى وجوههم وجنوبهم وظهورهم.

13. ثم بعدئذ ذكر عاقبة من لا يستجيب دعوة الشيطان ولا يصيخ لأمره ونهيه فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ أي إنهم سيتمتعون بالنعيم المقيم في جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، وذلك هو الفوز العظيم لمن سمت نفسه عن دنس الشرك، فلم تجعل لله أندادا ولم تحط بها الخطيئة في صباحها ومسائها في غدوّها ورواحها.

14. ثم ذكر أن ما وعدهم به هو الوعد الحق الذي لا شك فيه فقال: ﴿وَعْدَ الله حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾ أي ذلك الذي وعدكم الله به هو الوعد الحق، فهو القادر على أن يعطى ما وعد بفضله وجوده، وواسع كرمه ورحمته، وأما وعد الشيطان فهو غرور من القول وزور، إذ هو عاجز عن الوفاء فهو يدلى إلى‏ أوليائه بباطله، فحقه ألا يستجاب له أمر ولا نهى، ولا تتّبع له نصيحة، فوساوسه أباطيل، وسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/160.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يصف الله تعالى بعض أوهام الجاهلية العربية في شركها، وأساطيرها حول اتخاذ الله بنات ـ هن الملائكة ـ وحول عبادتهم للشيطان ـ وقد عبدوه كما عبدوا الملائكة وتماثيلها الأصنام ـ كما يصف بعض شعائرهم في تقطيع أو تشقيق آذان الأنعام المنذورة للآلهة! وفي تغيير هم خلق الله، والشرك بالله، وهو مخالف للفطرة التي فطر الله الناس عليها.

2. لقد كان العرب ـ في جاهليتهم ـ يزعمون أن الملائكة بنات الله، ثم يتخذون لهذه الملائكة تماثيل يسمونها أسماء الإناث: ﴿اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ﴾ وأمثالها ثم يعبدون هذه الأصنام ـ بوصفها تماثيل لبنات الله ـ يتقربون بها إلى الله زلفى.. كان هذا على الأقل في مبدأ الأمر.. ثم ينسون أصل الأسطورة، ويعبدون الأصنام ذاتها، بل يعبدون جنس الحجر.. كذلك كان بعضهم يعبد الشيطان نصا.. قال الكلبي: كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن..

3. على أن النص هنا أوسع مدلولا، فهم في شركهم كله إنما يدعون الشيطان، ويستمدون منه: هذا الشيطان صاحب القصة مع أبيهم آدم؛ الذي لعنه الله، بسبب معصيته وعدائه للبشر، والذي بلغ من حقده بعد طرده ولعنته، أن يأخذ من الله سبحانه إذنا بأن يغوي من البشر كل من لا يلجأ إلى حمى الله.

4. إنهم يدعون الشيطان ـ عدوهم القديم ـ ويستوحونه ويستمدون منه هذا الضلال، ذلك الشيطان الذي لعنه الله، والذي صرح بنيته في إضلال فريق من أبناء آدم، وتمنيتهم بالأمنيات الكاذبة في طريق الغواية، من لذة كاذبة، وسعادة موهومة، ونجاة من الجزاء في نهاية المطاف! كما صرح بنيته في أن يدفع بهم إلى أفعال قبيحة، وشعائر سخيفة، من نسج الأساطير، كتمزيق آذان بعض الأنعام، ليصبح ركوبها بعد ذلك حراما، أو أكلها حراما ـ دون أن يحرمها الله ـ ومن تغيير خلق الله وفطرته بقطع بعض أجزاء الجسد أو تغيير شكلها في الحيوان أو الإنسان، كخصاء الرقيق، ووشم الجلود.. وما إليها من التغيير والتشويه الذي حرمه الإسلام.

5. وشعور الإنسان بأن الشيطان ـ عدوه القديم ـ هو الذي يأمر بهذا الشرك وتوابعه من الشعائر الوثنية، يثير في نفسه ـ على الأقل ـ الحذر من الفخ الذي نصبه العدو، وقد جعل الإسلام المعركة الرئيسية بين الإنسان والشيطان، ووجه قوى المؤمن كلها لكفاح الشيطان والشر الذي ينشئه في الأرض؛ والوقوف تحت راية الله وحزبه، في مواجهة الشيطان وحزبه: وهي معركة دائمة لا تضع أوزارها، لأن الشيطان لا يمل هذه الحرب التي أعلنها منذ لعنه وطرده، والمؤمن لا يغفل عنها، ولا ينسحب منها، وهو يعلم أنه إما أن يكون وليا للّه، وإما أن يكون وليا للشيطان؛ وليس هنالك وسط.. والشيطان يتمثل في نفسه وما يبثه في النفس من شهوات ونزوات؛ ويتمثل في أتباعه من المشركين وأهل الشر عامة، والمسلم يكافحه في ذات نفسه، كما يكافحه في أتباعه.. معركة واحدة متصلة طوال الحياة.

6. ومن يجعل الله مولاه فهو ناج غانم، ومن يجعل الشيطان مولاه فهو خاسر هالك: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾..

7. ويصور السياق القرآني فعل الشيطان مع أوليائه، في مثل حالة الاستهواء، ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾، إنها حالة استهواء معينة هي التي تنحرف بالفطرة البشرية عن الإيمان والتوحيد، إلى الكفر والشرك، ولولا هذا الاستهواء لمضت الفطرة في طريقها، ولكان الإيمان هو هادي الفطرة وحاديها، وإنها حالة استهواء معينة هي التي يزين فيها الشيطان للإنسان سوء عمله، فيراه حسنا! ويعده الكسب والسعادة في طريق المعصية، فيعدو معه في الطريق! ويمنيه النجاة من عاقبة ما يعمل فيطمئن ويمضي في طريقه إلى المهلكة! ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾..

8. وحين يرتسم المشهد على هذا النحو، والعدو القديم يفتل الحبال، ويضع الفخ، ويستدرج الفريسة، لا تبقى إلا الجبلات الموكوسة المطموسة هي التي تظل سادرة لا تستيقظ، ولا تتلفت ولا تحاول أن تعرف إلى أي طريق تساق، وإلى أية هوة تستهوى!

9. وبينما هذه اللمسة الموقظة تفعل فعلها في النفوس، وتصور حقيقة المعركة، وحقيقة الموقف، يجيء التعقيب ببيان العاقبة في نهاية المطاف: عاقبة من يستهويهم الشيطان، ويصدق عليهم ظنه، وينفذ فيهم ما صرح به من نيته الشريرة.. وعاقبة من يفلتون من حبالته، لأنهم آمنوا بالله حقاً، والمؤمنون بالله حقا في نجوة من هذا الشيطان لأنه ـ لعنة الله عليه ـ وهو يستأذن في إغواء الضالين، لم يؤذن له في المساس بعباد الله المخلصين، فهو إزاءهم ضعيف ضعيف؛ كلما اشتدت قبضتهم على حبل الله المتين: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ الله حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾..

10. فهي جهنم ولا محيص عنها لأولياء الشيطان.. وهي جنات الخلد لا خروج منها لأولياء الله.. وعد الله: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾؟ والصدق المطلق في قول الله هنا؛ يقابل الغرور الخادع، والأماني الكاذبة في قول الشيطان هناك! وشتان بين من يثق بوعد الله، ومن يثق بتغرير الشيطان!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/761.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾، الضمير في قوله تعالى: ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ يعود إلى الله سبحانه وتعالى، و(إن) بمعنى حرف النفي (ما) أي ما يدعو هؤلاء المشركون من المعبودين الذين يعبدونهم من دون الله، إلّا إناثا، والشيطان المريد، هو إبليس الذي تمرّد على الله، وجرؤ على عصيانه والخروج عن طاعته.. والمعنى: أن هؤلاء الذين أشركوا بالله، وعبدوا من عبدوا من دونه، لم يكن تقديرهم لهؤلاء المعبودين، إلا عن نظر سقيم، وقلب مريض، وعقل سفيه، فما هؤلاء المعبودون الذين اتخذهم المشركون أربابا لهم من دون الله ـ إلا أحد شيئين:

أ. أولهما: إناث.. أي معبودات من المصنوعات، يعملونها بأيديهم، في صورة أوثان وأصنام، ثم يزينونها بالملابس والحلىّ، كما تتزين النساء! وعبادة مثل هذه المصنوعات سفه ليس وراءه سفه، وضلال ليس بعده ضلال:

لأنها (أولا) أشياء ميتة، لا تسمع، ولا تبصر، ولا تملك من أمر وجودها شيئا.. فكيف يراد منها الخير لغيرها، أو يرجى منها العون لمن يقوم على أمرها، ويحفظ وجودها.

ولأنها (ثانيا) لم تتّخذ من صور الأشياء الجانب القوى منها، وهو جانب الذكورة، بل أضفى عليها صانعوها مظهر الأنوثة، فزادها ذلك ضعفا إلى ضعفها..

وفي الكشف عن هذا الجانب الضعيف من هذه الأوثان والأصنام، وعرضها لنظر عابديها في هذه الصورة ـ صورة الإناث ـ إمعان في تسفيه هؤلاء السفهاء الذين عبدوها، وتخاضعوا بين يديها.. إذ كيف يستقيم هذا مع تفكيرهم، وما أخذوا به أنفسهم من امتهان الأنثى، ونظرتهم إليها تلك النظرة المنكرة المتكرهة؟

وكيف يكون موقفهم مع الأنثى هذا الموقف الذي ذكره القرآن الكريم عنهم في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾ [النحل: 58 ـ 59] ـ كيف يكون هذا موقفهم من الإناث وهنّ خلق سوىّ، وفلذة من فلذات أكبادهم، ثم يكون هذا شأنهم مع تلك الصور التي يتخذونها من الحجر، والخشب، والمعدن، ويلبسونها زيّ الإناث، ويغرقونها بالحلى والزينة؟ أهذا مما يستقيم مع منطق، أو يصح في عقل؟ هذه صورة من الصورتين، اللتين يعبدهما المشركون من دون الله!.. وهي صورة حسيّة، يتعامل معها المشركون بحواسّهم ومشاعرهم..

ب. أما الصورة الأخرى، فهي (الشيطان المريد).. وهو وإن كان شيئا غير محسوس، فإنّه يتمثل في الأهواء المتسلطة على النفس، وفي تلك الوسوسات الضالّة التي تزيّن للإنسان الشرّ، وتغريه بالضلال! وليست تلك المعبودات، التي يعبدها المشركون بالله، ويتخذون لها تلك الصور والأشكال إلّا إملاء من وساوس الشيطان لهم، وإلا مظهرا من مظاهر إغرائه وإغوائه.. فهؤلاء الذين يعبدون الأوثان من دون الله، هم عابدون للشيطان أيضا.. فما هذه الصور المعبودة إلّا بنات وسوساته في صدورهم، ونفثاته في تفكيرهم..

2. ﴿لَعَنَهُ الله﴾ صفة لهذا الشيطان المريد، الذي اتخذه هؤلاء المشركون وليا من دون الله.. وفي هذا ضلال إلى ضلال، وسفه إلى سفه.. إذ أنهم أعطوا ولاءهم لمن كان عدوّا للّه، واقعا تحت لعنته.. فهم ـ والأمر كذلك ـ أعداء للّه، واقعون تحت لعنته.

3. ﴿وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ عرض فاضح لهذا الشيطان المتمرد على الله، المأخوذ بلعنة الله، وفي عطف قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ على قوله سبحانه: ﴿لَعَنَهُ الله﴾ ما يشير إلى أن هذا القول الآثم من هذا الشيطان المريد هو لعنة أخرى من لعنات الله عليه، لما فيه من تحدّ للّه، ومحاربة له في عباده!

4. في قوله تعالى: ﴿مِنْ عِبَادِكَ﴾ إشارة أخرى إلى تمرد هذا الشيطان المريد، وإمعانه في محادّة الله ومحاربته.. إذ كيف تسوّل له نفسه أن يدخل حمى الله، وأن يفسد عباد الله، الذين خلقهم بيده، وأضافهم إلى ذاته؟

5. ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء الذين خلقهم الله بيده، وأضافهم إلى ذاته، هم الذين كانوا حربا على الله في جبهة الشيطان، فتفلتوا من هذا الحمى الكريم، الذي أقامهم الله فيه.. ومدوا أيديهم إلى هذا الشيطان المريد، وأعطوه الفرصة فيهم، ليفسد عليهم هذه الفطرة السليمة التي أودعها الله كيانهم، وليضلّ عقولهم عن هذا الطريق الذي أراه الله لهم، غير ملتفتين إلى تلك الوصاة التي وصّاهم الله بها، في شأن هذا العدوّ الراصد لهم، والمتربص بهم، حيث كان قول الله لهم: ﴿إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ﴾

6. وفي هذا الموضع الذي وضع الله الإنسان فيه، تكريم لهذا الإنسان، وإشعار له بأنه أهل لأن يحرس نفسه من هذه الآفة المتسلطة عليه، وأن يحتفظ بتلك الهبات العظيمة التي منحها الله إياه، تلك الهبات التي لو التفت إليها، وأحسن استخدامها، والقيام عليها، لكانت قوة حارسة له من الشيطان وخداعه، ولكان له منها حمى لا تناله وساوسه ومغوياته.. ولكن غفل كثير من الناس عن هذا العدوّ، بل وسالمه وأسلم زمامه له، فكان ضياعه وهلاكه جزاء وفاقا له.

7. في قوله تعالى: ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ إشارة إلى أن هؤلاء الذين أوقعهم الشيطان في حبالته، واصطادهم في شباكه، هم من أراد الله لهم أن يكونوا في أصحاب النار، كما يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى: 7] وكما يقول جلّ شأنه: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود: 119].. وكما يقول الرسول الكريم فيما يروى عن على بن أبى طالب، قال: (كنّا في جنازة في بقيع الفرقد، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقعد ومعه مخصرة، فنكّس رأسه وجعل ينكت بمخصرته، فقال: (ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من الجنة أو النار، وإلّا قد كتبت شقية أو سعيدة) فقال له رجل: يا رسول الله: أفلا نتّكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منّا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل أهل الشقاء؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اعملوا فكل ميسّر.. أما أهل السعادة فميسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فميسّرون لعمل أهل الشقاوة.. ثم قرأ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾

8. وصف النصيب بأنه نصيب مفروض يكشف عن أنه قدر محدّد، أي أن أولياء الشيطان هؤلاء، هم فريق محصور بعدده وصفته، لا يزيد ولا ينقص، كما أن أولياء الله، هم فريق آخر مقابل لهذا الفريق، معروف بعدده وصفته.. ومجموع الفريقين هم الناس جميعا.. الشقىّ منهم والسعيد، وأصحاب النار وأصحاب الجنة.. أولياء الشيطان، وأولياء الرحمن!

9. قوله تعالى: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ هو بيان لقولة الشيطان: ﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ فهذا النصيب المفروض هم الذين سيتخذهم الشيطان أولياء له، وسيتعاطى معهم كؤوس المودة والصفاء، وهي كؤوس تدور برؤوس شاربيها، وتفسد عليهم عقولهم، وتحوّلهم دمى في يد الشيطان، يعبث بها كيف يشاء.. ولهذا كان واثقا من أنه قادر على نفاذ أمره وإمضاء مشيئته فيهم.. ولهذا جاء أمره إليهم جازما مؤكدا: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ أي يلقى بهم في مهاوى الضلال، والظلام.. بعيدا عن الهدى والنور! ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ أي يمدّ لهم في حبال الأماني والغرور، بما يزيّن لهم من الشرور والآثام.. وبما يخيّل لهم من الأوهام والأباطيل.. فيرون الشر خيرا، والقبيح حسنا، والبعيد قريبا.

10. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ وذلك شيء من السّخف والضلال، الذي زينه لهم الشيطان وأغواهم به، وهو أنهم كانوا إذا ولدت الناقة خمسة بطون، وكان آخرها ذكرا احتفوا بها وأكرموها، وكان مظهر ذلك أن يقطعوا أذنيها أو يشقّوهما ﴿فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ ثم يرسلونها فلا يركب ظهرها، ولا يحمل عليه شيء أفليس ذلك هو غاية السفه، ومنتهى الضلال؟ ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ وذلك بتقطيع آذان الأنعام هذه، ونحو هذا من المراسم التي تصوّرها لهم الأوهام والأباطيل.

11. وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ عرض للصورة الشنعاء التي ينتهى إليها أمر هؤلاء الذين استذلهم الشيطان، واستبدّ بهم.. فليس بعد خسرانهم خسران، ولا وراء ضياعهم ضياع.

12. وقوله تعالى: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ هو كشف لهذا المحصول الذي يجنيه أتباع الشيطان.. إنها ليست إلا أماني باطلة، وسرابا خادعا، ﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ فتلك هي عاقبة الظالمين الغاوين.. مصيرهم جهنم وساءت مصيرا، لا متحوّل لهم عنها، ولا إفلات لهم منها.

13. سؤال وإشكال: وهنا سؤال، أو أسئلة، عن هذه التفرقة بين الناس، إذ كانوا فريقين: سعداء وأشقياء، أولياء الله وأولياء الشيطان.. ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾؟ فلم هذه التفرقة بين الناس، وهم جميعا عباد الله وصنعة يده؟ وما فضل هؤلاء الذين كتبت لهم الجنة، وما جناية هؤلاء الذين كتبوا في أصحاب النار.. هكذا قدرا مقدورا، وقضاء لازما من الأزل؟ وما قيمة إحسان المحسن وإساءة المسيء إذا كان قد تحدد المصير المحتوم لكل إنسان؟ والجواب: هذه خواطر تتوارد على الإنسان، وهو يستمع إلى حكم الله هذا في عباده.. وإذا كان من تمام إيمان المؤمن أن يتلقى أوامر الله وأحكامه بالتسليم، وأن يتقبلها بالرضا والحمد ـ فإنه من غير المستطاع أن يمنع المؤمن مثل هذه الخواطر من أن تطوف بعقله حينا بعد حين، وأن تتصاعد منها أدخنة وغيوم، قد تنحسر مريعا، أو تتلبث وتتسكع قليلا أو كثيرا.. بل إنه ـ والأمر كذلك ـ لمن الخير أنه يواجه الإنسان هذه الخواطر، وأن يقلّبها بين يديه، حتى يعرف مصادرها ومواردها، فإنها كثيرا ما تكون مداخل لخداع الشيطان وضلالاته، وهذا ما سنعرض له في بحث خاص.. إن شاء الله.

14. الفريق الآخر المقابل لأولياء الشيطان، هم المؤمنون، أولياء الله، الذين أعطوا هذه الولاية حقها، فامتثلوا أوامر ربهم، واجتنبوا نواهيه.. وإذا كان أولياء الشيطان مأواهم جهنم، فإن أولياء الله مأواهم الجنة، خالدين فيها أبدا.. فذلك وعد الله لهم، فيما أخبرهم به من كلماته على لسان رسله.. ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)﴾ ـ أي قولا ـ وحاش لله أن يخلف وعده، فإن خلف الوعد لا يكون إلا عن عجز وضعف، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/903.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان قوله: ﴿إِنْ يَدْعُونَ﴾ بيانا لقوله: ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً﴾ [النساء: 116]، وأي ضلال أشدّ من أن يشرك أحد بالله غيره ثم أن يدّعي أنّ شركاءه إناث، وقد علموا أنّ الأنثى أضعف الصنفين من كلّ نوع، وأعجب من ذلك أن يكون هذا صادرا من العرب، وقد علم الناس حال المرأة بينهم، وقد حرموها من حقوق كثيرة واستضعفوها، فالحصر في قوله: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً﴾ قصر ادّعائي لأنّه أعجب أحوال إشراكهم، ولأنّ أكبر آلهتهم يعتقدونها أنثى وهي: اللّات، والعزّى، ومناة، فهذا كقولك لا عالم إلّا زيد، وكانت العزّى لقريش، وكانت مناة للأوس والخزرج، ولا يخفى أنّ معظم المعاندين للمسلمين يومئذ كانوا من هذين الحيّين: مشركو قريش هم أشدّ الناس عداء للإسلام: ومنافقوا المدينة ومشركوها أشدّ الناس فتنة في الإسلام.

2. معنى ﴿وإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً﴾ أنّ دعوتهم الأصنام دعوة للشيطان، والمراد جنس الشيطان، وإنما جعلوا يدعون الشيطان لأنه الذي سوّل لهم عبادة الأصنام، والمريد: العاصي والخارج عن الملك، وفي المثل (تمرّد مارد وعزّ الأبلق) اسما حصنين للسموأل، فالمريد صفة مشبّهة مشتقّة من مرد ـ بضم الراء ـ إذا عتا في العصيان.

3. جملة ﴿لَعَنَهُ الله﴾ صفة لشيطان، أي أبعده؛ وتحتمل الدعاء عليه، لكن المقام ينبو عن الاعتراض بالدعاء في مثل هذا السياق، وعطف وقالَ: ﴿لَأَتَّخِذَنَّ﴾ عليه يزيد احتمال الدعاء بعدا، وسياق هذه الآية كسياق أختها في قوله: ﴿فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قالَ أَنْظِرْنِي إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: 13 ـ 16] الآية فكلّها أخبار، وهي تشير إلى ما كان في أول خلق البشر من تنافر الأحوال الشيطانية لأحوال البشر، ونشأة العداوة عن ذلك التنافر، وما كوّنه الله من أسباب الذود عن مصالح البشر أن تنالها القوى الشيطانية نوال إهلاك بحرمان الشياطين من رضا الله تعالى، ومن مداخلتهم في مواقع الصلاح، إلّا بمقدار ما تنتهز تلك القوى من فرض ميل القوى البشرية إلى القوى الشيطانية وانجذابها، فتلك خلس تعمل الشياطين فيها عملها، وهو ما أشار إليه قوله تعالى: ﴿قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ﴾ [الحجر: 41، 32]، وتلك ألطاف من الله أودعها في نظام الحياة البشرية عند التكوين، فغلب بسببها الصلاح على جماعة البشر في كلّ عصر، وبقي معها من الشرور حظّ يسير ينزع فيه الشيطان منازعه وكل الله أمر الذياد عنه إلى إرادة البشر، بعد تزويدهم بالنصح والإرشاد بواسطة الشرائع والحكمة.

4. فمعنى الحكاية عنه بقوله: ﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً﴾ أنّ الله خلق في الشيطان علما ضروريا أيقن بمقتضاه أنّ فيه المقدرة على فتنة البشر وتسخيرهم، وكانت في نظام البشر فرص تدخل في خلالها آثار فتنة الشيطان، فذلك هو النصيب المفروض، أي المجعول بفرض الله وتقديره في أصل الجبلّة، وليس قوله: ﴿مِنْ عِبادِكَ﴾ إنكارا من الشيطان لعبوديته للّه، ولكنّها جلافة الخطاب النّاشئة عن خباثة التفكير المتأصّلة في جبلّته، حتّى لا يستحضر الفكر من المعاني المدلولة إلّا ما له فيه هوى، ولا يتفطّن إلى ما يحفّ بذلك من الغلظة، ولا إلى ما يفوته من الأدب والمعاني الجميلة، فكلّ حظّ كان للشيطان في تصرّفات البشر من أعمالهم المعنوية: كالعقائد والتفكيرات الشريرة، ومن أعمالهم المحسوسة: كالفساد في الأرض، والإعلان بخدمة الشيطان: كعبادة الأصنام، والتقريب لها، وإعطاء أموالهم لضلالهم، كلّ ذلك من النصيب المفروض.

معنى ﴿ولَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ إضلالهم عن الحق، ومعنى: ﴿ولَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ لأعدنّهم مواعيد كاذبة، ألقيها في نفوسهم، تجعلهم يتمنّون، أي يقدّرون غير الواقع واقعا، أغراقا، في الخيال، ليستعين بذلك على تهوين انتشار الضلالات بينهم، يقال: منّاه، إذا وعده المواعيد الباطلة، وأطمعه في وقوع ما يحبّه ممّا لا يقع، قال كعب: (فلا يغرنك ما منّت وما وعدت)، ومنه سمّي بالتمنّي طلب ما لا طمع فيه أو ما فيه عسر.

معنى: ﴿ولَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ﴾ أي آمرنّهم بأن يبتّكوا آذان الأنعام فليبتّكنها، أي يأمرهم فيجدهم ممتثلين، فحذف مفعول أمر استغناء عنه بما رتّب عليه، والتبتيك: القطع، قال تأبّط شرا:

çويجعل عينيه ربيئة قلبه... إلى سلّة من حدّ أخلق باتك‏é

5. وقد ذكر هنا شيئا ممّا يأمر به الشيطان ممّا يخصّ أحوال العرب، إذ كانوا يقطعون آذان الأنعام التي يجعلونها لطواغيتهم، علامة على أنّها محرّرة للأصنام، فكانوا يشقّون آذان البحيرة والسائبة والوصيلة، فكان هذا الشقّ من عمل الشيطان، إذ كان الباعث عليه غرضا شيطانيا.

6. ﴿ولَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ تعريض بما كانت تفعله أهل الجاهلية من تغيير خلق الله لدواع سخيفة، فمن ذلك ما يرجع إلى شرائع الأصنام مثل فق‏ء عين الحامي، وهو البعير الذي حمى ظهره من الركوب لكثرة ما أنسل، ويسيّب للطواغيت، ومنه ما يرجع إلى أغراض ذميمة كالوشم إذ أرادوا به التزيّن، وهو تشويه، وكذلك وسم الوجوه بالنار.

7. ويدخل في معنى تغيير خلق الله وضع المخلوقات في غير ما خلقها الله له، وذلك من الضلالات الخرافية، كجعل الكواكب آلهة، وجعل الكسوفات والخسوفات دلائل على أحوال الناس، ويدخل فيه تسويل الإعراض عن دين الإسلام، الذي هو دين الفطرة، والفطرة خلق الله؛ فالعدول عن الإسلام إلى غيره تغيير لخلق الله.

8. وليس من تغيير خلق الله التصرّف في المخلوقات بما أذن الله فيه ولا ما يدخل في معنى الحسن؛ فإنّ الختان من تغيير خلق الله ولكنّه لفوائد صحيّة، وكذلك حلق الشعر لفائدة دفع بعض الأضرار، وتقليم الأظفار لفائدة تيسير العمل بالأيدي، وكذلك ثقب الآذان للنساء لوضع الأقراط والتزيّن، وأمّا ما ورد في السنّة من لعن الواصلات والمتنمّصات والمتفلّجات للحسن فممّا أشكل تأويله، وأحسب تأويله أنّ الغرض منه النهي عن سمات كانت تعدّ من سمات العواهر في ذلك العهد، أو من سمات المشركات، وإلّا فلو فرضنا هذه منهيّا عنها لما بلغ النهي إلى حدّ لعن فاعلات ذلك، وملاك الأمر أن تغيير خلق الله إنّما يكون إنما إذا كان فيه حظّ من طاعة الشيطان، بأن يجعل علامة لنحلة شيطانيّة، كما هو سياق الآية واتّصال الحديث بها، وقد أوضحنا ذلك في كتابي المسمّى: (النظر الفسيح على مشكل الجامع الصحيح)

9. جملة ﴿ومَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً﴾ تذييل دالّ على أنّ ما دعاهم إليه الشيطان: من تبتيك آذان الأنعام، وتغيير خلق الله، إنّما دعاهم إليه لما يقتضيه من الدلالة على استشعارهم بشعاره، والتديّن بدعوته، وإلّا فإنّ الشيطان لا ينفعه أن يبتّك أحد أذن ناقته، أو أن يغيّر شيئا من خلقته، إلّا إذا كان ذلك للتأثّر بدعوته.

10. ﴿يَعِدُهُمْ ويُمَنِّيهِمْ﴾ استئناف لبيان أنّه أنجز عزمه فوعد ومنّى وهو لا يزال يعد ويمنّي، فلذلك جيء بالمضارع، وإنّما لم يذكر أنّه يأمرهم فيبتّكون آذان الأنعام ويغيّرون خلق الله لظهور وقوعه لكلّ أحد.

11. جيء باسم الإشارة في قوله: ﴿أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ﴾ لتنبيه السامعين إلى ما يرد بعد اسم الإشارة من الخبر وأنّ المشار إليهم أحرياء به عقب ما تقدّم من ذكر صفاتهم.

12. المحيص: المراغ والملجأ، من حاص إذا نفر وراغ، وفي حديث هرقل (فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب)، وقال جعفر بن علبة الحارثي:

çولم ندر إن حصنا من الموت حيصة... كم العمر باق والمدى متطاول‏é

روي: حصنا وحيصة ـ بالحاء والصاد المهملتين ـ ويقال: جاض أيضا ـ بالجيم والضاد المعجمة ـ، وبهما روي بيت جعفر أيضا.

13. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ الله حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾ عطف على جملة ﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ [النساء: 121] جريا على عادة القرآن في تعقيب الإنذار بالبشارة، والوعيد بالوعد.

14. ﴿وَعَدَ الله﴾ مصدر مؤكّد لمضمون جملة: ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي﴾، وهي بمعناه، فلذلك يسمّي النحاة مثله مؤكّدا لنفسه، أي مؤكّدا لما هو بمعناه.

15. ﴿حَقًّا﴾ مصدر مؤكّد لمضمون‏ ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ﴾، إذ كان هذا في معنى الوعد، أي هذا الوعد أحقّقه حقّا، أي لا يتخلّف، ولمّا كان مضمون الجملة التي قبله‏ خاليا عن معنى الإحقاق كان هذا المصدر ممّا يسمّيه النحاة مصدرا مؤكّدا لغيره.

16. جملة ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله﴾ تذييل للوعد وتحقيق له: أي هذا من وعد الله، ووعود الله وعود صدق، إذ لا أصدق من الله قيلا، فالواو اعتراضية لأنّ التذييل من أصناف الاعتراض وهو اعتراض في آخر الكلام، وانتصب‏ ﴿قِيلًا﴾ على تمييز نسبة من‏ ﴿أَصْدَقُ مِنَ الله﴾، والاستفهام إنكاري، والقيل: القول، وهو اسم مصدر بوزن فعل يجيء في الشرّ والخير.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/257.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ولذلك قال تعالى: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾ (إن) هنا هي النافية، والدعاء هنا العبادة، والالتجاء لإنقاذه من الهلاك أو المرض أو الكوارث بشكل عام، والمعنى: لا يتجهون في عبادتهم وضراعتهم بعد الله سبحانه ذي الجلال والإكرام إلا إلى إناث قد استبدلوهن بعبادة الله، فهم قد تركوا عبادة القوى القادر القاهر الذى هو فوق كل شيء إلى عبادة العاجز الذى لا يستطيع حماية نفسه ورفع الضر عنه! فالعبارة تفيد بمرماها أنهم تركوا عبادة من يحميهم ويكلؤهم إلى من لا يستطيع حماية نفسه.

2. سؤال وإشكال: لكن لماذا عبر عن الأوثان التي كانوا يعبدونها بالإناث؟ والجواب: قد ذكر العلماء لذلك ثلاثة تعليلات مختلفة:

أ. أولها: أن العرب كانت عندهم أوثان تتسمى بأسماء إناث، كاللات والعزى ومناة؛ وعن الحسن البصرى، أنه لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يسمونه: أنثى بنى فلان.

ب. ثانيها: أنهم كانوا يقولون عن أصنامهم: بنات الله، تعالى الله عما يقولون.

ج. ثالثها: ما قرره الأصفهاني من أن المراد جماداتهم التي كانوا يعبدونها، فقال: (لما كانت معبوداتهم من جملة الجمادات التي هي منفعلة، لا فاعلة، سماها الله تعالى‏ أنثى، وبكتهم بها، ونبههم على جهلهم واعتقاداتهم فيها، مع أنها آلهة لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر، بل لا تفعل فعلا بوجه من الوجوه)

3. خلاصة هذه التعليلات أن الله تعالى يبين ضلال الشرك بأن العابد فيه لا يعبد إلا ما هو كالإناث، يحتاج إلى من يحميه ولا يحمى أحدا، ويترك عبادة الله تعالى القهار القادر على كل شيء الذى لا يوجد ذو قوة في هذا الوجود إلا كان يستمد قوته منه سبحانه.

4. وإن الذى يدفعهم إلى ذلك هو وسوسة الشيطان الذى كان سلطانه عليهم كسلطان المعبود الذى يعبد! ولذلك يقول تعالى: ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾ (المريد) على وزن فعيل من الفعلـ (مرد)، وهذا الفعل يطلق بعدة إطلاقات، منها أن (مرد)، معناها مرن على الشر، ومن ذلك قوله تعالى:‏ ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾ [التوبة]، ومنها أنه من يخرج على الطاعة، ومن ذلك (مارد، ومتمرد)، ويطلق على من ظهر شره، وتجرد من الخير، ومن هذا (شجرة مرداء) إذا تساقط ورقها وظهرت عيدانها، وإن الشيطان الذى يوسوس في صدور الناس ويدفعها إلى الشر، فيه كل هذه الأوصاف، فهو قد تعود الشر، وهو قد عتا، وهو قد خرج على الطاعة لله تعالى، وهو قد تجرد من كل خير، فيكون المعنى على هذا: إنهم يدعون، أي يعبدون، في الواقع شيطانا قد عتا، وتجرد من الخير، وتعود الشر، فلا يكون منه إلا شر، وإذا كان هؤلاء يلجئون إليه في دعائهم، وكأنهم يعبدونه، إذ يعبدون الأوثان التي زينها لهم، فهم في أبعد الضلال، ويسلكون طرقا من الشر متعددة!

5. وقد ذكر سبحانه ما يفعله الشيطان بعقول هؤلاء، فقال تعالى: ﴿لَعَنَهُ الله وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ أي إن الله سبحانه وتعالى طرده من رحمته، وأخرجه من جنته، كما عتا وتمرد وخرج عن طاعته، فلم يسجد لآدم، وقد أمره الله تعالى بالسجود له، فلما طرده الله من ظلال جناته بسبب عصيانه بالنسبة لآدم، وجعل عمله في هذا الوجود مصادمة الخير، وجذب‏ ذرية آدم إلى الشر قال مؤكدا بلسان المقال والفعال: ﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ﴾ الذين خلقتهم من ذرية آدم نصيبا مفروضا، أي مقدارا معينا قليلا كان أو كثيرا، أي أنه سيستهوى طائفة من عباد الله، ويسيطر على نفوسهم، ويجعلهم في طاعته، بدل أن يكونوا في طاعة الله سبحانه وتعالى، ويقول محمد عبده: إن النصيب المفروض هو ما للشيطان في نفس كل واحد من الاستعداد للشر، الذى هو أحد النجدين في قوله تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد]، في الحق أن هذا ليس من اتخاذ الشيطان، إنما هو خلق الشخص، والشيطان يأخذ من يأخذه من العباد من طريق السيطرة على جانب الشر.. اللهم جنبنا وسوسة الشيطان وتزيينه، واجعلنا معك، ومع القرآن، ومع الرسول، ومع المؤمنين.

6. ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ ذكر الله سبحانه في الآيات السابقة ما عاهد الشيطان عليه نفسه الشريرة، من أنه سيتخذ نصيبا مفروضا مقدرا من بنى آدم عباد الله سبحانه، بين الله سبحانه إضلاله لهم، وطريق هذا الإضلال، وهو أن يمنيهم بالأماني الكاذبة، فيهيموا في أحلام لا أصل لها، ويجعلهم بها في أوهام، فيقطعون آذان الأنعام من غير مبرر معقول، ويغيرون خلق الله من غير مبرر، ويحسبون ذلك عبادة يتقرب بها، ولكنهم بها يتخذون الشيطان وليا فيغرهم ويخدعهم، ويكونون في ضلال.

7. ولذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ يؤكد الشيطان كما ذكر الله أنه سيضل عباده، ويبعدهم عن الحق، ليسيروا في الباطل إلى أقصى مداه، ويتجنبوا الحق في كل مسالكه، وإنه قد بين سبحانه طريق الشيطان في الإضلال، كما ذكرها على لسانه فقال: ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾؛ أي لأجعلنهم يتمنون الأماني والمعنى أن الشيطان في إضلاله للعباد يخلق في صدورهم أماني يتمنونها ويطمعون في تحقيقها، فتستولى على نفوسهم، وينفذ إليهم من طريق المطامع، بأن يودع في أنفسهم أوهاما يظنونها تحققها، فكلما تمنوا ألقى الشيطان في أمنيتهم أوهاما معها، فيصيرون خاضعين له على الدوام، والمؤمن يصون نفسه من الأماني فلا يخضع للشيطان ابتداء.

8. وقد قال تعالى في صور الأوهام التي يضعها الشيطان في نفوسهم، فيكون كالآمر لهم: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ والبتك معناه القطع، وقد اختص بقطع أعضاء الجسم أو الشعر، والمراد بالقطع هنا ما كانوا يفعلونه، إذ كانوا يقطعون آذان الأنعام، أو يشقونها شقا واسعا، ويتركون الحمل عليها، ويفعلون ذلك كأنه أمر تكليفي مطلوب منهم تقربا للأوثان، وما كان ذلك الأمر إلا من الشيطان الذى زين لهم ذلك فاتبعوه، فهو كالآمر لهم الذى يجعل ما ليس بعبادة أصلا عبادة، وإن ذلك تشويه لما خلق الله سبحانه وتعالى، يروى في ذلك أن أبا الأحوص من الصحابة أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان رث الهيئة فقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (هل لك من مال) قال نعم؟ فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فإذا آتاك الله مالا، فلير عليك أثره)، ثم قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (هل تنتج إبل قومك صحاحا آذانها، فتعمد إلى موسى فتشق آذانها، وتقول: هذه بحر (أى جمع بحيرة) وتشق جلودها، وتقول: هذه صرم (جمع صريمة)؟ قال أجل، قال: (كل ما آتاك الله حل، وموسى الله أحد من موساك، وساعد الله أشد من ساعدك)

9. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ أي أنه يزين لهم الشر، فيغيرون خلق الله تعالى بتشويه الأجسام بالخصاء، وفق‏ء الأعين، والوشم، وتغيير الفطرة بتحويلها إلى أوهام، ولقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ربه: (إنى خلقت عبادي حنفاء كلهم وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم، فحرمت عليهم ما أحللت، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وأمرتهم أن يغيروا خلقى)، فتغيير الخلق يشمل التغيير المادي والمعنوي وكان كل ذلك خضوعا لأوامر الشيطان، فكانوا بهذا أولياءه.

10. ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ ومن يوالى الشيطان فيطيعه مع أنه متمرد عن الحق، داع إلى الشر، ويترك الحق وأمر الله، فإنه بهذا يخسر خسرانا واضحا يخسر الحق فلا يتبعه، ويرتكب الشر، ويترك المعقول إلى المرذول، ويمسخ فطرة الله تعالى، وتنحرف نفسه، ويلتوى تفكيره، وتشوه إنسانيته، وذلك خزى في الدنيا ووراءه عذاب في الآخرة، وأي خسارة أعظم من هذه الخسارة وأوضح منها.

11. ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ صور الله سبحانه وتعالى حال إغراء الشيطان بأنه عمل عملين، لا يكون فيهما أي نفع عاجل أو آجل، فهو أولا يسرف في وعدهم بمتع لا حد لها، بأن يصور لهم أن فيما يفعلون من شر متعا كثيرة، ونفعا كبيرا، وليس لذلك أي أثر، وثانيهما ـ أنه يجعل النفس تتمنى ما لا يعقل ويكون بعيد الوقوع، ومن وراء تلك الأماني تنفذ إلى النفس الأوهام فتسيطر عليها، وما كان ذلك الوعد، وإثارة الأمنيات إلا الغرور والخيبة في ذاتها.

12. ﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ أولئك الذين يعطون ولايتهم للشيطان، ويخسرون فطرتهم السليمة، ونفوسهم المستقيمة، وعقولهم المدركة، تحت سلطان الأماني الكاذبة والأوهام الخادعة، لا يكون لهم مأوى يوم القيامة غير جهنم، ولا يجدون ملجأ دونها يلجئون إليه، فلا مفر منها ولا مهرب، وذلك جزاء إضرارهم لفطرتهم وانحرافهم عن الجادة، ويرميهم بغرور الشيطان، وإن ذلك يتبعه الأذى لبنى الإنسان، وتركهم عبادة الديان، والإعراض عن الحق، إذا جاءهم به رسل الله تعالى، وأنهم لا معدل لهم عنها ولا مهرب، وهذا معنى: ﴿وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ أي معدلا ومهربا، من حاص يحيص عدل وهرب.

13. ولقد بين الله تعالى في مقابل ذلك جزاء المتقين، فإنه لا يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ الله حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾ إذا كان الشيطان يعد أولياءه بالأماني الكاذبة، ويدفعهم إلى أوهام لا أصل لها، فالله تعالى قد وعد المؤمنين وعدا حقا، وإذا كان المشركون قد رأوا مآلهم جهنم لا يجدون عنها معدلا، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات جزاؤهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، وأولئك يستحقون هذا، أولا ـ بإيمانهم الصادق، وانفكاكهم عن حبائل الشيطان، وبعدهم عن غروره وخديعته، وثانيا ـ بأعمالهم الطيبة الصالحة المبنية على أسباب‏ معقولة لا على أهواء مرذولة، فهي تفيد أنفسهم ومجتمعهم، ويؤدون بها حق ربهم، وإن ذلك الجزاء اتصف بأمور ثلاثة:

أ. أولها: أنه نعيم مادى فهو جنات وحدائق فيها كل ما تشتهيه الأنفس.

ب. ثانيها: أن فيها نعيما معنويا تلذ به الأعين، وتنشرح له الصدور، وهو أن الأنهار تجرى من تحت قصور، فتريهم منظرا بهيجا يسر الناظرين إليه.

ج. ثالثها: أنها خالدة لا تنقطع ولا تزول، ولا يعرض لها تغيير ولا تبديل، وهناك ما هو أغلى من كل هذا، وهو رضوان الله تعالى.

14. وإذا كان الشيطان قد غر أولياءه فقد صدق الله تعالى أولياءه، فقال: ﴿وَعْدَ الله حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾ وعد الله تعالى وعدا، وحقه حقا، فهو وعيد ثابت لا يقبل تغييرا ولا تبديلا، إذ هو وعد ثابت صادق لأنه وعد الله تعالى، ولا يوجد أصدق قولا من الله تعالى، فالاستفهام في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾ للنفي والمعنى لا يوجد في هذا من أصدق من الله قولا، فقيل معناها قول مؤكد لا ريب، وصدق وعد الله تعالى، لأنه من ذي الجلال والإكرام المهيمن على كل شيء فلا يتصور أن يكون من قوله سبحانه غير الحق والصدق، وفوق ذلك هو وحده القادر على تنفيذ ما وعد به، وهذا في مقابل تغرير الشيطان بالأوهام والوعود الكاذبة؛ لأنه عاجز عجزا مطلقا، والله تعالى هو القادر قدرة مطلقة، اللهم اجعلنا ممن يصدق فيهم وعدك ولا يصدق فيهم وعيدك، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1863.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾، كان العرب قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يزعمون ان الملائكة بنات الله: ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا﴾ [الاسراء: 40]، وقد حملهم هذا الاعتقاد على أن يتخذوا تماثيل يسمونها أسماء الإناث، كاللات والعزى ومناة، ويرمزون بالأصنام إلى الملائكة التي زعموا انها بنات الله.. وكانوا يتقربون بها إلى الله زلفى في بدء الأمر، ومع مرور الأجيال تحولت تلك الأصنام عندهم إلى آلهة تخلق وترزق.. وهكذا تتحول وتتطور زيارة قبور الأولياء ـ عند الاعراب والعوام ـ من تعظيم الشعائر وتقديس المبدأ الذي مات عليه صاحب القبر إلى الاعتقاد بأنه قوة عليا تجلب النفع، وتدفع الضر.

2. ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾، أي ان عبادة المشركين للأصنام هي في واقعها عبادة الشيطان نفسه، لأنه هو الذي أمرهم بها فأطاعوا أمره، ومن أطاع غيره، وسلك مسالكه فهو عبد مأمور له.

3. ﴿لَعَنَهُ الله وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾، النصيب المفروض الحصة الواجبة، والمعنى أن الشيطان قال للّه، جل وعز: ان لي سهما فيمن خلقتهم لعبادتك، وقلت عنهم فيما قلت: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات، وان هذا السهم فرض واجب لي يطيعني ويعصيك.

4. سؤال وإشكال: ان ظاهر الآية يدل على أن الشيطان شخص حقيقي، وانه يخاطب الله بقوة وثقة، فهل الكلام جار على ظاهره، أو لا بد من التأويل؟ والجواب: نقل صاحب تفسير المنار عن أستاذه الشيخ محمد عبده ان في كل فرد من أفراد الإنسان استعدادا لعمل الخير والشر، ولاتباع الحق والباطل، والى هذا الاستعداد أشار سبحانه بقوله: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ ـ 10 البلد: 56]، وان النصيب المفروض للشيطان من الإنسان هو استعداده للشر الذي هو أحد النجدين، وعليه يكون لفظ الشيطان كناية عن هذا الاستعداد، وفي ص 20 من المجلد الأول: تكلمنا عن المراد من الشيطان.. وغير بعيد أن يكون هذا القول الذي جاء على لسان الشيطان‏ ﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ أن يكون تصويرا لواقع العصاة الذين تغلّب فيهم جانب الاستعداد للشر على جانب الاستعداد للخير، وليس خطابا حقيقيا مع الله سبحانه.

5. سؤال وإشكال: ان فكرة الشيطان سيطرت على عقول الناس يوم كان العلم مجرد كلمات تقال في حلقات الدرس، وسطور تملأ صفحات الكتب، ولا تتجاوزها إلى العمل الا قليلا، أما اليوم فقد أصبحت فكرة الشيطان بشتى تفاسيرها خرافة، وأسطورة بعد أن صار العلم مقياسا لكل حقيقة، وأساسا لكل خطوة يخطوها الإنسان، وقوة في كل ميدان، ومعجزة تحرك الحديد ليخرق الأرض آلاف الأمتار، يفجرها أنهرا من الذهب، ويطير في الجو إلى القمر والمريخ، يخاطب أهل الأرض من هناك بما يشاهد في رحلته، والجواب: لا نظن أحدا يهوّن من شأن العلم وفوائده، وانه قوة وثروة، وان حاجة الناس اليه تماما كحاجتهم إلى الماء والصيام.. ولكن لا أحد يجهل ان العلم تماما كالإنسان فيه استعداد للخير والشر، وانه حين يوجه إلى الخير ينتج الطعام للجائعين، والكساء للعراة، والعلاج للمرضى، وحين يوجه إلى الشر يقتل ويدمر.. والشر هو الركيزة الأولى لسياسة الشيطان الذي نعنيه، وقد أصبح العلم اليوم في يد السياسة تتجه به إلى الفتك والهدم، والسيطرة والاستغلال، وقد تضاعف نصيب الشر أو الشيطان ـ مهما شئت فعبر ـ بتقدم العلم وتطوره.

6. كان أعوان الشر فيما مضى يتسلحون بقوة العضلات، أما الآن، وبعد أن بلغ العلم من الجبروت ما بلغ فإن حزب الشيطان يتسلحون بالذرة والصواريخ الموجهة، وما إليها مما يزلزل الأرض من أعماقها، وقرأت فيما قرأت ان أمريكا وضعت مخططا لشراء شباب العلم في أي مكان وجدوا أو يوجدون، وان سمسارها المتجول استطاع في بعض زياراته لبريطانيا أن يعقد صفقة مع سبعمائة عالم للهجرة لأمريكا، ومعظم هذه العقول يستغلها الساسة الأمريكيون في صنع الأجهزة والآلات لغزو العالم كله، والسيطرة على مقدراته، وهؤلاء هم الشيطان عدو الله والإنسان، أما المدارس العصرية المنتشرة هنا وهناك فأكثرها من نصيب الشيطان، ولا شيء فيها يمت إلى الدين والخلق الكريم بصلة.. وهكذا استجابت العقول الكبيرة والصغيرة في هذا العصر لدعوة الشر والشيطان الذي أعلنها بقوله: ﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾

7. ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾، إضلال الشيطان للإنسان أن يزين له الحق باطلا، والخير شرا، أو يوهمه انه لا حق ولا خير في الوجود، ولا جنة ولا نار، وان الدنيا ملك لمن يحوزها كما قال: (نيتشه).. وفي الحديث: (خلق إبليس‏ مزينا، وليس اليه من الضلالة شيء) أما تمنية الشيطان للإنسان فهو أن يخيل اليه ادراك ما يتمناه من طول الأجل، والنجاة يوم الحساب والجزاء، وما إلى ذلك من الأماني الكاذبة، والسعادة الموهومة.

8. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾، البتك القطع، يقال: بتكه، أي قطعه، والتبتيك للتكثير والمبالغة في البتك، والانعام الإبل والبقر والغنم، وكان العرب في الجاهلية يقطعون آذان بعض الانعام، ويوقفونها للأصنام، ويحرّمونها على أنفسهم، ويأتي التفصيل ان شاء الله عند تفسير الآية 103 من سورة المائدة: ﴿مَا جَعَلَ الله مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ﴾

9. وبعد أن كان الشر أو الشيطان يأمر حزبه في عصر الجاهلية بقطع آذان الانعام وتغيير خلق الله أصبح يأمرهم بإلقاء قنابل النابالم على النساء والأطفال، والقنبلة الذرية على المدن ك (هيروشيما) و(ناكازاكي) لإفناء خلق الله.. وهذا من (حسنات) سيطرة الساسة على عبقرية العقول، وجبروت العلم.

10. ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله﴾ ـ أي يطيعه ـ ﴿فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾، حيث يصبح ضحية الأهواء والشهوات، وأسير الأوهام والخرافات.

11. ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾، حيث سار بهم على طريق التهلكة بعد أن زين لهم انه سبيل النجاة، فالزاني أو شارب الخمر ـ مثلا ـ يخيل اليه انه يتمتع باللذائذ، وهو في واقعه يتحمل أعظم المضار دنيا وآخرة.

12. ﴿وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾، المحيص المخرج والمفر، والمعنى أن حزب الشيطان من المشركين والمفسدين لا نجاة لهم من عذاب الله.. وبعد أن ذكر سبحانه الوعيد أردفه بالوعد على سنته المعهودة من اقتران الترغيب بالترهيب، قال عز من قائل: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ الله حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾، وفي هذه الآية ثلاثة تأكيدات:

أ. الأول: التأبيد الذي دل عليه لفظ (أبدا)

ب. الثاني: وعد الله حقا.

ج. الثالث: ومن أصدق.

13. الغرض من هذا التكرار التنبيه إلى أن مواعيد الشيطان كاذبة، وأمانيه فارغة، وأوامره باطلة، وان قول الله هو الحق والصدق، وطاعته هي الخير والسعادة.

14. سؤال وإشكال: ان الوعد بالجنة في أكثر آياته يقترن الخلود فيها بالتأبيد، وأكثر آيات الوعد بالنار لا يقترن الخلود فيها بالتأبيد، فما هو السر؟ والجواب: السر ان الخلود عبارة عن طول المكث، وقد يكون إلى الأبد، وقد لا يكون.. ومن دخل الجنة فلا يخرج منها، فناسب ذلك ذكر التأبيد، أما من يدخل النار فقد ينقطع عذابه، ويخرج منها، ولهذا لم يقترن العذاب فيها بالتأبيد إلا في حالات خاصة، كالشرك وقتل العمد.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/442.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1.﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾ الإناث‏ جمع أنثى يقال: أنث الحديد أنثا أي انفعل ولان، وأنث المكان أسرع في الإنبات وجاد، ففيه معنى الانفعال والتأثر، وبذلك سميت الأنثى من الحيوان أنثى وقد سميت الأصنام وكل معبود من دون الله إناثا لكونها قابلات منفعلات ليس في وسعها أن تفعل شيئا مما يتوقعه عبادها منها ـ كما قيل ـ قال تعالى:‏ ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 74]، وقال: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا﴾ [الفرقان: 3]، فالظاهر أن المراد بالأنوثة الانفعال المحض الذي هو شأن المخلوق إذا قيس إلى الخالق‏ عز اسمه.

2. هذا الوجه أولى مما قيل: إن المراد هو اللات والعزى ومنات الثالثة ونحوها، وقد كان لكل حي صنم يسمونه أنثى بني فلان إما لتأنيث أسمائها أو لأنها كانت جمادات والجمادات تؤنث في اللفظ، ووجه الأولوية أن ذلك لا يلائم الحصر الواقع في قوله: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾ كثير ملاءمة، وبين من يدعى من دون الله من هو ذكر غير أنثى كعيسى المسيح وبرهما وبوذا.

3. ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾ المريد هو العاري من كل خير أو مطلق العاري، قال البيضاوي: (المارد والمريد الذي لا يعلق بخير، وأصل التركيب للملامسة، ومنه صرح ممرد، وغلام أمرد، وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها)، والظاهر أن الجملة بيان للجملة السابقة فإن الدعوة كناية عن العبادة لكون العبادة إنما نشأت بين الناس للدعوة على الحاجة، وقد سمى الله تعالى الطاعة عبادة قال تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي﴾ [يس: 61] فيئول معنى الجملة إلى أن عبادتهم لكل معبود من دون الله عبادة ودعوة منهم للشيطان المريد لكونها طاعة له.

4. ﴿لَعَنَهُ الله﴾ اللعن‏ هو الإبعاد عن الرحمة، وهو وصف ثان للشيطان وبمنزلة التعليل للوصف الأول.

5. ﴿وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ كأنه إشارة إلى ما حكاه الله تعالى عنه من قوله: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص: 83] وفي قوله: ﴿مِنْ عِبَادِكَ﴾ تقرير أنهم مع ذلك عباده لا ينسلخون عن هذا الشأن، وهو ربهم يحكم فيهم بما شاء.

6. ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ إلى آخر الآية التبتيل‏ هو الشق، وينطبق على ما نقل: أن عرب الجاهلية كانت تشق آذان البحائر والسوائب لتحريم لحومها، وهذه الأمور المعدودة جميعها ضلال فذكر الإضلال معها من قبيل ذكر العام ثم ذكر بعض أفراده لعناية خاصة به، يقول: لأضلنهم بالاشتغال بعبادة غير الله واقتراف المعاصي، ولأغرنهم بالاشتغال بالآمال والأماني التي تصرفهم عن الاشتغال بواجب شأنهم‏ وما يهمهم من أمرهم، ولآمرنهم بشق آذان الأنعام وتحريم ما أحل الله سبحانه، ولآمرنهم بتغيير خلق الله وينطبق على مثل الإخصاء وأنواع المثلة واللواط والسحق.

7. وليس من البعيد أن يكون المراد بتغيير خلق الله الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ [الروم: 30]

8. ثم عد تعالى دعوة الشيطان وهي طاعته فيما يأمر به اتخاذا له وليا فقال: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ ولم يقل: ومن يكن الشيطان له وليا إشعارا بما تشعر به الآيات السابقة أن الولي هو الله، ولا ولاية لغيره على شيء وإن اتخذ وليا.

9. ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ ظاهر السياق أنه تعليل لقوله في الآية السابقة: ﴿فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ وأي خسران أبين من خسران من يبدل السعادة الحقيقية وكمال الخلقة بالمواعيد الكاذبة والأماني الموهومة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ الله﴾ ﴿عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَالله سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾: (النور، 39)

10. أما المواعيد فهي الوساوس الشيطانية بلا واسطة، وأما الأماني فهي المتفرعة على وساوسه مما يستلذه الوهم من المتخيلات، ولذلك قال‏ ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ فعد الوعد غرورا دون التمنية على ما لا يخفى.

11. ثم بين عاقبة حالهم بقوله: ﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ أي معدلا ومفرا من‏ (حاص) إذا عدل.

12. ثم ذكر ما يقابل حالهم وهو حال المؤمنين تتميما للبيان فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ﴾ إلى آخر الآية وفي الآيات التفات من سياق التكلم مع الغير إلى الغيبة، والوجه العام فيه الإيماء إلى جلالة المقام وعظمته بوضع لفظ الجلالة موضع ضمير المتكلم مع الغير فيما يحتاج إلى هذا الإشعار حتى إذا استوفى الغرض رجع إلى سابق السياق الذي كان هو الأصل، وذلك في قوله: ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ﴾ وفي ذلك نكتة أخرى، وهي الإيماء إلى قرب الحضور وعدم احتجابه تعالى عن عباده المؤمنين وهو وليهم.

13. ﴿وَعْدَ الله حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾ فيه مقابلة لما ذكر في وعد الشيطان أنه ليس إلا غرورا فكان وعد الله حقا، وقوله صدقا.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/84.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾ هذا في مشركي قريش ومن كان على طريقتهم؛ لأنهم يؤنثون أصنامهم، مثل: ﴿اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ [النجم:19 ـ 20] وكأنهم يعتبرونها رمزاً للملائكة الذين يزعمون أنهم إناث، والآية الأولى: في مشركي أهل الكتاب، والمخصِّص هنا العقل المخرج للمشركين من أهل الكتاب والحصر إضافي، أي ليست آلهة، وإنما هي إناث كقوله: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ﴾ [النجم:23]

2. ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ﴾ أي وإن يعبدون ﴿إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾ لا الملائكة؛ لأنهم عبدوا الأصنام لا الملائكة، ونسبت عبادتهم إلى الشيطان لأنه سببها بالأمر والإغراء، فالحصر إضافي، ولا ينافي أنهم يعبدون الأصنام، وسميت عبادتهم للشيطان دعاءً مشاكلة؛ لأنها دعاؤهم لأصنامهم، والْمَرِيد كما في (الصحاح): العاتي، قال: (والمرود على الشيء المرون عليه) وقال في (لسان العرب) بعد أن فسر المارد بـ (العاتي): (وتأويل المرود أن يبلغ الغاية التي تخرج من جملة ما عليه ذلك الصنف ـ ثم قال ـ والمريد: الخبيث المتمرد الشرِّير، وشيطان مارد ومريد واحد) يؤكد هذا الحديث في فضل شهر رمضان حيث يفهم منه أن مردة الشياطين شر من بقيتهم، نعوذ بالله منهم.

3. ﴿وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ هذه صفة ثانية للمريد الأولى: ﴿لَعَنَهُ الله﴾ أي طرده من رحمته، فهي خَبَر لا إنشاء، والصفة الثانية: تفيد: أنه إبليس نعوذ بالله منه.

4. ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ الضميرين للنصيب المفروض الذي اقتطعه من بني آدم وغيرهم وفرضه لنفسه بتخلية الله تعالى: ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ قال في (لسان العرب) حاكياً: أبو العباس أحمد بن يحيى: التمني: حديثُ النفس بما يكون وبما لا يكون انتهى المراد، والمقصود بحديث النفس: التأميل، فمعنى ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ أوقعهم في التمني لطول العمر مثلاً والمغفرة مع الإصرار، وتأميل التوبة في آخر العمر، والتمني هذا غير التمني الذي يعبر عنه بـ (ليت) لأنه مأيوس.

5. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ قال الشرفي في (المصابيح): (البتك: القطع، وسيف باتك: قاطع، والتبتيك: التقطيع)، وفي تفسير الإمام زيد عليهما السلام لـ (غريب القرآن): (معناه: يُقَطِّعُنَّ)، وفي (مفردات الراغب الأصفهاني) مثل ما ذكره الشرفي، وزيادة: أن البتك يقال في قطع الأعضاء والشعر، وبتك الآذان ظلم للأنعام، سواء فعلوه تقرباً لأصنامهم أم لعباً وعبثاً.

6. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ تغيير خلق الله تحويل صورة المخلوق عن صفتها الأصلية التي خلقت عليها، مثل: وشر الأسنان، وخصي الفحل من الناس، وجعل البصير أعمى أو أعور، والسميع أصم، والسوي أعرج ونحو ذلك، ونتف شعر اللحية حتى يصير صاحبها أمرداً، ونتف شعر العانة، والوشم بشق الجلد وجعل الكحل فيه، وتشبه الرجال بالنساء، وتشبه النساء بالرجال، بتغيير الصورة أو الصوت، ويدخل في هذا تحويل الذكر أنثى أو الأنثى ذكراً كما قيل بوقوع أحدهما أو كليهما في بلاد الغرب، فأما مجرد حلق الشعر الذي لم يثبت جواز حلقه وأصوله باقية بلا تشبه بالنساء أو العكس ففيه نظر، وأما التشبه بلباس أو عادة فلا يترجح دخوله في تغيير خلق الله، وإن كان داخلاً في حديث: (لعن من تشبه من الرجال بالنساء أو تشبهت من النساء بالرجال) أعني يشمله الحديث.

7. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ﴾ مرتين تكبُّرٌ عليهم واستعلاء، ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله﴾ من يتبع الشيطان فتفوته ولاية الله ويتولاه الشيطان ﴿فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ خسراناً بيِّناً؛ لأن ولاية الله أن يلطف بعبده، وينصره، ويدبر له الخير في دينه ودنياه؛ لأنه يتولى أموره لإصلاح شأنه، قال تعالى: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [الأعراف:196]، وقال تعالى: ﴿الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ [البقرة:257]، وقال تعالى: ﴿وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [الحج:3 ـ 4]، فتبين: أن ولاية الله هداية إلى السعادة الدائمة، وولاية الشيطان هداية إلى عذاب السعير حيث الشقاوة العظيمة الدائمة، وهذا خسران بيِّن لمن فاتته ولاية الله واستبدل بها ولاية الشيطان.

8. ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ فهذه من ولاية الشيطان لمن اتبعه ﴿يَعِدُهُمُ﴾ وعداً يغويهم به، كوعدهم بطول العمر ﴿وَيُمَنِّيهِمْ﴾ يوسوس لهم بالأماني ليغويهم بها ويجرِّيهم على المعاصي ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ إلا بأن يغرهم ويخدعهم، قال الشرفي في (المصابيح): (إيهام النفع بما فيه الضرر... إلخ، وقال تعالى في يوم الأحزاب: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الأحزاب:10 ـ 12]، أرادوا الوعد بإظهار الدين، وقالوا في (وقعة بدر): ﴿غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ﴾ [الأنفال:49]، وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [آل عمران:24]

9. ﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ المأوى: الذي يأوي إليه الحيوان من مسكن أو غيره مما فيه غرض له ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾ [هود:43] ﴿آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ﴾ [يوسف:69] ﴿وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ [المؤمنون:50] ﴿فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ [السجدة:20] من التهكم بهم أو المشاكلة التقديرية؛ لأنها تكون لهم مستقراً ومقاماً كما يكون المأوى.

10. ﴿وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ أي لا يجدون مكاناً يحيصون إليه، أي يعدلون من العذاب، قال الراغب في (المفردات): (أصله من حَيصَ بَيصَ: أي شدة، وحاص عن الحق يحيص: أي حاد عنه إلى شدة ومكروه)، فعلى هذا: لا يجدون معدلاً يلجؤون إليه، ولا معدلاً مكروهاً مثل الموت يلجؤون إليه، والراجح: أن المحيص ما يلجأ إليه من الشر ولو لم يكن ما يلجأ إليه شر، ففي (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام): (معناه: مَعدَل) وفي (الصحاح): (حاص عنه يحيص حيصاً وحيوصاً ومحيصاً ومَحَاصاً وحَيَصانا أي عَدَل وحَادَ، يُقَال: ما عنه محيص، أي محيد ومهرب)

11. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ الله حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾ قال في (الكشاف): (﴿وَعْدَ الله حَقًّا﴾ مصدران مؤكِّدان: الأول لنفسه، الثاني لغيره) قوله: (لنفسه) يعني: للوعد الذي هو قول الله تعالى: ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿حَقًّا﴾ مؤكِّدٌ للوعد بأن الموعود به حق لا يتخلف، والقيل: القول، وفي قصيدة عنترة:

çولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها...قيل الفوارس ويك عنتر أقدِمé

وصدق الله لا أصدق منه؛ لأنه غني عن الكذب، وعالم لا ينسى، وقدير لا يعجز، وكل عسير عليه يسير، وفي الآية دلالة على وصف الوعد بالصدق فلو تخلف كان كذباً، وذلك من حيث أن وعده خبر عن الواقع الذي سيكون وهو عالم بالمخبَر به، أما المخلوق فوعده مبنِيٌّ على عزمه ونيته وهو لا يعلم يبقى ذلك العزم أم يتحول، فكأنه إذا وعد إنما يخبر عن عزمه، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ﴾ [آل عمران:152] كهذه الآية.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/171.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كيف يتصور المشركون شركهم، ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾ ربما كان ذلك في تصورهم للملائكة أنها بنات الله، أو في تصورهم للأصنام عندما يطلقون عليها اسم الإناث؛ وربما قيل إن في إطلاق اسم الإناث على ما يشركون به خصوصية، وهو الدور المنفعل للأنثى في قبال الذكر، فكيف يمكن أن يكون إلها من يكون كذلك؟ في الوقت الذي ينبغي أن يكون للإله دور الفعل، كونه من صفات الألوهية من العلم والقدرة والخلق ونحوها..

2. ويتابع القرآن هذا التصور المنحرف‏ ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾، فهم يتبعون الشيطان في تفكيرهم وتصورهم، ويعبدونه من دون الله من خلال استسلامهم وطاعتهم له.. ﴿لَعَنَهُ الله﴾، فقد أبعده عن ساحة رحمته‏ عندما ارتدى رداء الكبرياء بين يدي الله، ﴿وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾، فلما أمهله الله إلى يوم القيامة، ورأى نفسه مرذولا مهانا أمام تكريم الله لهذا المخلوق الجديد آدم، أعلن الحرب عليه، وقال: لآخذن من ذريته حصّة مفروضة لي، أقتطعها لنفسي، فأمارس معهم كل الأساليب التي تبعدهم عن الله وتنحرف بهم عن الطريق السويّ.

3. ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ وأقودهم إلى الضياع حيث لا يجدون أمامهم العلامات الهادية إلى مقاصدهم التي تفتح لهم أبواب الهدى؛ ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ فأغرق كل تصوراتهم بالأحلام الخيالية والأماني المعسولة التي يعيش الإنسان معها في أجواء مسحورة بعيدة عن الحقيقة، مما يؤدي إلى تخبّطه وإمعانه في ضلال التيه، ويظل يركض وراء الأوهام فيبتعد رويدا رويدا عن نداء الحقيقة الإلهية المشرقة.

4. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾، وذلك بأن يشقوا آذانها فتحرم ـ بذلك في زعمهم ـ عليهم وتكون للأصنام؛ كما كان سائدا في الحياة العربية الجاهلية، وقد أراد الله أن يبيّن أنه من تسويلات الشيطان، لأن التحريم والتحليل بيد الله، فلا حرمة لما لم يحرمه الله، فكيف يحكمون بحرمتها؟

5. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ فسّر ذلك بالتغيير الجسدي، واعتبر حلق اللحية أحد مصاديقه، وجعلت هذه الآية دليلا لحرمته وقيل: إن من مصاديقه الخصاء الذي كان يستعمل للعبيد حتى يدخلوا على النساء من دون حرج؛ وفسّره البعض بأنه التغيير المعنوي، وهو تغيير الفطرة التي فطر الله الناس عليها وهي التوحيد، انطلاقا من قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30]، وذلك بإبعادهم عنها فيما يعتقدون وما يعملون وما يتصفون به من أخلاق.. وقد جاء في تفسير العياشي بإسناده عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السّلام قال‏: أمر الله بما أمر به‏، وعن الإمام أبي جعفر محمد الباقر عليه السّلام قال: دين الله‏.

6. يناقش المنكرون لتخصيصها بالتغيير الجسدي، أن الآية لم تتحدث عن تغيير جسم الإنسان، بل تحدثت عن تغيير خلق الله، فإذا أريد منه المعنى المادي، فيلزم حرمة تغيير كل ما خلقه الله من النبات والحيوان والجماد والإنسان، وهو أمر مقطوع البطلان، لجواز التغيير في أكثر ذلك، فإذا التزمنا بالتخصيص، لزم تخصيص الأكثر، وعلى ضوء هذا، فلا مانع من تحويل الإنسان من جنس إلى آخر، كتغيير الذكر إلى أنثى والعكس، لأنه باق على أصل الإباحة وتفصيل ذلك في كتب الفقه.

7. ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾، لأنه ليس صادقا في وعوده ومودته للإنسان، فكيف يأمن له ويستريح إلى كلماته؟ ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ﴾ ولكنه يخلف في وعوده، ويكذبهم في أمانيهم عندما يخيّل إليهم بأن الدنيا هي الفرصة الوحيدة للإنسان التي يعيش فيها مع شهواته ولذائذه، أو يوحي إليهم بأنه سينقذهم ويحميهم من كل الأخطار التي تواجهه عند الله، ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ وخداعا؛ فإذا استسلّم الإنسان إليه ووقف أمام المصير المحتوم الذي يواجه فيه عذاب الله، تبرأ منه وتهرّب من كل مسئولية تجاهه؛ كما حدثنا الله عن ذلك في قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ الله رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحشر: 16]

8. ﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾، لأن ذلك هو المصير المحتوم الذي يواجهه كل إنسان يبتعد عن الله ويستسلّم للشيطان بعد أن حذّره الله منه وأقام عليه الحجة في ذلك كله.

9. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ فتحركوا في الحياة على أساس الإيمان ولم يكتفوا بالتصورات الإيمانية بعيدا عن خط العمل، خلافا للذين يتصورون أن الإيمان بالقلب وأنه لا ضرورة للعمل؛ فإن ذلك يعني عدم صدق الإيمان ولهذا عبّر القرآن في أكثر من آية عن الانحراف بأنه كفر، للدلالة على أن قيمة الإيمان تتحدد بمقدار ما تتحرك في خط العمل.

10. ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ الله حَقًّا﴾ وذلك هو الوعد الذي يجب على الإنسان أن يتحمّس له وينطلق معه، لأنه الحق الذي لا مرية فيه‏ ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾، وهذا ما عبّر عنه القرآن في آية أخرى، وهو يتحدث لنا عن الحوار بين الناس والشيطان يوم القيامة: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [إبراهيم: 22]

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/469.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية الكريمة من مجموع الآيات الخمس الأخيرة ـ تشرح أوضاع المشركين الذين أشارت إليهم الآية السابقة لهذه الأخيرة، وهذه الآية إنّما تبيّن سبب ضلال المشركين، فتذكر أنّهم يعانون من ضيق شديد في أفق تفكيرهم، إذ يتركون عبادة الله خالق ومنشئ عالم الوجود الوسيع، ويخضعون أمام المخلوقات التي لا تملك أقل أثر إيجابي في الوجود، بل هي ـ أحيانا مضللة كالشّيطان: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾.

2. وممّا يلفت النظر أن هذه الآية تحصر أصنام المشركين بنوعين من المخلوقات هما (إناث) و(شيطان مريد)، وكلمة (إناث) مشتقة من المصدر (أنث) على وزن (أدب) وتعني المخلوق الرقيق اللطيف والمرن، ولهذا السبب فإنّ العرب تقول: (أنث الحديد) إذا لانّ في النار، وقد سمي جنس المرأة بـ (الإناث) لأنّها أكثر رقّة ولطفا ولينا من الرجل، لكن بعض المفسّرين يرى هنا ـ أنّ القرآن يشير في هذه الآية إلى أصنام كانت معروفة لدى قبائل العرب حيث انتخبت كل قبيلة صنما من هذه الأصنام ووضعت له اسما مؤنثا، فالصنم (اللات) سمّي هكذا ليكون مؤنثا لكلمة لفظ الجلالة (الله)، أمّا الصنم (عزى) فهو مؤنث كلمة (أعز) وكذلك أصنام أخرى مثلـ (مناة) و(نائله) وأمثالها، بينما يرى بعض آخر من كبار المفسّرين أنّ القصد من كلمة (إناث) الواردة في الآية ليس المعنى المعروف بالمؤنث، بل أنّ القصد منها هو الجذر اللغوي الذي اشتقت منه هذه اللفظة، أي أنّ المشركين يعبدون مخلوقات ضعيفة ومطاوعة بين يدي الإنسان، وأن وجود هذه المخلوقات بكاملها قابل للتأثر والانحناء أمام الأحداث، وبعبارة أوضح: أنّها موجودات لا تملك الإرادة والاختيار ولا تنفع ولا تضرّ شيئا أبدا.

3. أمّا كلمة (مريد) وهي من حيث الجذر اللغوي مأخوذة من مادة (مرد) بمعنى سقوط أوراق وأغصان الشجر، ولهذا سمّي الشاب اليافع الذي لم ينبت الشعر في وجهه بالأمرد، وعلى هذا فإنّ الشيطان المريد يعني ذلك الشيطان الذي سقطت منه جميع صفات الفضيلة، ولم يبق في وجوده شيء من مصادر القوّة، أو قد تكون هذه الكلمة مأخوذة من الأصلـ (مرود) بمعنى الطغيان والجبروت، أي أن معبود هؤلاء الوثنيين هو شيطان متكبر متجبر، والحقيقة أنّ القرآن قسم أصنام هؤلاء المشركين إلى نوعين: بعضها ضعيف‏ الإرادة مطلقا، والبعض الآخر طاغ متكبر متجبر، لكي يبيّن أن الذي يسلم قياده ويخضع لمثل هذه الأصنام إنّما يعيش في ضلال واضح مبين.

4. بعد ذلك كله تشير الآية إلى صفات الشيطان وأهدافه وعدائه الخاص لأبناء آدم وتتناول بالشرح بعضا من خططه الدنيئة، وقبل كل شيء تؤكد أن الله قد أبعد الشيطان عن رحمته‏ ﴿لَعَنَهُ الله﴾، وفي الحقيقة فإنّ أساس شقاء وتعاسة الشيطان هو البعد عن رحمة الله، التي أصابته بسبب غروره وتكبره المفرطين، وبديهي أنّ من يكون بعيدا عن رحمة الله كالشيطان، يكون خاويا من كل خير أو حسن، ولا يمكنه أن يترك خيرا أو حسنا في حياة غيره، وفاقد الشيء لا يعطيه، فهو لن يكون غير نافع فحسب، بل سيكون ضارا أيضا.

5. ثمّ تذكر الآية التالية أنّ الشيطان قد أقسم على أن ينفذ بعضا من خططه:

أ. أوّلها: أن يأخذ من عباد الله نصيبا معينا، حيث تقول الآية حاكية قول الشيطان: ﴿وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ فالشيطان يعلم بعجزه عن إغواء جميع عباد الله، لأنّ من يستسلم لإرادة الشيطان ويخضع له هم فقط أولئك المنجرفون وراء الأهواء والنزوات، والذين لا إيمان لهم، أو ضعاف الإيمان.

ب. والثّانية: خطط الشيطان تلخصها الآية بعبارة: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾

ج. والثّالثة: اشغلهم بالامنيات العريضة وطول الأمل‏ ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾، وعبارة ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ تعود إلى المصدر(منى) على وزن (منع) وتعني قياس الشيء أو تقييمه، ولكنّها ترد في أغلب الأحيان لتعني القياس والتقييم والآمال الوهمية والخيالية أمّا النطفة التي تسمّى بـ (مني) فمعناها أن قياس تركيب أولى الموجودات الحسية قد تمّ فيها.

د. الرّابعة: ففيها يدعو الشيطان اتباعه إلى القيام بأعمال خرافية، مثل قطع أو خرق أذان الحيوانات كما جاء في الآية: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ وهذه إشارة لواحد من أقبح الأعمال التي كان يرتكبها الجاهليون‏ المشركون، حيث كانوا يقطعون أو يخرقون أذان بعض المواشي، وكانوا يحرمون على أنفسهم ركوبها بل يحرمون أي نوع من أنواع الانتفاع بهذه الحيوانات.

هـ. خامس الخطط التي أقسم الشيطان أن ينفذها ضد الإنسان، هي ما ورد على لسانه في الآية إذ تقول: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ وهذه الجملة تشير إلى أنّ الله قد أوجد في فطرة الإنسان منذ خلقة إياه ـ النزعة إلى التوحيد وعبادة الواحد الأحد، بالإضافة إلى بقية الصفات والخصال الحميدة الأخرى، ولكن وساوس الشيطان والانجراف وراء الأهواء والنزوات تبعد الإنسان عن الطريق المستقيم الصحيح، وتحرفه إلى الطرق المعوجة الشاذة، والشاهد على هذا القول أيضا الآية من سورة الرّوم، إذ تقول: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ﴾ ﴿لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾، ونقل عن الإمام الصّادق عليه السّلام أنّه فسّره بأنّ القصد من التغيير المذكور في هذه الآية من سورة النساء هو تغيير فطرة الإنسان وحرفها عن التوحيد وعن أمر الله‏.

6. وهذا الضرر الذي لا يمكن التعويض عنه، يلحقه الشيطان بأساس سعادة الإنسان، لأنّه يعكس له الحقائق والوقائع ويستبدلها بمجموعة من الأوهام والخرافات والوساوس التي تؤدي إلى تغيير السعادة بالشقاء للناس، وقد أكّدت الآية في آخرها مبدأ كليا، وهو أنّ أي إنسان يعبد الشيطان ويجعله لنفسه وليا من دون الله، فقد ارتكب إثما وذنبا واضحا إذ تقول الآية: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾

7. والآية التي تلت هذه الآية جاءت ببعض النقاط بمثابة الدليل على ما جاءت به الآية السابقة حيث ذكرت أنّ الشيطان يستمر في إعطائه الوعود الكاذبة لأولئك ويمنيهم الأمنيات الطوال العراض، ولكنه لا يفعل شيئا بالنسبة لهؤلاء غير الإغواء والخداع: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾، والغرور يعني في الأصل الأثر الواضح للشيء ولكنه يطلق في الغالب على الآثار التي لها ظاهر خادع وباطن كريه، ويطلق على كل شيء يخدع الإنسان مثل المال والجاه والسلطان التي تبعد الإنسان عن الحق وعن جادة الصواب على أنّه مادة للغرور.

8. وبيّنت آخر آية من الآيات الخمس الأخيرة مصير اتباع الشيطان، بأنّهم ستكون نتيجتهم السكنى في جهنم التي لا يجدون منها مفرا أبدا، فتقول الآية: ﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾، والمحيص مشتق من المصدر(حيص) ويعني العدول والانصراف عن الشيء وعلى هذا الأساس فإن المحيص هو وسيلة الانصراف والفرار.

9. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ الله حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾ لقد بيّنت الآيات السابقة أنّ الذين يتخذون الشيطان وليا لهم، إنّما ينالهم ضرر واضح ومبين، وأنّ الشيطان يعدهم زيفا وخداعا ويلهيهم بالأمنيات الواهية الخيالية الطويلة العريضة، وإن وعد الشيطان مكر وخداع لا غير، أمّا في هذه الآية الأخيرة ـ التي هي موضوع بحثنا الآن ـ فقد بيّنت مقابل أولئك في النهاية أعمال المؤمنين والثواب الذي سينالونه يوم القيامة، من جنّات وبساتين وأنهار تجري فيها، حيث تقول الآية: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾

10. وإنّ هذه النعمة العظيمة دائمة أبدا، وليست كنعم الدنيا الزائلة، فالمؤمنون في الجنّة يتمتعون بما أوتوه من خير دائما أبدا، تؤكّد هذه بعبارة ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾، وإنّ هذا الوعد وعد صادق وليس كوعود الشيطان الزّائفة، حيث تقول الآية: ﴿وَعْدَ الله حَقًّا﴾، وبديهي أنّ أي فرد لا يستطيع ـ أبدا ـ أن يكون أصدق قولا من الله العزيز القدير في وعوده وفي كلامه، كما تقول الآية: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾ وطبيعي أنّ عدم الوفاء بالوعد ناتج إمّا عن العجز وإمّا الجهل والحاجة، والله سبحانه وتعالى منزه عن هذه الصفات.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/458.

109. العمل والأماني والجزاء

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈109⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: 123 ـ 124]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

أبيّ:

روي عن أبيّ بن كعب (ت 22 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. عن الربيع بن زياد، قال: قلت لأبي بن كعب: آية في كتاب الله قد أحزنتني، قال ما هي؟ قلت: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، قال ما كنت أراك إلا أفقه مما أرى، إن المؤمن لا تصيبه مصيبة؛ عثرة قدم، ولا اختلاج عرق، ولا نجبة(1)، نملة إلا بذنب، وما يعفوه الله عنه أكثر، حتى اللدغة والنفحة(2).

2. عن إبراهيم بن مرة، قال: جاء رجل إلى أبي، فقال: يا أبا المنذر، آية في كتاب الله قد غمتني، قال أي آية؟ قال: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، قال: ذاك العبد المؤمن، ما أصابته من نكبة مصيبة فيصبر فيلقى الله عز وجل ولا ذنب له(3).

__________

(1) نجبة نملة: قرصها، النهاية (نجب).

(2) ابن أبي الدنيا، وابن جرير ٧/٥١٦.

(3) هناد، وأبو نعيم في الحلية ١/٢٥٤.

عمر:

عن محمد بن المنتشر، قال: قال رجل لعمر بن الخطاب (ت 23 هـ): إني لأعرف أشد آية في كتاب الله، فأهوى عمر فضربه بالدرة، وقال: ما لك نقبت عنها حتى علمتها!؟ فانصرف، حتى إذا كان الغد قال له عمر: الآية التي ذكرت بالأمس؟ فقال: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، فما منا أحد يعمل سوءا إلا جزي به، فقال عمر: لبثنا حين نزلت ما ينفعنا طعام ولا شراب حتى أنزل الله بعد ذلك ورخص، وقال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾(1).

__________

(1) اسحاق ابن راهويه ـ كما في إتحاف الخيرة للبوصيري ٦/١٩٨.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: إن الوجع لا يكتب به الأجر، إنما الأجر في العمل، ولكن يكفر الله به الخطايا(1).

__________

(1) ابن أبي شيبة ٣/٢٣٢.

عائشة:

عن أبي المهلب، قال رحلت إلى عائشة (ت 57 هـ) في هذه الآية: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، قالت: هو ما يصيبكم في الدنيا(1).

__________

(1) ابن راهويه في مسنده ـ كما في المطالب العالية (٣٩٣٣.

أبو هريرة:

روي عن أبي هريرة (ت 58 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: شاء الله، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: سددوا، وقاربوا، فإن في كل ما أصاب المسلم كفارة، حتى الشوكة يشاكها، والنكبة ينكبها(1).. وفي لفظ عند ابن مردويه: بكينا وحزنا، وقلنا: يا رسول الله، ما أبقت هذه الآية من شيء، قال: أما والذي نفسي بيده، إنها لكما نزلت، ولكن أبشروا، وقاربوا، وسددوا، إنه لا يصيب أحد منكم من مصيبة في الدنيا إلا كفر الله بها خطيئته، حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه(2).

2. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما يصيب المؤمن من وصب، ولا نصب، ولا سقم، ولا حزن، حتى الهم يهمه؛ إلا كفر الله به من سيئاته(3).

3. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وفي ولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة(4).

__________

(1) مسلم ٤/١٩٩٣.

(2) ابن مردويه ـ كما في تفسير ابن كثير ٢/٤٢٠.

(3) البخاري ٧/١١٤.

(4) أحمد ١٣/٢٤٨.

مسروق:

روي عن مسروق بن الأجدع (ت 62 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: احتج المسلمون وأهل الكتاب، فقال المسلمون: نحن أهدى منكم، وقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم، فأنزل الله: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، فانفلج عليهم المسلمون بهذه الآية: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ الآية(1).

2. روي أنّه قال: تفاخر النصارى وأهل الإسلام، فقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، فأنزل الله: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾(2).

__________

(1) سعيد بن منصور (٦٩٣.

(2) ابن جرير ٧/٥٠٧.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: قالت اليهود والنصارى: لا يدخل الجنة غيرنا، وقالت قريش: لا نبعث، فأنزل الله: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، والسوء: الشرك(1).

2. روي أنّه قال: قال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب؛ أنزل قبل كتابكم، ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال أهل الإسلام: كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا، فقضى الله بينهم، فقال: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، وخير بين أهل الأديان، فقال: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾ الآية(2).

3. روي أنّه قال: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، الشرك(3).

4. روي أنّ ابن عمر لقيه حزينا، فسأله عن هذه الآية: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، فقال: ما لكم ولهذه!؟ إنما هذه للمشركين؛ قريش، وأهل الكتاب(4).

5. روي أنّه قال: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ يقول: من يشرك يجز به، وهو السوء، ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ إلا أن يتوب قبل موته، فيتوب الله عليه(3).

6. روي أنّه قال: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾: الآية عامة في حق كل عامل(5).

7. روي أنّ ابن عمر لقيه، فسأله عن هذه الآية: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾، قال: الفرائض(6).

8. روي أنّه قال: لما نزلت هذه الآية شقت على المسلمين، وقالوا: يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءا غيرك!؟ فكيف الجزاء!؟ قال: منه ما يكون في الدنيا، فمن يعمل حسنة فله عشر حسنات، ومن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشر، وبقيت له تسع حسنات، فويل لمن غلبت آحاده أعشاره، وأما ما يكون جزاء في الآخرة فيقابل بين حسناته وسيئاته، فيلقى مكان كل سيئة حسنة، وينظر في الفضل، فيعطى الجزاء في الجنة، فيؤتي كل ذي فضل فضله(7).

9. روي أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا قرأ آخر سورة البقرة أو آية الكرسي ضحك، وقال: إنهما من كنز الرحمن تحت العرش، وإذا قرأ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ استرجع، واستكان(8).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٧١.

(2) ابن جرير ٧/٥١٠.

(3) ابن جرير ٧/٥١٨.

(4) عزاه السيوطي إلى ابن المنذر.

(5) تفسير البغوي ٢/٢٩٠.

(6) ابن أبي حاتم ٤/١٠٧٢.

(7) أورده الثعلبي ٣/٣٩٠.

(8) ابن مردويه كما في تفسير ابن كثير ١/٧٣٥.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: افتخر أهل الأديان، فقالت اليهود: كتابنا خير الكتب، وأكرمها على الله، ونبينا أكرم الأنبياء على الله؛ موسى، خلا به، وكلمه نجيا، وديننا خير الأديان، وقالت النصارى: عيسى خاتم النبيين، آتاه الله التوراة والإنجيل، ولو أدركه محمد تبعه، وديننا خير الدين، وقالت المجوس وكفار العرب: ديننا أقدم الأديان، وخيرها، وقال المسلمون: محمد رسول الله خاتم الأنبياء، وسيد الأنبياء، والقرآن آخر ما نزل من عند الله من الكتب، وهو أمين على كل كتاب، والإسلام خير الأديان، فخير الله بينهم، فقال: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، يعني بذلك: اليهود، والنصارى، والمجوس، وكفار العرب، ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾، ثم فضل الإسلام على كل دين، فقال: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ الآية(1).

2. روي أنّه قال: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، يعني بذلك: اليهود، والنصارى، والمجوس، وكفار العرب، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥١١.

(2) ابن جرير ٧/٥١٨.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: قالت العرب: لا نبعث، ولا نحاسب، وقالت اليهود والنصارى: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: ١١١]، وقالوا: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠]، فأنزل الله: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾(1).

__________

(1) سعيد بن منصور (٦٩٢.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾، قد يعمل اليهودي والنصراني والمشرك الخير فلا ينفعهم إلا ثوابه في الدنيا(1).

__________

(1) عزاه السيوطي إلى عَبد بن حُمَيد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، قالت اليهود للمؤمنين: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، وكتابنا القاضي على ما قبله من الكتب، ونحن أهدى منكم، قال المؤمنون: كذبتم، إنا صدقنا بكتابكم ونبيكم، وكذبتم بكتابنا ونبينا، وكتابنا القاضي على ما قبله من الكتب(1).

2. روي أنّه قال: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، الكافر، ثم قرأ: ﴿وهل يجازى إلا الكفور﴾ ([سبأ: ١٧](2).

3. روي أنّه قال: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، إنما ذاك لمن أراد الله هوانه، فأما من أراد الله كرامته فإنه يتجاوز عن سيئاته في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون(3).

4. روي أنّ أشعث بن سوار، قال: قلت للحسن البصري: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، قال لا يجزى ـ والله ـ يوم القيامة مؤمن بسوء عمله، ثم قرأ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ [الأحقاف: ١٦](4).

5. روي أنّه قال: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، والله، ما جازى الله عبدا بالخير والشر إلا عذبه، قال: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم: ٣١]، أما والله، لقد كانت لهم ذنوب، ولكنه غفرها لهم، ولم يجازهم بها، إن الله لا يجازي عبده المؤمن بذنب إذا توبقه ذنوبه(2).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين ١/٤٠٨.

(2) ابن جرير ٧/٥١٧.

(3) سعيد بن منصور (٦٩٨.

(4) الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ١/٤١٠.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: لما نزلت هذه الآية ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ قال بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما أشدها من آية! فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أما تبتلون في أموالكم وفي أنفسكم وذراريكم؟ قالوا: بلى، قال هذا مما يكتب الله لكم به الحسنات، ويمحو به السيئات(1).

__________

(1) تفسير القمّي 1/153.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ذكر لنا: أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، ونبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله، فأنزل الله: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾ الآية، فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾، إنما يتقبل الله من العمل ما كان في الإيمان(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٠٨.

(2) عزاه السيوطي إلى ابن أبي حاتم.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى، فقالت اليهود للمسلمين: نحن خير منكم، ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم، ولن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وقالت النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم، ونبينا بعد نبيكم، وديننا بعد دينكم، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم، فنحن خير منكم، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا، فرد الله عليهم قولهم، فقال: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، ثم فضل الله المؤمنين عليهم، فقال: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾، فأبى أن يقبل الإيمان إلا بالعمل الصالح، وأبى أن يقبل الإسلام إلا بالإحسان(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٠٨.

(2) ابن جرير ٧/٥٢٦.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: لما قالت اليهود للمؤمنين: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، وقال لهم المؤمنون ما قالوا؛ فأنزل الله: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾، ففضل الله المؤمنين على اليهود(1).

__________

(1) ذكره يحيى بن سلام (ت 200 هـ) ـ تفسير ابن أبي زمنين ١/٤٠٩.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، نزلت في المؤمنين واليهود والنصارى، قالت اليهود: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم؛ فنحن أهدى وأولى بالله منكم، وقالت النصارى: نبينا كلمة الله، وروح الله وكلمته، وكان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، وفي كتابنا العفو، وليس فيه قصاص، فنحن أولى بالله منكم، معشر اليهود ومعشر المسلمين، فقال المسلمون: كذبتم، كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم خاتم الأنبياء، وآمنا بنبيكم وكتابكم، وكذبتم نبينا وكتابنا، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا، فنحن أهدى منكم، وأولى منكم، فأنزل الله عز وجل: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ معشر المؤمنين ﴿وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، نزلت في المؤمنين، مجازات الدنيا، تصيبهم في النكبة بحجر، والضربة، واختلاج عرق، أو خدش عود، أو عثرة قدم فيدميه أو غيره، فبذنب قدم، وما يعفو الله عنه أكبر، فذلك قوله سبحانه: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: ٣٠]، ثم قال: ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا﴾ يعني: قريبا ينفعه، ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ يعني: ولا مانعا يمنعه من الله عز وجل(2).

3. روي أنّه قال: ﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾، يعني: ولا ينقصون من أعمالهم الحسنة نقيرا، حتى يجازوا بها، يعني: النقير الذي في ظهر النواة التي تنبت منه النخلة(2).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٠٨.

(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤٠٩.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ [النساء: ٥١] إلى آخر الآية، جاء حيي بن أخطب إلى المشركين، فقالوا له: يا حيي، إنكم أصحاب كتب، فنحن خير أم محمد وأصحابه؟ فقال: أنتم خير منه، فذلك قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾ [النساء: ٥٢]، ثم قال للمشركين: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ فقرأ حتى بلغ: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه ﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾، قال ووعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم، ولم يعد أولئك، وقرأ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت: ٧](1).

2. روي أنّه قال: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم، ولم يعد أولئك، يعني: المشركين(2).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥١٢.

(2) ابن جرير ٧/٥١٧.

باذام:

روي عن أبي صالح باذام (ت 111 هـ) قال: جلس أناس من أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الإيمان، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وقال هؤلاء: نحن أفضل، فقال الله: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، ثم خص الله أهل الإيمان، فأنزل: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥١٠.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ أخبر عز وجل أن الأمر ليس بالأماني؛ ولكن إلى الله عز وجل فهو يحتمل أن يكون في المنزلة والقدر عند الله؛ لأنهم قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، وقالوا: ﴿قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾، وغير ذلك من الأماني، وأهل التأويل يذهبون إلى غير هذا، وقالوا: إن كل فريق منهم كانوا يقولون: إن ديننا خير من دينكم، ونحن أفضل من هَؤُلَاءِ؛ فنزل: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، وذلك بعيد.

2. ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ اختلف فيه:

أ. قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، يعني: شِرْكًا يجز به؛ يدل على ذلك قوله عز وجل: ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)﴾، وذلك وصف الكافر ألا يكون له ولى يتولى حفظه، ولا نصير ينصره؛ ألا ترى أنه قال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾؛ ذكر الذين يعملون الصالحات ـ وهم مؤمنون ـ أن يدخلوا الجنة؛ فهذا ـ أيضًا ـ يدل أن قوله عز وجل: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ أراد به الشرك.

ب. وقال آخرون: قوله عز وجل: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، أي: كل سوء يدخل فيه المسلم والكافر؛ ألا ترى أنه رُوي عن أبي بكر لما نزلت هذه الآية، قال: يا رسول الله، كيف الفلاح بعد هذا وكل شيء عملناه جزينا به!؟ قال: (غَفَرَ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ! أَلَستَ تَحْزَنُ؟ أَلَستَ تَنْصَبُ؟ ألَستَ تَمْرَضُ؟ أَلَستَ يُصَيبُكَ الْأَذَى؟ فَهَذَا مَا تُجْزَوْنَ بِهِ، يُجْزَى بِهِ الْمُؤْمِنُ فِي الدنْيَا، وَالكَافِرُ فِي الْآخِرَةِ)، فإن كان التأويل هذا؛ فقوله: ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾: هو في الكافر؛ أي: لا يجد له وليا ولا نصيرا إذا لم يرجع عن كفره ومات عليه، وأما إذا رجع عن ذلك، وتاب، ومات على الإيمان فإنه يجد له وليا ونصيرا: ينصره الله تعالى وبالله التوفيق.

3. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ في الآية دليل أن الأعمال الصالحات غير الإيمان لأنه قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾، ولو كان إيمانًا؛ فيصير كأنه قال ومن يعمل الإيمان وهو مؤمن؛ فدل ـ بما ذكرنا ـ أنها غير الإيمان وفيه دلالة ـ أيضًا ـ أن الأعمال الصالحة إنما تنفع إذا كان ثمة إيمان؛ لأنه شرط فيه الإيمان بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾؛ دل أن الأعمال الصالحة لا تنفع إذا لم يكن ثمة إيمان، ولا قوة إلا بالله.

4. ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ قد ذكرناه.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٦٨.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ تقدير الكلام ليس الثواب بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب وإنما هو بالأعمال الصالحة، والخطاب بهذا إلى أهل الإسلام.

2. ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، والسوء كلما يسوء من الكبائر قيل لما نزلت هذه الآية ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ شق على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله أن تبلغ ذلك فشكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة والشوكة يشاكها.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/195.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ في الكلام مضمر محذوف وتقديره ليس الثواب بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، على قولين:

أ. أحدهما: أنهم عبدة الأوثان، وهو قول مجاهد.

ب. الثاني: أنهم أهل الإسلام، وهو قول مسروق، والسدي.

2. ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ السوء ما يسوء من القبائح، وفيه ها هنا ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أنه الشرك بالله تعالى، وهو قول ابن عباس.

ب. الثاني: أنه الكبائر، وهذا قول أُبَيِّ بن كعب.

ج. الثالث: أنه ما يلقاه الإنسان في الدنيا من الأحزان والمصائب جزاءً عن سيئاته كما روى محمد بن قيس بن مخرمة عن أبي هريرة قال لما نزلت هذه الآية: ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْرَ بِهِ﴾ شقت على المسلمين وبلغت بهم ما شاء الله أن تبلغ فَشَكو ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (قَارِبُوا وَسدِّدُواْ فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ المُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبةُ يُنْكَبُهَا أو الشَّوْكِةُ يُشَاكُهاَ)، وروى الأعمش عن مسلم قال قال أبو بكر: يا رسول الله ما أشَدَّ هذه الآية ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْرَ بِهِ﴾ فقال: (يَا أَبَا بَكْر إِنَّ المُصِيْبَةَ فِي الدُّنْيَا جَزَاءٌ)

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٣١).

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في (ليس) ضمير والتقدير ليس الثواب بأمانيكم، ولا أماني أهل الكتاب والاماني يخفف ويثقل فيقال باماني واماني على وزن أفاعيل وفعالل كقراقير وقراقر.

2. اختلفوا في من عنى بهذه الآية:

أ. فقال مسروق: تفاخر المسلمون، وأهل الكتاب، فقال المسلمون نحن أهدى منكم، وقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم، فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أماني أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ فقال أهل الكتاب نحن وأنتم سواء فأنزل الله تعالى:‏ ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ ففلح المسلمون، ذهب إلى ذلك قتادة والسدي، والضحاك وأبو صالح.

ب. وقال مجاهد: معناه ليس بأمانيكم يعني أهل الشرك من قريش، لأنهم قالوا: لا نبعث ولا نعذب، ولا أماني أهل الكتاب انهم خير من المسلمين، ولا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ذهب اليه ابن زيد وهذا الوجه أقوى لأنه لم يجر لأماني المسلمين ذكر وقد جرى ذكر أماني الكفار في قوله: ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ يعني الذي يتخذهم الشيطان‏ ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ ويقوي ذلك أن الله تعالى قد وعد المؤمنين بقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ بإدخال الجنة والخلود فيها، وتلك غاية أماني المسلمين، فكيف ينفي بعد ذلك أمانيهم؟

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾:

أ. فقال قوم: إنه يريد بذلك جميع المعاصي صغائرها وكبائرها وإن من ارتكب شيئاً منها، فإن الله يجازيه عليها، إما في الدنيا أو في الآخرة ذهب اليه قتادة وعائشة، ومجاهد.

ب. وقال آخرون: من يعمل سوءً من أهل الكتاب نجزيه ذهب اليه، الحسن، قال: كقوله: ﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾ وبه قال ابن زيد والضحاك وهو الذي يليق بمذهبنا (2)، لأنا نقطع على أن الكفار لا يغفر لهم على حال والمسلمون يجوز أن يغفر لهم ما يستحقونه من العقاب، فلا يمكننا القطع على أنه لا بد أن يجازي بكل سوء.

ج. وقال قوم: معنى السوء ها هنا الشرك فمعنى الآية من يعمل الشرك يجزيه‏ ذهب اليه ابن عباس وسعيد بن جبير.

د. وروى أبو هريرة انه لما نزلت هذه الآية شقت على المسلمين، فشكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: فادفعوا وتشددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها او الشوكة يشاكها، وقيل لبعض الصحابة: أليس بمرض، ا ليست تصيب اللأواء؟، قال بلى فهو ما تجزون به.

4. ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ معناه ولا يجد الذي يعمل سوءً من معاصي الله، وخلاف أمره ولياً يلي أمره وينصره ويحامي عنه، ويدفع عنه ما ينزل به من عقوبة الله، ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ يعني ناصراً ينصره مما يحل به من عقاب الله، واليم عذابه.

5. سؤال وإشكال: استدلت المعتزلة على المنع من غفران معاصي أهل‏ الصلاة بهذه الآية، قالوا: لأنه تعالى بين أنه يجازي على كل سيئة، وذلك يمنع من جواز العفو، والجواب: قد تكلمنا على نظير ذلك فيما مضى بما يمكن اعتماده ها هنا منها أنا لا نسلم انها تستغرق جميع من فعل السوء، بل في أهل التأويل من قال المراد به الشرك، وهو ابن عباس وقد قدمناه، ثم لا خلاف أن الآية مخصوصة، لأن التائب ومن كانت معصيته صغيرة، لا يتناوله العموم، فإذا جاز لهم تخصيص الفريقين، جاز لنا أن نخص من يتفضل الله عليه بالعفو، وهذا واضح وقد بينا الجواب عما يزاد على ذلك من الاسئلة بما فيه كفاية فيما مضى وفي كتاب شرح الجمل، لا نطول بذكره ها هنا.

6. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو، وأبو بكر، الا الكسائي وأبو جعفر وروم (يُدخلون) بضم الياء وفتح الخاء ها هنا وفي مريم والمؤمن، وافقهم رويس الا في هذه السورة.

7. وعد الله تعالى بهذه الآية جميع المكلفين من الذكور والإناث إذا عملوا الاعمال الصالحات، وهم مؤمنون مقرون بتوحيد الله وعدله، مصدقون بنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، عاملون لما اتى به بأنه يدخلهم الجنة وينيبهم فيها، ولا يبخسهم شيئاً مما يستحقونه من الثواب، وان كان مقدار نقير في الصغر، وهي النقطة التي في ظهر النواة، وقيل منها تنبت النخلة.

8. من ضم الياء وفتح الخاء، فلانه قال: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ﴾ فضم الياء، ليزدوج الكلام، ولأنهم لا يدخلونها حتى يدخلوها، ومن فتح الياء، فلأنهم إذا ادخلوا الجنة، فقد دخلوها.

9. سؤال وإشكال: ظاهر الآية يقتضي انه لا يثيب الا من آمن وعمل الصالحات فمن انفرد بالإيمان لا يستحق الثواب، وكذلك من فعل بعض الصالحات والجواب: ظاهر العموم مخصوص بلا خلاف لأنه لو آمن بالله واليوم الآخر واخترم عقيبه، لا خلاف انه يدخل الجنة، فكذلك إذا اخل ببعض الصالحات أو ارتكب معصية، فانا نعلم دخوله الجنة بدليل آخر على أن (من) في قوله: ﴿مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾ يقتضي أنه لو فعل بعض الصالحات لأدخل الجنة، لأنها للتبعيض، وإنما تقتضي الاستغراق إذا حملت على أن معناها بيان الصفة، فإذا احتمل الظاهر ما قلناه، سقطت المعارضة فأما من قال ان (من) زائدة فلا يعول على قوله، لأنه إذا أمكن حمل الكلام على فائدة، لم يجز أن يحمل على الزيادة، وبما قلناه في معنى النقير، قال مجاهد وعطية والسدي وغيرهم.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/337.

(2) يقصد الإمامية.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. المُنَى: جمع منية، والأمنِيَّة أُفْعُوَلة) من ذلك، وأصله التقدير، يقال: منى له الماني، أي قدر المقدر، ومنه سميت المنية؛ لأنها مقدَّرة.

ب. النقر: مصدر نقر يَنْقُرُ، نحو: نظر ينظر، وهو ما ينقر في الشيء ومنه: المنقار، ما ينقر به الرحى، ومنه منقار الطائر، ونقرت عن الأمر: بحثته، ومنه: النقير، الناقور، والنقير: نكتة في ظهر النواة كأنه نقر فيه، والنقير: خشبة تنقر، وينبذ فيها، وقد ورد النهي عنه ثم نسخ.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: تفاخر المسلمون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بِاللهِ منكم، وقال المسلمون: نحن أولى بِاللهِ منكم، نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب، وديننا الإسلام، فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن قتادة والضحاك.

ب. وقيل: قالت قريش: لا نبعث ولا نحاسب، وقال أهل الكتاب: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، فنزلت هذه الآية.

ج. وقيل: لما قالت اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه، فلن يدخل الجنة إلا من كان هودًا، نزلت الآية، عن مجاهد.

3. سؤال وإشكال: أليس روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: من ينجو مع هذا يا رسول الله؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: أما تمرض، أما تحزن، أما يصيبك البلاء فقال: بلى، قال هو ذاك؟ والجواب:

أ. الخبر من الآحاد وطعن عليه أبو علي، وإن ثبت فمعناه أن الصغائر تكفر بالصبر على تلك الشدائد، عن أبي علي.

ب. الثاني: أن الصغير وإن وقع مكفرًا، فإنه يستحق به ضررًا منقطعا؛ لأن صاحبه يكون به ظالمًا لنفسه، عن أبي بكر أحمد بن علي.

ج. الثالث: أنه ينقص بقدر عقاب الصغيرة من ثوابه، فينجبر بما ذكر عن أبي هاشم وأصحابه.

4. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:

أ. قيل: لما جحد المشركون ما أُوعدوا من الجزاء كذبهم في أمانيهم وبين وقوع العذاب بهم، عن أبي مسلم.

ب. وقيل: لما تقدم الوعد والوعيد بين عقيبه أنه ليس بالأماني، وإنما هو جزاء على الأعمال.

ج. وقيل: إنه يتصل بقوله: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ﴾، فبين أنه ليس بالأماني كما زين لهم الشيطان، ولكن بالأعمال.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾:

أ. قيل: فيه محذوف أي ليس الثواب والعقاب بأمانيكم.. وهو الوجه؛ لأنه الحقيقة.

ب. وقيل: ليس وضع الدين على أمانيكم، ومعنى أمانيكم قيل: ليس على ما تمنون.

ج. وقيل: ليس على ما تظنون وتقدرون.

6. الخطاب في ﴿بِأَمَانِيِّكُمْ﴾:

أ. قيل: لعبدة الأوثان، عن مجاهد وابن زيد، وأمانيهم تقديرهم أن لا بعث.

ب. وقيل: الخطاب لأهل الإسلام، عن مسروق والسدي، وأمانيهم أن يغفر لهم وإن ارتكبوا الكبائر.

7. ﴿وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ اليهود والنصارى:

أ. قيل: كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، فلا نعذب.

ب. وقيل: كانوا يقولون: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى.

ج. وقيل: قالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة.

د. وقيل: كانوا يأخذون عرض الدنيا، ويقولون: سيغفر لنا، ولا تنافي بين جميع ذلك، فقد قالوا كل ذلك، فرد عليهم.

8. ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ يعني: من يعمل معصية يجازى عليها:

أ. قيل: هو في الكفار يعاقبون على الصغير والكبير، عن الحسن وابن زيد.

ب. وقيل: هو أهل الإسلام أيضًا وغيرهم، إلا أنه مصائب الدنيا يجازى جزاء منقطعًا، عن أُبَيٍّ بن كعب وعائشة ومجاهد، وروي ذلك مرفوعًا على ما قدمنا.

ج. وقيل: المراد بالسيئة الكبائر.

د. وقيل: المراد كل معصية لا يكون معها توبة أو طاعة أعظم منها، عن أبي علي.

هـ. وقيل: أراد كل صغير وكبير، إلا أنه في الصغيرة ينقص من ثوابه بقدره، فذلك جزاؤه.

9. ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ إذا عاقبه ﴿وَلِيًّا﴾ يقوم بأمره ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ معينًا ينجيه من العذاب.

10. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾ أي من الأعمال الصالحات، وهي الطاعات ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ رجل أو امرأة، ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ مصدق لله ورسوله عامل بما فرض عليه، منتهٍ عما نهى عنه ﴿فَأُولَئِكَ﴾ يعني من تقدم ذكره ﴿يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾

11. سؤال وإشكال: لم كرر الوعد؟ والجواب:

أ. قيل: تأكيدًا.

ب. وقيل: لما عم الوعيد بقوله: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا﴾ عم الوعد بقوله: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ﴾

ج. وقيل: الأول وعد لمن خالف الشيطان؛ لأنه ورد عقيب ذكره، وهذا عام.

12. ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ﴾ لا ينقص حقهم ولا يبخس، والظلم يكون لشيئين: منع ثواب مستحق، أو فعل عقاب غير مستحق ﴿نَقِيرًا﴾ قيل: هو النقرة التي في ظهر النواة عن السدي وعطية وجماعة، والمراد أنه لا يظلم أحدًا حقه وإن قلَّ.

13. تدل الآيات الكريمة على:

أ. أن الثواب يستحق بالعمل الصالح دون الأماني.

ب. أنه يجازى على كل سوء يفعله فيبطل قول المرجئة.

ج. وتدل على بطلان قولهم في الشفاعة؛ إذ لو صح ما قالوا لكان لهم ناصر وولي.

د. أن أفعالهم حادثة من جهتهم.

هـ. أنه يجازي كل مَنْ عمل حسنة ولا يضيع لديه شيء وإن قل، فلذلك ذكر النقير مثلاً، فإنه لا يعتد به، فإذا كان ذلك لا يضيع فكيف بما زاد!؟ فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ: إنه لو لم يثب أحدًا بما عمل جاز.

و. أن الجنة تنال بالطاعات، فلذلك شرط أعمال الصالحات، فيبطل قول المرجئة.

14. قرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوبـ ﴿يَدْخُلُونَ﴾ بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله، وكذلك في سورة مريم، وحم المؤمن، وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الخاء فيها جميعًا، على أن الدخول مضاف إليهم، وكلاهما حسن، الأول أحسن؛ لأنه أفخم، ويدل على مثبت أدخلهم الجنة، ويوافق ﴿لَا يُظْلَمُونَ﴾

15. مسائل لغوية ونحوية:

أ. اسم ﴿لَيْسَ﴾ مضمر فيه، على معنى ليس الثواب الذي تقدم ذكره والوعد به بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، يعني أنها لا تستحق بالأماني، وإنما تستحق بالأعمال الصالحة.

ب. ﴿وَلَا يَجِدْ﴾ جزم عطفا على و﴿مَنْ يَعْمَلُ﴾، وإنما جزم؛ لأنه شرط وجزاء، وقيل: الوقف عند قوله: ﴿الْكِتَابِ﴾ تام؛ لأنه تمام ما عملت فيه ﴿لَيْسَ﴾ من اسمها وخبرها، ثم استؤنف الخبر بعدها بـ ﴿مِنْ﴾، و﴿مِنْ﴾ موضعه رفع بالابتداء.

ج. ﴿مِنْ﴾ في قوله: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾ قيل زائدة، وقيل: للتبعيض؛ لأنه يستحق الثواب على ما لم يحبطه، وقيل: لأن العبد لا يطيق جميعها فوعد على فعل البعض، وهو ما يطيقه، وقيل: إنه لبيان الجنس.

د. قيل: في قوله: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ فوحد ثم قال: ﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ فجمع لأن ﴿مِنْ﴾ لفظها واحد ومعناها الجمع، فمرة تخرج على اللفظ ومرة على المعنى، ولأنه اسم مبهم.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/82.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الأماني: جمع أمنية، وهي تقدير الأمن في النفس على جهة الاستمتاع به، ووزن أمنية: أفعولة من المنية، وأصله التقدير، يقال: منى له ألماني: أي قدر له المقدر، ومنه سميت المنية وهي فعيلة أي: مقدرة.

ب. النقير: النكتة في ظهر النواة، كأن ذلك نقر فيه.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل تفاخر المسلمون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم! فقال المسلمون: نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب، وديننا الاسلام، فنزلت الآية، فقال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء، فأنزل الله الآية التي بعدها ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾، ففلح المسلمون، عن قتادة، والضحاك.

ب. وقيل: لما قالت اليهود: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقال أهل الكتاب: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، نزلت الآية، عن مجاهد.

3. لما ذكر سبحانه الوعد والوعيد قال عقيب ذلك: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾:

أ. قيل: معناه: ليس الثواب والعقاب بأمانيكم أيها المسلمون، عن مسروق، والسدي.

ب. وقيل: الخطاب لأهل الشرك من قريش، لأنهم قالوا: لا نبعث، ولا نعذب، عن مجاهد، وابن زيد.

4. ﴿وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ أي: ولا بأماني أهل الكتاب في أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وهذا يقوي القول الأخير على أنه لم يجر للمسلمين ذكر في الأماني، وذكر أماني الكفار قد جرى في قوله: ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾، هذا وقد وعد الله المؤمنين فيما بعد بما هو غاية الأماني.

5. اختلف في تأويل قوله تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ على أقوال:

أ. أحدها: أنه يريد بذلك جميع المعاصي صغائرها وكبائرها، وإن من ارتكب شيثا منها، فإن الله سبحانه يجازيه عليها، إما في الدنيا، وإما في الآخرة، عن عائشة، وقتادة، ومجاهد، وروي عن أبي هريرة أنه قال: (لما نزلت هذه الآية بكينا وحزنا وقلنا: يا رسول الله ما أبقت هذه الآية من شيء فقال: أما والذي نفسي بيده، إنها لكما أنزلت، ولكن أبشروا، وقاربوا، وسددوا، إنه لا تصيب أحدا منكم مصيبة إلا كفر الله بها خطيئته، حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه) رواه الواحدي في تفسيره مرفوعا وقال القاضي أبو عاصم القارئ العامري: (في هذا قطع لتوهم من توهم أن المعصية لا تضر مع الايمان، كما أن الطاعة لا تنفع مع الكفر)

ب. ثانيها: إن المراد به مشركو قريش، وأهل الكتاب، عن الحسن، والضحاك، وابن زيد، قالوا: وهو كقوله: ﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾

ج. ثالثها: إن المراد بالسوء هنا: الشرك، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير.

6. ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ معناه: ولا يجد هذا الذي يعمل سوءا من معاصي الله، وخلاف أمره، وليا يلي أمره ينصره، ويحامي عنه، ويدفع عنه ما ينزل به من عقوبة الله، ولا نصيرا أي: ناصرا ينصره وينجيه من عذاب الله.

7. من استدلّ بهذه الآية على المنع من جواز العفو عن المعاصي، فإنا نقول له: إن من ذهب إلى أن العموم لا ينفرد في اللغة بصيغة مختصة به، لا يسلم أنها تستغرق جميع من فعل السوء، بل يجوز أن يكون المراد بها بعضهم على ما ذكره أهل التأويل، كابن عباس وغيره، على أنهم قد اتفقوا على أن الآية مخصوصة، فإن التائب ومن كانت معصيته صغيرة، لا يتناوله العموم، فإذا جاز لهم أن يخصصوا العموم في الآية بالفريقين، جاز لنا أن نخصها بمن يتفضل الله عليه بالعفو، وهذا بين والحمد لله.

8. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ وإنما قال: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾، ليبين أن الطاعة لا تنفع من دون الايمان، ﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ وعد الله تعالى بهذه الآية جميع المكلفين من الرجال والنساء، إذا عملوا الأعمال الصالحة أي: الطاعات الخالصة، وهم مؤمنون، موحدون، مصدقون نبيه، بأن يدخلهم الجنة، ويثبتهم فيها، ولا يبخسهم شيئا مما يستحقونه من الثواب، وإن كان مقدار نقير في الصغر.

9. وقد قابل سبحانه الوعيد العام في الآية التي قبل هذه الآية بالوعد العام في هذه الآية، ليقف المؤمن بين الخوف والرجاء.

10. (يدخلون الجنة): بضم الياء، هناك، وفي مريم، وحم، مكي، بصري، وأبو جعفر، وأبو بكر، والباقون ﴿يَدْخُلُونَ﴾ بفتح الياء وضم الخاء، حجة من قرأ ﴿يَدْخُلُونَ﴾ قوله: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ﴾ ومن قرأ يدخلون فلأنهم لا يدخلونها حتى يدخلوها.

11. مسائل لغوية ونحوية:

أ. اسم ليس مضمر، لدلالة الكلام عليه، والتقدير ليس الأمر بأمانيكم أي: ليس الثواب بأمانيكم.

ب. ﴿وَلَا يَجِدْ﴾ مجزوم عطفا على الجزاء، لا على الشرط، وهو قوله: ﴿يُجْزَ﴾ والوقف عند قوله: ﴿أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ وقف تام، ثم استؤنف الخبر بعدها بمن يعمل ومن: موضعه رفع بالابتداء على ما تقدم ذكر أمثاله.

ج. من في قوله: ﴿مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾ مزيدة، وقيل: هو للتبعيض، لأن العبد لا يطيق جميعها، وقيل: إنه لتبيين الجنس.

د. قال: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ فوحد، ثم قال: ﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ فجمع، لان من اسم مبهم موحد اللفظ، مجموع المعنى، فيعود الضمير إليه مرة على اللفظ، ومرة على المعنى.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/174.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنّ أهل الأديان اختصموا، فقال أهل التّوراة: كتابنا خير الكتاب، ونبيّنا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال المسلمون: كتابنا نسخ كلّ كتاب، ونبيّنا خاتم الأنبياء، فنزلت هذه الآية، ثم خيّر بين الأديان بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾، رواه العوفيّ عن ابن عباس، وإلى هذا المعنى ذهب مسروق وأبو صالح وقتادة والسّدّيّ.

ب. الثاني: أن العرب قالت: لا نبعث، ولا نعذّب، ولا نحاسب، فنزلت هذه الآية، هذا قول مجاهد.

ج. الثالث: أن اليهود والنّصارى قالوا: لا يدخل الجنّة غيرنا، وقالت قريش: لا نبعث، فنزلت هذه الآية، هذا قول عكرمة.

2. قال الزجّاج: اسم (ليس) مضمر، والمعنى: ليس ثواب الله عز وجل بأمانيّكم، وقد جرى ما يدلّ على الثّواب، وهو قوله تعالى: ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾

3. في المشار إليهم بقوله: (أمانيّكم) قولان‏:

أ. أحدهما: أنهم المسلمون على قول الأكثرين.

ب. الثاني: المشركون على قول مجاهد، فأمّا أمانيّ المسلمين، فما نقل من قولهم: كتابنا ناسخ للكتب، ونبيّنا خاتم الأنبياء، وأمانيّ المشركين قولهم: لا نبعث، وأمانيّ أهل الكتاب قولهم: نحن أبناء الله وأحبّاؤه، وأن النار لا تمسّنا إلا أياما معدودة، وأنّ كتابنا خير الكتاب، ونبيّنا خير الأنبياء، فأخبر الله عزّ وجلّ أن دخول الجنة والجزاء، بالأعمال لا بالأمانيّ.

4. في المراد (بالسّوء) قولان‏:

أ. أحدهما: أنه المعاصي، ومنه حديث أبي بكر أنه قال يا رسول الله كيف الصّلاح بعد هذه الآية: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ فإذا عملنا سوءا جزينا به، فقال: غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به.

ب. الثاني: أنه الشّرك، قاله ابن عباس، ويحيى بن أبي كثير.

5. في هذا الجزاء قولان:

أ. أحدهما: أنه عامّ في كلّ من عمل سوءا فإنه يجازى به، وهو معنى قول أبيّ بن كعب، وعائشة، واختاره ابن جرير، واستدلّ عليه بحديث أبي بكر الذي قدمناه.

ب. الثاني: أنه خاصّ في الكفّار يجازون بكل ما فعلوا، فأما المؤمن فلا يجازى بكلّ ما جنى، قاله الحسن البصريّ، وقال ابن زيد: وعد الله المؤمنين أن يكفّر عنهم سيئاتهم، ولم يعد المشركين.

6. ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا﴾ قال أبو سليمان: لا يجد من أراد الله أن يجزيه بشيء من عمله وليّا، وهو القريب، ولا ناصرا يمنعه من عذاب الله وجزائه.

7. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾، قال مسروق: لما نزلت‏ ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء، فنزلت‏ ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾، وهذه تدلّ على ارتباط الإيمان بالعمل الصالح، فلا يقبل أحدهما إلّا بوجود الآخر، وقد سبق ذكر (النّقير)

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/476.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الأمنية أفعولة من المنية، وتمام الكلام في هذا اللفظ مذكور في قوله تعالى: ﴿إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: 52]

2. (ليس) فعل، فلا بدّ من اسم يكون هو مسندا إليه، وفيه وجوه:

أ. الأول: ليس الثواب الذي تقدم ذكره والوعد به في قوله: ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي﴾ [النساء: 122] الآية، بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، أي ليس يستحق بالأماني إنما يستحق بالإيمان والعمل الصالح.. وهو أولى لأن إسناد ﴿لَيْسَ﴾ إلى ما هو مذكور فيما قبل أولى من إسناده إلى ما هو غير مذكور.

ب. الثاني: ليس وضع الدين على أمانيكم.

ج. الثالث: ليس الثواب والعقاب بأمانيكم.

3. الخطاب في قوله: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ خطاب مع من؟ فيه قولان:

أ. الأول: أنه خطاب مع عبدة الأوثان، وأمانيهم أن لا يكون هناك حشر ولا نشر ولا ثواب ولا عقاب، وإن اعترفوا به لكنهم يصفون أصنامهم بأنها شفعاؤهم عند الله، وأما أماني أهل الكتاب فهو قولهم‏ ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 111]، وقولهم‏ ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18] فلا يعذبنا، وقولهم‏ ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80]

ب. الثاني: أنه خطاب مع المسلمين، وأمانيهم أن يغفر لهم وإن ارتكبوا الكبائر، وليس الأمر كذلك، فإنه تعالى يخص بالعفو والرحمة من يشاء كما قال‏: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 116] وروي أنه تفاخر المسلمون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبيّنا قبل نبيّكم وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: نبيّنا خاتم النبيّين، وكتابنا ناسخ الكتب، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

4. اختلف في قوله تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾:

أ. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: هذه الآية دالة على أنه تعالى لا يعفو عن شيء من السيئات، وليس لقائل أن يقول: هذا يشكل بالصغائر فإنها مغفورة قالوا: الجواب عنه من وجهين:

الأول: أن العام بعد التخصيص حجة.

الثاني: أن صاحب الصغيرة قد انحبط من ثواب طاعته بمقدار عقاب تلك المعصية، فههنا قد وصل جزاء تلك المعصية إليه.

ب. أجاب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ بأن الكلام على عموماته قد تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 81] والذي نزيده في هذه الآية وجوه:

الأول: لم لا يجوز أن يكون المراد من هذا الجزاء ما يصل إلى الإنسان في الدنيا من الغموم والهموم والأحزان والآلام والأسقام، والذي يدل على صحة ما ذكرنا القرآن والخبر، أما القرآن فهو قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا﴾ [المائدة: 38] سمي ذلك القطع بالجزاء وأما الخبر:

● فما روي‏ أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض، أليس يصيبك الأذى فهو ما تجزون.

● عن عائشة أن رجلا قرأ هذه الآية فقال: أنجزى بكل ما نعمل لقد هلكنا، فبلغ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كلامه فقال: يجزى المؤمن في الدنيا بمصيبته في جسده وما يؤذيه.

● عن أبي هريرة: لما نزلت هذه الآية بكينا وحزنا وقلنا: يا رسول الله ما أبقت هذه الآية لنا شيئا، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أبشروا فإنه لا يصيب أحدا منكم مصيبة في الدنيا إلا جعلها الله له كفارة حتى الشوكة التي تقع في قدمه)

الثاني: هب أن ذلك الجزاء إنما يصل إليهم يوم القيامة لكن لم لا يجوز أن يحصل الجزاء بنقص ثواب إيمانه وسائر طاعاته، ويدل عليه القرآن والخبر والمعقول:

● أما القرآن فقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114]

● وأما الخبر: فما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال لما نزلت هذه الآية شقت على المؤمنين مشقة شديدة، وقالوا يا رسول الله وأينا لم يعمل سوأ فكيف الجزاء، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنه تعالى وعد على الطاعة عشر حسنات وعلى المعصية الواحدة عقوبة واحدة فمن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقيت له تسع حسنات فويل لمن غلبت آحاده أعشاره)

● وأما المعقول: فهو أن ثواب الإيمان وجميع الطاعات أعظم لا محالة من عقاب الكبيرة الواحدة والعدل‏ يقتضي أن يحط من الأكثر مثل الأقل، فيبقى حينئذ من الأكثر شيء زائد فيدخل الجنة بسبب تلك الزيادة.

الثالث في الجواب: أن هذه الآية إنما نزلت في الكفار، والذي يدل على ما ذكرناه أنه تعالى قال بعد هذه الآية: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ [النساء: 124] فالمؤمن الذي أطاع الله سبعين سنة ثم شرب قطرة من الخمر فهو مؤمن قد عمل الصالحات، فوجب القطع بأنه يدخل الجنة بحكم هذه الآية، وقولهم: خرج عن كونه مؤمنا فهو باطل للدلائل الدالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن، مثل ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ إلى قوله: ﴿فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى﴾ [الحجرات: 9] سمي الباغي حال كونه باغيا مؤمنا، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة: 178] سمي صاحب القتل العمد العدوان مؤمنا، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى الله﴾ [التحريم: 8] سماه مؤمنا حال ما أمره بالتوبة، فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن، وإذا كان مؤمنا كان قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾ حجة في أن المؤمن الذي يكون صاحب الكبيرة من أهل الجنة، فوجب أن يكون قوله: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ مخصوصا بأهل الكفر.

الرابع: هب أن النص يعم المؤمن والكافر، ولكن قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48] أخص منه والخاص مقدم على العام، ولأن إلحاق التأويل بعمومات الوعيد أولى من إلحاقه بعمومات الوعد لأن الوفاء بالوعد كرم، وإهمال الوعيد وحمله على التأويل بالتعريض جود وإحسان.

5. دلّت الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لأن قوله: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا﴾ يتناول جميع المحرمات، فدخل فيه ما صدر عن الكفار مما هو محرم في دين الإسلام ثم قوله: ﴿يُجْزَ بِهِ﴾ يدل على وصول جزاء كل ذلك إليهم.

6. سؤال وإشكال: لم لا يجوز أن يكون ذلك الجزاء عبارة عما يصل إليهم من الهموم والغموم في الدنيا؟ والجواب: لا بد وأن يصل جزاء أعمالهم الحسنة إليهم في الدنيا إذ لا سبيل إلى إيصال ذلك الجزاء إليهم في الآخرة، وإذا كان كذلك فهذا يقتضي أن يكون تنعمهم في الدنيا أكثر ولذاتهم هاهنا أكمل، ولذلك‏ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، وإذا كان كذلك امتنع أن يقال: إن جزاء أفعالهم المحظورة تصل إليهم في الدنيا، فوجب القول بوصول ذلك الجزاء إليهم في الآخرة.

7. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ دلت الآية الكريمة على أن العبد فاعل، ودلت أيضا على أنه بعمل السوء يستحق الجزاء، وإذا دلت الآية الكريمة على مجموع هذين الأمرين فقد دلت على أن الله غير خالق لأفعال العباد، وذلك من وجهين:

أ. أحدهما: أنه لما كان عملا للعبد امتنع كونه عملا لله تعالى لاستحالة حصول مقدور واحد بقادرين.

ب. الثاني: أنه لو حصل بخلق الله تعالى لما استحق العبد عليه جزاء ألبتة وذلك باطل، لأن الآية دالة على أن العبد يستحق الجزاء على عمله، واعلم أن الكلام على هذا النوع من الاستدلال مكرر في هذا الكتاب.

8. ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾، قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ دلت الآية الكريمة على نفي الشفاعة، والجواب من وجهين:

أ. الأول: أنا قلنا أن هذه الآية في حق الكفار.

ب. الثاني: أن شفاعة الأنبياء والملائكة في حق العصاة إنما تكون بإذن الله تعالى، وإذا كان كذلك فلا ولي‏ لأحد ولا نصير لأحد إلا الله سبحانه وتعالى.

﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ قال مسروق: لما نزل قوله: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: 123] قال أهل الكتاب للمسلمين: نحن وأنتم سواء، فنزلت هذه الآية إلى قوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا﴾

9. قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم يدخلون الجنة بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله، وكذلك في سورة مريم وفي حم المؤمن، والباقون بفتح الياء وضم الخاء في هذه السورة جميعا على أن الدخول مضاف إليهم، وكلاهما حسن، والأول أحسن لأنه أفخم، ويدل على مثيب أدخلهم الجنة ويوافق‏ ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ﴾ وأما القراءة الثانية: فهي مطابقة لقوله تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ﴾ [الزخرف: 70] ولقوله: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ﴾ [الحجر: 46] [ق: 34]

10. قالوا: الفرق بين (من) الأولى والثانية: أن الأولى: للتبعيض، والمراد من يعمل بعض الصالحات لأن أحدا لا يقدر على أن يعمل جميع الصالحات، بل المراد أنه إذا عمل بعضها حال كونه مؤمنا استحق الثواب.

11. هذه الآية من أدل الدلائل على أن صاحب الكبيرة لا يبقى مخلدا في النار، بل ينقل إلى الجنة، وذلك لأنا بينا أن صاحب الكبيرة مؤمن، ذلك أن صاحب الكبيرة إذا كان قد صلّى وصام وحج وزكى وجب بحكم هذه الآية أن يدخل الجنة، ولزم بحكم الآيات الدالة على وعيد الفساق أن يدخل النار، فأما أن يدخل الجنة ثم ينقل إلى النار فذلك باطل بالإجماع، أو يدخل النار ثم ينقل إلى الجنة فذلك هو الحق الذي لا محيد عنه.

12. النقير: نقرة في ظهر النواة منها تنبت النخلة، والمعنى أنهم لا ينقصون قدر منبت النواة.

13. سؤال وإشكال: كيف خص الله الصالحين بأنهم لا يظلمون مع أن غيرهم كذلك كما قال‏: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46]، وقال‏: ﴿وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 108]، والجواب: من وجهين:

أ. الأول: أن يكون الراجع في قوله: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ﴾ عائدا إلى عمال السوء وعمال الصالحات جميعا.

ب. الثاني: أن كل ما لا ينقص عن الثواب كان بأن لا يزيد في العقاب أولى هذا هو الحكم فيما بين الخلق، فذكر الله تعالى هذا الحكم على وفق تعارف الخلق.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/226.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، من أحسن ما روي في نزولها ما رواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال قالت اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان منا، وقالت قريش: ليس نبعث، فأنزل الله ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، وقال قتادة والسدي: تفاخر المؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أحق بالله منكم، وقال المؤمنون: نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على سائر الكتب، فنزلت الآية.

2. ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، السوء ها هنا الشرك، قال الحسن: هذه الآية في الكافر، وقرأ (وهل يجازى إلا الكفور)، وعنه أيضا ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ قال ذلك لمن أراد الله هو انه، فأما من أراد كرامته فلا، قد ذكر الله قوما فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾، وقال الضحاك: يعني اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب، وقال الجمهور: لفظ الآية عام، والكافر والمؤمن مجازى بعمله السوء، فأما مجازاة الكافر فالنار، لان كفره أو بقه، وأما المؤمن فبنكبات الدنيا، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال لما نزلت ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ بلغت من المسلمين مبلغا شديدا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها)

3. وخرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول، في الفصل الخامس والتسعين: حدثنا إبراهيم بن المستمر الهذلي قال حدثنا عبد الرحمن بن سليم بن حيان أبو زيد قال سمعت أبي يذكر عن أبيه قال صحبت ابن عمر من مكة إلى المدينة فقال لنافع: لا تمر بي على المصلوب، يعني ابن الزبير، قال فما فجأه في جوف الليل أن صك محمله جذعه، فجلس فمسح عينيه ثم قال: يرحمك الله أبا خبيب أن كنت وأن كنت! ولقد سمعت أباك الزبير يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (من يعمل سوءا يجز به في الدنيا أو في الآخرة) فإن يك هذا بذاك فهيه، قال الترمذي أبو عبد الله: فأما في التنزيل فقد أجمله فقال: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ فدخل فيه البر والفاجر والعدو والولي والمؤمن والكافر، ثم ميز رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذا الحديث بين الموطنين فقال: (يجز به في الدنيا أو في الآخرة) وليس يجمع عليه الجزاء في الموطنين، ألا ترى أن ابن عمر قال فإن يك هذا بذاك فهيه، معناه أنه قاتل في حرم الله وأحدث فيه حدثا عظيما حتى أحرق البيت ورمي الحجر الأسود بالمنجنيق فانصدع حتى ضبب بالفضة فهو إلى يومنا هذا كذلك، وسمع للبيت أنينا: آه آه! فلما رأى ابن عمر فعله ثم رآه مقتولا مصلوبا ذكر قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، ثم قال إن يك هذا القتل بذاك الذي فعله فهيه، أي كأنه جوزي بذلك السوء هذا القتل والصلب! ثم ميز رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث آخر بين الفريقين، حدثنا أبي قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا محمد بن مسلم عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي قال لما نزلت ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ قال أبو بكر: ما هذه بمبقية منا، قال: يا أبا بكر إنما يجزى المؤمن بها في الدنيا ويجزى بها الكافر يوم القيامة)، حدثنا الجارود قال حدثنا وكيع وأبو معاوية وعبدة عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر ابن [أبي] زهير الثقفي قال لما نزلت ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ قال أبو بكر: كيف الصلاح يا رسول الله مع هذا؟ كل شي عملناه جزينا به، فقال: (غفر الله لك يا أبا بكر ألست تنصب، ألست تحزن، ألست تصيبك اللأواء)؟ قال: (بلى، قال فذلك مما تجزون به) ففسر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما أجمله التنزيل من قوله: من يعمل سوءا يجز به، وروى الترمذي عن أبي بكر أنها لما نزلت قال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أما أنت يا أبا بكر والمؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة)، قال حديث غريب: وفي إسناده مقال، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل، ومولى بن سباع مجهول، وقد روي هذا من غير وجه عن أبي بكر وليس له إسناد صحيح أيضا، وفي الباب عن عائشة، قلت: خرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد ابن سلمة عن علي بن يزيد عن أمه أنها سألت عائشة عن هذه الآية ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ وعن هذه الآية ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ فقالت عائشة: ما سألني أحد منذ سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عنها، فقال: يا عائشة، هذه مبايعة الله بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيفزع فيجدها في عيبته، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر من الكير، واسم ليس) مضمر فيها في جميع هذه الأقوال، والتقدير: ليس الكائن من أموركم ما تتمنونه، بل من يعمل سوءا يجز به.

4. وقيل: المعنى ليس ثواب الله بأمانيكم، إذ قد تقدم ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ﴾

5. ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ يعني المشركين، لقوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾

6. وقيل: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ إلا أن يتوب، وقراءة الجماعة ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ﴾ بالجزم عطفا على ﴿يُجْزَ بِهِ﴾، وروى ابن بكار عن ابن عامر ﴿وَلَا يَجِدْ﴾ بالرفع استئنافا، فإن حملت الآية على الكافر فليس له غدا ولي ولا نصير، وإن حملت على المؤمن فليس له ولي ولا نصير دون الله.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/396.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ قرأ أبو جعفر: بتخفيف الياء من أماني في الموضعين، واسم ليس محذوف، أي: ليس دخول الجنة أو الفضل أو القرب من الله بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب، كما يدل على ذلك سبب نزول الآية الآتي، وقيل: ضمير يعود إلى وعد الله، وهو بعيد، ومن أمانيّ أهل الكتاب قولهم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ وقولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ وقولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾

2. ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ قيل: المراد بالسوء: الشرك، وظاهر الآية أعمّ من ذلك، فكل من عمل سوءا أيّ سوء كان؛ فهو مجزيّ به، من غير فرق بين المسلم والكافر، وفي هذه الجملة ما ترجف له القلوب من الوعيد الشديد، وقد كان لها في صدور المسلمين عند نزولها موقع عظيم، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة، قال لما نزلت: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ بلغت من المسلمين مبلغا شديدا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (قاربوا وسدّدوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها)

3. ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ﴾ قرأه الجماعة: بالجزم، عطفا على الجزاء، وروى ابن بكار عن ابن عامر: ﴿وَلَا يَجِدْ﴾ بالرفع استئنافا؛ أي: ليس لمن يعمل السوء من دون الله وليا يواليه، ولا نصيرا ينصره.

4. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾ أي: بعضها حال كونه‏ ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ وحال كونه مؤمنا، والحال الأولى: لبيان من يعمل، والحال الأخرى: لإفادة اشتراط الإيمان في كل عمل صالح‏ ﴿فَأُولَئِكَ﴾ إشارة إلى العمل المتصف بالإيمان‏ ﴿يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ قرأ أبو عمرو، وابن كثير: ﴿يَدْخُلُونَ﴾ بضم حرف المضارعة على البناء المجهول، وقرأ الباقون: بفتحها على البناء للمعلوم‏ ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ أي: لا ينقصون شيئا حقيرا، وقد تقدّم تفسير النقير.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/599.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ﴾ قول الله المعلوم من قوله: ﴿وَمَنَ اَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً﴾، أي: ليس إدخال الجنَّة، أو ليس العمل الصالح، أو ليس مضمون قوله وهو الخير الدائم الباقي، أو ليس وعده، أي: مضمونه من الخير وهو الموعود؛ فذلك استخدامٌ إذْ رجع الضمير إلى الوعد بالمعنى المصدريِّ، على معنى الموعود، أو ليس الموعود الذي تضمَّنه عامل (وَعْدَ اللهِ)، أو ليس الثواب أو العقاب، أي: أحدهما، أو ليس الثواب، أو ليس الإيمان المدلول عليه بقوله: ﴿آمَنُوا﴾، أو ليس المعنى المتحاوَرُ فيه، وهو قول اليهود: ديننا وكتابنا أسبق وأفضل، لن يدخل الجنَّة إلَّا من كان هودًا، وقالت النصارى مثل ذلك، وقال المسلمون: ديننا دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وتأخَّر نبيُّنا وكتابنا وأُمرتم باتباعهما وترك كتبكم.

2. ﴿بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ معتبرًا بأمانيكم، أو متعلِّقًا بها، أو منيلاً بها، والخطاب للمؤمنين؛ لأنَّ الكتاب نزل عليهم، وقيل: الخطاب لأهل الشرك؛ لأنَّهم قالوا: لا بعث ولا عذاب، ويؤيِّده أنَّه لم يجر ذكر لتمنِّي المؤمنين، وقيل: للمشركين وأهل الكتاب، وهو بشدِّ الياء، جمع أمنيَّة بشدِّها، وأصله أُمْنُويَةٌ، كأعجوبة، قلبت الواو ياء وأُدغمت وكُسِر ما قبلها، وهي ما يتمنَّونه من دخول الجنَّة بالتوحيد، بلا تكاليف كالجهاد، أو مع الكبائر بعد التوحيد، ولو لم ينصحوا التوبة، وبكون نبيِّهم وكتابهم أشرف الأنبياء والكتب وخاتمهم وقاضين عليهم، وبإيمانهم بالأنبياء كلِّهم، والكتب كلِّها، وفي البخاري عن أنس عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتخلِّي، ولكن هو ما وقر في القلب)، فأمَّا علم القلب فالعلم النافع، وعلم اللسان حجَّة على ابن آدم.

3. ﴿وَلَآ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ من أنَّهم لا يلبثون في النَّار إلَّا أيَّامًا معدودة وأنَّهم أبناء الله وأحبَّاؤه، وأنَّه لا يدخل الجنَّة إلَّا من كان هودًا أو نصارى، ومن أنَّ لهم مزية بتقدُّم كتبهم وأنبيائهم، فهم أولى بالله سبحانه، أو الخطاب للمشركين لتقدُّم ذكرهم، إذ تمنَّوا أن لا بعث ولا حساب، وإن كانا كانوا في الآخرة أولى من المؤمنين، وإلَّا فلا أقلَّ من أن يكون لهم ما للمؤمنين.

4. إنَّما يعتبر وعد الله بما وقر في القلب وصدَّقه العمل، إنَّ قومًا ألهتهم أمانيُّ المغفرة حتَّى خرجوا من الدُّنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظنَّ بالله تعالى، وكذبوا، لو أحسنوا الظنَّ لأحسنوا العمل، وقرَّر ذلك بقوله: ﴿مَنْ يَّعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ عاجلاً أو آجلاً، اقتصر على السوء، لأنَّ المقام للردِّ على من يزعم أنَّ سوءه لا يضرُّه، ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ﴾ لنفسه ﴿مِن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ يدفع عنه العذاب قبل مجيئه أو بعده.

5. لَمَّا نزلت الآية شقَّت على المؤمنين فقالوا: يا رسول الله، وأيُّنا لم يعمل سوءا غيرك؟ فكيف الجزاء؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنَّ الله وعد على الطَّاعة عشر حسنات، وعلى المعصية عقوبة واحدة، فمن جوزي بالسيِّئة نقصت واحدة من عشر، وبقيت له تسع، فويل لمن غلب آحادُه أعشارَه)، وقال أبو بكر  : (فمن ينجو من هذا يا رسول الله؟)، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أما تحزن؟ أَما تمرض؟ أَما يصيبك اللأْواء؟)، قال: (بلى يا رسول الله)، قال: (هو ذلك)، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنَّه قال حين نزلت وشَكَوْا إليه: (سدِّدوا وقاربوا، فإِنَّ كلَّ ما أصاب المسلم كفَّارة، حتَّى الشوكة يُشاكها، والنكبة يُنكَبُها)

6. أجمع العلماء أنَّ المصائب تكفَّر بها الخطايا، والأكثرون على رفع الدرجات بها أيضًا، وتكتب بها الحسنات، وهذا هو الصحيح، ومن المصائب الهمُّ، ولو قلَّت مشقَّتها، ففي الحديث: (ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلَّا كتبت له بها درجة، ومحيت بها عنه خطيئة)، وقيل: تكفَّر الخطايا بالمصائب ولا ترفع بها الدرجات، ولا تكتب بها الحسنات، وإنَّما قال ابن مسعود بها لأنَّه لم تبلغه أحاديث الدرجات والحسنات، وأقول: تكفَّر بها الكبائر التي أهملت لكن لم يصرَّ عليها، وعن عائشة: (يخرج العبد من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير)، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا يزال الصداع والمليلة ـ أي: الحمَّى ـ بالمسلم حتَّى تدعه كالفضَّة البيضاء)

7. وقال الحسن: نزلت في الكفَّار؛ لأنَّهم يجازَوْنَ على الصغيرة والكبيرة، والمؤمن يجزى بأحسن عمله، ثمَّ قرأ قوله تعالى: ﴿لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمُ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ [الزمر: 35]، ويدلُّ لقول الحسن أنَّ الله سبحانه عقَّب الآية بما للمؤمنين إذ قال: ﴿وَمَنْ يَّعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ اَوُ انثَىٰ وَهُوَ مُومِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ كما هو عادة القرآن من تعقيب ما للكفَّار بما للمؤمنين وعكسه، والصحيح أنَّها نزلت عامَّةً لِلكُفَّارِ والمؤمنين، كما هو قول أبي بكر والصحابة.

8. والنقير: النقرة في ظهر النواة، لا ينقص الله من الثواب الذي استحقَّه المؤمن مثلها، فأولى أن لا يزيدها على العاصي؛ لأنَّ رحمته تعالى أوسع، وسبقت غضبَه، والحسنة بعشر، والسيِّئة بواحدة، وهو أرحم الراحمين، ﴿وَمَا رَبـُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصِّلت: 46]، ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ﴾ [غافر: 31]

9. والظاهر أنَّ المراد بالصالحات الفرائضُ، كما قال ابن عبَّاس، والمعنى: ما وجب عليه من الصالحات، عَمِلَ النفلَ معها أو لم يعمل، وإلَّا فعَمَلُ النفلِ وحده أو مع بعض ما وجب عليه دون بعض لا يدخل به الجنَّة.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/296.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ أي: ليس الأمر على شهواتكم وأمانيكم أيها المشركون أن تنفعكم الأصنام‏ ﴿وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ ولا على شهوات اليهود والنصارى حيث‏ قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18] ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80] ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، أي: من المشركين وأهل الكتاب بدليل قوله: ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ وهذا وعيد للكفار لأنه قال بعده: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾

2. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ جملة حالية، و(من) الأولى: زائدة عند الأخفش، وصفة عند سيبويه، أي: شيئا من الصالحات‏ ﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ أي: لا ينقص من حسناتهم قدر نقير، وهو النقرة التي على ظهر النواة، وهذا على سبيل المبالغة في نفي الظلم، ووعد بتوفية جزاء أعمالهم من غير نقصان، والراجع في‏ ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ﴾ لعمال السوء وعمال الصالحات جميعا، وجاز أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دليلا على ذكره عند الآخر.

3. قوله تعالى:‏ ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، وقوله: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾ بعد ذكر تمني أهل الكتاب كقوله سبحانه‏ ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: 81]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ عقيب قوله: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾

4. ما قدمناه من أن الخطاب في قوله تعالى:‏ ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ للمشركين وأن قوله تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا﴾ أي: من أهل الكتاب والمشركين ـ هو الذي يدل عليه سياق الآية ونظمها الكريم كما بينا، ورواه الطبريّ‏ عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن، قال الأولان: (السوء) هاهنا هو الشرك، وقال الحسن: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا﴾ هو الكافر، ثم قرأ ﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾، ولما كان لعموم هذا الخطاب روعة، وأيّ روعة، أشفق كثير من الصحابة لأجله، قال ابن كثير: وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من‏ الصحابة.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/348.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال محمد عبده: يقال في سبب النزول أنه اجتمع نفر من المسلمين واليهود والنصارى وتكلم كل في تفضيل دينه فنزل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ الآية والمعنى بناء على ذلك: ليس شرف الدين وفضله ولا نجاة أهله به أن يقول القائل منهم: إن ديني أفضل وأكمل، وأحق وأثبت، وإنما عليه إذا كان موقنا به أن يعمل بما يهديه إليه فإن الجزاء إنما يكون على العمل لا على التمني والغرور، فلا أمر نجاتكم أيها المسلمون منوطا بأمانيكم في دينكم، ولا أمر نجاة أهل الكتاب منوطا بأمانيهم في دينهم، فإن الأديان ما شرعت للتفاخر والتباهي، ولا تحصل فائدتها بمجرد الانتماء إليها والتمدح بها بلوك الألسنة والتشدق في الكلام، بل شرعت للعمل.

2. قال: والآية مرتبطة بما قبلها سواء صح ما روي في سبب نزولها أم لم يصح لأن قوله تعالى: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ﴾ في الآيات التي قبلها يدخل فيه الأماني التي كان يتمناها أهل الكتاب غرورا بدينهم إذ كانوا يرون أنهم شعب الله الخاص ويقولون أنهم أبناء الله وأحباؤه وأنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وغير ذلك مما يقولون ويدعون، وإنما سرى هذا الغرور إلى أهل الأديان من اتكالهم على الشفاعات، وزعمهم أن فضلهم على غيرهم من البشر بمن بعث فيهم من الأنبياء لذاتهم، فهم بكرامتهم يدخلون الجنة وينجون من العذاب لا بأعمالهم، فحذرنا الله أن نكون مثلهم، وكانت هذه الأماني قد دبت إلى المسلمين في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بدليل قوله تعالى في سورة الحديد ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الحديد: 16] الآية فهذا خطاب للذين كانوا ضعفاء الإيمان من المسلمين في العصر الأول ولأمثالهم في كل زمان، والله عليم بما كانوا عليه حين أنزل هذه الموعظة وبما آل وما يؤول إليه أمرهم بعد ذلك، ولو تدبروا قوله لما كان لأمثال هذه الأماني عليهم من سلطان فقد بين لهم طرق الغرور ومداخل الشيطان فيها، وقد روي حديث عن الحسن (ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل) وقال الحسن: إن قوما غرتهم المغفرة فخرجوا من الدنيا وهم مملوءون بالذنوب ولو صدقوا لأحسنوا العمل.

3. ثم ذكر محمد عبده بعد هذا حال مسلمي هذا العصر في غرورهم وأمانيهم ومدح دينهم وتركهم العمل به وبين أصنافهم في ذلك، ومما قاله: إن كثيرا من الناس يقولون تبعا لمن قبلهم في أزمنة مضت: إن الإسلام أفضل الأديان، أي دين أصلح إصلاحه؟ أي دين أرشد إرشاده؟ أي شرع كشرعه في كماله؟ ولو سئل الواحد منهم: ماذا فعل الإسلام؟ وبماذا يمتاز على غيره من الأديان؟ لا يحير جوابا، وإذا عرضت عليه شبهة على الإسلام واسأل كشفها حاص حيصة الحمر وقال: أعوذ بالله، أعوذ بالله، والضال يبقى على ضلاله، والطاعن في الدين يتمادى في طعنه، والمغرور يسترسل في غروره، فالكلام كثير ولا علم ولا عمل يرفع شأن الإسلام والمسلمين، اه ما قاله محمد عبده بإيضاح لبعض الجمل واختصار في بيان ضروب الغرور وأصناف المغترين.

4. ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ هذا بيان من الله لحقيقة الأمر في المسألة فإنه لما نفى أن يكون الأمر منوطا بالأماني والتشهيات وغرور الناس بدينهم كان من يسمع هذا النفي جديرا بأن يتشوف إلى استبانة الحق والوقوف على حكم الله فيه، ويجعله موضوع السؤال، فبينه عز وجل بصيغة العموم، والمعنى أن كل من يعمل سوءا يلق جزاءه لأن الجزاء بحسب سنة الله تعالى أثر طبيعي للعمل لا يتخلف في أتباع بعض الأنبياء وينزل بغيرهم كما يتوهم أصحاب الأماني والظنون فعلى الصادق في دينه المخلص لربه أن يحاسب نفسه على العمل بما هداه إليه كتابه ورسوله ويجعله معيار سعادته لا كون ذلك الكتاب أكمل، وذلك الرسول أفضل فإن من كان دينه أكمل تكون الحجة عليه في التقصير أقوى.

5. أورد السيوطي في الدر المنثور أحاديث في الجزاء الدنيوي على الأعمال وجعلها تفسيرا للآية، وبعض ما ورد في ذلك مطلق عام ويؤخذ من بعضه أنه خاص بالمؤمنين أو كمَلَتِهم، وهذا هو الذي مال إليه الأستاذ في الدرس، وإذا طبقنا المسألة على سنة الله التي لا تبديل لها ولا تحويل علمنا أن مصائب الدنيا تكون جزاء على ما يقصر فيه الناس من السير على سنن الفطرة وطلب الأشياء من أسبابها، واتقاء المضرات باجتناب عللها ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: 30] ومن ذلك التقصير ما هو معصية شرعية كشرب الخمر الذي هو علة أمراض كثيرة ومنها ما ليس كذلك.

6. ولما كان عمل السوء يدسي النفس ويدنس الروح كان سببا طبيعيا للجزاء في الآخرة كما تكون الخمر سببا للجزاء في الدنيا بتأثيرها في الكبد والجهاز الهضمي والجهاز التنفسي بل والمجموع العصبي، فهل يكون المرض الناشئ عن شرب الخمر كفارة للجزاء على شربها في الآخرة ويكون ذلك داخلا في معنى كون مصائب الدنيا كفارات للذنوب وأن من لم يصب بمرض ولا مصيبة بسبب ذنبه يعاقب عليه في الآخرة ويحرم من مثل هذه الكفارة كما إذا شرب الخمر مرة أو مرات لم تؤثر في بدنه تأثيرا شديدا؟ أم المصائب تكون كفارات للذنوب التي هي مسببة عنها ولغيرها مطلقا؟ وكيف ينطبق هذا التكفير على سنة الله في الجزاء الأخروي؟

7. الحق في المسألة أنه لا يشذ شيء عن سنن الله تعالى، وأن المصيبة في الدنيا إنما تكون كفارة في الآخرة إذا أثرت في تزكية النفس تأثيرا صالحا وكانت سببا لقوة الإيمان أو ترك السوء والتوبة منه لظهور ضرره في الدين أو الدنيا، أو الرغبة في عمل صالح بما تحدثه من العبرة، ومن شأن المؤمن المهتدي بكتاب الله تعالى أن يستفيد من المصائب والنوائب فتكون مربية لعقله ونفسه كما بيناه في التفسير وغير التفسير مرارا، ولا يعقل أن تكون كل مصيبة كفارة لذنب أو لعدة ذنوب بل ربما كانت المصيبة سببا لمضاعفة الذنوب واستحقاق أشد العذاب، كالمصائب التي تحمل أهل الجزع ومهانة النفس وضعف الإيمان دع الكفر على ذنوب لم يكونوا ليقترفوها لولا المصيبة، والكلام في الآية على جزاء الآخرة بالذات كما يدل عليه مقابله في الآية الأخرى.

8. أما قوله تعالى: ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ فمعناه أن من يعمل السوء ويستحق الجزاء عليه بحسب سنن الله تعالى في تأثير عمل السوء تأثيرا تكون عاقبته شرا منه كما قال في سورة أخرى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ الله وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الروم: 10] لا يجد له وليا غير الله يتولى أمره، ويدفع الجزاء عنه، ولا نصيرا ينصره وينقذه مما يحل به، لا من الأنبياء الذين تفاخر ويتفاخر أصحاب الأماني بالانتساب إليهم، ولا من غيرهم من المخلوقات التي اتخذها بعض البشر آلهة وأربابا، لا على معنى أنها هي الخالقة بل على معنى أنها شافعة وواسطة، فكل تلك الأماني في الشفعاء كأضغاث الأحلام، برق خلب وسحاب جهام، وإنما المدار في النجاة على الإيمان والأعمال، كما صرح به فقال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾

9. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ أي كل من يعمل ما يستطيع عمله من الصالحات أي الأعمال التي تصلح بها النفوس في أخلاقها وآدابها وأحوالها الشخصية والاجتماعية سواء كان ذلك العامل ذكرا أو أنثى خلافا لبعض البشر الذين حقروا شأن الإناث، فجعلوهن في عداد العجماوات لا في عداد الناس من يعمل ما ذكر من الصالحات وهو متلبس بالإيمان مطمئن به فأولئك العاملون المؤمنون بالله واليوم الآخر يدخلون الجنة بزكاء أنفسهم وطهارة أرواحهم، ويكونون مظهر فضل الله تعالى وكرمه، ومحل إحسانه ورضوانه، ولا يظلمون من أجور أعمالهم شيئا ما أي لا ينقصون شيئا وإن كان بقدر النقير وهو النكتة التي تكون في ظهر النواة وهي ثقبة صغيرة وتسمى نقرة كأنها حصلت بنقر منقار صغير ويضرب بها المثل في القلة لا ينقصون شيئا بل يزيدهم الله من فضله.

10. ولا يعارض هذه الآية والآيات الكثيرة التي بمعناها حديث: (لن يدخل أحدكم الجنة عمله) الخ لأن معناه أن الإنسان مهما عمل من الصالحات لا يستحق على عمله تلك الجنة العظيمة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر إلا بفضل الله الذي جعل الجزاء الكبير على عمل قليل، وهو الذي هدى إليه، وأقدر عليه.

11. وقد قدم ههنا ذكر العمل على ذكر الإيمان لأن السياق في خطاب قوم مؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله قد قصروا في الأعمال واغتروا بالأماني ظانين أن مجرد الانتساب إلى أولئك الرسل والإيمان بتلك الكتب هو الذي يجعلهم من أهل جنة الله، وأكثر الآيات يقدم فيها ذكر الإيمان على ذكر العمل لورودها في سياق بيان أصل الدين، ومحاجة الكافرين، والإيمان في هذا المقام هو الأصل المقدم والعمل أثره وممده، ومن الحديث في معنى الآية: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله)

12. هذا وإن في هاتين الآيتين(123 ـ 124) من العبرة والموعظة ما يدك صروح الأماني ومعاقل الغرور التي يأوي إليها ويتحصن فيها الكسالى والجهال والفساق من المسلمين الذين جعلوا الدين كالجنسية السياسية وظنوا أن الله العزيز الحكيم يحابي من يسمي نفسه مسلما ويفضله على من يسميها يهوديا أو نصرانيا بمجرد اللقب، وأن العبرة بالأسماء والألقاب لا بالعلم والعمل، ومتى يرجع هؤلاء إلى هدي كتابهم الذي يفخرون به، ويبنون قصور أمانيهم على دعوى اتباعه؟ ـ وقد نبذوه وراء ظهورهم، وحرموا الاهتداء به على أنفسهم، لأن بعض المعممين سموا الاهتداء به من الاجتهاد الذي أقفل دونهم بابه، وانقرض في حكمهم أربابه، ولا تلازم بين الاهتداء بالقرآن، والقدرة على استنباط ما تحتاج إليه الأمة من الأحكام، فقد كان عامة أهل الصدر الأول من هؤلاء المهتدين، ولم يكونوا كلهم أئمة مستنبطين، وقد يقدر على الاستنباط، من لم يكن قائما على هذا الصراط، فيا أهل القرآن! لستم على شيء حتى تقيموا القرآن، وتهتدوا بهديه في الإيمان والأعمال، وتبذلوا في سبيله الأنفس والأموال، وإلا فقد رأيتم ما حل بكم بعد ترك هديته من الخزي والنكال، وضياع الملك وسوء الحال، فإلى متى هذا الغرور والإهمال، وحتى تتعللون بالأماني وكواذب الآمال؟

13. هذا ـ ومن أراد زيادة البصيرة في غرور المسلمين بدينهم على تقصيرهم في العمل به وفي نشره والدعوة إليه فليراجع كتاب الغرور في آخر الجزء الثالث من كتاب الإحياء للغزالي ولولا أنني الآن حلف أسفار، لا يقر لي في بلد قرار، لأطلت بعض الإطالة في بيان الغرور والمغترين، والأماني والمتمنين، إثارة لكوامن العبرة واستدرارا لبواخل العبرة، وليس عندي في هذه الآية شيء عن محمد عبده.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/353.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن بين سبحانه في الآيات السالفة أن الشيطان يعدهم ويمنيهم، ويدخل في تلك الأماني ما كان يمنّيه أهل الكتاب من الغرور بدينهم، إذ كانوا يرون أنهم شعب الله الخاص، ويقولون: إنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات، وقد سرى لهم هذا الغرور من اتكالهم على الشفاعات وزعمهم أن فضلهم على غيرهم من البشر بمن بعث فيهم من الأنبياء، فهم يدخلون الجنة بكرامتهم لا بأعمالهم، حذّرنا في هذه الآيات الكريمات أن نكون مثلهم، وكانت هذه الأماني قد دبّت إلى المسلمين في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما دل على ذلك قوله: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ﴾ الآية، فلضعفاء الإيمان من المسلمين في الصدر الأول ولأمثالهم في كل زمان أنزلت هذه الموعظة، ولو تدبروها لما كان لهذه الأماني عليهم من سلطان.

2. ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ أي ليس فضل الدين وشرفه ولا نجاة أهله به أن يقول القائل منهم: إن ديني أفضل وأكمل، بل عليه أن يعمل بما يهديه إليه، فإن الجزاء إنما يكون على العمل، لا على التمني والغرور: فليس أمر نجاتكم ولا أمر نجاة أهل الكتاب منوطا بالأماني في الدين، فالأديان لم تشرع للتفاخر والتباهي، ولا تحصل فائدتها بالانتساب إليها دون العمل بها.

3. ثم أكد ذلك وبيّنه بقوله: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ أي إن من يعمل سوءا يلق جزاءه، لأن الجزاء بحسب سننه تعالى أثر طبيعي للعمل، لا يتخلف في اتباع بعض الأنبياء وينزل بغيرهم كما يتوهم أصحاب الأماني والظنون، فعلى الصادق في دينه أن يحاسب نفسه على العمل بما هداه إليه كتابه ورسوله، ويجعل ذلك المعيار في سعادته، لا أن يجعل تكأته أن هذا الكتاب أكمل، ولا أن ذلك الرسول أفضل.

4. أخرج مسلم وغيره عن أبى هريرة قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله تعالى فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (سدّدوا وقاربوا، فإن في كل ما أصاب المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنّكبة ينكبها)، والأحاديث بهذا المعنى كثيرة، ومن ثم يرى عامة العلماء أن الأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها يكفر الله بها الخطايا، ويرى بعضهم أن المصائب لا تكفّر إلا إذا أثرت في النفس تأثيرا صالحا وكانت سببا في قوة الإيمان وترك السوء والتوبة منه والرغبة في صالح العمل بما تحدثه من العبرة فتكون مربّية لعقله ونفسه، أما إذا ضاعفت الذنوب كالمصائب التي تحمل صاحبها على الجزع ومهانة النفس وضعف الإيمان إلى ذنوب أخرى لم يكونوا ليقترفوها لولا المصيبة فلا تكفر شيئا من الخطايا بل تزيدها.

5. ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ أي من يعمل السوء ويستحق العقاب عليه لا يجد له وليا غير الله يتولى أمره ويدفع الجزاء عنه، ولا نصيرا ينصره وينقذه مما يحلّ به؛ لا من الأنبياء الذين تفاخر بهم ولا من غيرهم من المخلوقات التي اتخذها بعض البشر آلهة وأربابا، فكل تلك الأماني تكون أضغاث أحلام، وإنما يكون المدار في ذلك على الإيمان والأعمال كما قال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ أي ومن يعمل كل ما يستطيع عمله من الأعمال التي تصلح بها النفوس في أخلاقها وآدابها وأحوالها الاجتماعية، سواء كان العامل ذكرا أو أنثى وهو مطمئن القلب بالإيمان ـ فأولئك العاملون المؤمنون بالله واليوم الآخر يدخلون الجنة بزكاء أنفسهم وطهارة أرواحهم ولا يظلمون من أجور أعمالهم شيئا ولو حقيرا كالنقير.

6. في هذه الآية وما قبلها من العبرة والموعظة ما يهدم صروح الأماني التي يأوي إليها الكسالى وذوو الجهالة من المسلمين الذين يظنون أن الله يحابى من يسمى نفسه مسلما ويفضله على اليهودي والنصراني لأجل هذا اللقب، فالذين يفخرون بالانتساب إليه وقد نبذوه وراء ظهورهم وجرموا الاهتداء بهديه، هم في ضلال مبين.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/164.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يعقب السياق بقاعدة الإسلام الكبرى في العمل والجزاء.. إن ميزان الثواب والعقاب ليس موكولا إلى الأماني، إنه يرجع إلى أصل ثابت، وسنة لا تتخلف، وقانون لا يحابي، قانون تستوي أمامه الأمم ـ فليس أحد يمت إلى الله سبحانه بنسب ولا صهر ـ وليس أحد تخرق له القاعدة، وتخالف من أجله السنة، ويعطل لحسابه القانون.. إن صاحب السوء مجزى بالسوء؛ وصاحب الحسنة مجزى بالحسنة، ولا محاباة في هذا ولا مماراة.

2. لقد كان اليهود والنصارى يقولون: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾.. وكانوا يقولون: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾.. وكان اليهود ولا يزالون يقولون: إنهم شعب الله المختار! ولعل بعض المسلمين كانت تراود نفوسهم كذلك فكرة أنهم خير أمة أخرجت للناس، وأن الله متجاوز عما يقع منهم.. بما أنهم المسلمون.. فجاء هذا النص يرد هؤلاء وهؤلاء إلى العمل، والعمل وحده، ويرد الناس كلهم إلى ميزان واحد، هو إسلام الوجه لله ـ مع الإحسان ـ واتباع ملة إبراهيم وهي الإسلام، إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا..

3. فأحسن الدين هو هذا الإسلام ـ ملة إبراهيم ـ وأحسن العمل هو (الإحسان).. والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وقد كتب الإحسان في كل شيء حتى في إراحة الذبيحة عند ذبحها، وحد الشفرة، حتى لا تعذب وهي تذبح! وفي النص تلك التسوية بين شقي النفس الواحدة، في موقفهما من العمل والجزاء؛ كما أن فيه شرط الإيمان لقبول العمل، وهو الإيمان بالله: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)﴾..

4. وهو نص صريح على وحدة القاعدة في معاملة شقي النفس الواحدة ـ من ذكر أو أنثى، كما هو نص صريح في اشتراط الإيمان لقبول العمل، وأنه لا قيمة عند الله لعمل لا يصدر عن الإيمان ولا يصاحبه الإيمان وذلك طبيعي ومنطقي لأن الإيمان بالله هو الذي يجعل العمل الصالح يصدر عن تصور معين وقصد معلوم؛ كما يجعله حركة طبيعية مطردة، لا استجابة لهوى شخصي، ولا فلتة عابرة لا تقوم على قاعدة..

5. وهذه الألفاظ الصريحة تخالف ما ذهب إليه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسير جزء (عم) عند قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾.. إذ رأى النص لعمومه هذا يشمل المسلم وغير المسلم، بينما النصوص الصريحة الأخرى تنفي هذا تماما، وكذلك ما رآه الأستاذ الشيخ المراغي، وقد أشرنا إلى هذه القصة في جزء عم.

6. لقد شق على المسلمين قول الله لهم: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾.. فقد كانوا يعرفون طبيعة النفس البشرية؛ ويعرفون أنها لا بد أن تعمل سوءا، مهما صلحت، ومهما عملت من حسنات.. كانوا يعرفون النفس البشرية ـ كما هي في حقيقتها ـ وكانوا من ثم يعرفون أنفسهم.. لم يخدعوا أنفسهم عن حقيقتها؛ ولم يخفوا عن أنفسهم سيئاتها؛ ولم يتجاهلوا ما يعتور نفوسهم من ضعف أحيانا، ولم ينكروا أو يغطوا هذا الضعف الذي يجدونه، ومن ثم ارتجفت نفوسهم، وهم يواجهون بأن كل سوء يعملونه يجزون به.

7. ارتجفت نفوسهم كالذي يواجه العاقبة فعلا ويلامسها، وهذه كانت ميزتهم، أن يحسوا الآخرة على هذا النحو، ويعيشوا فيها فعلا بمشاعرهم كأنهم فيها، لا كأنها آتية لا ريب فيها فحسب! ومن ثم كانت رجفتهم المزلزلة لهذا الوعيد الأكيد! وروى مسلم والترمذي والنسائي من حديث سفيان بن عيينة ـ بإسناده ـ عن أبي هريرة قال لما نزلت: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (سددوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها)..

8. على أية حال لقد كانت هذه حلقة في إنشاء التصور الإيماني الصحيح عن العمل والجزاء، ذات أهمية كبرى في استقامة التصور من ناحية، واستقامة الواقع العملي من ناحية أخرى، ولقد هزت هذه الآية كيانهم، ورجفت لها نفوسهم، لأنهم كانوا يأخذون الأمر جدا، ويعرفون صدق وعد الله حقا، ويعيشون هذا الوعد ويعيشون الآخرة وهم بعد في الدنيا.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/763.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ ردّ على أولئك الذين يتمنون على الله الأماني دون عمل..! والأمانىّ التي لا ترتبط بعمل، ولا تتجه إلى هدف، هي أباطيل وأضاليل وأوهام وأضغاث أحلام، لا يمسك منها صاحبها إلا سرابا، ولا يجنى منها إلا حسرة وندما على ما كان من تفريط وتقصير.. وإذن فليس الإيمان مجرد كلمة يتلفظ بها الإنسان، ليدخل بها في جماعة المؤمنين، وليتخذ منها زيّا يندسّ به بينهم، وينال ما ينالون، ويطعم بما يطعمون، مما أعد الله لهم من رضوان، وجنات لهم فيها نعيم مقيم.. هكذا من غير أن يكون منه عمل صالح! بل الإيمان في حقيقته، قول وعمل، معتقد وسلوك.. فمن لم يحقق الإيمان على هذا الوجه فليس مؤمنا، وليس له أن ينال شيئا مما أعد الله للمؤمنين..

2. ولهذا جاء قوله تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ ليقرر هذا المضمون الذي احتواه قوله سبحانه‏ ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ في جانب الذين يتمنون الأماني الباطلة، فلا يكون منهم عمل صالح.. فهؤلاء سيجزون سوء ما عملوا، وليس لهم من يدفع عنهم أخذ الله لهم..

3. وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ هو تقرير لمصير الجانب الآخر، المقابل لأولياء الشيطان، وهو جانب أولياء الله، الذين لم يفتنهم الشيطان، ولم يغرقهم في الأماني الباطلة.. فهؤلاء آمنوا وعملوا الصالحات، أي أنهم آمنوا بالله، ثم حوّلوا هذا الإيمان إلى سلوك وعمل، فغرسوا في مغارس‏ الخير ومهّدوا ما غرسوا، وحرسوه من الآفات، فكان لهم من الله هذا الجزاء الحسن: ﴿يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾

4. في تقديم دخولهم الجنة هنا على استيفاء حقهم كاملا ـ في هذا تطمين لقلوب المؤمنين، وأنهم سيدخلون الجنة على أي حال، فضلا وكرما من الله عليهم.. أما مناقشتهم الحساب، فإنه لكى يروا ما عملوا من خير، وكيف نمّاه الله لهم، وأجزل لهم الثواب عليه.. والنقير: النّقرة تكون في ظهر النّواة، ومنها ينبت أصل النخلة!

5. في قوله تعالى: ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ تسوية بين الرجل والمرأة في التكاليف الشرعية، وفي الجزاء، وفي قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ قيد لازم لقبول العمل الصالح والجزاء الحسن عليه، فإنه بغير الإيمان لا يزكو عمل عند الله، ولا يقبل..

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/910.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الأظهر أنّ قوله: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ استئناف ابتدائي للتنويه بفضائل الأعمال، والتشويه بمساويها، وأنّ في (ليس) ضميرا عائدا على الجزاء المفهوم من قوله: ﴿يُجْزَ بِهِ﴾، أي ليس الجزاء تابعا لأماني الناس ومشتهاهم، بل هو أمر مقدّر من الله تعالى تقديرا بحسب الأعمال، وممّا يؤيّد أن يكون قوله: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ استئنافا ابتدائيا أنّه وقع بعد تذييل مشعر بالنهاية وهو قوله: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾ [النساء: 122]، وممّا يرجّحه أنّ في ذلك الاعتبار إبهاما في الضمير، ثم بيانا له بالحملة بعده، وهي: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾؛ وأنّ فيه تقديم جملة ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ عن موقعها الذي يترقّب في آخر الكلام، فكان تقديمها إظهارا للاهتمام بها، وتهيئة لإبهام الضمير، وهذه كلّها خصائص من طرق الإعجاز في النظم.

2. جملة ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ استئناف بياني ناشئ عن جملة ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ لأنّ السامع يتساءل عن بيان هذا النفي المجمل، ولهذا الاستئناف موقع من البلاغة وخصوصية تفوت بغير هذا النظم الذي فسّرناه، وجعل صاحبـ (الكشاف) الضمير المستتر عائدا على وعد الله، أي ليس وعدّ الله بأمانيّكم؛ فتكون الجملة من تكملة الكلام السابق حالا من‏ ﴿وَعَدَ الله﴾ [النساء: 122]، وتكون جملة ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ استئنافا ابتدائيا محضا.

3. روي الواحدي في أسباب النزول (2).. مبين أن كلّ من اتّبع هدى الله فهو من أهل الجنة وكلّ من ضلّ وخالف أمر الله فهو مجازى بسوء عمله، فالذين آمنوا من اليهود قبل بعثة عيسى وعملوا الصالحات هم من أهل الجنة وإن لم يكونوا على دين عيسى، فبطل قول النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا والذين آمنوا بموسى وعيسى قبل بعثه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وعملوا الصالحات يدخلون الجنّة، فبطل قول المسلمين واليهود: لن يدخل الجنّة إلّا من كان على ديننا فكانت هذه الآية حكما فصلا بين الفرق، وتعليما لهم أن ينظروا في توفّر حقيقة الإيمان الصحيح، وتوفّر العمل الصالح معه، ولذلك جمع الله أماني الفرق الثلاث بقوله: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾

4. ثم إنّ الله لوّح إلى فلج حجّة المسلمين بإشارة قوله: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ فإن كان إيمان اختلّ منه بعض ما جاء به الدين الحقّ، فهو كالعدم، فعقّب هذه الآية بقوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [النساء: 125]، والمعنى أنّ الفوز في جانب المسلمين، لا لأنّ أمانيّهم كذلك، بل لأنّ أسباب الفوز والنجاة متوفّرة في دينهم.

5. الباء في قوله: ﴿بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ للملابسة، أي ليس الجزاء حاصلا حصولا على حسب أمانيّكم، وليست هي الباء التي تزاد في خبر ليس لأنّ أمانيّ المخاطبين واقعة لا منفية.

6. الأمانيّ جمع أمنية، وهي اسم للتمنّي، أي تقدير غير الواقع واقعا، والأمنية بوزن أفعولة كالأعجوبة، وقد تقدّم ذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ في سورة البقرة [78]، وكأنّ ذكر المسلمين في الأماني لقصد التعميم في تفويض الأمور إلى ما حكم الله ووعد، وأنّ ما كان خلاف ذلك لا يعتدّ به، وما وافقه هو الحقّ، والمقصد المهمّ هو قوله: ﴿وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ على نحو: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: 24] فإنّ اليهود كانوا في غرور، يقولون: لن تمسّنا النار إلّا أيّاما معدودة، وقد سمّى الله تلك أماني عند ذكره في قوله: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80] ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ [البقرة: 111]، أمّا المسلمون فماحشون من اعتقاد مثل ذلك، وقيل: الخطاب لكفار العرب، أي ليس بأمانيّ المشركين، إذ جعلوا الأصنام شفعاءهم عند الله، ولا أمانيّ أهل الكتاب الذين زعموا أنّ أنبياءهم وأسلافهم يغنون عنهم من عذاب الله، وهو محمل للآية.

7. ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ زيادة تأكيد، لردّ عقيدة من يتوهّم أنّ أحدا يغني عن عذاب الله، والوليّ هو المولى، أي المشارك في نسب القبيلة، والمراد به المدافع عن قريبه، والنصير الذي إذا استنجدته نصرك، أو الحليف، وكان النصر في الجاهلية بأحد هذين النوعين.

8. وجه قوله: ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ قصد التعميم والردّ على من يحرم المرأة حظوظا كثيرة من الخير من أهل الجاهلية أو من أهل الكتاب، وفي الحديث‏ (وليشهدن الخير ودعوة المسلمين)، و(من) لبيان الإبهام الذي في (من) الشرطية في قوله: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/261.

(2) ذكر ما ورد في سبب النزول الذي سبق ذكره.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى أن الشيطان يلقى بالأماني الباطلة في نفوس الذين يوسوس لهم بالشر، فيجعلهم يتمنون الخير في غير موضعه، ويقومون بأعمال يرجون بها نفعا ولا نفع فيها، فليس الخير عندهم بعمل صالح يقومون به، ولكنهم يتمنون المثوبة فيما لا مثوبة فيه، ويرجون الخير من غير أن يتخذوا أسبابه، في هذه الآيات يبين سبحانه وتعالى أن الأمور ليست بالتمني ولكن بالعمل، ومن يعمل سوءا يجز به، ومن يعمل صالحا ينل جزاءه.

2. ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ إن الله أوعد المفسدين بالشر، ووعد الصالحين بالثواب العظيم والنعيم المقيم، ولكن الأماني تتحكم في النفوس، فتتمنى ما لم تعمل له، وتسير وراء ما تتمنى من غير أن يربطوا بين العمل والجزاء، والسبب والمسبب، فنبه سبحانه إلى ذلك.

3. الأماني جمع أمنية، وهي ما يتمناه الإنسان، ويرغب فيه، ويحبه، ولو لم يتخذ له أسبابه، والضمير في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ يعود على ما وعد به من عذاب وثواب، والمعنى ليس ما ينزل بكم جزاء لما تعملون بالأماني تتمنونها.

4. سؤال وإشكال: لمن الخطاب في قوله: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾؟ أهو للمشركين أم لعامة المسلمين؟ والجواب: في ذلك توجيهان:

أ. أحدهما: أن الخطاب للمسلمين، والمعنى على هذا: ليس الأمر بما تتمنون أنتم معشر المسلمين وأهل الكتاب، إنما بما تعملون، فمن يعمل عملا لسوء نفسه أو غيره يجز به في الدنيا والآخرة، ولا يجد له غير الله نصيرا ينصره، أو وليا يعاضده أو يواليه في شره بل الجميع يبرأ منه، ويزكى ذلك الوجه ما يروى عن قتادة، لقد قال ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضى على الكتب التي كانت قبله، فنزلت الآية ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾، وقد يكون في هذا الوجه نظر؛ لأنه يضع أهل الكتاب في موضع المؤمنين في الاحتجاج، مع أن كلام أهل الإيمان هو الحق الذى لا شك فيه، وفيه الإيمان بالكتب السابقة، مع الكتاب الكريم.

ب. الثاني: أن يكون الخطاب لمشركى العرب، ويكون في الكلام التفات فبعد أنه كان يتكلم عنهم بضمير الغائب‏، التفت وخاطبهم بضمير الخطاب تنبيها لهم وبيانا للحق، وبيان أن العمل هو الذى يقدم صاحبه ويؤخره، ويزكى هذا الوجه ما روى عن مجاهد شيخ مفسري التابعين فقد قال: (قالت العرب: لن نبعث، ولن نعذب، وقال اليهود والنصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، تلك أمانيهم)، فكانت هذه الآية ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ ردا على هذه الأوهام، وقد رجح ذلك الوجه ابن جرير الطبري وقال في ترجيحه: (وأولى التأويلين بالصواب ما قاله مجاهد؛ لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي قبل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ وإنما جرى ذكر أماني نصيب الشيطان المفروض، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾، وقوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ فإلحاق معنى قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ بما جرى ذكره قبل، أحق وأولى من ادعاء تأويل لا دلالة عليه من التنزيل ولا أثر عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا إجماع من أهل التأويل، وإنما نختار ما اختاره ابن جرير، لما ساقه من دليل.

5. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، ما هو الجزاء؟ أهو الدنيوي أم الأخروى؟ والجواب:

أ. قال بعض العلماء إنه الجزاء الدنيوي ويستدل على ذلك بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فيما رواه عطاء ـ لأبى بكر: يا أبا بكر، إنك تمرض، وإنك تحزن، وإنك يصيبك أذى، فذاك بذاك‏، وكان هذا تفسيرا للنص.

ب. وقال آخرون: إن المراد الجزاء الأخروي وهو المناسب للنص، وللآيات السابقة، والجزاء القرآني دائما جزاء أخروي والحق هو القول الأخير، أن الجزاء هو الأخروي والدنيوى إن كانت حكمة الله تعالى في جزاء دنيوي كالتشريد والذلة، والهزيمة في الحروب.

6. ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ أي أن الشيطان الذى كان يوسوس لهم يختفى سلطانه ولا يكون له ولاء لهم، لا يوادهم ولا يحبهم، ولا يناصرهم، كما قال تعالى عنه وعنهم يوم القيامة: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [إبراهيم‏]

7. هذا جزاء أهل الشر، أما جزاء أهل الخير فقد ذكره سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ وهنا يذكر سبحانه وتعالى جزاء الذين يعملون عملا صالحا، فيعينه، ولا يتركه مجملا، فقد ذكر في الآية السابقة، جزاء الشر به ولم يبينه، ولكنه ذكر أنه على قدر العمل من غير أن يبين صنف الجزاء، والعبرة في ذلك هو المساواة بين الجزاء والعمل، وأنه بهذا لا يظلم لأن الجزاء على قدر العمل، فالجريمة والعقاب متساويان، وهنا ملاحظتان:

أ. إحداهما أن الله تعالى يقول: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾ أي أنه يعمل بعض الصالحات؛ وذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يعمل كل الصالحات، بل يستطيع أن يعمل بعضها؛ لأن طاقته النفسية والبدنية لا تمكنه من عمل كل الخير، وكل يعمل على قدر طاقته من غير تقصير، والله تعالى يغفر القصور، في ذلك إشارة إلى أن الإنسان يطلب من العبادة ما يطيق من غير شقة ولذلك لم يطالب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأقصى الغاية من العبادة، بل قال: (سددوا وقاربوا)

ب. الثانية: أنه ذكر الأنثى في قوله تعالى: ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ و(من) هنا بيانية، فهي بيان لمن في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ﴾ والأحكام الشرعية كلها تشمل النساء والرجال، إلا ما يقوم الدليل فيه على أن أحد الصنفين مختص بحكم؛ لأنه يكون ملائما لطبيعته، وإن ذكر الإناث‏ في الأحكام العامة فيه إشعار بكمال الإنسانية في المرأة وأن لها حقوقا، وعليها واجبات اقتضاها التكليف فما من عبادة إلا طولبت بها المرأة كما طولب بها الرجل، وإن كان للرجل اختصاص في بعض العبادات كالجهاد، وسبب ذلك الرجولة ذاتها، والإعفاء من واجب شاق لا يعد حرمانا، في الحق إن المرأة تقوم بواجبات شاقة تنفرد بها أيضا، كالحمل والولادة، والقيام على شئون الأولاد في المهد، وقد اشترط لاستحقاق الأعمال الصالحة أن يكون من يعملها متصفا بالإيمان، فإن الجزاء من الله تعالى ويجب أن يكون العمل قد قصد به وجهه وحده، فالثواب ليس على مجرد العمل، بل على النية فيه، وقصد الخير، وذلك لا يكون إلا إذا قصد به وجه الله تعالى.

8. وقد أكد سبحانه وتعالى الجزاء بقوله: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ أي لا ينقصون من عملهم الصالح شيئا، ولو كان شيئا صغيرا بقدر النقير، وهو العلامة التي تكون في ظهر النواة، فتظهر كثقب صغير، وتسمى نقرة كأنها حصلت بمنقار طائر صغير، ويضرب العرب بها المثل في القلة، وإن مثل هذا الجزاء لا يستحقه العبد إلا بفضل من الله تعالى بدليل أنه يقبل بعض الصالحات ويدخل الجنة عليها، ولا ينقص شيئا فهو يفيض بالثواب، ولا ينقص من عمل الخير.

9. سؤال وإشكال: تساءل الزمخشري لماذا ذكر عدم الظلم ولم يذكره في عمل السوء؟ والجواب: وأجاب عن ذلك بأن عدم الظلم ملاحظ هناك بذكره هنا، في الحق إن عدم الظلم ملاحظ هناك من النص ذاته، فقد ذكرنا أن الله سبحانه وتعالى قال ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ وهذا فيه النص على أن الجزاء بقدر العمل، ومؤدى هذا ألا يظلم، وكان الجزاء عمل الغير أكثر منه من أن ينقصوا، أما في‏ عمل الشر، فالجزاء لا زيادة فيه، والإيمان الصادق الذى لا تسيطر عليه الأماني والأحلام هو الاتجاه إلى الله تعالى.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1869.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ترتكز هاتان الآيتان على مبدأ بديهي، لا يجادل أحد فيه، ويرتفع بقيمته من مستوى التعديل والتغير بتغير الأزمان والأحوال، والتخصيص بالنساء أو الرجال، وهو (الإنسان مجزي بأعماله ان خيرا فخير، وان شرا فشر).. وتكرر هذا المعنى بأساليب شتى في كتاب الله، منها قوله في الآيتين: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾، ومنها: ﴿لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ [ابراهيم: 51]، ومنها: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم: 31].. إلى كثير من الآيات.

2. ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، قال الجاحدون لمن دعاهم إلى الايمان: سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين، ان هذا الا خلق الأولين، وما نحن بمعذبين، وقال اليهود والنصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وقال قائل من المسلمين: ان النار خلقت لغير المسلمين.. وهكذا كل أناس فرحون بما يدينون.. فرد الله عليهم جميعا بقوله: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ كائنا من كان، وليس بين الله وبين أحد نسب ولا سبب إلا الإخلاص والعمل الصالح، وكفى دليلا على ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ﴾، وفي الحديث: ان الله يقول غدا: اليوم أضع نسبكم، وأرفع نسبي، أين المتقون؟ وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (ما نحن إلا عبيد الذي خلقنا واصطفانا، والله مالنا على الله حجة، ولا معنا من الله براءة، وانّا لميتون وموقوفون‏ ومسؤولون، من أحب الغلاة فقد أبغضنا، ومن أبغضهم فقد أحبنا، الغلاة كفار، والمفوضة مشركون‏)

3. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾، ما دام الذكر والأنثى سواء في التكليف والمسئولية تحتم أن يكونا سواء في الجزاء، ومهما قيل في الفرق بين الرجل والمرأة في هذه الحياة فإنه لا فرق إطلاقا بينهما يوم الحق والفصل، فالمقارنة ان صحت بوجه ما فإنها لا تصح بحال من حيث الجزاء على الحسنات والسيئات.

4. ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ شرط لدخول الجنة، كما هو صريح الآية: ﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ وليس شرطا لغيرها من الجزاء والمكافأة على العمل الصالح، فالكافر إذا عمل الخير لوجه الخير، لا للشهرة والاتجار، كافأه الله عليه، لأنه عادل لا يضيع أجر من أحسن عملا، كيف وهو القائل: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾، وليس من الضروري أن تكون الجنة جزاء المحسن، فقد يكون الجزاء في الدنيا، أو في الآخرة بتخفيف العذاب، أو لا بالجحيم ولا بالنعيم.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/446.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ عود إلى بدء الكلام وبمنزلة النتيجة المحصلة الملخصة من تفصيل الكلام، وذلك أنه يتحصل من المحكي من أعمال بعض المؤمنين وأقوالهم، وإلحاحهم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يراعي جانبهم، ويعاضدهم ويساعدهم على غيرهم فيما يقع بينهم من النزاع والمشاجرة أنهم يرون أن لهم بإيمانهم كرامة على الله سبحانه وحقا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يجب به على الله ورسوله مراعاة جانبهم، وتغليب جهتهم على غيرهم على الحق كانوا أو على الباطل، عدلا كان الحكم أو ظلما على حد ما يراه اتباع أئمة الضلال، وحواشي رؤساء الجور وبطائنهم وأذنابهم، فالواحد منهم يمتن على متبوعه ورئيسه في عين أنه يخضع له ويطيعه، ويرى أن له عليه كرامة تلتزمه على مراعاة جانبه وتقديمه على غيره تحكما.

2. وكذا كان يراه أهل الكتاب على ما حكاه الله تعالى في كتابه عنهم قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18]، وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ [البقرة: 135]، وقال تعالى: ﴿قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ [آل عمران: 75]، فرد الله على هذه الطائفة من المؤمنين في مزعمتهم، وأتبعهم بأهل الكتاب وسمى هذه المزاعم بالأماني استعارة لأنها كالأماني ليست إلا صورا خيالية ملذة لا أثر لها في الأعيان فقال: ليس بأمانيكم معاشر المسلمين أو معشر طائفة من المسلمين ولا بأماني أهل الكتاب بل الأمر يدور مدار العمل إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وقدم ذكر السيئة على الحسنة لأن عمدة خطئهم كانت فيها.

3.﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ جيء في الكلام بالفصل من غير وصل لأنه في موضع الجواب عن سؤال مقدر، تقديره إذا لم يكن الدخول في حمى الإسلام والإيمان يجر للإنسان كل خير، ويحفظ منافعه في الحياة، وكذا اليهودية والنصرانية فما هو السبيل؟ وإلى ماذا ينجر حال الإنسان؟ فقيل: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾.

4. ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ مطلق يشمل الجزاء الدنيوي الذي تقرره الشريعة الإسلامية كالقصاص للجاني، والقطع للسارق، والجلد أو الرجم للزاني إلى غير ذلك من أحكام السياسات وغيرها ويشمل الجزاء الأخروي الذي أوعده الله تعالى في كتابه وبلسان نبيه.

5. وهذا التعميم هو المناسب لمورد الآيات الكريمة والمنطبق عليه، وقد ورد في سبب النزول أن الآيات نزلت في سرقة ارتكبها بعض، ورمى بها يهوديا أو مسلما ثم ألحوا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقضي على المتهم.

6. ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ يشمل الولي والنصير في صرف الجزاء السيئ عنه في الدنيا كالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو ولي الأمر وكالتقرب منهما وكرامة الإسلام والدين، فالجزاء المشرع من عند الله لا يصرفه عن عامل السوء صارف، ويشمل الولي والنصير الصارف عنه سوء الجزاء في الآخرة إلا ما تشمله الآية التالية.

7.﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ هذا هو الشق الثاني المتضمن لجزاء عامل العمل الصالح وهو الجنة، غير أن الله سبحانه شرط فيه شرطا يوجب تضييقا في فعلية الجزاء وعمم فيه من جهة أخرى توجب السعة، فشرط في المجازاة بالجنة أن يكون الآتي بالعمل الصالح مؤمنا إذ الجزاء الحسن إنما هو بإزاء العمل الصالح ولا عمل للكافر، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا﴾ ﴿يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 88]، وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ [الكهف: 105]، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾ فأتى بمن التبعيضية، وهو توسعة في الوعد بالجنة، ولو قيل: ومن يعمل الصالحات ـ والمقام مقام الدقة في الجزاء ـ أفاد أن الجنة لمن آمن وعمل كل عمل صالح، لكن الفضل الإلهي عمم الجزاء الحسن لمن آمن وأتى ببعض الصالحات فهو يتداركه فيما بقي من الصالحات أو اقترف من المعاصي بتوبة أو شفاعة كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 116] وقد تقدم تفصيل الكلام في التوبة وفي قوله تعالى:‏ ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله﴾ [النساء: 17]، وفي الشفاعة في قوله تعالى:‏ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ [البقرة: 48]

8. ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ عمم الحكم للذكر والأنثى من غير فرق أصلا خلافا لما كانت تزعمه القدماء من أهل الملل والنحل كالهند ومصر وسائر الوثنيين أن النساء لا عمل لهن ولا ثواب لحسناتهن، وما كان يظهر من اليهودية والنصرانية أن الكرامة والعزة للرجال، وأن النساء أذلاء عند الله نواقص في الخلقة خاسرات في الأجر والمثوبة، والعرب لا تعدو فيهن هذه العقائد فسوى الله تعالى بين القبيلين بقوله: ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾

9. ولعل هذا هو السر في تعقيب قوله: ﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ بقوله: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ لتدل الجملة الأولى: على أن النساء ذوات نصيب في المثوبة كالرجال، والجملة الثانية: على أن لا فرق بينهما فيها من حيث الزيادة والنقيصة كما قال تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران: 195]

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/87.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ أي ليس يكون لكم بأمانيكم، أي ما وعد الله به في الآية التي قبل هذه، ونظير هذا التركيب الحديث: (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل) أي لا ينال العبد أن يكون مؤمناً (بالتمني) أي بأن يمني نفسه أنه مؤمن (ولا بالتحلي) أي بإظهار بعض أوصاف المؤمن كالخشوع، والأماني: ما يمني نفسه أو يمنيه الشيطان أو غيره، أي يرجوه ويؤمله جمع أمنية، وروى أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) للإمام محمد بن عبد الله النفس الزكية: (1)

çمتى ترى للعدل نوراً وقد...أسلمني ظلم إلى ظلم

أمنية طال غرامي بها...كأنني فيها أخو حلمé

2. في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ دلالة على أنه لا يوثق بالظن، وأن من عمل ﴿سُوءًا﴾ جزي به، والسوء والسيئة سواء ﴿يُجْزَ بِهِ﴾ وفيها دلالة على أن الشفاعة لا تكون لترك الجزاء، وإنما تكون لأهل الجنة في زيادة الخير ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا﴾ فيها ردٌّ على من يتوهم أنه سيكون له ولي يدفع عنه العذاب.

3. ﴿مِنْ دُونِ الله﴾ أي دافع بينه وبين الله وهو تمثيل بما يكون ممن أراد أن يدفع عمن يضر به غيره فيتوسط بين الضارب والمضروب ليكف عنه، والولي: الذي يتولى رعاية الإنسان وإصلاح شأنه ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ ينصره عند سوقه إلى جهنم فيتخلص من العذاب ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا﴾ [الانفطار:19]

4. الخطاب في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ للمسلمين المصدقين بما وعد الله به في الآية التي قبل هذه، فالآية في عمومها لعصاة المسلمين واضحة الدلالة فأما المؤمن الصادق الإيمان فجزاؤه على الصغائر إن لم يكن منه سبب لتكفيرها ما يناله من المصائب، وأما خروج التائب من عمومها فأغنى عن ذكره كونه معلوماً من الدين؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أرسله الله إلى الناس ليتوبوا من الشرك وغيره ليغفر لهم، مع أن هذا غير مقصود في الآية؛ لأنه لا يقال في الخطأ والنسيان ونحوهما: ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ ولأن الجزاء مع الإيمان لا ينافي تمنى الجنة فلا يناسب التفسير به أول الآية؛ ولأن الأقرب أنها تكفر باجتناب الكبائر لدخولها في العموم، فالأقرب: أن الصغائر وإن كانت سبباً فلا يدل ذلك على أن المسبَّب عقوبة، فقوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ محمول على التسبيب للبلوى ليعوض أجرها الذي ينال بالصبر عليها، وعوضها ما نقص بسبب الصغيرة أي ما فات ـ والله أعلم، والروايات في هذا لعلها مما وضع للملوك لتسهيل المعاصي فلا يعدل عن القرآن لأجلها، ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ فلا فرق في حكم الله، ولا تضر الأنثى أمانيّ أعدائها المتكبرين ﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ [الأعراف:49] فالأماني قد تكون للإنسان وقد تكون عليه، ووعد الله لا يتبع الأماني بل هو ما فصل به في كتابه.

5. قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ شرط في الثواب على العمل، فلا ينفع العمل بلا إيمان ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة:27] ﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ من أجل عملهم وإيمانهم ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ أي لا ينقصون من ثوابهم مقدار نقير، قال الراغب في (المفردات): (والنقير: وَقْبة في ظهر النواة يضرب به المثل في الشيء الطفيف، وقال: الوقب كالنقرة في الشيء اهـ وكذا في (الصحاح): (النقير: النُّقرة التي في ظهر النواة)

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/176.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الظاهر أن الكلام المذكور في الروايتين(2) يمثل اجتهادا لأصحابه من خلال استيحاء الآية في مناسبتها لهذا الجدل الدائر بين هؤلاء من أهل الأديان، لأن الظاهر أن مساق الآية هو مساق التأكيد على أن الانتماء الديني لا يحمي أصحابه من التعرض لعذاب الله على السوء الذي يعملونه، لأن قضية الدين عقيدة وعمل، فمن يعمل سوءا يجز به، وليست المسألة مسألة التفاضل بين الأديان.

2. في هذه الآيات تخطيط للتصور الإسلامي في معنى الانتماء إلى الدين، فليس معناه أن ينتسب الإنسان إليه ليمثل ذلك امتيازا ذاتيا يكتفي به في عملية الالتزام، ليباح له ـ بعد ذلك ـ كل شيء بل إن معناه، هو الالتزام العملي، باعتباره خطأ يسير عليه في الجانب الفكري والعملي من حياته، مما يوحي لكل أتباع الأديان أن لا يستسلموا للأماني الذاتية بأن انتسابهم إليه يحقق لهم النتائج الجيدة على مستوى النعيم والفوز بالجنة في الآخرة، بعيدا عن العمل في هذا الاتجاه، فالله يريد للحياة أن تتحرك في الخطوط التي‏ خططها في رسالاته، ويريد للإنسان أن يكون خليفته في الأرض من خلال ما يقوم به من بناء الحياة في نفسه وفي نفوس الآخرين وفي كل ما يتعلق بمسؤوليته الفردية والاجتماعية؛ فإذا لم يتحقق ذلك، كان هذا دليلا على فقدانه للصدق في الإيمان وبالتالي على خسرانه لكل نتائجه الإيجابية على مستوى المصير، ويتفرع عن ذلك، أن الإنسان المؤمن لا يخضع في تقييمه للعلاقات الإيمانية لمجرد الانتماء إلى الدين، بل يحاول أن يرتكز على العمل كأساس للتقييم، لأن المبدأ الذي تتحدث عنه الآية ليس مجرد مبدأ يتصل بتعامل الله مع الإنسان، بل يتصل بالصفة الحقيقية للانتماء؛ وفي ضوء ذلك يمكن أن تكون الآية واردة في الإشارة إلى قصة المسلم الذي سرق وأراد قومه تبرئته وإلصاق التهمة باليهودي، على أساس أن انتماءه للإسلام يبرّر ذلك؛ فجاءت الآيات هنا لتقول لهم: إن قيمة الانتماء إلى الإسلام تتحدد بمقدار الإخلاص العملي له، وذلك بالالتزام بالأمانة، وعدم الدفاع عن الخائنين، وعدم اتهام الناس بدون حق، أيّا كان دينهم وعقيدتهم..

3. وقد نستوحي من ذلك رفض الأساليب التي تستعملها الطوائف الدينية في المجتمعات ذات التعدد الطائفي، أو التيارات السياسية في المجتمعات التي تتعدد فيها الأحزاب، وذلك بحماية المجرمين والخونة الذين ينتسبون إليها بمواجهة المظلومين والأبرياء، على أساس أن الانتماء يجعل لهؤلاء قيمة دينيّة وسياسية وذاتية تمنع من الاقتصاص منهم ودفع عدوانهم عن الآخرين، وقد ترك هذا التصرف آثارا سلبية على طبيعة سلامة هذه المجتمعات، عندما انطلق المجرمون والخونة يعيشون في داخلها فسادا تحت حماية النفوذ الطائفي والسياسي، في الوقت الذي تحوّل فيه هؤلاء إلى عناصر تمارس السيطرة على مسيرة الناس الذين يعيشون معهم من دون أن يملكوا أمر مواجهتهم، لأن ذلك يكلّف الناس مواجهة الطائفة أو الحزب، مما لا قوة عندهم لتحمّله؛ وهذا هو المبدأ الجاهلي الذي كان يقول: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)

4. ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ فيما توحون به إلى أنفسكم بأن انتسابكم إلى الإسلام يمنحكم الأمن عند الله من دون عمل‏ ﴿وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ الذين يعتقدون أنهم أبناء الله وأحباؤه، فلهم الحرية في أن يفعلوا ما يشاءون من دون خوف من عذاب الله، لأن الله لا يعذب أحبّاءه.

5. ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ مسلما كان أو كتابيا أو ملحدا، لأن عمل السوء يوحي بالروح المتمردة على الله، الرافضة للانسجام مع طبيعة المسؤولية؛ وهذا ما يتنافى مع إخلاص الإنسان للّه، ومع مصلحة الحياة فيما يريده الله لها من انسجام مع خط الرسالات الإلهية.

6. ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾، لأن الولاية لله على الحياة كلها، فكل الخلائق خاضعة لولايته باختيارها أو بحاجتها إليه في طبيعة تكوينها، ولأن القوة لله في كل وسائلها ومظاهرها وآفاقها، فلا قوة لغيره بعيدا عن قوته‏ ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لله الْحَقِّ﴾ [الكهف: 44]، ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا وَأَنَّ الله شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: 165]، فمن يكون الولي والنصير من دون الله؟ إن الذي يفكر بذلك يغرق حياته في بحر من الأوهام.

7. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾، فإن العمل الصالح يحقق نتائجه من أيّ شخص صدر، سواء كان ذكرا أو أنثى، لأن الفوارق بين الرجل والمرأة قد تجعل لكل واحد منهما دورا مميزا على الآخر في طريقة تنظيم العلاقة الزوجية، أو في بعض القضايا المتصلة بالجانب الوظيفي من حياة المجتمع؛ أمّا في الجانب الإنساني الذي يتمثل بالعمل الصادر من الإنسان من حيث هو طاقة معيّنة، فإن القيمة هي للعمل، بقطع النظر عن شخصية العامل من حيث الصفات التي لا علاقة لها بكمية العمل ونوعيته.. وبهذا كان تفضيل الرجل على المرأة في نطاق العلاقات العامة والخاصة على أساس مستوى معيّن لا يدخل في حسابات الآخرة عند الله؛ فقد يكون الرجل أفضل من المرأة وأرفع درجة عند الله، لكن لا من حيث‏ ذكوريته بل من خلال عمله؛ وقد تكون المرأة أفضل من الرجل للسبب نفسه.

8. ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾، لأن غير المؤمن لا يستحق على الله شيئا جزاء عمله.

9. سؤال وإشكال: قد يخطر بالبال سؤال وهو: إن كثيرا من الناس يقومون بأعمال عظيمة في خدمة البشرية، من خلال ما اكتشفوا من اكتشفوا من اكتشافات وما حققوا من مشاريع، وما هدّموا من قوى الظلم والطغيان، ولكنهم غير مؤمنين؛ فهل تذهب أعمالهم هباء؟ وهل يكون عمل المؤمن البسيط جدا في حجمه أو في نتيجته مستحقا للثواب، بينما هذه الأعمال الكبيرة التي ترفع مستوى الناس جميعا، فيما يتعلق بخدماتهم أو تطورهم، لا تستحق شيئا؟ وهل يخضع مثل هذا لمقياس التوازن والعدل في المقارنة بين الأشياء؟ والجواب (3):

أ. قد يجاب: بأن هناك نقطة مهمة يجب أن نركز عليها، وهي أن للعمل نظرتين أو حيثيتين في مجال عملية التقييم؛ فهناك النظ: من حيث طبيعته، في حجمه وفي نوعيته وفي تأثيره في حياة الناس، بعيدا عن شخصية صاحبه؛ وذلك من خلال كونه حقيقة موضوعية مجرّدة، وهناك النظرة إليه من حيث انتسابه إلى الإنسان وعلاقته بتقييم الشخصية، في دوافعه وروحيته والجو المهيمن عليه:

فإذا نظرنا إليه من الحيثية الأولى، كانت القضية قضية الموازنة بين العملين في الكم والكيف والنتائج؛ وبذلك يكون العمل المتمثل في بناء مدرسة أعظم من العمل في بناء بيت شخصي لإنسان فقير، والتصدق بألف ليرة أكبر من التصدق بمائة..

أمّا إذا نظرنا إليه من الحيثية الثانية، فإن التقييم قد ينعكس إذا كانت الدوافع في بناء المدرسة مربوطة بهدف شخصيّ أو مزاجيّ، بينما كانت‏ الدوافع لبناء البيت روحية إنسانية، فإن العمل الصغير ـ حينئذ ـ يعبّر عن شخصية كبيرة، تنطلق ـ في حركتها ـ من الأهداف الكبيرة السامية؛ أمّا العمل الكبير، فإنه ينطلق من شخصية صغيرة ترتبط بالأشياء الصغيرة الحقيرة في الحياة، لأن العمل الذي يرتبط بالإنسان، يأخذ شيئا من داخله، ويكتسب صفة إنسانية في مضمونة؛ وبذلك تتحدد قيمته بمقدار ما يحمل من معنى الإنسانية في طبيعته، في مضمونها الروحي والأخلاقي.

ب. في ضوء ذلك، يمكننا أن نقرر نظرة الإسلام إلى العمل كقيمة إنسانية روحية، لأن اهتمام الإسلام في تشريعه يتركز على الاهتمام ببناء الإنسان في روحيته وتفكيره وإنسانيته من حيث ارتباطها بالله؛ ولذلك اختلف الثواب على العمل حسب اختلاف المعنى الذي يكشف عنه؛ فهناك فرق بين العمل الصادر عن رياء والعمل الصادر عن غير الواعي من موقع مستواه، وهناك فرق بين العمل الصادر من أجل القرب إلى الله، وذاك الصادر للقرب من إنسان، وهكذا تتصل القيمة بالمضمون، ولا تتصل بالشكل.

ج. وعلى هذا الأساس، فقد يكون العمل الصادر عن هؤلاء الناس غير المؤمنين كبيرا من حيث الحجم والنوعية والنتائج كحقيقة موضوعية، ولكنه لا يحسب في هذا المستوى في نظرة الإسلام، إذا كانت الدوافع مزاجية أو مصلحيّة أو بعيدة عن الله في الجوانب الأخرى، فلا يستحق عليه ثوابا، لأنه لا يحمل أيّ معنى روحيّ أو إنسانيّ كبير، عندما يبتعد عن قاعدة الإيمان التي تحرك العمل في اتجاه المعاني الروحية الكبيرة التي ترتبط بالله، وقد ذكر بعض الباحثين من الفقهاء، أن الله قد يثيب الإنسان على العمل الخيّر في ذاته، إذا قام به الإنسان بدافع حبّه للخير، وإن لم يقصد القربة إلى الله فيه؛ ولكننا نعلّق على ذلك، بأن الإيمان هو الذي يجعل الخير حالة ذاتية للإنسان، من خلال ما يختزنه الإنسان ـ ولو بطريقة لا شعروية ـ من مشاعر الإيمان وإيحاءاته، مما يجعل نيّة القربة إلى الله مخزونة في وعي الإنسان‏ المؤمن بطريقة ارتكازية لا شعورية؛ ولكن لا بد من الإيمان فمن دونه لا مجال للثواب كحق للعبد على ربه، لكن قد يتفضل الله على بعض عباده العاملين للخير حتى لو كانوا غير مؤمنين في الدنيا كما ورد في بعض الأحاديث.

10. ﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ بسبب علمهم‏ ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾؛ والنقير مأخوذ من النقرة الموجودة في النواة، ويراد بها أصغر وحدة في الكم، كناية عن العمل الصغير جدا في حجمه، فإن الله لا يغفل عنه، بل يثيبه عليه مهما كان صغيرا.

11. قد نستطيع أن نستوحي من التسوية بين الذكر والأنثى في نتائج العمل الصالح، أن هذه دعوة غير مباشرة للمرأة بأن تنطلق في كل عمل صالح في كل مجالات الحياة من دون تحديد، إلا ما حدده الإسلام من الحد الفاصل بين العمل المشروع والعمل غير المشروع؛ فلو كانت هناك حدود خاصة يفرضها الله عليها في مجال الخدمات العامة السائرة في نطاق العمل الصالح لاستثناه، وبذلك يمكن للمرأة أن تنطلق في كل الأعمال الخيرة الصالحة في نطاق الأجواء الشرعية التي أرادها الله لها كما أرادها للرجل، لتتحقق من خلال ذلك المصلحة الإنسانية.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/474.

(2) ذكر ما ورد في سبب النزول الذي سبق ذكره.

(3) تقسيم الفروع هنا ليس منهجيا، وإنما من باب التبسيط فقط

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جاء في تفسير مجمع البيان ـ وتفاسير أخرى ـ أنّ المسلمين وأهل الكتاب كانوا يتفاخرون بعضهم على بعض، فكان أهل الكتاب يتباهون بكون نبيّهم قد بعث قبل نبيّ الإسلام وإن كتابهم أسبق من كتاب المسلمين، بينما كان المسلمون يفتخرون على أهل الكتاب بأنّ نبيّهم هو خاتم الأنبياء وأن كتابه هو آخر الكتب السماوية وأكملها، وفي رواية أخرى، نقل أنّ اليهود كانوا يدعون أنّهم هم الشعب المختار، وأنّ نار جهنم لا تمسّهم إلّا لأيّام معدودات، كما ورد في سورة البقرة ـ الآية ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ وأن المسلمين كانوا يقولون، ردّا على كلام اليهود هذا: بأنّهم خير الأمم لأنّ الله قال في شأنهم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ ولذلك نزلت الآية الأخيرة هذه ودحضت كل تلك الدعاوى وحددت قيمة كل شخص بما يقوم به من أعمال.

2. لقد بيّنت هذه الآية واحدا من أهم أعمدة أو أركان الإسلام، هو أنّ القيمة الوجودية لأي إنسان وما يناله من ثواب أو عقاب، لا تمت بصلة إلى دعاوى وأمنيات هذا الإنسان مطلقا، بل أن تلك القيمة ترتبط بشكل وثيق بعمل الإنسان وإيمانه وأنّ هذا مبدأ ثابت، وسنّة غير قابلة للتغيير، وقانون تتساوى الأمم جميعها أمامه، ولذلك تقول الآية في بدايتها: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ وتستطرد فتقول: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾

3. وكذلك الذين يعلمون الخير، ويتمتعون بالإيمان، سواء أكانوا من الرجال أو النساء ـ فإنّهم يدخلون الجنّة ولا يصيبهم أقل ظلم أبدا، حيث تقول الآية: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾، وبهذه الصورة يعمد القرآن إلى نبذ كل العصبيات بكل بساطة، معتبرا الاعتبارات والارتباطات المصطنعة الخيالية والاجتماعية والعرقية وأمثالها خاوية من كل قيمة إذا قيست برسالة دينية، ويعتبر الإيمان بمبادئ الرسالة والعمل بأحكامها هو الأساس.

4. في تفسير الآية الأولى: من الآيتين الأخيرتين حديث نقلته مصادر الشيعة والسنّة، مفاده أنّ المسلمين حين نزلت هذه الآية استولى عليهم الرعب وأخذوا يبكون خوفا، لمعرفتهم بأنّ الإنسان معرض للخطأ ويحتمل كثيرا صدور ذنوب منه، فلو فرض عدم وجود عفو أو غفران وأن يؤاخذ كل إنسان بجريرته، فإنّ الأمر سيكون في غاية الصعوبة، لذلك لجؤوا إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكروا له أن هذه الآية قد أفقدتهم كل أمل، فأقسم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لهم بالله أنّه ما جاءت به الآية هو الصحيح، ولكنه بشّرهم بأنّها ستكون خير محفز لهم للتقرب إلى الله والقيام بالأعمال الصالحة، وإنّ ما سيصيبهم من محن ومصائب وآلام حتى لو كانت من وخز شوكة سيكون كفارة لذنوبهم‏.

5. سؤال وإشكال: من الممكن أن يستدل البعض من الجملة القرآنية التالية: ﴿وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ على أنّ قضية الشفاعة ونظائرها قد ألغيت بهذه الآية بصورة تامّة، فيعتبرونها دليلا لإلغاء الشفاعة بصورة مطلقة، والجواب: لقد أشرنا سابقا إلى أن الشفاعة لا تعني أنّ الشفعاء من أمثال الأنبياء والأئمة والصالحين لهم جهاز أو تنظيم مستقل يقابل قدرة الله، بل الصحيح هو أنّ الشفعاء لا يشفعون لأحد إلّا بإذن الله، وعلى هذا الأساس فإنّ مثل هذه الشفاعة ستعود في النهاية إلى الله وتعتبر فرعا من ولاية ونصرة وعون الله.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/465.

110. الدين الحسن وملة إبراهيم الخليل

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈110⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ [النساء: 125 ـ 126]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

أبو هريرة:

روي عن أبي هريرة (ت 58 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال للعباس:(يا عم، أتدري لم اتخذ الله إبراهيم خليلا؟ هبط إليه جبريل، فقال: أيها الخليل، هل تدري بم استوجبت الخلة؟ فقال: لا أدري، يا جبريل، قال لأنك تعطي ولا تأخذ(1).

2. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: اتخذ الله إبراهيم خليلا، وموسى نجيا، واتخذني حبيبا، ثم قال وعزتي، لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي(2).

3. روي أنّه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن في الجنة قصرا من درة، لا صدع فيه ولا وهن، أعده الله لخليله إبراهيم عليه السلام نزلا(3).

__________

(1) أورده الديلمي في الفردوس ٥/٣٥٦.

(2) البيهقي في الشعب ٣/٨١.

(3) الطبراني في الأوسط ٦/٣٢٩.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: قال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وديننا خير الأديان، فقال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾، يعني: أخلص لله عمله(2).

3. روي أنّه قال: ومن دين إبراهيم الصلاة إلى الكعبة، والطواف بها، ومناسك الحج، وإنما خص إبراهيم لأنه كان مقبولا عند الأمم أجمع؛ لأنه بعث على ملة إبراهيم، وزيد له أشياء(2).

4. روي أنّه قال: أصاب الناس سنة جهدوا(3)، فيها، فحشروا إلى باب إبراهيم صلع يطلبون الطعام، وكانت الميرة لهم كل سنة من صديق له بمصر، فبعث غلمانه بالإبل إلى مصر يسأله الميرة، فقال خليله: لو كان إبراهيم إنما يريد لنفسه احتملنا ذلك له، وقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة، فرجع رسل إبراهيم، فمروا ببطحاء، فقالوا: لو احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بالميرة، إنا نستحيي أن نمر بهم وإبلنا فارغة، فملأوا تلك الغرائر(4)، رملا، ثم إنهم أتوا إبراهيم عليه السلام وسارة نائمة، فأعلموه ذلك، فاهتم إبراهيم عليه السلام لمكان الناس، فغلبته عيناه، فنام، واستيقظت سارة، فقامت إلى تلك الغرائر، ففتحتها، فإذا هو أجود حوارى(5)، يكون، فأمرت الخبازين، فخبزوا، وأطعموا الناس، واستيقظ إبراهيم عليه السلام، فوجد ريح الطعام، فقال: يا سارة، من أين هذا الطعام؟ قالت: من عند خليلك المصري، فقال: بل من عند خليلي الله، لا من عند خليلي المصري، فيومئذ اتخذه الله خليلا(6).

5. روي أنّه قال: إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام، واصطفى محمدا بالرؤية(7).

6. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الله اصطفى موسى بالكلام، وإبراهيم بالخلة(8).

7. روي أنّه قال: جلس ناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ينتظرونه، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، وإذا بعضهم يقول: إن الله اتخذ من خلقه خليلا، فإبراهيم خليله، وقال آخر: ماذا بأعجب من أن كلم الله موسى تكليما، وقال آخر: فعيسى روح الله وكلمته، وقال آخر: آدم اصطفاه الله، فخرج عليهم، فسلم، فقال: قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله، وهو كذلك، وموسى كليمه، وعيسى روحه وكلمته، وآدم اصطفاه الله، وهو كذلك، ألا وإني حبيب الله، ولا فخر، وأنا أول شافع، وأول مشفع، ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة، فيفتحها الله، فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين، ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة، ولا فخر(9).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٧٣.

(2) تفسير الثعلبي ٣/٣٩٢.

(3) جهدوا: أصابهم الجهد، وهو المشقة والشدة، اللسان (جهد).

(4) الغرائر: جمع غرارة، وهو الجوالق: وعاء يضعون فيها الطعام، اللسان (جلق، غرر).

(5) حُوّارى: ما بيض من الطعام، اللسان (حور).

(6) أسباب النزول للواحدي (ت: الفحل) ص ٣٢٤.

(7) ابن جرير ٢٢/٢٤.

(8) الحاكم ٢/٦٢٩.

(9) الترمذي ٦/٢١١.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾، من أخلص وجهه، قال دينه(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٧٤.

ابن أبزى:

روي عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى (ت 100 هـ) أنّه قال: دخل إبراهيم عليه السلام منزله، فجاءه ملك الموت في صورة شاب لا يعرفه، فقال له إبراهيم: بإذن من دخلت؟ قال بإذن رب المنزل، فعرفه إبراهيم، فقال له ملك الموت: إن ربك اتخذ من عباده خليلا، قال إبراهيم: ومن ذلك؟ قال وما تصنع به؟ قال أكون خادما له حتى أموت، قال فإنه أنت، [قال]: وبأي شيء اتخذني خليلا؟ قال بأنك تحب أن تعطي ولا تأخذ(1).

__________

(1) عزاه السيوطي إلى ابن المنذر.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: فضل الله الإسلام على كل دين، فقال: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ إلى قوله: ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾، وليس يقبل فيه عمل غير الإسلام، وهي الحنيفية(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٢٨.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلا أتاه ببشارة الخلة ملك الموت في صورة شاب أبيض، عليه ثوبان أبيضان، يقطر رأسه ماء ودهنا، فدخل إبراهيم عليه السلام الدار فاستقبله خارجا من الدار، وكانإبراهيم عليه السلام رجلا غيورا، وكان إذا خرج في حاجة أغلق بابه وأخذ مفتاحه معه، فخرج ذات يوم في حاجة وأغلق بابه، ثم رجع ففتح بابه، فإذا هو برجل قائم كأحسن ما يكون من الرجال فأخذه، فقال: يا عبد الله، ما أدخلك داري؟ فقال: ربها أدخلنيها، فقال إبراهيم: ربها أحق بها مني، فمن أنت؟ قال أنا ملك الموت، قال ففزع إبراهيم عليه السلام وقال: جئتني لتسلبني روحي؟ فقال: لا، ولكن الله اتخذ عبدا خليلا فجئته ببشارة، فقال إبراهيم: فمن هذا العبد لعلي أخدمه حتى أموت؟ فقال: أنت هو، قال فدخل على سارة، فقال: إن الله اتخذني خليلا(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/277.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾، أظهر اسم الخلة لإبراهيم عليه السلام؛ لأن الخليل ظاهر في المعنى، وأخفى اسم المحبة لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لتمام حاله؛ إذ لا يحب الحبيب إظهار حال حبيبه، بل يحب إخفاءه وستره لئلا يطلع عليه أحد سواه، ولا يدخل أحد بينهما، فقال لنبيه وصفيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لما أظهر له حال المحبة: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ [آل عمران: ٣١]، أي: ليس الطريق إلى محبة الله إلا اتباع حبيبه، ولا يتوسل إلى الحبيب بشيء أحسن من متابعة حبيبه وطلب رضاه(1).

2. روي أنّه قال: أن إبراهيم عليه السلام هو أول من حول له الرمل دقيقا، وذلك أنه قصد صديقا له بمصر في قرض طعام فلم يجده في منزله، فكره أن يرجع بالحمار خاليا، فملأ جرابه رملا، فلما دخل منزله خلى بين الحمار وبين سارة استحياء منها، ودخل البيت ونام، ففتحت سارة عن دقيق أجود ما يكون، فخبزت وقدمت إليه طعاما طيبا، فقال إبراهيم عليه السلام: من أين لك هذا؟ قالت: من الدقيق الذي حملته من عند خليلك المصري، فقال إبراهيم عليه السلام: أما إنه خليلي وليس بمصري، فلذلك اعطي الخلة)فشكر الله وحمده وأكل(2).

3. روي أنه قيل له: لم اتخذ الله عز وجل إبراهيم خليلا؟ قال: لكثرة سجوده على الأرض(2).

4. روي أنّه قال: إذا سافر أحدكم فقدم من سفره فليأت أهله بما تيسر ولو بحجر، فإن إبراهيم (صلوات الله عليه) كان إذا ضاق أتى قومه، وإنه ضاق ضيقة فأتى قومه فوافق منهم أزمة، فرجع كما ذهب، فلما قرب من منزله نزل عن حماره فملأ خرجه رملا، أراد أن يسكن به روح سارة، فلما دخل منزله حط الخرج عن الحمار وافتتح الصلاة، فجاءت سارة ففتحت الخرج فوجدته مملوءا دقيقا، فاعتجنت منه واختبزت، ثم قالت لإبراهيم: انفتل من صلاتك وكل، فقال لها: أنى لك هذا؟ قالت: من الدقيق الذي في الخرج، فرفع رأسه إلى السماء فقال: أشهد أنك الخليل(3).

__________

(1) البيهقي في شعب الإيمان ٤/١٢٣.

(2) تفسير القمّي 1/153.

(3) تفسير العيّاشي 1/277.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ثم اختار من الأديان دين الإسلام، فقال عز وجل: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ يعني: أخلص دينه لله، ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ في عمله، وأنزل الله عز وجل فيهم: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ﴾ يعني: كفار أهل الكتاب ﴿اخْتَصَمُوا﴾ يعني: ثلاثتهم؛ المسلمين، واليهود، والنصارى ﴿فِي رَبِّهِمْ﴾ أنهم أولياء الله، ثم أخبر بمستقر الكافر، فقال: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ﴾ [الحج: ١٩]، يعني: جعلت لهم ثياب من نار، إلى آخر الآية، ثم أخبر سبحانه بمستقر المؤمنين، فقال: ﴿إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ إلى آخر الآية [الحج: ٢٣](1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾، يعني: مخلصا(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾، يعنى: محبا، والخليل: الحبيب؛ لأن الله أحبه في كسره الأصنام، وجداله قومه، واتخذ الله إبراهيم خليلا قبل ذبح ابنه، فلما رأته الملائكة حين أمر بذبح ابنه أراد المضي على ذلك، قالت الملائكة: لو أن الله عز وجل اتخذ عبدا خليلا لاتخذ هذا خليلا محبا، ولا يعلمون أن الله عز وجل اتخذه خليلا، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لأصحابه: (إن صاحبكم خليل الرحمن)، يعني: نفسه، فقال المنافقون لليهود: ألا تنظرون إلى محمد يزعم أنه خليل الله!؟ لقد اجترأ، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾، وإنما إبراهيم عبد من عباده مثل محمد، واتخذ إبراهيم خليلا حين ألقي في النار، فذهب حر النيران يومئذ من الأرض كلها(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٠.

الرضا:

روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنّه قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه عليه السلام، أنه قال: اتخذ الله عز وجل إبراهيم خليلا، لأنه لم يرد أحدا، ولم يسأل أحدا غير الله عز وجل(1).

__________

(1) علل الشرائع: 34/1.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾، معنى اتخاذه سبحانه إبراهيم خليلا هو: اصطفاؤه له، وتفضيله إياه، وتكريمه وتعظيمه، وما من به عليه من فضله وإحسانه.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/271.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل من أحسن دينا من المسلمين ممن يعمل جميع عمله موافقا لدينه ـ ممن لم يعمل!؟ بل الذي عمل بجميع عمله موافقا لدينه ـ أحسن دينا من الذي لم يعملِ شيئا.

ب. الثاني: مقابلة سائر الأديان، أي: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله ـ ممن لم يسلم وجهه لله، إلى آخر ما ذكر.

2. ثم قوله تعالى: ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾:

أ. عن الحسن قال أسلم جميع جهة أمره إلى الله، أي: جميع ما يعمل إنما يعمل للهِ، لا يعمل لغير الله.

ب. وقيل: ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾، أي: أخلص نفسه لله، ولا يجعل لأحد فيها شركا؛ كقوله تعالى: ﴿وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾، الآية، أي: يسلم نفسه له.

3. قوله عز وجل: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ ـ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: قوله: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾: يحسن ما يعمل، أي: جميع ما يعمل؛ لعلمٍ له فيه.

ب. ويحتمل قوله: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾: من الإحسان، وهو أن يزيد العمل على المفروض عليه: يؤدي المفروض عليه، ويزيد على ذلك أيضًا.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾:

قيل: الملة: قيل: هي الدِّين.

وقيل: الملة: السنة، وكأن السنة أقرب؛ لأن دين الأنبياء صلّى الله عليه وآله وسلّم كلهم واحد، لا يختلف دين إبراهيم عليه السلام ودين غيره من الأنبياء، عليهم السلام، وأما السنن والشرائع فيجوز أن تختلف؛ ألا تري أنه رُويَ في الخبر: (ملة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفي بعضها: (سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: جعل السنة تفسير الملة؛ فالملة بالسنة أشبه، ثم خص ملة إبراهيم صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن سننه كانت توافق سنن نبينا مُحَمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

5. وقوله عز وجل: ﴿حَنِيفًا﴾ قيل: مخلصًا، وقيل: سمي حنيفًا، أي: مائلا إلى الحق؛ ولذلك سمي الأحنف: أحنفًا؛ لميل أحد قدميه إلى الأخرى.

6. ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ ذكر في بعض الأخبار أن الله عز وجل أوحى إلى إبراهيم صلّى الله عليه وآله وسلّم: أن لي خليلا في الأرض؛ فقال: يا رب، من هو؟ قال فأوحى الله تعالى إليه: لِمَ؟ أي: لم تسألني عنه؟ قال حتى أحبه وأتخذه خليلا كما اتخذته خليلا، أو كلام نحو هذا؛ فقال: أنت يا إبراهيم.

7. أصل الخلة: المنزلة، والرفعة، والكرامة، يقول: ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾، أي: جعل له عنده منزلة وكرامة لم يجعل مثلها لأحد من الخلائق؛ لما ابتلاه الله ببلايا، وامتحنه بمحن لم يبتل أحدًا بمثلها، فصبر عليها، من ذلك: ما أُلقي في النار، فصبر، ولم يستعن بأحد سواه، وما ابتلي بذبح ولده، فأضجعه، وما أمر أن يترك أهله وولده الطفل في جبال مكة: لا ماء هنالك، ولا زرع، ولا نبات؛ ففعل، ومن ذلك أمر المهاجرة، مما يكثر ذلك؛ فجائز تخصيصه بالخلة لذلك، وجائز أن يكون ذلك كرامة أكرمه الله بها؛ لأن أهل الأديان كلهم ينتسبون إليه، ويدَّعون أنهم على دينه، وعلى ذلك يخرج قوله: (اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، قيل: خص هو بهذين الوجهين اللذين ذكرتهما في الخلة، وقيل: إنه اتخذه خليلا؛ لأنه كان يعطي ولا يأخذ، وكان يحب الضيف، وكان لا يأكل وحده وإن بقي طويلا، والله أعلم بذلك، وأصل الخلة ما ذكرنا من الكرامة والمنزلة؛ لأن من يحب آخر يبره ويكرمه، ومن لا يحبه يعادهِ، ويظهر له الجفاء، ولا قوة إلا بالله.

8. اختلف في المعنى الذي وصف إبراهيم عليه السلام بالخلة أنه خليل الله:

أ. فقد قيل: بما سخت نفسه في بذل كل لذة من لذات الدنيا لله، وله تَبَوِّء في مكان إتيان الأضياف وأبناء السبيل، وكان لا يأكل وحده، وكانت عادته التقديم بكل ما يتهيأ له عند نزول الأضياف عليه، والابتداء بذلك قبل كل أمر، والقيام للأضياف مع عظم منزلته؛ أيد ذلك أمر الملائكة الذين جاءوه بالبشارة.

ب. وقيل: إنما امتحنه الله بأمور فصبر عليها؛ نحو النار أُلقى فيها لله، وذبح الولد، والهجرة مرتين، وبذل الأهل والولد للهِ، حيث لا ضرع، ولا زرع، ولا ماء، وغير ذلك مما أكرمه الله تعالى بالثناء عليه: بوفاء ما امتحن، وإتمام ما ابتلي من قوله: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾، وفي قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾، ويحاج فرعونه وجميع قومه، ويجادلهم فيمن يعبدونهم، فغلبهم، وألزمهم حجة الله، وغير ذلك من وجوه المحن.

ج. وقيل: بما به كان بدء البيت الذي جعله الله قيامًا للناس، ومأمنًا للخلق، ومثابًا لهم ومنسكًا؛ فعظم شأنه فيما بالخلق إليه حاجته في أمر الدِّين؛ وعلى ذلك أكرمه الله تعالى بميل القلوب إليه، وإظهار التدين بدينه من جميع أصناف أهل الأديان، والله أعلم.

د. وقيل: إنما هو: لله خصائص في أهل الخيرة من الرسل وأولي العزم منهم: اختصهم بأسماء عرفن في الفضائل والكرامات، نحو القول بكليم الله، وروح الله، وذبيح الله، وحبيب الله؛ فعلى ذلك كان لإبراهيم عليه السلام خصوصية في الاسم؛ فسماه الله خليلا؛ فنحن نقول ـ وبالله التوفيق ـ: ونحن نعلم بأن الله تعالى لا يسميه بالذي ذكر عبثًا باطلا؛ ولكنه سماه به تعظيمًا لقدره، وإظهارًا لكرامته، وبيانًا لمنزلته عنده لما شاء من الوجوه التي لعلها لم يطلع عليها من الخلق، ولا يحتمل أن يدرك ذلك إلا بالوحي؛ فحق ذلك علينا تعظيمه ومعرفته بالذي اختصه الله واصطفاه، دون تكلف المعنى الذي له كان ذلك، مع ما لا وجه ولا معنى صار حقيق ذلك وأكرم به، إلا بمعنى أكرمه الله وأكرمه بفضل الله ورحمته؛ فلله أن يبتدئه بالخلة ثم يكرمه بأنواع الكرامات التي هي آثار الخلة، وأن يكرمه بأنواع الكرامات التي لديها تقع كرامات الخلة ويصلح، ولله المنُّ في ذلك والفضل، وعلينا الحمد لله والشكر؛ بما أكرمنا من معرفة كرام خلقه، وجعل قلوبنا عامرة بمودتهم حتى صاروا ـ بفضل الله ورحمته ـ أحب إلينا من أمسِّ الخلق بنا، بل من أنفسنا، ولا قوة إلا بالله.

9. ليس للنصارى ادعاء البنوة للهِ من حيث الكرامة على الاعتبار بالخلة؛ لأن الله سبحانه وتعالى عظم أمر الأولاد حتى جعله كالشرك، ولا كذلك أمر الخلة، ولأن أمر الأولاد حقه المجانسة، والخلة حقه الموافقة، ثم أصل الأولاد: الشهوة والحاجة، والخلة: الطاعة والتعظيم، مما يرجع أحد الوجهين إلى شهوة الولد وحاجته، والآخر إلى تعظيم يكون من ذلك العبد وتبجيله والطاعة له والخضوع، ثم الأصل: أن المعنى الذي تقتضيه الخلة قد يجوز أن يظفر كلٌّ بالطاعة، وإن كان الاسم له في حق النهاية؛ نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ الآية وقوله تعالى: ﴿فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾، والمحبة قريبة من الخلة، ومحال أن يحق معنى الأولاد والبنوة بشيء من الطاعة؛ لذلك اختلف الأمران.

10. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ تأويل هذه الآية أنه وإن أكرمهم وأعظم منزلتهم عنده وأعلاها ـ فإنهم لم يأنفوا عن عبادته، ولم يخرجوا أنفسهم من أن يكونوا عبيدًا؛ بل كلما ازداد لهم عند الله منزلة وقدر ـ كانوا أخضع له وأطوع؛ كقوله تعالى: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾، وفي موضع آخر: ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ الآية.

11. ﴿وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ أي: أحاط بكل شيء علمه، وهو يخرج على الوعيد، أي: عن علم منه خلقهم لا عن جهل بصنيعهم كملوك الأرض، وقوله عز وجل أيضًا: ﴿وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ وبصيرًا، وعليما، ونحو ذلك:

أ. يخرج على التوعيد والتخويف؛ ليكونوا مراقبين له، حذرين؛ كمن يعلم في الأمور أن عليه رقيبًا.

ب. ويخرج على الابتلاء: أنه أمر من يكتب الأعمال لا للخفاء عليه، لكن بما إذ لا يمتحن لحاجة به؛ ولكن لمصلحة عباده، فيمتحن بما شاء، فامتحن أُولَئِكَ الكتبة بما يكونون أبدًا متيقنين ناظرين، لا يغفلون عن ذلك؛ طاعة منهم لله، الثاني: أن يكون العلم بمن يكتب عليه كل أمره ـ فيما جُبل عليه البشر ـ أذكر له وأشد في التنبيه؛ فجرى حكم الله في ذلك؛ إذ أمر المحنة موضوع على المصلحة، وذلك أبلغ في الوجود.

ج. ويخرج على أن الله تعالى كان بذلك محيطًا؛ ليعلموا أنهم لا يتركون سُدى، بل يحصى عليهم للجزاء.

د. وجملة ذلك: أن الله تعالى قال كان كذا؛ ليعلم أنه لا عن جهل خلق الخلق وبعث الرسل، وأنشأ الآيات، مما عليه أمر الخلق أنهم كيف يعاملون من ذكرت، وذلك خارج على حد الحكمة، وإن كان لا يعرفون في بعث الرسل إلى من يكذبهم، ولا تقوية الأعداء على ما به قهر الأولياء، ولا الأمر والنهي لمن يعلم أنه لا يأتمر ولا ينتهي ـ كبيرَ حكمة، وبما كان ذلك من الله فهو خارج على حد الحكمة؛ إذ ذلك كله من الخلق يقع لحاجة أو لمنفعة ترجع إليهم؛ فإذا ناقض.. خرج الفعل من الحكمة، فأما الله سبحانه وتعالى يمتحن عباده، ويبعث الرسل عليهم السلام لحاجة بالمبعوث إليهم وبالممتحنين، ولمنافع ترجع إليهم؛ فيكون ذلك منه كهدايا؛ فمن لا يقبلها فنفسه يضر ولحقها يبخس، لا أن يرجع إليه ذلك؛ فزال ذلك المعنى الذي له خرج الفعل من الخلق عن حد الحكمة؛ فلزم القول بموافقة الحكمة والمصلحة، ولا قوة إلا بالله.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٦٩.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله: ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾، أي اتخذه ولياً وحبيباً.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/251.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قضى الله تعالى في هذه الآية للإسلام بالفضل على سائر الملل بقوله: ومن أحسن ديناً أيها الناس وهو في صورة الاستفهام، والمراد به التقرير، والمعنى من أحسن ديناً وأصوب طريقاً، وأهدى سبيلا ممن أسلم وجهه لله يعني استسلم وجهه لله، والوجه يراد به ها هنا نفسه وذاته كما قال: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ فانقاد له بالطاعة ولنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتصديق‏.

2. ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ بمعنى وهو فاعل للفعل الحسن مما أمره الله به‏ ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا﴾ يعني واتبع الذي كان عليه (إبراهيم). وأمر به نبيه من بعده، وأوصاهم به من الإقرار بتوحيده، وعدله وتنزيهه عما لا يليق به (حنيفاً) يعني مستقيما على منهاجه وسبيله، وقد بينا فيما مضى معنى الحنيف، فلا فائدة في إعادته، وبمثل ذلك قال الضحاك، وغيره من المفسرين.

3. ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إبراهيم خَلِيلًا﴾ ومعنى الخليل يحتمل أمرين:

أ. أحدهما: المحبة، مشتقاً من الخلة بضم الخاء والمعنى اتخذ الله إبراهيم محباً وتكون خلة إبراهيم: موالاته لأولياء الله ومعاداته لاعدائه، وخلة الله له نصرته على من اراده بسوء مثل ما أراد نمرود من إحراقه بالنار، فأنقذه الله منها، وأعلى حجته عليه، وكما فعل بملك مصر حين راوده عن أهله، وجعله اماماً لمن بعده من عباده، وقدوة لهم.

ب. والثاني: ان يكون ذلك مشتقاً من الخلة التي هي الفقر بفتح الخاء ـ كما قال زهير يمدح هرم بن سنان:

çوان أتاه خليل يوم مسألة...يقول لا غائب مالي ولا حرم‏é

ويروى يوم مسغبة وهو الأظهر وإنما انشد البلخي يوم مسألة، وهو بخلاف الروايات، وقال آخر:

çواني وان لم تسعفاني بحاجة...إلى آل ليلى مرة الخليلي‏é

أي المحتاج.

ج. وقيل: انه أصاب أهل ناحية إبراهيم عليه السلام جدب، فارتحل إلى خليل له من أهل مصر يلتمس طعاما لأهله من قبله، فلم يصب عنده حاجته، فلما قرب من أهله مر بمفازة ذات رمل لينة فملأ غرائره‏ من ذلك الرمل لئلا يغم أهله برجوعه بغير ميرة، فيظنون ان معه طعاماً فحول الله تعالى غرائره دقيقاً، فلما وصل إلى أهله قام أهله، ففتحوا الغرائز فوجدوا دقيقاً، فعجنوا منه، فخبزوا فاستيقظ إبراهيم فسألهم من أين خبزوا؟ فقالوا: من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك‏ المصري فقال: لا بل من عند خليلي الله عز وجل فسماه الله خليلا، فهذا ما روي وهو من آيات الأنبياء صلّى الله عليه وآله وسلّم.

4. فأما الاشتقاق فالخلة بضم الخاء: الصداقة، والخلة بفتح الخاء: الحاجة، واستعمل في الحاجة، للاختلال الذي يلحق الفقير فيما يحتاج اليه، والخلة بمعنى الصداقة، فلان كل واحد منهما يسد خلل صاحبه في المودة، والحاجة، وقيل: لأنه يطلعه على اسراره فكأنه في خلل قلبه والخلل: كل فرجه تقع في شيء والخلال: هو ما يتخلل به لأنه يتبع به الخلل بين الأسنان، قال الشاعر:

çونظرن من خلل الستور بأعين...مرضى مخالطها السقام صحاح‏é

يعني نظرن من الفرج التي في الستور وقولهم: لك خلة من خلال، تأويله إني أخلي لك من رأيي، او مما عندي عن خله من خلال ومعنى أخلي أخلل، فأبدل من إحدى اللامين ياء ويجوز أن يكون أخلي من الخلوة، والخلوة والخلل يرجعان إلى معنى واحد، والخلل: الطريق في الرمل إذا انفرجت منه فرجة فصارت طريقاً، والخل ما يؤكل معروف، واختار الفراء والبلخي، أن يكون من الخلة التي هي الفقر قال ويخالف المحبة، لان المحبة من الله لعبده هي الثناء عليه ومدحه له، ولأنه يحب الإنسان ما ليس من جنسه، ولا يخاف إلا ما هو من جنسه، وعلى ما بيناه، لا يمنع ذلك وإن كان فيه بعض التجوز، وقال الأزهري: الخليل الذي خص بالمحبة يقال: دعا فلان فخلل أي خص، واختاره الجبائي هذا الوجه وقال: كل نبي فهو خليل الله، لأنه خصه بما لم يخص به غيره، والخلة: الخصلة، وجمعها خلال، وإنما خص الله تعالى إبراهيم بأنه خليله من الفقر، وان كان الخلق كلهم فقراء إلى رحمته تشريفاً له بالنسبة اليه، واختصاصه به من حيث انه فقير اليه لا يرجو لسد خلته سواه.

5. خص إبراهيم عليه السلام من بين سائر الأنبياء بانه خليل الله على المعنيين، كما خص موسى بانه كليم الله ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بانه حبيب الله، وعيسى بانه روح الله ولا يلزم على ذلك‏ تسمية عيسى بانه ابن الله، لان هذه اللفظة لا تستعمل حقيقتها إلا في من خلق من مائه أو ولد على فراشه، ومجازها في من يجوز ذلك فيه، ولذلك لا يجوز أن يتخذ الشاب شيخا ابناً، وان جاز ان يتبنى بصبي، ولا يجوز أن يتخذ البهيمة ابناً، لما لم يجز أن تكون مخلوقة من مائه على وجه.

6. الحنيفية التي أمر الله نبيه بأن يتبع إبراهيم فيها عشرة أشياء: خمسة في الرأس وخمسة في الجسد، فالتي في الرأس: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، والفرق لمن يكون طويل الشعر، والتي في الجسد: فالاستنجاء، والختان، وحلق العانة، ونتف الإبط وقص الاظفار وجميع ذلك مستحب الا الختان والاستنجاء، فإنهما واجبان، وفيه خلاف ذكرناه في الخلاف، وقال الجبائي كلما كان تعبد الله به إبراهيم، فانه تعبد به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته وزاده أشياء لم يتعبد بها إبراهيم عليه السلام وعموم الآية يقتضي ما قاله، وإن كان ذلك شرعا لنبينا من حيث اعلمه الله ذلك، وتعبده به بوحي من جهته.

7. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ لما ذكر الله تعالى انه اتخذ إبراهيم خليلا لطاعته ربه وإخلاصه له العبادة، ومسارعته إلى رضاه، بين ذلك بفضله لا من حاجة إلى خلته فقال: وكيف يحتاج إلى خلته من له ما في السماوات والأرض من قليل وكثير ملكا، ومع ذلك مستغن عن جميع خلقه، وجميع الخلق يحتاجون اليه فكيف يحتاج إلى خلة إبراهيم، لكنه اتخذه خليلا لمسارعته إلى رضاه وامتثاله ما يأمره به.

8. ﴿وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ يعني لم يزل الله عالماً بجميع ما فعل عباده ان كان محسناً أثابه، وان كان مسيئاً عاقبه ان شاء.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/340.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الملة قيل: السيرة، وقيل: الطريقة، وقيل: أصله في العدو مثل الذئب إذا عدا.

ب. الحنيف: المائل إلى الحق، وقيل: أصله الاستقامة، والحنيف: المستقيم.

ج. الخلة: إضفاء المودة التي توجب الاختصاص بتخلل الأسرار، وقيل: إنه من الخلة التي هي الحاجة، فخليل الله المحتاج إليه المتوكل عليه.

د. الإحاطة بالشيء: الاحتواء عليه، وذلك يكون بالذات والقدرة والعلم.

2. عن مسروق لما نزل ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ الآية، قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء، فنزلت الآية ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ﴾ ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ﴾

3. في علاقة الآيات الكريمة بما قبلها:

أ. لما تقدم الوعيد عقبه بالوعد ثم بَيَّنَ مَنْ يستحقه، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا﴾ وبين أنه الإسلام ردا على المخالفين.

ب. يتصل قوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ بما قبله:

قيل: لما دعا إلى طاعته ووعد وأوعد بين أنه يستحق؛ لكونه خالق الأشياء العالم بها.

وقيل: لما بين أنه اتخذ إبراهيم خليلا بَيَّنَ أنه اتخذه كذلك لا لحاجة؛ لأن من كان له ما في السماوات وما في الأرض لا يجوز عليه الحاجة، ولكن لما تقتضيه الحكمة، وقيل لما تقدم الوعد والوعيد بين قدرته على ذلك، ودل عليه بأن له ما في السماوات والأرض، وأحدٌ لا يقدر على منعه، عالم بما يستحقونه يجازيهم بحسب الاستحقاق.

وقيل: لما ذكر خلة إبراهيم بَيَّنَ أنه مع ذلك عبد له؛ لأن له ما في السماوات، وأنه اتخذه خليلاً لطاعته، وأن أكرمهم أطوعهم له، وهو غني عنهم ترغيبًا في طاعته.

4. بَيَّنَ الله تعالى الذي يستحق به الوعد، فقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا﴾:

أ. قيل: هو استفهام والمراد الإنكار أي ليس أحد أحسن دينًا و﴿دِينًا﴾ قيل: طريقة

ب. وقيل: اعتقادًا.

ج. وقيل: طاعة.

د. وقيل: عادة.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾:

أ. قيل: أي انقاد وصدق الله ورسوله.

ب. وقيل: ممن أسلم عمله لله قصد الله وحده بعبادته.

ج. وقيل: ممن اعتقد الإسلام.

د. وقيل: معناه أسلم لله أي انقاد لأمره.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾:

أ. قيل: فاعل الحسنات التي أمر بها.

ب. وقيل: يوم الدين، وأحسن في القول والعمل.

7. ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي اقتدى بدينه وسيرته وطريقته:

أ. قال ابن عباس: ومن دينه مناسك الحج والصلاة إلى الكعبة.

ب. وقيل: ملته داخلة في شريعة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنما ذكر إبراهيم لاتفاقهم عليه، وأن طريقته حق.

8. ﴿حَنِيفًا﴾ مستقيمًا على الحق ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾:

أ. قيل صفيًا اصطفاه لذلك، والخليل أن يدخله في خلال أموره وأسراره، فلما خص الله تعالى إبراهيم بالكتاب والنبوة والنصرة على الأعداء، والنجاة من النار، وإيتاء المعجزات، وجعله إمامًا، وبشره بأن النبوة في ذريته، فلهذه الاختصاصات سماه خليلاً.

ب. وقيل: الخليل المحب الذي ليس في محبته خلل، عن الزجاج، كأنه يحبه حبًّا تامًّا.

ج. وقيل: قطعه بالخلة عن غيره، فسمى خليلاً.

د. وقيل: اصطفاه وهو ذو فقر وخلة فلم يضره بذلك لما عنده؛ لأن من له السماوات والأرض لا يحتاج إلى خلة أحد، وإنما يصطفي للإيمان والطاعة، عن أبي مسلم.

هـ. وقيل: افتقر إليه فتوكل عليه، فسمي خليلاً من الخلة وهي الفقر، فعلى هذا لا يجوز أن يقال: إن الله خليل إبراهيم؛ لأنه لا يفتقر إلى إبراهيم.

9. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ يعني ملكًا وخلقًا ﴿وَكَانَ اللهُ﴾ يعني لم يزل ولا يزال أدخل ﴿كَانَ﴾ لهذه الفائدة ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾:

أ. قيل: عالم علم إحاطة أي بعلمه من كل وجه.

ب. وقيل: محيطًا به علمًا به وقدرة عليه، ولا يجوز حمله على إحاطة الذات؛ لأنها من صفات الأجسام.

10. تدل الآيات الكريمة على:

أن ملة محمد ملة إبراهيم، واختلفوا فمنهم من قال هما سواء، ومنهم من قال ملته داخلة في ملة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن أبي علي، فتدل على أن الشرائع من الدين.

تعظيم أمر إبراهيم، والأصح أن المراد بالخلة الاصطفاء والاختصاص،سؤال وإشكال: أليس اصطفى جميع الأنبياء وخصهم بالمعجزات والوحي والكرامة؟ فلم خص إبراهيم؟ والجواب: أن الاسم قد يختص وإن كان المعنى مشتركًا، كما يقال لموسى: الكليم.

11. قيل في قوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ ولم يقل: مَنْ، وإن كان يغلب ما يعقل؛ لأنه ذهب به مذهب الجنس.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/85.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الخليل: مشتق من الخلة بضم الخاء التي هي المحبة، أو من الخلة بفتح الخاء: التي هي الحاجة وإنما استعمل بمعنى الصداقة، لان كل واحد من المتصادقين يسد خلل صاحبه، وقيل: لان كل واحد منهما يطلع صاحبه على أسراره، فكأنه في خلل قلبه، وإنما استعمل في الحاجة، للاختلال الذي يلحق الفقير فيما يحتاج إليه، ومنه قول زهير:

çوإن أتاه خليل يوم مسغبة... يقول لا غائب مالي ولا حرمé

وقال الزهري: الخليل الذي خص بالمحبة، يقال: دعا فلان فخلل: أي خص.

2. بين سبحانه، من يستحق الوعد الذي ذكره قبل، فقال: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا﴾ وهو في صورة الاستفهام، والمراد به التقرير، ومعناه: من أصوب طريقا، وأهدى سبيلا، أي: لا أحد أحسن اعتقادا.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾:

أ. قيل: أي: استسلم وجهه.

ب. وقيل: قصده بالعبادة وحده، كما أخبر عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾

ج. وقيل: معناه أخلص أعماله لله أي: أتى بها مخلصا لله فيها.

4. المراد بقوله: ﴿وَجْهِهِ﴾ هنا: ذاته ونفسه، كما قال تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ والمعنى: انقاد لله سبحانه بالطاعة، ولنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتصديق.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾:

أ. قيل: أي: فاعل للفعل الحسن الذي أمره الله تعالى.

ب. وقيل معناه: وهو محسن في جميع أقواله وأفعاله.

ج. وقيل: إن المحسن هنا الموحد، وروي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل عن الاحسان فقال: (أن تعبد الله تعالى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)

6. ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي اقتدى بدينه وسيرته وطريقته، يعني ما كان عليه إبراهيم وأمر به بنيه من بعده، وأوصاهم به، من الإقرار بتوحيده، وعدله، وتنزيهه عما لا يليق به، ومن ذلك الصلاة إلى الكعبة، والطواف حولها، وسائر المناسك ﴿حَنِيفًا﴾ أي: مسستقيما على منهاجه وطريقه، وقد مر معنى الحنيف في سورة البقرة.

7. ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ أي: محبا لا خلل في مودته لكمال خلته، والمراد بخلته لله أنه كان مواليا لأولياء الله، ومعاديا لأعداء الله، والمراد بخلة الله تعالى له: نصرته على من أراده بسوء، كما أنقذه من نار نمرود، وجعلها عليه بردا وسلاما، وكما فعله بملك مصر، حين راوده عن أهله، وجعله إماما للناس، وقدوة لهم:

أ. قال الزجاج: جايز أن يكون سمي خليل الله بأنه الذي أحبه الله، بأن اصطفاه محبة تامة كاملة، وأحب الله هو، محبة تامة كاملة.

ب. وقيل: سمي خليلا لأنه افتقر إلى الله، وتوكل عليه، وانقطع بحوائجه إليه، وهو اختيار الفراء، وأبي القاسم البلخي، وإنما خصه الله بهذا الاسم، وإن كان الخلق كلهم فقراء إلى رحمته، تشريفا له بالنسبة إليه، من حيث أنه فقير إليه، لا يرجو لسد خلته سواء، كما خص موسى بأنه كليم الله، وعيسى بأنه روح الله، ومحمدا بأنه حبيب الله.

ج. وقيل: إنما سمي خليلا، لأنه سبحانه خصه بما لم يخص به غيره، من إنزال الوحي عليه، وغير ذلك من خصائصه، وإنما خصه من بين سائر الأنبياء بهذا الاسم على المعنيين اللذين ذكرناهما، وإن كان كل واحد من الأنبياء خليل الله في زمانه، لأنه سبحانه خصهم بالنبوة، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (قد اتخذ الله صاحبكم خليلا ـ يعني نفسه) ـ وهذا الوجه اختيار أبي علي الجبائي، قال: وكل ما تعبد الله به إبراهيم فقد تعبد به نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وزاده أشياء لم يتعبد بها إبراهيم عليه السلام.

د. ومما قيل في وجه خلة إبراهيم: ما روي في التفسير أن إبراهيم كان يضيف الضيفان، ويطعم المساكين، وإن الناس أصابهم جدب، فارتحل إبراهيم إلى خليل له بمصر، يلتمس منه طعاما لأهله، فلم يصب ذلك عنده، فلما قرب من أهله، مر بمفازة ذات رمل، لينة فملأ غرائره من ذلك الرمل، لئلا يغم أهله برجوعه من غير مبرة، فحول الله ما في غرائره دقيقا، فلما وصل إلى أهله، دخل البيت ونام استحياء منهم، ففتحوا الغرائر، وعجنوا من الدقيق، وخبزوا، وقدموا إليه طعاما طيبا فسألهم: من أين خبزوا؟ قالوا: من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك المصري! فقال: أما إنه خليلي، وليس بمصري، فسماه الله سبحانه خليلا)، رواه علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله عليه السلام.

8. ثم بين سبحانه أنه إنما اتخذ إبراهيم خليلا لطاعته، ومسارعته إلى رضاه، لا لحاجة منه سبحانه إلى خلته فقال: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ملكا وملكا، فهو مستغن عن جميع خلقه، والخلق محتاجون إليه.

9. ﴿وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ يعني: لم يزل سبحانه عالما بجميع ما يفعله عباده، ومعنى المحيط بالشيء أنه العالم به من جميع وجوهه)

10. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿دِينًا﴾: منصوب على التمييز، وهو مما انتصب بعد تمام الاسم.

ب. ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾: جملة في موضع النصب على الحال، وكذلك قوله: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ في الآية التي قبل.

ج. ﴿حَنِيفًا﴾: منصوب على الحال، وذو الحال الضمير في ﴿أَتَّبِعُ﴾، والمضمر هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويجوز أن يكون حنيفا: حالا من ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾، وكان حقه أن يكون فيه الهاء، لان فعيلا إذا كان بمعنى فاعل للمؤنث، تثبت فيه الهاء، إلا أنه قد جاء مجئ ناقة سديس، وريح حريق، ويجوز أن يكون حالا من ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، والحال من المضاف إليه عزيز، وقد جاء ذلك في الشعر، قال النابغة:

çقالت بنو عامر خالوا بني أسد... يا بؤس للجهل ضرارا لأقوامé

أي يا بؤس الجهل ضرارا واللام مقمحة لتوكيد الإضافة وخليلا مفعول ثان لاتخذ.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/176.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ قال ابن عباس: خيّر الله بين الأديان بهذه الآية، و﴿أَسْلَمَ﴾ بمعنى: أخلص، وفي (الوجه) قولان:

أ. أحدهما: أنه الدّين.

ب. الثاني: العمل.

2. في الإحسان قولان:

أ. أحدهما: أنه التّوحيد، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: القيام لله بما فرض الله، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

3. في اتّباع ملّة إبراهيم قولان:

أ. أحدهما: اتّباعه على التّوحيد والطّاعة.

ب. الثاني: اتّباع شريعته، اختاره القاضي أبو يعلى.

4. الخليل: قال ابن عباس: الخليل الصّفيّ، وقال غيره: المصافي، وقال الزجّاج: هو المحبّ الذي ليس في محبّته خلل، قال وقيل: الخليل: الفقير، فجائز أن يكون إبراهيم سمّي خليل الله بأنه أحبّه محبّة كاملة، وجائز أن يكون لأنه لم يجعل فقره وفاقته إلّا إليه، و(الخلّة): الصّداقة، لأن كلّ واحد يسدّ خلل صاحبه، و(الخلّة) بفتح الخاء: الحاجة: سمّيت خلّة للاختلال الذي يلحق الإنسان فيما يحتاج إليه، وسمّي الخلّ الذي يؤكل خلّا، لأنه اختلّ منه طعم الحلاوة، وقال ابن الأنباريّ: الخليل: فعيل من الخلّة، والخلّة: المودّة، وقال بعض أهل اللغة: الخليل، المحبّ، والمحبّ الذي ليس في محبّته نقص ولا خلل، والمعنى: أنه كان يحبّ الله، ويحبّه الله محبّة لا نقص فيها، ولا خلل، ويقال: الخليل: الفقير، فالمعنى: اتّخذه فقيرا ينزل فقره وفاقته به، لا بغيره.

5. في سبب اتّخاذ الله له خليلا ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه اتخذه خليلا لإطعامه الطعام، روى عبد الله بن عمرو عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (يا جبريل، لم اتّخذ الله إبراهيم خليلا؟ قال لإطعامه الطّعام)

ب. الثاني: أن الناس أصابتهم سنة فأقبلوا إلى باب إبراهيم يطلبون الطعام، وكانت له ميرة من صديق له بمصر في كل سنة، فبعث غلمانه بالإبل إلى صديقه، فلم يعطهم شيئا، فقالوا: لو احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة، فملؤوا الغرائر رملا، ثم أتوا إبراهيم عليه السّلام، فأعلموه، فاهتمّ إبراهيم لأجل الخلق، فنام وجاءت سارة وهي لا تعلم ما كان، ففتحت الغرائر، فإذا دقيق حواريّ، فأمرت الخبّازين فخبزوا، وأطعموا الناس، فاستيقظ إبراهيم، فقال: من أين هذا الطعام؟ فقالت: من عند خليلك المصريّ، فقال: بل من عند خليلي الله عزّ وجلّ، فيومئذ اتّخذه الله خليلا، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

ج. الثالث: أنه اتّخذه خليلا لكسره الأصنام، وجداله قومه، قاله مقاتل.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/479.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ لما شرط الله تعالى حصول النجاة والفوز بالجنة بكون الإنسان مؤمنا شرح الإيمان وبين فضله من‏ وجهين، وكل واحد من هذين الوجهين سبب مستقل بالترغيب في دين الإسلام:

أ. أحدهما: أنه الدين المشتمل على إظهار كمال العبودية والخضوع والانقياد لله تعالى.. فدين الإسلام مبني على أمرين: الاعتقاد والعمل: أما الاعتقاد فإليه الإشارة بقوله: ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾ وذلك لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع، والوجه أحسن أعضاء الإنسان، فالإنسان إذا عرف بقلبه ربه وأقر بربوبيته وبعبودية نفسه فقد أسلم وجهه لله، وأما العمل فإليه الإشارة بقوله: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ ويدخل فيه فعل الحسنات وترك السيئات، فتأمل في هذه اللفظة المختصرة واحتوائها على جميع المقاصد والأغراض، وأيضا فقوله: ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ يفيد الحصر، معناه أنه أسلم نفسه لله، وما أسلم لغير الله وهذا تنبيه على أن كمال الإيمان لا يحصل إلا عند تفويض جميع الأمور إلى الخالق وإظهار التبري من الحول والقوة، وأيضا ففيه تنبيه على فساد طريقة من استعان بغير الله، فإن المشركين كانوا يستعينون بالأصنام ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، والدهرية والطبيعيون يستعينون، بالأفلاك والكواكب والطبائع وغيرها، واليهود كانوا يقولون في دفع عقاب الآخرة عنهم: أنهم من أولاد الأنبياء، والنصارى كانوا يقولون: ثالث ثلاثة، فجميع الفرق قد استعانوا بغير الله، وأما المعتزلة فهم في الحقيقة ما أسلمت وجوههم لله لأنهم يرون الطاعة الموجبة لثوابهم من أنفسهم، والمعصية الموجبة لعقابهم من أنفسهم، فهم في الحقيقة لا يرجون إلا أنفسهم ولا يخافون إلا أنفسهم، وأما أهل السنة الذين فوضوا التدبير والتكوين والإبداع والخلق إلى الحق سبحانه وتعالى، واعتقدوا أنه لا موجد ولا مؤثر إلا الله فهم الذين أسلموا وجوههم لله وعولوا بالكلية على فضل الله، وانقطع نظرهم عن كل شيء ما سوى الله.

ب. الثاني: وهو أنه الدين الذي كان عليه إبراهيم عليه السلام، ولذلك فإن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما دعا الخلق إلى دين إبراهيم عليه السلام، فلقد اشتهر عند كل الخلق أن إبراهيم عليه السلام ما كان يدعو إلا إلى الله تعالى كما قال: ﴿إِنَّنِي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 19] وما كان يدعو إلى عبادة فلك ولا طاعة كوكب ولا سجدة صنم ولا استعانة بطبيعة، بل كان دينه الدعوة إلى الله والاعراض عن كل ما سوى الله ودعوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قد كان قريبا من شرع إبراهيم عليه السلام في الختان وفي الأعمال المتعلقة بالكعبة: مثل الصلاة إليها والطواف بها والسعي والرمي والوقوف والحلق والكلمات العشر المذكورة في قوله: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾ [البقرة: 124] ولما ثبت أن شرع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كان قريبا من شرع إبراهيم ثم إن شرع إبراهيم مقبول عند الكل، وذلك لأن العرب لا يفتخرون بشيء كافتخارهم بالانتساب إلى إبراهيم، وأما اليهود والنصارى فلا شك في كونهم مفتخرين به، وإذا ثبت هذا لزم أن يكون شرع محمد مقبولا عند الكل.

2. ﴿حَنِيفًا﴾ يجوز أن يكون حالا للمتبوع، وأن يكون حالا للتابع، كما إذا قلت: رأيت راكبا، فإنه يجوز أن يكون الراكب حالا للمرئي والرائي، والحنيف المائل، ومعناه أنه مائل عن الأديان كلها، لأن ما سواه باطل، والحق أنه مائل عن كل ظاهر وباطن، وتحقيق الكلام فيه أن الباطل وإن كان بعيدا من الباطل الذي يضاده فقد يكون قريبا من الباطل الذي يجانسه، وأما الحق فإنه واحد فيكون مائلا عن كل ما عداه كالمركز الذي يكون في غاية البعد عن جميع أجزاء الدائرة.

3. سؤال وإشكال: ظاهر هذه الآية يقتضي أن شرع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم نفس شرع إبراهيم، وعلى هذا التقدير لم يكن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم صاحب شريعة مستقلة، وأنتم لا تقولون بذلك، والجواب: يجوز أن تكون ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مع اشتمال هذه الملة على زوائد حسنة وفوائد جليلة.

4. ﴿وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ في تعلق هذه الآية بما قبلها، وفيه وجهان:

أ. الأول: أن إبراهيم عليه السلام لما بلغ في علو الدرجة في الدين أن اتخذه الله خليلا كان جديرا بأن يتبع خلقه وطريقته.

ب. الثاني: أنه لما ذكر ملة إبراهيم ووصفه بكونه حنيفا ثم قال عقيبه‏: ﴿وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ أشعر هذا بأنه سبحانه إنما اتخذه خليلا لأنه كان عالما بذلك الشرع آتيا بتلك التكاليف، ومما يؤكد هذا قوله: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: 124] وهذا يدل على أنه سبحانه إنما جعله إماما للخلق لأنه أتم تلك الكلمات.

5. لما دلت الآية الكريمة على أن إبراهيم عليه السلام إنما كان بهذا المنصب العالي وهو كونه خليلا لله تعالى بسبب أنه كان عاملا بتلك الشريعة كان هذا تنبيها على أن من عمل بهذا الشرع لا بدّ وأن يفوز بأعظم المناصب في الدين، وذلك يفيد الترغيب العظيم في هذا الدين.

6. سؤال وإشكال: ما موقع قوله: ﴿وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾؟ والجواب: هذه الجملة اعتراضية لا محل لها من الاعراب، ونظيره ما جاء في الشعر من قوله: (والحوادث جمة) والجملة الاعتراضية من شأنها تأكيد ذلك الكلام، والأمر هاهنا كذلك على ما بيناه.

7. ذكروا في اشتقاق الخليل وجوها:

أ. الأول: أن خليل الإنسان هو الذي يدخل في خلال أموره وأسراره، والذي دخل حبه في خلال أجزاء قلبه، ولا شك أن ذلك هو الغاية في المحبة، قيل: لما اطلع الله إبراهيم عليه السلام على الملكوت الأعلى والأسفل ودعا القوم مرة بعد أخرى إلى توحيد الله، ومنعهم عن عبادة النجم والقمر والشمس، ومنعهم عن عبادة الأوثان ثم سلم نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان جعله الله إماما للخلق ورسولا إليهم، وبشره بأن الملك والنبوّة في ذريته، فلهذه الاختصاصات سماه خليلا، لأن محبة الله لعبده عبارة عن إرادته لإيصال الخيرات والمنافع إليه.

ب. الثاني: أنه الذي يوافقك في خلالك، روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (تخلقوا بأخلاق الله) فيشبه أن إبراهيم عليه السلام لما بلغ في هذا الباب مبلغا لم يبلغه أحد ممن تقدم لا جرم خصه الله بهذا التشريف.

ج. الثالث: قال صاحب (الكشاف): إن الخليل هو الذي يسايرك في طريقك، من الخل وهو الطريق في الرمل، وهذا الوجه قريب من الوجه الثاني، أو يحمل ذلك على شدة طاعته لله وعدم تمرده في ظاهره وباطنه عن حكم الله، كما أخبر الله عنه بقوله: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 131]

د. الرابع: الخليل هو الذي يسد خللك كما تسد خلله، وهذا القول ضعيف لأن إبراهيم عليه السلام لما كان خليلا مع الله امتنع أن يقال: إنه يسد الخلل، ومن هاهنا علمنا أنه لا يمكن تفسير الخليل بذلك.

8. أما المفسرون فقد ذكروا في سبب نزول هذا اللقب وجوها:

أ. الأول: أنه لما صار الرمل الذي أتى به غلمانه دقيقا قالت امرأته: هذا من عند خليلك المصري، فقال إبراهيم: بل هو من خليلي الله.

ب. الثاني: قال شهر بن حوشب: هبط ملك في صورة رجل وذكر اسم الله بصوت رخيم شجي فقال إبراهيم عليه السلام: اذكره مرة أخرى، فقال لا أذكره مجانا، فقال لك مالي كله، فذكره الملك بصوت أشجى من الأول، فقال: اذكره مرة ثالثة ولك أولادي، فقال الملك: أبشر فإني ملك لا أحتاج إلى مالك وولدك، وإنما كان المقصود امتحانك، فلما بذل المال الأولاد على سماع ذكر الله لا جرم اتخذه الله خليلا.

ج. الثالث: روى طاووس عن ابن عباس أن جبريل والملائكة لما دخلوا على إبراهيم في صورة غلمان حسان الوجوه وظن الخليل أنهم أضيافه وذبح لهم عجلا سمينا وقربه إليهم وقال كلوا على شرط أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره، فقال جبريل أنت خليل الله، فنزل هذا الوصف.

د. فيه عندي وجه آخر، وهو أن جوهر الروح إذا كان مضيئا مشرقا علويا قليل التعلق باللذات الجسمانية والأحوال الجسدانية، ثم انضاف إلى مثل هذا الجوهر المقدس الشريف أعمال تزيده صقالة عن الكدورات الجسمانية وأفكار تزيده استنارة بالمعارف القدسية والجلايا الإلهية، صار مثل هذا الإنسان متوغلا في عالم القدس والطهارة متبرئا عن علائق الجسم والحس، ثم لا يزال هذا الإنسان يتزايد في هذه الأحوال الشريفة إلى أن يصير بحيث لا يرى إلا الله، ولا يسمع إلا الله، ولا يتحرك إلا بالله، ولا يسكن إلا بالله، ولا يمشي إلا بالله، فكان نور جلال الله قد سرى في جميع قواه الجسمانية وتخلل فيها وغاص في جواهرها، وتوغل في ماهياتها، فمثل هذا الإنسان هو الموصوف حقا بأنه خليل لما أنه تخللت محبة الله في جميع قواه، وإليه الإشارة بقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في دعائه: (اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا وفي عصبي نورا)

9. سؤال وإشكال: قال بعض النصارى: لما جاز إطلاق اسم الخليل على إنسان معنى على سبيل الإعزاز والتشريف، فلم لا يجوز إطلاق اسم الابن في حق عيسى عليه السلام على سبيل الإعزاز والتشريف؟ والجواب: أن الفرق أن كونه خليلا عبارة عن المحبة المفرطة، وذلك لا يقتضي الجنسية، أما الابن فإنه مشعر بالجنسية، وجلّ الإله عن مجانسة الممكنات ومشابهة المحدثات.

10. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ في تعلق هذه الآية بما قبلها، وفيه وجوه:

أ. الأول: أن يكون المعنى أنه لم يتخذ الله إبراهيم خليلا لاحتياجه إليه في أمر من الأمور كما تكون خلة الآدميين، وكيف يعقل ذلك وله ملك السموات والأرض، وما كان كذلك، فكيف يعقل أن يكون محتاجا إلى البشر الضعيف، وإنما اتخذه خليلا بمحض الفضل والإحسان والكرم، ولأنه لما كان مخلصا في العبودية لا جرم خصه الله بهذا التشريف، والحاصل أن كونه خليلا يوهم الجنسية فهو سبحانه أزال وهم المجانسة والمشاكلة بهذا الكلام.

ب. الثاني: أنه تعالى ذكر من أول السورة إلى هذا الموضع أنواعا كثيرة من الأمر والنهي والوعد والوعيد، فبيّن هاهنا أنه إله المحدثات وموجد الكائنات والممكنات، ومن كان كذلك كان ملكا مطاعا فوجب على كل عاقل أن يخضع لتكاليفه وأن ينقاد لأمره ونهيه.

ج. الثالث: أنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد ولا يمكن الوفاء بهما إلا عند حصول أمرين:

أحدهما: القدرة التامة المتعلقة بجميع الكائنات والممكنات.

الثاني: العلم التام المتعلق بجميع الجزئيات والكليات حتى لا يشتبه عليه المطيع والعاصي والمحسن والمسيء فدل على كمال قدرته بقوله: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ وعلى كمال علمه بقوله: ﴿وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾

د. الرابع: أنه سبحانه لما وصف إبراهيم بأنه خليله بين أنه مع هذه الخلة عبد له، وذلك لأنه له ما في السموات وما في الأرض، ويجري هذا مجرى قوله: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: 93] ومجرى قوله: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [النساء: 172] يعني أن الملائكة مع كمالهم في صفة القدرة والقوة في صفة العلم والحكمة لما لم يستنكفوا عن عبودية الله فكيف يمكن أن يستنكف المسيح مع ضعف بشريته عن عبودية الله؟ كذا هاهنا، يعني إذا كان كل من في السموات والأرض ملكه في تسخيره ونفاذ إلهيته فكيف يعقل أن يقال: إن اتخاذ الله إبراهيم عليه السلام خليلا يخرجه عن عبودية الله، وهذه الوجوه كلها حسنة متناسبة.

11. إنما قال‏: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ولم يقل (من) لأنه ذهب مذهب الجنس، والذي يعقل إذا ذكر وأريد به الجنس ذكر بما.

12. في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ وجهان:

أ. أحدهما: المراد منه الإحاطة في العلم.

ب. الثاني: المراد منه الإحاطة بالقدرة، كما في قوله تعالى:‏ ﴿وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا﴾ [الفتح: 21] قال القائلون بهذا القول: وليس لقائل أن يقول لما دل قوله: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ على كمال القدرة، فلو حملنا قوله: ﴿وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ على كمال القدرة لزم التكرار، وذلك لأنا نقول: إن قوله: ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ لا يفيد ظاهره إلا كونه تعالى قادرا مالكا لكل ما في السموات وما في الأرض، ولا يفيد كونه قادرا على ما يكون خارجا عنهما ومغايرا لهما، فلما قال‏: ﴿وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ دل على كونه قادرا على ما لا نهاية له من المقدورات خارجا عن هذه السموات والأرض، على أن سلسلة القضاء والقدر في جميع الكائنات والممكنات إنما تنقطع بإيجاده وتكوينه وإبداعه، فهذا تقرير هذا القول، إلا أن القول الأول أحسن لما بينا أن الإلهية والوفاء بالوعد والوعيد إنما يحصل ويكمل بمجموع القدرة والعلم، فلا بدّ من ذكرهما معا، وإنما قدم ذكر القدرة على ذكر العلم لما ثبت في علم الأصول أن العلم بالله هو العلم بكونه قادرا، ثم بعد العلم بكونه قادرا يعلم كونه عالما لما أن الفعل بحدوثه يدل على القدرة، وبما فيه من الأحكام والإتقان يدل على العلم، ولا شك أن الأول مقدم على الثاني.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/229.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ فضل دين الإسلام على سائر الأديان و﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ معناه أخلص دينه لله وخضع له وتوجه إليه بالعبادة، قال ابن عباس: أراد أبا بكر، وانتصب ﴿دِينًا﴾ على البيان، ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ ابتداء وخبر في موضع الحال، أي موحد فلا يدخل فيه أهل الكتاب، لأنهم تركوا الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والملة الدين، والحنيف المسلم وقد تقدم.

1. ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾:

أ. قال ثعلب: إنما سمي الخليل خليلا لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللا إلا ملأته، وأنشد قول بشار:

çقد تخللت مسلك الروح مني...وبه سمي الخليل خليلاé

ب. وخليل فعيل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم، وقيل: هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب، وإبراهيم كان محبا لله وكان محبوبا لله.

ج. وقيل: الخليل من الاختصاص فالله تعالى أعلم اختص إبراهيم في وقته للرسالة، واختار هذا النحاس.

د. وقيل: الخليل المحتاج، فإبراهيم خليل الله على معنى أنه فقير محتاج إلى الله تعالى، كأنه الذي به الاختلال، وقال زهير يمدح هرم بن سنان:

çوإن أتاه خليل يوم مسغبة...يقول لا غالب ما لي ولا حرمé

أي لا ممنوع.

هـ. قال الزجاج: ومعنى الخليل: الذي ليس في محبته خلل، فجائز أن يكون سمي خليلا لله بأنه الذي أحبه واصطفاه محبة تامة.

و. وجائز أن يسمى خليل الله أي فقيرا إلى الله تعالى، لأنه لم يجعل فقره ولا فاقته إلا إلى الله تعالى مخلصا في ذلك، والاختلال الفقر، فروي أنه لما رمي بالمنجنيق وصار في الهواء أتاه جبريل صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: ألك حاجة؟ قال أما إليك فلا، فخلة الله تعالى لإبراهيم نصرته إياه.

ز. وقيل: سمي بذلك بسبب أنه مضى إلى خليل له بمصر، وقيل: بالموصل ليمتار من عنده طعاما فلم يجد صاحبه، فملأ غرائره رملا وراح به إلى أهله فحطه ونام، ففتحه أهله فوجدوه دقيقا فصنعوا له منه، فلما قدموه إليه قال من أين لكم هذا؟ قالوا: من الذي جئت به من عند خليلك المصري، فقال: هو من عند خليلي، يعني الله تعالى، فسمي خليل الله بذلك، وقيل: إنه أضاف رؤساء الكفار وأهدى لهم هدايا وأحسن إليهم فقالوا له: ما حاجتك؟ قال حاجتي أن تسجدوا سجدة، فسجدوا فدعا الله تعالى وقال: اللهم إني قد فعلت ما أمكنني فافعل اللهم ما أنت أهل لذلك، فوفقهم الله تعالى للإسلام فاتخذه الله خليلا لذلك.

ح. ويقال: لما دخلت عليه الملائكة بشبه الآدميين وجاء بعجل سمين فلم يأكلوا منه وقالوا: إنا لا نأكل شيئا بغير ثمن فقال لهم: أعطوا ثمنه وكلوا، قالوا: وما ثمنه؟ قال أن تقولوا في أوله باسم الله وفي آخره الحمد لله، فقالوا فيما بينهم: حق على الله أن يتخذه خليلا، فاتخذه الله خليلا.

ط. وروى جابر ابن عبد الله عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال اتخذ الله إبراهيم خليلا لإطعامه الطعام وإفشائه السلام وصلاته بالليل والناس نيام، وروى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (يا جبريل لم اتخذ الله إبراهيم خليلا؟ قال لإطعامه الطعام يا محمد.

ي. وقيل: معنى الخليل الذي يوالي في الله ويعادي في الله، والخلة بين الآدميين الصداقة، مشتقة من تخلل الأسرار بين المتخالين،

ك. وقيل: هي من الخلة فكل واحد من الخليلين يسد خلة صاحبه، وفي مصنف أبي داوود عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)، ولقد أحسن من قال:

ç من لم تكن في الله خلته...فخليله منه على خطرé

وقال آخر:

çإذا ما كنت متخذا خليلا...فلا تثقن بكل أخي إخاء

فإن خيرت بينهم فألصق...بأهل العقل منهم والحياء

فإن العقل ليس له إذا ما...تفاضلت الفضائل من كفاءé

وقال حسان بن ثابت:

çأخلاء الرجال هم كثير...ولكن في البلاء هم قليل

فلا تغررك خلة من تؤاخي...فما لك عند نائبة خليل

وكل أخ يقول أنا وفي...ولكن ليس يفعل ما يقول

سوى خل له حسب ودين...فذاك لما يقول هو الفعولé

2. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي ملكا واختراعا، والمعنى إنه اتخذ إبراهيم خليلا بحسن طاعته لا لحاجته إلى مخالته ولا للتكثير به والاعتضاد، وكيف وله ما في السماوات وما في الأرض؟ وإنما أكرمه لامتثاله لأمره، ﴿وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ أي أحاط علمه بكل الأشياء.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/399.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ أي: أخلص نفسه له حال كونه محسنا، أي: عاملا للحسنات‏ ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي: دينه حال كون المتبع‏ ﴿حَنِيفًا﴾ أي: مائلا عن الأديان الباطلة إلى دين الحق، وهو الإسلام‏ ﴿وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ أي: جعله صفوة له وخصه بكراماته، قال ثعلب: إنما سمي الخليل خليلا: لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللا إلّا ملأته، وأنشد قول بشار:

çقد تخلّلت مسلك الرّوح منّي‏...وبه سمّي الخليل خليلاé

وخليل: فعيل بمعنى فاعل، كالعليم بمعنى العالم، وقيل: هو بمعنى المفعول، كالحبيب بمعنى المحبوب، وقد كان إبراهيم عليه السلام محبوبا لله ومحبا له؛ وقيل: الخليل من الاختصاص، فالله سبحانه اختص إبراهيم برسالته في ذلك الوقت واختاره لها، واختار هذا النحاس، وقال الزجاج: معنى الخليل: الذي ليس في محبته خلل‏.

2. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ فيه إشارة إلى أنه سبحانه اتخذ إبراهيم خليلا لطاعته، لا لحاجته، ولا للتكثر به والاعتضاد بمخاللته‏ ﴿وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ هذه الجملة مقررة لمعنى الجملة التي قبلها، أي: أحاط علمه بكل شيء ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾

__________

(1) فتح القدير: ‏1/599.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنَ اَحْسَنُ دِينًا﴾ نفيٌ للمساواة والزيادة، ﴿مِمَّنَ اَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾ أخضعه وأخلصه، أي: ذاته كلَّها، وعبَّر بالوجه لأنَّه أعزُّ الأعضاء الظاهرة، ﴿لِلهِ﴾ لا يعتقد أنَّ له ربًّا سواه، ولا ربًّا معه، أو المراد: نفس الوجه، بأن سجد له خاصَّةً، بلا رياء ولا سمعة، ودين الإسلام مبنيٌّ على الاعتقاد لربوبيَّة الله وألوهيَّته، وقصده إيَّاه بالأعمال، وعدم تعلُّق قلبه بغيره، كما قال: ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾، وعلى الأعمال كما قال: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ بإتيانه بالأوامر وانتهائه عن النواهي، وفي الحديث: (الإحسان أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك)، وذلك منتهى قوَّة البشر إذ جمع الاعتقاد والعمل، وقيل: هو محسن بالتوحيد، فيكون معنى ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾: أخلص عمله.

2. ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ هذا إمَّا نفس إسلام الوجه والإحسان، كأنَّه قيل: وهو في ذلك متَّبع لملَّة إبراهيم، أو تحقَّق إسلام وجهه وإحسانه باتِّباع ملَّته، وإمَّا اشتراطٌ؛ لأنَّ شرائع الأنبياء مختلفة، وكلُّها مقبولة، وفضَّل ملَّة إبراهيم، وأحسنُها ما كان جامعًا لإسلام الوجه والإحسان، وهو اتِّباع ملَّته لا غيرها من شرائع الأنبياء، وقد جمع ذلك كلَّه دينُ سيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فالواجب على أهل الملل كلِّهم أن يقبلوه كما قبلوا كلُّهم إبراهيم وارتضوه، إلَّا أنَّ منهم جاهلاً ومنهم حاسدًا كاتمًا، وكان مشركو العرب لا يفتخرون بشيء كافتخارهم بالانتساب إلى إبراهيم.

3. ﴿حَنِيفًا﴾ مائلاً عن غير دين الإسلام إلى الإسلام ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ اصطفاه بكرامة ككرامة الخليل، والواو للحال، أي: وقد اتَّخذ،،، إلخ، وصاحب الحال ضمير (اتَّبَعَ)، وقيل: عطف على (مَنَ اَحْسَنُ)، ولا بُعد في العطف عليه؛ لأنَّ المراد مدح من حاز هذه الخصلة، وهي أنَّه اتَّبع إبراهيم الذي هو خليل الله تعالى ، وأظهر في موضع الإضمار للتفخيم.

4. سبب تلقيبه خليلاً أنَّه هبط إليه ملك في صورة رجل، وذكر اسم الله بصوت رخيم شجيٍّ، فقال: اُذكره مرَّة أخرى، فقال: لا أذكره مجَّانًا، فقال: لك مالي كلُّه، فذكره بصوت أشجى من الأوَّل، فقال: أذكره مرَّة ثالثة ولك أولادي، فقال: أبشر، فإنِّي مَلَكٌ لا أحتاج إلى مالِكَ وولدك، والمقصود امتحانك، وروي أنَّ جبريل والملائكة دخلوا على إبراهيم عليه السلام  في صورة غلمان حسان الوجوه، فظنَّهم أضيافًا فذبح عجلاً سمينًا، وقال لهم: (كلوا على شرط أن تسمُّوا الله أوَّله، وتحمدوه آخره)، فقال جبريل: (أنت خليل الله)، وروي أنَّه بعث إلى خليل له بمصر في جوع أصاب الناس ليمتار منه، فقال: لو كان يريد لنفسه لفعلت، ولكن يريد للأضياف، وقد أصابنا ما أصاب الناس، فاجتاز غلمانه ببطحاء لينة، فملؤوا منه الغرائر حياء من الناس، فلمَّا أخبروا إبراهيم ساءه الخبر فغلبته عيناه فنام، وقامت سارة إلى غرارة فأخرجت حوَّارى، واختبزت، فاستيقظ، واشتم رائحة الخبز، فقال: من أين لكم هذا؟ فقالت: من خليلك المصريِّ؟ فقال: بل من عند خليلي الله، فسمَّاه الله خليلاً، وقيل: سمَّاه الله خليلاً لأنَّه لا يعارضه شيء لله وشيء لغيره إلَّا اختار ما لله تعالى، وقيل: لأنَّه يفعل ما يفعل الله تعالى ، فإنَّه يكرم الضيف مؤمنًا أو كافرًا، كما أنَّ الله تعالى أحسن إلى الكافر والمؤمن وأطعمهما، وفي البيهقيِّ عن ابن عمر أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (يا جبريل لِمَ سمَّى الله تعالى إبراهيم خليلاً؟ قال: لإطعامه الطعام يا محمَّد)، وقيل: سمَّاه لأنَّه لا يتغدَّى وحده إلَّا إن مشى ميلاً ليجد من يأكل معه، ولم يجد، وقيل: لقوله لجبريل حين كان في الهواء ملقى إلى النَّار: (أمَّا إليك فلا)، وقد قال: (ألك حاجة؟)، وروي أنَّه أضافه كافر فشرط عليه الإيمان، فولَّى، فأوحى الله تعالى إليه: (إنِّي أطعمته سبعين سنة، وهو يشرك بي، أيترك دينه ودين آبائه للقمة؟) فأدركه فأخبره، فقال: (أَوَقَد كان هذا؟ هذا إلهك أحقُّ بأن يُعبد)، فأسلم.

5. والخلَّة من الخِلال، فإنَّه ودٌّ تخلَّلَ النفس وخالطَها، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخالُّ) بضمِّ الياء وشدِّ اللام، أو من الخَلَل لأنَّ كلًّا يسدُّ خلل الآخر، أو من الخل وهو الطريق في الرمل، لأنهما يترافقان في الطريق، أو من الخلَّة بمعنى الفقر؛ لأنَّ كلًّا يفتقر إلى الآخر، أو بمعنى الخصلة؛ لأنَّهما يتوافقان في الخصال، وذلك في حقِّ الله بمعنى لازم المعنى اللغويِّ.

6. سؤال وإشكال: قال بعض النصارى: إذا جاز إطلاق الخليل على معنى التشريف، فلم لا يجوز إطلاق الابن في حقِّ عيسى على معنى التشريف؟ والجواب: أنَّ البنوَّة تشعر بالجنسيَّة، ومشابهة المحدَثات، بخلاف الخلَّة، وإن أوهمت الجنسيَّة والمشابهة والحاجة؛ فقد أزال ذلك بقوله: ﴿وَلِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الَارْضِ﴾ فإنَّه لا يتصوَّر لمن ملك ذلك ـ وأكثر منه مِمَّا لا يتناهى، ولا شيء إلَّا وهو مملوكه ـ أن يجانس أو يشابه أو يحتاج، فخلَّته محض فضل لا استكمالٌ بشيء، كما يتخالُّ الرجلان لاحتياج كلٍّ للآخر، وإبراهيم ملْكُه تعالى فلا تخرجه الخلَّة عن العبوديَّة لله تعالى، والمالك له أن يختار من ملكه خليلاً، ومن كان كذلك تجب طاعته واعتقاد كمال مجازاته على الأعمال، ومن قدر على إيجاد الأجسام والأعراض فهو محيط بالأعمال قادر على الجزاء عليها، كما قال: ﴿وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا﴾ علمًا وقدرة، وكيف لا يعلم ما هو خالق له!؟

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/300.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ أي: أخلص نفسه له تعالى فلم يتخذ ربا سواه، ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أي آت بالحسنات تارك للسيئات، أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفيّ المستلزم لحسنها الذاتيّ، وقد فسر النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله وسلّم الإحسان‏ بقوله: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

2. ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ الموافقة لدين الإسلام، المتفق على صحتها وقبولها ﴿حَنِيفًا﴾ أي: مائلا عن الشرك قصدا، أي: تاركا له عن بصيرة، ومقبل على الحق بكليته، لا يصده عنه صادّ، ولا يرده عنه رادّ.

3. ذكر هنا كلاما مطولا للرازي في تفسير الآية الكريمة سبق ذكره.

4. قال ابن القيّم في كتابه (الجواب الكافي): الخلة تتضمن كمال المحبة ونهايتها، بحيث لا يبقى في القلب سعة لغير محبوبه، وهي منصب لا يقبل المشاركة بوجه ما، وهذا المنصب خاصة للخليلين صلوات الله وسلامه عليهما: إبراهيم ومحمد، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا.

5. تمسك من زعم أن المحبة أصفى من الخلة بما رواه ابن مردويه عن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ينتظرونه، فخرج، حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، وإذا بعضهم يقول: عجبا إن الله اتخذ من خلقه خليلا، فإبراهيم خليله، وقال آخر: ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليما، وقال الآخر: فعيسى روح الله وكلمته، وقال آخر: آدم اصطفاه الله، فخرج عليهم فسلم وقال: قد سمعت كلامكم وتعجبكم، أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى كليمه، وعيسى روحه وكلمته، وآدم اصطفاه الله، وهو كذلك، وكذلك محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ألا وإني حبيب الله، ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح الله لي ويدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر، قال ابن كثير: وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها. وظاهر أن‏ قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ألا وإني حبيب الله، لا يدل على أن درجة المحبة أرفع، لأنه لم يورد للتفاضل بينهما، وإنما سيقت هذه الجملة مع ما بعدها للتعريف بقدره الجسيم، وفضله العظيم، وبيان خصائصه التي لم تجتمع قبل في مخلوق، وما يدان الله تعالى به من حقه الذي هو أرفع الحقوق، ﴿لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾ [المدثر: 31]، وروى ابن أبي حاتم عن إسحاق بن يسار قال لما اتخذ الله إبراهيم خليلا ألقى في قلبه الوجل، حتى إن خفقان قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء، وهكذا جاء في صفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل، إذا اشتد غليانها، من البكاء.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/350.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ جملة مبتدأة، سبقت لتقرير وجوب طاعة الله تعالى على أهل السموات والأرض، ببيان أن جميع ما فيهما من الموجودات، له تعالى خلقا وملكا، لا يخرج عن ملكوته شيء منها، فيجازي كلّا بموجب أعماله خيرا وشرّا، وقيل: لبيان أن اتخاذه عز وجل لإبراهيم عليه السلام خليلا ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك في شأن من شؤونه كما هو دأب الآدميين، فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض في مصالحهم، بل لمجرد تكرمته وتشريفه عليه السلام، وقيل: لبيان أن الخلة لا تخرجه عن رتبة العبودية، وقيل: لبيان أن اصطفاءه عليه السلام للخلة، بمحض مشيئته تعالى، أي: له تعالى ما فيهما جميعا، يختار منهما ما يشاء لمن يشاء، أفاده أبو السعود.

2. ﴿وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ يعني عالما علم إحاطة، لا تخفى عليه خافية من عباده، و﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ﴾ [يونس: 61].

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/355.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما بين تعالى أن أمر النجاة بل السعادة منوط بالعمل الإيمان معا أتبع ذلك ببيان درجة الكمال في ذلك وهو الدين القيم فقال: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أي لا أحد أحسن دينا ممن جعل قلبه سلما خالصا لله وحده لا يتوجه إلى غيره في دعاء ولا رجاء، ولا يجعل بينه وبينه حجابا من الوسطاء والحجاب، بل يكون موحدا صرفا لا يرى في الوجود إلا الله وآثار صفاته وسننه في ربط الأسباب بالمسببات، فلا يطلب شيئا إلا من خزائن رحمته، ولا يأتي بيوت هذه الخزائن إلا من أبوابها وهي السنن والأسباب، ولا يدعو معه ولا من دونه أحدا في تيسير هذه الأسباب، وتسهيل الطرق وتذليل الصعاب، وهو مع هذا الإيمان الخالص، والتوحيد الكامل، محسن في عمله، متقن لكل ما يأخذ به، متخلق بأخلاق الله الذي أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل شيء صنعه.

2. ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ أي واتبع في دينه ملة إبراهيم حنيفا أي حال كونه حنيفا مثل إبراهيم، أو حال كون إبراهيم حنيفا، أي اتبعه في حنيفيته، التي كان عليها وهي ميله عن الوثنية وأهلها، وتبرؤه مما كان عليه أبوه وقومه منها، ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: 26 ـ 28] أي جعل البراءة من الشرك ونزعاته وتقاليده والاعتصام بالتوحيد الخالص كلمة باقية في عقبه يدعو إليها النبيون والمرسلون منهم.

3. قال محمد عبده: تقدم في الآيات السابقة وصف الضالين الذين لا يستعملون عقولهم في فهم الدين وآياته وذكر حظ الشيطان منهم وإشغالهم بالأماني الخادعة، ثم بين أن أمر الآخرة ليس بالأماني وإنما هو بالعمل والإيمان، وأن العبرة عند الله بالقلوب والأعمال، والحقيقة واحدة لا تختلف باختلاف الأوقات والأحوال، ولا تتبدل بتبديل الأجيال والآجال، ثم زاد هذا بيانا بهذه الآية فبين أن صفوة الأديان التي ينتحلها الناس هي ملة إبراهيم في إخلاص التوحيد وإحسان العمل.

4. عبر عن توجه القلب بإسلام الوجه لأن الوجه أعظم مظهر لما في النفس من الإقبال والإعراض والخشوع والسرور والكآبة وغير ذلك، وقد يظهر بعض الناس الخضوع أو الاحترام للآخر بإشارة اليد ولكن هذا يكون بالتعمل ويعرف بالمواضعة، وما يظهر في الوجه هو الفطري الذي يدل على السريرة وهو يتمثل في كل جزء منه كالعينين والجبهة والحاجبين والأنف والحركة، فإسلام الوجه لله هو تركه له بأن يتوجه إليه وحده في طلب حاجاته وإظهار عبوديته، وهو كمال التوحيد وأعلى درجات الإيمان وأما الإحسان فهو إحسان العمل خلافا للجلال فيهما إذ عكس واتباع ملة إبراهيم يراد به فيما يظهر ما أشار إليه في قوله عز وجل: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13] فإقامة الدين مرتبة فوق مرتبة التدين المطلق وهي العمل به على وجه الكمال بحيث يقوم بناؤه ويثبت، وعدم التفرق فيه والتعادي بين أهله.

5. ﴿وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ أي اصطفاه لتوحيده وإقامة دينه في زمن وبلاد غلبت عليها الوثنية وقوم أفسد الشرك عقولهم ودنس فطرتهم فكان إبراهيم خالصا مخلصا لله، وبهذا المعنى سماه الله خليلا، وإذا أراد الله أن يكرم عبدا من عباده أطلق عليه ما شاء، وإلا فإن المعنى المتبادر من لفظ الخليل في استعمالها له يتنزه الله عنه فإن الخلة بين الخليلين إنما تتحقق بشيء من المساواة بينهما وهي من مادة التخلل الذي هو بمعنى الامتزاج والاختلاط.

6. يطلق الخليل بمعنى الحبيب أو المحب لمن يحبه إذا كانت هذه المحبة خالصة من كل شائبة بحيث لم تدع في قلب صاحبها موضعا لحب آخر، وهو من الخلة (بالضم) أي المحبة والمودة التي تتخلل النفس وتمازجها كما قال الشاعر:

çقد تخللت مسلك الروح مني...وبه سمي الخليل خليلاé

7. والله يحب الأصفياء من عباده ويحبونه وقد كان إبراهيم كامل الحب لله ولذلك عادى أباه وقومه وجميع الناس في حبه تعالى والإخلاص له، وقيل إن الخليل هنا مشتق من الخلة (بفتح الخاء) وهي الحاجة لأن إبراهيم ما كان يشعر بحاجته إلى أحد غير الله عز وجل حتى قال في الحاجات العادية التي تكون بالتعاون بين الناس ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾ [الشعراء: 79]، والأول أظهر وأكمل.

8. المراد بذكر هذه الخلة الإشارة إلى أعلى مراتب الإيمان التي كان عليها إبراهيم ليتذكر الذين يدعون اتباعه من اليهود والنصارى والعرب ما كان عليه من الكمال، وما هم عليه من النقص، ولذلك ذكر أهل الأثر أن هذه الآية نزلت في سياق الرد على أولئك المتفاخرين بدينهم المتبجح كل منهم بأنه على ملة إبراهيم، والمعنى أن إبراهيم قد اتخذه الله خليلا بأن من عليه بسلامة الفطرة وقوة العقل وصفاء الروح وكمال المعرفة بالوحي والفناء في التوحيد، فأين أنتم من ذلك؟ ولا تكاد توجد كلمة في اللغة تمثل هذه المعاني غير كلمة الخليل، وأما لوازم هذه الكلمة في استعمال البشر التي هي خاصة بهم فينزه الله عنها بأدلة العقل والنقل.

9. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ قال محمد عبده: ختم هذا السياق بهذه الآية لفوائد:

أ. إحداها: التذكير بقدرته تعالى على إنجاز وعده ووعيده في الآيات التي قبلها فإن له ما في السماوات والأرض خلقا وملكا وهو أكرم من وعد وأقدر من أوعد.

ب. ثانيها: إن الدليل على أنه المستحق وحده لإسلام الوجه له والتوجه إليه في كل حال، وهذا هو روح الدين وجوهره لأنه هو المالك لكل شيء وغيره لا يملك بنفسه شيئا، فكيف يتوجه العاقل إلى من لا يملك شيئا ويترك التوجه إلى مالك كل شيء أو يشرك به غيره في التوجه ولو لأجل قربه منه؟

ج. ثالثها: نفي ما ربما يسبق إلى بعض الأذهان من اللوازم العادية في اتخاذ الله إبراهيم خليلا كأن يتوهم أحد أن هنالك شيئا من المناسبة أو المقاربة في حقيقة الذات أو الصفات، فبين تعالى أن كل ما في السماوات والأرض ملك له ومن خلقه مهما اختلفت صفات تلك المخلوقات ومراتبها في أنفسها وبنسبة بعضها إلى بعض، فإذا هي نسبت إليه فهو الخالق المالك المعبود وهي مخلوقات مملوكة عابدة له خاضعة لأمره التكويني.

10. ﴿وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ إحاطة قهر وتصرف وتسخير، وإحاطة علم وتدبير، قال محمد عبده: فسروا الإحاطة بالقدرة والقهر ويصح أن تكون إحاطة وجود لأن هذه الموجودات ليس وجودها من ذاتها، ولا هي ابتدعت نفسها وإنما وجودها مستمد من ذلك الوجود الواجب الأعلى، فالوجود الإلهي هو المحيط بكل موجود فوجب أن يخلص الخلق له ويتوجه إليه العباد وحده، ولا يشركوا به أحدا من خلقه.

11. قال محمد رشيد مؤلف هذا التفسير: هذه الآية كانت آخر ما فسره شيخنا محمد عبده الشيخ محمد عبده في الجامع الأزهر، فرضي الله عنه وجزاه عن نفسه وعنا خير الجزاء، وسنستمر في التفسير على هذه الطريقة التي اقتبسناها منه إن شاء الله تعالى وإن كنا محرومين في تفسير سائر القرآن من الفوائد والحكم التي كانت تهبط من الفيض الإلهي على عقله المنير إلا في الجزء الثلاثين فإنه كتب له تفسيرا مختصرا مفيدا، وكان فراغه من تفسير هذه الآية في منتصف المحرم سنة 1323 وقد توفي في شهر جمادى الأولى منها رحمه الله تعالى ونفعنا به، وكتبت تفسير هذه الآيات في مدينة بمبي (أو بومباي) من ثغور الهند في غرة ربيع الآخر سنة1330 والله أسأل أن يوفقني لإتمام هذا التفسير، إنه على ما يشاء قدير.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/357.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن بين سبحانه أن النجاة والسعادة منوطان بصالح الأعمال مع الإيمان أردف ذلك ذكر درجات الكمال فقال: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أي لا أحد أحسن ممن جعل قلبه خالصا لله وحده، فلا يتوجه إلى غيره في دعاء ولا رجاء، ولا يجعل بينه وبينه حجابا من الوسطاء والشفعاء، ولا يرى في الوجود إلا هو، ويعتقد أنه سبحانه ربط الأسباب بالمسببات، فلا يطلب شيئا إلا من خزائن رحمته، ولا يأتي بيوت هذه الخزائن إلا من مسالكها، وهي السنن والأسباب التي سنها في الخليقة، وهو مع هذا الإيمان الكامل والتوحيد الخالص، محسن للعمل متحلّ بأحسن الأخلاق والفضائل.

2. وقد عبر عن توجه القلب بإسلام الوجه، لأن الوجه أعظم مظهر لما في النفس من إقبال وإعراض، وسرور وكآبة، وما فيه هو الذي يدل على ما في السريرة.

3. ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ أي واتبع إبراهيم في حنيفيته التي كان عليها، بميله عن الوثنية وأهلها، وتبريه مما كان عليه أبوه وقومه منها، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾

4. ﴿وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ أي اصطفاه الله لإقامة دينه في بلاد غلبت عليها الوثنية، وأفسد الشرك عقول أهلها، وقد بلغ من الزلفى عند ربه ما صح به أن يسمى خليلا، فقد اختصه بكرامة ومنزلة تشبه الخليل لدى خليله، ومن كانت له هذه المنزلة كان جديرا أن تتّبع ملّته وتأتسي طريقته.

5. والخلاصة ـ إنه منّ عليه بسلامة الفطرة وقوة العقل وصفاء الروح وكمال المعرفة وفنائه في التوحيد.

6. ثم ذكر ما هو كالعلة لما سبق بقوله: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي إن كل ما في السموات والأرض ملك له ومن خلقه، مهما اختلفت صفات المخلوقات، فجميعها مملوكة عابدة له خاضعة لأمره.

7. ﴿وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ إحاطة قهر وتسخير، وإحاطة علم وتدبير، وإحاطة وجود، لأن هذه الموجودات ليس وجودها من ذاتها ولا هي ابتدعت نفسها بل وجودها مستمد من ذلك الوجود الأعلى، فالوجود الإلهي هو المحيط بكل موجود، فوجب أن يخلص له الخلق، ويتوجه إليه العباد.

8. وقد جاءت هذه الآية خاتمة لما تقدم لفوائد:

أ. بيان الدليل على أنه المستحق وحده لإسلام الوجه له والتوجه إليه في كل حال لأنه هو المالك لكل شيء وغيره لا تملك لنفسه شيئا.

ب. نفى ما يتوهم في اتخاذ الله إبراهيم حليلا من أن هناك شيئا من المقاربة في حقيقة الذات والصفات.

ج. التذكير بقدرته تعالى على إنجاز وعده ووعيده في الآيات التي قبلها، إذ من له ما في السموات والأرض خلقا وملكا فهو أكرم من وعد.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/167.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الختام يجيء التعقيب على قضية العمل والجزاء، وقضية الشرك قبلها والإيمان، برد كل ما في السماوات‏ والأرض للّه، وإحاطة الله بكل شيء في الحياة وما بعد الحياة: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾

2. وإفراد الله سبحانه بالألوهية يصاحبه في القرآن كثيرا إفراده سبحانه بالملك والهيمنة ـ والسلطان والقهر، فالتوحيد الإسلامي ليس مجرد توحيد ذات الله، وإنما هو توحيد إيجابي، توحيد الفاعلية والتأثير في الكون، وتوحيد السلطان والهيمنة أيضا.

3. ومتى شعرت النفس أن لله ما في السموات وما في الأرض، وأنه بكل شيء محيط، لا يند شيء عن علمه ولا عن سلطانه.. كان هذا باعثها القوي إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية والعبادة؛ وإلى محاولة إرضائه باتباع منهجه وطاعة أمره.. وكل شيء ملكه، وكل شيء في قبضته، وهو بكل شيء محيط وبعض الفلسفات تقرر وحدانية الله، ولكن بعضها ينفي عنه الإرادة، وبعضها ينفي عنه العلم، وبعضها ينفي عنه السلطان، وبعضها ينفي عنه الملك.. إلى آخر هذا الركام الذي يسمى (فلسفات!).. ومن ثم يصبح هذا التصور سلبيا لا فاعلية له في حياة الناس، ولا أثر له في سلوكهم وأخلاقهم؛ ولا قيمة له في مشاعرهم وواقعهم.. كلام! مجرد كلام! إن الله في الإسلام، له ما في السموات وما في الأرض، فهو مالك كل شيء.. وهو بكل شيء محيط.. فهو مهيمن على كل شيء.. وفي ظل هذا التصور يصلح الضمير، ويصلح السلوك، وتصلح الحياة..

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/765.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾: أي وجّه وجهه إلى الله، دون التفات إلى معبود سواه.، فالإيمان الحق، هو الذي يقوم على إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبوديّة، والبراءة من الشركاء الذين يتخذهم المشركون أولياء من دون الله.

2. والاستفهام في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا﴾ لا يراد به حقيقته، وإنما المراد به هو استبعاد أن يكون أحد أحسن دينا من هذا الذي أسلم وجهه لله وهو محسن، والاستفهام هنا أبلغ في تقرير هذا الحكم، من أن يجيء هكذا في صورة الخبر المباشر، كأن يقال مثلا: لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن، ذلك أن الاستفهام يقتضى اختبارا عمليا لهذا الحكم، بمعنى أنه حين يرد هذا الاستفهام على السامع، يتلفت هنا وهناك باحثا عن الجواب على هذا الاستفهام، طالبا من هو أحسن دينا من دين هذا الذي أسلم وجهه للّه.. ولكن هيهات أن يجد المطلوب، وبذلك يتقرر عنده الحكم بأنه لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن.

3. وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ جملة حالية يراد بها قيد الإيمان بالعمل، بل والعمل الحسن.. إذ ليس الإيمان ـ كما قلنا ـ مجرد تصور حقيقي للألوهية، وإيمان بالله على هذا التصور لا يعدّ إيمانا، وإنما الإيمان معتقد وعمل، ولاء للّه، وسلوك بمقتضى هذا الولاء.

4. وفي قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾، عطف على الجملة الحالية السابقة، وقيد آخر للإيمان، الذي وصف بأنه أحسن دين وأكمل إيمان.. إذ لا يتحقق هذا الوصف إلا بشرطين:

أ. أولهما: أن يصحبه عمل، وعمل حسن، بمقتضى توجيهات الشريعة وآدابها..

ب. ثانيهما: أن يكون متابعة لدين إبراهيم عليه السلام، إذ كان إبراهيم أبا لأتباع الديانات الثلاث، المتجه إليها هذا الخطاب، وهي اليهودية، والنصرانية، والإسلام.. (والملّة) هي الدّين، (والحنيف) المائل عن طرق الضلال إلى الهدى.. وهذا يعنى أن المجتمع الذي كان فيه إبراهيم عليه السلام ـ كان مجتمعا ضالا منحرفا، وأنه وحده ـ وقليل معه من ذريته ـ هو الذي مال عن هذا الاتجاه العام، الذي كان يتجه إليه قومه، وأبناء مجتمعه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 120]

5. قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ جملة استثنائية، تقرر ما لإبراهيم عند الله من منزلة، تلك المنزلة التي تجعل اتّباع ملّته، وموالاته، مما يرضى الله عنه، ويحمده، والخليل هو الصاحب الذي يسدّ خلل صاحبه، ويكمل وجوده، أو يتخلّل مشاعره، ويخلص إلى مواطن سرّه.، واتخاذ الله سبحانه إبراهيم خليلا، يراد به لازم هذه المخالّة، وهي إضفاء الإحسان، والرحمة، من جانب الله تعالى على إبراهيم، وهذا لطف من الله، وتكريم لهذا النبي الكريم، وتلك منزلة عليا من منازل القرب من الله.. لا تكاد تدانيها منزلة.

6. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ استعراض لعظمة الله وسعة ملكه، ومقدار سلطانه، الذي يشمل كل شيء وينفذ إلى كل شيء ومن كان هذا شأنه، وتلك صفته، فإن من السفه والضلال أن يولّى الإنسان وجهه إلى غيره، أو يعبد معبودا سواه.. وإذا استقام في تفكير الإنسان أن يرى الله على هذا الوجه، وأراد أن‏ يتخذ سبيله إلى الله.. فهناك ملّة، إبراهيم، فليستقم عليها، وليؤمن بالله إيمان إبراهيم، ذلك الإيمان المبرأ من كل شرك، المجانب لكل ضلال.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/911.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ الأظهر أنّ الواو للحال من ضمير ﴿يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ [النساء: 124] الذي ما صدقه المؤمنون الصالحون، فلما ذكر ثواب المؤمنين أعقبه بتفضيل دينهم، والاستفهام إنكاري.

2. إسلام الوجه كناية عن تمام الطاعة والاعتراف بالعبودية، وهو أحسن الكنايات، لأنّ الوجه أشرف الأعضاء، وفيه ما كان به الإنسان إنسانا، وفي القرآن‏ ﴿فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لله وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾ [آل عمران: 20]، والعرب تذكر أشياء من هذا القبيل كقوله: ﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾ [العلق: 15]، ويقولون: أخذ بساقه، أي تمكن منه، وكأنّه تمثيل لإمساك الرعاة الأنعام، وفي الحديث‏ (الطلاق لمن أخذ بالساق) ويقولون: ألقى إليه القياد، وألقى إليه الزمام، وقال زيد بن عمرو بن نفيل: يقول أنفي لك عان راغم ويقولون: يدي رهن لفلان، وأراد بإسلام الوجه الاعتراف بوجود الله ووحدانيته، وقد تقدّم ما فيه بيان لهذا عنا، قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19]، وقوله: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ﴾ [البقرة: 132]

3. جملة ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ حال قصد منها اتّصافه بالإحسان حين إسلامه وجهه للّه، أي خلع الشرك قاصدا الإحسان، أي راغبا في الإسلام لما رأى فيه من الدعوة إلى الإحسان.

4. معنى‏ ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ أنه اتّبع شريعة الإسلام التي هي على أسس ملّة إبراهيم، فهذه ثلاثة أوصاف بها يكمل معنى الدخول في الإسلام، ولعلّها هي: الإيمان والإحسان، والإسلام، ولك أن تجعل معنى‏ ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ أنّه دخل في الإسلام، وأنّ قوله: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ مخلص راغب في الخير، وأنّ اتّباع ملّة إبراهيم عني به التوحيد.

5. تقدّم أنّ‏ ﴿حَنِيفًا﴾ معناه مائلا عن الشرك أو متعبّدا، وإذا جعلت معنى قوله: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أي عامل الصالحات كان قوله: ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ بمنزلة عطف المرادف وهو بعيد.

6. ﴿وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ عطف ثناء إبراهيم على مدح من اتّبع دينه زيادة تنويه بدين إبراهيم، فأخبر أنّ الله اتّخذ إبراهيم خليلا، والخليل في كلام العرب الصاحب الملازم الذي لا يخفى عنه شيء من أمور صاحبه، مشتقّ من الخلال، وهو النواحي المتخلّلة للمكان‏ ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ [النور: 43] ﴿فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً﴾ [الكهف: 33]، هذا أظهر الوجوه في اشتقاق الخليل، ويقال: خلّ وخلّ ـ بكسر الخاء وضمّها ـ ومؤنّثه: خلّة ـ بضمّ الخاء ـ، ولا يقال ـ بكسر الخاء ـ، قال كعب: (أكرم بها خلّة لو أنّها صدقت) وجمعها خلائل، وتطلق الخلّة ـ بضمّ الخاء ـ على الصحبة الخالصة ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة: 254]، وجمعها خلالـ ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ﴾ [إبراهيم: 31]

7. معنى اتخاذ الله إبراهيم خليلا شدّة رضى الله عنه، إذ قد علم كلّ أحد أنّ الخلّة الحقيقية تستحيل على الله فأريد لوازمها وهي الرضى، واستجابة الدعوة، وذكره بخير، ونحو ذلك.

8. جملة ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ تذييل جعل كالاحتراس، على‏ أنّ المراد بالخليل لازم معنى الخلّة، وليست هي كخلّة الناس مقتضية المساواة أو التفضيل، فالمراد منها الكناية عن عبودية إبراهيم في جملة ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، والمحيط: العليم.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/263.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ والاستفهام هنا بمعنى النفي فالمعنى لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن، والنفي هنا هو نفى الحسن، ولكن المراد هو الحق، والمعنى لا أحد يؤمن بحق إلا من أسلم وجهه لله، ولكن التعبير بأحسن يفيد بأن هذا هو الحق وهو الأمر الحسن في ذاته، الذى لا تستحسن العقول السليمة سواه، وتستقبح غيره.

2. معنى‏ ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ أخلص نفسه، وجعلها كلها لله تعالى، لا يحب إلا له، ولا يبغض إلا له، ولا يطلب جاه غيره، والتعبير ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾ معناه أسلم ذاته، فالوجه يعبر عنه بالذات؛ لأن به المواجهة، ولأنه أوضح أجزاء الجسم، وإن هذا الدين الخالص لوجهه تعالى لا يستقيم بمجرد النية، بل لا بد أن يقترن مع ذلك بإحسان العمل وإتقانه، ولذلك قال تعالى: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ فالدين الحق الخالص يقتضى أمرين لا محالة:

أ. أحدهما إخلاص القلب والنية لله تعالى، بحيث لا يكون عامرا إلا بذكر الله تعالى.

ب. الثاني إتقان العمل الصالح وإجادته، فلا عمل يكون صالحا من غير إيمان، ولا إخلاص يكون من غير إحسان العبادة والعمل الصالح.

3. وقد ذكر سبحانه أن الإخلاص والعمل هو دين النبيين أجمعين، ولذلك قال: ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ أي أن هذه الملة هي الدين والمنهج، أي كان في إخلاصه وإتقانه للعمل متبعا منهاج إبراهيم، وإبراهيم أبو الأنبياء، فمنهاجه هو منهاج كل الرسل، واتباع ملته اتباع لكل الرسل، وكان حنيفا أي مائلا إلى الحق متجها إليه دائما، منذ كان غلاما إلى أن بعثه الله تعالى نبيا مرسلا، وقد قال لأبيه وقومه كما حكى القرآن الكريم: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف‏]

4. في الجملة من أخلص لله وعمل وأحسن، فهو متبع دين النبيين جميعا، وإن اتباع دين محمد هو اتباع الأديان السماوية كلها لأنه إيمان بكل الرسل.

5. وقد كرم الله سبحانه وتعالى إبراهيم لإخلاصه وتوجهه إلى الله تعالى بقلب سليم، وإحسانه في العمل، بأن جعله خليله، فقال تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ أي اصطفاه من بين خلقه، فأعطاه ذلك الاسم الجليل، وذلك الوصف الكريم، ومعنى الخليل الحبيب الذى يلجأ إلى حبيبه، فهو من الخلة وهي المحبة، أو من الخلة بمعنى الحاجة، والحقيقة أن إبراهيم عليه السلام كان فيه الأمران معا فهو من جانبه كان يحب لله، ويبغض لله ولا يطلب شيئا إلا لله، وكان مع ذلك لا يعتمد في حاجة إلا على الله سبحانه وتعالى وهو يقول في بيان حاجته إلى ربه: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ [الشعراء]

6. هذا ما كان من جانب إبراهيم، أما ما كان من جانب الله، فإنه قد أفاض عليه بنعمه ظاهرها وباطنها، وجعل من ذريته النبيين، وحماه من أعدائه، وقربه إليه، وصار من عباده المخلصين، ثم منحه وضعا لم يمنحه غيره، وهو أنه خليله.

7. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ وبعد أن أشار سبحانه إلى أن الله تعالى منفذ عقابه وثوابه، وإلى أن الدين الحق هو إخلاص الذات، والقلب والنفس لله تعالى، بين سبحانه وتعالى أن ما في السموات والأرض كله له، فمن أخلص لله تعالى، فقد أخلص للقوى القادر القاهر الذى لا يخرج عن سلطانه شيء في الملكوت، وإن هذا لدليل على أنه وحده المستحق للعبادة، وإسلام الوجه والطاعة له سبحانه وتعالى.

8. وإنه سبحانه يحيط بكل شيء في هذا الوجود إحاطة قدرة وتصرف، فهو وحده المتصرف في السموات والأرض وما بينهما، وإحاطة علم فهو يعلم كل ما في الكون وما في النفوس، فلا يخفى عليه شيء في السموات ولا في الأرض إنه وحده الخالق والمكون والمصرف والسميع البصير، اللهم املأ قلوبنا بذكرك، فبذكرك تطمئن القلوب.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1875.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾، المراد بأسلم استسلم وانقاد، وبالوجه الذات والنفس، وبالمحسن فاعل الحسنات وتارك السيئات، والمعنى أن الكامل هو الذي يرجو الله ولا يرجو سواه في كل شيء ويسلك السنن التي سنها سبحانه لخلقه في هذه الحياة، وبهذا وحده يكون العبد قريبا من خالقه، أما من يذل ويخضع لأرباب الدنيا طمعا فيما لديهم من مال وجاه فما هو من الله في شيء حتى ولو قام الليل، وصام النهار.

2. ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾، أي اقتدى بإبراهيم عليه السلام الذي أعرض عن كل ما سوى الله، وقال لقومه: ﴿أَتُحَاجُّونِّي فِي الله وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ [الانعام: 80]

3. سؤال وإشكال: لماذا قال تعالى: ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾، ولم يقل ملة محمد؟ والجواب:

أ. أولا: ان ملة ابراهيم ومحمد شيء واحد: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَالله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 68]

ب. ثانيا: ان نبوة ابراهيم محل وفاق عند أهل الأديان جميعا، لا عند المسلمين فحسب، فالاحتجاج بها على غير المسلمين أقوى وأبلغ.. ان صح التعبير.

4. ﴿وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾، لقد اختص الله ابراهيم عليه السلام بمنزلة عظمى تكاد تكون فوق النبوة والرسالة، قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: ان الله اتخذ ابراهيم عبدا قبل ان يتخذه نبيا، واتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، واتخذه رسولا قبل ان يتخذه خليلا.

5. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، فهو مالك كل شيء ومهيمن على كل شيء ومحيط بكل شيء، سؤال وإشكال: ان هذا المعنى قد تكرر كثيرا في كتاب الله، فما هو السر؟ والجواب: السر أن يتنبه الإنسان، ويبقى دائما على ذكر ان الله وحده هو المتصرف بالكون، وان أمره نافذ فيه، وانه على صلة دائمة بعلمه وقدرته وحكمته، ومتى شعرت النفس بهذه الحقيقة عملت على مرضاة خالقها باتباع منهجه، وطاعة أوامره.. هذا، إلى أن التكرار يأتي لمناسبة تستدعيه، يدركها المفسرون أحيانا، وتخفى عليهم حينا، وهي هنا ان البعض قد يتوهم ان الله اتخذ ابراهيم خليلا على نحو ما نتخذ نحن الأخلاء والأصدقاء.. فدفع سبحانه هذا الوهم بأن الله جل وعلا هو الخالق المالك لكل شيء وان ابراهيم عبد تحت سلطان الملك، ولكنه عبد مصطفى، لا كسائر العبيد.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/448.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ إلى آخر الآية كأنه دفع لدخل مقدر، تقديره: أنه إذا لم يكن لإسلام المسلم أو لإيمان أهل الكتاب تأثير في جلب الخير إليه وحفظ منافعه وبالجملة إذا كان الإيمان بالله وآياته لا يعدل شيئا ويستوي وجوده وعدمه فما هو كرامة الإسلام وما هي مزية الإيمان فأجيب بأن كرامة الدين أمر لا يشوبه ريب، ولا يداخله شك ولا يخفى حسنه على ذي لب وهو قوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا﴾ حيث قرر بالاستفهام على طريق إرسال المسلم فإن الإنسان لا مناص له عن الدين، وأحسن الدين إسلام الوجه لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، والخضوع له خضوع العبودية، والعمل بما يقتضيه ملة إبراهيم حنيفا وهو الملة الفطرية، وقد اتخذ الله سبحانه إبراهيم الذي هو أول من أسلم وجهه لله محسنا واتبع الملة الحنيفية خليلا.

2. لكن لا ينبغي أن يتوهم أن الخلة الإلهية كالخلة الدائرة بين الناس الحاكمة بينهم على كل حق وباطل التي يفتح لهم باب المجازفة والتحكم فالله سبحانه مالك غير مملوك ومحيط غير محاط بخلاف الموالي والرؤساء والملوك من الناس فإنهم لا يملكون من عبيدهم ورعاياهم شيئا إلا ويملكونهم من أنفسهم شيئا بإزائه، ويقهرون البعض بالبعض، ويحكمون على طائفة بالأعضاد من طائفة أخرى ولذلك لا يثبتون في مقامهم إذا خالفت إرادتهم إرادة الكل بل سقطوا عن مقامهم وبان ضعفهم، ومن هنا يظهر الوجه في تعقيب قوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا﴾ بقوله: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/89.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ﴾!؟ سؤال في معنى النفي وجعل سؤالاً لوضع معناه في الفطرة؛ لأن الله هو الخالق الرازق فهو المالك المستحق للعبادة، وإسلام الوجه لله أن تجعله لله خالصاً لا تتوجه به لعبادة غير الله، كقوله تعالى: ﴿وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ [الزمر:29] وغيرها.

2. ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ مطيع لله، قال تعالى: ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [لقمان:3 ـ 4] ولا يكون كذلك العاصي المصر ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ فأخلص لله وآمن به، وهي ملة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿حَنِيفًا﴾ خاشعاً لله أو خاشعاً لله محباً له.

3. ﴿وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ الخِلَّة في الأصل: صداقة ومودة في الخليل لخليله، قال الراغب: (فإن الخلة من تخلل الود نفسه ومخالطته، كقول الشاعر:

çقد تخللت مسلك الروح مني...وبه سمي الخليل خليلاé

ولهذا يقال: (تمازج روحانا)، وقد بين أن ذلك أنما يصح في المخلوق، فأما الخلة من الله سبحانه وتعالى فالمراد بها: غاية ذلك ولازمه، قال الزمخشري في هذه الآية: (هي جملة اعتراضية لا محل لها من الأعراب، كنحو ما يجيء في الشعر: والحوادث جمة، فائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته) وتسمية النحاة لها اعتراضية أو معترَضَة لا يمنع مجيئها في آخر الكلام؛ لأنها كثيراً تأتي معترضة بين الكلام، وذلك كاف في صحة التسمية؛ لأنها اصطلاح لهم.

4. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ فكلهم عباده ولا إله إلا هو، فالحق هو إسلام الوجوه له ولم يزل ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ فكل شيء في قبضته، فمرجع العباد إليه وحده لا شريك له في ملكه.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/178.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ هذا هو الدين الحق الذي يريد الله للإنسان أن يتحسّسه في مشاعره وأفكاره، فيستسلم لله استسلاما مطلقا في جميع قضاياه وتصرفاته؛ وهذا هو ما تمثله كلمة الإسلام لله، أو إسلام الوجه لله لأن ما تفرضه قضية العبودية أمام الألوهية، في عمق الإحساس الداخلي، سعة الأفق الممتد في تفكير الإنسان على طريق المسؤولية، فيما توحيه كلمة الإحسان من معنى شامل يتسع للحياة وللذات وللإنسان، لأن الإسلام في مضمونه العملي يفرض التحرك في اتجاه الأعمال التي يحبها الله في عباده وبلاده..

2. وذلك هو ما تعنيه كلمة ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾.. فإن إبراهيم كان يمثل الخط العام لكل الرسل، كما أن رسالته كانت العنوان الكبير الذي تتحرك في داخله الرسالات الأخرى، فهي قد تختلف في بعض التفاصيل والتشريعات، ولكنها تلتقي جميعا في الخط العام والعنوان الكبير، ولذلك كان اتباع ملة إبراهيم حنيفا ـ أي خالصا ـ، وجها من وجوه الالتزام بالإسلام لله، فقد انطلق النبي إبراهيم أمام الله في وقفة إسلام رائعة ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة 131 ـ 132]

3. وتحركت الرسالات في تاريخ البشرية لتحمل عنوان الإسلام، حتى رسالة الإسلام في نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهكذا كان الدين الأحسن هو الذي يحمل الإنسان فيه هذه العناوين الثلاثة التي تشمل الحياة كلها: إسلام الوجه لله، والإحسان بمعناه الممتد في الحياة، واتّباع ملّة إبراهيم حنيفا.

4. ﴿وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ تلك الصداقة التي منحها الله لهذا النبي العظيم، تكريما لتضحيته وإخلاصه وفنائه في ذات الله؛ وقد جاء عن الإمام أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: سمعت أبي يحدّث عن أبيه عليه السّلام أنه قال‏:إنما اتخذ الله إبراهيم خليلا لأنه لم يردّ أحدا ولم يسأل أحدا قط غير الله عز وجل.. وتلك هي العلاقة التي يمنحها الله للمخلصين من عباده، وربما كان الحديث عن هذا الجانب من شخصية إبراهيم للإيحاء بأن الإسلام العميق المتمثل في روحه وحياته هو الذي رفعه إلى هذه الدرجة؛ وهو الذي‏ ينبغي للمؤمنين أن يعيشوه ويحصلوا عليه ليصلوا إلى بعض مراقي هذا السمو الذي يقربهم إلى الله في الدرجات العلى، وذلك ما ينبغي للتربية الإسلامية أن تتجه إليه في بناء شخصية الإنسان المسلم، ليعيش الإسلام من خلال هذا المعنى العميق الممتد في الفكر والروح والشعور والحياة، لا من خلال الألفاظ الجامدة التي تؤطّرها الاصطلاحات بإطار لا يوحي بأيّة حيوية تلامس الأعماق، إنها العبودية المطلقة أمام الله بإزاء الحرية المطلقة أمام عباده؛ لتكون العلاقة بالكون والحياة والإنسان تعبيرا عن العلاقة بالله، وليكون الإحسان إلى الحياة في كل مجالاتها الفكرية والعملية تجسيدا للإحسان كقيمة روحية يعبد بها الإنسان ربه في المحراب الكبير في الكون كله، بعيدا عن كل شخص وعن كل عرض زائل.

5. ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ إنك إذا أسلمت وجهك لله، فإنك لا تسلمه إلى قوة محدودة في قدرتها وامتدادها وعظمتها، لتشعر بالتضاؤل والانسحاق والحرج في ذلك كله، كما يشعر الكثيرون ممّن يرتبطون بالأشخاص الذين يملكون طاقة محدودة أمام الكون؛ ولكنك تسلّم وجهك وحياتك إلى مالك السموات والأرض وما فيهن.. فأنت عندما تستسلّم له، فإنك لا تستسلّم له وحدك بل تحس بالكون كله في جميع ما يحتويه من مخلوقات حية وجامدة، خاضعا مستسلما لسيطرته المطلقة؛ وبذلك يتعاظم شعورك بموقعك القوي الحر أمام القوى الكونية الأخرى، لأنك ليست ظلا لها ولست مسحوقا أمامها، بل أنت وهي ظل للإرادة الإلهية المهيمنة على الكون كله، التي جعلت لكل واحد من الموجودات موقفا محددا في دوره وحركته، فهو مالك كل شيء وهو المحيط بكل شيء فلا يخفى عليه شيء في السموات والأرض، ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]، وبذلك يتعمق لدى الإنسان الإحساس بالرعاية الدائمة، من خلال إيمانه بالإحاطة المطلقة التي تحتوي كل شيء في علمها كما تحتويه في قدرتها، وبذلك لا تكون العبودية والاستسلام لله عنصر ضعف في الذات، بل هي عنصر قوة وحرية وتوازن.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/480.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لقد تحدثت الآيات السابقة عن أثر الإيمان والعمل، كما بيّنت أن اتّباع أي مذهب أو شريعة غير شرع الله لا يغني عن الإنسان شيئا، والآية الحاضرة تداركت كل وهم قد يطرأ على الذهن من سياق الآيات السابقة، فأوضحت أفضلية شريعة الإسلام وتفوقها على سائر الشرائع الموجودة، حيث قالت‏: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾، ومع أنّ هذه الآية قد جاءت بصيغة الاستفهام، إلّا أنّها تهدف إلى كسب الاعتراف من السامع بالحقيقة التي أوضحتها.

2. لقد بيّنت الآية الكريمة أمورا ثلاثة تكون مقياسا للتفاضل بين الشرائع وبيانا لخيرها:

أ. الاستسلام والخضوع المطلق لله العزيز القدير، حيث تقول الآية: ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ الوجه في اللغة هو مقدمة الرأس، أو ذلك الجزء من البدن الذي يشمل الجبهة والعينين والأنف والفم والجبين، ولما كان الوجه بمثابة مرآة لروح الإنسان وقلبه، وفيه الحواس التي تربط باطن الإنسان بالعالم الخارجي، لذلك جاء في الآية التعبير عنه بذات الإنسان ونفسه.

ب. فعل الخير، كما تقول الآية: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ والمقصود بفعل الخير ـ هنا ـ كل خير يفعله الإنسان بقلبه أو لسانه أو عمله، وفي حديث عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ذكره صاحب تفسير الثقلين في تفسيره للآية ـ هذه ـ وهو جواب لمن سأل النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تحديد معنى الإحسان، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك)، فالإحسان في هذه الآية هو كل عمل ينجزه الإنسان ويقصد به التعبد لله والتقرب إليه، وأن يكون الإنسان لدى إنجازه لهذا العمل قد جعل الله نصب عينيه، وكأنّه يراه، فإن كان هو يعجز عن رؤية الله فإن الله يراه ويشهد على أعماله.

ج. إتّباع شريعة إبراهيم النقية الخالصة، كما في الآية: ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ وعبارة (ملّة) الواردة في الآية تعني (الشريعة أو الدين) والفرق بين الملّة والدين أن الأولى: لا تنسب إلى الله، أي لا يقال (ملّة الله) ويمكن أن تضاف إلى النّبي بينما كلمة الدين أو الشريعة يمكن أي يضافا إلى لفظ الجلالة فيقال: (دين الله) أو (شريعة الله) كما يمكن إضافتهما إلى النّبي أيضا، وعبارة (حنيف) تعني الشخص الذي يترك الأديان الباطلة ويتبع دين الحق.

3. دليل الاعتماد على شريعة إبراهيم ما ذكرته الآية نفسها في آخرها: إذ تقول: ﴿وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾، إنّ كلمة (خليل) قد تكون مشتقة من المصدر (خلّة) على وزن (حجّة) الذي يعني الصداقة، وقد يكون اشتقاقها من المصدر (خلة) على وزن (ضربة) بمعنى الحاجة، وقد اختلف المفسّرون في أي المعنيين أقرب إلى مفهوم الآية موضوع البحث، فرأى البعض منهم أنّ المعنى الثّاني أقرب لحقيقة هذه الآية، لأنّ إبراهيم عليه السّلام كان يؤمن بأنّه محتاج إلى الله في كل شؤونه بدون استثناء، ولكن مفسّرين آخرين يرون أنّه ما دامت الآية تتحدث عن منزلة وهبها الله لنبيه إبراهيم فالمقصود بكلمة (الخليل) الواردة هو (الصديق) لأننا لو قلنا أنّ الله قد انتخب إبراهيم صديقا له، يكون أقرب كثيرا إلى الذهن من قولنا أن الله انتخب إبراهيم ليكون محتاجا إليه، لأنّ الحاجة إلى الله لا تقتصر على إبراهيم وحده، بل يشاركه ويساويه فيها جميع المخلوقات، فالكل محتاجون إلى الله دون استثناء، وكان تقول الآية من سورة فاطر: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى الله﴾ وهذا على عكس الصداقة والخلّة مع الله التي لا يتساوى فيها كل المخلوقات.

4. في رواية عن الإمام الصّادق عليه السّلام أنّه قال: (أنّه (الله) إنّما اتّخذ إبراهيم خليلا لطاعته ومسارعته إلى رضاه لا لحاجة منه سبحانه إلى خلته) وتدل هذه الرواية أيضا بأن عبارة (خليل) الواردة في الآية المذكورة إنّما تعني الصديق ولا تعني غيره، وعلى هذا الأساس لنرى ما الذي امتاز به إبراهيم لينال هذه المنزلة العظيمة من الله، لقد ذكرت الروايات الواردة في هذا المجال عللا مختلفة تكون بمجملها دليلا لهذا الانتخاب، ومن هذه الروايات‏ قول الإمام الصّادق عليه السّلام‏ (إنّما اتّخذ الله إبراهيم خليلا لأنّه لم يرد أحدا ولم يسأل أحدا غير الله)، وتفيد روايات أخرى أن إبراهيم قد حاز هذه الدرجة لكثرة سجوده للّه، وإطعامه للجياع وإقامة صلاة الليل، أو لسعيه في طريق مرضاة الله وطاعته.

5. بعد ذلك تتحدث الآية التالية بملكية الله والمطلقة وإحاطته بجميع الأشياء، حيث تقول: ﴿وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ وهذه إشارة إلى أنّ الله حين انتخب إبراهيم خليلا له، ليس من أجل الحاجة إلى إبراهيم فالله منزّه عن الاحتياج لأحد، بل أن هذا الاختيار قد تمّ لما لإبراهيم من صفات وخصال وسجايا طيبة بارزة لم توجد في غيره.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/468.

111. الزواج واليتامى والمستضعفين

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈111⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ [النساء: 127]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ الآية، تكون المرأة عند الرجل بنت عمه يتيمة في حجره، ولها مال، فلا يتزوجها لذمامتها، ولكن يحبسها حتى يرثها، فنزلت هذه الآية، فنهوا عن ذلك(1).

2. عن الحسن، قال جاء رجل إلى الإمام علي، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أمري وما أمر يتيمتي؟ قال: في أي ذلك ما قال ثم قال علي: أمتزوجها أنت غنية جميلة؟ قال: نعم، والإله، قال: فتزوجها دميمة لا مال لها، ثم قال علي: خر لها، فإن كان غيرك خيرا لها فألحقها بالخير(2).

__________

(1) يحيى بن سلام ـ كما في تفسير ابن أبي زمنين ١/٤١٠.

(2) ابن جرير ٧/٥٤٧.

عائشة:

روي عن عائشة (ت 57 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قالت: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ إلى قوله: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾، قالت: هو الرجل تكون عنده اليتيمة، هو وليها ووارثها، قد شركته في ماله حتى في العذق، فيرغب أن ينكحها، ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته، فيعضلها؛ فنزلت هذه الآية(1).

2. روي أنّه قالت: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد هذه الآية فيهن؛ فأنزل الله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾، قالت: والذي ذكر الله أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي قال الله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: ٣]، قالت: وقول الله: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾: رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن(2).

3. روي أنّه قالت: قول الله في الآية الأخرى: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من باقي النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال(3).

__________

(1) ابن أبي شيبة ٤/٣٥٧.

(2) البخاري ٣/١٣٩.

(3) البخاري ٦/٤٣.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾ الآية، كان أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى يكبر، ولا يورثون المرأة، فلما كان الإسلام قال: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ في أول السورة في الفرائض(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾، يعني: الفرائض التي فرضت في أمر النساء(2).

3. روي أنّه قال: كانت اليتيمة تكون في حجر الرجل، فيرغب أن ينكحها، ولا يعطيها مالها، رجاء أن تموت فيرثها، وإن مات لها حميم لم تعط من الميراث شيئا، وكان ذلك في الجاهلية؛ فبين الله لهم ذلك(3).

4. روي أنّه قال: كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة، فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا، فإن كانت جميلة وهويها تزوجها، وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت، فإذا ماتت ورثها؛ فحرم الله ذلك، ونهى عنه(4).

5. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾، فكانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار، ولا البنات، فذلك قوله: ﴿لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾، فنهى الله عن ذلك، وبين لكل ذي سهم سهمه، فقال: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: ١١] صغيرا كان، أو كبيرا(5).

6. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾، وذلك أنهم كانوا لا يورثون الصغير والضعيف شيئا، فأمر الله أن يعطى نصيبه من الميراث(5).

7. روي أنّه قال: ﴿بِالْقِسْطِ﴾، قال بالعدل(6).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٣١.

(2) ابن أبي حاتم ٤/١٠٧٦.

(3) ابن جرير ٧/٥٣٥.

(4) ابن جرير ٧/٥٤٣.

(5) ابن جرير ٧/٥٤٦.

(6) ابن أبي حاتم ٤/١٠٧٨.

السلماني:

روي عن عبيدة السلماني (ت 72 هـ) أنّه قال: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾، ترغبون عنهن(1).

__________

(1) عزاه السيوطي إلى ابن أبي شيبة، وعَبد بن حُمَيد، وعند ابن أبي شيبة بلفظ: ترغبون فيهن.

البراء:

روي عن البراء بن عازب (ت 72 هـ) أنّه قال: إن آخر آية كانت ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾، وآخر سورة براءة(1).

__________

(1) أورده الثعلبي ٣/٣٩٤.

أبو سلمة:

[أبو سلمة] أبو سلمة (ت 94 هـ) ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾، قال المرأة يكون بها عرج أو عور، فلا ينكحونها حتى يرثوها(1).

__________

(1) ابن أبي شيبة في مصنفه ٩/٤٠٣.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه، ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا، فلما نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس، وقالوا: أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال، والمرأة التي هي كذلك، فيرثان كما يرث الرجل!؟ فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء، فانتظروا، فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا: لئن تم هذا إنه لواجب ما منه بد، ثم قالوا: سلوا، فسألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فأنزل الله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ في أول السورة ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾، وكان الولي إذا كانت المرأة ذات جمال ومال رغب فيها، ونكحها، واستأثر بها، وإذا لم تكن ذات جمال ومال أنكحها، ولم ينكحها(1).

2. روي أنّه قال: كان رجل له امرأة قد كبرت وعنست من الحيض، وكان له منها أولاد، فأراد أن يطلقها وأن يتزوج، فقالت: لا تطلقني، ودعني أقوم على ولدي، واقسم كل عشر إن شئت، أو أكثر من ذلك إن شئت، فقال: إن كان هذا يصلح فهو أحب إلي، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذكر ذلك له، فقال: (قد سمع الله ما تقول، فإن شاء أجابك)، قال وأنزل الله تعالى: ﴿يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن﴾، فأفتاهم عما لم يسألوا عنه(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾، قال ما يتلى عليكم في أول السورة من المواريث، وكانوا لا يورثون امرأة ولا صبيا حتى يحتلم(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾، قال كما إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها، كذلك إذا لم تكن ذات جمال ولا مال فانكحها واستأثر بها(4).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٣٢.

(2) ابن أبي حاتم ٤/١٠٧٦.

(3) ابن أبي شيبة ٤/٣٥٨.

(4) ابن أبي حاتم ٤/١٠٧٨.

أبو مالك:

روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾، كانت المرأة إذا كانت عند ولي يرغب عن حسنها لم يتزوجها، ولم يترك أحدا يتزوجها(1).

__________

(1) ابن أبي شيبة ٤/٣٥٨.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾، أمروا لليتيم بالقسط: بالعدل(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٧٨.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾: أراد: لا تؤتونهن حقهن من الميراث(1).

__________

(1) تفسير البغوي ٢/٢٩٣.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: يعني: قوله: ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾، قال محفوظ ذلك عند الله، عالم به، شاكر له، وأنه لا شيء أشكر من الله ولا أجزى بخير من الله(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٧٩.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾، كانوا لا يورثون جارية، ولا غلاما صغيرا، فأمرهم الله أن يقوموا لليتامى بالقسط، والقسط: أن يعطى كل ذي حق منهم حقه، ذكرا كان أو أنثى، الصغير منهم بمنزلة الكبير(1).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٤٥.

ابن عبيدة:

روي عن عبد الله بن عبيدة (ت 130 هـ) أنّه قال: جاءت امرأة من الأنصار ـ يقال لها: خولة بنت حكيم ـ إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالت: يا رسول الله، إن أخي توفي وترك بنات، وليس عندهن من الحسن ما يرغب فيهن الرجال، ولا يقسم لهن من ميراث أبيهن شيئا، فنزلت فيها: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ﴾(1).

__________

(1) أورده الثعلبي ٣/٣٩٤.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: قلت لعطاء: الرجل يخطب المرأة وعنده امرأة، فيخطبها على أن لك يوما ولفلانة يومين عند الخطبة قبل النكاح؟ قال جائز ذلك قبل النكاح، وبعد أن اصطلحا على ذلك، قلت: أفي ذلك نزلت: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾؟ قال: نعم(1).

__________

(1) عبد الرزاق في مصنفه ٦/٢٣٧.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ مما أمرتم به من قسمة المواريث ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ فيجزيكم به(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١١.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ﴾ أي: يسألونك، ﴿فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾، ويتامى النساء فهي: الأطفال منهن، ومعنى: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ هو: تزهدون في نكاحهن، وقد كانت الجاهلية لا يؤتون الصبيان من الميراث شيئا، وكانوا يفعلون ذلك قبل نزول حكم الميراث وفرضه؛ فقال سبحانه: ﴿اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾، يقول: تمنعوهن حقهن؛ لصغرهن.

2. ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ فهم: الصبيان من الذكور والإناث، الذين في أيدي الأوصياء وغيرهم من الأقارب؛ والصبي: فلا يزال يتيما حتى يبلغ، ثم يخرج من حد اليتيم، ويجب على الوصي إن أنس منه رشدا، والرشد هو: الصلاح والعقل والمعرفة؛ فإذا بان ذلك للوصي سلم ما في يده إليه، وأشهد عند ذلك عليه، وما لم يبن منه رشد فلا يجب دفعه إليه؛ بل الحضر واجب عليه.

3. ثم قال: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾، والقسط هو: العدل في أموالهم، والحفظ في أنفسهم، ثم قال: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾، يريد عز وجل: أنكم ما فعلتم إليهم من خير، أو أنلتموهم ﴿إن الله كان به﴾، يقول: عليه مطلعا، ولكم فيه مكافيا.. وقد قيل: إن معنى ﴿ترغبون أن تنكحوهن﴾ أي: تريدون نكاحهن، والقول الأول أصوب عندنا؛ لأن معنى ﴿ترغبون أن تنكحوهن﴾، أي تزهدون فيهن؛ وذلك في كتاب الله موجود في قوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: 130]، فصارت الرغبة: كراهية، وقد تكون في موضع آخر من: طريق المحبة؛ فأما في هذا فليس إلا من طريق الزهد والكراهية، وذلك صحيح في اللغة(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/272.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ الآية، ذكر الاستفتاء في النساء، وليس فيه بيان عما وقع به السؤال؛ إذ قد يجوز أن يكون في الجواب بيان المراد في السؤال، وإن لم يكن في السؤال بيان؛ نحو قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾؛ دل الأمر باعتزال النساء في المحيض ـ على أن السؤال عن المحيض إنما كان عن الاعتزال، وإن لم يكن في السؤال بيان المراد؛ وكذلك قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ﴾ الآية؛ دل قوله: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ﴾ وعلى أن ـ السؤال إنما كان عن مخالطة اليتامى، وكقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾؛ دل قوله: ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ وعلى أن السؤال عن الخمر والميسر ـ ما ذكر في الجواب من الإثم، وإن لم يكن في السؤال بيان ذلك.

2. ثم قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ ليس في السؤال ولا في الجواب بيان ما وقع به السؤال:

أ. فيحتمل أن يكون السؤال في أمورهن جميعًا: في الميراث وغير ذلك من الحقوق، ثم ذكر واحدًا فواحدًا؛ كقوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ﴾، كقوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ الآية، هذا في الميراث.

ب. وأما في الحقوق فقال الله عز وجل: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾

ج. ويحتمل غيرها من الحقوق سوى حقوق النكاح، فترك البيان في الجواب؛ لما ذكر واحدًا فواحدًا في غيرها من الآي؛ إذ الجواب خرج مخرج العدة أنه يفعل بقوله عز وجل: ﴿يُفْتِيكُمْ﴾، وقد فعل هذا.

د. ويحتمل غير هذا: وهو أن يترك البيان في السؤال والجواب؛ لنوازل يعرفها أهلها، لم يحتج إلى بيان ما وقع به السؤال؛ لمعرفة أهلها به.

هـ. ويحتمل ما قاله أهل التأويل: وهو أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار من الأولاد؛ وإنما كانوا يورثون المقاتلة من الرجال والذين يحرزون الغنائم، فلما بين الله عز وجل للنساء وللصغار نصيبًا في الأموال، وفرض لهم حقًّا، سألوا عند ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ وذكر القصة هكذا.

و. ويحتمل: أن يكون السؤال وقع عن يتامى النساء؛ ألا ترى أنه قال عز وجل: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ الآية، قيل: كانت اليتيمة في حجر الرجل ذات مال؛ يرغب عن أن يتزوجها لدمامتهما، ويمنعها عن الأزواج؛ رغبة في مالها، وهكذا روي عن عائشة، وعلى ذلك يخرج قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ الآية.

3. ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ هذا كأنه معطوف، على قوله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾، والمستضعضون من الولدان، على ما ذكرنا من الميراث والحقوق.

4. ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ في إبقاء حقوقهم وأداء ما لهم عليكم، ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ فيجزيكم به، أو كان به عليما: من يفعل الخير ومن لا يفعل الخير.

5. عن الحسن في قوله: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾، أي: ترغبون عن نكاحهن، وعن ابن سيرين: لا يرغب في نكاحها؛ لدمامتها، ولا يزوجها غيره؛ رغبة في مالها، وعلى ذلك يخرج قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ الآية.

6. في قوله تعالى: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ دلالة أن للولي أن يزوج اليتيمة الصغيرة؛ لأنه لو لم يكن له ذلك ـ لم يكن للعتاب على ترك تزويجهن من غيرهم معنى.

7. سؤال وإشكال: اسم اليتيم يقع على الصغيرة والكبيرة جميعًا؛ فلعل المراد من اليتيمة: الكبيرة هاهنا، والجواب: هو كذلك، غير أن الغالب يقع على الصغائر منهن.

8. وفيه دلالة؛ أن النكاح قد يقوم بالواحد؛ لأنه قال عز وجل: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾؛ فلو لم يكن له أن يتزوجها ـ لم يكن لهذا العتاب معنى؛ دل أن له أن ينكح.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٧٥.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾، أي يسألونك عن يتامى النساء اللواتي لا يعطونهن أموالهن التي جعلها الله وكتبها، وحكم بها لهن وهم راغبون عنهن وعن أن ينكحوهن.. والرغبة أن ينكحوهن معناه: أن لا، ولكن أن تقوم مقام أن لا، ثم وعظهم تبارك وتعالى وأن يقوموا لليتامى بالقسط، أي بالعدل(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/251.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ وسبب نزولها أنهم في الجاهلية كانوا لا يورثون النساء والأطفال فلما فرض الله تعالى المواريث في هذه السورة شق ذلك على الناس فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك فأنزل الله هذه الآية، وقوله: ﴿اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ أي وترغبون في نكاحهن وأموالهن.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/196.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في سبب نزول هذه الآية ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ الآية، على قولين أحدهما: هو أن سبب نزولها أنهم في الجاهلية كانواْ لا يورثون النساء ولا الأطفال، فلما فرض الله تعالى المواريث في هذه السورة شق ذلك على الناس، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية.

2. في قوله تعالى: ﴿اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ قولان:

أ. أحدهما: يعني المواريث، وهذا قول ابن عباس بن جبير وقتادة مجاهد وابن زيد.

ب. الثاني: أنهم كانواْ لا يؤتون النساء صدقاتهن ويتملكها أولياؤهن، فلما نزل قوله تعالى: ﴿وَءَاتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، قوله تعالى: ﴿اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ يعني ما فرض لهن من الصداق وهو قول عائشة.

3. في قوله تعالى: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: ترغبون عن نكاهن لقبحهن.

ب. الثاني: تمسكونهن رغبة في أموالهن وجمالهن، وهو قول عائشة.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٣٢).

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾ يسألك يا محمد، أصحابك ان تفتيهم في أمر النساء، والواجب لهن وعليهن، واكتفي بذكر النساء من ذكر شأنهن لدلالة الكلام على المراد ﴿قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ يعني قل يا محمد، انه يفتيكم فيهن يعني في النساء وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن.

2. اختلفوا في إعراب ﴿وَمَا يُتْلَى﴾، قال الزجاج والفراء معاً: يحتمل ان يكون موضع (ما) رفعاً والتقدير في قول الزجاج، والذي يتلى عليكم في الكتاب أيضاً يفتيكم فيه، وقال الفراء تقديره الله يوصيكم فيهن وما يتلى عليكم، وقالا جميعاً يجوز ان يكون موضع (ما) خفضاً بالعطف على فيهن إلا ان الزجاج ضعف هذا وقال: هذا بعيد لأن عطف المظهر على المضمر لا يجوز، وقال الفراء: يجوز على تقدير فيهن وما يتلي عليكم.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾:

أ. قال قوم: الذي يتلي عليكم هو آيات الفرائض التي في أول السورة، روى ذلك سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى يكبر، ولا يورثون المرأة فأنزل الله آية الميراث أول السورة، وهو معنى‏ ﴿اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾، وبه قال مجاهد، وروي ذلك عن أبي جعفر عليه السلام.

ب. وقال قوم: كان الرجل تكون في حجره اليتيمة بها ذمامة، ولها مال، فكان يرغب عنها ان يتزوجها ويحبسها لما لها طمعاً أن تموت فيرثها، فنزلت الآية، ذهب اليه عائشة، وقتادة والسدي وأبو مالك وإبراهيم‏.

ج. قال السدي: كان جابر بن عبد الله الأنصاري ثم السلمي له بنت عم عمياء ذميمة قد ورثت عن أبيها ما لا، فكان جابر يرغب عن نكاحها، ولا ينكحها، مخافة أن يذهب الروح بما لها فسأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك وقال: أترث إذا كانت عمياء؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: نعم فأنزل الله فيه هذه الآية.

د. وقال قوم: معناه يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في آخر السورة من قوله: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ﴾ في الكلالة ذهب اليه ابن جبير.

هـ. وقالت عائشة: كان الرجل تكون في حجرة اليتيمة تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها، فنهى الله عن ذلك في قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ إلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا﴾ من غيرهن‏ ﴿مَا طَابَ لَكُمْ﴾ قالت: وقوله: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ هو ما ذكره في أول السورة من قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ إلا تُقْسِطُوا﴾ وعلى هذه الأقوال (ما) في موضع خفض بالعطف على الهاء والنون في قوله: (فيهن) والتقدير قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم، وعلى ما قال الفراء: قل الله يفتيكم فيهن ما يتلى عليكم في الكتاب.

و. وقال آخرون: نزلت الآية في قوم من أصحابه صلّى الله عليه وآله وسلّم سألوه عن أشياء من أمر النساء، وتركوا المسألة عن أشياء أخر كانوا يفعلونها، فأفتاهم الله فيما سألوه عنه، وفيما تركوا المسألة عنه ذهب اليه محمد بن أبي موسى، ويكون معنى قوله: وما يتلي عليكم في الآية التي بعدها وقيل: هم اليتامي الصغار من الذكور والإناث، وما بعدها قوله: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أو إِعْرَاضًا﴾ والذي سألوا عنه، فأجيبوا ما كتب الله لهن من الميراث في آية الميراث.

ز. واختار الطبري أن يكون المراد به آيات الفرائض قال: لأن الصداق ليس مما كتب الله للنساء إلا بالنكاح، فما لم تنكح فلا صداق‏ لها عند أحد.

4. ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ في موضع جر وتقديره وفي المستضعفين من الولدان، وقيل هم اليتامى الصغار من من الذكور والإناث، لأنهم كانوا لا يورثون الصغار من الذكور حتى يبلغ.

5. ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى﴾ والمعنى وفي ان تقوموا لليتامى بالقسط على ما قاله في قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ إلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾: فأمرهم أن يؤتوا المستضعفين من الولدان حقوقهم من الميراث، ويعدلوا فيهم، ويعطونهم ما فرضه الله لهم في كتابه، وبه قال السدي، وابن زيد، ومجاهد، وابن عباس.

6. ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ معناه ترغبون عن أن تنكحوهن.

7. قال الحسن في قوله: ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ قال: يعني في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن أي إلا يأكلوا أموالهم إلا بالقسط، يعني بالعدل، وقال عبيدة السليماني فيما رواه ابن سيرين عنه ان معنى‏ ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ ترغبون فيهن، وفي رواية ابن عون عن ابن شيرين يرغبون عنهن، وقال الحسن: يرغبون عنهن وكان عينية بن حصن يقول: يا محمد أتعطي الوالدان المال؟ وإنما يأخذ المال من يقاتل ويجوز الغنيمة، فنزل قوله: ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾

8. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فإن اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ المعنى مهما فعلتم، أيها المؤمنون من عدل في أمر اليتامى التي أمركم الله أن تقوموا فبهن بالقسط، وانتهيتم فيه إلى أمره وإلى طاعته، فإن الله كان به عالماً لم يزل وقيل معنا إن الله سيجازيكم عليه كما يقول القائل أنا أعرف لك ما تفعله بمعنى اجازيك عليه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/344.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الاستفتاء: الاستفعال من الفتيا، وهو طلب الفتيا، كما أن الاستخبار طلب الخبر، وأفتى في المسألة: بَيَّنَ حكمها، فتوى وفتيا.

ب. القِسْط بكسر القاف: العدل وبفتحها: الجَوْرُ، والقُسُوطُ: العدول عن الحق، ويقال: قسط إذا جار، وأقسط إذا عدل، والقسطاس: الميزان لما فيه من العدل..

ج. الولدان: جمع وليد، وهو الطفل الصغير، عن أبي مسلم.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت في شأن أم كُجَّة مات عنها زوجها أوس بن الصامت، وعصبته رجلان من الأنصار، فأخذا المال، فأخبرت بذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزلت الآية، وقد تقدم ذكر القصة، عن أبي صالح عن ابن عباس قيل: كان الرجل في الجاهلية عنده اليتيمة يلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك لا يقدر أحد أن يتزوجها، فإن كانت جميلة تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها حتى تموت فيرثها، فنهوا عن ذلك، ونزلت الآية، عن ابن عباس..

ب. وقيل: هي في اليتيمة، يكره وليها أن يتزوجها لدمامتها، ويكره أن يزوجها لمالها، فكان يحبسها عنده حتى تموت ويرثها، عن عائشة ومجاهد والضحاك وسعيد ابن جبير.

ج. وقيل: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان، فنزلت الآية نهيًا عن ذلك، عن ابن زيد والسدي.

د. وقيل: نزلت في قوم من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سألوه عن أشياء من أمر النساء، وتركوا المسألة عن أشياء كانوا يفعلونها، فأفتاهم بما سألوا، وبما لم يسألوا، في معنى قول الأصم، وعن البراء بن عازب قال آخر آية نزلت ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ﴾، وآخر سورة نزلت براءة.

3. عاد الكلام إلى ذكر النساء والأيتام وقد جرى ذكرهم في أول السورة، فقال تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ﴾ أي يطلبون منك الفتيا، أي يستخبرونك عن حكمه ويسألونك أيها الرسول ﴿فِي النِّسَاءِ﴾ ما الواجب لهن وعليهن، إلا أنه حذف لدلالة الكلام عليه ﴿قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ﴾ أي يبين لكم ما سألتم من شأنهن ﴿وَمَا يُتْلَى﴾:

أ. قيل: ويسألونك عما يتلى عليهم.

ب. وقيل: ويفتيكم، ما يتلى.

4. ﴿عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ يعني في القرآن، قيل: تقديره: وكتابه يفتيكم أي يبين لكم، وهي الفرائض المذكورة في اليتامى وغيره، والأحكام المبينة في السورة ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ اليتامى جمع يتيم:

أ. قيل: الصغار اللاتي لم يبلغن.. وهو أظهر، فقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يُتْم بعد البلوغ)

ب. وقيل: البالغات قبل التزويج، عن الأصم، وسمي يتيمًا لقرب عهدها باليتم إلى أن تتزوج.

5. ﴿اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ﴾ أي تعطونهن ﴿مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ أي ما فرض لهن على الرجال، واختلفوا فيه على أقوال:

أ. قيل: هو الميراث الذي فرضه الله في كتابه، وكانوا لا يورثون النساء يتيمة وغيرها، ولا الصبيان، عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وإبراهيم وابن زيد.

ب. وقيل: هو الصداق، عن عائشة، كانوا لا يورثون اليتامى اللاتي يلون عليهن حق الصداق، وهو قول أبي علي.

ج. وقيل: هو المهر والنفقة.

د. وقيل: هو النكاح الذي كتب الله لهن في قوله: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى﴾ فمنعها الولي عن التزويج.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾:

أ. قيل: ترغبون عن نكاحهن لدمامتهن، عن الحسن وعائشة، فنهوا عن عضلهن طمعًا في ميراثهن.

ب. وقيل: ترغبون في نكاحهن رغبة في مالهن أو جمالهن، عن ابن عباس وعبيدة.

7. ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ يعني ويفتيكم في المستضعفين ﴿مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ أي الصغار من الصبيان، وقيل: تقديره: في الكتاب وفي المستضعفين ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ أي بالعدل قيل: تقديره: ويفتيكم أن تقوموا فيهم بالعدل، وكانوا لا يورثون النساء والصبيان، عن ابن عباس والسدي وابن زيد، ومعناه الأمر بأن يعطى كل ذي حق حقه صغيرًا كان أو كبيرًا، ذكرًا كان أو أنثى.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾:

أ. قيل: فيما أمرتم به من أمر اليتامى والنساء.

ب. وقيل: هو عام.

9. ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ لم يزل ولا يزال يجازيكم به، ولا يضيع شيء منه.

10. تدل الآية الكريمة على:

أ. جواز نكاح الصغيرة على ما يقوله الفقهاء، خلاف ابن علية.

ب. أنها يزوجها غير الأب والجد على ما ذهبت إليه الحنفية، واختاره أبو علي خلاف ما يقوله الشافعي؛ لأنه لا يذم على رغبة نكاحها إلا وله إنكاحها.

ج. أن لابن العم أن يزوج وليته من نفسه، فيكون هو الولي والخاطب والعاقد والقابل، على ما يقوله أصحاب أبي حنيفة، خلاف ما يقوله الشافعي، واختار شيخنا أبو علي القول الأول لظاهر الآية.

د. أن للولي أن يتصرف في مال اليتامى؛ لأن القيام بالقسط لا يتم إلا بذلك.

هـ. أن ذلك من الخيرات والقرب، وقد قالوا: الأولياء ثلاثة: ولي يتصرف في النفس والمال كالأب والجد والقاضي، وولي يتصرف في النفس دون المال كالأخ والعم وابن العم، وولي يتصرف في المال دون النفس، كوصي الأب والجد، ثم في الأب والجد لا خيار للصغيرة بعد البلوغ، وفي غيرهم الخيار، ولا خلاف أن بعد البلوغ ليس لأحد أن يتصرف في مالها بغير رضاها إلا المهر، فإن للأب قبض مهر البكر، واختلفوا في النفس فقال أبو حنيفة: لا يجوز إجبارها على النكاح، وقال الشافعي: للأب والجد إجبار البكر البالغة على النكاح.

11. مسائل لغوية ونحوية:

أ. في موضع ﴿وَمَا يُتْلَى﴾ من الإعراب قولان:

الأول: أنه رفع بالابتداء، والخبر محذوف، على تقدير: وما يتلى عليكم في الكتاب مبين له، وما يتلى هو ما في السورة من الأحكام في المواريث في اليتامى، وقال الزجاج: وما يتلى عليكم في الكتاب يفتيكم فيه، أي فالله يفتي، والكتاب يفتي، يعني: يبين.

الثاني: جر، ثم اختلفوا فقيل: تقديره: وما يتلى عليكم، وقيل: عطف على النساء، أي يستفتونك في النساء، وفيما يتلى، وفي المستضعفين، وعطف بالمستضعفين وأن تقوموا على الكتاب تقديره: وفي الكتاب وفي المستضعفين، وفي أن تقوموا على النساء على ما تقدم.

ب. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ شرط، وجوابه في قوله: ﴿فَإِنَّ اللهَ﴾

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/89.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الاستفتاء والاستقضاء بمعنى واحد، يقال فاتيته وقاضيته) قال الشاعر:

çتعالوا نفاتيكم أأعيا وفقعس... إلى المجد أدنى أم عشيرة حاتمé

هكذا أنشده الحسن بن علي المغربي وهو استفعال من الفتيا: وهو الفتوى، وأفتى في المسألة: بين حكمها.

2. عاد كلام الله تعالى إلى ذكر النساء والأيتام، وقد جرى ذكرهم في أول السورة، فقال: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ﴾ أي: يسألونك الفتوى: وهو تبيين المشكل من الاحكام ﴿فِي النِّسَاءِ﴾، ويستخبرونك يا محمد، عن الحكم فيهن، وعما يجب لهن وعليهن، وإنما حذف ذلك لإحاطة العلم، بأن السؤال في أمر الدين، إنما يقع عما يجوز، وعما لا يجوز وعما يجب، وعما لا يجب.

3. ﴿قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ معناه: قل يا محمد، الله يبين لكم ما سألتم في شأنهن ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ أي: ويفتيكم أيضا ما يقرأ عليكم في الكتاب: أي القرآن، وتقديره وكتابه يفتيكم: أي يبين لكم الفرائض المذكورة ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ أي الصغار ﴿اللَّاتِي﴾ لم يبلغن، وقوله اللاتي ﴿لَا تُؤْتُونَهُنَّ﴾ أي لا تعطونهن.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ على أقوال:

أ. أولها: إن المعنى وما يتلى عليكم في توريث صغار النساء، وهو آيات الفرائض التي في أول السورة وكان أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى يكبر، ولا يورثون المرأة وكانوا يقولون: لا نورث إلا من قاتل ودفع عن الحريم، فأنزل الله آية المواريث في أول السورة، وهو معنى قوله: ﴿لا تؤتهن ما كتب لهن﴾ أي: من الميراث، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.

ب. ثانيها: إن المعنى اللاتي لا تؤتونهن ما وجب لهن من الصداق، وكانوا لا يؤتون اليتامى اللاتي يكون لهن من غيرهن ما طاب لكم)، ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ هو ما ذكره في أول السورة من قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا﴾ الآية، عن عائشة، وهو اختيار أبي علي الجبائي، واختار الطبري القول الأول، واعترض على هذا القول، بأن قال ليس الصداق مما كتب الله للنساء إلا بالنكاح، فمن لم تنكح فلا صداق لها عند أحد.

ج. ثالثها: إن المراد بقوله: ﴿لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ النكاح الذي كتب الله لهن في قوله: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى﴾ الآية، فكان الولي يمنعهن من التزويج، عن الحسن، وقتادة، والسدي، وأبي مالك، وإبراهيم قالوا: كان الرجل يكون في حجره اليتيمة بها دمامة، ولها مال، وكان يرغب عن أن يتزوجها، ويحبسها، طمع أن تموت، فيرثها، قال السدي: وكان جابر بن عبد الله الأنصاري له بنت عم عمياء دميمة، وقد ورثت عن أبيها مالا، فكان جابر يرغب عن نكاحها، ولا ينكحها، مخافة أن يذهب الزوج بمالها، فسأل النبي عن ذلك فنزلت الآية.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾:

أ. معناه على القول الأول، والثالث: وترغبون عن أن تنكحوهن أي: عن نكاحهن، ولا تؤتونهن نصيبهن من الميراث، فيرغب فيهن غيركم، فقد ظلمتموهن من وجهين.

ب. وفي قول عائشة معناه: وترغبون في أن تنكحوهن أي: في نكاحهن لجمالهن أو لمالهن.

6. ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ معناه: ويفتيكم في المستضعفين من الصبيان الصغار لان ما يتلى عليكم في باب اليتامى من قوله: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ أي: ويفتيكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط في أنفسهم، وفي مواريثهم، وأموالهم، وتصرفاتهم، وإعطاء كل ذي حق منهم حقه، صغيرا كان أو كبيرا، ذكرا كان أو أنثى، وفيه إشارة إلى قوله سبحانه ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ الآية.

7. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ أي: مهما فعلتم من خير أيها المؤمنون من عدل وبر في أمر النساء واليتامى، وانتهيتم في ذلك إلى أمر الله وطاعته ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ أي لم يزل به عالما، ولا يزال كذلك، يجازيكم به، ولا يضيع عنده شيء منه.

8. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾: موضعه رفع بالابتداء تقديره: الله يفتيكم فيهن ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ في الكتاب أيضا: يفتيكم فيهن، وقال الفراء: يجوز أن يكون موضعه جرا عطفا على المضمر المجرور في ﴿فِيهِنَّ﴾ وهذا بعيد لأن الظاهر لا يحسن عطفه على الضمير المجرور وقيل يجوز أن يكون عطفا على النساء في قوله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾ أي: ويستفتونك فيما يتلى عليكم، وفي المستضعفين.

ب. ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ قال الواحدي: قوله: ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ قيل: إن تقديره في النساء اليتامى، فأضيفت الصفة إلى الموصوف، نحو قولك: كتاب الكامل، ومسجد الجامع، ويوم الجمعة وهذا قول الكوفيين، وعند المحققين لا يجوز إضافة الصفة إلى الموصوف، بل ﴿النِّسَاءَ﴾ هنا أمهات اليتامى، أضيفت إليهن أولادهن، وأقول: يجوز أيضا أن يضاف اليتامى إلى النساء إذا كن من جملتهن فيكون الإضافة بمعنى من كما يقال خيار النساء، وشرار النساء وصغار النساء، وهذا أشبه بما ينساق إليه معنى الآية.

ج. ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ جر عطفا على يتامى النساء.

د. ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾: في موضع جرا أيضا، والتقدير: وما يتلى عليكم من الآيات في يتامى النساء، وفي المستضعفين، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط، يفتيكم الله فيهن.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/178.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾ خمسة أقوال:

أ. أحدها: أنهم كانوا في الجاهلية لا يورّثون النساء والأطفال، فلما فرض الله المواريث في هذه السّورة، شقّ ذلك عليهم، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد.

ب. الثاني: أن وليّ اليتيمة كان يتزوّجها إذا كانت جميلة وهويها، فيأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال حتى تموت، فإذا ماتت ورثها، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

ج. الثالث: أنهم كانوا لا يؤتون النساء صدقاتهنّ، ويتملّك ذلك أولياؤهنّ، فلما نزل قوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا قول عائشة.

د. الرابع: أن رجلا كانت له امرأة كبيرة، وله منها أولاد، فأراد طلاقها، فقالت: لا تفعل، واقسم لي في كل شهر إن شئت أو أكثر فقال: لئن كان هذا يصلح، فهو أحبّ إليّ، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذكر له ذلك، فقال: (قد سمع الله ما تقول، فإن شاء أجابك)، فنزلت هذه الآية، والتي بعدها، رواه سالم الأفطس عن سعيد بن جبير.

هـ. الخامس: أنّ وليّ اليتيمة كان إذا رغب في مالها وجمالها لم يبسط لها في صداقها، فنزلت هذه الآية، ونهوا أن ينكحوهنّ، أو يبلغوا بهنّ سنتهنّ من الصّداق، ذكره القاضي أبو يعلى.

2. ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ﴾ أي: يطلبون منك الفتوى، وهي تبيين المشكل من الأحكام، وقيل: الاستفتاء: الاستخبار، قال المفسّرون: والذي استفتوه فيه، ميراث النّساء، وذلك أنهم قالوا: كيف ترث المرأة والصّبيّ الصّغير؟

3. ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ قال الزجّاج: موضع (ما) رفع، المعنى: الله يفتيكم فيهنّ، وما يتلى عليكم في الكتاب أيضا يفتيكم فيهنّ، وهو ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ الآية، والذي تلي عليهم في التّزويج قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾

4. في يتامى النّساء قولان:

أ. أحدهما: أنهنّ النّساء اليتامى، فأضيفت الصّفة إلى الاسم، كما تقول: يوم الجمعة.

ب. الثاني: أنهنّ أمّهات اليتامى، فأضيف إليهنّ أولادهنّ اليتامى.

5. في الذي كتب لهنّ قولان:

أ. أحدهما: أنه الميراث، قاله ابن عباس، ومجاهد في آخرين.

ب. الثاني: أنه الصّداق.

6. في المخاطب بهذا قولان:

أ. أحدهما: أنهم أولياء المرأة كانوا يحوزون صداقها دونها.

ب. الثاني: وليّ اليتيمة، كان إذا تزوّجها لم يعدل في صداقها.

7. في قوله تعالى: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ قولان:

أ. أحدهما: وترغبون في نكاحهنّ رغبة في جمالهنّ، وأموالهنّ، هذا قول عائشة، وعبيدة.

ب. الثاني: وترغبون عن نكاحهنّ لقبحهنّ، فتمسكوهنّ رغبة في أموالهنّ، وهذا قول الحسن.

8. ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ قال الزجّاج: موضع (المستضعفين) خفض على قوله تعالى: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ المعنى: وفي الولدان، قال ابن عباس: يريد أنهم لم يكونوا يورّثون صغيرا من الغلمان والجواري، فنهاهم الله عن ذلك، وبيّن لكلّ ذي سهم سهمه.

9. ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ قال الزجّاج: موضع (أن) خفض، فالمعنى: في يتامى النّساء، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط، قال ابن عباس: يريد العدل في مهورهنّ ومواريثهنّ.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/480.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ عادة الله في ترتيب هذا الكتاب الكريم وقع على أحسن الوجوه وهو أنه يذكر شيئا من الأحكام ثم يذكر عقيبه آيات كثيرة في الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ويخلط بها آيات دالة على كبرياء الله وجلال قدرته وعظمة إلهيته، ثم يعود مرة أخرى إلى بيان الأحكام، وهذا أحسن أنواع الترتيب وأقربها إلى التأثير في القلوب، لأن التكليف بالأعمال الشاقة لا يقع في موقع القبول إلا إذا كان مقرونا بالوعد والوعيد، والوعد والوعيد لا يؤثر في القلب إلا عند القطع بغاية كمال من صدر عنه الوعد والوعيد، فظهر أن هذا الترتيب أحسن الترتيبات اللائقة بالدعوة إلى الدين الحق.

2. ذكر الله تعالى في أول هذه السورة أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف، ثم أتبعها بشرح أحوال الكافرين والمنافقين واستقصى في ذلك، ثم ختم تلك الآيات الدالة على عظمة جلال الله وكمال كبريائه، ثم عاد بعد ذلك إلى بيان الأحكام فقال‏: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾

3. الاستفتاء: قال الواحدي: الاستفتاء طلب الفتوى يقال: استفتيت الرجل في المسألة فأفتاني إفتاء وفتيا وفتوى، وهما اسمان موضوعان موضع الإفتاء، ويقال: أفتيت فلانا في رؤيا رآها إذا عبرها قال تعالى: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ﴾ [يوسف: 46] ومعنى الإفتاء إظهار المشكل، وأصله من الفتى وهو الشاب الذي قوي وكمل، فالمعنى كأنه يقوى ببيانه ما أشكل ويصير قويا فتيا.

4. ذكروا في سبب نزول هذه الآية قولين:

أ. الأول: أن العرب كانت لا تورث النساء والصبيان شيئا من الميراث كما ذكرنا في أول هذه السورة، فهذه الآية نزلت في توريثهم.

ب. الثاني: أن الآية نزلت في توفية الصداق لهن، وكانت اليتيمة تكون عند الرجل فإذا كانت جميلة ولها مال تزوج بها وأكل مالها، وإذا كانت دميمة منعها من الأزواج حتى تموت فيرثها، فأنزل الله هذه الآية.

5. الاستفتاء لا يقع عن ذوات النساء وإنما يقع عن حالة من أحوالهن وصفة من صفاتهن، وتلك الحالة غير مذكورة في الآية فكانت مجملة غير دالة على الأمر الذي وقع عنه الاستفتاء.

6. في قوله تعالى: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ أقوال:

أ. الأول: أنه رفع بالابتداء والتقدير: قل الله يفتيكم في النساء، والمتلو في الكتاب يفتيكم فيهن أيضا، وذلك المتلو في الكتاب هو قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ [النساء: 3]، وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن أحوال كثيرة من أحوال النساء، فما كان منها غير مبين الحكم ذكر أن الله يفتيهم فيها، وما كان منها مبين الحكم في الآيات المتقدمة ذكر أن تلك الآيات المتلوة تفتيهم فيها، وجعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب، ألا ترى أنه يقال في المجاز المشهور: إن كتاب الله بيّن لنا هذا الحكم، وكما جاز هذا جاز أيضا أن يقال: إن كتاب الله أفتى بكذا.

ب. الثاني: أن قوله: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ مبتدأ و﴿فِي الْكِتَابِ﴾ خبره، وهي جملة معترضة، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ، والغرض منه تعظيم حال هذه الآية التي تتلى عليهم وأن العدل والإنصاف في حقوق اليتامى من عظائم الأمور عند الله تعالى التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها، والمخل بها ظالم متهاون بما عظمة الله، ونظيره في تعظيم القرآن قوله: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: 4]

ج. الثالث: أنه مجرور على القسم، كأنه قيل: قل الله يفتيكم فيهن، وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب، والقسم أيضا بمعنى التعظيم.

د. الرابع: أنه عطف على المجرور في قوله: ﴿فِيهِنَّ﴾ والمعنى: قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء، قال الزجاج: وهذا الوجه بعيد جدا نظرا إلى اللفظ والمعنى، أما اللفظ فلأنه يقتضي عطف المظهر على المضمر، وذلك غير جائز كما شرحناه في قوله: ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ [النساء: 1] وأما المعنى فلأن هذا القول يقتضي أنه تعالى في تلك المسائل أفتى ويفتي أيضا فيما يتلى من الكتاب، ومعلوم أنه ليس المراد ذلك، وإنما المراد أنه تعالى يفتي فيما سألوا من المسائل.

7. سؤال وإشكال: بم تعلق قوله: ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾؟ والجواب: هو في الوجه الأول صلة ﴿يُتْلَى﴾ أي يتلى عليكم في معناهن، وأما في سائر الوجوه فبدل من‏ ﴿فِيهِنَّ﴾

8. سؤال وإشكال: الإضافة في‏ ﴿يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ ما هي؟ والجواب: قال الكوفيون: معناه في النساء اليتامى، فأضيفت الصفة إلى الاسم، كما تقول: يوم الجمعة، وحق اليقين، وقال البصريون: إضافة الصفة إلى الاسم غير جائز فلا يقال مررت بطالعة الشمس، وذلك لأن الصفة والموصوف شيء واحد، وإضافة الشيء إلى نفسه محال، وهذا التعليل ضعيف لأن الموصوف قد يبقى بدون الوصف، وذلك يدل على أن الموصوف غير الصفة، ثم أن البصريين فرعوا على هذا القول وقالوا: النساء في الآية غير اليتامى، والمراد بالنساء أمهات اليتامى أضيفت إليهن أولادهن اليتامى، ويدل عليه أن الآية نزلت في قصة أم كحة، وكانت لها يتامى.

9. ﴿اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ﴾ قال ابن عباس: يريد ما فرض لهن من الميراث، وهذا على قول من يقول: نزلت الآية في ميراث اليتامى والصغار، وعلى قول الباقين المراد بقوله: ﴿مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ الصداق.

10. ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ قال أبو عبيدة: هذا يحتمل الرغبة والنفرة، فإن حملته على الرغبة كان المعنى: وترغبون في أن تنكحوهن، وإن حملته على النفرة كان المعنى: وترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن.

11. احتج أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية على أنه يجوز لغير الأب والجد تزويج الصغيرة، ولا حجة لهم فيها لاحتمال أن يكون المراد: وترغبون أن تنكحوهن إذا بلغن، والدليل على صحة قولنا: أن قدامة بن مظعون زوج بنت أخيه عثمان بن مظعون من عبد الله بن عمر، فخطبها المغيرة بن شعبة ورغب أمها في المال، فجاؤا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال قدامة: أنا عمها ووصي أبيها، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنها صغيرة وإنها لا تزوج إلا بإذنها، وفرق بينها وبين ابن عمر، ولأنه ليس في الآية أكثر من ذكر رغبة الأولياء في نكاح اليتيمة، وذلك لا يدل على الجواز.

12. ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ وهو مجرور معطوف على يتامى النساء كانوا في الجاهلية لا يورثون الأطفال ولا النساء، وإنما يورثون الرجال الذين بلغوا إلى القيام بالأمور العظيمة دون الأطفال والنساء.

13. ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ وهو مجرور معطوف على المستضعفين، وتقدير الآية: وما يتلى عليكم في الكتاب يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ يجازيكم عليه ولا يضيع عند الله منه شيء.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/233.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نزلت بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغير ذلك، فأمر الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقول لهم: الله يفتيكم فيهن، أي يبين لكم حكم ما سألتم عنه، وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء، وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها فسألوا فقيل لهم: إن الله يفتيكم فيهن، روى أشهب عن مالك قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي، وذلك في كتاب الله ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾، و﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ﴾

2. ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ ﴿مَا﴾ في موضع رفع، عطف على اسم الله تعالى، والمعنى: والقرآن يفتيكم فيهن، وهو قوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ وقد تقدم، ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ أي وترغبون عن أن تنكحوهن، ثم حذفت ﴿عَنْ﴾، وقيل: وترغبون في أن تنكحوهن ثم حذفت ﴿فِي﴾، قال سعيد بن جبير ومجاهد: ويرغب في نكاحها وإذا كانت كثيرة المال، وحديث عائشة يقوي حذف ﴿عَنْ﴾ فإن في حديثها: وترغبون أن تنكحوهن رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، وقد تقدم أول السورة.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/402.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سبب نزول هذه الآية: سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغيره، فأمر الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقول لهم: ﴿الله يُفْتِيكُمْ﴾ أي: يبين لكم حكم ما سألتم عنه، وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء، وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها، فسألوا، فقيل لهم: ﴿الله يُفْتِيكُمْ﴾

2. ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ معطوف على قوله: ﴿الله يُفْتِيكُمْ﴾ والمعنى: والقرآن الذي يتلى عليكم يفتيكم فيهن، والمتلوّ في الكتاب في معنى اليتامى: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾، ويجوز أن يكون قوله: ﴿وَمَا يُتْلَى﴾ معطوفا على الضمير في قوله: ﴿يُفْتِيكُمْ﴾ الراجع إلى المبتدأ، لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالمفعول والجار والمجرور، ويجوز أن يكون مبتدأ، وفي الكتاب: خبره، على أن المراد به: اللوح المحفوظ، وقد قيل في إعرابه غير ما ذكرنا، ولم نذكره لضعفه، وقوله: ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ على الوجه الأوّل والثاني: صلة لقوله: ﴿يُتْلَى﴾ وعلى الوجه الثالث: بدل من قوله: ﴿فِيهِنَّ﴾

3. ﴿اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ أي: ما فرض لهنّ من الميراث وغيره‏ ﴿وَتَرْغَبُونَ﴾ معطوف على قوله: ﴿لَا تُؤْتُونَهُنَّ﴾ عطف جملة مثبتة على جملة منفية، وقيل: حال من فاعل‏ ﴿تُؤْتُونَهُنَّ﴾

4. ﴿أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ يحتمل أن يكون التقدير: في أن تنكحوهن، أي: ترغبون في أن تنكحوهنّ لجمالهن، ويحتمل أن يكون التقدير: وترغبون عن أن تنكحوهنّ لعدم جمالهنّ.

5. ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ معطوف على يتامى النساء، أي: وما يتلى عليكم في يتامى النساء، وفي المستضعفين من الولدان، وهو قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ وقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ومن كان مستضعفا من الولدان كما سلف، وإنما يورثون الرجال القائمين بالقتال وسائر الأمور.

6. ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ معطوف على قوله: ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ كالمستضعفين، أي: وما يتلى عليكم في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط، أي: العدل، ويجوز أن يكون في محل نصب، أي: ويأمركم أن تقوموا، ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ في حقوق المذكورين‏ ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ يجازيكم بحسب فعلكم من خير وشر.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/600.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. روي أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يعطي الابنة النصف، والأخت الشقيقة والأبويَّة النصف، بالوحي من الله جلَّ وعلا في غير القرآن، فقال عيينة بن حصن: (أُخبرنا أنَّك تعطي الابنة النصف والأخت، وإنَّا كنَّا نورِّث من يشهد القتال، ويحوز الغنيمة، لا النساء والصبيان والضعفاء)، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (بذلك أُمرت)، فنزل قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ﴾ أي: عيينة وجماعة من المسلمين، وهكذا قل، ولا تقل: يَستفتونـك فيما للنساء ومـا عليهنَّ مطلقًا، ولعلَّ هذا الاستفتاء لم يقع، ﴿فِي النِّسَآءِ﴾ أي: في توريثهنَّ والمراد جنس النساء، والاستفتاء مُتَقَدِّم على النزول، فالمضارع للحال وقصد حكاية الحال الماضية، أو هو لتكرُّر الاستفتاء بعد، ﴿قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ﴾ الإفتاء: تبيين المبهم لطالب البيان ﴿فِيهِنَّ﴾ في ميراثهنَّ، والمضارع للاستمرار، فشمل ما مرَّ أوَّل السورة من ميراث الإناث وما يأتي آخرها، ﴿وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ القرآن.

2. عطف على لفظ الجلالة، أو على المستتر في (يُفْتِي) لوجود الفصل، أي: يفتيكم الله ويفتيكم كتابُه، والمفتي حقيقة هو الله، ولكن عطف عليه أو على ضميره ما هو من الأمور الدالَّة على أنَّه المفتي، كقولك: نفعني زيد وعلمه، وأغناني الله وعطاؤه، وقد يكون الإسناد حقيقة للمعطوف نحو: أعجبني زيد وكرمه، ولكون المفتي حقيقة هو الله صحَّ إفراد ضمير (يُفْتِي)، ولو عطف (مَا يُتْلَى) على لفظ الجلالة، أو يراد بإفتاء الله ما أوحى في غير القرآن، وبإفتاء (مَا يُتْلَى): ما أفتاه الله في القرآن، أو (مَا) مبتدأ، و(فِي الْكِتَابِ) خبر، أي: في اللوح المحفوظ، أو يقدَّر: (ويبيِّن لكم ما يتلى)، أو الواو للقسم.

3. ﴿فِي يَتَامَى النِّسَآءِ﴾ متعلِّق بـ (يُتْلَى)، وإن جعل (مَا يُتْلَى) مبتدأً فهو بدل من (النِّسَاءِ) بدل بعض، والرابط (النساء) وضعًا للظاهر موضع المضمر، أي: في يتاماهنَّ، وفي هذا الوجه ضعف لأنَّ عيينة لم يستفت في خصوص اليتيمات، و(فِي) على ظاهرها، وإن علَّقنا (فِي يَتَامَى) بـ (يُتْلَى) فـ (فِي) للسببيَّة، لئلَّا يتعلَّق جارَّان بمعنى واحد في فعل واحد بلا تبعيَّة.

4. ﴿اللَّاتِي لَا تُوتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ من الميراث والصداق والنكاح، وكانوا يمنعونهنَّ منه، ﴿وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾ عن أن تتزوَّجوهنَّ لفقرهنَّ، أو قبحهنَّ أو عيب فيهنَّ، وتبقونهنَّ بلا تزويج لهنَّ لغيركم طمعًا في إرث مالهنَّ، أو عن تزويجهنَّ لغيركم لهذا الطمع، أو في أن تتزوَّجوهنَّ لمالهنَّ وجمالهنَّ، فكلٌّ من الرغبة عنهنَّ والرغبة فيهنَّ مراد على سبيل البدليَّة، بحسب اقتضاء المقام وشهادة الحال، لا على سبيل الشمول، وإلَّا لزم استعمال الكلمة في معنييها، وليس ذلك إلباسًا بل إجمال، وللعرب غرض في الإجمال لا في الإلباس.

5. احتجَّ الحنفيَّة بالآية على جواز تزويج اليتيمة قبل البلوغ، وكذا الصغيرة غير اليتيمة، يجوز أن يزوَّجها ولو غير أبيها وجدِّها، وأجيب بأنَّه ليس في الآية أكثر من ذكر رغبة الأولياء في نكاح اليتيمة، ولا يدلُّ ذلك على الجواز، لجواز أن يكون المراد: أن تنكحوهنَّ بإذن أهلهنَّ إذا بلغن، ويعترض هذا بأنَّه خلاف ظاهر الآية، وبأنَّه مجاز لعلاقة الأَوْلِ، ولا دليل عليه، فلا يحمل عليه، أعني بالأَوْل: أنَّه أراد تزوُّجهنَّ إذا آل أمرهنَّ إلى البلوغ، لا مجاز الأَوْل المشهور المتعاهد.

6. ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ عطف على (يَتَامَى)، وكانوا لا يورِّثون الأطفال ولا من لا يقاتل كما لا يورِّثون النساء، ﴿وَأَن تَقُومُواْ﴾ عطف على (يَتَامَى)، و(فِي يَتَامَى) بدل من (فِيهِنَّ)، أو متعلِّق بـ (يُتْلَى)، فكأنَّه قيل: (يفتيكم في يتامى النساء، وفي أن تقوموا)، أو ما يتلى عليكم في يتامى النساء، أو أن تقوموا، أو عطف على هاء (فِيهِنَّ) المضمرة المتَّصلة، ولو بلا إعادة الجارِّ، لاطِّراد حذف الجارِّ مع (أن) و(أنَّ) عند أمن اللبس، وأن تقوموا لليتامى بالقسط خير لكم، أو يقدَّر: (ويأمركم أن تقوموا)، ﴿لِلْيَتَامَىٰ بِالْقِسْطِ﴾ والخطاب لمن يصلح للقيام بمنافع اليتامى، في أموالهم وأبدانهم ومُؤَنِهم وسائر مصالحهم، من الأئمَّة الأولياء والمحتسبين، ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾ في اليتامى وغيرهم، ودخل في الخير: ترك المحرَّمات لوجه الله كالزنى والربا، ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ فهو مجازيكم عليه إن لم تبطلوه.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/304.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾ أي: ويسألونك الإفتاء في النساء، والإفتاء تبيين المبهم، ﴿قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ ذكروا في (ما) وجوها: المختار منها أنها في موضع رفع بالعطف على المبتدأ، وهو لفظ الجلالة، أي: والمتلوّ في الكتاب يفتيكم فيهن أيضا، أو بالعطف على ضميره في‏ ﴿يُفْتِيكُمْ﴾ وساغ، لمكان الفصل بالمفعول والجارّ والمجرور، وذلك المتلوّ في الكتاب هو قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ قال الرازيّ: وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن أحوال كثيرة من أحوال النساء، فما كان منها غير مبين الحكم، ذكر أن الله يفتيهم فيها، وما كان منها مبين الحكم في الآيات المتقدمة، ذكر أن تلك الآيات المتلوّة تفتيهم فيها، وجعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب، ألا ترى أنه يقال في المشهور: إن كتاب الله بيّن لنا هذا الحكم، وكما جاز هذا، جاز أيضا أن يقال: إن كتاب الله أفتى بكذا، قال أبو السعود: وإيثار صيغة المضارع للإيذان باستمرار التلاوة ودوامها و(في الكتاب) إما متعلق بـ (يتلى) أو بمحذوف وقع حالا من المستكنّ فيه، أي يتلى كائنا فيه‏ ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ متعلق بـ (يتلى) أي: ما يتلى عليكم في شأنهن، وهذه الإضافة بمعنى (من) لأنها إضافة الشيء إلى جنسه، وقيل: من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: النساء اليتامى‏ ﴿اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ أي: ما وجب لهن من الميراث وغيره.

2. ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ روى البخاريّ‏ ومسلم عن عائشة قالت، في هذه الآية: هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليّها ووارثها، فأشركته في ماله حتى في العذق، فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته، فيعضلها، فنزلت هذه الآية، وعنها أيضا قالت: وقول الله عز وجل‏ ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره، حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن، وهذا المرويّ عن عائشة يدل على أن الآية نزلت في المعدمة، وأن الجار المقدّر مع (أن) هنا هو (عن)، وقد تأولها: سعيد بن جبير على المعنيين، أي تقدير (عن) و(في) فقال نزلت في المعدمة والغنية.

3. قال الحافظ ابن حجر: والمرويّ عن عائشة أوضح، في أن الآية الأولى، أي: التي في أول السورة، نزلت في الغنية، وهذه الآية نزلت في المعدمة، قال ابن كثير: والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزوجها، فتارة يرغب في أن يتزوجها، فأمره الله أن يمهرها، أسوة أمثالها من النساء، فإن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء، فقد وسع الله عز وجل، وهذا المعنى في الآية الأولى: التي في أول السورة، وتارة لا يكون له فيها رغبة، لدمامتها عنده، أو في نفس الأمر، فنهاه الله عز وجل أن يعضلها عن الأزواج خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها، كما قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية، وهي قوله: ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ الآية: كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا، فإن كانت جميلة وهويها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت، فإذا ماتت ورثها، فحرّم الله ذلك ونهى عنه.

4. ما ذكرناه عن ابن جبير من حمل الآية على المعنيين، أي: أن حرف الجر المقدّر مع (أن) هو (عن) و(في)، وأن كلا منهما مراد منها على سبيل البدل لصلاحيتها لهما بالاعتبارين المتقدمين، قال الخفاجيّ(: مثله لا يعدّ لبسا بل إجمالا، كما ذكره بعض المحققين)، وهذا بناء على أن اللبس هو أن يدل اللفظ على غير المراد، والإجمال أن لا تتضح الدلالة، وبعبارة أخرى: إيراد الكلام على وجه يحتمل أمورا متعددة، وقد نظم بعضهم الفرق بينهما فقال:

çوالفرق بين اللّبس والإجمال‏...مما به يهتمّ في الأقوال‏

فاللفظ، إن أفهم غير القصد،...فاحكم على استعماله بالرد

لأنه اللّبس، وأما المجمل‏...فربما يفهمه من يعقل‏

وذاك أن لا تفهم المخالفا...ولا سواه بل تصير واقفا

وحكمه القبول في الموارد...فاحفظه نظما أعظم الفوائدé

5. ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ عطف (على يتامى النساء)، وما يتلى في حقهم: قوله تعالى:‏ ﴿يُوصِيكُمُ الله﴾، وقد كانوا في الجاهلية لا يورثونهم كما لا يورثون النساء، وإنما يورثون الرجال القوّام، قال ابن عباس، في الآية: كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، وذلك قوله: ﴿لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ فنهى الله عن ذلك، وبيّن لكل ذي سهم سهمه، فقال‏ ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ صغيرا أو كبيرا، وكذا قال سعيد بن جبير ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ بالجر، عطف على ما قبله، وما يتلى في حقهم: قوله تعالى:‏ ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: 2] ونحو ذلك مما لا يكاد يحصر، قال سعيد بن جبير: المعنى: كما أنها إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها، كذلك إذا لم تكن ذات مال وجمال، فانكحها واستأثر بها، والخطاب للولاة، أو للأولياء والأوصياء.

6. استنبط من الآية جواز نكاح الصغيرة، لأن اليتيم: الصغير الذي لم يبلغ، وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال لا يتم بعد احتلام، رواه أبو داود، وعن الأصم: أراد البوالغ قبل التزوج، وسماهن باليتم لقرب عهدهن باليتم، الأول أظهر، لأنه الحقيقة، قالوا: قد يطلق اليتيم على البالغة، وبدليل‏ قوله‏ صلّى الله عليه وآله وسلّم: تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها، رواه أهل السنن‏، والاستئمار لا يكون إلا من البالغة، وقد ورد قول الشاعر:

çإن القبور تنكح الأيامى‏...النسوة الأرامل اليتامى‏é

فسمى البالغات يتامى، لانفرادهن عن الأزواج، وكل شيء منفرد لا نظير له يقال له يتيم، كقولهم: درة يتيمة، وهذه المسألة فيها أقوال للعلماء:

أ. الأولى: جواز نكاح الصغيرة لجميع الأولياء، وهذا مذهب الهادوية ومالك وأبي حنيفة وصاحبيه.

ب. الثاني: للناصر والشافعيّ: لا يجوز ذلك إلا للأب والجد.

ج. الثالث: لا يجوز ذلك إلا للأب فقط، وهذا قول الأوزاعيّ، ومرويّ عن القاسم.

7. استنبط من الآية أنه يجوز أن يتولى طرفي العقد واحد في النكاح، لقوله: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ وقد روى ابن سعد من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد، أن أم حكيم بنت قارظ قالت لعبد الرحمن بن عوف: إنه قد خطبني غير واحد، فزوجني أيّهم رأيت، قال وتجعلين ذلك إليّ؟ فقالت: نعم، قال: قد تزوجتك، قال ابن أبي ذئب: فجاز نكاحه، وروى عبد الرزاق ووكيع والبيهقيّ أن المغيرة بن شعبة أراد أن يتزوج امرأة وهو وليّها، فأمر أبعد منه، فزوجه، وروى عبد الرزاق أيضا عن ابن جريج قال قلت لعطاء: امرأة خطبها ابن عم لها، لا رجل لها غيره، قال فلتشهد أن فلانا خطبها، وإني أشهدكم أني قد نكحته، ولتأمر رجلا من عشيرتها، أخرج هذه الآثار الثلاثة البخاري في (صحيحه) تعليقا في (باب إذا كان الوليّ هو الخاطب) أي: هل يزوج نفسه أو يحتاج إلى وليّ آخر، قال ابن المنير: ذكر في الترجمة ما يدل على الجواز والمنع معا، ليكل الأمر في ذلك إلى نظر المجتهد، قال الحافظ ابن حجر: لكن الذي يظهر من صنيعه أنه يرى الجواز، فإن الآثار التي فيها أسر الوليّ غيره أن يزوجه ـ ليس فيها التصريح بالمنع من تزويجه نفسه.

8. استنبط من الآية أنه يجوز للأولياء التصرف في المال، لأن القيام بالقسط لا يتم إلا بذلك‏ ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ لا سيما في حق الضعفاء من حفظ أموالهم والقيام بتدبيرهم والإقساط لهم‏ ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ فيجزيكم به.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/356.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تقدم أن الكلام كان من أول السورة إلى ما قبل قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ في الأحكام المتعلقة بالنساء واليتامى والقرابة، ومن آية ﴿وَاعْبُدُوا الله﴾ إلى آخر ما تقدم تفسيره في أحكام عامة أكثرها في أصول الدين وأحوال أهل الكتاب والمنافقين والقتال، وقد جاءت هذه الآيات بعد ذلك في أحكام النساء فهي من جنس الأحكام التي في أول السورة، ولعل الحكمة في وضعها ههنا تأخر نزولها إلى أن شعر الناس بعد العمل بتلك الآيات بالحاجة إلى زيادة البيان في تلك الأحكام، فإنهم كانوا يهضمون حقوق الضعيفين ـ المرأة واليتيم ـ كما تقدم فأوجبت عليهم تلك الآيات مراعاتها وحفظها وبينتها لهم، وجعلت للنساء حقوقا ثابتة مؤكدة في المهر والإرث كالرجال وحرمت ظلمهن، وتعدد الزوجات منهن، مع الخوف من عدم العدل بينهن، وحددت العدد الذي يحل منهن في حال عدم الخوف من الظلم، فبعد تلك الأحكام عرف النساء حقوقهن، وأن الإسلام منع الرجال الأقوياء أن يظلموهن، فكان من المتوقع بعد الشروع في العمل بتلك الأحكام أن يعرف الرجال شدة التبعة التي عليهم في معاملة النساء وأن يقع لهم الاشتباه في بعض الوقائع المتعلقة بها، كأن تحدث بعضهم نفسه بأن يحل له أو لا يحل أن يمنع اليتيمة ما كتب الله لها من الإرث وهو يرغب أن ينكحها، ويشتبه بعضهم فيما يصالح امرأته عليه إذا أرادت أن تفتدي منه، ويضطرب بعضهم في حقيقة العدل الواجب بين النساء: هل يدخل فيه العدل في الحب أو في لوازمه العملية الطبيعية من زيادة الإقبال على المحبوبة والتبسط في الاستمتاع بها أم لا؟

2. كل هذا مما تشتد الحاجة إلى معرفته بعد العمل بتلك الأحكام، فهو مما كان يكون موضع السؤال والاستفتاء، فلهذا جاء بهذه الآيات بعد طائفة من الآيات وطائفة من الزمان، وقد علمنا من سنة القرآن عدم جمع الآيات المتعلقة بموضوع واحد في سياق واحد، لأن المقصد الأول من القرآن هو الهداية بأن تكون تلاوته عظة وذكرى وعبرة ينمي بها الإيمان والمعرفة بالله عز وجل، وبسننه في خلقه، وحكمته في عباده، ويقوي بها شعور التعظيم والحب له، وتزيد الرغبة في الخير، والحرص على التزام الحق، ولو طال سرد الآيات في موضوع أحكام المعاملات البشرية ـ لمل القارئ لها في الصلاة وغير الصلاة، أو غلب على قلبه التفكر في جزئياتها ووقائعها، فيفوت بذلك المقصد الأول، والمطلوب الذي عليه المعول، وحسب طلاب الأحكام المفصلة فيه أن يرجعوا إليها عند الحاجة في الآيات المتفرقة، والسور المتعددة، ولا يجعلونها هي الأصل المقصود من التلاوة في الصلاة وللتعبد في غير الصلاة، فإن الأصل الأول هو ما علمت.

3. ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾ معناه يطلبون منك أيها الرسول الفتيا في شأنهن، وبيان المشكل والغامض عليهم في أحكامهن، من حيث الحقوق المالية والزواج لأجلها والنشوز والخصام والصلح والعدل والعشرة والفراق، ويدل على ذلك كله الجواب في الآيات الأربع، وهو من إيجاز القرآن البديع، وغفل عن هذا من قال إن المراد (يستفتونك في ميراثهن) لما روي في سبب نزولها من أن حصن بن عيينة قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بلغنا أنك تعطي البنت والأخت النصف وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويجوز الغنيمة فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (بذلك أمرت)، فيا لله العجب! كيف يغفل أمثال أولئك الأذكياء بمثل هذه الرواية عما تدل عليه الآيات الواردة في موضوع واحد هو استفتاء وفتوى فيقطعونها إربا إربا، ويجعلونها جذاذا وأفلاذا لا صلة بينها، ولا جامعة تضمها؟ وروي عن ابن عباس من طريق الكلبي عن أبي صالح أن الآية نزلت في بنات أم كجة وميراثهن عن أبيهن، وعن عائشة أنها نزلت في اليتيمة تكون في حجر الرجل وهو وليها فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال بأقل من مهر مثلها، وإذا كانت مرغوبا عنها لقلة مالها وجمالها تركها، وفي رواية هي اليتيمة تكون في حجر الرجل وقد شركته في ماله فيرغب عنها أن يتزوجها لدمامتها، ويكره أن يزوجها غيره حتى لا يذهب بمالها، فيحبسها حتى تموت فيرثها، فنهاهم الله عن ذلك، وقد تقدم هذا في أول السورة.

4. ﴿قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ بما ينزله من الآيات في أحكامهن بعد هذا الاستفتاء ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ أي ويفتيكم في شأنهن ما يتلى عليكم في الكتاب مما نزل قبل هذا الاستفتاء في أحكام معاملة يتامى النساء اللاتي جرت عادتكم أن لا تعطونهن ما كتب لهن من الإرث إذا كان في أيديكم لولايتكم عليهن، وترغبون في أن تنكحوهن لدمامتهن، فلا تنكحونهن ولا تنكحونهن غيركم، ليبقى مالهم في أيديكم، وما يتلى عليكم أيضا في شأن المستضعفين من الولدان الذين لا تعطونهم حقهم من الميراث، والمراد بهذا الذي يتلى عليهم في الضعيفين المرأة واليتيم هو ما تقدم من الآيات في أول السورة من الآية الأولى، أو ما بعدها في آخر آيات الفرائض يذكرهم الله تعالى بتلك الآيات المفصلة أن يتدبروها ويتأملوا معانيها ويعملوا بها، وذلك أن من طباع البشر أن يغفلوا أو يتغافلوا عن دقائق الأحكام والعظات التي يراد بها إرجاعهم، وإذا توهموا أن شيئا منها غير قطعي وأنهم بالاستفتاء عنه ربما يفتون بما فيه التخفيف عنهم، وموافقة رغبتهم، لجأوا إلى ذلك واستفتوا، وقد أشرنا في أول تفسير الآية إلى أن معنى الإفتاء بيان دقائق الأمور وما يخفى منها.

5. وقيل أن قوله تعالى: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ معطوف على ضمير (فيهن) المجرور أي ويفتيكم أيضا فيما يتلى عليكم من الآيات التي نزلت في الأحكام التي تستفتون عنها الآن فيبين لكم أنها أحكام محكمة لا هوادة فيها فلا يحل لكم بحال من الأحوال أن تظلموا النساء وأمثالهن من المستضعفين لصغرهم.

6. ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ أي ويفتيكم أن تقوموا لليتامى من هؤلاء النساء والولدان المستضعفين بالقسط أي تعنوا عناية خاصة بتحري العدل في معاملتهم والإقساط إليهم على أتم الوجوه وأكملها، فإن هذا هو معنى القيام بالشيء ومثله إقامة الشيء كما بيناه في تفسير إقامة الصلاة، ولما كان هذا هو الواجب الذي لا هوادة فيه وكان من الكمال أن يعامل اليتيم بالفضل لا بمجرد العدل.

7. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ أي وما تفعلوه من الخير لليتامى بترجيح منفعتهم، والزيادة في قسطهم، فهو مما لا يعزب عن علمه تعالى ولا ينسى الإثابة عليه، كسائر أفعال الخير، وهذا ترغيب في الإحسان إلى اليتامى وتكميل لبيان مراتب معاملتهم وهي ثلاث:

أ. أولاها هضم شيء من حقوقهم وهي المحرمة الواجبة السفلى.

ب. الثانية: القيام لهم بالقسط والعدل التام بأن لا يظلموا من حقهم شيئا وهي الواجبة الوسطى.

ج. الثالثة الزيادة في رزقهم وإكرامهم بما ليس لهم من مال، وما لا يجب لهم من عمل، وهي المندوبة الفضلى.

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/361.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان الكلام أول السورة في الأحكام المتعلقة بالنساء واليتامى والقرابة، ومن قوله: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾ إلى هنا في أحكام عامة في أسس الدين وأصوله وأحوال أهل الكتاب والمنافقين والقتال ـ ثم عاد الكلام هنا إلى أحكام النساء لشعور الناس بالحاجة إلى زيادة البيان في تلك الأحكام، فالآيات السالفة أوجبت مراعاة حقوق الضعيفين: المرأة واليتيم وجعلت للنساء حقوقا مؤكدة في المهر والإرث، وحرمت ظلمهن، وأباحت تعدد الزوجات وحددت العدد الذي يحل منهنّ حين الخوف من عدم الظلم، ولكن ربما يحدث لهم الاشتباه في بعض الوقائع المتعلقة بها كأن يقع الاشتباه في حقيقة العدل الواجب بين النساء، هل يدخل العدل في الحب أو في لوازمه من زيادة الإقبال على المحبوبة والتبسط في الاستمتاع بها أولا، وهل يحل للرجل أن يمنع اليتيمة ما كتب الله لها من الإرث حين يرغب في نكاحها؟ وبما ذا يصالح امرأته إذا أرادت أن تفتدى منه؟ ـ كل هذا مما تشتد الحاجة إلى معرفته بعد العمل بتلك الأحكام، فمن ثم جاءت هذه الآيات مبينة أتم البيان لذلك.

2. ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾ أي يطلبون منك الفتيا في شأنهن ببيان ما غمض وأشكل من أحكامهن، من جهة حقوقهن المالية والزوجية، كالعدل في المعاملة حين العشرة، وحين الفرقة والنشوز، ﴿قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ بما يوحيه إليك من الأحكام في كتابه.

3. ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ أي ويفتيكم في شأنهن ما يتلى عليكم في الكتاب مما نزل قبل هذا الاستفتاء في أحكام معاملة يتامى النساء اللاتي قد جرت عادتكم ألا تعطوهن ما كتب لهن من الإرث إذا كان في أيديكم، لولايتكم عليهن وترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن والتمتع بأموالهن، أو عن أن تنكحوهن لدمامتهن فلا تنكحوهن ولا تنكحونهن غيركم حتى يبقى ما لهن في أيديكم، وقد كان الرجل منهم يضم اليتيمة ومالها إلى نفسه، فإن كانت جميلة تزوجها وأكل المال، وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيرثها، وما يتلى عليكم أيضا في شأن المستضعفين من الولدان الذين لا تعطونهم نصيبهم من الميراث، وقد كانوا إنما يورّثون الرجال دون الأطفال والنساء.

4. والخلاصة ـ إن الذي يتلى عليهم في الضعيفين: المرأة واليتيم هو ما تقدم في أول‏ السورة وأن الله يذكرهم بتلك الآيات المفصلة ليتدبروها ويتأملوا معانيها ثم يعملوا بها، إذ قد جرت طباع البشر أن يتغافلوا عن دقائق الأحكام والعظات التي ترجعهم عن أهوائهم وتؤنبهم على اتباع شهواتهم.

5. ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ أي يفتيكم أن تقوموا لليتامى من هؤلاء النساء والولدان المستضعفين بالقسط، بأن تهتموا بهم اهتماما خاصا وتعنوا بشأنهم ويجرى العدل في معاملتهم على أكمل الوجوه وأتمها، فإن ذلك هو الواجب الذي لا هوادة فيه، ولا خيرة في شأنه.

6. ثم رغبهم في العمل بما فيه فائدة لليتامى، وحبب إليهم النّصفة فقال: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ أي وما تفعلوه من الخير لليتامى فهو مما لا يعزب عن علمه، وهو مجازيكم به ولا يضيع عنده شيء منه.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/169.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا الدرس تكملة لما بدأت به السورة من علاج رواسب المجتمع الجاهلي، فيما يختص بالمرأة والأسرة؛ وفيما يختص بمعاملة الضعاف في المجتمع كاليتامى والأطفال، وتنقية المجتمع المسلم من هذه الرواسب؛ وإقامة البيت فيه على أساس من كرامة شطري النفس الواحدة؛ ورعاية مصالحهما معاً، وتقوية روابط الأسرة وإصلاح ما يشجر في جوها من خلاف، قبل أن يستفحل، فيؤدي إلى تقطيع هذه الروابط، وتحطيم البيوت على من فيها، وبخاصة على الذرية الضعيفة الناشئة في المحاضن.. وإقامة المجتمع كذلك على أساس من رعاية الضعاف فيه؛ كيلا يكون الأمر للأغلب؛ وتكون شريعة الغاب هي التي تتحكم!

2. وهذا الدرس يعالج بعض هذه الشئون، ويربطها بنظام الكون كله.. مما يشعر معه المخاطب بهذه الآيات، أن أمر النساء والبيوت والأسرة والضعاف في المجتمع، هو أمر خطير كبير.. وهو في حقيقته أمر خطير كبير..

3. وقد تحدثنا في ثنايا هذا الجزء، وفي مقدمات السورة في الجزء الرابع، بما فيه الكفاية عن نظرة الإسلام إلى الأسرة؛ وعن الجهد المبذول في هذا المنهج لتخليص المجتمع المسلم من رواسب الجاهلية، ومن رفع مستواه النفسي والاجتماعي والخلقي، بما يكفل تفوقه على المجتمعات كلها من حوله، وعلى كل مجتمع آخر لا يدين بهذا الدين، ولا يتربى بهذا المنهج، ولا يخضع لنظامه الفريد.

4. والآن نواجه نصوص هذا الدرس بالتفصيل: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾..

5. لقد أثارت الآيات التي نزلت في أوائل السورة عن النساء أسئلة واستفتاءات في بعض شأنهن.. وظاهرة سؤال المسلمين واستفتائهم في بعض الأحكام، ظاهرة لها دلالتها في المجتمع المسلم الناشئ؛ وفي رغبة المسلمين في معرفة أحكام دينهم في شئون حياتهم، فقد كانت الهزة التي أحدثتها النقلة من الجاهلية إلى الإسلام في نفوسهم هزة عميقة، بحيث أصبحوا يشكون ويشفقون من كل أمر كانوا يأتونه في الجاهلية، مخافة أن يكون الإسلام قد نسخه، أو عدله، ويتطلبون أن يعرفوا حكم الإسلام في كل ما يعرض لهم في حياتهم اليومية من الشئون، وهذه اليقظة وهذه الرغبة في مطابقة أحوالهم لأحكام الإسلام، هي العنصر البارز في هذه الفترة ـ على الرغم من بقاء بعض رواسب الجاهلية في حياتهم ـ فالمهم هو رغبتهم الحقيقية القوية في مطابقة أحوالهم لأحكام الإسلام؛ والاستفسار عن بعض الأحكام بهذه الروح، لا لمجرد الاستفتاء ولا لمجرد العلم والمعرفة والثقافة! كمعظم ما يوجه إلى المفتين في هذه الأيام من استفتاءات! لقد كانت بالقوم حاجة إلى معرفة أحكام دينهم، لأنها هي التي تكوّن نظام حياتهم الجديدة، وكانت بهم حرارة لهذه المعرفة، لأن الغرض منها هو إيجاد التطابق بين واقع حياتهم وأحكام دينهم، وكان بهم انخلاع‏ من الجاهلية، وإشفاق من كل ما كان فيها من تقاليد وعادات وأوضاع وأحكام، مع شدة إحساسهم بقيمة هذا التغيير الكامل الذي أنشأه الإسلام في حياتهم، أو بتعبير أدق بقيمة هذا الميلاد الجديد الذي ولدوه على يدي الإسلام.

6. وهنا نجد جزاء تطلعهم للّه، وجزاء حرارتهم، وصدق عزيمتهم على الاتباع.. نجد جزاء هذا كله عناية من الله ورعاية.. بأنه سبحانه ـ بذاته العلية ـ يتولى إفتاءهم فيما يستفتون فيه: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾.. فهم كانوا يستفتون الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والله سبحانه يتفضل فيقول للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قل: إن الله يفتيكم فيهن وفي بقية الشئون التي جاء ذكرها في الآية، وهي لفتة لها قيمتها التي لا تقدر، في عطف الله سبحانه، وتكريمه للجماعة المسلمة؛ وهو يخاطبها بذاته؛ ويرعاها بعينه؛ ويفتيها فيما تستفتي، وفيما تحتاج إليه حياتها الجديدة.

7. وقد تناولت الفتوى هنا تصوير الواقع المترسب في المجتمع المسلم من الجاهلية التي التقطه المنهج الرباني منها، كما تناولت التوجيه المطلوب، لرفع حياة المجتمع المسلم وتطهيرها من الرواسب: ﴿قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾

8. ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بقوله: ظاهر من هذه النصوص، ومن النص القرآني، ما كان عليه الحال في الجاهلية؛ فيما يختص بالفتيات اليتيمات، فقد كانت اليتيمة تلقى من وليها الطمع والغبن: الطمع في مالها، والغبن في مهرها ـ إن هو تزوجها ـ فيأكل مهرها ويأكل مالها، والغبن إن لم يتزوجها كراهية لها لأنها دميمة، ومنعها أن تتزوج حتى لا يشاركه زوجها فيما تحت يده من مالها! كذلك كان الحال في الولدان الصغار والنساء، إذ كانوا يحرمونهم من الميراث لأنهم لا يملكون القوة التي يدفعون بها عن ميراثهم؛ أو أنهم غير محاربين، فلا حق لهم في الميراث، تحت تأثير الشعور القبلي، الذي يجعل للمحاربين في القبيلة كل شيء ولا شيء للضعاف! وهذه التقاليد الشائهة البدائية، هي التي أخذ الإسلام يبدلها، وينشئ مكانها تقاليد إنسانية راقية لا تعد ـ كما قلنا ـ مجرد وثبة، أو نهضة، في المجتمع العربي، إنما هي في حقيقتها نشأة أخرى، وميلاد جديد، وحقيقة أخرى لهذه الأمة غير حقيقتها الجاهلية!

9. والمهم الذي يجب أن نسجله: هو أن هذه النشأة الجديدة، لم تكن تطوراً مسبوقاً بأية خطوات تمهيدية له؛ أو أنه انبثق من واقع مادي تغير فجأة في حياة هذا الشعب! فالنقلة من إقامة حقوق الإرث والملك على أساس حق المحارب إلى إقامتها على أساس الحق الإنساني، وإعطاء الطفل واليتيمة والمرأة حقوقهم بصفتهم الإنسانية، لا بصفتهم محاربين! هذه النقلة لم تنشأ لأن المجتمع قد انتقل إلى أوضاع مستقرة لا قيمة فيها للمحاربين، ومن ثم قضى على الحقوق المكتسبة للمحاربين، لأنه لم يعد في حاجة إلى تمييزهم! كلا! فقد كان للمحاربين في العهد الجديد قيمتهم كلها؛ وكانت الحاجة إليهم ماسة! ولكن كان هناك.. الإسلام.. كان هناك هذا الميلاد الجديد للإنسان، الميلاد الذي انبثق من خلال كتاب؛ ومن خلال منهج؛ فأقام مجتمعا جديدا وليدا، على نفس الأرض، وفي ذات الظروف، وبدون حدوث انقلاب لا في الإنتاج وأدواته! ولا في المادة وخواصها! وإنما مجرد انقلاب في التصور هو الذي انبثق منه الميلاد الجديد.

10. وحقيقة أن المنهج القرآني قد كافح، وكافح طويلا، لطمس ومحو معالم الجاهلية في النفوس والأوضاع، وتخطيط وتثبيت المعالم الإسلامية في النفوس والأوضاع.. وحقيقة كذلك أن رواسب الجاهلية ظلت تقاوم؛ وظلت تعاود الظهور في بعض الحالات الفردية؛ أو تحاول أن تعبر عن نفسها في صور شتى..

11. ولكن المهم هنا: هو أن المنهج المتنزل من السماء، والتصور الذي أنشأه هذا المنهج كذلك، هو الذي كان يكافح (الواقع المادي) ويعدله ويبدله.. ولم يكن قط أن الواقع المادي أو (النقيض) ـ تعبير المادية الجدلية، الذي تفسر به التغيرات التاريخية ـ الكامن فيه؛ أو تبدل وسائل الإنتاج.. أو شيء من هذا (الهوس الماركسي)! هو الذي اقتضى تغيير التصورات ومناهج الحياة، وأوضاعها، لتلائم هذا التبدل الذي تفرضه وسائل الإنتاج! كان هناك فقط شيء جديد واحد في حياة هذا الشعب.. شيء هبط عليه من الملأ الأعلى.. فاستجابت له نفوس، لأنه يخاطب فيها رصيد الفطرة، الذي أودعه الله فيها.. ومن ثم وقع هذا التغيير، بل تم هذا الميلاد الجديد للإنسان، الميلاد الذي تغيرت فيه ملامح الحياة كلها.. في كل جانب من جوانبها.. عن الملامح المعهودة في الجاهلية! ومهما يكن هناك من صراع قد وقع بين الملامح الجديدة والملامح القديمة، ومهما يكن هناك من آلام للمخاض وتضحيات.. فقدتم هذا كله، لأن هناك رسالة علوية؛ وتصورا اعتقاديا؛ هو الذي كان له الأثر الأول والأثر الأخير في هذا الميلاد الجديد، الذي لم تقتصر موجته على المجتمع الإسلامي؛ ولكن تعدته كذلك إلى المجتمع الإنساني كله‏، ومن ثم ينتهي هذا النص القرآني الذي يفتي فيه الله المؤمنين، فيما يستفتون فيه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في أمر النساء، ويقص عليهم حقوق اليتيمات، وحقوق الولدان الضعاف.. ينتهي بربط هذه الحقوق وهذه التوجيهات كلها، بالمصدر الذي جاء من عنده هذا المنهج: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾.. فهو غير مجهول، وهو غير ضائع.. وهو مسجل عند الله، ولن يضيع خير سجل عند الله.

12. وهذا هو المرجع الأخير الذي يعود إليه المؤمن بعمله، والجهة الوحيدة التي يتعامل معها في نيته وجهده، وقوة هذا المرجع، وسلطانه، هي التي تجعل لهذه التوجيهات ولهذا المنهج قوته وسلطانه في النفوس، وفي الأوضاع وفي الحياة، إنه ليس المهم أن تقال توجيهات؛ وأن تبتدع مناهج؛ وأن تقام أنظمة.. إنما المهم هو السلطان الذي ترتكن إليه تلك التوجيهات والمناهج والأنظمة، السلطان الذي تستمد منه قوتها ونفاذها وفاعليتها في نفوس البشر..

13. وشتان بين توجيهات ومناهج ونظم يتلقاها البشر من الله ذي الجلال والسلطان، وتوجيهات ومناهج ونظم يتلقونها من العبيد أمثالهم من البشر! ذلك على فرض تساوي هذه وتلك في كل صفة أخرى وفي كل سمة؛ وبلوغهما معا أوجا واحدا ـ وهو فرض ظاهر الاستحالة، ألا إنه ليكفي أن أشعر ممن صدرت هذه الكلمة، لأعطيها في نفسي ما تستحقه من مكان.. ولتفعل في نفسي ما تفعله كلمة الله العلي الأعلى، أو كلمة الإنسان ابن الإنسان!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/765.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الاستفتاء هو طلب الفتيا في أمر خفى على المستفتى، يريد التعرف عليه، وكثيرا ما كان صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يطلبون الرأي من النبيّ فيما يعرض لهم من أمور، وفيما يقع من أحداث.. إذ كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هو حامل الشريعة إليهم، والقائم عليها، والشارح لها.. وهنا في هذه الآية، يسأل المسلمون النبيّ في أمور تتعلق بالنساء.. من زواج، وطلاق، ومتعة، ورضاع، وغير ذلك مما يعنى الرجال من أمر النساء!

2. وقد أعطى الله سبحانه النبيّ الكريم الجواب عما يسألون عنه، فقال تعالى: ﴿قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ أي أن الله سبحانه وتعالى هو الذي سيتولى بيان ما تسألون عنه.

3. وقوله تعالى: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ هو عطف على قوله تعالى: ﴿قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ أي الله يفتيكم في النساء، ويفتيكم فيما ﴿يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾

4. ويكون معنى الإفتاء هنا، هو الإشارة إلى أن ما نزل عليهم من آيات الله في شأن اليتامى، ولم يمتثلوه امتثالا كاملا، ولم يرعوا ما وصّاهم الله به في شأنهن في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ وفي هذا إلفات لأولئك الذين لم يرعوا أمر الله في شأن هؤلاء اليتيمات اللاتي هنّ تحت أيديهم، وهو في الوقت نفسه توبيخ لهم إذ يستفتون النبيّ في شأن النساء، وبين أيديهم أمر من أمر الله في شأنهن ولم يعملوا به، وكان الأولى بهم ألا يسألوا شيئا عن النساء إلا بعد أن يمتثلوا ما أمروا به من قبل في شأنهن! وفي قوله تعالى: ﴿يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ إشارة إلى أن هؤلاء اليتيمات اللاتي‏ تحت أيدى الأوصياء عليهن، هنّ من النساء اللاتي يستفتون النبيّ فيهن، وصغرهن لا يخرجهن عن أن يكنّ من النساء.

5. وقوله تعالى: ﴿اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ هو مواجهة صريحة لأولئك الذين لا يزال الوضع السيّئ لليتيمات عندهن كما كان من قبل أن يوصى الله بهن بما أوصى في أول سورة النساء، وهو أنهم كانوا ينكحونهن من غير أن يؤدوا ما فرض الله لهن من مهر، أو يمسكونهن عند الزواج إذا لم يكن لهم فيهن رغبة، ليحتفظوا في أيديهم بالمال الذي لهن، وقد نهاهم الله سبحانه وتعالى عن هذا.

6. قوله تعالى: ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ عطف على قوله تعالى: ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ أي والله سبحانه وتعالى يفتيكم في النساء، وفيما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء وفي المستضعفين من الولدان.. وقد أوصى الله تعالى باليتامى في قوله سبحانه: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا الله وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: 9 ـ 10]، وإعادة الفتيا في المستضعفين من الولدان، وهم اليتامى ـ هو تذكير لهؤلاء الذين لم يمتثلوا بعد، ما أمر الله فيهم من الرفق بهم، والإحسان إليهم، وحسن القيام عليهم..

7. قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ هو دعوة عامة جامعة لليتامى من بنين وبنات، بعد أن ذكرهم الله تعالى ذكرا مفصلا ـ حيث ذكر يتامى النساء، ثم ذكر المستضعفين من الولدان، وهؤلاء وأولئك جميعا من اليتامى..

8. قوله تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ حثّ على فعل الخير، والإحسان عامة، وفي اليتامى خاصة.. والله سبحانه وتعالى يعلم ما نفعل من خير أو شر، ولكنه قصر العلم على الخير هنا، تنبيها إلى أن المؤمن ينبغي أن يكون فعله كله خيرا، وأنه يجب أن يعقد قلبه على فعل الخير، وأن يفعله ما استطاع، وأن يخلى قلبه من وساوس الشر، وأن يتجنبه ما استطاع، وفي التعبير عن علم الله تعالى بلفظ الماضي (كان) إشارة إلى أن علم الله لا يتعلق بوقوع الأفعال، وإنما هو علم قديم أزليّ قد أحاط سبحانه بكل شيء علما..

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/914.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ عطف تشريع على إيمان وحكمة وعظة، ولعلّ هذا الاستفتاء حدث حين نزول الآيات السابقة، فذكر حكمه عقبها معطوفا، وهذا الاستفتاء حصل من المسلمين بعد أن نزل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: 3]، وأحسن ما ورد في تفسير هذه الآية ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير أنّه سأل عائشة عن قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ قالت: يا بن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوّجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهنّ إلّا أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهن أعلى سنّتهنّ في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهنّ، وأنّ الناس استفتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد هذه الآية فأنزل الله تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾، قالت عائشة: وقول الله تعالى: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال؛ قالت: فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلّا بالقسط من أجل رغبتهم عنهنّ إذا كنّ قليلات المال والجمال، وكان الولي يرغب عن أن ينكحها ويكره أن يزوّجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها، فنزلت هذه الآية، فالمراد: ويستفتونك في أحكام النساء إذ قد علم أنّ الاستفتاء لا يتعلّق بالذوات، فهو مثل قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النساء: 23]، وأخصّ الأحكام بالنساء: أحكام ولا يتهنّ، وأحكام معاشرتهنّ، وليس المقصود هنا ميراث النساء إذ لا خطور له بالبال هنا.

2. ﴿قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ وعد باستيفاء الإجابة عن الاستفتاء، وهو ضرب من‏ تبشير السائل المتحيّر بأنّه قد وجد طلبته، وذلك مثل قولهم: على الخبير سقطت، وقوله تعالى: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: 78]، وتقديم اسم الجلالة للتنويه بشأن هذه الفتيا.

3. ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ عطف على اسم الجلالة، أي ويفتيكم فيهنّ ما يتلى عليكم في الكتاب، أي القرآن، وإسناد الإفتاء إلى ما يتلى إسناد مجازي، لأنّ ما يتلى دالّ على إفتاء الله فهو سبب فيه، فآل المعنى إلى: قل الله يفتيكم فيهنّ بما يتلى عليكم في الكتاب، والمراد بذلك بما تلي عليهم من أوّل السورة، وما سيتلى بعد ذلك، فإنّ التذكير به وتكريره إفتاء به مرّة ثانية، وما أتبع به من الأحكام إفتاء أيضا، وقد ألّمت الآية بخلاصة ما تقدّم من قوله: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَكَفَى بِالله حَسِيبًا﴾ [النساء: 2 ـ 6]، وكذلك أشارت هذه الآية إلى فقر ممّا تقدّم: بقوله هنا: ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ فأشار إلى قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا﴾ إلى قوله: ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: 3، 4]

4. لحذف حرف الجرّ بعد ﴿تَرْغَبُونَ﴾ ـ هنا ـ موقع عظيم من الإيجاز وإكثار المعنى، أي ترغبون عن نكاح بعضهنّ، وفي نكاح بعض آخر، فإنّ فعل رغب يتعدّى بحرف (عن) للشيء الذي لا يحبّ؛ وبحرف (في) للشيء المحبوب، فإذا حذف حرف الجرّ احتمل المعنيين إن لم يكن بينهما تناف، وذلك قد شمله قوله في الآية المتقدّمة ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا﴾ [النساء: 3] إلخ، وأشار بقوله هنا ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ إلى قوله هنالك‏ ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ ـ إلى ـ ﴿كَبِيرًا﴾ [النساء: 2] وإلى قوله: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ إلى قوله: ﴿مَعْرُوفًا﴾ [النساء: 5]

5. أشار بقوله: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ إلى قوله هنالك‏ ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ ـ إلى ـ ﴿حَسِيبًا﴾ [النساء: 6]، ولا شكّ أنّ ما يتلى في الكتاب هو من إفتاء الله، إلّا أنّه لمّا تقدّم على وقت الاستفتاء كان مغايرا للمقصود من قوله: ﴿الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾، فلذلك صحّ عطفه عليه عطف السبب على المسبّب، والإفتاء الأنف هو من قوله: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ ـ إلى ـ ﴿وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 128 ـ 130]

6. (في) من قوله: ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ للظرفية المجازية، أي في شأنهن، أو للتعليل، أي لأجلهنّ، ومعنى‏ ﴿كُتِبَ لَهُنَّ﴾ فرض لهنّ إمّا من أموال من يرثنهم، أو من المهور التي‏ تدفعونها لهنّ، فلا توفوهنّ مهور أمثالهنّ، والكلّ يعدّ مكتوبا لهنّ، كما دلّ عليه حديث عائشة وعلى الوجهين يجيء التقدير في قوله: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ ولك أن تجعل الاحتمالين في قوله: ﴿مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ وفي قوله: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾، مقصودين على حدّ استعمال المشترك في معنييه.

7. ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ عطف على‏ ﴿يَتَامَى النِّسَاءِ﴾، وهو تكميل وإدماج، لأنّ الاستفتاء كان في شأن النساء خاصّة، والمراد المستضعفون والمستضعفات، ولكنّ صيغة التذكير تغليب، وكذلك الولدان، وقد كانوا في الجاهلية يأكلون أموال من في حجرهم من الصغار.

8. ﴿وَأَنْ تَقُومُوا﴾ عطف على‏ ﴿يَتَامَى النِّسَاءِ﴾، أي وما يتلى عليكم في القيام لليتامى بالعدل، ومعنى القيام لهم التدبير لشئونهم، وذلك يشمل يتامى النساء.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/265.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تعرضت سورة النساء لأحكام الأسرة في أولها، وبينت أحكام المواريث، والعلاقات المحرمة للزواج، ثم أشار سبحانه إلى حق الرجل وحق المرأة في الأسرة، وتعرضت من بعد ذلك للعلاقات الاجتماعية بين الناس، وبينت أن أساسها إقامة العدالة، وتنفيذ أحكام الله تعالى ثم ذكرت أدواء الجماعات، وأساسها الاعتداء من الخارج بالحروب ومن الداخل بالنفاق، وما يتبعه من فساد خلقي وانحلال نفسى، وتعرضت من بعد ذلك لسبب الاعتداء والشرك والنفاق وهو تحكم الشيطان في النفوس، ومن بعد ذلك عاد إلى بيان العلاقة بين الزوجين وفقه علاجها، وعلاقة آحاد الأسرة، والطب لأدواء الضعف بينهم، في خلط أحكام الأسرة والعلاقات فيها، والعلاقات الاجتماعية والإنسانية العامة إشارة إلى قيام المجتمع على الأسرة وأن صلاحها صلاح له، وأنه من الأخلاق الاجتماعية الفاسدة تجى‏ء آفات الأسرة، ومن قوة العلاقات الأسرية تجى‏ء قوة المجتمع المتماسكة، فرعاية ضعفاء الأسرة توجد قوة للأمة تشترك في حماية زمارها، ومن إهمالها، تكون عناصر مقوضة لبنائها، والآيات التي نتكلم في معانيها مبينة علاج الضعفاء والعناية بهم.

2. ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ الاستفتاء معناه طلب الفتيا أو الفتوى، ومعنى الفتوى حل ما يشكل من الأمور، وإن العرب قد وقعوا في إشكال بالنسبة للمرأة، فقد كانوا في الجاهلية لا يفرضون لها حقوقا، لا تأخذ من ميراث، ولا يكون لها أي حق قبل زوجها، بل كان عليها تبعات، من غير أن تلاحظ من جانبها واجبات، فجاء الإسلام وأعطاها في مقابل واجباتها حقوقا، فقال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ [البقرة]، فكانوا في كل تصرفهم بالنسبة للمرأة تعتريهم حيرة، أينفذون دينهم وحكمهم الجاهلي أم أن للإسلام في كل أمر من هذه الأمور حكما تجب رعايته ويجب اتباعه فكثرت الأسئلة، وتعددت موضوعاتها، فمنهم من يسأل عن الميراث، ومنهم من يسأل عن الصداق، ومنهم من يسأل عن المعاملة، وجاءت الروايات فرادى ببعض الأسئلة، وكلها ينتهى إلى مجموعها، وهو حيرتهم في أمر المرأة.

3. وقد أجاب سبحانه هذا الاستفتاء بقوله تعالى: ﴿قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ أي يفتيكم الله تعالى مبينا أمرهن وما يجب لهن.

4. ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ قال كثير من المفسرين إن (ما) هنا في موضع الرفع بالعطف على لفظ الجلالة، والمعنى يفتيكم الله ويعلمكم أحكام النساء وحقوقهن، كما يعلمكم ما يتلى عليكم في كتاب الله من أحكام اليتامى من النساء اللاتى كتب لهن في كتاب الله من ميراث وحقت رعايتهن والقسط معهن عند الزواج، وإلا فليتزوج من غيرهن.

5. وقد قرر سبحانه وتعالى هنا وجوب العدل مع اليتيمة عند الرغبة في الزواج، وصرح بما أشار إليه قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ على ما فهمه بعض المفسرين من أن المراد إن خفتم ألا تقسطوا في النساء اليتامى فتزوجوهن من غير أن تعطوهن حقهن من ميراث أو صداق، وقد قال سبحانه في ذلك: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ والمعنى لا تؤتونهن ما كتب الله لهن من حقوق، وترغبون أن تنكحوهن.

6. وهناك نجد قوله تعالى: ﴿أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ مصدرا قد دخل عليه حرف جر محذوف، وهو إما (في)، و(إما) عن وعلى أن المحذوف: لا تعطونهن ما كتب الله لهن من حقوق وترغبون في نكاحهن لأنفسكم، فلا تعطوهن ميراثا ولا صداقا، وعلى أن المحذوف (عن) يكون المعنى لا تعطونهن ميراثهم، وتمنعونهن من النكاح، وترغبون عنه لكى يبقى المال تحت أيديكم.

7. ويظهر أن الذين كانوا يقدمون على شأن يتامى النساء فريقان، فريق يأكل مالها ولا يعطيها صداقها، ويرغب في نكاحها لجمالها، وفريق يستبد بمالها، ويرغب عن زواجها من نفسه أو من غيره حرصا على مالها، والآية تشمل الفريقين وتندد بالطائفتين، ولقد روى أن عمر بن الخطاب كان إذا جاءه ولى اليتيمة، فإن كانت حسنة غنية قال عمر: زوجها غيرك والتمس لها من هو خير منك، وإذا كانت بها دمامة، ولا مال لها، قال له: تزوجها، فأنت أحق بها، وقد قال على بن أبى طالب لولى يتيمة: تزوجها إن كنت خيرا لها، فإن كان غيرك خيرا لها فألحقها بالخير.

8. ولم تكن رعاية الله تعالى في أحكامه خاصة بيتامى النساء، بل إنها تعم المستضعفين وسائر اليتامى، ولذا قال سبحانه: ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ وصيتان بنوع واحد من الضعفاء في الأسر وهم اليتامى، بيد أن إحداهما مؤداها إعطاؤهم حقهم من المال، والثانية القيام على رعايتهم، وحفظهم من الضياع، وواضح أن الثانية عامة تشمل اليتيم الذى ترك له أبوه مالا، أو نال مالا من أية ناحية من النواحي الأولى تكون لذوى المال.

9. وبالنسبة لهذه الوصية القرآنية الإلهية نقول: إن العرب كان من عاداتهم ألا يرث إلا من يستطيع حمل السلاح ويغزو ويغنم ويستنصر به، ولذلك ما كانوا يورثون النساء، ولا الصغار الضعاف؛ لأنهم لا يقومون بذلك: والله سبحانه وتعالى وزع الميراث توزيعا عادلا لم يفرق بين قوى وضعيف بل كانت رعايته للضعيف أشد، ولذلك أعطى الذرية أكثر مما أعطى الأبوين؛ لأن الذرية الضعاف أحوج إلى المال، وهو لهم ألزم، ولذلك قال تعالى في وصيته: ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ أي الذين هم في حال يستضعفهم غيرهم ولا يعطيهم حقوقهم، وهم ضعفاء في ذات أنفسهم، أي أنه لا بد أن يعطوا ميراثهم كاملا غير منقوص، وعبر عن هؤلاء بقوله سبحانه: ﴿مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ ولم يعبر عنهم بيتامى، مع أنهم يتامى، للإشارة إلى ما يربطهم بالمتوفى، وهو كونهم أولاده، وهذا قدر يشتركون فيه مع الكبار، فالسبب في الميراث هو الولاء، وهم جميعا يشتركون فيه، وإذا اشتركوا في السبب وجب أن يشتركوا في المسبب وهو الميراث، ولا فرق في ذلك بين كبير وصغير.

10. والوصية الأخرى، وهي القيام على شئون اليتيم برعايته وكفالته، وإصلاح حاله، وتعهده بالعطف والمحبة والإكرام، وقد تكرر في القرآن الكريم الأمر برعاية اليتيم، وتكرر في قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الأمر برعايته والتوصية به، ففي القرآن الكريم نجد كثيرا من ذلك مثل قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ [الضحى‏]، وفي السنة مثل قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا..) وضم إصبعيه‏ الكريمتين صلّى الله عليه وآله وسلّم وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خير بيت من بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم، وشر بيت من بيوت المسلمين بيت يقهر فيه يتيم)، ونجد النص الكريم يقول: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾، وهذا التعبير فيه ثلاث إشارات بيانية:

أ. أولاها: التعبير بالقيام، فإن مؤداه أن ينهض الولي على القاصر بعناية واهتمام لرعاية حاله، وكون الخطاب للجميع لا لخصوص الأوصياء يدل على الوجوب على الأمة بشأن يتاماها، أو رعايتهم فرض كفاية فهو على الأمة مجتمعة.

ب. ثانيها: التعبير باللام في قوله تعالى: (لليتامى) أي أن يكون القيام والنهوض لمصلحة اليتامى الحقيقية، من حيث التربية والتهذيب، والمحبة من غير تدليل مضعف لقوة النفس والعزيمة والإرادة القوية.

ج. ثالثها: أن يكون ملاحظا في ذلك القسط والعدل، بألا ينقص من ماله شيء ولا يترك هملا إذا لم يكن له مال، فإذا كانت العدالة المالية توجب ألا ينقص من ماله، فالعدالة الاجتماعية توجب أن تسد خلته وضعفه.

11. وكانت عناية الإسلام باليتامى؛ لأنهم قوة للأمة إن صلحوا، وقوة مدمرة في الأمة إن لم يصلحوا، إذ إنهم لو قهروا ينشئون وبينهم وبين الناس عداوات مستمرة، ونفور يدفعهم إلى أن يكونوا مدمرين في الجماعة وعنصر تخريب، فإن أكثر الخارجين على الجماعة تبتدئ عقدهم النفسية في طفولتهم بالجفوة معهم، وحرمانهم من المودة والرحمة، ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾، أي خير تفعلونه، ويكون نافعا لجماعتكم، مصلحا بينكم، فإن الله سبحانه وتعالى يكون عليما به علما دقيقا، لا تخفى عنه فيه خافية، في ذكر هذا النص الكريم بعد الوصايا السابقة إشارة إلى أن هذه الوصايا تنفيذها خير محض، ونفعها لا شك فيه ولا ريب، نفعه لمن يفعله لأن عاقبته حسنى له، وخير للجماعة لأنه يقدم للمجتمع عناصر قوية بانية، وخير للضعفاء في أنفسهم، وهو خير عند الله يحتسب به الجزاء الأوفى عنده.

12. وإن فعل الخير يعلمه من يستطيع الجزاء علما محيطا دقيقا، فإذا علمه جازى به خير الجزاء، وقد أكد سبحانه علمه الذى يرتب عليه خير الجزاء بثلاثة مؤكدات:

أ. أولها: التعبير بإن.

ب. ثانيها: نسبة العلم إلى الله جل جلاله، فهو علم يليق بذاته، وبقدرته وإرادته.

ج. ثالثها: صيغة المبالغة بوصفه بـ (عليم) ثم بلفظ الكينونة وهو كان، فإنه يقتضى استمرار العلم ودوامه، فعلى الذين يقومون على شئون اليتامى أن يعلموا أنهم في رقابة مستمرة من الله تعالى ذي الجلال والإكرام ويعلمون أنه مجاز على مقدار ما يعلم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1877.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر سبحانه في أول هذه السورة طرفا من أحكام المرأة واليتيم، وعقبه بذكر أهل الكتاب والمنافقين والقتال، ثم عاد إلى المرأة واليتيم، وذكر بعض أحكامها كتكملة لما افتتح به السورة من أحكام الأسرة.. وهذه هي طريقة القرآن ينتقل من شأن إلى شأن، ثم يعود إلى الأول بقصد التأثير في القلوب، وغيره مما تستدعيه الحكمة والرفق بالعباد.

2. ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾، أي يطلبون منك يا رسول الله ان تبين لهم أحكام النساء في الإرث والزواج ونحوه، ﴿قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ ويدل هذا على أن تشريع الأحكام لله وحده، وليس للنبي منها الا التبليغ، وثبت انه كان يسأل عما لم ينزل به وحي فلا يجيب، حتى ينزل عليه، ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾، أي ان الله يفتيكم في أمر النساء، وأيضا القرآن يفتيكم في أمرهن.

3. سؤال وإشكال: ان إفتاء القرآن هو إفتاء الله بالذات، فعطف أحدهما على الآخر عطف للشيء على نفسه؟ والجواب: المراد بافتاء القرآن هنا ما تقدم بيانه بأول السورة، وهو قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾

4. ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ﴾، والمراد بافتاء الله سبحانه ما بيّنه هنا مكملا لما سبق، وبديهة ان العطف يصح مع وجود الفارق بجهة من الجهات، كاختلاف زمان الشيء الواحد أو مكانه.

5. ﴿اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾، أي ان الله والقرآن يبينان لكم حكم النساء اللاتي منعتموهن مما فرض لهن من الإرث والصداق.. فلقد كان عرب الجاهلية يظلمون المرأة ويعاملونها معاملة السلع والحيوانات، ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾، كان الرجل منهم يضم اليتيمة إلى نفسه، فان كانت جميلة نكحها وأكل مالها، وان كانت دميمة منعها عن الزواج، حتى تموت وأخذ مالها..

6. وربما سبّب لها الموت لهذه الغاية، ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾، أي ويفتيكم أيضا في شأن الصبيان الصغار الذين لا تعطونهم نصيبهم من الميراث، وكانوا لا يورثون الا من يحمل السلاح، فنهى سبحانه عن ذلك، وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا تأكيد لما سبق بيانه في أول السورة، ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾، أي ويفتيكم أيضا أن تقوموا لليتامى بالعدل في أنفسهم وأموالهم، وان تعطوا كل واحد منهم حقه كاملا أنثى كان، أو ذكرا، صغيرا، أو كبيرا، ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ ـ مع اليتامى والنساء ـ ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ يثيبكم عليه.

7. خلاصة معنى هذه الآية ان المسلمين طلبوا من النبي أن يبين لهم أحكام النساء، فقال سبحانه لنبيه: قل لهم: ان الله قد بيّن لكم فيما سبق طرفا من هذه الأحكام، وهو الآن يبين لكم طرفا آخر منها.. والمهم أن تعدلوا وتعملوا بها، ثم بيّن سبحانه في الآية التالية حكم المرأة التي خافت النشوز والإعراض من زوجها.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/450.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الكلام معطوف إلى ما في أول السورة من الآيات النازلة في أمر النساء من آيات الازدواج والتحريم والإرث وغير ذلك، الذي يفيده السياق أن هذه الآيات إنما نزلت بعد تلك الآيات، وأن الناس كلموا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أمر النساء حيثما نزلت آيات أول السورة فأحيت ما أماته الناس من حقوق النساء في الأموال والمعاشرات وغير ذلك، فأمره الله سبحانه أن يجيبهم أن الذي قرره لهن على الرجال من الأحكام إنما هو فتيا إلهية ليس له في ذلك من الأمر شيء ولا ذاك وحده بل ما يتلى عليهم في الكتاب في يتامى النساء أيضا حكم إلهي ليس لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه شيء من الأمر، ولا ذاك وحده بل الله يأمرهم أن يقوموا في اليتامى بالقسط، ثم ذكر شيئا من أحكام الاختلاف بين المرأة وبعلها يعم به البلوى.

2. ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ قال الراغب: (الفتيا والفتوى‏ الجواب عما يشكل من الأحكام، ويقال: استفتيته فأفتاني بكذا)، والمحصل من موارد استعماله أنه جواب الإنسان عن الأمور المشكلة بما يراه باجتهاد من نظره أو هو نفس ما يراه فيما يشكل بحسب النظر البدائي الساذج كما يفيده نسبة الفتوى إليه تعالى.

3. والآية وإن احتملت معاني شتى مختلفة بالنظر إلى ما ذكروه من مختلف الوجوه في تركيب ما يتلوها من قوله: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ إلا أن ضم الآية إلى الآيات الناظرة في أمر النساء في أول السورة يشهد بأن هذه الآية إنما نزلت بعد تلك، ولازم ذلك أن يكون استفتاؤهم في النساء في عامة ما أحدثه الإسلام وأبدعه من أحكامهن مما لم يكن معهودا معروفا عندهم في الجاهلية وليس إلا ما يتعلق بحقوق النساء في الإرث والازدواج دون أحكام يتاماهن وغير ذلك مما يختص بطائفة منهن دون جميعهن فإن هذا المعنى إنما يتكفله قوله: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ فالاستفتاء إنما كان في ما يعم النساء بما هن نساء من أحكام الإرث.

4. وعلى هذا فالمراد بما أفتاه الله فيهن في قوله: ﴿قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ ما بينه تعالى‏ في آيات أول السورة، ويفيد الكلام حينئذ إرجاع أمر الفتوى إلى الله سبحانه وصرفه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمعنى: يسألونك أن تفتيهم في أمرهن قل: الفتوى إلى الله وقد أفتاكم فيهن بما أفتى فيما أنزل من آيات أول السورة.

5. ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ إلى قوله: ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ تقدم أن ظاهر السياق أن حكم يتامى النساء والمستضعفين من الولدان أنما تعرض له لاتصاله بحكم النساء كما وقع في آيات صدر السورة لا لكونه داخلا فيما استفتوا عنه وإنهم إنما استفتوا في النساء فحسب، ولازمه أن يكون قوله: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ معطوفا على الضمير المجرور في قوله: ﴿فِيهِنَّ﴾ على ما جوزه الفراء وإن منع عنه جمهور النحاة، وعلى هذا يكون المراد من قوله‏ ﴿ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ﴾ الأحكام والمعاني التي تتضمنها الآيات النازلة في يتامى النساء والولدان، المودعة في أول السورة، والتلاوة كما يطلق على اللفظ يطلق على المعنى إذا كان تحت اللفظ، والمعنى: قل الله يفتيكم في الأحكام التي تتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء.

6. ربما يظهر من بعضهم أنه يعطف قوله: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ على موضع قوله: ﴿فِيهِنَّ﴾ بعناية أن المراد بالإفتاء هو التبيين، والمعنى: قل الله يبين لكم ما يتلى عليكم في الكتاب، وربما ذكروا للكلام تراكيب أخر لا تخلو عن تعسف لا يرتكب في كلامه تعالى مثله كقول بعضهم: إن قوله: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ معطوف على موضع اسم الجلالة في قوله: ﴿قُلِ الله﴾ أو على ضمير المستكن في قوله: ﴿يُفْتِيكُمْ﴾ وقول بعضهم: إنه معطوف على‏ ﴿النِّسَاءَ﴾ في قوله: ﴿فِي النِّسَاءِ﴾ وقول بعضهم: إن الواو في قوله: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ للاستيناف، والجملة مستأنفة، و﴿مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ مبتدأ خبره قوله: ﴿فِي الْكِتَابِ﴾ والكلام مسوق للتعظيم، وقول بعضهم إن الواو في قوله: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ للقسم ويكون قوله: ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ بدلا من قوله: ﴿فِيهِنَّ﴾ والمعنى: قل الله يفتيكم ـ أقسم بما يتلى عليكم في الكتاب ـ في يتامى النساء ولا يخفى ما في جميع هذه الوجوه من التعسف الظاهر.

7. وأما قوله: ﴿اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ فوصف ليتامى‏ النساء، وفيه إشارة إلى نوع حرمانهن، الذي هو السبب لتشريع ما شرع الله تعالى لهن من الأحكام فألغى السنة الجائرة الجارية عليهن، ورفع الحرج بذلك عنهن، وذلك أنهم كانوا يأخذون إليهم يتامى النساء وأموالهن فإن كانت ذات جمال وحسن تزوجوا بها فاستمتعوا من جمالها ومالها، وإن كانت شوهاء دميمة لم يتزوجوا بها وعضلوها عن التزوج بالغير طمعا في مالها، ومن هنا يظهر:

أ. أولا: أن المراد بقوله: ﴿مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ هو الكتابة التكوينية وهو التقدير الإلهي فإن الصنع والإيجاد هو الذي يخد للإنسان سبيل الحياة فيعين له أن يتزوج إذا بلغ مبلغه، وأن يتصرف حرا في ماله من المال والقنية، فمنعه من الازدواج والتصرف في مال نفسه منع له مما كتب الله له في خلقه هذه الخلقة.

ب. وثانيا: أن الجار المحذوف في قوله: ﴿أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ هو لفظة (عن) والمراد الراغبة عن نكاحهن، والإعراض عنهن لا الرغبة في نكاحهن فإن التعرض لذكر الرغبة عنهن هو الأنسب للإشارة إلى حرمانهن على ما يدل عليه قوله قبله‏ ﴿لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾، وقوله بعده‏ ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾

8. أما قوله: ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ فمعطوف على قوله: ﴿يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ وقد كانوا يستضعفون الولدان من اليتامى، ويحرمونهم من الإرث معتذرين بأنهم لا يركبون الخيل، ولا يدفعون عن الحريم.

9. ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ معطوف على محل قوله: ﴿فِيهِنَّ﴾ والمعنى: قل الله يفتيكم أن تقوموا لليتامى بالقسط، وهذا بمنزلة الإضراب عن الحكم الخاص إلى ما هو أعم منه أعني الانتقال من حكم بعض يتامى النساء والولدان إلى حكم مطلق اليتيم في ماله وغير ماله.

10. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ تذكرة لهم بأن ما عزم الله عليهم في النساء وفي اليتامى من الأحكام فيه خيرهم، وأن الله عليم به لتكون ترغيبا لهم في العمل به لأن خيرهم فيه، وتحذيرا عن مخالفته لأن الله عليم بما يعملون.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/99.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ فقد أفتى سبحانه بحكم النساء في الميراث والزواج في هذه السورة الكريمة وفي (سورة البقرة) و(سورة الطلاق) وغيرها.

2. ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ ويفتيكم ما يتلى عليكم من الفتوى ﴿فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ من الحقوق كالمهر والنفقة إذا تزوجتموهن وكالميراث ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ لعدم الرغبة فيهن، فتقدم فيهن من الفتوى قولُهُ تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ أي فاتركوا نكاح اليتامى للرغبة في مالهن، وانكحوا غيرهن من النساء ما طاب لكم منهن، ونزل من الفتوى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ ونزل: ﴿لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ الآية، فهذه الآية تأمر بالرجوع إلى ما سبق لأنها إحالة للمستفتي على ما مر، وتبين أن المراد في أول السورة في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا﴾ هو حكم اليتامى المذكورات هنا.

3. ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ أي وفي المستضْعَفين من الولدان: أي ما يتلى عليكم فيهم، أو يفتيكم فيهم ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ﴾.

4. ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ أي يفتيكم أن تقوموا لليتامى بالقسط أو ما يتلى عليكم أن تقوموا لليتامى بالقسط، وذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى﴾ وغيرها.

5. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ فهو يجزيكم به لا يفوت منه شيء وهو عام في كل خير، ويدخل فيه فعل الخير للنساء اليتامى أو عموماً، والمستضعفين من الولدان واليتامى عموماً.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/180.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كانت النساء كمّية مهملة في حساب أهل الجاهلية في الميراث وفي‏ غيره، لأنهن لا يشاركن في تنمية المال أو تحصيله، ولا يدافعن عن العشيرة.. وجاء الإسلام بقانون الإرث وغيره من القوانين المتعلقة بحقوقهن، مما تعرضت له هذه السورة في أوائلها وغيرها، كما في سورة البقرة وأمثالها؛ وقد تكون هذه الآية سابقة على تلك الآيات، فتكون بمثابة دعوة واستفتاء لم يبيّنه الله فيها؛ وربما كانت متأخرة عنها، فتكون سؤالا عن الموضوع بعد أن ثار الجدل حوله، لاختلافه مع ما اعتادوه من عاداتهم وشرائعهم؛ فجاءت هذه الآية لتؤكد تلك الأحكام، باعتبار أن الفتيا فيها من الله سبحانه، وكلا الوجهين محتملان، وإن كان الوجه الأول أقرب إلى مضمون كلمة الاستفتاء، التي تعني الفتيا في أمر لم يسبق لهم معرفة حكمه؛ ولكن بعض الروايات الواردة في التفاسير قد ترجّح الوجه الثاني؛ فقد ورد في تفسير الميزان حديث مرفوع إلى سعيد بن جبير قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي بلغ أن يقوم بالمال ويعمل فيه، لا يرث الصغير ولا المرأة شيئا، فلما نزلت المواريث في سورة النساء، شق ذلك على الناس وقالوا: أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال، والمرأة التي هي كذلك، فيرثان كما يرث الرجل؟ فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء، فانتظروا، فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا: لئن تمّ هذا، إنه لواجب ما عنه بدّ، ثم قالوا: سلوا، فسألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنزل الله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ ـ في أول السورة ـ ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾

2. ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ ربما كانت هذه الفقرة معطوفة على الضمير في كلمة ﴿فِيهِنَّ﴾، باعتبار أن الفتيا شاملة لما سألوا عنه ولما لم يسألوا عنه فيما يتعلق بالفئات التي قد يحتاج الناس إلى معرفة حكمها من‏ جهة حالة الضعف التي تغري الناس بالاعتداء وبمنعهم من حقوقهم المفروضة لبعض الاعتبارات غير الإنسانية.. وعلى هذا، فإن المراد مما جاء في قوله: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ هو ما تقدم الحديث عنه في أول هذه السورة في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: 3]، وفي الآيات الأخرى المتعرضة لبعض ذلك..

3. ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ من فريضة الإرث ومن التصرف في مالهنّ، فمنع الله من ذلك، فلم يجعل لأحد أية سلطة عليهن من هذه الجهة، كما جعل الحرية لهن في الزواج وفي الرفض، بعيدا عن أي ضغط، وقد ذكر صاحب تفسير الميزان (أن المراد بقوله: ﴿مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ هو الكتابة التكوينية وهو التقدير الإلهي، فإن الصنع والإيجاد هو الذي يخدّ للإنسان سبيل الحياة، فيعيّن له أن يتزوج إذا بلغ مبلغه، وأن يتصرف حرّا فيما له من المال والقنية، فمنعه من الازدواج والتصرف في نفسه منع له مما كتب الله له في خلقه هذه الخلقة)، ولكن ذلك غير ظاهر من الآية، لا سيّما أن المسألة واردة في مقام بيان الجانب التشريعي من الموضوع الذي قد يكون قرينة على أن المراد من‏ ﴿مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾، الكتابة التشريعية، بمعنى الفرائض التي فرضها الله لهن؛ والله العالم، ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾، ربما قدر بعض المفسرين ـ كما عن صاحب الميزان ـ كلمة (عن)، بأن يكون المراد منها الرغبة عن نكاحهن والإعراض عنهن‏؛ فإن التعرض لذكر الرغبة عنهن هو الأنسب للإشارة إلى حرمانهن على ما يدل عليه قوله قبله: ﴿لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾، وقوله: ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾.. ولكننا نتحفظ في ذلك، لأن من الممكن أن يكون المراد منها الرغبة في النكاح، مع حرمانهن من حقهن من التصرف في مالهنّ الموروث أو التعسف في فرض الإرادة عليهن، من دون أن يكون لهن أيّ دور في الاختيار، فإن الآية مطلقة من هذه الجهة؛ والله العالم.

4. ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ الذين كانوا يمنعونهم من أموالهم التي ورثوها، لأنهم لا يقدمون للعشيرة أيّة قوّة دفاعية، ولا يمنحونها أي كسب مالي بسبب ضعفهم.. ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ ذكورا كانوا أو إناثا، لأن الله أراد العدل للضعيف الذي هو أشدّ حاجة إليه من القويّ فهو السبيل الوحيد للحصول على حقه، بينما يملك القوي وسائل أخرى للوصول إلى ذلك.

5. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ وهذا إيحاء بأن التشريعات الإلهية كانت من أجل خير الإنسان، وأن الله أراد له أن يلتمس طرق الخير ليسير عليها، ويحصل على ثوابه من الله الذي يعلم كل شيء ليجزي الإنسان على كل خير.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/484.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تجيب هذه الآية الكريمة على أسئلة وردت حول النساء من قبل المسلمين (وبالأخص حول اليتامى منهنّ) فتخاطب النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتبيّن له أنّ الله هو الذي يفتي في الأسئلة التي وجهت إليك يا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم حول الأحكام الخاصّة بحقوق النساء، فتقول: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ﴾

2. وتضيف الآية إنّ ما ورد في القرآن الكريم حول الفتيات اليتامى اللواتي كنتم تتصرفون في أموالهنّ، ولم تكونوا لتتزوجوا بهنّ، ولم تدفعوا أموالهنّ إليهنّ لكي يتزوجن من آخرين، فإنّه يجيب على قسم آخر من اسئلتكم ويبيّن لكم قبح ما كنتم تعلمون من ظلم بحق هؤلاء النسوة، ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾

3. ثمّ توصي الآية الكريمة بالأولاد الذكور الصغار الذين كانوا يحرمون من الإرث وفق التقاليد الجاهلية، فتؤكد ضرورة رعاية حقوقهم، حيث تقول: ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾، كما تعود الآية فتكرر التأكيد على حقوق اليتامى، فتذكر أن الله يوصيكم في أن تراعوا العدالة في تعاملكم مع اليتامى: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾

4. وفي الختام تجلب الآية الانتباه إلى أن أي عمل خير يصدر منكم وبالأخص إذا كان في حق اليتامى والمستضعفين ـ فإنّه لا يخفى على الله ـ وإنّكم ستنالون أجر ذلك في النهاية، حيث تقول الآية: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾

5. هذا ويجب الالتفات إلى أنّ عبارة ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ مشتقة من المصدر (فتوى) أو (فتيا) ومعناها الإجابة على كل سؤال معضل، ولما كانت هذه الكلمة تعود في الأصل إلى كلمة (فتى) أي الشاب اليافع، فمن الممكن أن الفتوى كانت تستخدم للتعبير عن الإجابة على الأسئلة المستحدثة، وبعد ذلك أصبحت تطلق بصورة شاملة على كل أنواع الأجوبة الخاصّة بالمسائل المنتخبة.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/472.

112. النشوز والصلح

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈112⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: 128]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار::

1. روي أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: هو الرجل عنده امرأتان، فتكون إحداهما قد عجزت، أو تكون دميمة، فيريد فراقها، فتصالحه على أن يكون عندها ليلة، وعند الأخرى ليالي، ولا يفارقها، فما طابت به نفسه فلا بأس به، فإن رجعت سوى بينهما(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾، أحضرت المرأة الشح على زوجها من نفسه وماله(2).

__________

(1) الطيالسي ـ كما في تفسير ابن كثير ٢/٣٨٠.

(2) ابن أبي حاتم ٤/١٠٨٢.

عائشة:

روي عن عائشة (ت 57 هـ) أنّها قالت: نزلت هذه الآية: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ في رجل كانت تحته امرأة، قد طالت صحبتها، ولدت منه أولادا، فأراد أن يستبدل بها، فراضته على أن يقيم عندها ولا يقيم لها(1).

__________

(1) ابن ماجه ٣/١٤٥.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: هي المرأة تكون عند الرجل حتى تكبر، فيريد أن يتزوج عليها، فيتصالحان بينهما صلحا على أن لها يوما، ولهذه يومان أو ثلاثة(1).

2. روي أنّه قال: تلك المرأة تكون عند الرجل لا يرى منها كثيرا مما يحب، وله امرأة غيرها أحب إليه منها، فيؤثرها عليها، فأمر الله إذا كان ذلك أن يقول لها: يا هذه، إن شئت أن تقيمي على ما ترين من الأثرة فأواسيك وأنفق عليك فأقيمي، وإن كرهت خليت سبيلك، فإن هي رضيت أن تقيم بعد أن يخبرها فلا جناح عليه، وهو قوله: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾، يعني: أن تخيير الزوج لها بين الإقامة والفراق خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾، تشح عند الصلح على نصيبها من زوجها(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾، هواه في الشيء يحرص عليه(4).

__________

(1) ابن جرير ٧/٥٥٠.

(2) ابن جرير ٧/٥٥٣.

(3) ابن جرير ٧/٥٦١ مختصرًا، وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر.

(4) ابن جرير ٧/٥٦٤.

المسيب:

روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج، فكره منها أمرا، إما كبرا أو غيره، فأراد طلاقها، فقالت: لا تطلقني، واقسم لي ما بدا لك، فاصطلحا على صلح، فجرت السنة بذلك، ونزل القرآن: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا﴾ الآية(1).

2. روي أنّه قال: إن رافع بن خديج كانت تحته امرأة قد خلا من سنها، فتزوج عليها شابة، فآثرها عليها، فأبت الأولى أن تقر، فطلقها تطليقة، حتى إذا بقي من أجلها يسير قال: إن شئت راجعتك وصبرت على الأثرة، وإن شئت تركتك، قالت: بل راجعني، فراجعها، فلم تصبر على الأثرة، فطلقها أخرى، وآثر عليها الشابة، فذلك الصلح الذي بلغنا أن الله أنزل فيه: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ الآية(2).

3. روي أنّه قال: إن السنة في هاتين الآيتين اللتين ذكر الله فيهما نشوز المرء، وإعراضه عن امرأته، في قوله: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ إلى تمام الآيتين؛ أن المرء إذا نشز عن امرأته، وآثر عليها، فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها، أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القسم من ماله ونفسه، فإن استقرت عنده على ذلك، وكرهت أن يطلقها، فلا حرج عليه فيما آثر عليها من ذلك، فإن لم يعرض عليها الطلاق، وصالحها على أن يعطيها من ماله ما ترضاه وتقر عنده على الأثرة في القسم من ماله ونفسه صلح له ذلك، وجاز صلحها عليه، كذلك ذكر سعيد بن المسيب وسليمان الصلح الذي قال الله عز وجل: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾.. وقد ذكر لي: أن رافع بن خديج الأنصاري ـ وكان من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كانت عنده امرأة، حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة، وآثر عليها الشابة، فناشدته الطلاق، فطلقها تطليقة، ثم أمهلها، حتى إذا كادت تحل راجعها، ثم عاد فآثر الشابة عليها، فناشدته الطلاق، فطلقها تطليقة أخرى، ثم أمهلها، حتى إذا كادت تحل راجعها، ثم عاد فآثر الشابة عليها، فناشدته الطلاق، فقال لها: ما شئت، إنما بقيت لك تطليقة واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة، وإن شئت فارقتك، فقالت: لا، بل أستقر على الأثرة، فأمسكها على ذلك، فكان ذلك صلحهما، ولم ير رافع عليه إثما حين رضيت أن تستقر عنده على الأثرة فيما أثر به عليها(3).

__________

(1) الشافعي كما في المسند ٣/٨٣.

(2) الحاكم ٢/٣٣٨.

(3) البيهقي في سننه ٧/٢٩٦.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾، في الأيام، والنفقة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾، المرأة تشح على مال زوجها، ونفسه(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٨٢.

(2) ابن جرير ٧/٥٦٣.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾، ألزمت(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٨١.

العوفي:

روي عن عطية العوفي (ت 112 هـ) أنّه قال: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾، في الجماع(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٤/١٠٨٢.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه سئل عن النهارية يشترط عليها عند عقد النكاح أن يأتيها ما شاء نهارا أو من كل جمعة أو شهر يوما، ومن النفقة كذا وكذا، قال: فليس ذلك الشرط بشيء، من تزوج امرأة فلها ما للمرأة من النفقة والقسمة، ولكنه إن تزوج امرأة خافت فيه نشوزا، أو خافت أن يتزوج عليها فصالحت من حقها على شيء من قسمتها أو بعضها، فإن ذلك جائز، لا بأس به(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/278.

عطاء:

روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: قال: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾، في النفقة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾، في الأيام(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾، في الأيام، والنفقة(3).

__________

(1) ابن أبي شيبة في مصنفه ٩/٤١٥.

(2) ابن جرير ٧/٥٦٢.

(3) عبد الرزاق في مصنفه ٦/٢٣٧.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ فقال: هي المرأة تكون عند الرجل فيكرهها، فيقول لها: إني أريد أن أطلقك، فتقول له: لا تفعل، إني أكره أن يشمت بي، ولكن انظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت، وما كان سوى ذلك من شيء فهو لك، ودعني على حالتي، فهو قوله تبارك وتعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا﴾ وهذا هو الصلح(1).

2. روي أنّه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ فقال: هذا تكون عنده المرأة لا تعجبه فيريد طلاقها، فتقول له: أمسكني ولا تطلقني وأدع لك ما على ظهرك، وأعطيك من مالي، وأحللك من يومي وليلتي، فقد طاب له ذلك كله(1).

3. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ فقال: إذا كان كذلك فهم بطلاقها، قالت له: أمسكني وأدع لك بعض ما عليك، وأحللك من يومي وليلتي، كل ذلك له، فلا جناح عليهما(2).

__________

(1) الكافي 6/145.

(2) تفسير العيّاشي 1/278.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا﴾ الفعل فلا تفارقها، ﴿وَتَتَّقُوا﴾ الميل والجور؛ ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ في أمرهن من الإحسان والجور(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٤١٢.

الكاظم:

روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنّه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ فقال: (إذا كان كذلك فهم بطلاقها، قالت له: أمسكني وأدع لك بعض ما عليك، وأحللك من يومي وليلتي، حل له ذلك، ولا جناح عليهما(1).

__________

(1) الكافي 6/145.

الرضا:

روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ نشوز الرجل يهم بطلاق امرأته، فتقول له: أدع ما على ظهرك، وأعطيك كذا وكذا، وأحللك من يومي وليلتي على ما اصطلحا، فهو جائز(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/278.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله عز وجل: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا﴾:

أ. قيل: خافت، أي: علمت من بعلها نشوزا.

ب. وقيل: الخوف ـ هاهنا ـ خوف لا غير.

2. فمن قال بالخوف فهو حمل على أن يظهر لها منه جفاء؛ يجفوها لدمامتها أو لكبرها، ويسيء صحبتها؛ لترضى بالفراق عنه؛ ليتزوج غيرها، وهو الخوف حقيقة، وهكذا روي عن ابن عَبَّاسٍ أنه قال إنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ خشيت أن يطلقها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فجعلت يومها لعائشة فأنزل الله ـ تعالى: ﴿وَإِن امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ الآية، ثم قال فهذا الصلح الذي أمر الله، فجعل الخوف ـ هاهنا ـ خشية، وعن عائشة أنها قالت: هي المرأة تكون عند الرجل دميمة، ولا يحبها زوجها؛ فتقول: لا تطلقني، وأنت في حِلٍّ من شأني، وقيل: ﴿خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا﴾ أي: علمت، والعلم هو أن يكون للرجل امرأتان: إحداهما كبيرة أو دميمة، والأخرى شابة، يميل قلبه إلى الشابة منهما، ويكره صحبة الكبيرة منهما، ويستثقل المقام معها، وأراد فراقها؛ فتقول: لا تفارقني، واجعل أيامي لضرتي، أو يصالحها على أن يكون عند الشابة أكثر من عند الكبيرة، وهو ما روي عن عائشة أنها قالت: هي المرأة تكون عند الرجل دميمة، ولا يحبها أزوجها؛ فتقول: لا تطلقني، وأنت في حِلٍّ من شأني، فالخوف هو ما يظهر لها من نشوزه قبل تزوج أخرى ـ بأعلام، والعلم هو ما يظهر من ترك مضاجعته إياها، وسوء صحبته معها.

3. على هذين الوجهين رُوي عن الصحابة عن بعضهم: يكون عند الرجل امرأتان: إحداهما كبيرة، والأخرى شابة؛ فيؤثر الشابة على الكبيرة؛ فيجري بينهما صلح على أن يمسكها ولا يفارقها على الرضا منها بإبطال حقها أو بدونه، وهو ما روينا من خبر ابن عَبَّاسٍ أن سودة جعلت أيامها لعائشة خشية أن يفارقها، وكذلك رُوي عن عمر، وروي عن علي أنه أتاه رجل يستفتيه في امرأة خافت من بعلها نشوزًا؛ قال هي المرأة تكون عند الرجل؛ فتنبو عيناه من دمامتها أو كبرها، أو فقرها، أو سوء خلقها؛ فيكون فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئًا حل له، وإن جعلت من أيامها شيئًا لغيرها فلا حرج.

4. دلت هذه الأحاديث التي ذكرنا على أن الرجل إذا كان له نسوة أن يسوي بينهن، فيقيم عند كل واحدة يومًا، إلا أن يصطلحا على غير ذلك، والصلح خير، كما قال الله، عز وجل.

5. وبين قوله: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ﴾ أن على الرجل ـ وإن عدل بين نسائه في قسمة الأيام ـ ألا يخلي إحداهن من الوطء، ولا يكون وطؤه كله لغيرها، وتكون الأخرى كالمعلقة التي ليست بأيم ولا ذات زوج، لكنها إذا رضيت بإبطال حقها أو بدون حقها فإنه لا حرج على الزوج في ذلك.

قوله عز وجل: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل: أن يكون رفع الحرج عن الزوج خاصة، وإن كان الفعل مضافًا إليهما؛ إذ ليس للمرأة لْي ترك حقها حرج، وكذلك قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ ليس على المرأة جناح في الافتداء؛ لأنها تفتدي بمالها، ولها أن تُمَلِّكَ على مالها من شاءت؛ فكأنه قال عز وجل: فلا جناح عليه في أخذ ما افتدت، أو في إبطال حقها إذا رضيت.

ب. ويحتمل: أن يكون على ما ذكر، وهو أن لا حرج على المرأة المقام معه وإن استثقل الزوج ذلك ويكره صحبتها.

6. وقوله عز وجل: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾:

أ. عن ابن عَبَّاسٍ قال: شحت المرأة بنصيبها من زوجها أن تدعه للأخرى، وشح الرجل بنصيبه من الأخرى.

ب. وقيل: الشح: الحرص، وهو أن يحرص كل على حقه، وكان الشح والحرص واحد، وإن كان أحدهما في المنع، والآخر في الطلب؛ لأن البخل يحمله على الحرص، والحرص يحمله على المنع، وكل واحد منهما يكون سببًا للآخر.

7. وقوله عز وجل: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا﴾:

أ. في أن تعطوهن أكثر من حقهن، وتتقوا في ألا تبخسوا من حقهن شيئًا.

ب. ويحتمل: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا﴾ في إبقاء حقهن، والتسوية بينهن، وتتقوا الجور والميل، وتفضيل بعض على بعض.

ج. ويحتمل: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا﴾ في اتباع ما أمركم الله من طاعته، وتتقوا عما نهاكم الله من معاصيه.

8. ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ على الترغيب والوعيد، وقد ذكرنا معناه في غير موضع.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ٣/٣٧٨.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ يريد عز وجل أن المرأة إذا خافت من زوجها أن يكون قد مقتها وأبغضها وخشيت أن يبعد ويهرب ويفر منها فلا جناح عليهما أن يتصالحا بشيء من الواجب، ويفترقا إذا رضيت بشيء معروف ورضيت منه بفراقها وأخذت منه ولو بعض صداقها، فأما إن طلقها هو من ذات نفسه فالواجب عليه جميع حقها، وكذلك لا يحل له أن يضطرها إلى ذلك إذا كرهها، بل الواجب عليه إذا أبغضها أن يسرحها وأن يوفيها، وأن أحبها لزمها بالمعروف وأحسن إليها، لا بد من أحد هذين الوجهين: إما إمساك بمعروف كما قال الله عز وجل، أو تسريح بإحسان(1).

2. معنى قوله: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾، أي فطرت وقرب إليها محبة الشح واللوم، ليمتحنهم بذلك حتى يصبروا عما تدعوهم إليه أنفسهم، ويخالفوا أهواهم المركبة في قلوبهم، فيستحقوا الثواب من الله على صبرهم وزجرهم لما ركب وفطر من محبة أنفسهم، وكثير من الأسباب فطر الله النفس على محبتها، ثم أمرهم بتركها وجعل لهم الاستطاعة إلى مفارقتها، ليثيبهم على صبرهم عن الأنفس وشهواتها.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/252.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ قيل إن هذه الآية نزلت في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين هم بطلاق سودة ابنة زمعة فجعلت يومها لبعض نساء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهي مع ذلك عامة في كل امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضاً، والنشوز الرفع عنها لبغضها والإعراض أن ينصرف عن الميل إليها لموجدة أو أثرة، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ أي خير من النشوز والإعراض.

2. ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ أي أحضرت نفس كل واحد من الرجل والمرأة الشح بحقه قبل صاحبه.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/196.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في سبب نزول هذه الآية ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ الآية على قولين:

أ. أحدهما: أنها نزلت في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين هم بطلاق سودة بنت زمعة فجعلت يومها لعائشة على ألا يطلقها، فنزلت هذه الآية فيها، وهذا قول السدي.

ب. الثاني: أنها عامة في كل امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً، والنشوز: الترفع عنها لبغضها، والإعراض: أن ينصرف عن الميل إليها لمؤاخذة أو أثرة.

2. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا﴾ إمَّا من تَرْكِ مهرٍ أو إسقاط قَسَم، ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ فيه تأويلان:

أ. أحدهما: يعني خيراً من النشوز والإعراض، وهو قول بعض البصريين.

ب. الثاني: خير من الفرقة، وهو قول الزجاج.

3. في قوله تعالى: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: أنفس النساء أحضرت الشح عن حقوقهن من أزواجهن وأموالهن، وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير.

ب. الثاني: أحضرت نفس كل واحد من الرجل والمرأة الشح بحقه قبل صاحبه، وهو قول الحسن.

__________

(1) تفسير الماوردي: ١/٥٣٣).

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ أهل الكوفة أن يصلحا بضم الياء وكسر اللام وبسكون الصاد، الباقون يصالحا بتشديد الصاد فمن شدد الصاد، قال معناه يتصالحاً ويكون قوله: (صلحاً) اسما لا مصدراً ومن قرأ بخلافه قال هو مصدر.

2. ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ﴾ ومعناه علمت‏ ﴿مِنْ بَعْلِهَا﴾، أي زوجها ﴿نُشُوزًا﴾ يعني استعلاءً بنفسه عنها إلى غيرها، وارتفاعا بها عنها: إما لبغضه، واما لكراهة منه شيئاً منها إما ذمامتها، واما سنها وكبرها، أو غير ذلك‏ ﴿أو إِعْرَاضًا﴾ يعني انصرافا بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه‏.

3. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي لا حرج عليهما ان يصالحها بينهما صلحاً بان ترك المرأة له يومها، أو تضع عنه بعض ما يجب لها، من نفقة أو كسوة، وغير ذلك تستعطفه بذلك، وتستديم المقام في حباله، والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾:

أ. قيل: ﴿وَالصُّلْحُ﴾ بترك بعض الحق استدامة للخدمة، وتمسكا بعقد النكاح خير من طلب الفرقة.

ب. وقال بعضهم: الصلح خير من النشوز، والاعراض والأول أشبه، هذا إذا كان بطيبة من نفسها، فإن لم يكن كذلك، فلا يجوز له إلا ما يسوغ في الشرع من القيام بالكسوة والنفقة، والقسمة وإلا يطلق، وبهذه الجملة قال علي عليه السلام، وعمر وابن عباس، وسعد بن جبير وعائشة وعبيدة السلماني، وإبراهيم والحكم وقتادة، ومجاهد وعامر الشعبي والسدي، وابن زيد.

ج. وقال ابن عباس: خشيت سودة بنت زمعة ان يطلقها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالت: لا تطلقني واجلسني مع نسائك ولا تقسم لي، فنزلت‏ ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أو إِعْرَاضًا﴾ وقال سعيد بن المسيب عن سليمان بن يسار، ان رافع بن خديج كانت تحته امرأة قد علا من سنها، قال‏ أبو جعفر عليه السلام: هي بنت محمد بن مسلمة، فتزوج عليها شابة فآثر الشابة عليها، فأبت الأولى أن تقر على ذلك، فطلقها تطليقة حتى إذا بقي من أجلها يسيراً قال إن شئت راجعتك وصبرت على الاثرة، وان شئت تركتك حتى يخلو أجلك، ثم طلقها الثانية، وفعل فيها ما فعل أولا، قالت: بل راجعنى واصبر على الاثرة، فراجعها، فذلك الصلح الذي بلغنا أن الله أنزل فيه‏ ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ﴾ الآية.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فإن اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾:

أ. قال بعضهم: وأحضرت الأنفس النساء الشح على أنصبائهن من انفس أزواجهن وأموالهن وايامهن منهم، ذهب اليه ابن عباس وسعد بن جبير وعطا، وابن جريج والسدي، ويزعم انها في سورة بنت زمعة، ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنها كانت كبرت، فأراد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ان يطلقها، فاصطلحا على أن يمسكها ويجعل يومها لعائشة، فشحت بمكانها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ب. وقال آخرون: وأحضرت انفس كل واحد من الرجل والمرأة الشح بحقه قبل صاحبه.

ج. وهو أعم فيكون شح المرأة بترك حقها من النفقة والقسمة وغير ذلك وشح الرجل إنفاقه على التي لا يريدها، وبذلك قال ابن وهب، وابن زيد.

6. الشح: افراط في الحرص على الشيء ويكون بالمال وبغيره من الاعراض يقال: هو شحيح بمودتك اي حريص على دوامها ولا يقال في ذلك بخيل والبخل يكون بالمال خاصة، قال الشاعر:

çلقد كنت في قوم عليك اشحة...بفقدك إلا ان من طاح طائح‏

يودون لو خاطوا عليك جلودهم...وهل يدفع الموت النفوس الشحائح‏é

7. سؤال وإشكال: قوله: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ﴾ ليس فيه ان الرجل نشز على امرأة والخوف ليس معه يقين، والجواب: عنه جوابان:

أ. أحدهما: إن الخوف في الآية بمعنى العلم وتقديره، وإن امرأة علمت.

ب. والثاني: انها لا تخاف النشوز من الرجل إلا وقد بدأ منه ما يدل على النشوز والاعراض من أمارات ذلك ودلائله.

8. ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ﴾ ارتفعت المرأة بفعل مضمر دلّ عليه ما بعد الاسم، وتقديره وإن خافت امرأة خافت والتفرقة بين ان التي للجزاء والفعل الماضي قال الزجاج هو جيد، ولا يجوز ذلك في الفعل المستقبل، لا تقول: ان امرأة تخف، (ان) لا تفصل بينهما وبين ما يجزم ويجوز ذلك في ضرورة الشعر قال الشاعر:

çفمتى واغل بينهم يحيوه...ويعطف عليه كاس الساقي‏é

وإنما جاز في الماضي مع الاختيار، لأن (ان) غير عاملة في لفظة وان لم تكن من‏ حروف الجزاء، فجاز أن يفرق بينهما وبين الفعل، وغير ان يقبح فيه الفصل مع الماضي والمستقبل لا تقول: متى زيد جاءني أكرمته، ويجوز ان تقول: إن الله أمكنني فعلت.

9. ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا﴾ خطاب للرجال يعني ان تفعلوا الجميل بالصبر على من تكرهون من النساء، وتتقوا من الجور عليهن في النفقة والعشرة بالمعروف، فإن الله عالم بذلك، وكان عالماً بما تعملون فيما قبل فيجازيكم على ذلك.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/346.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. البعل: الزوج، والبِعال: ملاعبة الزوج أهله.

ب. النَّشْزُ: المكان المرتفع، والنشز: الارتفاع، ومنه ﴿وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا﴾ ويقال: صرنا على نشز من الأرض، أي مكان مرتفع، ونشزت المرأة استصعبت على زوجها، كأنها ترتفع عليه ببغضه، ونشز بعلها: إذا ضربها وجفاها، قال ابن دريد: نشزت المرأة ونَشَصَتْ ونَشَسَت.

ج. أصل الصلح، من الصلاح الذي هو ضد الفساد.

د. الشح: البخل مع حرص، وشاح الرجلان على الأمر لا يريدان أن يفوتهما، ورجل شحيح، والجمع أشحة، وشح يشح شحًّا، ومنه: الزَّنْدُ الشَّحَاح: الذي لا يُورِي نارًا.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أن الآية نزلت في ابن السائب كانت له امرأة، له منها ولد، فكبرت، فأراد أن يطلقها فقالت: لا تطلقني ودعني أقم على ولدي، واقسم لي في كل شهر عشرًا، فقال الرجل: إن كان هذا يصلح فهو أحب إليَّ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

ب. وقيل: نزلت في قصة سودة أراد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك، ولم يطلقها، حكاه القاضي.

ج. وعن عائشة أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل لا يشتكي منها، ويريد الاستبدال بها، فتقول: أمسكني وتزوج بغيري، وأنت في حل من النفقة والقَسْمِ.

د. وقيل: بل نزلت في بنت محمد بن مسلمة، واختلفوا في اسمها، فقيل: عمرة.

هـ. وقيل: خولة، وفي زوجها، واختلفوا في اسمه، فقيل: سعد بن الربيع، وقيل رافع بن خديج، وكانت شابة، فلما طعنت في السن تزوج عليها شابة، وآثرها عليها وجفاها، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وشكت إليه، فنزلت الآية، عن جماعة من المفسرين، ومتى اصطلحا في هذه الحالة على شيء فهو جائز.

3. لما تقدم نشوز المرأة وحكمه من الهجر والضرب، بَيَّنَ نشوز الرجل وحكم المصالحة بينهما؛ لأنه القيم عليها فله منها ما ليس لها منه، فقال تعالى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ﴾:

أ. قيل: علمت.

ب. وقيل: ظنت.

4. ﴿مِنْ بَعْلِهَا﴾ أي من زوجها ﴿نُشُوزًا﴾:

أ. قيل: أي ترفُّعًا عليها بالبغضة لها، إما لدمامتها أو لكبرها أو لصغرها.

ب. وقيل: نشوزًا: بغضًا.

ج. وقيل: أراد ترك مجامعتها ومضاجعتها، عن الكلبي.

5. ﴿أَوْ إِعْرَاضًا﴾ قيل انصرافًا عنها بوجهه ومنافعه ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي لا إثم ولا حرج على الزوج والمرأة ﴿أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا﴾:

أ. هو أن يخيرها بين الرضا بدون حقها واستدامة النكاح أو فراقها، أو تراضٍ بدون حقها في القسم أو حط شيء من المهر ليستديم النكاح، فإن رضيت فقد أحسنت، وإن لم ترض وجب عليه توفير حقها من القسم والمهر، أو تسريحها بإحسان، فإن أمسكها على كراهة منه، وأوفاها حقها فهو المحسن الذي مدحه الله تعالى، ووعده المجازاة الحسنة.

ب. وقيل: هي المرأة لا يحبها الزوج لدمامتها، فيصطلحان على شيء عن علي.

ج. وقيل: يتراضيان على شيء معلوم في نفسه وماله، عن سعيد بن جبير.

د. وقيل: تعطيه من ماله لينقص من قسمها، عن مقاتل.

هـ. وقيل: تنزل عن بعض مهرها، أو بعض أيامها، عن ابن عباس.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾:

أ. قيل: خير من الإقامة على النشوز والإعراض، عن أبي علي.

ب. وقيل: من الفرقة بعد الألفة، عن الزجاج والأصم.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾:

أ. قيل: وأحضرت النساء الشح أي البخل على أنصبائهن من أزواجهن وأموالهم، عن ابن عباس وسعيد بن جبير.

ب. وقيل: نفس كل واحد من الرجل والمرأة الشح لحظه قبل صاحبه: عن الحسن وأبي زيد وأبي علي.

8. في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا﴾ أقوال:

أ. الأول: أنه خطاب للأزواج، يعني: إن تحسنوا بالإقامة معهن مع كراهة صحبتهن، والإحسان في توفية حقهن من المهر والنفقة والقسم، ﴿وَتَتَّقُوا﴾ في ظلمها فإن الله عليم بأعمالكم مجازيكم عليها، وقيل: تحسنوا إليها وتتقوا الله في ظلمها، وقيل: إن تحسنوا في الأقوال والأفعال، وتتقوا المعاصي فالله عليم بكم يجازيكم.

ب. الثاني: أنه خطاب للزوج والمرأة يعني أن يحسن كل واحد منكما فيما يجب عليه لصاحبه، وتتقوا الظلم.

ج. الثالث: أنه خطاب لغيرهما يعني إن تحسنوا في المصالحة بينهما، ﴿وَتَتَّقُوا﴾ الميل إلى واحد فهو عليم بضمائركم، يجازيكم بأعمالكم ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ﴾ لم يزل ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ عليما.

9. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن المرأة متى خافت نشوز الزوج ومباعدته بغضة لها أن تسلك طريقة المصالحة لتعود الألفة، أو تحصل المفارقة على جميل.

ب. أنهما متى اصطلحا على شيء جاز، فإن رضيت بسقوط حقها واستدامة النكاح جاز، وإن اقتصرت على بعضها جاز، وإن رضيت بالمفارقة جاز، وإن رضي هو باستدامة النكاح على الكراهة وإبقاء حقها جاز، وإنما الممنوع مضارة أحدهما لصاحبه.

ج. جواز المصالحة في كل ما يقع فيه التنازع، غير أن لها شروطًا في الشرع لا بد من اعتبارها.

د. أن الصلح يقع ببذل مال؛ لأن قوله: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ لا يليق إلا بذلك.

هـ. أن الأفضل للزوج الإمساك؛ لأن قوله: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا﴾ ترغيب في ذلك، وقد قالوا: الصلح ثلاثة: صلح على الإقرار، وأحكامه أحكام المبايعات، وهو جائز بالاتفاق، وصلح على الإنكار وهو جائز عند أبي حنيفة، وأصحابه، وقال الشافعي: لا يجوز، وصلح على السكوت لا يقر، ولا ينكر، فمنهم من أجازه، وهو قول الحنفية، ومن الناس من لا يجوزه، وقد قال مشايخنا: الصلح عن المجهول جائز، وعلى المجهول لا يجوز، ولا يجوز الصلح في بدل الأبضاع والدماء، بخلاف الأموال والحقوق.

10. قرأ عاصم وحمزة والكسائي ﴿يُصْلِحَا﴾ بغير ألف خفيفة وضم الياء وكسر اللام من الإصلاح، وقرأ الباقون: (يَصَّالَحَا) بفتح الياء والصاد والألف بين الصاد واللام، وتشديد الصاد من التصالح، وهو الاختيار؛ لأن يتصالحا في معنى يتوافقان على شيء يقع به الصلح بينهما، وإذا كان الإصلاح بينهما ـ يتصالحا أظهر من يصلحا، وكلاهما حسن.

11. يَصَّالَحَا: في الأصل يتصالحا، فسكنت التاء، وأدغمت في الصاد، ومثله ﴿ادَّارَكُوا﴾ ـ أصله تداركوا أسكنت التاء للإدغام وأدغمت، ثم اجتلبت الألف للابتداء بها، وقلبت التاء دالاً وأدغمت في الدال، فصار ﴿ادَّارَكُوا﴾

__________

(1) التهذيب في التفسير: 3/93.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الشح: إفراط في الحرص على الشيء ويكون بالمال وبغيره من الاعراض، يقال: هو شحيح بمودتك أي: حريص على دوامها، ولا يقال في ذلك بخيل، والبخل: يكون بالمال خاصة، قال الشاعر:

çلقد كنت في قوم عليك أشحة... بفقدك إلا أن من طاح طائح

يودون لو خاطوا عليك جلودهم... وهل يدفع الموت النفوس الشحائحé

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: كانت بنت محمد بن سلمة، عند رافع بن خديج، وكانت قد دخلت في السن، وكانت عنده امرأة شابة سواها، فطلقها تطليقة حتى إذا بقي من أجلها يسير قال إن شئت راجعتك وصبرت على الأثرة، وإن شئت تركتك! قالت: بل راجعني وأصبر على الأثرة، فراجعها، فذلك الصلح الذي بلغنا أن الله تعالى أنزل فيه هذه الآية، عن أبي جعفر، وسعيد بن المسيب.

ب. وقيل: خشيت سودة بنت زمعة أن يطلقها رسول الله، فقالت: لا تطلقني وأجلسني مع نسائك، ولا تقسم لي، واجعل يومي لعائشة، فنزلت الآية، عن ابن عباس.

3. لما تقدم حكم نشوز المرأة بين سبحانه تعالى نشوز الرجل، فقال: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ﴾:

أ. أي: علمت.

ب. وقيل: ظنت.

4. ﴿مِنْ بَعْلِهَا﴾ أي: من زوجها

5. ﴿نُشُوزًا﴾ أي: استعلاء وارتفاعا بنفسه عنها، إلى غيرها، إما لبغضه، وإما لكراهته منها شيئا، إما دمامتها، وإما علو سنها، أو غير ذلك ﴿أَوْ إِعْرَاضًا﴾:

أ. يعني انصرافا بوجهه، أو ببعض منافعه التي كانت لها منه.

ب. وقيل: يعني بإعراضه عنها: هجرانه إياها، وجفاها، وميله إلى غيرها.

6. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي: لا حرج ولا إثم على كل واحد منهما من الزوج والزوجة ﴿أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا﴾ بأن تترك المرأة له يومها، أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة، أو كسوة، أو غير ذلك، لتستعطفه بذلك، وتستديم المقام في حباله ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ معناه والصلح بترك بعض الحق ﴿خَيْرُ﴾ من طلب الفرقة بعد الألفة.

7. هذا إذا كان بطيبة من نفسها، فإن لم يكن كذلك، فلا يجوز له إلا ما يسوغ في الشرع من القيام بالكسوة، والنفقة، والقسمة، وإلا طلقها، وبهذه الجملة قالت الصحابة والتابعون منهم علي، وابن عباس، وعائشة، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد، وغيرهم.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾:

أ. قيل: معناه وأحضرت أنفس النساء الشح على أنصبائهن من أنفس أزواجهن، وأموالهن، وأيامهن منهم، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطا، والسدي.

ب. وقيل: معناه وأحضرت أنفس كل واحد من الرجل والمرأة الشح بحقه، قبل صاحبه، فشح المرأة يكون بترك حقها من النفقة، والكسوة، والقسمة، وغيرها، وشح الرجل بإنفاقه على التي لا يريدها، وهذا أعم، وبه قال ابن وهب، وابن زيد.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا﴾:

أ. قيل: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا﴾ خطاب للرجال أي: وإن تفعلوا الجميل بالصبر على ما تكرهون من النساء ﴿وَتَتَّقُوا﴾ من الجور عليهن في النفقة، والكسوة، والعشرة بالمعروف.

ب. وقيل: إن تحسنوا في أقوالكم وأفعالكم، وتتقوا معاصي الله.

10. ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ أي: هو سبحانه خبير بما يكون منكم في أمرهن، بحفظه لكم، وعليكم، حتى يجازيكم بأعمالكم.

11. قرأ أهل الكوفة (أن يصلحا) بضم الياء وكسر اللام وسكون الصاد، والباقون: (يصالحا) بتشديد الصاد، وفتح الياء واللام.. والأعرف في الاستعمال يصالحا، وزعم سيبويه أن بعضهم قرأ ﴿يُصْلِحَا﴾ فيصلحا يفتعلا، وافتعل بمعنى، ولذلك صحت الواو في اجتوروا واعتوروا لما كان بمعنى تجاوروا وتعاوروا، فهذا حجة لمن قرأ (أن يصالحا)، ومن قرأ ﴿يُصْلِحَا﴾: فإن الإصلاح عند التنازع قد استعمل كما في قوله سبحانه ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾، وقوله: ﴿صُلْحًا﴾ يكون مفعولا على قراءة من قرأ ﴿يُصْلِحَا﴾ كما تقول: أصلحت ثوبا، ومن قرأ (يصالحا) فيجوز أن يكون ﴿صُلْحًا﴾ مفعولا أيضا، لأن تفاعل قد جاء متعديا، ويجوز أن يكون مصدرا حذفت زوائده كما قال: (فإن تهلك فذلك كان قدري) أي تقديري، ويجوز أن يكون قد وضع المصدر موضع الاسم، كما وضع الاسم موضع المصدر في نحو قوله: (باكرت حاجتها الدجاج بسحرة) وقوله: (وبعد عطاءك المائة الرتاعا)

12. ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ﴾ امرأة ارتفعت بفعل مصدر يفسره الفعل الظاهر بعدها، وهو إضمار قبل الذكر، على شريطة التفسير، وتقديره: وإن خافت لو قلت إن امرأة تخف، ففرقت بين إن الجزاء، والفعل المستقبل، فذلك قبيح لأن إن لا يفصل بينها وبين ما تجزم وذلك في الشعر جائز في إن وغيرها قال الشاعر: فمتى واغل ينبهم، يحيوه... وتعطف عليه كأس الساقي فأما الماضي فإن غير عاملة في لفظه، وإن لم تكن من حروف الجزاء، فجاز أن يفرق بينها وبين الفعل، فأما غير إن فالفصل يقبح فيه مع الماضي والمستقبل، جميعا.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/181.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أن سودة خشيت أن يطلّقها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالت: يا رسول الله لا تطلّقني، وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.

ب. الثاني: أن بنت محمّد بن مسلمة كانت تحت رافع بن خديج، فكره منها أمرا، إما كبرا، وإمّا غيره، فأراد طلاقها، فقالت: لا تطلّقني، واقسم لي ما شئت، فنزلت هذه الآية، رواه الزّهريّ عن سعيد بن المسيّب، وقال مقاتل: واسمها خويلة.

ج. الثالث: قد ذكرناه عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير في نزول الآية التي قبلها، وقالت عائشة: نزلت في المرأة تكون عند الرجل، فلا يستكثر منها، ويريد فراقها، ولعلها تكون له محبّة أو يكون لها ولد فتكره فراقه، فتقول له: لا تطلّقني وأمسكني، وأنت في حلّ من شأني، رواه البخاريّ، ومسلم.

2. في خوف النّشوز قولان:

أ. أحدهما: أنه العلم به عند ظهوره.

ب. الثاني: الحذر من وجوده لأماراته، قال الزجّاج: والنّشوز من بعل المرأة أن يسيء عشرتها، وأن يمنعها نفسه ونفقته، وقال سليمان: نشوزا، أي: نبوّا عنها إلى غيرها، أو إعراضا عنها، واشتغالا بغيرها، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا﴾ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: (يصّالحا) بفتح الياء والتشديد، والأصل:

3. (يتصالحا)، فأدغمت التاء في الصاد، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائيّ: (يصلحا) بضم الياء والتخفيف، قال المفسّرون: والمعنى: أن يوقعا بينهما أمرا يرضيان به، وتدوم بينهما الصّحبة، مثل أن تصبر على تفضيله، وروي عن عليّ، وابن عباس: أنهما أجازا لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها، أو بعض أيامها، بأن يجعله لغيرها.

4. في قوله تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ قولان‏:

أ. أحدهما: خير من الفرقة، قاله مقاتل، والزجّاج.

ب. الثاني: خير من النّشوز والإعراض، ذكره الماورديّ، قال قتادة: متى ما رضيت بدون ما كان لها، واصطلحا عليه، جاز، فإن أبت لم يصلح أن يحبسها على الخسف.

5. ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ (أحضرت) بمعنى: ألزمت، و(الشّح): الإفراط في الحرص على الشّيء وقال ابن فارس: (الشّح): البخل مع الحرص، وتشاحّ الرجلان على الأمر: لا يريدان أن يفوتهما، وفيمن يعود إليه هذا الشّح من الزوجين قولان:

أ. أحدهما: المرأة فتقديره: وأحضرت نفس المرأة الشّح بحقّها من زوجها، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير.

ب. الثاني: الزّوجان جميعا، فالمرأة تشحّ على مكانها من زوجها، والرجل يشحّ عليها بنفسه إذا كان غيرها أحبّ إليه، هذا قول الزجّاج، وقال ابن زيد: لا تطيب نفسه أن يعطيها شيئا فتحلّله، ولا تطيب نفسها أن تعطيه شيئا من مالها، فتعطّفه عليها.

6. في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا﴾ قولان:

أ. أحدهما: بالصّبر على التي يكرها.

ب. الثاني: بالإحسان إليها في عشرتها.

7. ﴿وَتَتَّقُوا﴾ يعني الجور عليها ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ فيجازيكم عليه.

__________

(1) زاد المسير في علم التفسير: ‏1/482.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ هذا من جملة ما أخبر الله تعالى أنه يفتيهم به في النساء مما لم يتقدم ذكره في هذه السورة، قال بعضهم: هذه الآية شبيهة بقوله: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ﴾ [التوبة: 6]، وقوله: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات: 9] وهاهنا ارتفع‏ ﴿امْرَأَةً﴾ بفعل يفسره‏ ﴿خَافَتْ﴾ وكذا القول في جميع الآيات التي تلوناها.

2. ﴿خَافَتْ﴾ قال بعضهم: خافت أي علمت، وقال آخرون: ظنت، وكل ذلك ترك للظاهر من غير حاجة، بل المراد نفس الخوف إلا أن الخوف لا يحصل إلا عند ظهور الأمارات الدالة على وقوع الخوف، وتلك الأمارات هاهنا أن يقول الرجل لا مرأته: إنك دميمة أو شيخة وإني أريد أن أتزوج شابة جميلة، والبعل هو الزوج، والأصل في البعل هو السيد، ثم سمي الزوج به لكونه كالسيد للزوجة، ويجمع البعل على بعولة، وقد سبق هذا في سورة البقرة في قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ [البقرة: 228] والنشوز يكون من الزوجين وهو كراهة كل واحد منهما صاحبه، واشتقاقه من النشز وهو ما ارتفع من الأرض، ونشوز الرجل في حق المرأة أن يعرض عنها ويعبس وجهه في وجهها ويترك مجامعتها ويسيء عشرتها.

3. ذكر المفسرون في سبب نزول الآية وجوها:

أ. الأول: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الآية نزلت في ابن أبي السائب كانت له زوجة وله منها أولاد وكانت شيخة فهم بطلاقها، فقالت لا تطلقني ودعني أشتغل بمصالح أولادي واقسم في كل شهر ليالي قليلة، فقال الزوج: إن كان الأمر كذلك فهو أصلح لي.

ب. الثاني: أنها نزلت في قصة سودة بنت زمعة أراد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يطلقها، فالتمست أن يمسكها ويجعل نوبتها لعائشة، فأجاز النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك ولم يطلقها.

ج. الثالث: روي عن عائشة أنها قالت: نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد الرجل أن يستبدل بها غيرها، فتقول: أمسكني وتزوج بغيري، وأنت في حل من النفقة والقسم.

4. ﴿نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ المراد بالنشوز إظهار الخشونة في القول أو الفعل أو فيهما، والمراد من الإعراض السكوت عن الخير والشر والمداعاة والإيذاء، وذلك لأن مثل هذا الإعراض يدل دلالة قوية على النفرة والكراهة.

5. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا﴾ قرأ عاصم وحمزة والكسائي‏ ﴿يُصْلِحَا﴾ بضم الياء وكسر اللام وحذف الألف من الإصلاح، والباقون يصالحا بفتح الياء والصاد، والألف بين الصاد واللام وتشديد الصاد من التصالح، ويصالحا في الأصل هو يتصالحا، فسكنت التاء وأدغمت في الصاد، ونظيره قوله: ﴿ادَّارَكُوا فِيهَا﴾ [الأعراف: 38] أصله تداركوا سكنت التاء وأبدلت بالدال لقرب المخرج وأدغمت في الدال، ثم اجتلبت الهمزة للابتداء بها فصار اداركوا، من قرأ ﴿يُصْلِحَا﴾ فوجهه أن الإصلاح عند التنازع والتشاجر مستعمل قال تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ [البقرة: 182]، وقال‏: ﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء: 114] ومن قرأ يصالحا وهو الاختيار عند الأكثرين قال أن يصالحا معناه يتوافقا، وهو أليق بهذا الموضع وفي حرف عبد الله: فلا جناح عليهما أن صالحا، وانتصب صلحا في هذه القراءة على المصدر وكان الأصل أن يقال: تصالحا، ولكنه ورد كما في قوله: ﴿وَالله أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾ [نوح: 17]، وقوله: ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ [المزمل: 8] وقول الشاعر: (وبعد عطائك المائة الرتاعا)

6. الصلح إنما يحصل في شيء يكون حقا له، وحق المرأة على الزوج إما المهر أو النفقة أو القسم، فهذه الثلاثة هي التي تقدر المرأة على طلبها من الزوج شاء أم أبى، أما الوطء فليس كذلك، لأن الزوج لا يجبر على الوطء، وهذا الصلح عبارة عما إذا بذلت المرأة كل الصداق أو بعضه للزوج أو أسقطت عنه مؤنة النفقة، أو أسقطت عنه القسم، وكان غرضها من ذلك أن لا يطلقها زوجها، فإذا وقعت المصالحة على ذلك كان جائزا.

7. ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ الصلح مفرد دخل فيه حرف التعريف، والمفرد الذي دخل فيه حرف التعريف هل يفيد العموم أم لا؟ والذي نصرناه في أصول الفقه أنه لا يفيده، وذكرنا الدلائل الكثيرة فيه، وأما إذا قلنا: إنه يفيد العموم فههنا بحث، وهو أنه إذا حصل هناك معهود سابق فحمله على العموم أولى أم على المعهود السابق؟ الأصح أن حمله على المعهود السابق أولى، وذلك لأنا إنما حملناه على الاستغراق ضرورة أنا لو لم نقل ذلك لصار مجملا ويخرج عن الإفادة، فإذا حصل هناك معهود سابق اندفع هذا المحذور فوجب حمله عليه.

8. من الناس من حمل قوله: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ على الاستغراق، ومنهم من حمله على المعهود السابق، يعني الصلح بين الزوجين خير من الفرقة، الأولون تمسكوا به في مسألة أن الصلح على الإنكار جائز كما هو قول أبي حنيفة، وأما نحن فقد بينا أن حمل هذا اللفظ على المعهود السابق أولى، فاندفع استدلالهم.

9. ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ قال صاحب (الكشاف): هذه الجملة اعتراض، وكذلك قوله: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ إلا أنه اعتراض مؤكد للمطلوب فحصل المقصود.

10. ذكر الله تعالى أولا قوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا﴾ فقوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾ يوهم أنه رخصة، والغاية فيه ارتفاع الإثم، فبيّن تعالى أن هذا الصلح كما أنه لا جناح فيه ولا إثم فكذلك فيه خير عظيم ومنفعة كثيرة، فإنهما إذا تصالحا على شيء فذاك خير من أن يتفرقا أو يقيما على النشوز والإعراض، أما قوله تعالى: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾.

11. الشح هو البخل، والمراد أن الشح جعل كالأمر المجاور للنفوس اللازم لها، يعني أن النفوس مطبوعة على الشح، ثم يحتمل أن يكون المراد منه أن المرأة تشح ببذل نصيبها وحقها، ويحتمل أن يكون المراد أن الزوج يشح بأن يقضي عمره معها مع دمامة وجهها وكبر سنها وعدم حصول اللذة بمجانستها.

12. في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ وجوه:

أ. الأول: أنه خطاب مع الأزواج، يعني وإن تحسنوا بالإقامة على نسائكم وإن كرهتموهن وتيقنتم النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة فإن الله كان بما تعملون من الإحسان والتقوى خبيرا، وهو يثيبكم عليه.

ب. الثاني: أنه خطاب للزوج والمرأة، يعني وإن يحسن كل واحد منكما إلى صاحبه ويحترز عن الظلم.

ج. الثالث: أنه خطاب لغيرهما، يعني أن تحسنوا في المصالحة بينهما وتتقوا الميل إلى واحد منهما، وحكى صاحب الكشاف: أن عمران بن حطان الخارجي كان من أدم بني آدم، وامرأته من أجملهم، فنظرت إليه يوما ثم قالت: الحمد لله، فقال مالك؟ فقالت حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، وقد وعد الله بالجنة عباده الشاكرين والصابرين.

__________

(1) التفسير الكبير: ‏11/236.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ﴾ رفع بإضمار فعل يفسره ما بعده، و﴿خَافَتْ﴾ بمعنى توقعت، وقول من قال خافت تيقنت خطأ، قال الزجاج: المعنى وإن امرأة، خافت من بعلها دوام النشوز، قال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز التباعد، والإعراض ألا يكلمها ولا يأنس بها، ونزلت الآية بسبب سودة بنت زمعة، روى الترمذي عن ابن عباس قال خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالت: لا تطلقني وأمسكني، واجعل يومي منك لعائشة، ففعل فنزلت: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ فما اصطلحا عليه من شي فهو جائز، قال هذا حديث حسن غريب، وروى ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رافع بن خديج كانت تحته خولة ابنة محمد بن مسلمة، فكره من أمرها إما كبرا وإما غيره، فأراد أن يطلقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما شئت، فجرت السنة بذلك، ونزلت ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾، وروى البخاري عن عائشة ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول: أجعلك من شأني في حل، فنزلت هذه الآية، وقراءة العامة أن يصالحا)، وقرأ أكثر الكوفيين ﴿أَنْ يُصْلِحَا﴾، وقرأ الجحدري وعثمان البتي ﴿أَنْ يُصْلِحَا﴾ والمعنى يصطلحا ثم أدغم.

2. في هذه الآية من الفقه الرد على الرعن الجهال الذين يرون أن الرجل إذا أخذ شباب المرأة وأسنت لا ينبغي أن يتبدل بها، قال ابن أبي مليكة: إن سودة بنت زمعة لما أسنت أراد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يطلقها، فآثرت الكون معه، فقالت له: أمسكني واجعل يومي لعائشة، ففعل صلّى الله عليه وآله وسلّم، وماتت وهي من أزواجه، قلت: وكذلك فعلت بنت محمد بن مسلمة، روى مالك عن ابن شهاب عن رافع بن خديج أنه تزوج بنت محمد بن مسلمة الأنصارية، فكانت عنده حتى كبرت، فتزوج عليها فتاة شابة، فآثر الشابة عليها، فناشدته الطلاق، فطلقها واحدة، ثم أهملها حتى إذا كانت تحل راجعها، ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها واحدة، ثم راجعها فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فقال: ما شئت إنما بقيت واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة، وإن شئت فارقتك، قالت: بل أستقر على الأثرة، فأمسكها على ذلك، ولم ير رافع عليه إثما حين قرت عنده على الأثرة، رواه معمر عن الزهري بلفظه ومعناه وزاد: فذلك الصلح الذي بلغنا أنه نزل فيه ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾، قال أبو عمر بن عبد البر: قوله والله أعلم: (فآثر الشابة عليها) يريد في الميل بنفسه إليها والنشاط لها، لا أنه آثرها عليها في مطعم وملبس ومبيت، لأن هذا لا ينبغي أن يظن بمثل رافع.

3. قال علماؤنا: وفي هذا أن أنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة، بأن يعطي الزوج على أن تصبر هي، أو تعطي هي على أن يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة، أو يقع الصلح على الصبر والأثرة من غير عطاء، فهذا كله مباح، وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشيء تعطيها.

4. قرأ الكوفيون ﴿يُصْلِحَا﴾، والباقون أن يصالحا)، الجحدري ﴿يُصْلِحَا﴾ فمن قرأ يصالحا) فوجهه أن المعروف في كلام العرب إذا كان بين قوم تشاجر أن يقال: تصالح القوم، ولا يقال: أصلح القوم؟ ولو كان أصلح لكان مصدره إصلاحا، ومن قرأ ﴿يُصْلِحَا﴾ فقد استعمل مثله في التشاجر والتنازع، كما قال: ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾، ونصب قوله: ﴿يُصْلِحَا﴾ على هذه القراءة على أنه مفعول، وهو اسم مثل العطاء من أعطيت، فأصلحت صلحا مثل أصلحت أمرا، وكذلك هو مفعول أيضا على قراءة من قرأ يصالحا) لأن تفاعل قد جاء متعديا، ويحتمل أن يكون مصدرا حذفت زوائده، ومن قرأ ﴿يُصْلِحَا﴾ فالأصل يصتلحا) ثم صار إلى يصطلحا، ثم أبدلت الطاء صادا وأدغمت فيها الصاد.. ولم تبدل الصاد طاء لما فيها من امتداد الزفير.

5. ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ لفظ عام مطلق يقتضي أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق، ويدخل في هذا المعنى جميع ما يقع عليه الصلح بين الرجل وامرأته في مال أو وطئ أو غير ذلك، ﴿خَيْرُ﴾ أي خير من الفرقة، فإن التمادي على الخلاف والشحناء والمباغضة هي قواعد الشر، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم في البغضة: إنها الحالقة) يعني حالقة الدين لا حالقة الشعر.

6. ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ إخبار بأن الشح في كل أحد، وأن الإنسان لا بد أن يشح بحكم خلقته وجبلته حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره، يقال: شح يشح بكسر الشين) قال ابن جبير: هو شح المرأة بالنفقة من زوجها وبقسمه لها أيامها، وقال ابن زيد: الشح هنا منه ومنها، وقال ابن عطية: وهذا أحسن، فإن الغالب على المرأة الشح بنصيبها من زوجها، والغالب على الزوج الشح بنصيبه من الشابة، والشح الضبط على المعتقدات والإرادة وفي الهمم والأموال ونحو ذلك، فما أفرط منه على الدين فهو محمود، وما أفرط منه في غيره ففيه بعض المذمة، وهو الذي قال الله فيه: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وما صار إلى حيز منع الحقوق الشرعية أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل وهي رذيلة، وإذا آل البخل إلى هذه الأخلاق المذمومة والشيم اللئيمة لم يبق معه خير مرجو ولا صلاح مأمول، قلت: وقد روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال للأنصار: (من سيدكم)؟ قالوا: الجد بن قيس على بخل فيه، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وأي داء أدوى من البخل)! قالوا: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال إن قوما نزلوا بساحل البحر فكرهوا لبخلهم نزول الأضياف بهم فقالوا: ليبعد الرجال منا عن النساء حتى يعتذر الرجال إلى الأضياف ببعد النساء وتعتذر النساء ببعد الرجال، ففعلوا وطال ذلك بهم، فاشتغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء، وقد تقدم، ذكره الماوردي.

7. ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا﴾ شرط ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ جوابه، وهذا خطاب للأزواج من حيث إن للزوج أن يشح ولا يحسن، أي إن تحسنوا وتتقوا في عشرة النساء بإقامتكم عليهن مع كراهيتكم لصحبتهن واتقاء ظلمهن فهو أفضل لكم.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/403.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. امرأة: مرفوعة بفعل مقدّر يفسره ما بعده، أي: وإن خافت امرأة، وخافت: بمعنى: توقعت ما تخاف من زوجها، وقيل: معناه: تيقنت، وهو خطأ، قال الزجاج: المعنى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا﴾ دوام النشوز، قال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض: أن النشوز التباعد، والإعراض أن لا يكلمها ولا يأنس بها، وظاهر الآية أنها تجوز المصالحة عند مخافة أيّ نشوز أو أيّ إعراض، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي سيأتي، وظاهرها: أنه يجوز التصالح بأيّ نوع من أنواعه، إما بإسقاط النوبة أو بعضها، أو بعض النفقة، أو بعض المهر.

2. ﴿أَنْ يُصْلِحَا﴾ أن يصّالحا هكذا قرأه الجمهور، وقرأ الكوفيون: ﴿أَنْ يُصْلِحَا﴾ وقراءة الجمهور أولى، لأن قاعدة العرب: أن الفعل إذا كان بين اثنين فصاعدا قيل: تصالح الرجلان أو القوم، لا أصلح.

3. ﴿صُلْحًا﴾: منصوب على أنه اسم مصدر، أو على أنه مصدر محذوف الزوائد، أو منصوب بفعل محذوف، أي: فيصلح حالهما صلحا؛ وقيل: هو منصوب على المفعولية، ﴿بَيْنَهُمَا﴾ ظرف للفعل، أو في محل نصب على الحال.

4. ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ لفظ عام يقتضي: أن الصلح الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق، أو خير من الفرقة أو من الخصومة، وهذه جملة اعتراضية.

5. ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ إخبار منه سبحانه: بأن الشح في كل واحد منهما؛ بل في كل الأنفس الإنسانية كائن، وأنه جعل كأنه حاضر لها؛ لا يغيب عنها بحال من الأحوال؛ وأن ذلك بحكم الجبلة والطبيعة، فالرجل يشحّ بما يلزمه للمرأة من حسن العشرة وحسن النفقة ونحوها، والمرأة تشحّ على الرجل بحقوقها اللازمة للزوج، فلا تترك له شيئا منها، وشحّ الأنفس: بخلها بما يلزمها أو يحسن فعله بوجه من الوجوه، ومنه: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾

6. ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا﴾ أي: تحسنوا عشرة النساء وتتقوا ما لا يجوز من النشوز والإعراض‏ ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ فيجازيكم يا معشر الأزواج بما تستحقونه.

__________

(1) فتح القدير: ‏1/602.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنِ اِمْرَأَةٌ خَافَتْ﴾ مبتدأ وخبر، عند سيبويه، والجملة الاسميَّة في محلِّ جزم، ولو كان الخبر اسمًا، نحو: إن زيد قائم، أو إذا زيد قائم، لم يجز عنده، وأجازه الأخفش أيضًا والكوفيُّون، وزادوا جواز كون (امْرَأَةٌ) فاعلاً مقدَّما، والجمهور على منع ذلك كلِّه، وجعل (امْرَأَةٌ) فاعلاً لمحذوف دلَّ عليه (خَافَتْ)، أي: وإن خافت امرأة خافت.

2. ﴿مِن بَعْلِهَا﴾ زوجها ﴿نُشُوزًا﴾ ترفُّعًا عن صحبتها لدمامتها، أو كِبَر سنِّها، أو تعلُّقِ قلبه بغيرها، أو غير ذلك، فيكون يمنع حقوقها أو يؤذيها بقول أو فعل، ﴿اَوِ اِعْرَاضًا﴾ بإقلال مجالستها ومحادثتها، فهو لا يفعل لها خيرًا ولا شرًّا، أو إعراضًا لبعض المنافع، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾، أما نفي الجناح عنه فلأنَّ نقصه من حقِّها أو إعطاءَها إيَّاه شيئًا في الصلح كالرشوة، ومحلُّ نفي الجناح عنه ما إذا كان انقباضه عنها كالضروريِّ، لا يجد بُدًّا عنه من نفسه، أو خاف من نفسه أن ينقص حقَّها بعد، وأمَّا نفيه عنها مع أنَّها لا تأخذ فلبيان أنَّ هذا الصلح ليس محرَّمًا على المعطي والآخذ.

3. ﴿أَنْ يَّصَّالَحَا﴾ أبدلت التاء صادًا وأدغمت، أي: في أن يتصالحا، وقيل: أبدلت التاء طاء والطاء صادًا وأدغمت، ﴿بَيْنَهُمَا﴾ بدون حضور مصلح أو بحضوره، ﴿صُلْحًا﴾ أي: تصالُحًا (بضمِّ اللام)، وذلك بأن تترك له ـ لئلَّا يطلِّقها ـ بعضَ الصداق أو كلَّه، أو النفقة أو الكسوة أو بعضها، أو لياليها أو بعضها، أو تهب له شيئا.

4. روي أنَّه كانت لأبي السائب امرأة ولدت له أولادًا ولم يقنع بجمالها، فهمَّ بطلاقها، فقالت: (لا تطلِّقني دعني حتَّى أشتغل بمصالح أولادي، واقسِمْ لي في كلِّ شهر ليالي قليلة)، فقال: (إن كان الأمر كذلك فهو أصلح لي)، فنزلت الآية في ذلك كلِّه، وكما روي عن عائشة أنَّها نزلت في امرأة هي ابنة محمَّد بن مسلمة، كانت عند رجل هو رافع بن خديج، أراد أن يستبدل بها امرأة لكبر أو غيره، فقالت: (أمسكني وتزوَّج بغيري وأنت في حلٍّ من النفقة والقسم)

5. ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ أفضل من الفرقة وسوء العشرة والخصام، على فرض أنَّ فيهنَّ حُسْنًا (بضمٍّ فإسكان)، أو الصلح حَسَنٌ، بالخروج عن التفضيل، أو الصلح منفعة كما أنَّ الخصام مضرَّة، و(ال) للعهد، أو للجنس.

6. وهذا إلى قوله: ﴿غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ معترض بين قوله: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ﴾ وقوله: ﴿وَإِنْ يَّتَفَرَّقَا﴾ المعطوف عليه؛ ولذلك تخالفت الجمل فعليَّة واسميَّة وشرطيَّة وغيرها فيما بينهما، وهذه الجملة لتمهيد الصلح، وقوله: ﴿وَأُحْضِرَتِ الَانفُسُ الشُّحَّ﴾ لتمهيد العذر، بجعل الله الأنفس مطلقًا حاضرة للشحِّ تتبعه وتميل إليه، لا تغيب عنه، فالنائب المفعول الأوَّل، أو بجعله تعالى الشحَّ حاضرًا للأنفس لا يتركها، فالنائب المفعول الثاني، فالمرأة لا تترك المهر والمؤونة والقسم، والرجل لا يسمح لها بأداء ذلك لها وقضاء عمره معها بإحسان العشرة مع كراهته لها لدمامتها أو كبر سنِّها أو غير ذلك، والشحُّ: البخل مع حرص؛ فهو أخصُّ من الحرص، وقيل: هو أقبح البخل.

7. ﴿وَإِن تُحْسِنُواْ﴾ أيُّها الأزواج في عشرتهنَّ بإمساك بمعروف والصبر مع كراهتكم لهنَّ ﴿وَتَتَّقُواْ﴾ ظلمهنَّ بالنشوز ونقص حقوقهنَّ أو تركها، أو أن تحسنوا أيُّها المصلحون بينهما، وتتَّقوا الميل إلى أحدهما ﴿فَإِنَّ اللهَ﴾ أي: يثبكم الله؛ لأنَّ الله ﴿كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من الإحسان والصلح والإصلاح ﴿خَبِيرًا﴾ فليس يترك الجزاء.

8. وفي خطابِ الأزواج بعد الغيبة، والتعبيرِ عن مراعاة حقوقهنَّ بالإحسان، ولفظِ التقوى المنبئ عن كون النشوز مِمَّا يُتَّقى، وذكرِ الوعدِ لطفُ الاستمالة، والترغيبُ في حسن المعاملة، روي أنَّ امرأة من أجمل النساء تطيع زوجها وهو من أذمِّ الرجال، وتحمد الله على ذلك، فلامها رجل، فقالت: (هو من أهل الجنَّة لأنَّه شاكر، وأنا من أهلها لأنِّي صابرة)، أو قالت: (الحمد لله)، فقال لها زوجها: (علامَ؟) فقالت: (لأنِّي رضيت مثلك فصبرتُ، ورزقتَ مثلي فشكرتَ، وقد وعد الله الجنَّة للصابرين والشاكرين)

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/306.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا﴾ أي: زوجها ﴿نُشُوزًا﴾ أي: تجافيا عنها وترفعا عن صحبتها، بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها ﴿أَوْ إِعْرَاضًا﴾ أي: تطليقا، أو أن يقلّ محادثتها ومجالستها، كراهة لها أو لطموح عينه إلى أجمل منها ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾ أي لا إثم‏ ﴿عَلَيْهِمَا﴾ حينئذ ﴿أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا﴾ بحطّ شيء من المهر أو النفقة، أو هبة شيء من مالها أو قسمها، طلبا لبقاء الصحبة إن رضيت بذلك، وإلا فعلى الزوج أن يوفيها حقها أو يفارقها، قال في (الإكليل): الآية أصل في هبة الزوجة حقها من القسم وغيره، استدلّ به من أجاز لها بيع ذلك‏.

2. ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ أي من الفرقة والنشوز والإعراض، قال ابن كثير: بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أبغض الحلال إلى الله الطلاق.

3. قال بعض مفسري الزيدية: وفي هذه الآية حث على الصبر على نفس الصحبة، لقوله تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ أي: من الفرقة وسوء العشرة، أو خير من الخصومة، أو خير من الخيور، كما أن الخصومة شر من الشرور، واستدل بعموم الآية من أجاز الصلح على الإنكار والمجهول.

4. ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ بيان لما جبل عليه الإنسان، أي: جعلت حاضرة له مطبوعة عليه، لا تنفك عنه أبدا، فلا تكاد المرأة تسمح بالنشوز، والإعراض، وحقوقها من الرجل، ولا الرجل في إمساكها مع القيام بحقوقها على ما ينبغي، إذا كرهها أو أحب غيرها، والجملة الأولى: للترغيب في المصالحة، والثانية: لتمهيد العذر في المشاحة وللحث على الصلح، فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبليّة بغير استمالة، مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته، وكذا شح نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقتنع من قبلها بشيء يسير، ولا يكلفها بذل الكثير، فيتحقق بذلك الصلح‏.

5. ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا﴾ في العشرة ﴿وَتَتَّقُوا﴾ النشوز والإعراض ونقص الحق‏ ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من تحمل المشاق في ذلك‏ ﴿خَبِيرًا﴾ فيجازيكم ويثيبكم، قال أبو السعود: وفي خطاب الأزواج بطريق الالتفات، والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان، ولفظ (التقوى) المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه، وترتيب الوعد الكريم عليه ـ من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة، ما لا يخفى.

6. وما قدمنا في تفسير الآية هو زبدة ما نقل عن السلف، صحابة وتابعين في معناها، قال ابن كثير: ولا أعلم في ذلك خلافا.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/361.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ الخوف توقع ما يكره بوقوع بعض أسبابه أو ظهور بعض أماراته، والنشوز الترفع والكبر وما يترتب عليهما من سوء المعاملة، وتقدم تفسيره من قبل والإعراض الميل والانحراف عن الشيء أي وإن خافت امرأة خافت من بعلها نشوزا وترفعا عليها، أو إعراضا عنها، بأن ثبت لها ذلك وتحقق ولم يكن وهما مجردا، أو وسواسا عارضا، يدل على ذلك جعل فعل الخوف المذكور، مفسرا لفعل محذوف، للاحتراس من بناء الحكم على أساس الوسوسة التي تكثر عند النساء وهو من إيجاز القرآن البديع وذلك أن المرأة إذا رأت زوجها مشغولا بأكبر العظائم المالية أو السياسية أو حل أعوص المسائل العلمية، أو بغير ذلك من المشاكل الدنيوية أو المهمات الدينية، لا تعد ذلك عذرا يبيح له الإعراض عن مسامراتها أو منادمتها، أو الرغبة عن مناغاتها ومباعلتها، والواجب عليها أن تتبين وتتثبت فيما تراه من أمارات النشوز والإعراض، فإذا ظهر لها أن ذلك لسبب خارجي لا لكراهتها والرغبة عن معاشرتها بالمعروف فعليها أن تعذر الرجل وتصبر على ما لا تحب من ذلك، وإن ظهر لها أن ذلك لكراهته إياها ورغبته عنها.

2. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا﴾ قرأ الكوفيون (يصلحا) بوزن (يكرما) من الإصلاح والباقون (يصالحا) بتشديد الصاد وأصله يتصالحا، أي فلا جناح عليها ولا عليه في الصلح الذي يتفقان عليه بينهما، كأن تسمح له ببعض حقها عليه في النفقة أو المبيت معها أو بحقها كله فيهما أو في أحدهما لتبقى في عصمته مكرمة أو تسمح له ببعض المهر ومتعة الطلاق أو بكل ذلك ليطلقها، فهو كقوله تعالى في سورة البقرة ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: 229]، وإنما يحل للرجل ما تعطيه من حقها إذا كان برضاها لاعتقادها أنه خير لها من غير أن يكون ملجئا إياها إليه بما لا يحل له من ظلمها أو إهانتها.

3. روي عن بعض مفسري السلف أن هذه الآية نزلت في الرجل تكون عنده المرأة يكرهها لكبر سنها أو دمامتها ويريد التزوج بخير منها ويخاف أن لا يعدل بينها وبين الجديدة فيكاشفها بذلك ويخيرها بين الطلاق وبين البقاء عنده بشرط أن تسقط عنه حقها في القسم أي حصتها من المبيت عندها، ومثله الرجل الذي عنده امرأتان مثلا يكره إحداهما ويريد فراقها إلا أن تصالحه على إسقاط حقها في المبيت، أو يعجز عن النفقة عليهما فيريد أن يطلق إحداهما إلا أن تصالحه على إسقاط حقها من النفقة، فإذا لم ترض المكروهة لكبرها أو قبحها إلا بحقها في القسم والنفقة وجب على الرجل إيفاؤها وحقها وأن لا ينقص منه شيئا، فإن قدر على أن يصالحها بمال يبذله لها بدلا من لياليها ورضيت بذلك جاز لهما ولا جناح عليهما فيه كما لا جناح عليهما في غير هذه الصورة من صور الصلح فإن المقصد هو التراضي والمعاشرة بالمعروف أو التسريح بإحسان.

4. ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ من التسريح والفراق وإن كان بإحسان وأداء المهر والمتعة وحفظ الكرامة كما هو الواجب على المطلق لأن رابطة الزوجية من أعظم الروابط وأحقها بالحفظ، وميثاقها من أغلظ المواثيق وأجدرها بالوفاء، وعروض الخلاف والكراهة وما يترتب عليها من النشوز والإعراض وسوء المعاشرة لمن لم يقف عند حدود الله من الأمور الطبيعية التي لا يمكن زوالها من بين البشر، والشريعة العادلة الرحيمة هي التي تراعى فيها السنن الطبيعية والوقائع الفعلية بين الناس، ولا يتصور في ذلك أكمل مما جاء به الإسلام فإنه جعل القاعدة الأساسية هي المساواة بين الزوجين في كل شيء إلا القيام برياسة الأسرة والقيام على مصالحها لأنه أقوى بدنا وعقلا وأقدر على الكسب وعليه النفقة فقال: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: 228] وهذه الدرجة هي التي بينها بقوله: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء: 34] وفرض عليهم العدل والإحسان في هذه الرياسة، فيجب على الرجل وراء النفقة على امرأته أن يعاشرها بالمعروف وأن يحصنها ويعفها ويحصن نفسه ويعفها بها، ولا يجوز له أن يجعل لها ضرة شريكة في ذلك إلا إذا وثق من نفسه بالعدل بينهما، وإنما أبيح له ذلك بشرطه لأنه من ضرورات الاجتماع ولا سيما في أزمنة الحروب التي يقل فيها الرجال ويكثر النساء كما بينا كل ذلك بالتفصيل في محله فإن أراد ذلك أو فعله أو وقع بينهما النفور بسبب آخر فيجب على كل منهما أن يتحرى العدل والمعروف، فإن خافا أن لا يقيما حدود الله فعلى الذي يريد منهما أن يخلص من الآخر أن يسترضيه، وكما جعل الله الطلاق للرجل لأنه أحرص على عصمة الزوجية لما تكلفه من النفقة ولأنه أبعد عن طاعة الانفعال العارض جعل للمرأة حق الفسخ إذا لم يف بحقوقها من النفقة والإحصان، وقيل أن كلمة (خير) ليست للتفضيل وإنما هي لبيان خيرية الصلح في نفسه.

5. ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ بين لنا سبحانه وتعالى في هذه الحكمة السبب الذي قد يحول بين الزوجين وبين الصلح الذي فيه الخير وحسم مادة الخلاف والشقاق لأجل أن نتقيه ونجاهد أنفسنا في ذلك وهو الشح، ومعناه البخل الناشئ عن الحرص، ومعنى إحضاره الأنفس أنها عرضة له فإذا جاء مقتضى البذل ألم بها ونهاها أن تبذل ما ينبغي بذله لأجل الصلح وإقامة المصلحة، فالنساء حريصات على حقوقهن في القسم والنفقة وحسن العشرة شحيحات بها، والرجال أيضا حريصون على أموالهم أشحة بها، فينبغي لكل منهما أن يتذكر أن هذا من ضعف النفس الذي يضره ولا ينفعه، وأن يعالجه فلا يبخل بما ينبغي بذله والتسامح فيه لأجل المصلحة، فإن من أقبح البخل أن يبخل أحد الزوجين في سبيل مرضاة الآخر بعد أن أفضى بعضهما إلى بعض وارتبطا بذلك الميثاق العظيم.

6. بل ينبغي أن يكون التسامح بينهما أوسع من ذلك وهو ما تشير إليه الجملة الآتية: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ أي وإن تحسنوا العشرة فيما بينكم فتتراحموا وتتعاطفوا ويعذر بعضكم بعضا وتتقوا النشوز والإعراض، وما يترتب عليهما من منع الحقوق أو الشقاق، فإن الله كان بما تعملونه من ذلك خبيرا لا يخفى عليه شيء من دقائقه وخفاياه ولا من قصدهم فيه، فيجزي الذين أحسنوا منكم بالحسنى، والذين اتقوا بالعاقبة الفضلى، قال بعض المفسرين: المراد بهذه الجملة حث الرجال على الحرص على نسائهم وعدم النشوز والإعراض عنهن، وإن كرهوهن لكبرهن أو دمامتهن، كما قال في آية أخرى ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 19]

__________

(1) تفسير المنار: ‏5/363.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ أي وإن توقعت من بعلها نشوزا وترفعا عليها بما لاح لها من مخايل ذلك وأماراته، بأن منعها نفسه ونفقته والمودة والرحمة التي تكون بين الرجل والمرأة، أو آذاها بسبّ أو ضرب أو نحو ذلك، أو إعراضا عنها بأن قلل من محادثتها ومؤانستها لبعض أسباب من طعن في سن أو دمامة أو شيء في الأخلاق أو الخلق أو ملال لها أو طموح إلى غيرها أو نحو ذلك.

2. والواجب عليها أن تتثبت فيما تراه من أمارات الإعراض فربما كان الذي شغله عن مسامرتها والرغبة عن مباعلتها، مسائل من مشاكل الحياة الدنيوية أو الدينية، وهي أسباب خارجية لا دخل له فيها، ولا تعلق لها بكراهتها والجفوة عنها، وحينئذ عليها أن تعذره، وتصبر على ما لا تحب من ذلك، أما إذا استبان لها أن ذلك لكراهته إياها ورغبته عنها.

3. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا﴾ أي فلا بأس بهما في أن يصلحا بينهما صلحا كأن تسمح له ببعض حقها عليه في النفقة أو المبيت معها، أو بحقها كله فيهما أو في أحدهما، لتبقى في عصمته مكرّمة، أو تسمح له ببعض المهر ومتعة الطلاق أو بكل‏ ذلك ليطلقها كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ وإنما يحل له ذلك إذا كان برضاها، لاعتقادها أن في ذلك الخير لها بلا ظلم لها ولا إهانة، وقد روى أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها وكان لها منه ولد فقالت له: لا تطلقنى ودعنى أقوم على ولدي وتقسم لي في كل شهرين، فقال إن كان هذا يصلح فهو أحبّ إلىّ، فأقرها على ما طلبت.

4. ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ من التسريح والفراق، لأن رابطة الزوجية من أعظم الروابط وأحقها بالحفظ، وميثاقها من أغلظ المواثيق، وعروض الخلاف بين الزوجين وما يترتب عليه من نشوز وإعراض وسوء معاشرة من الأمور الطبيعية التي لا يمكن زوالها من البشر.

5. وأجمل ما جاء في الإسلام لمنعه هو المساواة بينهما في كل شيء إلا القيام برئاسة الأسرة، لأنه أقوى من المرأة بدنا وعقلا وأقدر على الكسب وعليه النفقة كما جاء في قوله: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، فيجب على الرجل أن يعاشرها بالمعروف وأن يتحرى العدل بقدر المستطاع.

6. ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ أي إن النفوس عرضة له، فإذا عرض لها داع من دواعي البذل ألمّ بها الشح والبخل ونهاها أن تبذل ما ينبغي بذله لأجل الصلح، فالنساء حريصات على حقوقهن في القسم والنفقة وحسن العشرة، والرجال حريصون على أموالهم أيضا، فينبغي أن يكون التسامح بينهما كاملا، إذ هما قد ارتبطا ارتباطا وثيقا بذلك الميثاق العظيم وأفضى بعضهما إلى بعض.

7. ثم رغب في بقاء الرابطة الزوجية جهد المستطاع فقال: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ أي وإن تحسنوا العشرة فيما بينكم وتتقوا أسباب النشوز والإعراض وما يترتب عليهما من الشقاق، فإن الله كان خبيرا بذلك لا يخفى عليه شيء منه، فهو يجازى من أحسن الحسنى ويثيبه على ذلك.

__________

(1) تفسير المراغي ‏5/172.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نمضي خطوة أخرى مع التنظيم الاجتماعي ـ في محيط الأسرة ـ في هذا المجتمع الذي كان الإسلام ينشئه، بمنهج الله المتنزل من الملأ الأعلى، لا بعوامل التغير الأرضية في عالم المادة أو دنيا الإنتاج: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾

2. لقد نظم المنهج ـ من قبل ـ حالة النشوز من ناحية الزوجة؛ والإجراءات التي تتخذ للمحافظة على كيان الأسرة.. فالآن ينظم حالة النشوز والإعراض حين يخشى وقوعها من ناحية الزوج، فتهدد أمن المرأة وكرامتها، وأمن الأسرة كلها كذلك، إن القلوب تتقلب، وإن المشاعر تتغير، والإسلام‏ منهج حياة يعالج كل جزئية فيها، ويتعرض لكل ما يعرض لها؛ في نطاق مبادئه واتجاهاته؛ وتصميم المجتمع الذي يرسمه وينشئه وفق هذا التصميم.

3. فإذا خشيت المرأة أن تصبح مجفوة؛ وأن تؤدي هذه الجفوة إلى الطلاق ـ وهو أبغض الحلال إلى الله ـ أو إلى الإعراض، الذي يتركها كالمعلقة، لا هي زوجة ولا هي مطلقة، فليس هنالك حرج عليها ولا على زوجها، أن تتنازل له عن شيء من فرائضها المالية أو فرائضها الحيوية، كأن تترك له جزءا أو كلا من نفقتها الواجبة عليه، أو أن تترك له قسمتها وليلتها، إن كانت له زوجة أخرى يؤثرها، وكانت هي قد فقدت حيويتها للعشرة الزوجية أو جاذبيتها.. هذا كله إذا رأت هي ـ بكامل اختيارها وتقديرها لجميع ظروفها ـ أن ذلك خير لها وأكرم من طلاقها: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا﴾.. هو هذا الصلح الذي أشرنا إليه..

4. ثم يعقب على الحكم بأن الصلح إطلاقا خير من الشقاق والجفوة والنشوز والطلاق: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾.. فينسم على القلوب التي دبت فيها الجفوة والجفاف، نسمة من الندي والإيناس، والرغبة في إبقاء الصلة الزوجية، والرابطة العائلية.

5. إن الإسلام يتعامل مع النفس البشرية بواقعها كله، فهو يحاول ـ بكل وسائله المؤثرة ـ أن يرفع هذه النفس إلى أعلى مستوى تهيئها له طبيعتها وفطرتها.. ولكنه في الوقت ذاته لا يتجاهل حدود هذه الطبيعة والفطرة؛ ولا يحاول أن يقسرها على ما ليس في طاقتها؛ ولا يقول للناس: اضربوا رؤوسكم في الحائط فأنا أريد منكم كذا والسلام! سواء كنتم تستطيعونه أو لا تستطيعونه! إنه لا يهتف للنفس البشرية لتبقى على ضعفها وقصورها؛ ولا ينشد لها أناشيد التمجيد وهي تتلبط في الوحل، وتتمرغ في الطين ـ بحجة أن هذا واقع هذه النفس! ولكنه كذلك لا يعلقها من رقبتها في حبل بالملإ الأعلى، ويدعها تتأرجح في الهواء؛ لأن قدميها غير مستقرتين على الأرض، بحجة الرفعة والتسامي! إنه الوسط.. إنه الفطرة.. إنه المثالية الواقعية، أو الواقعية المثالية.. إنه يتعامل مع الإنسان، بما هو إنسان.

6. والإنسان مخلوق عجيب، هو وحده الذي يضع قدميه على الأرض؛ وينطلق بروحه إلى السماء، في لحظة واحدة لا تفارق فيها روحه جسده؛ ولا ينفصل إلى جسد على الأرض وروح في السماء! وهو هنا ـ في هذا الحكم ـ يتعامل مع هذا الإنسان، وينص على خصيصة من خصائصه في هذا المجال: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾، أي أن الشح حاضر دائما في الأنفس، وهو دائما قائم فيها، الشح بأنواعه، الشح بالمال، والشح بالمشاعر.

7. وقد تترسب في حياة الزوجين ـ أو تعرض ـ أسباب تستثير هذا الشح في نفس الزوج تجاه زوجته، فيكون تنازلها له عن شيء من مؤخر صداقها أو من نفقتها ـ إرضاء لهذا الشح بالمال، تستبقي معه عقدة النكاح! وقد يكون تنازلها عن ليلتها ـ إن كانت له زوجة أخرى أثيرة لديه ـ الأولى لم تعد فيها حيوية أو جاذبية إرضاء لهذا الشح بالمشاعر، تستبقي معه عقدة النكاح! والأمر على كل حال متروك في هذا للزوجة وتقديرها لما تراه مصلحة لها.. لا يلزمها المنهج الرباني بشيء ولكنه فقط يجيز لها التصرف، ويمنحها حرية النظر والتدبر في أمرها وفق ما تراه.

8. وفي الوقت الذي يتعامل المنهج الإسلامي مع طبيعة الشح هذه، لا يقف عندها باعتبارها كل جوانب النفس البشرية، بل هو يهتف لها هتافا آخر، ويعزف لها نغمة أخرى: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾، فالإحسان والتقوى هما مناط الأمر في النهاية، ولن يضيع منهما شيء على صاحبه، فإن الله خبير بما تعمله كل نفس؛ خبير ببواعثه وكوامنه.. والهتاف للنفس المؤمنة بالإحسان والتقوى، والنداء لها باسم الله الخبير بما تعمل، هتاف مؤثر، ونداء مستجاب.. بل هو وحده الهتاف المؤثر والنداء المستجاب.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏2/769.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. النشوز: النفور عن المألوف، والنشز من الأرض: الصلب.. والفتيا هنا في شأن من شئون النساء اللائي وعد الله سبحانه بالإفتاء فيهن..

2. ومما يسأل عنه من أمر النساء، أن تجد المرأة في زوجها من سوء العشرة ما تخشى معه قطع الحياة الزوجية، إذا لم يدخل عليها عنصر جديد يغذيها بشيء من المودة والإحسان، والحياة الزوجية لا تستقيم أبدا، ولا تؤتى ثمارها طيبة مباركة إلا إذا سكن كل من الزوجين إلى الآخر، وامتزج به، واختلط بمشاعره، وتنفس معه أنفاس المودة والرحمة، كما يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21]

3. في قوله تعالى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ إشارة إلى هذا العارض الذي يعرض للحياة الزوجية، فيثير فيها مشاعر القلق‏ والاضطراب، وذلك بأن تجد المرأة من زوجها نشوزا، أي تعاليا عنها، حيث ينظر إليها نظرة باهتة غير عابئ بها، لا نظرة الشريك إلى شريكه، والصديق إلى صديقه.. أو تشعر بجفوة منه نحوها، وبإعراض عنها وإهمال لها..

4. في التعبير بالخوف عن هذه المشاعر وتلك الأحاسيس التي تجدها المرأة في زوجها ـ ما يكشف عما يقع في نفس المرأة من إشفاق على مستقبل حياتها الزوجية مع هذا الزوج الذي يحمل لها تلك المشاعر، التي قد تنمو مع الأيام، وتصبح داء لا دواء له إلا فصم العلاقة الزوجية بين الزوجين.

5. في قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا﴾ إشارة إلى الدواء، الذي يمكن أن يقدّم في مثل هذه الحالة لهذا الصدع الذي وقع بين الزوجين، وذلك الدواء هو أن يحدث الزوجان بينهما مصالحة، وأن يعملا تسوية، يلتقيان فيها على ما يحقق لكل منهما بعض ما يطلب من صاحبه.. فقد يكون في يد المرأة ما يمكن أن تترضّى به الزوج من مال، وإنه لا بأس في هذه الحالة أن تقدم المرأة للزوج بعض ما كان يطمع فيه من مالها، الذي ربما كان حرمانه منه سببا في إعراضه عنها.. كما يمكن المرأة أن تنزل للزوج عن بعض حقوقها الزوجية.. كالتسوية في القسمة بينها وبين بعض زوجاته اللائي يؤثرهن عليها بحبّه ومودته.. فترضى منه ببعض هذا الحق.. وقد يكون في هذا الموقف الذي تقفه المرأة من زوجها، ما يعطفه عليها، ويقرّبه منها، ويصلح ما بينه وبينها، وبهذا تبقى العلاقة الزوجية موصولة بينهما، وتظل المرأة في حماية الزوج ورعايته.

6. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾.. أي أنه خير على أي حال لكلّ من المرأة والرجل.. إذ أبقيا به على رابطة مقدسة بينهما، كان في قطعها قطع لما أمر الله به أن يوصل.

7. في قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ رفع لمظنّة الحرج التي قد تكون متصوّرة في هذا الموقف.. إذ أن المرأة تنزل للزوج عن بعض حقها، أو تقدم إليه شيئا من مالها، تحت ظروف قاهرة.. لا عن رضى واختيار.. وفي هذا عدوان على المرأة وإكراه لها.. ولكن أباح الإسلام هذا، ليدفع به عن المرأة ضررا أكبر من هذا الضرر الذي يلحقها من التنازل عن بعض حقوقها الزوجية، أو الغرم في بعض مالها.. وذلك لتحفظ حياتها الزوجية من أن تتصدع وتنهار! فالشر الذي يدفع به شرّ أعظم منه، هو خير!

8. ومع هذا، فإنه ليس من المفروض فرضا لازما على المرأة أن تقف هذا الموقف، وإنما ذلك متروك لتقديرها، ووزنها لأحوالها وظروفها.. فلها أن تطلب الطلاق من زوجها إذا كانت غير محتملة للضرر الواقع عليها من نشوزه أو إعراضه عنها.. ثم إن لها في الوقت نفسه أن تصلح هذا الأمر بما تقدر عليه، إذا هي رأت في مصلحتها أن تبقى على زوجها، وأن تشترى رضاه ومودته بالتنازل عن بعض حقوقها..

9. ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ أي أشهدت الأنفس الشحّ، بمعنى أريته وعاينته في هذا الموقف، والشحّ هو البخل.. والذي أرى الأنفس الشحّ في هذا الموقف، هو مواجهتها لذاتها وهي تستقبل من الغير هجوما عليها، ومحاولة للانتقاص مما في يدها، ففي مثل تلك الحال تتحرك في النفس دوافع حبّ الذات، الذي من شأنه أن يبرز غريزة الشحّ، التي هي سلاح من أسلحة الدفاع عن الذات.

10. جملة ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ جملة اعتراضية، يراد بها التنبيه‏ إلى تلك الصفة الذميمة التي تطلّ برأسها في هذا الموقف، الذي يواجه فيه كلّ من الزوج والزوجة صاحبه مواجهة صريحة.. مواجهة الغريم لغريمه في استقضاء حق له عليه، ومن شأن هذا التنبيه أن يقيم في كيان كل من الزوجين، وازعا يزع هذا الوسواس، الذي يدفع في صدر كل منهما بمشاعر الشحّ والحرص، ومن شأن هذا الوازع ـ إذا استند إلى دين وخلق ـ أن ينهى هذا الموقف الحادّ بين الزوجين، وأن يجمعها على التسامح، والصفح، والوفاق..

11. ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ هو دعوة إلى الإحسان والتقوى في هذا الموقف، الذي إن لم تتحرك فيه مشاعر الإحسان لتؤدى دورها في ظلّ من تقوى الله والعمل على مرضاته ـ لم يكن سبيل إلى إصلاح هذا الخلل، ورأب ذلك الصدع، بل ربما زادته المواجهة بين الزوجين اتساعا وعمقا.

12. انظر في هذا الاختلاف الذي وقع في فاصلة هذه الآية، وفي فاصلة الآية التي قبلها.. فقد جاءت فاصلة هذه الآية: ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ حيث أن ما يعمل هنا، هو مما تمليه القلوب، وتتناجى به الضمائر.. فهو ـ والأمر كذلك ـ محتاج إلى خبرة تطّلع على ما في القلوب، وتكشف ما استقر في الضمائر، وليس ذلك إلا لله الخبير العليم.. أما فاصلة الآية التي سبقت هذه الآية، فقد جاءت هكذا: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ حيث كان الحديث عن أفعال محسوسة، يكفى في كشفها العلم بها على الصورة التي وقعت، وذلك مما لا يغيب عن علم العليم الخبير!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏3/917.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ عطف لبقية إفتاء الله تعالى، وهذا حكم اختلال المعاشرة بين الزوجين، وقد تقدّم بعضه في قوله: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ [النساء: 34] الآية، في هذه السورة، فذلك حكم فصل القضاء بينهما، وما هنا حكم الانفصال بالصلح بينهما، وذلك ذكر فيه نشوز المرأة وهنا ذكر نشوز البعل، والبعل زوج المرأة وقد تقدّم وجه إطلاق هذا الاسم عليه في قوله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ في سورة البقرة [228]

2. صيغة ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾ من صيغ الإباحة ظاهرا، فدلّ ذلك على الإذن للزوجين في صلح يقع بينهما، وقد علم أنّ الإباحة لا تذكر إلّا حيث يظنّ المنع، فالمقصود الإذن في صلح يكون بخلع: أي عوض مالي تعطيه المرأة أو تنازل عن بعض حقوقها، فيكون مفاد هذه الآية أعمّ من مفاد قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: 229]، فسمّاه هناك افتداء، وسمّاه هنا صلحا، وقد شاع في الاستعمال إطلاق.

3. الصلح على التراضي بين الخصمين على إسقاط بعض الحقّ، وهو الأظهر هنا، واصطلح الفقهاء من المالكية: على إطلاق الافتداء على اختلاع المرأة من زوجها بمال تعطيه، وإطلاق الخلع على الاختلاع بإسقاطها عنه بقية الصداق، أو النفقة لها، أو لأولادها.

4. يحتمل أن تكون صيغة ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾ مستعملة في التحريض على الصلح، أي إصلاح أمرهما بالصلح وحسن المعاشرة، فنفي الجناح من الاستعارة التمليحية؛ شبّه حال من ترك الصلح واستمرّ على النشوز والإعراض بحال من ترك الصلح عن عمد لظنّه أنّ في الصلح جناحا، فالمراد الصلح بمعنى إصلاح ذات البين، والأشهر فيه أن يقال الإصلاح، والمقصود الأمر بأسباب الصلح، وهي: الإغضاء عن الهفوات، ومقابلة الغلظة باللين، وهذا أنسب وأليق بما يرد بعده من قوله: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾

5. للنشوز والإعراض أحوال كثيرة: تقوى وتضعف، وتختلف عواقبها، باختلاف أحوال الأنفس، ويجمعها قوله: ﴿خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾، وللصلح أحوال كثيرة: منها المخالعة، فيدخل في ذلك ما ورد من الآثار الدالّة على حوادث من هذا القبيل، ففي (صحيح البخاري)، عن عائشة، قالت في قوله تعالى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا﴾ قالت: الرجل يكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها، فتقول له أجعلك من شأني في حلّ، فنزلت هذه الآية، وروى الترمذي، بسند حسن عن ابن عباس، أنّ سودة أمّ المؤمنين وهبت يومها لعائشة، وفي أسباب النزول للواحدي: أنّ ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا، أيّ كبرا فأراد طلاقها، فقالت له: أمسكني واقسم لي ما بدا لك، فنزلت الآية في ذلك.

6. التعريف في قوله: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ تعريف الجنس وليس تعريف العهد، لأنّ المقصود إثبات أنّ ماهية الصلح خير للناس، فهو تذييل للأمر بالصلح والترغيب فيه، وليس المقصود أنّ الصلح المذكور آنفا، وهو الخلع، خير من النزاع بين الزوجين، لأنّ هذا، وإنّ صحّ معناه، ألّا أنّ فائدة الوجه الأوّل أوفر، ولأنّ فيه التفادي عن إشكال تفضيل الصلح على النزاع في الخيرية مع أنّ النزاع لا خير فيه أصلا.

7. من جعل الصلح‏ الثاني عين الأوّل غرّته القاعدة المتداولة عند بعض النحاة، وهي: أنّ لفظ النكرة إذا أعيد معرّفا باللام فهو عين الأولى، وهذه القاعدة ذكرها ابن هشام الأنصاري في (مغني اللبيب) في الباب السادس، فقال: يقولون: (النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى، وإذا أعيدت معرفة، أو أعيدت المعرفة معرفة أو نكرة كانت الثانية عين الأولى)، ثم ذكر أنّ في القرآن آيات تردّ هذه الأحكام الأربعة كقوله تعالى: ﴿الله الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا﴾ [الروم: 54]، ﴿أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء: 128]، ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ [النحل: 88] والشي‏ء لا يكون فوق نفسه،‏ ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: 45]، ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ [النساء: 153]، وأنّ في كلام العرب ما يردّ ذلك أيضا، والحقّ أنّه لا يختلف في ذلك إذا قامت قرينة على أنّ الكلام لتعريف الجنس لا لتعريف العهد، كما هنا، وقد تقدّم القول في إعادة المعرفة نكرة عند قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ في سورة البقرة [193]، ويأتي عند قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ في سورة الأنعام [37]

8. قوله: ﴿خَيْرُ﴾ ليس هو تفضيلا ولكنّه صفة مشبّهة، وزنه فعل، كقولهم: سمح وسهل، ويجمع على خيور، أو هو مصدر مقابل الشرّ، فتكون إخبارا بالمصدر، وأمّا المراد به التفضيل فأصل وزنه أفعل، فخفّف بطرح الهمزة ثم قلب حركته وسكونه، جمعه أخيار، أي والصلح في ذاته خير عظيم، والحمل على كونه تفضيلا يستدعي أن يكون المفضّل عليه هو النشوز والإعراض،، وليس فيه كبير معنى.

9. دلّت الآية على شدّة الترغيب في هذا الصلح بمؤكّدات ثلاثة: وهي المصدر المؤكّد في قوله: ﴿صُلْحًا﴾، والإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾، والإخبار عنه بالمصدر أو بالصفة المشبهة فإنّها تدلّ على فعل سجية.

10. معنى‏ ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ ملازمة الشحّ للنفوس البشرية حتّى كأنّه حاضر لديها، ولكونه من أفعال الجبلّة بني فعله للمجهول على طريقة العرب في بناء كلّ فعل غير معلوم الفاعل للمجهول، كقولهم: شغف بفلانة، واضطرّ إلى كذا، ف (الشحّ) منصوب على أنّه مفعول ثان لـ (أحضرت) لأنّه من باب أعطى، وأصل الشحّ في كلام العرب البخل بالمال، وفي الحديث‏ (أن تصدّق وأنت صحيح‏ شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى)، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9] ويطلق على حرص النفس على الحقوق وقلّة التسامح فيها، ومنه المشاحّة، وعكسه السماحة في الأمرين.

11. فيجوز أن يكون المراد بالصلح في هذه الآية صلح المال، وهو الفدية، فالشحّ هو شحّ المال، وتعقيب قوله: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ بقوله: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ﴾ على هذا الوجه بمنزلة قولهم بعد الأمر بما فيه مصلحة في موعظة أو نحوها: وما إخالك تفعل، لقصد التحريض.

12. ويجوز أن يكون المراد من الشحّ ما جبلت عليه النفوس: من المشاحّة، وعدم التساهل، وصعوبة الشكائم، فيكون المراد من الصلح صلح المال وغيره، فالمقصود من تعقيبه به تحذير الناس من أن يكونوا متلبّسين بهذه المشاحّة الحائلة دون المصالحة، وتقدّم الكلام على البخل عند قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ الله﴾ في سورة آل عمران [180]، وقد اشتهر عند العرب ذمّ الشحّ بالمال، وذمّ من لا سماحة فيه، فكان هذا التعقيب تنفيرا من العوارض المانعة من السماحة والصلح، ولذلك ذيّل بقوله: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ لما فيه من الترغيب في الإحسان والتقوى.

__________

(1) التحرير والتنوير: ‏4/267.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وبعد هذه الوصايا في إعطاء الضعفاء من اليتامى حقوقهم والإنصاف لهم ذكر سبحانه وصاياه في علاج ما يكون بين الزوجين، فقال: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا﴾ الخوف توقع الإنسان مكروها يقع به، وقد فسر الطبري النشوز بقوله: (يعنى استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها أثرة عليها وارتفاعا بها عنها، وإما لكراهة منه بعض أشياء بها أو لدمامتها وإما سنها وكبرها، أو غير ذلك من أمورها، والإعراض ألا يؤنسها، وأن يصرف عنها وجهه، وقد قال بعض العلماء: إن الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز تباعد، والإعراض انصراف الوجه وعدم الأنس بها مع القرب منها)

2. إن المرأة إذا لاحظت ذلك من زوجها لا تقابل النشوز بمثله ولا الإعراض بالصد، فإن ذلك يوسع الهوة بينهما ويفك الأسرة، وينتهى الأمر إلى شقاق لا لقاء بعده، وإن العلاج في هذه الحالة نفسى يختلف باختلاف قوة النفرة، فإذا كانت لم تستحكم ويمكن أن يتوليا علاجها كان عليهما دينا أن يوليا العلاج، وإذا كان مع النفور خصام كان لا بد من تدخل الغير، لإصلاح ذات البين، وإذا استحكمت النفرة، ولا سبيل للإصلاح فالافتراق، فهذه ثلاثة أنواع.

3. وقد ذكر سبحانه وتعالى علاج المرتبة الأولى، فقال: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ ففي هذه المرتبة يكون الواجب الديني على المرأة والرجل أن يعملا بأنفسهما على إصلاح ما بينهما، فتتطامن المرأة للعاصفة ويقرب الرجل امرأته إليه، ويترك شماسه‏ وإعراضه، ويتطامن لأهله، ويعلم قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى)، وإن التطامن من الرجل لزوجه لتكون العشرة على مودة ورحمة هو عين العزة، فالكريم لا يذل أهله والذليل هو الذى يهين أهله، وقد لوحظ في التعبير أمور ثلاثة:

أ. أولها: أنه عبر عن طلب الصلح بقوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا﴾ وذلك ترفق في الإيجاب، فعبر عنه بنفي الإثم لكيلا يتوهم أحدهما أن في التساهل عن بعض حقه إثما، والصلح يقتضى أن يتسامح أحد الفريقين في‏ جزء من حقه؛ لينال خيرا أكثر مما تسامح فيه، فإذا تركت المرأة بعض حقها لتدوم العشرة بالمعروف فذلك لا إثم فيه، بل فيه الخير.

ب. ثانيها: أنه أكد الصلح بقوله: ﴿صُلْحًا﴾ للإشارة إلى أن الصلح في هذا المقام لا يكون صلحا ظاهرا، بل يكون نفسيا، بحيث تتلاقى القلوب وتصفو النفوس، ويحل الوئام محل الخصام، فليس الصلح في هذه الحال إنهاء لمشكلة فقط، بل هو تلاقى القلوب على المودة والرحمة.

ج. ثالثها: أن الله تعالى أكد الصلح:

بقوله تعالى أولا ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ أي أنه في ذاته خير يعم الطرفين؛ من تسامح يناله من الخير بمقدار ما تسامح أو بأضعاف ما تسامح، فهو قد أعطى ليأخذ وتساهل لتلزم ولتدوم نعمة الزوجية.

وأكد سبحانه الصلح بدعوة الزوجين ألا يشح أحدهما بالعطاء لرفيقه، ولذا قال تعالى: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ والشح هو البخل، وهو هنا التشاح النفسي بأن يلتزم كل واحد من الزوجين موقفه متمسكا بحقوقه الشكلية، ومعنى قوله تعالى:‏ ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ أن الشح جعل حاضرا لا يغيب عنها ولا تنفك عنه كأنها مطبوعة عليه، وعلى المتصالحين اللذين يريدان التصافى أن يلاحظا هذا ويعالجاه، فهو الداء، وإذا عرف سهل الدواء، وما دام الصلح كاملا يجب اجتثاث الشح الحاضر، ليكون الصفاء الدائم.

وأكد سبحانه وتعالى طلب الصلح ثالثا بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ في هذا النص الكريم علاج لشح النفس إذا حضر، ولوقوف كل في الجانب الذى يحفظ به حقوقه، ولا يتحرك، فإن العلاج لهذه الحال هو الإحسان، فليكن محسنا بدل أن يكون ملحفا، فإذا كان الإحسان ذهب التشاح، والعلاقات في الأسرة لا تبنى على الظاهر، بل تبنى على القلوب، والقلوب لا يطهرها إلا تقوى الله في المعاملة؛ إذ إن المعاملة الطيبة، والإحسان وزيادة العطف وتقوى الله هي البلسم الشافي من الشح النفسي الذى يعترى ما يكون بين الزوجين.

4. وإن الله تعالى قد وعد بالثواب العظيم لمن يحسن ويلاحظ تقوى الله تعالى في المعاملة من الزوجين؛ لأن الله تعالى يعلم علما دقيقا لا يغادر شيئا، وهو علم مستمر دائم يليق بجلاله سبحانه، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ وإذا كان عليما علما دقيقا بما يعملون، فإنه هو الذى يجازى بمقتضى علمه، فإذا تسامح أحد الزوجين، فإنه مثاب في الآخرة، فإذا كان قد تسامح في بعض حقه الدنيوي فإنه سيضاعف له الجزاء في الآخرة.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏4/1882.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾، قد يكون النشوز من الزوجة بامتناعها عن فراش الزوج، أو خروجها من البيت دون اذنه، وتقدمت الاشارة إلى نشوزها عند تفسير الآية 34 من هذه السورة.. وقد يكون النشوز من الزوج بايذائها وعدم الإنفاق عليها أو القسمة لها إذا كان عنده أكثر من زوجة، وقد تعرضت هذه الآية لخوف الزوجة من نشوز زوجها أو اعراضه عنها، والمراد بالإعراض جفوته الدالة على كرهه لها، أما انصرافه إلى أشغاله ومشاكله فعليها ان تعذره فيه، وتصبر عليه، ما دام غير كاره لها.

2. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا﴾، إذا خشيت المرأة أن يؤدي نشوز الزوج إلى طلاقها، أو تركها كالمعلقة لا مزوّجة، ولا مطلقة، إذا كان‏ كذلك فلا بأس عليه، ولا عليها أن يتفقا فيما بينهما مباشرة، أو بواسطة أحد الطيبين، أن يتفقا ويصطلحا على أن تتنازل له عن بعض حقوقها المادية أو الأدبية، لتبقى في عصمته، وتحيا معه حياة هادئة.

3. ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ من الشقاق والطلاق، فقد جاء في الحديث: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) وتجدر الاشارة إلى أن ما تبذله المرأة لزوجها من أجل الألفة أو الطلاق لا يحل إلا إذا كان عن طيب نفس، قال تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: 4]

4. ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾، أي ان الشح حاضر دائما في الأنفس، لا يغيب عنها، حتى ساعة البذل، فان اللوعة التي يحس بها الباذل، ويخفيها عندما يبذل هي الشح بالذات، والقصد من قوله: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ ان المرأة لا تتنازل عن حقها للرجل بسهولة، ولا الرجل يتسامح معها من غير عوض، ويجب أن لا يغيب عنا ان الآية الكريمة تتحدث عن حياة الزوجين مع عدم الوئام والوفاق، أما مع صلاح الحال، والتئام الأخلاق فلا موجب للبذل والتصالح، بل لا يرى أحد الزوجين انه يملك شيئا دون صاحبه، ما داما كذلك.

5. ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾، هذه دعوة من الله سبحانه إلى كل من الزوجين أن يحسن العشرة مع صاحبه، ويتقي أسباب الخلاف والشقاق.

__________

(1) التفسير الكاشف: ‏2/453.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. 2. ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ حكم خارج عما استفتوا فيه لكنه متصل به بالمناسبة نظير الحكم المذكور في الآية التالية ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا﴾، وإنما اعتبر خوف النشوز والإعراض دون نفس تحققهما لأن الصلح يتحقق موضوعه من حين تحقق العلائم والآثار المعقبة للخوف، والسياق يدل على أن المراد بالصلح هو الصلح بغض المرأة عن بعض حقوقها في الزوجية أو جميعها لجلب الأنس والألفة والموافقة، والتحفظ عن وقوع المفارقة، والصلح خير.

3. ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ الشح‏ هو البخل، معناه: أن الشح من الغرائز النفسانية التي جبلها الله عليها لتحفظ به منافعها، وتصونها عن الضيعة، فما لكل نفس من الشح هو حاضر عندها، فالمرأة تبخل بما لها من الحقوق في الزوجية كالكسوة والنفقة والفراش والوقاع، والرجل يبخل بالموافقة والميل إذا أحب المفارقة، وكره المعاشرة، ولا جناح عليهما حينئذ أن يصلحا ما بينهما بإغماض أحدهما أو كليهما عن بعض حقوقه.

4. ثم قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ وهو موعظة للرجال أن لا يتعدوا طريق الإحسان والتقوى وليتذكروا أن الله خبير بما يعملونه، ولا يحيفوا في المعاشرة، ولا يكرهوهن على إلغاء حقوقهن الحقة وإن كان لهن ذلك.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏5/102.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿بَعْلِهَا﴾ زوجها ﴿نُشُوزًا﴾ نُبُوَّاً عنها وترفعاً، قال الشرفي في (المصابيح): (والمراد: أنها خافت لما لاح لها من أمارات النشوز، وهو أن يمنعها ما يتوجه عليه من نفقة وحسن عشرة، والإعراض أن يقل محادثتها لطعن سن أو ملال أو طموح في أخرى أو غير ذلك) المراد، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا﴾ فلا إثم عليه ولا عليها.

2. ﴿صُلْحًا﴾ بالتنكير، أي: أيَّ صلح يرتضيانه ويتفقان عليه، والمراد: ما لا يحل حراماً أو يحرم حلالاً كما جاء في الحديث؛ لأن إباحة الصلح ليس إلا لترك بعض الحقوق الزوجية، وتحريم الحلال أو تحليل الحرام أمر خارج عن ذلك، فليس داخلاً في الآية ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ ترغيب في الصلح بين الزوجين وغيرهما.

3. ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ إشارة إلى الصلح بنقص النفقة أو تركها، فقد يكون الزوج ثقلت عليه النفقة وأشرف على النشوز من أجل شحه بالمال، فلا بأس بالصلح بالنقص أو الترك إذا كانت الزوجة تجد نفقة من مالها أو مال أبيها مثلاً، وذلك لاستبقاء الزواج بينهما.

4. ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ ترغيب في الإحسان بعد الصلح، وأن لا يتكل الزوج عليه، وكذلك في الإحسان بأن لا يحوجها إلى الصلح وغير ذلك من الإحسان، وترغيب في التقوى لأن الله يجزي بما عمل العبد من طاعة وإحسان جزاء موفوراً؛ لأنه بذلك خبير لا يخفى عليه قليل ولا كثير، وكذلك ما عمل العبد من سوء فالله كان به ﴿خَبِيرًا﴾ يجزيه به الجزاء الأوفى.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/181.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قد تلمح المرأة في حياتها مع الزوج تغيّرا في معاملتها وتمرّدا على حقوقها وإعراضها عنها بوجهه، وربما كان ذلك نتيجة كبر أو ميل إلى زوجة أخرى أو غير ذلك من الأسباب.. فكيف تواجه المرأة هذا الموقف؟ من الطبيعي أن الإسلام لم يرخص للرجل في ذلك فقد أراد الله له أن يعاشر زوجته بالمعروف، ولكنه ـ في الوقت نفسه ـ رخّص له في الطلاق، عندما تموت العاطفة في الروح، ويتبدل الجو الطيّب إلى حالة من النفور، وقد لا تحب الزوجة أن تفارق زوجها، بسبب بعض المؤثرات الذاتية، فلها أن تدخل معه بالمفاوضات التي تنتهي إلى الصلح، وذلك بأن تتنازل له عن بعض حقوقها المالية، أو عن حق المعاشرة الزوجية، ليمتنع عن طلاقها وليصلح شأنه معها، وقد أكّدت الآية أن الصلح خير، لأنه يفسح المجال لحل المشاكل بطريقة سلمية لا تخلّف وراءها مشاكل جديدة.

2. ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾، أي البخل، فإنه من الغرائز الإنسانية التي تكمن في داخل الإنسان فتمنعه من العطاء، وتحول بينه وبين تقديم التنازلات من أجل الوصول إلى الحلول الوسط في العلاقات الإنسانية، مما يعقّد الحياة لدى جميع الفرقاء المتنازعين ويحوّلها إلى جحيم؛ فلا مناص من الصلح الذي يقود الطرفين إلى بعض من الحق، بدلا من حرمانه منه بأجمعه، وقد ورد في الدر المنثور، عن علي بن أبي طالب عليه السّلام‏، أنه سئل عن هذه الآية فقال: (هو الرجل عنده امرأتان، فتكون إحداهما قد عجزت أو تكون دميمة، فيريد فراقها فتصالحه على أن يكون عندها ليلة وعند الأخرى ليالي ولا يفارقها، فما طابت به نفسها فلا بأس به؛ فإن رجعت سوّى بينهما).. وربما كان هذا التفسير من قبيل الحديث عن النموذج، وليس من قبيل التخصيص؛ لإمكان أن يكون هناك عدة حالات من هذا القبيل.

3. ثم انطلقت الآية إلى الرجال ـ فيما يوحي به السياق ـ لتدعوهم إلى الإحسان والتقوى، لئلا تقودهم الحالات النفسية المعقدة إلى الانحراف عن خط الله‏ في السلوك في داخل العلاقة الزوجية، فيعرض نفسه لعقوبة الله الذي هو خبير بكل ما يقومون به من أعمال.

4. وفي ضوء ذلك، يمكننا أن نفهم أن التنازل الذي يراد من الزوجة تقديمه ليس في مقابل إقناع الزوج بالقيام بحقها الشرعي الذي فرضه الله عليه؛ فإن ذلك أمر واجب لا يتحدث القرآن عن الدخول في مفاوضات الصلح من أجله، لأن الانحراف عنه غير شرعي، بل هو في مقابل تنازل الزوج عن حقه في الطلاق، الأمر الذي يجعل الدعوة إلى الصلح، دعوة إلى بناء الحياة الزوجية على أساس التراضي والوفاق، في الحالات التي تتحرك الظروف في اتجاه تهديمها وإزالتها من حياة الطرفين.

__________

(1) من وحى القرآن: ‏7/488.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لقد ورد في الكثير من كتب التّفسير والحديث، في سبب نزول هذه الآية، أنّه كان في زمن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شخص يدعى (رافع بن خديج) وكانت له زوجتان، إحداهما كبيرة السن عجوز، والأخرى شابة، فطلق (رافع) زوجته العجوز (اثر خلافات بينهما) لكنه ـ قبل أي تنتهي عدّتها ـ عرض عليها الصلح مشترطا عليها أن لا تضجر إذا قدم عليها زوجته الشابة، أو أن تصبر حتى تنتهي عدتها فيتم الفصل والفراق بينهما، فقلبت زوجته العجوز الشرط أو الاقتراح الأوّل، فاصطلحا، فنزلت هذه الآية الكريمة مبيّنة حكم هذا العمل.

2. لقد قلنا سابقا أنّ كلمة (نشوز) مشتقة من المصدر (نشز) بمعنى (الأرض المرتفعة) وحين تستخدم هذه العابرة في شأن الرجل والمرأة تعني ذلك (التكبر) و(الطغيان)

3. وقد بيّنت الآيات السابقة حكم نشوز المرأة وفي هذه الآية إشارة لنشوز الرجل فالآية تتحدث عن المرأة إذا أحست من زوجها التكبر والإعراض عنها، وتبيّن أن لا مانع من أن تتنازل عن بعض حقوقها، وتتصالح مع زوجها، من أجل حماية العلاقة الزوجية من التصدع، فتقول: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا﴾

4. ولمّا كانت المرأة تتنازل عن بعض حقوقها طوعا وعن طيب خاطر ومن غير إكراه فلا ذنب في هذا العمل، حيث عبّرت الآية عن ذلك بعبارة (فلا جناح) أي لا ذنب، للدلالة على الحقيقة المذكورة، وعند النظر إلى سبب نزول الآية، نستخلص منها مسألتين فقهيتين:

أ. الأولى: إنّ حكما مثل تقسيم أيّام الأسبوع بين الزوجات، له طابع الحق أكثر من طابع الحكم، ولذلك فبإمكان المرأة التخلي عن هذا الحق بشكل تام إذا شاءت أو بصورة جزئية.

ب. الثّانية: إنّ التراضي والتصالح لا يشترط أن يكون بالمال، بل يصح أن يكون بالتنازل عن حق من الحقوق.

5. بعد ذلك تؤكد الآية على أنّ الصلح خير وأحسن، حيث تقول: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ وهذه الجملة الصغيرة مع أنّها جاءت في مجال الخلافات العائلية، لكنها تبيّن قانونا كليا عاما شاملا، وتؤكد أنّ الصلح هو المبدأ الأوّل في كل المجالات، وأنّ الخلاف والنزاع والصراع والفراق ليس له وجود في الطبع والفطرة الإنسانية السليمة، ولذلك فلا تسوغ هذه الفطرة التوسل بالنزاع وما يجري مجراه إلّا في‏ الحالات الاستثنائية الطارئة، وهذا الأمر على عكس ما يصوّره الماديون من أنّ الصراع من أجل البقاء هو الأصل في حياة الموجودات الحيّة، ويزعمون أن التكامل يحصل من خلال هذا الصراع، وقد كان هذا النوع من التفكير سببا في بروز الكثير من النزاعات الدّموية والحروب في القرون الأخيرة، لكن الإنسان لا يقاس بالحيوانات الأخرى المفترسة بسبب ما يملكه من عقل وإحساس، وإنّ تكامله يتمّ في ظل التعاون وليس في ظل النزاع، ومن حيث المبدأ فإن الصراع من أجل البقاء حتى في الحيوانات لا يعتبر مبدأ مقبولا للتكامل‏.

6. وتشير الآية بعد ذلك مباشرة إلى أنّ الإنسان بسبب غريزة حبّ الذات التي يمتلكها تحيط به أمواج البخل، بحيث أنّ كل إنسان يسعى إلى نيل حقوقه دون التنازل عن أقل شيء منها، وهذا هو سبب ومنبع النزاع والصراع، تقول الآية: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾، ولذلك فلو أحسّ كلّ من الزوجين بأنّ البخل هو منبع الكثير من الخلاف وأدركوا حقيقة البخل وأنّه من الصفات القبيحة، وسعوا لإصلاح ذات بينهم وأبدوا العفو والصفح، فسوف لا يؤدي هذا إلى زوال الخلاف والنزاع العائلي فحسب، بل سيؤدي أيضا إلى إنهاء الكثير من الصراعات الاجتماعية.

7. ولكي لا يسيء الرجال استغلال هذا الحكم الوارد في الآية، وجه الخطاب إليهم في نهايتها ودعوا إلى فعل الخير والتزام التقوى ونبهوا إلى أنّ الله يراقب أعمالهم دائما فليحذروا الانحراف عن جادة الحق والصواب، تقول الآية في هذا المجال: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/474.