...

📥 للتعريف بالكتاب وتحميله

📥 للبحث في الآيات القرآنية وعناوينها

اختر جزءا من الكتاب:

اختر عنوانا من الكتاب:

105. أولو الألباب والفكر الذكر والدعاء

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈105⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [آل عمران: 191 ـ 194]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ إنما هذا في الصلاة، إذا لم يستطع قائما فقاعدا، وإن لم يستطع قاعدا فعلى جنبه(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٤١.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي عن حبّة العرني قال بينا أنا ونوف نائمين في رحبة القصر، إذ نحن بالإمام علي في بقية من الليل، واضعا يده على الحائط شبه الواله، وهو يقول: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 190، 191]، ثمّ جعل يقرأ هذه الآيات ويمرّ شبه الطائر عقله فقال: (أراقد يا حبّة أم رامق)، قلت: رامق هذا أنت تعمل هذا العمل فكيف نحن، فأرخى عينيه فبكى ثمّ قال: يا حبّة إنّ لله موقفا، ولنا بين يديه موقف لا يخفي عليه شيء من أعمالنا.. يا حبّة إنّ الله أقرب إليك وإليّ من حبل الوريد.. يا حبّة إنّه لن يحجبني ولا إيّاك عن الله شيء)، ثمّ قال أراقد أنت يا نوف؟ قال لا يا أمير المؤمنين ما أنا براقد ولقد أطلت بكائي هذه الليلة، فقال: (يا نوف إن طال بكاؤك في هذا الليل مخافة من الله عزّ وجلّ، قرّت عيناك غدا بين يدي الله عزّ وجلّ.. يا نوف إنّه ليس من قطرة قطرت من عين رجل من خشية الله إلّا أطفأت بحارا من النيران.. يا نوف إنّه ليس من رجل أعظم‏ منزلة عند الله من رجل بكى من خشية الله، وأحبّ في الله وأبغض في الله.. يا نوف من أحبّ في الله لم يستأثر على محبّته، ومن أبغض في الله لم ينل مبغضيه خيرا، عند ذلك استكملتم حقائق الإيمان.. فكونوا من الله على حذر، فقد أنذرتكما)، ثمّ جعل يمرّ وهو يقول: (ليت شعري في غفلاتي أمعرض أنت عنّي أم ناظر إليّ.. وليت شعري في طول منامي وقلّة شكري في نعمك عليّ ما حالي)، فو الله ما زال في هذا الحال طلع الفجر(1).

2. روي أنّه قال: من اشتغل بذكر الله، طيب الله ذكره(2).

3. روي أنّه قال في كتابه لبعض عماله: إن أحب إخواني إلي أكثرهم لله ذكرا، وأشدهم منه خوفا، وأنا أرجو أن تكون منهم إن شاء الله(3).

4. روي أنّه قال في وصيته لابنه الحسن: كن لله ذاكرا على كل حال(4).

5. روي أنّه قال: المؤمن دائم الذكر، كثير الفكر، على النعماء شاكرٌ، وفي البلاء صابرٌ(5).

6. روي أنّه قال: بدوام ذكر الله تنجاب الغفلة(6).

7. روي أنّه قال: اذكروا الله في كل مكان فإنه معكم(7).

8. روي أنّه قال: إلهي إنه من لم يشغله الولوع بذكرك، ولم يزوه السفر بقربك، كانت حياته عليه ميتة، وميتته عليه حسرة(8).

9. روي أنّه قال: اذكروا الله في كل مكان فإنه معكم.. أكثروا ذكر الله عزّ وجلّ إذا دخلتم الأسواق، وعند اشتغال الناس، فإنه كفارةٌ للذنوب، وزيادةٌ في الحسنات، ولا تُكتبوا في الغافلين(9).

10. روي أنّه قال: أكثروا ذكر الله تعالى على الطعام ولا تطغوا، فإنها نعمةٌ من نعم الله ورزقٌ من رزقه، يجب عليكم فيه شكره وحمده(10).

11. روي أنّه قال: إذا لقيتم عدوكم في الحرب فأقلّوا الكلام، وأكثروا ذكر الله عزّ وجلّ(11).

12. روي أنّه قال: طوبى لمن شغل قلبه بالفكر، ولسانه بالذكر(12).

13. روي أنّه قال: التفكر يدعو إلى البر والعمل به(13).

14. روي أنّه قال: أحب الأعمال إلى الله عز وجل في الأرض الدعاء، وأفضل العبادة العفاف(14).

15. روي أنّه سئل: أي عمل أنجح؟ فقال: طلب ما عند الله عز وجل(15).

16. روي أنّه قال: خير ما استنجحت به الأمور ذكر الله سبحانه(16).

17. روي أنّه قال: ذكر الله طارد اللأواء والبؤس(17).

18. روي أنّه قال: قال الله عز وجل لعباده: أيها الفقراء إلى رحمتي، إني قد ألزمتكم الحاجة إلي في كل حال، وذلة العبودية في كل وقت؛ فإلي فافزعوا في كل أمر تأخذون فيه وترجون تمامه وبلوغ غايته؛ فإني إن أردت أن أعطيكم لم يقدر غيري على منعكم، وإن أردت أن أمنعكم لم يقدر غيري على إعطائكم؛ فأنا أحق من سئل وأولى من تضرع إليه(18).

19. روي أنّه قال: أعلم الناس بالله أكثرهم له مسألة(19).

20. روي أنّه قال: اعملوا والعمل ينفع، والدعاء يسمع، والتوبة ترفع(20).

21. روي أنّه قال: الدعاء زيادةٌ(21).

22. روي أنّه قال: في مناجاة له: إلهي، قد سترت علي ذنوبا في الدنيا وأنا أحوج إلى سترها علي منك في الأخرى، إلهي، قد أحسنت إلي إذ لم تظهرها لأحد من عبادك الصالحين، فلا تفضحني يوم القيامة على رؤوس الأشهاد(22).

23. روي أنّه قال: طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطا وترابها فراشا وماءها طيبا، والقرآن شعارا والدعاء دثارا، ثم قرضوا الدنيا قرضا على منهاج المسيح(23).

24. روي أنّه قال: إن علامة الراغب في ثواب الآخرة، زهده في عاجل زهرة الدنيا، أما إن زهد الزاهد في هذه الدنيا لا ينقصه مما قسم الله عز وجل له فيها وإن زهد، وإن حرص الحريص على عاجل زهرة الحياة الدنيا لا يزيده فيها وإن حرص، فالمغبون من حرم حظه من الآخرة(24).

25. روي أنّه قال: إن الآخرة لها أهل ظلفت(25).

26. روي أنّه قال في وصف المتقين: (صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة يسرها لهم ربهم(26).

__________

(1) فلاح السائل: ص266.

(2) غرر الحكم: رقم: 8235.

(3) تحف العقول: ص 177.

(4) الأمالي للمفيد: ص 222.

(5) الرواح: نقيض الصباح، وهو اسمٌ للوقت من زوال الشمس إلى الليل.

(6) غرر الحكم: رقم: 4269.

(7) الخصال: ص 613.

(8) بحار الأنوار: 94/95 عن الكتاب العتيق الغروي.

(9) الخصال: 2/157.

(10) الخصال: 2/158.

(11) الخصال: 2/159.

(12) غرر الحكم: رقم: 5942.

(13) الكافي: 2/45.

(14) الكافي: 2/667.

(15) من لا يحضره الفقيه: 6/383.

(16) غرر الحكم: رقم: 4987.

(17) غرر الحكم: رقم: 5170.

(18) التوحيد: ص ۲۳۲.

(19) غرر الحكم: رقم: ۳۲6۰.

(20) غرر الحكم: رقم: 2560.

(21) شرح نهج البلاغة: 20/261.

(22) الإقبال: 3/297.

(23) نهج البلاغة: الحكمة: 104.

(24) الكافي: 2/129.

(25) ظلفت نفسى عن كذا: أي كفت.

(26) نهج البلاغة: الخطبة: 193.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: أتت قريش اليهود، فقالوا: ما جاءكم موسى من الآيات؟ قالوا: عصاه، ويده بيضاء للناظرين، وأتوا النصارى، فقالوا: كيف كان عيسى فيكم؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، فأتوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا، فدعا ربه، فنزلت: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾؛ فليتفكروا فيها(1).

2. روي أنّه قال: بت عند خالتي ميمونة، فنام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، ثم استيقظ، فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر آيات الأواخر من سورة آل عمران حتى ختم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ لا تفضحنا(3).

4. روي أنّه قال: ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ ميعاد من قال لا إله إلا الله(3).

__________

(1) الطحاوي في شرح مشكل الآثار: ١٢/٣٠.

(2) البخاري: ١/٤٧.

(3) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره: ص٦٥.

ابن المسيب:

روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) أنّه قال في قوله: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾: هذه خاصة لمن لا يخرج منها(1).

__________

(1) عبد الرزاق: ١/١٤٢.

السجاد:

روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في دعائه في التوبة: اللهم يا من لا يصفه نعت الواصفين، ويا من لا يجاوزه رجاء الراجين، ويا من لا يضيع لديه أجر المحسنين، ويا من هو منتهى‌ خوف العابدين، ويا من هو غاية خشية المتقين، هذا مقام من تداولته أيدي الذنوب، وقادته أزمة الخطايا، واستحوذ عليه الشيطان، فقصر عما أمرت به تفريطا، وتعاطى‌ ما نهيت عنه تغريرا، كالجاهل بقدرتك عليه، أو كالمنكر فضل إحسانك إليه، حتى‌ إذا انفتح له بصر الهدى‌، وتقشعت عنه سحائب العمى‌، أحصى ما ظلم به نفسه، وفكر فيما خالف به ربه، فرأى‌ كبير عصيانه كبيرا، وجليل مخالفته جليلا، فأقبل نحوك مؤملا لك مستحييا منك، ووجه رغبته إليك ثقة بك، فأمك بطمعه يقينا، وقصدك بخوفه إخلاصا، قد خلا طمعه من كل مطموع فيه غيرك، وأفرخ روعه من كل محذور منه سواك، فمثل بين يديك متضرعا، وغمض بصره إلى الأرض متخشعا، وطأطأ رأسه لعزتك متذللا، وأبثك من سره ما أنت أعلم به منه خضوعا، وعدد من ذنوبه ما أنت أحصى‌ لها خشوعا، واستغاث بك من عظيم ما وقع به في علمك، وقبيح ما فضحه في حكمك، من ذنوب أدبرت لذاتها فذهبت، وأقامت تبعاتها فلزمت، لا ينكر ـ يا إلهي ـ عدلك إن عاقبته، ولا يستعظم عفوك إن عفوت عنه ورحمته، لأنك الرب الكريم الذي لا يتعاظمه غفران الذنب العظيم(1).

2. روي أنّه قال: في دعاء له: يا غفار يا ستار، نجني برحمتك من عذاب النار وفضيحة العار، إذا امتاز الأخيار من الأشرار، وحالت الأهوال، وقرب المحسنون وبعد المسيؤون، ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون(2).

__________

(1) الصحيفة السجادية: ص147.

(2) بحار الأنوار: 94/144.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ الميعاد لمن قال لا إله إلا الله(1).

__________

(1) الطبراني في الدعاء: ٣/١٥١٣.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء قال: ما من عبد يقول: يا رب، يا رب، يا رب ـ ثلاث مرات ـ، إلا نظر الله إليه، فذكر ذلك للحسن البصري، فقال: أما تقرأ القرآن: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا﴾ [آل عمران: ١٩٣] إلى قوله: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾(1).

2. روي عن الأشعث الحملي، قال: قلت للحسن البصري: يا أبا سعيد، أرأيت ما تذكر من الشفاعة، حق هو؟ قال نعم حق، قال قلت: يا أبا سعيد، أرأيت قول الله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾، ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا﴾ [المائدة: ٣٧]، قال فقال لي: إنك والله لا تسطو على شيء، إن للنار أهلا لا يخرجون منها كما قال الله، قال قلت: يا أبا سعيد: فيم دخلوا؟ وبم خرجوا؟ قال: كانوا أصابوا ذنوبا في الدنيا، فأخذهم الله بها، فأدخلهم بها، ثم أخرجهم بما يعلم في قلوبهم من الإيمان والتصديق به(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٨/٨٤٤.

(2) ابن جرير: ٦/٣١٢.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إذا قمت بالليل من منامك فقل: الحمد لله الذي رد علي روحي لأحمده وأعبده.. فإذا سمعت صوت الديوك فقل: سبوحٌ قدوسٌ رب الملائكة والروح، سبقت رحمتك غضبك، لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، عملت سوءا، وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.. فإذا قمت فانظر في آفاق السماء وقل: اللهم إنه لا يواري عنك ليلٌ ساج‌، ولا سماءٌ ذات أبراج‌، ولا أرضٌ ذات مهاد، ولا ظلماتٌ بعضها فوق بعض، ولا بحرٌ لجيٌ‌، تدلج‌ بين يدي المدلج من خلقك، تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، غارت النجوم، ونامت العيون، وأنت الحي القيوم، لا تأخذك سنةٌ ولا نومٌ، سبحان رب العالمين، وإله المرسلين، والحمد لله رب العالمين.. ثم اقرأ الخمس الآيات من آخر آل عمران: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [آل عمران: 190 ـ 194]، ثم استك وتوضأ، فإذا وضعت يدك في الماء، فقل: بسم الله وبالله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين.. فإذا فرغت فقل: (الحمد لله رب العالمين).. فإذا قمت إلى‌ صلاتك فقل: بسم الله وبالله، وإلى الله ومن الله، وما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم اجعلني من زوار بيتك وعمار مساجدك، وافتح لي باب توبتك، وأغلق عني باب معصيتك وكل معصية، الحمد لله الذي جعلني ممن يناجيه، اللهم أقبل علي بوجهك، جل ثناؤك.. ثم افتتح الصلاة بالتكبير(1).

2. روي أنّه قال: قال سليمان بن داوود عليهما السلام: أوتينا ما أوتي الناس وما لم يؤتوا، وعلمنا ما علم الناس وما لم يعلموا، فلم نجد شيئا أفضل من خشية الله في الغيب والمشهد، والقصد في الغنى والفقر، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والتضرع إلى الله عز وجل في كل حال(2).

3. روي أنّه قال: لما كلم الله موسى عليه السلام، قال موسى: إلهي فما جزاء من لم يفتر لسانه عن ذكرك، والتضرع والاستعانة لك في الدنيا؟ قال يا موسى، أعينه على شدائد الآخرة(3).

4. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾: الصحيح يصلي قائما وقعودا، والمريض يصلي جالسا، وَعَلى جُنُوبِهِمْ الذي يكون الأضعف من المريض الذي يصلي جالسا(4).

5. روي أنّه قال: لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر الله، قائما أو جالسا أو مضطجعا، إن الله تعالى يقول: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾(5).

6. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ الصحيح يصلي قائما وقعودا، والمريض يصلي جالسا، وعلى جنوبهم أضعف من المريض الذي يصلي جالسا(6).

7. روي أنّه قال يوصي بعض أصحابه: لا تدعن ذكر الله على كل حال، ولو سمعت المنادي ينادي بالأذان وأنت على الخلاء، فاذكر الله عز وجل وقل كما يقول المؤذن(7).

8. روي أنّه قال: مكتوبٌ في التوراة التي لم تغير أن موسى عليه السلام سأل ربه فقال: إلهي إنه يأتي علي مجالس أعزك وأجلك أن أذكرك فيها، فقال: يا موسى، إن ذكري حسنٌ على كل حال(8).

9. روي أنه قيل له: أي العبادة أفضل؟ قال: ما من شيء أفضل عند الله عز وجل من أن يسأل ويطلب مما عنده، وما أحدٌ أبغض إلى الله عز وجل ممن يستكبر عن عبادته ولا يسأل ما عنده(9).

10. روي أنّه قال: إن أبناء الآخرة هم المؤمنون العاملون الزاهدون، أهل العلم والفقه، وأهل فكرة واعتبار واختبار، لا يملون من ذكر الله(10).

11. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى﴾: من لم يدله خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، ودوران الفلك والشمس والقمر، والآيات العجيبات على أن وراء ذلك أمرا أعظم منه، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ـ قال ـ: فهو عما لم يعاين أعمى وأضل(11).

__________

(1) الكافي: 3/445 و2/538.

(2) الخصال: ص 261.

(3) فضائل الأشهر الثلاثة: ص 88.

(4) نهج البلاغة: 211/خطبة: 152.

(5) الأمالي: 1/76.

(6) تفسير العيّاشي: 1/211.

(7) من لا يحضره الفقيه: 1/288.

(8) الكافي: 2/497.

(9) الكافي: 2/666.

(10) تحف العقول: ص 287.

(11) التوحيد: 455/6.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ هذه حالاتك كلها، يا ابن آدم، اذكر الله وأنت قائم، فإن لم تستطع فاذكره جالسا، فإن لم تستطع فاذكره وأنت على جنبك، يسرا من الله وتخفيفا(1).

2. روي أنّه قال في الآية: سمعوا دعوة من الله، فأجابوها، وأحسنوا فيها، وصبروا عليها، ينبئكم الله عن مؤمن الإنس كيف قال وعن مؤمن الجن كيف قال فأما مؤمن الجن فقال: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ [الجن: ١]، وأما مؤمن الإنس فقال: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾(2).

3. روي أنّه قال: أي: من تخلد في النار فقد أخزيته(3).

__________

(1) ابن جرير: ٦/٣٠٩.

(2) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره.

(3) ابن المنذر: ٢/٥٣٥.

القرظي:

روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: ﴿سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ﴾ هو القرآن، ليس كل الناس سمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

__________

(1) ابن جرير: ٦/٣١٤.

ابن دينار:

روي عن عمرو بن دينار (ت 126 هـ) أنّه قال: قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة، فانتهيت إليه أنا وعطاء، فقلت: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [البقرة: ١٦٧]، قال أخبرني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنهم الكفار، قلت لجابر: فقوله: ﴿إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾، قال وما أخزاه حين أحرقه بالنار! وإن دون ذلك خزيا!(1).

__________

(1) الحاكم: ٢/٣٢٨.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان أبي كثير الذكر، لقد كنت أمشي معه وإنّه ليذكر الله، وآكل معه الطعام وإنّه ليذكر الله، ولقد كان يحدّث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله، وكنت أرى لسانه لازقا بحنكه يقول: (لا إله إلّا الله) وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتّى تطلع الشمس ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منّا ومن كان لا يقرأ منّا أمره بالذكر(1).

2. روي أنّه قال يوصي أصحابه: أكثروا ذكر الله ما استطعتم في كل ساعة من ساعات الليل والنهار، فإن الله أمر بكثرة الذكر له، والله ذاكرٌ لمن ذكره من المؤمنين، واعلموا أن الله لم يذكره أحدٌ من عباده المؤمنين إلا ذكره بخير(2).

3. روي أنه قيل له: من أكرم الخلق على الله؟، فقال: أكثرهم ذكرا لله، وأعملهم بطاعته(3).

4. روي أنّه قال: ما من شيء إلا وله حدٌ ينتهي إليه إلا الذكر؛ فليس له حدٌ ينتهي إليه، فرض الله عز وجل الفرائض فمن أداهن فهو حدهن، وشهر رمضان فمن صامه فهو حده، والحج فمن حج فهو حده، إلا الذكر؛ فإن الله عز وجل لم يرض منه بالقليل، ولم يجعل له حدا ينتهي إليه، ثم تلا هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الأحزاب: 41 ـ 42]، فلم يجعل الله عز وجل له حدا ينتهي إليه.. وكان أبي كثير الذكر، لقد كنت أمشي معه وإنه ليذكر الله، وآكل معه الطعام وإنه ليذكر الله، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله، وكنت أرى لسانه لازقا بحنكه يقول: لا إله إلا الله، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منا ومن كان لا يقرأ منا أمره بالذكر(4).

5. روي أنّه قال: لا بأس بذكر الله وأنت تبول؛ فإن ذكر الله عز وجل حسنٌ على كل حال، فلا تسأم من ذكر الله(5).

6. روي أنّه قال: كان الإمام علي يقول: نبه بالتفكر قلبك، وجاف عن الليل جنبك، واتق الله ربك(6).

7. روي أنّه قال عما يروي الناس: أن تفكر ساعة خير من قيام ليلة، كيف يتفكر؟ قال: يمر بالخربة أو بالدار، فيقول: أين ساكنوك، أين بانوك، ما لك لا تتكلمين؟(6).

8. روي أنّه قال: أفضل العبادة إدمان التفكر في الله تعالى وفي قدرته(6).

9. روي أنّه قال: ثلاثٌ لا يضر معهن شيءٌ: الدعاء عند الكرب، والاستغفار عند الذنب، والشكر عند النعمة(7).

10. روي أنّه قال لبعض أصحابه: يا حفص، ما منزلة الدنيا من نفسي إلا بمنزلة الميتة إذا اضطررت إليها أكلت منها.. يا حفص، إن الله ـ تبارك وتعالى ـ علم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون، فحلم عنهم عند أعمالهم السيئة لعلمه السابق فيهم، فلا يغرنك حسن الطلب ممن لا يخاف الفوت، ثم تلا قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: 83]، وجعل يبكي، ويقول: ذهبت والله الأماني عند هذه الآية(8).

__________

(1) الكافي: 2/361.

(2) الكافي: 8/7.

(3) المحاسن: 2/432.

(4) الكافي: 2/498.

(5) الكافي: 2/497.

(6) الكافي: 2/45.

(7) الكافي: 2/95.

(8) تفسير القمى: 2/146.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في الآية: هو ذكر الله في الصلاة، وفي غير الصلاة، وقراءة القرآن(1).

2. روي أنّه قال: ﴿مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ﴾ هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ يستنجزون موعد الله على رسله(2).

__________

(1) ابن جرير: ٦/٣٠٩.

(2) ابن المنذر: ٢/٥٣٧.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: قالوا: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ﴾ فهو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم داعيا يدعو إلى التصديق، ﴿أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ يعني: صدقوا بتوحيد ربكم، ﴿فَآمَنَّا﴾ أي: فأجابه المؤمنون، فقالوا: ربنا آمنا، يعني: صدقنا، ﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ يعني: امح عنا خطايانا، ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ يعني: المطيعين(1).

2. روي أنّه قال: قالوا: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا﴾ يعني: وأعطنا: ﴿مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ أعطنا من الجنة ما وعدتنا على ألسنة رسلك(1).

3. روي أنّه قال: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ يعني: [من خلدته في النار فقد أهنته؟]، ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ يعني: وما [للمشركين من مانع يمنعهم؟] من النار(1).

4. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُخْزِنَا﴾ يعني: ولا تعذبنا: ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٢١.

الثوري:

روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال، ورفعه: من قرأ آخر سورة آل عمران فلم يتفكر فيها ويله، فعد بأصابعه عشرا، قيل للأوزاعي: ما غاية التفكر فيهن؟ قال يقرؤهن وهو يعقلهن(1).

__________

(1) ابن أبي الدنيا كما في تفسير ابن كثير: ٢/١٦٥.

الكاظم:

روي عن هشام بن الحكم، قال قال لي الإمام الكاظم (ت 183 هـ): يا هشام، إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾)، وساق الحديث بطوله، وقال فيه: (ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر، وحلاهم بأحسن الحلية، فقال: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، وقال: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، وقال: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ وقال: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، وقال: ﴿أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبابِ﴾، وقال: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبابِ﴾، وقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، يا هشام، إن لكل شيء دليلا، ودليل العقل التفكر، ودليل التفكر الصمت(1).

__________

(1) الكافي: 1/10 و12/12.

الرضا:

روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنّه قال: ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم، إنما العبادة التفكر في أمر الله عز وجل(1).

__________

(1) الكافي: 2/45.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل هذا لما جعل الله تعالى على العبد في كل حال نعمة ليست تلك في غيرها من الأحوال، نحو: أن جعل القيام نعمة في قضاء حوائجه وتقلبه في تلك الحال، وجعل القعود راحة له عند الإعياء، وكذلك الاضطجاع؛ فاستأداهم بالشكر له في كل نعمة على حال من تلك الأحوال، ومدحهم على ذلك إذا فعلوا.

ب. ويحتمل: أن يكون تعالى أمرهم أن يذكروه‏ كل وقت.

ج. وقيل: إنه جاء في رخصة صلاة المريض: يصلّي قائما إن استطاع، وإلا فقاعدا إن لم يستطع، وإلا فمضطجعا، وكذلك روي عن ابن مسعود أنه قال ذلك‏.

2. ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إذ في خلقهما دليل وحدانيته، وشهادة ربوبيته، ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ أي: عبثا، ولكنّ خلقهم دليل على وحدانيتك، وشاهد على ربوبيتك، ﴿سُبْحَانَكَ﴾ هو للتبرئة، والتنزيه: هو إبعاده عن العيب، وتبريئه‏ منه، وتطهيره عما يقول الكفار، وهو حرف يقدم عند حاجات ترفع إليه، ودعوات يدعى بها.

3. ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ قيل: أذللته وفضحته وأهنته‏، ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ أي: مانع يمنع عنهم العذاب ويدفع، ويحتمل الأنصار: الأعوان، أي: ليس لهم أعوان يعينونهم في الآخرة.

4. قوله عزّ وجل: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: على حقيقة السمع أن سمعوا مناديا يدعوهم إلى الإيمان، وهو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو القرآن، كلاهما يدعوان الخلق إلى الإيمان بالله.

ب. ويحتمل قوله: ﴿سَمِعْنَا﴾ أي: عقلنا، وعقل كلّ أحد يدعو إلى التوحيد والإيمان به.

ج. وقيل: سمعوا دعوة الله فأجابوها، وصبروا عليها.

5. اختلفوا في المنادي:

أ. عن ابن عباس: المنادي: محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم قرأ: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ الآية [الأنعام: 19]

ب. عن غيره: المنادى هو القرآن‏، يدعوهم‏ ﴿أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾

6. في قوله تعالى: ﴿فَآمَنَّا رَبَّنَا﴾ دلالة أن الإيمان ليس هو جميع الطاعات، على ما يقول بعض الناس؛ ولكنه فرد تصديق؛ لأنه لما قال لهم: آمنوا بربكم لم يطلبوا التفسير، ولا قالوا: كم أشياء تكون!؟ ولكن أجابوه إجابة موجزة، فقالوا: ﴿فَآمَنَّا رَبَّنَا﴾]، ثم فيه دلالة أن لا ثنيّا في الإيمان؛ لأنهم أطلقوا القول في الإخبار عن إيمانهم من غير ذكر حرف الثنيا؛ دلّ أن‏ الإيمان مما لا يحتمل الثنيا.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾:

أ. قيل: قولهم: ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ التي كانت فيما مضى من عمرنا، ﴿وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ أي: اعصمنا فيما بقى من عمرنا، أو: وفقنا للحسنات التي تكفر سيئاتنا؛ لما قد يلزم العبد التكفير لما أساء.

ب. وقيل: المغفرة والتكفير كلاهما سواء؛ لأن المغفرة هي الستر، وكذلك التكفير؛ ولذلك سمّى الحراثون: كفارا؛ لسترهم البذر في الأرض؛ وكذلك الكافر سمى كافرا؛ لستره الحق بالباطل، ولستره جميع ما أنعم الله عليه بتوجيه الشكر إلى غيره.

8. قوله عزّ وجل: ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل قوله: ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ أي: توفنا واجعلنا مع الأبرار.

ب. ويحتمل: وتوفنا من الأبرار وفي الأبرار.

9. اختلف في البرّ:

أ. قيل: هو الذي لا يؤذى أحدا.

ب. وقيل: الأبرار: الأخيار.

ج. ويحتمل: توفنا على ما عليه توفيت الأبرار، وتوفنا وإنّا أبرار، والبر: الطاعة، والتقوى: ترك المعصية.

10. في قوله عزّ وجل: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ وجهان:

أ. قيل: وآتنا ما وعدتنا على ألسن رسلك، على إضمار (ألسن) كقوله عزّ وجل: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلًا﴾ [الأحزاب: 47]

ب. وقيل: ﴿مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ أي: ما جعلت عليهم من الاستغفار للمؤمنين‏؛ كقوله: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد: 19]، وكقول إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ [إبراهيم: 41]، وكقول نوح عليه السلام: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [نوح: 28]

11. بيننا(2) وبين المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ كلام في الآية:

أ. قالت المعتزلة: يجوز الدعاء والسؤال عنه بما قد أعطى، وما عليه أن يعطي نحو ما ذكر من السؤال بما وعد، وما وعد لا شك أنه يعطي، وأنه لا يخلف الميعاد، ونحو قوله عزّ وجل: ﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الأنبياء: 112] وهو لا يحكم بالجور.

ب. وأما عندنا: أن السؤال عما عليه أن يعطي ـ يخرج مخرج الدعاء له ربنا لا تجر ولا تظلم، إن هذا لا يقال إلا لمن يخاف الجور منه والظلم؛ إذ يعلم أن ذلك عليه، والسؤال عما قد أعطى محال؛ لأنه يخرج مخرج كتمان ما أعطى، أو ليس عنده ما يعطيهم؛ فيخرج مخرج السخرية به؛ لذلك بطل السؤال، ثم تأويل الآية عندنا على وجوه:

أحدها: قوله: ﴿وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ يحتمل أن يكون الوعد منه لرسله باستغفار الرسل، إذا كان من المؤمنين استغفار وسؤال؛ كقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ﴾ الآية [النساء: 64]: وعد لهم المغفرة لهم باستغفار الرسول؛ إذا كان منهم‏ استغفار وسؤال، يقول: اجعل دعائي دعاء من جاء إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مستغفرا فاستغفر له، وكقوله ـ أيضا ـ: ﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا﴾ [الفرقان: 16]

الثاني: يحتمل أن يكون الوعد لهم؛ إذا ماتوا على ذلك، فالدعاء كان منهم، والسؤال: أنه إذا أماتهم يميتهم على الإيمان، على ما كانوا أحياء، والمغفرة والرحمة حينئذ تكون لهم؛ ألا ترى أنه قال: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ﴾ [الأنعام: 160] فله كذا، ولم يقل: من عمل بها فله كذا، ولكن ذكر مجيئه بها، فعلى ذلك الأوّل

ثم يحتمل ما ذكرنا وفيما ذكر من تأويل الآية في الابتداء كفاية من ذلك.

الثالث: يدعو؛ ليجعلهم من الجملة الذين كان لهم الوعد؛ إذ الوعد غير مبيّن لمن هو؛ فسألوا أن يجعلهم في تلك الجملة.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/561.

(2) يقصد أهل السنة، والماتريدية خصوصا

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ﴾ والمنادي الذي نادى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للإيمان أو إلى الإيمان ل﴿الْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ [الأعراف:43]، قال الراجز:

çأوحى لها القرار فاستقرت... وشدها بالراسيات الثبتé

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/160.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في المنادي في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه القرآن وهو قول محمد بن كعب القرظي، قال: ليس كل الناس سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ب. الثاني: أنه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو قول ابن جريج وابن زيد.

2. ﴿يُنَادِي لِلْإِيمَانِ﴾ أي إلى الإيمان، كقوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ [الأعراف: 43] بمعنى إلى هذا، ومنه قول الراجز:

çأوحى لها القرار فاستقرت‏...وشدها بالراسيات الثّبّت‏é

يعني أوحى إليها كما قال تعالى: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ [الزلزلة: 5] أي إليها.

3. سؤال وإشكال: قد علموا أن الله تعالى منجز وعده فما معنى هذا الدعاء والطلب ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾؟ والجواب: في ذلك أربعة أجوبة:

أ. أحدها: أن المقصود به، مع العلم بإنجاز وعده، الخضوع له بالدعاء والطلب.

ب. الثاني: أن ذلك يدعو إلى التمسك بالعمل الصالح.

ج. الثالث: معناه اجعلنا ممن وعدته ثوابك.

د. الرابع: يعني عجّل إلينا إنجاز وعدك وتقديم نصرك.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/443.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾

1. موضع ﴿الَّذِينَ﴾ خفض، لأنه نعت: ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ أي فهؤلاء يستدلون على توحيد الله بخلقه السماوات والأرض، وأنهم يذكرون الله في جميع أحوالهم قياماً وقعوداً، وهو نصب على الحال.

2. ﴿وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ أي ومضطجعين، وإنما عطف على قياماً وقعوداً:

أ. لأن معناه يدل على الحال، لأن الظرف يكون حالا للمعرفة كما يكون نعتاً للنكرة، لأنه من الاستقرار كما تقول: مررت برجل على الحائط أي مستقراً على الحائط، ومررت برجل في الدار مثله، كما تقول أنا أصير إلى فلان ماشياً، وعلى الخيل، ومعناه وراكباً، كما قال تعالى: ﴿إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً﴾ ومعناه مضطجعاً أو قائماً أو قاعداً فبين تعالى أن هؤلاء المستدلين على حقيقة توحيد الله يذكرون الله في سائر الأحوال.

ب. وقال قوم: ﴿يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ أي يصلون على قدر إمكانهم في صحتهم وسقمهم، وهو المروي في أخبارنا(2)

ج. ولا تنافي بين التأويلين، لأنه لا يمتنع أن يصفهم بأنهم يفكرون في خلق السماوات والأرض في هذه الأحوال ومع ذلك يصلون على هذه الأحوال في أوقات الصلوات، وهو قول ابن جريج وقتادة.

3. ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ انما قال هذا ولم يقل هذه ولا هؤلاء، لأنه أراد به الخلق كأنه قال: ما خلقت هذا الخلق باطلا أي يقولون:‏ ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ بل خلقته دليلا على وحدانيتك وعلى صدق ما أتت به أنبياؤك، لأنهم يأتون بما يعجز عنه جميع الخلق.

4. قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ معناه براءة لك من السوء وتنزيهاً لك من أن تكون خلقتهما باطلا قال الشاعر:

çأقول ـ لما جاءني فحره ـ...سبحان من علقمة الفاخرé

وقال آخر:

çسبحانه ثم سبحانا يعود له‏...وقبلنا سبح الجودي والجمدé

5. ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ أي فقد صدقنا رسلك بأن لك جنة وناراً فقنا عذاب النار، ووجه اتصال قوله‏: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ بما قبله قيل فيه قولان:

أ. أحدهما: كأنه قال: ﴿مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ بل تعريضاً للثواب بدلا من العقاب‏ ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ بلطفك الذي نتمسك معه بطاعتك.

ب. الثاني: اتصال الدعاء الذي هو طاعة لله بالاعتراف الذي هو طاعة له.

6. في الآية دلالة على أن الكفر والضلال وجميع القبائح ليست خلقاً لله، لأن هذه الأشياء كلها باطلة بلا خلاف، وقد نفى الله تعالى بحكايته عن أولي الألباب الذين رضي أقوالهم بأنه لا باطل فيما خلقه، فيجب بذلك القطع على أن القبائح كلها من فعل غيره، وأنه لا يجوز اضافتها إليه تعالى.

7. ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ ـ آية ـ وهذه أيضاً حكاية عن أولي الألباب الذين وصفهم بأنهم أيضاً يقولون:‏ ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ أي من ناله عذاب النار وما فيها من الذل والمهانة فهو المخزى:

أ. قال ابن جريج، وقتادة، وأنس بن مالك، وسعيد بن المسيب: الاخزاء يكون بالتأييد فيها.

ب. وقال جابر بن عبد الله: إن الخزي يكون بالدخول فيها، وروى عنه عمرو بن دينار وعطا أنه قال: وما أخزاه من أحرقه بالنار إن دون ذا لخزياً، وهذا هو الأقوى، لأن الخزي إنما هو هتك المخزى، وفضيحته، ومن عاقبه الله على ذنوبه، فقد فضحه وذلك هو الخزي، ولا ينافي ذلك ما نذهب إليه من جواز العفو عن المذنبين، لأنه تعالى إذا عفا عن العاصي لا يكون أخزاه وان أدخله النار ثم أخرجه منها بعد استيفاء العقاب، فعلى قول من قال الخزي يكون بالدوام لا يكون أخزاه، ومن قال يكون بنفس الدخول، له أن يقول: إن ذلك وإن كان خزياً، فليس مثل خزي الكفار، وما يفعل بهم من دوام العقاب، وعلى هذا يحمل قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾

8. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ معناه ليس للظالمين من يدفع عنهم على وجه المغالبة والقهر، لأن الناصر هو الذي يدفع عن المنصور على وجه المغالبة ولا ينافي ذلك الشفاعة في أهل الكبائر لأن الشفاعة هي مسألة وخضوع وضرع إلى الله تعالى، وليست من النصرة في شيء وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (يخرجون من النار بعد ما يصيرون حمماً وفحماً) صريح بوقوع العفو عن مرتكبي الكبائر وتأول الرماني الخبر تأويلين:

أ. أحدهما: أنه لولا الشفاعة، لواقعوا كبيرة يستوجبون بها الدخول فيها، فيخرجون بالشفاعة على هذا الوجه، كما يقال أخرجتني من السلعة إذا كان لولا مشورته، لدخول فيها بابتياعه إياها.

ب. الثاني: لولا الشفاعة، لدخولها بما معه من الصغيرة ثم أخرجوا عنها إلى الجنة، والأول فاسد، لأنه مجاز الثاني: ليس بمذهب لأحد من القائلين بالوعيد لأن الصغيرة تقع مكفرة لا عقاب عليها فكيف يدخل بها النار.

9. ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ في هذه الآية أيضاً حكاية عمن تقدم وصفهم بأنهم أولو الألباب وغير ذلك من الأوصاف التي مضت بأنهم يقولون: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ﴾ واختلفوا فيمن المنادي هاهنا:

أ. فقال محمد بن كعب القرظي وقتادة: هو القرآن.. واختاره الطبري قال: لأنه ليس كل أحد سمع قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا رآه ولا عاينه وسمع دعاءه إلى الله تعالى، والقرآن سمعه من رآه ومن لم يره كما قال تعالى مخبراً عن الجن انهم قالوا: ﴿سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾ وهذا الذي ذكره ليس بطعن، لأنه إذا بلغه دعوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جاز أن يقول‏: ﴿سَمِعْنَا مُنَادِيًا﴾ وإن كان فيه ضرب من التجوز، وقال قتادة سمعوا دعوة من الله فأجابوها وأحسنوا فيها وصبروا عليها.

ب. وقال ابن جريج وابن زيد: هو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو الذي اختاره الجبائي.

10. ﴿سَمِعْنَا مُنَادِيًا﴾ يعني نداء مناد لأن المنادي لا يسمع، وقوله: ﴿لِلْإِيمَانِ﴾ معناه إلى الايمان، كما قال: ﴿الْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ ومعناه إلى هذا قال الراجز:

çأوحى لها القرار فاستقرت‏...وشدها بالراسيات الثبت‏é

يعني أوحى إليها، ومنه قوله: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ أي إليها.

11. معنى الآية ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا﴾ داعياً يدعو إلى الايمان والتصديق بك، والإقرار بوحدانيتك، واتباع رسولك واتباع أمره ونهيه، فصدقنا بذلك يا ﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ ومعناه استرها علينا، ولا تفضحنا بها في القيامة على رؤوس الاشهاد بعقوبتك، لكن كفرها عنا ﴿وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ معناه امحها بفضلك ورحمتك إيانا.

12. ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ معناه واقبضنا إليك إذا قبضتنا في جملة الأبرار، واحشرنا معهم، والأبرار جمع بر، وهم الذين بروا الله بطاعتهم إياه حتى أرضوه، فرضي عنهم، وقال الحسن: هم الذين لا يؤذون الذر وأصل البر الاتساع، فالبر الواسع من الأرض خلاف البحر والبر صلة الرحم والبر: العمل الصالح، والبر: الحنطة والأبرار على الخصم الزيادة عليه، وابتر من أصحابه إذا انفرد منهم.

13. سؤال وإشكال: إذا كان النداء إنما هو تنبيه المنادى ليقبل بوجهه على المكلم له، فما معنى ربنا؟ والجواب: الأصل في النداء تنبيه المنادى ثم استعمل في استفتاح بالدعاء اقتضاء للإجابة واعترافاً بالتفضل.

14. لا يجوز فتح (أن) بعد ربنا بإيقاع النداء عليه، لأن بعده لا يكون إلا جملة ولا يقع فيه مفرد، لأنه لا يجوز ربنا إدخالك النار من أخزيته، لأنه ابتداء لا خبر له.

15. سؤال وإشكال: ما معنى قوله تعالى: ﴿وَكَفِّرْ عَنَّا﴾ وقد أغني عنه قوله: ﴿فَاغْفِرْ لَنَا﴾؟ والجواب: عنه جوابان:

أ. أحدهما: اغفر لنا ذنوبنا ابتداء بلا توبة، وكفر عنا إن تبنا.

ب. الثاني: اغفر لنا بالتوبة ذنوبنا، وكفر عنا باجتناب الكبائر السيئات، لأن الغفران قد يكون ابتداء ومن سبب والتكفير لا يكون إلا عند فعل من العبد.

16. قوله تعالى: ﴿أَنْ آمِنُوا﴾ تحتمل (ان) أمرين:

أ. أحدهما: أن تكون بمعنى أي على ما ذكره الرماني.

ب. الثاني: أن تكون الناصبة للفعل، لأنه لا يقع في مثله دخول الباء نحو بأن آمنوا.

17. ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ هذه أيضاً حكاية عمن تقدم وصفهم بأنهم يقولون أعطنا ما وعدتنا على‏ لسان رسلك من الثواب ولا تحزنا.

18. المخزي في اللغة المذل المحقور بأمر قد لزمه بحجة تقول أخزيته أي ألزمته حجة أذللته معها، والخزي والانقماع والارتداع متقاربة المعنى، والخزاية شدة الاستحياء.

19. ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ استئناف كلام ولذلك كسرت (إن) والمعنى انك وعدت الجنة لمن آمن بك، وإنك لا تخلف الميعاد.

20. سؤال وإشكال: ما وجه مسألتهم لله أن يؤتيهم ما وعدهم، والمعلوم أن الله ينجز وعده، ولا يجوز عليه الخلف في الميعاد؟ والجواب: عن ذلك أجوبة:

أ. أحدها: ما اختاره الجبائي، والرماني ان ذلك على وجه الانقطاع إليه والتضرع له والتعبد له كما قال: ﴿رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ وقوله: ﴿لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ وأمثال ذلك كثيرة.

ب. الثاني: قال قوم إن ذلك خرج مخرج المسألة ومعناه الخبر، وتقدير الكلام ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، لتوفينا ما وعدتنا به على رسلك ولا تحزنا يوم القيامة لأنهم علموا ان ما وعد الله به فلا بد من أن ينجزه.

ج. الثالث: قال قوم: معناه المسألة والدعاء بأن يجعلهم ممن آتاهم ما وعدهم من الكرامة على ألسن رسله، لا أنهم كانوا قد استحقوا منزلة الكرامة عند الله في أنفسهم، ثم سألوه أن يؤتيهم ما وعدهم بعد علمهم باستحقاقهم عند أنفسهم، لأنه لو كان كذا، لكانوا زكوا أنفسهم وشهدوا لها أنهم ممن قد استوجب كرامة الله، وثوابه، ولا يليق ذلك بصفة أهل الفضل من المؤمنين.

د. الرابع: قال قوم إنما سألوا ذلك على وجه الرغبة منهم إليه تعالى أن يؤتيهم ما وعدهم من النصر على أعدائهم من أهل الكفر وإعلاء كلمة الحق على الباطل فيجعل ذلك لهم لأنه لا يجوز أن يكونوا مع ما وصفهم الله به غير واثقين ولا على غير يقين ان الله لا يخلف الميعاد فرغبوا إليه في تعجيل ذلك، ولكنهم‏ كانوا وعدوا النصر ولم يوقت لهم في ذلك وقت فرغبوا إليه تعالى في تعجيل ذلك لهم لما لهم فيه من السرور بالظفر وهو اختيار الطبري، وقال: الآية مختصة بمن هاجر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من وطنه وأهله مفارقاً لأهل الشرك بالله إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وغيرهم من تباع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذين رغبوا إليه تعالى في تعجيل نصرهم على أعدائهم وعلموا انه لا يخلف الميعاد ذلك غير أنهم سألوا تعجيله وقالوا لا صبر لنا على أناتك وحلمك، وقوى ذلك بما بعد هذه الآية من قوله: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا﴾ الآيات بعدها وذلك لا يليق إلا بما ذكره، ولا يليق بالأقاويل الباقية وإلى هذا أومأ البلخي، لأنه قال في الآية الأخرى: انها والتي بعدها في الذين هاجروا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

21. في الآية دلالة على أنه يجوز أن يدعو العبد بما يعلم أنه يفعله مثل أن يقول رب احكم بالحق، وقوله: ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ خلاف ما يقوله المجبرة، ولا يلزم على ذلك جواز التعبد بأن يدعو بما يعلم أنه لا يكون مثل أن يقول لا يظلم، لأن في ذلك تحكما على فاعله وتجبراً عليه في تدبيره، ولو سوى بينهما كان جائزا كما قلنا في قوله: ﴿لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ على أحد الوجهين.

22. في قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ اعتراف بأنه لا يخلف الميعاد بعد الدعاء بالإيجاز لئلا يتوهم عليهم تجويز الخلف على الله تعالى.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/81.

(2) يقصد الإمامية.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. التسبيح: تنزيه الله من كل سوء، والعرب تقول: سبحان من كذا، أي ما أبعده، وقال الشاعر:

çأَقُولُ لَمَّا جاءني فَخرُهُ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفَاخِرِé

وفي صفات الله تعالى سُبُّوحٌ بفتح السين وضمه.

ب. أخزاه الله أبعده وَمَقَتَهُ، والاسم الخزي، قال ابن السكيت: خَزِي يَخْزَى خِزْيًا إذا وقع في بلية، وأخزاه الله أذله.

ج. الأبرار جمع، واحدها: بَرٌّ، كجَدٍّ وأجداد، وقيل: بار كصاحب وأصحاب، والبر أصله من السعة، ومنه البر خلاف البحر.

2. وصف سبحانه ذوي الألباب الَّذِينَ تقدم ذكرهم فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ﴾ تقديره: أولي الألباب الذاكرين الله.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا﴾:

أ. قيل: هذا في الصلاة، يصلي قائمًا، فإن لم يستطع فقاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنبه، تخفيف من الله تعالى عن علي وابن عباس وإبراهيم وقتادة.

ب. وقيل: معناه في الصلاة وغير الصلاة عن ابن جريج.

ج. وقيل: أراد وصفهم بالمداومة عليه؛ لأن الإنسان لا يخلو من هذه الأحوال عن جماعة من المفسرين.

4. ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي يتفكرون في إحداثها وإمساكها وسائر الآيات فيها، وفي الأرض في إحداثها وفي بسطها وما أحدث فيها ليزداد بصيرة.

5. ﴿رَبِّنَا﴾ فيه إضمار أي: ويقولون: ربنا، تقديره: يتفكرون قائلين أو يقولون ربنا ﴿مَا خَلَقْتَ هَذَا﴾ الخلق من السماء والأرض وما فيهما ﴿بَاطِلًا﴾ أي بالباطل، والباطل:

أ. قيل: عبثًا وهزلاً، بل خلقته لأمر عظيم من محاسبة ومجازاة وثواب وعقاب.

ب. وقيل: خلقته حكمة وصوابًا ولغرض صحيح؛ دليلاً على وحدانيتك.

6. ﴿سُبْحَانَكَ﴾ تنزيهًا لك وبراءة مما لا يجوز عليك من صفات النقص وأن تخلق شيئًا باطلاً ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ أي خلصنا منه.

7. في وجه اتصال قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ قولان:

أ. الأول: كأنه قيل: ما خلقت هذا باطلاً، بل تعريضًا للثواب بدلاً من العقاب ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ بلطفك، الذي معه نتمسك بطاعتك.

ب. الثاني: اتصال الدعاء الذي هو طاعة بالاعتراف بالتوحيد الذي هو أصل الطاعات.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ﴾:

أ. قيل: أي من عذبته في النار.

ب. وقيل: تدخله النار وتخلده فيها.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾:

أ. قيل: أهنته.

ب. وقيل: أهلكته عن المفضل.

ج. وقيل: فضحته.

10. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ من معين ينجيهم أو يدفع عنهم، ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي﴾:

أ. قيل: المنادي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ابن مسعود وابن عباس وابن جريج وابن زيد.

ب. وقيل: هو القرآن، حكى عن مؤمني الإنس كما حكى عن مؤمني الجن ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ عن محمد بن كعب القرظي وقتادة.

11. ﴿يُنَادِي لِلْإِيمَانِ﴾ أي يدعو إلى الإيمان ﴿أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ فيه محذوف يعني: وقال لهم آمنوا بَربكم ﴿فَآمَنَّا﴾ أي أجبنا الداعي وصدقناه فيما دعا إليه من التوحيد والدين، ﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ أي يا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾:

أ. قيل: اغفر لنا ذنوبنا الماضية بالستر عليها بالعفو حتى لا نفتضح، وكفر سيئاتنا في الحال.

ب. وقيل: ذنوبنا فيما مضى وسيئاتنا في باقي عمرنا.

ج. وقيل: اغفر كبائرنا وكفر صغائرنا.

د. وقيل: الغفران ما يقع ابتداء والتكفير ما يقع بالطاعة.

13. ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ أي: أَمِتْنا ونحن على أعمال الصالحين لتجعلنا معهم بعد الموت، والبر اسم جامع لكل خير.

14. ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ وإنما سألوا إنجاز الوعد وإن كان لا بد يفعله:

أ. قيل: تعبدًا لما فيه من موقف الخاضع المحتاج كقول إبراهيم عليه السلام: ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾

ب. وقيل: معناه اجعلنا ممن وعدته بالثواب دون العقاب بلطفك.

ج. وقيل: آتنا ما وعدتنا من النصر لنا وخذلان عدونا؛ لما فيه من إعزاز الدين.

د. وقيل: إنه بمعنى الخبر.

15. اختلفوا في الوعد في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾:

أ. قيل: الثواب والجنة.

ب. وقيل: النصر على الأعداء.

16. ﴿عَلَى رُسُلِكَ﴾ أي علي ألسنة رسلك، وفيما أوحيته إلى رسلك، ﴿وَلَا تُخْزِنَا﴾:

أ. قيل: لا تهلكنا.

ب. وقيل: لا تذلنا ولا تفضحنا.

17. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ لأنك صادق، ولا يجوز عليك الكذب.

18. تدل الآيات الكريمة على:

أ. وصف المؤمنين بأنهم يذكرون الله بألسنتهم، ويتفكرون بقلوبهم، وذلك غاية ما يفعله العبد في جميع الأحوال، وفائدة التفكر أشياء:

أحدها: ما يحصل من المعرفة.

وثانيها: ما يعلم من موقع نعمه تعالى عليه في المنافع ودفع المضار.

وثالثها: ما يعلم من ثوابه وعقابه، فيحصل الإقدام على الطاعات، والانتهاء عن المعاصي.

ورابعها: ما يعلم من الوعد والوعيد والثواب والعقاب وما مضت من المَثُلات فيكون لطفًا له.

ب. يدل قوله: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ على أن نتيجة التفكر الاعتراف بتوحيد الله وعدله؛ لأن قوله: ﴿مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ﴾ يدل عليهما.

ج. أنه تعالى لم يخلق باطلاً، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ: إنه خلق الكفر، وكل ذلك باطل.

د. أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما لمنافع خلقه؛ لأنه يتعالى عن المنافع والمضار، وتفصيل منافعهما كثيرة، ولولاهما لما تم أمر الدين والدنيا.

هـ. ﴿سُبْحَانَكَ﴾ يدل على أنه لا يجوز عليه فعل القبيح.

و. تدل الآيات على تعليم الدعاء وكيف ينبغي للعبد أن يدعو، وأنه يجب أن يُقَدِّمَ التوحيد والثناء ثم يعقبه بالدعاء.

ز. يدل قوله: ﴿إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ على بطلان قول المرجئة؛ لأنه تعالى قال: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ فدل علىِ أنهم لا يدخلون النار.

ح. أن الظالم لا ينال الشفاعة؛ إذ لو نالها لكان الشفيع ناصرًا له.

ط. يدل قوله: ﴿لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ على بطلان قول المرجئة في جواز خلف الوعيد.

ي. تدل الآية على نهِاية المطلوب ما ذكر فيها من الفوز بالجنة والنجاة من النار.

19. قراءة العامة ﴿وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ بضم السين، وعن الأعمش ﴿رُسُلِكَ﴾ بتخفيف السين.

20. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ فيه إضمار أي مضطجعين ليصح عطفه على قوله: ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا﴾ قيامًا نصب على الحال، وكذلك قعودًا.

ب. ﴿هَذَا﴾ في قوله: ﴿مَا خَلَقْتَ هَذَا﴾ كناية عن الخلق، يعني ما خلقت هذا الخلق باطلاً.

ج. نصب ﴿بَاطِلًا﴾ قيل: بنزع الخافض، تقديره: بالباطل أو للباطل، وقيل: نصب لأنه المفعول الثاني، وقيل: هذا إشارة إلى المذكور أي ما خلقت ما ذكرت باطلاً.

د. ﴿سُبْحَانَكَ﴾ نصب على المصدر أي سبحنا سبحانًا.

هـ. ﴿لِلْإِيمَانِ﴾ قيل: اللام بمعنى ﴿إِلَى﴾، كقوله: ﴿هَدَانَا لِهَذَا﴾

و. خبر ﴿أَنْ﴾ في قوله: ﴿إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ﴾ جملة مركبة من الشرط والجزاء، والأصل فيهما جملتان كل واحدة منهما من فعل وفاعل؛ لأن موضع ﴿مِنَ﴾ نصب فيدخل على معنى المفعول.

ز. معنى قوله: ﴿أَنْ آمِنُوا﴾ يحتمل أن يكون بمعنى ﴿أَيِّ﴾، ويجوز أن تكون الناصبة للفعل؛ لأنه يصلح في مثله دخول الباء، نحو: ينادي بأن آمنوا.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/499.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. سبحانك معناه: تنزيها لك من أن تكون خلقتها باطلا، وبراءة مما لا يليق بصفاتك، قال الشاعر:

çسبحانه ثم سبحانا يعود له... وقبلنا سبح الجودي، والحجرé

ب. الأبرار: جمع بر، وهو الذي بر الله بطاعته إياه حتى أرضاه، وأصل البر الاتساع فالبر الواسع من الأرض: خلاف البحر، والبر: صلة الرحم، والبر: العمل الصالح، والبر: الحنطة، وأبر الرجل على أصحابه أي: زاد عليهم.

2. وصف سبحانه أولي الألباب فقال: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾:

أ. أي: هؤلاء الذين يستدلون على توحيد الله بخلقه السماوات والأرض، هم الذين يذكرون الله قائمين وقاعدين ومضطجعين أي في سائر الأحوال، لأن أحوال المكلفين لا تخلو من هذه الأحوال الثلاثة، وقد أمروا بذكر الله تعالى في جميعها.

ب. وقيل: معناه يصلون لله على قدر إمكانهم في صحتهم وسقمهم، فالصحيح يصلي قائما، والسقيم يصلي جالسا وعلى جنبه أي: مضطجعان، فسمى الصلاة ذكرا، رواه علي بن إبراهيم في تفسيره.

ج. لا تنافي بين التفسيرين، لأنه غير ممتنع وصفهم بالذكر في هذه الأحوال، وهم في الصلاة، وهو قول ابن جريج وقتادة.

3. ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: ومن صفة أولي الألباب أن يتفكروا في خلق السماوات والأرض، ويتدبروا في ذلك، ليستدلوا به على وحدانية الله تعالى، وكمال قدرته، وعلمه وحكمته ثم يقولون: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ﴾:

أ. أي: ما خلقت هذا الخلق عبثا.

ب. وقيل: بالباطل وللباطل، بل لغرض صحيح، وحكمة ومصلحة، ليكون دليلا على وحدانيتك، وحجة على كمال حكمتك.

4. ثم ينزهونه عن كل ما لا يليق بصفاته، أو يلحق نقصا بذاته فيقولون: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ أي: تنزيها لك عما لا يجوز عليك، فلم تخلقهما عبثا، ولا لعبا، بل تعريضا للثواب والأمن من العقاب ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ بلطفك الذي يتمسك معه بطاعتك.

5. في هذه الآية دلالة على أن الكفر والقبائح والضلال ليست خلقا لله، لأن هذه الأشياء كلها باطلة بلا خوف، وقد نفى الله تعالى ذلك بحكايته عن أولي الألباب الذين رضي أقوالهم، بأنه لا باطل فيما خلقه، فيجب بذاك القطع على أن القبائح كلها غير مضافة إليه، ومنفية عنه، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

6. ثم حكى الله تعالى عن أولي الألباب الذين وصفهم بأنهم أيضا يقولون: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ قيل فيه وجوه:

أ. أحدها: إن معناه فضحته وأهنته، فيكون منقولا من الخزي، ونظيره قوله ﴿وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي﴾

ب. وثانيها: قول المفضل إن معناه أهلكته، وأنشد: أخزى الإله من الصليب إلهه... واللابسين ملابس الرهبان.

ج. وثالثها: إن معناه أحللته محلا، ووقفته موقفا يستحيا منهم، فيكون منقولا من الخزاية التي معناها الاستحياء، وقال ذو الرمة:

çخزاية أدركته بعد جولته... من جانب الدف مخلوطا به الغضبé

7. اختلف أهل التأويل في المعني بهذه الآية:

أ. فروي عن أنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، وقتادة وابن جريج: أن الاخزاء يكون بالتأبيد في النار، وهي خاصة بمن لا يخرج منها.

ب. وقال جابر بن عبد الله: إن الخزي يكون بالدخول فيها.

ج. وروى عنه عمرو بن دينار وعطاء، أنه قال: وما أخزاه حين أحرقه بالنار، وإن دون ذا لخزيا، وهذا هو الأقوى، لأن الخزي إنما هو هتك المخزي وفضيحته، ومن عاقبه الله على ذنوبه فقد فضحه، وهذا غير مناف لما نذهب إليه من جواز العفو عن المذنبين، لأن على قول من قال: إن الخزي هو الخلود في النار، فمن عفا الله عنه لا يكون أخزاه إن أدخله النار، ثم أخرجه منها بعد استيفاء العقاب، وعلى قول من أثبت الخزي بنفس الدخول، فإنه وإن كان خزيا، فليس كمثل خزي الكفار، ويجوز حمل قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ على كلا الوجهين، وعلى قول من جعله من الخزاية التي هي الاستحياء، فيكون اخزاء المؤمنين محمولة على الاستحياء، واخزاء الكافرين على الإهانة والخلود في النار.

8. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ أي: ليس لهم من يدفع عنهم عذاب الله على وجه المغالبة والقهر، لأن الناصر هو الذي يدفع عن المنصور على وجه المغالبة، ولا ينافي ذلك ما صح من شفاعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والأولياء لأهل الكبائر، لأن الشفاعة على سبيل المسألة والخضوع والتضرع إلى الله، وليست من النصرة في شيء، وصح عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: ليصيبن أقواما شفع بذنوب أصابوها، ثم يخرجون فيسميهم أهل الجنة الجهنميين، رواه البخاري بإسناده في الصحيح، عن أنس بن مالك، وفيما رواه أبو سعيد الخدري عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: فيخرجون قد امتحشوا وعادوا حمما، قال: فيلقون في نهر يقال له نهر الحياة، قال: فينبتون فيه كما تنبت الحبة في جميل السيل ورواه البخاري ومسلم أيضا في الصحيح وما روي في مثل ذلك من الأخبار لا يحصى، وهذا كما تراه صريح في وقوع العفو عن مرتكبي الكبائر.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا﴾:

أ. قيل: المنادي محمد، عن ابن عباس وابن مسعود وابن جريج واختاره الجبائي.

ب. وقيل: إنه القرآن عن محمد بن كعب القرظي وقتادة، واختاره الطبري قال: لأنه ليس يسمع كل أحد قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا يراه، والقرآن سمعه من رآه ولم يره، كما قال مخبرا عن الجن ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾ ولمن نصر القول الأول أن يقول من بلغه قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ودعوته، جاز أن يقول سمعنا مناديا، وإن كان فيه ضرب من التجوز.

10. معنى قوله: ﴿سَمِعْنَا مُنَادِيًا﴾ نداء مناد، لأن المنادي لا يسمع.

11. ﴿يُنَادِي لِلْإِيمَانِ﴾ معناه إلى الإيمان، كقوله ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ ومعناه: إلى هذا، وكقول الراجز:

çأوحى لها القرار فاستقرت... وشدها بالراسيات الثبتé

ومثله قوله ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ فالمعنى: ربنا إننا سمعنا داعيا يدعو إلى الإيمان والتصديق بك، والإقرار بوحدانيتك، واتباع رسولك، واتباع أمره ونهيه.

12. ﴿أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ معناه: بأن آمنوا بربكم، فحذف الباء، وقيل: معناه قال لنا آمنوا بربكم، ﴿فَآمَنَّا﴾ أي: فصدقنا الداعي فيما دعا إليه من التوحيد والدين وأجبناه.

13. ﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ معناه: أسترها علينا، ولا تفضحنا بها يوم القيامة على رؤوس الأشهاد بعقوبتك ﴿وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ معناه: امحها بفضلك ورحمتك إيانا ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ معناه: واقبضنا إليك في جملة الأبرار، واحشرنا معهم.

14. سؤال وإشكال: ما معنى قوله ﴿وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ وقد أغنى عنه قوله ﴿فَاغْفِرْ لَنَا﴾؟ والجواب: من وجهين:

أ. أحدهما: إن معناه اغفر لنا ذنوبنا ابتداء بلا توبة، وكفر عنا إن تبنا.

ب. الثاني: إن معناه اغفر لنا ذنوبنا بالتوبة، وكفر عنا باجتناب الكبائر من السيئات، لأن الغفران قد يكون ابتداء ومن سبب، والتكفير لا يكون إلا عند فعل من العبد، والأول أليق بمذهبنا.

15. ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ هذه حكاية عمن تقدم وصفهم، بأنهم يقولون: أعطنا ما وعدتنا على لسان رسلك من الثواب ﴿وَلَا تُخْزِنَا﴾ أي: لا تفضحنا، أو لا تهلكنا ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ وهو كلام مستأنف بدلالة أنه كسر إن، والمعنى: إنك وعدت الجنة لمن آمن بك، وأنت لا تخلف وعدك.

16. سؤال وإشكال: ما وجه المسألة في إنجاز الوعد والمعلوم أنه يفعله لا محالة؟والجواب: من وجوه:

أ. أحدها: إن ذلك على وجه الانقطاع إلى الله، والتضرع له والتعبد كما قال: ﴿وقل رب احكم بالحق﴾، واختاره علي بن عيسى والجبائي.

ب. الثاني: إن الكلام خرج مخرج المسألة، والمراد الخبر أي: توفنا مع الأبرار لتؤتينا ما وعدتنا به على رسلك، ولا تخزنا يوم القيامة، لأنهم علموا أن ما وعد الله به حق، ولا بد أن ينجزه.

ج. الثالث: معناه السؤال والدعاء بأن يجعلهم ممن أتاهم ما وعدهم من الكرامة، على ألسن رسله، لا أنهم قد استحقوا منزلة الكرامة عند الله في أنفسهم، ثم سألوه أن يأتيهم ما وعدهم بعد علمهم باستحقاقهم عند أنفسهم، لأنه لو كان كذا، لكانوا قد زكوا أنفسهم، وشهدوا بأنهم استوجبوا كرامة الله، ولا يليق ذلك بصفة أهل الفضل من المؤمنين.

د. الرابع: إنهم إنما سألوا ذلك على وجه الرغبة منهم إلى الله، في أن يؤتيهم ما وعدهم من النصر على أعدائهم من أهل الكفر، وإعلاء كلمة الحق على الباطل، ليعجل ذلك لهم، لأنه لا يجوز أن يكونوا مع ما وصفهم الله به غير واثقين، ولا على غير يقين أن الله لا يخلف الميعاد، فرغبوا إليه في تعجيل ذلك، ولكنهم كانوا وعدوا النصر، ولم يوقت لهم في ذلك وقت، فرغبوا إليه في تعجيل ذلك لهم، لما لهم في ذلك من السرور بالظفر، وهو اختيار الطبري، وقال: الآية مختصة بمن هاجر من أصحاب النبي الذين رغبوا في تعجيل النصرة على أعدائهم، وقالوا: لا صبر لنا على أناتك وحلمك، وقوي ذلك بما بعد هذه الآية من قوله ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ الآيات، وإلى هذا أومى أبو القاسم البلخي أيضا.

17. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ﴾: في موضع جر صفة ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾

ب. ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا﴾: نصب على الحال.

ج. ﴿وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ أيضا في موضع نصب على الحال، ولذلك عطف على قياما وقعودا أي: ومضطجعين لأن الظرف يكون حالا للمعرفة، كما يكون نعتا للنكرة، لما فيه من معنى الاستقرار، تقول: مررت برجل على الحائط أي: مستقر على الحائط، وكذا مررت برجل في الدار، وتقول: أنا أصير إلى فلان ماشيا، وعلى الفرس، فيكون موضع على الفرس نصبا على الحال من الضمير في أصير.

د. ﴿مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ أي: يقولون ما خلقت هذا الخلق، ولذلك لم يقل هذه ولا هؤلاء.

هـ. ﴿بَاطِلًا﴾ نصب على أنه المفعول الثاني، وقيل: تقديره بالباطل وللباطل، ثم نزع الحرف فوصل الفعل خبر إن في قوله ﴿إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾: جملة مركبة من الشرط والجزاء، والأصل فيهما جملتان كل واحدة منهما من فعل وفاعل، لأن موضع من نصب بتدخل على أنه مفعول به.

و. ﴿أَنْ آمِنُوا﴾: يحتمل أن يكون أن هذه هي المفسرة بمعنى أي ويحتمل أن يكون الناصبة للفعل، لأنه يصلح في مثله دخول الباء نحو: ينادي بأن آمنوا.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/909.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا﴾ في هذا الذّكر ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه الذّكر في الصّلاة، يصلي قائما، فإن لم يستطع، فعلى جنب، هذا قول عليّ، وابن مسعود، وابن عباس، وقتادة.

ب. الثاني: أنه الذّكر في الصّلاة وغيرها، وهو قول طائفة من المفسرين.

ج. الثالث: أنه الخوف، فالمعنى: يخافون الله قياما في تصرّفهم وقعودا في دعتهم، وعلى جنوبهم في منامهم.

2. ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال ابن فارس: الفكرة: تردّد القلب في الشيء، قال ابن عباس: ركعتان مقتصدتان في تفكّر خير من قيام ليلة، والقلب ساه.

3. ﴿رَبِّنَا﴾ قال الزجّاج: معناه: يقولون: ربّنا ﴿مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ أي: خلقته دليلا عليك، وعلى صدق ما أتت به أنبياؤك، ومعنى‏ ﴿سُبْحَانَكَ﴾: براءة لك من السّوء، وتنزيها لك أن تكون خلقتهما باطلا، ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ فقد صدّقنا أنّ لك جنّة ونارا.

4. ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ قال الزجّاج: المخزى في اللغة المذلّ المحقور بأمر لزمه وبحجّة، يقال: أخزيته، أي: ألزمته حجّة أذللته معها، وفيمن يتعلّق به هذا الخزي قولان:

أ. أحدهما: أنه يتعلّق بمن يدخلها مخلّدا، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن المسيّب، وابن جبير، وقتادة، وابن جريج، ومقاتل.

ب. الثاني: أنه يتعلّق بكل داخل إليها، وهذا المعنى مرويّ عن جابر بن عبد الله، واختاره ابن جرير الطّبريّ، وأبو سليمان الدّمشقيّ.

5. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ قال ابن عباس: وما للمشركين من مانع يمنعهم عذاب الله تعالى.

6. ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا﴾ في المنادي قولان:

أ. أحدهما: أنه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله ابن عباس، وابن جريج، وابن زيد، ومقاتل.

ب. الثاني: أنه القرآن، قاله محمّد بن كعب القرظيّ، واختاره ابن جرير الطّبريّ.

7. في قوله تعالى: ﴿يُنَادِي لِلْإِيمَانِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: ينادي إلى الإيمان، ومثله: ﴿الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾، ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾، قاله الفرّاء.

ب. الثاني: بأنّه مقدّم ومؤخّر، والمعنى: سمعنا مناديا للإيمان ينادي، قاله أبو عبيدة.

8. ﴿وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ قال مقاتل: أمح عنّا خطايانا، وقال غيره: غطّها عنّا، وقيل: إنما جمع بين غفران الذّنوب، وتكفير السّيئات، لأن الغفران بمجرّد الفضل، والتّكفير بفعل الخير.

9. ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ: (الأبرار) و(الأشرار) و(ذات قرار) وما كان مثله بين الفتح والكسر، وقرأ ابن كثير، وعاصم بالفتح، ومعنى‏ ﴿مَعَ الْأَبْرَارِ﴾: فيهم، قال ابن عباس: وهم الأنبياء والصّالحون.

10. ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا﴾ قال ابن عباس: يعنون: الجنّة ﴿عَلَى رُسُلِكَ﴾ أي: على ألسنتهم.

11. سؤال وإشكال: ما وجه هذه المسألة والله لا يخلف الميعاد؟ والجواب: عنه ثلاثة أجوبة:

أ. أحدها: أنه خرج مخرج المسألة، ومعناه: الخبر، تقديره: فآمنّا، فاغفر لنا لتؤتينا ما وعدتنا.

ب. الثاني: أنه سؤال له، أن يجعلهم ممّن آتاه ما وعده، لا أنّهم استحقّوا ذلك، إذ لو كانوا قد قطعوا أنّهم من الأبرار لكانت تزكية لأنفسهم.

ج. الثالث: أنه سؤال لتعجيل ما وعدهم من النّصر على الأعداء، لأنه وعدهم نصرا غير مؤقّت، فرغبوا في تعجيله، ذكر هذه الأجوبة ابن جرير، وقال: أولى الأقوال بالصّواب، أنّ هذه صفة المهاجرين، رغبوا في تعجيل النّصر على أعدائهم، فكأنّهم قالوا: لا صبر لنا على حلمك عن الأعداء فعجّل خزيهم، وظفرنا عليهم.

__________

(1) زاد المسير: 1/361.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى دلائل الإلهية والقدرة والحكمة وهو ما يتصل بتقرير الربوبية ذكر بعدها ما يتصل بالعبودية، وأصناف العبودية ثلاثة أقسام: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح:

أ. فقوله تعالى: ﴿يَذْكُرُونَ اللهَ﴾ إشارة إلى عبودية اللسان.

ب. وقوله: ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ إشارة إلى عبودية الجوارح والأعضاء.

ج. وقوله: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إشارة إلى عبودية القلب والفكر والروح.

والإنسان ليس إلا هذا المجموع، فإذا كان اللسان مستغرقا في الذكر، والأركان في الشكر، والجنان في الفكر، كان هذا العبد مستغرقا بجميع أجزائه في العبودية، فالآية الأولى دالة على كمال الربوبية، وهذه الآية دالة على كمال العبودية، فما أحسن هذا الترتيب في جذب الأرواح من الخلق إلى الحق، وفي نقل الأسرار من جانب عالم الغرور إلى جناب الملك الغفور.

2. للمفسرين في هذه الآية قولان:

أ. الأول: أن يكون المراد منه كون الإنسان دائم الذكر لربه، فان الأحوال ليست إلا هذه الثلاثة، ثم لما وصفهم بكونهم ذاكرين فيها كان ذلك دليلا على كونهم مواظبين على الذكر غير فاترين عنه ألبتة.. والحمل على هذا أولى لأن الآيات الكثيرة ناطقة بفضيلة الذكر، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله)

ب. الثاني: أن المراد من الذكر الصلاة، والمعنى أنهم يصلون في حال القيام، فان عجزوا ففي حال القعود، فان عجزوا ففي حال الاضطجاع، والمعنى أنهم لا يتركون الصلاة في شيء من الأحوال:

قال الشافعي: إذا صلى المريض مضطجعاً وجب أن يصلي على جنبه.. وحجة الشافعي ظاهر هذه الآية، وهو أنه تعالى مدح من ذكره على حال الاضطجاع على الجنب، فكان هذا الوضع أولى.. وفيه دقيقة طبية وهو أنه ثبت في المباحث الطبية أن كون الإنسان مستلقياً على قفاه يمنع من استكمال الفكر والتدبر، وأما كونه مضطجعاً على الجنب فإنه غير مانع منه، وهذا المقام يراد فيه التدبر والتفكر، ولأن الاضطجاع على الجنب يمنع من النوم المغرق، فكان هذا الوضع أولى، لكونه أقرب إلى اليقظة، وإلى الاشتغال بالذكر.

وقال أبو حنيفة: بل يصلي مستلقياً حتى إذا وجد خفة قعد.

3. يحتمل أن يكون المراد بهذا الذكر هو الذكر باللسان، وأن يكون المراد منه الذكر بالقلب، والأكمل أن يكون المراد الجمع بين الأمرين.

4. محل‏ ﴿عَلى‏ جُنُوبِهِمْ‏﴾ نصب على الحال عطفاً على ما قبله، كأنه قيل: قياماً وقعوداً ومضطجعين.

5. لما وصفهم الله تعالى بالذكر وثبت أن الذكر لا يكمل إلا مع الفكر، لا جرم قال بعده: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، واعلم أنه تعالى رغب في ذكر الله، ولما آل الأمر إلى الفكر لم يرغب في الفكر في الله، بل رغب في الفكر في أحوال السماوات والأرض، وعلى وفق هذه الآية قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق)، والسبب في ذلك أن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة، إنما يمكن وقوعه على نعت المخالفة، فأذن نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قدم خالقها، وبكميتها وكيفيتها وشكلها على براءة خالقها عن الكمية والكيفية والشكل، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من عرف نفسه عرف ربه)، معناه من عرف نفسه بالحدوث عرف ربه بالقدم، ومن عرف نفسه بالإمكان عرف ربه بالوجوب، ومن عرف نفسه بالحاجة عرف ربه بالاستغناء، فكان التفكر في الخلق ممكنا من هذا الوجه، أما التفكر في الخالق فهو غير ممكن ألبتة، فأذن لا يتصور حقيقته إلا بالسلوب فنقول: إنه ليس بجوهر ولا عرض، ولا مركب ولا مؤلف، ولا في الجهة، ولا شك أن حقيقته المخصوصة مغايرة لهذه السلوب، وتلك الحقيقة المخصوصة لا سبيل للعقل إلى معرفتها فيصير العقل كالواله المدهوش المتحير في هذا الموقف فلهذا السبب نهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن التفكر في الله، وأمر بالتفكر في المخلوقات، فلهذه الدقيقة أمر الله في هذه الآيات بذكره، ولما ذكر الفكر لم يأمر بالتفكر فيه، بل أمر بالفكر في مخلوقاته.

6. الشيء الذي لا يمكن معرفته بحقيقته المخصوصة إنما يمكن معرفته بآثاره وأفعاله، فكلما كانت أفعاله أشرف وأعلى كان وقوف العقل على كمال ذلك الفاعل أكمل، ولذلك ان العامي يعظم اعتقاده في القرآن ولكنه يكون اعتقادا تقليديا إجمالياً، أما المفسر المحقق الذي لا يزال يطلع في كل آية على أسرار عجيبة، ودقائق لطيفة، فإنه يكون اعتقاده في عظمة القرآن أكمل.

7. دلائل التوحيد محصورة في قسمين: دلائل الآفاق، ودلائل الأنفس ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم كما قال تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غافر: 57] ولما كان الأمر كذلك لا جرم أمر في هذه الآية بالفكر في خلق السماوات والأرض لأن دلالتها أعجب وشواهدها أعظم، وكيف لا نقول ذلك ولو أن الإنسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة، رأى في تلك الورقة عرقا واحداً ممتدا في وسطها، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين، ثم يتشعب منها عروق دقيقة، ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر، وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكما بالغة وأسراراً عجيبة، وأن الله تعالى أودع فيها قوى جاذبة لغذائها من قعر الأرض ثم إن ذلك الغذاء يجرى في تلك العروق حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة جزء من أجزاء ذلك الغذاء بتقدير العزيز العليم، ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة وكيفية التدبير في إيجادها وإيداع القوى الغاذية والنامية فيها لعجز عنه، فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السماوات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم، وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان، عرف ان تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم، فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير عرف أنه لا سبيل له ألبتة إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السماوات والأرض، وإذا عرف بهذا البرهان النير قصور عقله وفهمه عن الاحاطة بهذا المقام لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين، بل يسلم ان كل ما خلقه ففيه حكم بالغة وأسرار عظيمة وان كان لا سبيل له إلى معرفتها، فعند هذا يقول: سبحانك! والمراد منه اشتغاله بالتسبيح والتهليل والتحميد والتعظيم.

8. ثم عند ذلك يشتغل بالدعاء فيقول: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء وقال: أشهد أن لك ربا وخالقا، اللهم اغفر لي فنظر الله اليه فغفر له)، وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا عبادة كالتفكر)، وقيل: الفكرة تذهب الغفلة وتجذب للقلب الخشية كما ينبت الماء الزرع، وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض)، قالوا: وكان ذلك العمل هو التفكر في معرفة الله، لأن أحدا لا يقدر أن يعمل بجوارحه مثل عمل أهل الأرض.

9. دلت الآية على أن أعلى مراتب الصديقين التفكر في دلائل الذات والصفات وأن التقليد أمر باطل لا عبرة به ولا التفات اليه، وقد حكى الله تعالى عن هؤلاء العباد الصالحين المواظبين على الذكر والفكر أنهم ذكروا خمسة أنواع من الدعاء.

10. الدعاء الأول: هو ما عبّر عنه قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، وفي الآية إضمار وفيه وجهان، قال الواحدي: التقدير: يقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا، وقال الزمخشري: انه في محال الحال بمعنى يتفكرون قائلين.

11. ﴿هَذَا﴾ في قوله: ﴿مَا خَلَقْتَ هَذَا﴾ كناية عن المخلوق، يعني ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلا، وفي كلمة ﴿هَذَا﴾ ضرب من التعظيم كقوله: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]

12. في نصب قوله‏: ﴿بَاطِلًا﴾ وجوه:

أ. الأول: أنه نعت لمصدر محذوف أي خلقا باطلا.

ب. الثاني: أنه بنزع الخافض تقديره: بالباطل أو للباطل.

ج. الثالث: قال الزمخشري: يجوز أن يكون (باطلا) حالا من (هذا)

13. استدل المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ بقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ على ما يلي:

أ. إن كل ما يفعله الله تعالى فهو إنما يفعله لغرض الإحسان إلى العبيد ولأجل الحكمة، والمراد منها رعاية مصالح العباد، واحتجوا عليه بهذه الآية لأنه تعالى لو لم يخلق السماوات والأرض لغرض لكان قد خلقها باطلا، وذلك ضد هذه الآية.

ب. وظهر بهذه الآية أن الذي تقوله المجبرة: ان الله تعالى أراد بخلق السماوات والأرض صدور الظلم والباطل من أكثر عباده وليكفروا بخالقها، وذلك رد لهذه الآية.

ج. وقوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ تنزيه له عن خلقه لهما باطلا، وعن كل قبيح.

14. أجاب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ على هذا بما ذكره الواحدي مما يصلح أن يكون جوابا عن هذه الشبهة فقال: الباطل عبارة عن الزائل الذاهب الذي لا يكون له قوة ولا صلابة ولا بقاء، وخلق السماوات والأرض خلق متقن محكم، ألا ترى إلى قوله: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ [الملك: 3] وقال: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾ [النبأ: 12] فكان المراد من قوله: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ هذا المعنى، لا ما ذكره المعتزلة.

15. أجاب المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ بأن هذا الوجه مدفوع بوجوه:

أ. الأول: لو كان المراد بالباطل الرخو المتلاشي لكان قوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ تنزيها له عن أن يخلق مثل هذا الخلق، ومعلوم أن ذلك باطل.

ب. الثاني: أنه إنما يحسن وصل قوله: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ به إذا حملناه على المعنى الذي ذكرناه لأن التقدير: ما خلقته باطلا بغير حكمة بل خلقته بحكمة عظيمة، وهي أن تجعلها مساكن للمكلفين الذين اشتغلوا بطاعتك وتحرزوا عن معصيتك، فقنا عذاب النار، لأنه جزاء من عصى ولم يطع، فثبت أنا إذا فسرنا قوله: ﴿مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ بما ذكرنا حسن هذا النظم، أما إذا فسرناه بأنك خلقته محكما شديد التركيب لم يحسن هذا النظم.

ج. الثالث: أنه تعالى ذكر هذا في آية أخرى فقال: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [ص: 27]، وقال في آية أخرى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الدخان: 38، 39]، وقال في آية أخرى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الدخان: 38، 39]، وقال في آية أخرى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا﴾ إلى قوله: ﴿فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ [المؤمنون: 115، 116] أي فتعالى الملك كالحق عن أن يكون فعله عبثاً، وإذا امتنع أن يكون عبثاً فبأن يمتنع كونه باطلًا أولى.

16. أجاب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ على هذا:

أ. بأن بديهة العقل شاهدة بأن الموجود إما واجب لذاته، وإما ممكن لذاته، وشاهده أن كل ممكن لذاته فإنه لا بد وأن ينتهي في رجحانه إلى الواجب لذاته، وليس في هذه القضية تخصيص بكون ذلك الممكن مغايرا لأفعال العباد، بل هذه القضية على عمومها قضية يشهد العقل بصحتها، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الخير والشر بقضاء الله، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون المراد من هذه الآية تعليل أفعال الله تعالى بالمصالح.

ب. إذا عرفت هذا فنقول: لم لا يجوز أن يكون تأويل الآية ما حكيناه عن الواحدي: قوله: ولو كان كذلك لكان قوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ تنزيها له عن فعل ما لا شدة فيه ولا صلابة وذلك باطل، قلنا: لم لا يجوز أن يكون المراد: ربنا ما خلقت هذا رخوا فاسد التركيب بل خلقته صلبا محكما، وقوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ معناه أنك وإن خلقت السماوات والأرض صلبة شديدة باقية فأنت منزه عن الاحتياج اليه والانتفاع به فيكون قوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ معناه هذا، قوله.

ج. ثانيا: إنما حسن وصل قوله: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ به إذا فسرناه بقولنا، قلنا لا نسلم بل وجه النظم انه لما قال: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ اعترف بكونه غنياً عن كل ما سواه، فعندما وصفه بالغنى أقر لنفسه بالعجز والحاجة اليه في الدنيا والآخرة فقال: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ وهذا الوجه في حسن النظم ان لم يكن أحسن مما ذكرتم لم يكن أقل منه.

د. أما سائر الآيات التي ذكرتموها فهي دالة على أن أفعاله منزهة عن أن تكون موصوفة بكونها عبثا ولعبا وباطلا، ونحن نقول بموجبه، وان أفعال الله كلها حكمة وصواب، لأنه تعالى لا يتصرف إلا في ملكه وملكه، فكان حكمه صوابا على الإطلاق فهذا ما في هذه المناظرة.

17. احتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أنه سبحانه خلق هذه الأفلاك والكواكب وأودع في كل واحد منها قوى مخصوصة، وجعلها بحيث يحصل من حركاتها واتصال بعضها ببعض مصالح هذا العالم ومنافع سكان هذه البقعة الارضية، قالوا: لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة، وذلك رد للآية، قالوا: وليس لقائل أن يقول الفائدة فيها الاستدلال بها على وجود الصانع المختار، وذلك لأن كل واحد من كرات الهواء والماء يشارك الأفلاك والكواكب في هذا المعنى، فحينئذ لا يبقى لخصوص كونه فلكا وشمسا وقمرا فائدة، فيكون باطلا وهو خلاف هذا النص، وأجاب المتكلمون عنه: بأن قالوا: لم لا يكفي في هذا المعنى كونها أسباباً على مجرى العادة لا على سبيل الحقيقة.

18. ﴿سُبْحَانَكَ﴾ هذا إقرار بعجز العقول عن الاحاطة بآثار حكمة الله في خلق السماوات والأرض، يعني: أن الخلق إذا تفكروا في هذه الأجسام العظيمة لم يعرفوا منها إلا هذا القدر، وهو أن خالقها ما خلقها باطلا، بل خلقها لحكم عجيبة، وأسرار عظيمة، وإن كانت العقول قاصرة عن معرفتها، والمقصود منه تعليم الله عباده كيفية الدعاء، وذلك أن من أراد الدعاء فلا بد وأن يقدم الثناء ثم يذكر بعده الدعاء كما في هذه الآية.

19. ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ لما حكى الله تعالى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى، وأبدانهم في طاعة الله، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله، ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار، ولولا أنه يحسن من الله تعذيبهم وإلا لكان هذا الدعاء عبثاً، فان كان المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ ظنوا أن أول الآية حجة لهم، فليعلموا أن آخر هذه الآية حجة لنا في أنه لا يقبح من الله شيء أصلا، ومثل هذا التضرع ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم في قوله: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الشعراء: 82]

20. النوع الثاني من دعواتهم: هو ما عبّر عنه قوله تعالى حكاية عنهم: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾، فهم لما سألوا ربهم أن يقيهم عذاب النار أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي، ليكون موقع السؤال أعظم، لأن من سأل ربه أن يفعل شيئاً أو أن لا يفعله، إذا شرح عظم ذلك المطلوب وقوته كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل وإخلاصه في طلبه أشد، والدعاء لا يتصل بالإجابة إلا إذا كان مقروناً بالإخلاص، فهذا تعليم من الله عباده في كيفية إيراد الدعاء.

21. ﴿أَخْزَيْتَهُ﴾ قال الواحدي: الاخزاء في اللغة يرد على معان يقرب بعضها من بعض، قال الزجاج: أخزى الله العدو، أي أبعده وقال غيره: أخزاه الله أي أهانه، وقال شمر بن حمدويه أخزاه الله أي فضحه الله، وفي القرآن‏: ﴿وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي﴾ [هود: 78] وقال المفضل: أخزاه الله أي أهلكه وقال ابن الأنباري: الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو انقطاع حجة أو بوقوع في بلاء، وكل هذه الوجوه متقاربة، ثم قال الزمخشري: ﴿فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ أي قد أبلغت في إخزائه وهو نظير ما يقال: من سبق فلانا فقد سبق، ومن تعلم من فلان فقد تعلم.

22. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ هذه الآية ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ دالة على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس بمؤمن، وذلك لأن صاحب الكبيرة إذا دخل النار فقد أخزاه الله لدلالة هذه الآية، والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ فوجب من مجموع هاتين الآيتين أن لا يكون صاحب الكبيرة مؤمنا.

23. أجاب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ أن قوله: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [التحريم: 8] لا يقتضي نفي الاخزاء مطلقا، وإنما يقتضي أن لا يحصل الاخزاء حال ما يكون مع النبي، وهذا النفي لا يناقضه إثبات الاخزاء في الجملة لاحتمال أن يحصل ذلك الإثبات في وقت آخر، هذا هو الذي صح عندي في الجواب، وذكر الواحدي في البسيط أجوبة ثلاثة سوى ما ذكرناه:

أ. أحدها: نقل عن سعيد بن المسيب والثوري وقتادة أن قوله: ﴿إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ مخصوص بمن يدخل النار للخلود، وهذا الجواب عندي ضعيف، لأن مذهب المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ أن كل فاسق دخل النار فإنما دخلها للخلود، فهذا لا يكون سؤالا عنهم.

ب. ثانيها: المدخل في النار مخزي في حال دخوله وإن كانت عاقبته أن يخرج منها، وهذا ضعيف أيضا لأن موضع الاستدلال أن قوله: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [التحريم: 8] يدل على نفي الخزي عن المؤمنين على الإطلاق، وهذه الآية دلت على حصول الخزي لكل من دخل النار، فحصل بحكم هاتين الآيتين بين كونه مؤمنا وبين كونه كافرا ممن يدخل النار منافاة.

ج. ثالثها: الاخزاء يحتمل وجهين: أحدهما: الاهانة والإهلاك الثاني: التخجيل، يقال: خزي خزاية إذا استحيا، وأخزاه غيره إذا عمل به عملا يخجله ويستحيى منه.

24. حاصل هذا الجواب: أن لفظ الاخزاء لفظ مشترك بين التخجيل وبين الإهلاك، واللفظ المشترك لا يمكن حمله في طرفي النفي والإثبات على معنييه جميعا، وإذا كان كذلك جاز أن يكون المنفي بقوله: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ غير المثبت في قوله: ﴿إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ وعلى هذا يسقط الاستدلال، إلا أن هذا الجواب إنما يتمشى إذا كان لفظ الاخزاء مشتركا بين هذين المفهومين، أما إذا كان لفظا متواطئا مفيدا لمعنى واحد، وكان المعنيان اللذان ذكرهما الواحدي نوعين تحت جنس واحد، سقط هذا الجواب لأن قوله: ﴿لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ لنفي الجنس وقوله: ﴿فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ لإثبات النوع، وحينئذ يحصل بينهما منافاة.

25. احتجت المرجئة بهذه الآية في القطع على أن صاحب الكبيرة لا يخزى وكل من دخل النار فإنه يخزى، فيلزم القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار:

أ. إنما قلنا صاحب الكبيرة لا يخزى لأن صاحب الكبيرة مؤمن، والمؤمن لا يخزى.

ب. إنما قلنا إنه مؤمن لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ﴾ [الحجرات: 9] سمي الباغي حال كونه باغيا مؤمنا، والبغي من الكبائر بالإجماع، وأيضا قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة: 178] سمي القاتل بالعمد العدوان مؤمنا، فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن، وإنما قلنا إن المؤمن لا يخزى لقوله: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [التحريم: 8] ولقوله: ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: 194]

ج. ثم قال تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ [آل عمران: 195] وهذه الاستجابة تدل على أنه تعالى لا يخزي المؤمنين، فثبت بما ذكرنا أن صاحب الكبيرة لا يخزى بالنار، وإنما قلنا إن كل من دخل النار فإنه يخزى لقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ وحينئذ يتولد من هاتين المقدمتين القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار.

26. والجواب عما ذكره المرجئةما تقدم: أن قوله: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [التحريم: 8] لا يدل على نفي الاخزاء مطلقاً، بل يدل على نفي الاخزاء حال كونهم مع النبي، وذلك لا ينافي حصول الاخزاء في وقت آخر.

27. قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ عام دخله الخصوص في مواضع منها:

أ. أن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ [مريم: 71، 72] يدل على أن كل المؤمنين يدخلون النار، وأهل الثواب يصانون عن الخزي.

ب. ثانيها: أن الملائكة الذين هم خزنة جهنم يكونون في النار، وهم أيضا يصانون عن الخزي، قال تعالى: ﴿عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ﴾ [التحريم:6]

28. احتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أن العذاب الروحاني أشد وأقوى من العذاب الجسماني، قالوا: لأن الآية دالة على التهديد بعد عذاب النار بالخزي، والخزي عبارة عن التخجيل وهو عذاب روحاني، فلولا أن العذاب الروحاني أقوى من العذاب الجسماني وإلا لما حسن تهديد من عذب بالنار بعذاب الخزي والخجالة.

29. احتج المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية على أن الفساق الذين دخلوا النار لا يخرجون منها بل يبقون هناك مخلدين، وقالوا: الخزي هو الهلاك، فقوله: ﴿إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ معناه فقد أهلكته، ولو كانوا يخرجون من النار إلى الجنة لما صح أن كل من دخل النار فقد هلك، وأجاب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ: أنا لا نفسر الخزي بالإهلاك بل نفسره بالإهانة والتخجيل، وعند هذا يزول كلامكم.

30. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ تمسكوا به في نفي الشفاعة للفساق، وذلك لأن الشفاعة نوع نصرة، ونفي الجنس يقتضي نفي النوع، وأجاب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ من وجوه:

أ. الأول: أن القرآن دل على أن الظالم بالإطلاق هو الكافر، قال تعالى: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 254] ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم خصصوا أنفسهم بنفي الشفعاء والأنصار حيث قالوا: ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ [الشعرا: 101]

ب. ثانيها: أن الشفيع لا يمكنه أن يشفع إلا بإذن الله، قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: 255] وإذا كان كذلك لم يكن الشفيع قادراً على النصرة إلا بعد الإذن، وإذا حصل الإذن لم يكن في شفاعته فائدة في الحقيقة، وعند ذلك يظهر أن العفو إنما حصل من الله تعالى، وتلك الشفاعة ما كان لها تأثير في نفس الأمر، وليس الحكم إلا لله، فقوله: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ يفيد أنه لا حكم إلا لله كما قال: ﴿أَلَا لَهُ الْحُكْمُ﴾ [الأنعام: 62] وقال: ﴿وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله﴾ [الانفطار: 19] لا يقال: فعلى هذا التقدير لا يبقى لتخصيص الظالمين بهذا الحكم فائدة، لأنا نقول: بل فيه فائدة لأنه وعد المؤمنين المتقين في الدنيا بالفوز بالثواب والنجاة من العقاب، فلهم يوم القيامة هذه الحجة، أما الفساق فليس لهم ذلك، فصح تخصيصهم بنفي الأنصار على الإطلاق.

ج. الثالث: أن هذه الآية عامة وواردة بثبوت الشفاعة خاصة والخاص مقدم على العام والله أعلم.

31. تمسك المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ في أن الفاسق لا يخرج من النار، قالوا: لو خرج من النار لكان من أخرجه منها ناصرا له، والآية دالة على أنه لا ناصر له ألبتة، وأجاب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ بالمعارضة بالآيات الدالة على العفو كما ذكرناه في سورة البقرة.

32. النوع الثالث من دعواتهم هو ما عبّر عنه قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾، وفي المنادي قولان:

أ. أحدهما: أنه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو قول الأكثرين، والدليل عليه قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ﴾ [النحل: 125]، ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ﴾ [الأحزاب: 46]، ﴿أَدْعُو إِلَى اللهِ﴾ [يوسف: 108]

ب. الثاني: أنه القرآن، ذلك أنه تعالى حكى عن مؤمني الانس ذلك كما حكى عن مؤمني الجن قوله: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾ [الجن: 1، 2] والدليل على أن تفسير الآية بهذا الوجه أولى لأنه ليس كل أحد لقي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أما القرآن فكل أحد سمعه وفهمه، وهذا وان كان مجازا إلا أنه مجاز متعارف، لأن القرآن لما كان مشتملا على الرشد، وكان كل من تأمله وصل به إلى الهدى إذا وفقه الله تعالى لذلك، فصار كأنه يدعو إلى نفسه وينادي بما فيه من أنواع الدلائل، كما قيل في جهنم: ﴿تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى﴾ [المعارج: 17] إذ كان مصيرهم إليها، والفصحاء والشعراء يصفون الدهر بأنه ينادي ويعظ، ومرادهم منها دلالة تصاريف الزمان، قال الشاعر:

çيا واضع الميت في قبره‏...خاطبك الدهر فلم تسمع‏é

33. في قوله: ﴿يُنَادِي لِلْإِيمَانِ﴾ وجوه:

أ. الأول: ان اللام بمعنى (إلى) كقوله: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [المجادلة: 8] ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا﴾ [المجادلة: 3] ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ [الزلزلة: 5] ﴿الْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ [الأعراف: 43] ويقال: دعاه لكذا والى كذا، وندبه له واليه، وناداه له وإليه، وهداه للطريق واليه، والسبب في إقامة كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى: أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص حاصلان جميعا.

ب. الثاني: قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير، أي سمعنا مناديا للإيمان ينادي بأن آمنوا، كما يقال: جاءنا منادي الأمير ينادي بكذا وكذا الثالث: أن هذه اللام لام الأجل والمعنى: سمعنا مناديا كان نداؤه ليؤمن الناس، أي كان المنادي ينادي لهذا الغرض، ألا تراه قال: ﴿أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ أي لتؤمن الناس، وهو كقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ﴾ [النساء: 64]

34. قوله تعالى: ﴿سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي﴾ نظيره قولك: سمعت رجلا يقول كذا، وسمعت زيدا يتكلم، فيوقع الفعل على الرجل ويحذف المسموع، لأنك وصفته بما يسمع وجعلته حالا عنه فأغناك عن ذكره، ولأن الوصف أو الحال لم يكن بد منه، وأنه يقال: سمعت كلام فلان أو قوله.

35. سؤال وإشكال: ما الفائدة في الجمع بين المنادي وينادي؟ والجواب: ذكر النداء مطلقا ثم مقيدا بالإيمان تفخيما لشأن المنادي، لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان، ونظيره قولك: مررت بهاد يهدي للإسلام، وذلك لأن المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب، أو لإطفاء النائرة، أو لإغاثة المكروب، أو الكفاية لبعض النوازل، وكذلك الهادي، وقد يطلق على من يهدي للطريق، ويهدي لسداد الرأي، فإذا قلت ينادي للإيمان ويهدي للإسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخمته.

36. في قوله تعالى: ﴿أَنْ آمِنُوا﴾ حذف أو إضمار، والتقدير: آمنوا أو بأن آمنوا، ثم حكى الله عنهم أنهم قالوا بعد ذلك: ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾، وقد طلبوا من الله تعالى في هذا الدعاء ثلاثة أشياء:

أ. أولها: غفران الذنوب.

ب. ثانيها: تكفير السيئات.

ج. ثالثها: أن تكون وفاتهم مع الأبرار.

37. الغفران: هو الستر والتغطية، والتكفير أيضا هو التغطية، يقال: رجل مكفر بالسلاح، أي مغطى به، والكفر منه أيضا، وقال لبيد: (في ليلة كفر النجوم ظلامها)، بناء على هذا: فالمغفرة والتكفير بحسب اللغة معناهما شيء واحد، أما المفسرون فذكروا فيه وجوها:

أ. أحدها: أن المراد بهما شيء واحد وإنما أعيد ذلك للتأكيد لأن الإلحاح في الدعاء والمبالغة فيه مندوب.

ب. ثانيها: المراد بالأول ما تقدم من الذنوب، وب الثاني المستأنف.

ج. ثالثها: أن يريد بالغفران ما يزول بالتوبة، وبالكفران ما تكفره الطاعة العظيمة.

د. رابعها: أن يكون المراد بالأول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصية وذنبا، وبالثاني: ما أتى به الإنسان مع جهله بكونه معصية وذنبا.

38. ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ الأبرار جمع بر أو بار، كرب وأرباب، وصاحب وأصحاب، وذكر القفال في تفسير هذه المعية وجهين:

أ. الأول: أن وفاتهم معهم هي أن يموتوا على مثل أعمالهم حتى يكونوا في درجاتهم يوم القيامة، قد يقول الرجل أنا مع الشافعي في هذه المسألة، ويريد به كونه مساويا له في ذلك الاعتقاد.

ب. الثاني: يقال فلان في العطاء مع أصحاب الألوف، أي هو مشارك لهم في أنه يعطي ألفا.

ج. الثالث: أن يكون المراد منه كونهم في جملة أتباع الأبرار وأشياعهم، ومنه قوله: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ﴾ [النساء: 69]

39. احتج أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ على حصول العفو بدون التوبة بهذه الآية أعني قوله تعالى حكاية عنهم: ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ والاستدلال به من وجهين:

أ. الأول: أنهم طلبوا غفران الذنوب ولم يكن للتوبة فيه ذكر، فدل على أنهم طلبوا المغفرة مطلقاً، ثم إن الله تعالى أجابهم إليه لأنه قال في آخر الآية: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ [آل عمران: 195]، وهذا صريح في أنه تعالى قد يعفو عن الذنب وان لم توجد التوبة.

ب. الثاني: وهو أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما أخبروا عن أنفسهم بأنهم آمنوا، فعند هذا قالوا: فاغفر لنا ذنوبنا، والفاء في قوله: ﴿فَاغْفِرْ﴾ فاء الجزاء وهذا يدل على أن مجرد الايمان سبب لحسن طلب المغفرة من الله، ثم إن الله تعالى أجابهم اليه بقوله: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ فدلت هذه الآية على أن مجرد الايمان سبب لحصول الغفران، إما من الابتداء وهو بأن يعفو عنهم ولا يدخلهم النار أو بأن يدخلهم النار ويعذبهم مدة ثم يعفو عنهم‏ ويخرجهم من النار، فثبت دلالة هذه الآية من هذين الوجهين على حصول العفو.

40. احتج أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية على أن شفاعة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في حق أصحاب الكبائر مقبولة يوم القيامة، وذلك لأن هذه الآية دلت على أن هؤلاء المؤمنين طلبوا من الله غفران الذنوب مطلقا من غير أن قيدوا ذلك بالتوبة، فأجاب الله قولهم وأعطاهم مطلوبهم فإذا قبل شفاعة المؤمنين في العفو عن الذنب، فلأن يقبل شفاعة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه كان أولى.

41. النوع الرابع من دعائهم هو ما عبّر عنه قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾، وقوله: ﴿وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ فيه حذف المضاف، ثم فيه وجوه:

أ. أحدها: وآتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك.

ب. ثانيها: وآتنا ما وعدتنا على تصديق رسلك، والدليل عليه أن هذه الآية مذكورة عقيب ذكر المنادي للإيمان وهو، الرسول وعقيب قوله: ﴿فَآمَنَّا﴾ وهو التصديق.

42. سؤال وإشكال: الخلف في وعد الله محال، فكيف طلبوا بالدعاء ما علموا أنه لا محالة واقع؟ والجواب: من وجوه:

أ. الأول: أنه ليس المقصود من الدعاء طلب الفعل، بل المقصود منه إظهار الخضوع والذلة والعبودية، وقد أمرنا بالدعاء في أشياء نعلم قطعا أنها توجد لا محالة، كقوله: قل رب احكم بالحق [الأنبياء: 112] وقوله: ﴿فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾ [غافر: 7]

ب. الثاني: أن وعد الله لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم، بل إنما يتناولهم بحسب أوصافهم، فإنه تعالى وعد المتقين بالثواب، ووعد الفساق بالعقاب، فقوله: ﴿وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا﴾ معناه: وفقنا للأعمال التي بها نصير أهلا لوعدك، واعصمنا من الأعمال التي نصير بها أهلا للعقاب والخزي، وعلى هذا التقدير يكون المقصود من هذه الآية طلب التوفيق للطاعة والعصمة عن المعصية.

ج. الثالث: ان الله تعالى وعد المؤمنين بأن ينصرهم في الدنيا ويقهر عدوهم، فهم طلبوا تعجيل ذلك، وعلى هذا التقدير يزول الأشكال.

43. دلت الآية الكريمة على أنهم إنما طلبوا منافع الآخرة بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق لأنهم قالوا: ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك، وفي آخر الكلام قالوا: ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ وهذا يدل على أن المقتضي لحصول منافع الآخرة هو الوعد لا الاستحقاق.

44. سؤال وإشكال: متى حصل الثواب كان اندفاع العقاب لازما لا محالة، فقوله: ﴿آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى‏ رُسُلِكَ‏﴾ طلب للثواب، فبعد طلب الثواب كيف طلب ترك العقاب، وهو قوله: ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ بل لو طلب ترك العقاب أولا ثم طلب إيصال الثواب كان الكلام مستقيما؟ والجواب: من وجهين:

أ. الأول: أن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم والسرور فقوله: ﴿آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى‏ رُسُلِكَ‏﴾ المراد منه المنافع، وقوله: ﴿وَلَا تُخْزِنَا﴾ المراد منه التعظيم.

ب. الثاني: أنا قد بينا أن‏ المقصود من هذه الآية طلب التوفيق على الطاعة والعصمة عن المعصية، وعلى هذا التقدير يحسن النظم كأنه قيل: وفقنا للطاعات، وإذا وفقتنا لها فاعصمنا عما يبطلها ويزيلها ويوقعنا في الخزي والهلاك، والحاصل كأنه قيل: وفقنا لطاعتك فانا لا نقدر على شيء من الطاعات إلا بتوفيقك، وإذا وفقت لفعلها فوفقنا لاستبقائها فانا لا نقدر على استبقائها واستدامتها إلا بتوفيقك، وهو إشارة إلى أن العبد لا يمكنه عمل من الأعمال، ولا فعل من الأفعال، ولا لمحة ولا حركة إلا بإعانة الله وتوفيقه.

45. قوله تعالى: ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ شبيه بقوله: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ [الزمر: 47] فإنه ربما ظن الإنسان أنه على الاعتقاد الحق والعمل الصالح، ثم انه يوم القيامة يظهر له أن اعتقاده كان ضلالا وعمله كان ذنبا، فهناك تحصل الخجالة العظيمة والحسرة الكاملة والأسف الشديد، ثم قال حكماء الإسلام: وذلك هو العذاب الروحاني، قالوا: وهذا العذاب أشد من العذاب الجسماني، ومما يدل على هذا أنه سبحانه حكى عن هؤلاء العباد المؤمنين أنهم طلبوا في هذا الدعاء أشياء فأول مطالبهم الاحتراز عن العذاب الجسماني وهو قوله: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 191] وآخرها الاحتراز عن العذاب الروحاني وهو قوله: ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ وذلك يدل على أن العذاب الروحاني أشد من العذاب الجسماني.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 9/460.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ ذكر تعالى ثلاث هيئات لا يخلوا ابن آدم منها في غالب أمره، فكأنها تحصر زمانه، ومن هذا المعنى قول عائشة: (كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يذكر الله على كل أحيانه)، أخرجه مسلم، فدخل في ذلك كونه على الخلاء وغير ذلك، وقد اختلف العلماء في هذا، فأجاز ذلك عبد الله بن عمرو وابن سيرين والنخعي، وكره ذلك ابن عباس وعطاء والشعبي، والأول أصح لعموم الآية والحديث، قال النخعي: لا بأس بذكر، الله في الخلاء فإنه يصعد، المعنى: تصعد به الملائكة مكتوبا في صحفهم، فحذف المضاف، دليله قول تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق]، وقال: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ﴾ [الانفطار]، ولان الله تعالى أمر عباده بالذكر على كل حال ولم يستثن فقال: ﴿اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب]، وقال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة]، وقال: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف] فعم، فذاكر الله تعالى على كل حالاته مثاب مأجور إن شاء الله تعالى، وذكر أبو نعيم عن كعب الأحبار قال قال موسى عليه السلام: يا رب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك قال: يا موسى أنا جليس من ذكرني قال: يا رب فإنا نكون من الحال على حال نجلك ونعظمك أن نذكرك قال: وما هي؟ قال: الجنابة والغائط قال: يا موسى اذكرني على كل حال، وكراهية من كره ذلك إما لتنزيه ذكر الله تعالى في المواضع المرغوب عن ذكره فيها ككراهية قراءة القرآن في الحمام، وإما إبقاء على الكرام الكاتبين على أن يحلهم موضع الأقذار والأنجاس لكتابة ما يلفظ به، والله أعلم.

2. ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا﴾ نصب على الحال، ﴿وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ في موضع الحال، أي ومضطجعين ومثله قول تعالى: ﴿دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا﴾ [يونس] على العكس، أي دعانا مضطجعا على جنبه.

3. ذهب جماعة من المفسرين منهم الحسن وغير إلى أن قوله: ﴿يَذْكُرُونَ اللهَ﴾ إلى آخره، إنما هو عبارة عن الصلاة، أي لا يضيعونها، ففي حال العذر يصلونها قعودا أو على جنوبهم، وهي مثل قول تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ [النساء] في قول ابن مسعود.. وإذا كانت الآية في الصلاة ففقهها أن الإنسان يصلي قائما، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنبه، كما ثبت عن عمران ابن حصين قال: كان بي البواسير فسألت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الصلاة فقال: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب) رواه الأئمة، وقد كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلي قاعدا قبل موته بعام في النافلة، على ما في صحيح مسلم، وروى النسائي عن عائشة قالت: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلي متربعا، قال أبو عبد الرحمن: لا أعلم أحد روى هذا الحديث غير أبي داوود الحفري وهو ثقة، ولا أحسب هذا الحديث إلا خطأ.

4. اختلف العلماء في كيفية صلاة المريض والقاعد وهيئتها، فذكر ابن عبد الحكم عن مالك أنه يتربع في قيامه، وقال البويطي عن الشافعي فإذا أراد السجود تهيأ للسجود على قدر ما يطيق، قال: وكذلك المتنفل، ونحوه قول الثوري، وكذلك قال الليث وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد، وقال الشافعي في رواية المزني: يجلس في صلاته كلها كجلوس التشهد، وروي هذا عن مالك وأصحابه، والأول المشهور وهو ظاهر المدونة، وقال أبو حنيفة وزفر: يجلس كجلوس التشهد، وكذلك يركع ويسجد.

5. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بصلاة القاعد والراقد ونحوهما، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.

6. ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قد بينا معنى ﴿يَذْكُرُونَ﴾ وهو إما ذكر باللسان وإما الصلاة فرضها ونفلها، فعطف تعالى عبادة أخرى على إحداهما بعبادة أخرى، وهي التفكر في قدرة الله تعالى ومخلوقاته والعبر الذي بث، ليكون ذلك أزيد بصائرهم:

çوفي كل شيء له آية...تدل على أنه واحدé

وقيل: ﴿يَتَفَكَّرُونَ﴾ عطف على الحال، وقيل: يكون منقطعا، والأول أشبه.

7. الفكرة: تردد القلب في الشيء، يقال: تفكر، ورجل فكير كثير الفكر:

أ. ومر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على قوم يتفكرون في الله فقال: (تفكروا في الخلق، ولا تتفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره) وإنما التفكر والاعتبار وانبساط الذهن في المخلوقات كما قال: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾

ب. وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال أشهد أن لك ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا عبادة كتفكر)، وروي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (تفكر ساعة خير من عبادة سنة)

ج. وروى ابن القاسم عن مالك قال: قيل لأم الدرداء: ما كان أكثر شأن أبي الدرداء؟ قالت: كان أكثر شأنه التفكر، قيل له: أفترى التفكر عمل من الأعمال؟ قال: نعم، هو اليقين، وقيل لابن المسيب في الصلاة بين الظهر والعصر، قال: ليست هذه عبادة، إنما العبادة الورع عما حرم الله والتفكر في أمر الله، وقال الحسن: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، وقاله ابن العباس وأبو الدرداء، وقال الحسن: الفكرة مرآة المؤمن ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته.

8. مما يتفكر فيه مخاوف الآخرة من الحشر والنشر والجنة ونعيمها والنار وعذابها:

أ. ويروى أن أبا سليمان الداراني أخذ قدح الماء ليتوضأ لصلاة الليل وعنده ضيف، فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح أقام لذلك متفكرا حتى طلع الفجر، فقال له: ما هذا يا أبا سليمان؟ قال: إني لما طرحت أصبعي في أذن القدح تفكرت في قول الله تعالى ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ﴾ [المؤمن] تفكرت، في حالي وكيف أتلقى الغل إن طرح في عنقي يوم القيامة، فما زلت في ذلك حتى أصبحت:

ب. قال ابن عطية: (وهذا نهاية الخوف، وخير الأمور أوساطها، وليس علماء الأمة الذين هم الحجة على هذا المنهاج، وقراءة علم كتاب الله تعالى ومعاني سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لمن يفهم ويرجى نفعه أفضل من هذا)

ج. قال ابن العربي: (اختلف الناس أي العملين أفضل: التفكر أم الصلاة، فذهب الصوفية إلى أن التفكر أفضل، فإنه يثمر المعرفة وهو أفضل، المقامات الشرعية، وذهب الفقهاء إلى أن الصلاة أفضل، لما ورد في الحديث من الحث عليها والدعاء إليها والترغيب فيها، وفي الصحيحين عن ابن عباس أنه بات عند خالته ميمونة، وفيه: فقام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ الآيات العشر الحواتم من سورة آل عمران، وقام إلى شن معلق فتوضأ وضوءا خفيفا ثم صلى ثلاث عشرة ركعة، الحديث، فانظروا رحمكم الله إلى جمعه بين التفكر في المخلوقات ثم إقباله على صلاته بعده، وهذه السنة هي التي يعتمد عليها، فأما طريقة الصوفية أن يكون الشيخ منهم يوما وليلة وشهرا مفكرا لا يفتر، فطريقة بعيدة عن الصواب غير لائقة بالبشر، ولا مستمرة على السنن)

د. قال ابن عطية: وحدثني أبي عن بعض علماء المشرق قال: كنت بائتا في مسجد الأقدام بمصر فصليت العتمة فرأيت رجلا قد اضطجع في كساء له مسجى بكسائه حتى أصبح، وصلينا نحن تلك الليلة، فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة وصلى مع الناس، فاستعظمت جراءته في الصلاة بغير وضوء، فلما فرغت الصلاة خرج فتبعته لأعظه، فلما دنوت منه سمعته ينشد شعرا:

çمسجى الجسم غائب حاضر...منتبه القلب صامت ذاكر

منقبض في الغيوب منبسط...كذاك من كان عارفا ذاكر

يبيت في ليله أخا فكر...فهو مدى الليل نائم ماهرé

قال: فعلمت أنه ممن يعبد بالفكرة، فانصرفت عنه.

9. ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ أي يقولون: ما خلقته عبثا وهزلا، بل خلقته دليلا على قدرتك وحكمتك، والباطل: الزائل الذاهب، ومنه قول لبيد:ألا كل شي ما خلا الله باطل أي زائل، و﴿بَاطِلًا﴾ نصب لأنه نعت مصدر محذوف، أي خلقا باطلا وقيل: انتصب على نزع الخافض، أي ما خلقتها للباطل، وقيل: على المفعول الثاني، ويكون خلق بمعنى جعل.

10. ﴿سُبْحَانَكَ﴾ أسند النحاس عن موسى بن طلحة قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن معنى ﴿سُبْحَانَ اللهِ﴾ فقال: (تنزيه الله عن السوء) وقد تقدم في البقرة معناه مستوفى، و﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ أجرنا من عذابها، وقد تقدم.

11. ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ أي أذللته وأهنته، وقال المفضل: أي أهلكته، وأنشد:

çأخزى الإله من الصليب عبيده...واللابسين قلانس الرهبانé

وقيل: فضحته وأبعدته، يقال: أخزاه الله: أبعده ومقته، والاسم الخزي، قال ابن السكيت: خزي يخزى خزيا إذا وقع في بلية، وقد تمسك بهذه الآية أصحاب الوعيد وقالوا: من أدخل النار ينبغي ألا يكون مؤمنا، لقوله تعالى: ﴿فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ فإن الله يقول: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [التحريم]، وما قالوه مردود، لقيام الأدلة على أن من ارتكب كبيرة لا يزول عنه اسم الإيمان.. والمراد من قوله: ﴿مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ﴾ من تخلد في النار، قاله أنس بن مالك، وقال قتادة: تدخل مقلوب تخلد، ولا نقول كما قال أهل حروراء، وقال سعيد بن المسيب: الآية خاصة في قوم لا يخرجون من النار، ولهذا قال: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ أي الكفار.

12. ﴿فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ قال أهل المعاني: الخزي يحتمل أن يكون بمعنى الحياء، يقال: خزي يخزى خزاية إذا استحيا، فهو خزيان، قال ذو الرمة:خزاية أدركته عند جولته...من جانب الحبل مخلوطا بها الغضبفخزي المؤمنين يومئذ استحياؤهم في دخول النار من سائر أهل الأديان إلى أن يخرجوا منها، والخزي للكافرين هو إهلاكهم فيها من غير موت، والمؤمنون يموتون، فافترقوا، كذا ثبت في صحيح السنة من حديث أبي سعيد الخدري، أخرجه مسلم.

13. ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ﴾ أي محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله ابن مسعود وابن عباس وأكثر المفسرين، وقال قتادة ومحمد بن كعب القرظي: هو القرآن، وليس كلهم سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، دليل هذا القول ما أخبر الله تعالى عن مؤمني الجن إذ قالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾ [الجن]، وأجاب الأولون فقالوا: من سمع القرآن فكأنما لقي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا صحيح معنى.

14. وللإيمان من ﴿أَنْ آمِنُوا﴾ في موضع نصب على حذف حرف الخفض، أي بأن آمنوا، وفي الكلام تقديم وتأخير، أي سمعنا مناديا للإيمان ينادي، عن أبي عبيدة، وقيل: اللام بمعنى إلى، أي إلى الإيمان، كقوله: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [المجادلة]، وقوله: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ [الزلزلة] وقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ [الأعراف] أي إلى هذا، ومثله كثير، وقيل: هي لام أجل، أي لأجل الإيمان.

15. ﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ تأكيد ومبالغة في الدعاء، ومعنى اللفظين واحد، فإن الغفر والكفر: الستر، ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ أي أبرارا مع الأنبياء، أي في جملتهم، واحدهم وبر وبار وأصله من الاتساع، فكأن البر متسع في طاعة الله ومتسعة له رحمة الله.

16. ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ أي على ألسنة رسلك، مثل ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾، وقرأ الأعمش والزهري ﴿رُسُلِكَ﴾ بالتخفيف، وهو ما ذكر من استغفار الأنبياء والملائكة للمؤمنين، والملائكة يستغفرون لمن في الأرض، وما ذكر من دعاء نوح للمؤمنين ودعاء إبراهيم واستغفار النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأمته.

17. ﴿وَلَا تُخْزِنَا﴾ أي لا تعذبنا ولا تهلكنا ولا تفضحنا، ولا تهنا ولا تبعدنا ولا تمقتنا يوم القيامة ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾

18. سؤال وإشكال: ما وجه قولهم ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ [آل عمران] وقد علموا أنه لا يخلف الميعاد، والجواب: من ثلاثة أوجه:

أ. الأول ـ أن الله سبحانه وعد من آمن بالجنة، فسألوا أن يكونوا ممن وعد بذلك دون الخزي: والعقاب.

ب. الثاني: أنهم دعوا بهذا الدعاء على جهة العبادة والخضوع، والدعاء مخ العبادة، وهذا كقوله: ﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الأنبياء] وإن كان هو لا يقضي إلا بالحق.

ج. الثالث: سألوا أن يعطوا ما وعدوا به من النصر على عدوهم معجلا، لأنها حكاية عن أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فسألوه ذلك إعزازا للدين.

19. روى أنس ابن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من وعده الله تعالى على عمل ثوابا فهو منجز له رحمة ومن وعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار)(2)، والعرب تذم بالمخالفة في الوعد وتمدح بذلك في الوعيد، حتى قال قائلهم:

çولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي...ولا أختفي من خشية المتهدد

وإني متى أوعدته أو وعدته...لمخلف إيعادي ومنجز موعديé

20. ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ أي أجابهم، قال الحسن: ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم، وقال جعفر الصادق: من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه لله مما يخاف وأعطاه ما أراد، قيل: وكيف ذلك؟ قال: اقرؤوا إن شئتم ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ ـ إلى قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏4/311.

(2) لا نرى صحة هذا الحديث لمعارضته الواضحة للقرآن الكريم، فكلمات الله لا تبديل لها مطلقا، بالإضافة إلى أنه يدفع للإرجاء.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ الموصول: نعت لأولي الألباب، وقيل: هو مفصول عنه، خبر مبتدأ محذوف، أو منصوب على المدح، والمراد بالذكر هنا: ذكره سبحانه في هذه الأحوال، من غير فرق بين حال الصلاة وغيرها، وذهب جماعة من المفسرين: إلى أن الذكر هنا عبارة عن الصلاة، أي: لا يضيعونها في حال من الأحوال، فيصلونها قياما مع عدم العذر، وقعودا وعلى جنوبهم مع العذر.

2. ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على قوله: ﴿يَذْكُرُونَ﴾ وقيل: إنه معطوف على الحال، أعني: ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا﴾ وقيل: إنه منقطع عن الأوّل، والمعنى: أنهم يتفكرون في بديع صنعهما، واتقانهما، مع عظم أجرامهما، فإن هذا الفكر إذا كان صادقا أوصلهم إلى الإيمان‏ بالله سبحانه.

3. ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ هو على تقدير القول، أي: يقولون ما خلقت هذا عبثا ولهوا، بل خلقته دليلا على حكمتك وقدرتك، والباطل: الزائل الذاهب، ومنه قول لبيد: (ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل‏)، وهو منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف، أي: خلقا باطلا؛ وقيل: منصوب بنزع الخافض؛ وقيل: هو مفعول ثان، وخلق: بمعنى جعل، أو: منصوب على الحال.

4. الإشارة بقوله: ﴿هَذَا﴾ إلى السماوات والأرض، أو إلى الخلق على أنه بمعنى المخلوق، ﴿سُبْحَانَكَ﴾ أي: تنزيها لك عما لا يليق بك من الأمور التي من جملتها أن يكون خلقك لهذه المخلوقات باطلا.

5. ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ الفاء لترتيب هذا الدعاء على ما قبله، وقوله: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ تأكيد لما تقدمه من استدعاء الوقاية من النار منه سبحانه، وبيان للسبب الذي لأجله دعاه عباده بأن يقيهم عذاب النار، وهو أن من أدخله النار فقد أخزاه، أي: أذله وأهانه، وقال المفضل: معنى أخزيته: أهلكته، وأنشد:

çأخزى الإله بني الصّليب عنيزة...واللّابسين ملابس الرّهبان‏é

وقيل: معناه: فضحته وأبعدته، يقال: أخزاه الله: أبعده ومقته، والاسم: الخزي، قال ابن السكيت:

خزي، يخزى، خزيا: إذا وقع في بلية.

6. ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ﴾ المنادي عند أكثر المفسرين: هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ وقيل: هو القرآن، وأوقع السماع على المنادي مع كون المسموع هو النداء: لأنه قد وصف المنادي بما يسمع، وهو قوله: ﴿يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا﴾، وقال أبو علي الفارسي: إن (ينادي) هو المفعول الثاني، وذكر ينادي مع أنه قد فهم من قوله: ﴿مُنَادِيًا﴾ لقصد التأكيد والتفخيم لشأن هذا المنادى به.

7. اللام في قوله: ﴿لِلْإِيمَانِ﴾: بمعنى إلى؛ وقيل: إن ينادي يتعدّى باللام وبإلى، يقال ينادي لكذا وينادي إلى كذا، وقيل: اللام للعلة، أي: لأجل الإيمان، قوله: ﴿أَنْ آمِنُوا﴾ هي: إما تفسيرية، أو مصدرية، وأصلها: بأن آمنوا، فحذف حرف الجرّ، ﴿فَآمَنَّا﴾ أي: امتثلنا ما يأمر به هذا المنادي من الإيمان فآمنا.

8. تكرير النداء في قوله: ﴿رَبِّنَا﴾ لإظهار التضرع والخضوع؛ قيل: المراد بالذنوب هنا: الكبائر، وبالسيئات: الصغائر، والظاهر: عدم اختصاص أحد اللفظين بأحد الأمرين، والآخر بالآخر، بل يكون المعنى في الذنوب والسيئات واحدا، والتكرير للمبالغة والتأكيد، كما أن معنى الغفر والكفر: الستر، والأبرار: جمع بارّ أو برّ، وأصله من الاتساع، فكأن البار متسع في طاعة الله ومتسعة له رحمته، قيل: هم الأنبياء، ومعنى اللفظ أوسع من ذلك.

9. ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ هذا دعاء آخر والنكتة في تكرير النداء ما تقدّم، والموعود به على ألسن الرسل هو الثواب الذي وعد الله به‏ أهل طاعته، ففي الكلام حذف، وهو لفظ الألسن، كقوله: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ وقيل: المحذوف التصديق، أي: ما وعدتنا على تصديق رسلك؛ وقيل: ما وعدتنا منزلا على رسلك، أو محمولا على رسلك، والأول أولى، وصدور هذا الدعاء منهم ـ مع علمهم أن ما وعدهم الله به على ألسن رسله كائن لا محالة ـ، إما لقصد التعجيل، أو: للخضوع بالدعاء، لكونه مخ العبادة، وفي قولهم: ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ دليل على أنهم لم يخافوا خلف الوعد، وأن الحامل لهم على الدعاء هو ما ذكرنا.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/471.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ﴾ هما جَمْعَا قائمٍ وقاعدٍ، أي: قائمين وقاعدين وكائنين، أو ممتدين أو مضطجعين عَلَى جنوبهم اليمنى ـ وهي أولى ـ أو اليسرى، ومثلها الظهور، يستلقون عليها، ويجوز دخولها في الجنوب، عَلَى أنَّ المراد بالجنوب الأطراف أو الجهات، وكأنَّه قال: ساقطين في الأرض، والمذهب(2) أن يمتدَّ النائم عَلَى يمينه، وَعَلَيه الشافعيُّ، ودونه عَلَى يساره مستقبلا، وقال أبو حنيفة: عَلَى قفاه بحيث لو قعد لاستقبلَ، وعَلَى أنَّ المراد إكثار الذكر عَلَى أيِّ حالٍ فذِكْرُ القيام والقعود والجنوب تمثيلٌ لا تخصيص، فدخل أيضًا السجود والركوع، فإنَّ المتعارف ـ وهو بيِّنٌ ـ أنَّهما غير داخلين في القيام والقعود، وقيل: المراد بالذكر ذكر الله بالقلب أو مع اللسان وصفاته وأفعاله، والظاهر: تلاوة القرآن والأذكار، والمراد: ما يشمل الصلاة وغيرها، فتجوز صلاة النفل في قعود أو اضطجاع للقادر على القيام، وأمَّا الفرض فلا إِلَّا لغير القادر، وفي الفرض جاء قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعمران بن حصين: (صلِّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنبك، تومئ إيماء)، وفي النفل والقدرة جاء قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (صلاة الرجل قاعدا نصف صلاته قائما، وصلاته مضطجعا نصف صلاته قاعدا)، ومن لم يقدر لم ينقص أجره إذا صلَّى عَلَى الترتيب فرضا أو نفلا، ولا بدَّ من الاستقبال بوجهه وجسده، وَإن استلقى فبحيث يكون لو قعد لكان مستقبلا، وفي حديث ابن عمر: (فإن لم تستطع فعلى قفاك)، وعن ابن عبَّاس: (يصلُّون بحسب الطاقة)

2. والذكر باللسان والقلب معًا، أو بالقلب وحده، وأجمعوا أنَّه لا ثواب لذاكر غافل، قلت: ذلك عَلَى حسب طاقته، مثل أن يستحضر قلبه في الذكر، ويفوته بعض آيَة أو غيرها ضرورةً فله ثواب ذلك ولو غفل عنه، لنيَّته وعدم قدرته، وأرجو أكثر من ذلك: أن يثاب عَلَى كلِّ ما غفل عنه إذا نوى أن لا يغفل، وجاهد نفسه في الاستحضار، وأمَّا أن يهمل فلا، وعدَّ ابن جريج قراءة القرآن ذكرا، فتجوز في الاضطجاع، وكرهها الشافعيُّ إذا غطَّى رأسه للنوم.

إنَّما خصَّ الثلاثة في الآية لأنَّها الغالب، ذَكَر عِبادة البدن بقوله: ﴿يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ﴾، وعِبادة القلب بقوله: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالَارْضِ﴾ مصدر، أي: في نفس الإيجاد، أو بمعنى مفعول، والإضافة على الأوَّل للمفعول، أي: في إنشائهما، بما فيهما من العجائب، وعلى الثاني بيانيَّة، أي: في المخلوق الذي هو السماوات والأرض، أو بمعنى (في)، أي: يتفكَّرون فيما خلق في السماوات والأرض من أجزائهما وما حلَّ فيهما.

3. وإنَّما يتفكَّرون استدلالاً على وجود الله وقدرته وحكمته، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (تفكَّروا في الخلق ولا تتفكَّروا في الخالق)، أي: لأنَّه لا يدرَك بالتفكُّر فيه بل في أفعاله ومخلوقاته؛ ولأنَّ التفكير فيه يؤدِّي إلى التشبيه، وبعد ذلك ذكر الدعاء لأَنَّ الدعاء يستجاب بعد تقديم الوسيلة، وهي إقامة وظائف العبوديَّة من الذكر والفكر، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا عبادة كالتفكير) وذلك لأنَّه المخصوص بالقلب والمقصود من الخلق، وعن ابن عبَّاس: (تفكُّر ساعة خيرٌ من قيام ليلة)، وكذا عن أبي الدرداء، وأخرج الديلميُّ عن أنس مرفوعًا وعن أبي هريرة عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (تفكُّر ساعة خيرٌ من عبادة ستِّين سنة)، قالت أمُّ الدرداء: (أفضل عبادة أبي الدرداء التفكُّر)، وروى الديلميُّ عن أنس مرفوعًا: (تفكُّر ساعة في اختلاف الليل والنهار خير من عبادة ثمانين سنة)

4. ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً﴾ إلخ مفعول الحال محذوف، أي: قائلين: ربَّنا ما خلقت هذا الخلق ـ أي: المخلوق، أو التفكُّر فيه، والمعنى واحد وهو السماوات والأرض ـ وأنت باطل ذو عبث، أو ما خلقت هَذَا خلقا باطلا عن الحكمة، بل خلقته لحكمة النفع لخلقك والاستدلال بها، وحكمة الإشارة أن يستحضر المخلوق المذكور، فإنَّ الكلام عَلَى المستحضَر آكَدُ منه على الغائب، كقوله تعالى: ﴿اِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]، و(بَاطِلاً) حال من التاء أو من (هَذَا)، أو مفعول مطلق، أي: خلقا باطلا، والباطل: ما لا فائدة فيه، أو فيه فائدة لا يعتدُّ بها، أو ما لا يقصد به فائدة.

5. ﴿سُبْحَانَكَ﴾ عن البطالة، ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ المستوجب له الإعراض عن آيات السماء والأرض، كما دلَّت له الفاء، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم، فقال: أشهد أنَّك ربًّا وخالقا، اللهمَّ اغفر لي، فنظر الله إليه فغفر له)، وَهَذَا دليل واضح على شرف علم الكلام، والفاء للعطف على (سُبْحَانَكَ) باعتبار (سُبْحَانَكَ) تسبيحا، عطف إنشاء على إخبار، متضمِّن للإنشاء، أو على محذوف، أي: نطيعك فقنا، أو وفِّقنا فقنا، أو رابطة لجواب شرط محذوف، أي: إذا نزَّهناك أو وحَّدناك فقنا.

6. ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدَ اَخْزَيْتَهُ﴾ لا يخفى أنَّ داخل النار مخزًى، فلا فائدة فيه بحسب الظاهر، فالمراد أنَّه يلحقه الذلُّ زيادة على العذاب، أو أخزيته غاية الإخزاء، والإخزاء ـ وهو الإهانة والتخجيل ـ عذابٌ روحيٌّ، اجتمع مع عذاب الجسم بالنار، والعذاب الروحيُّ أشدُّ من الجسميِّ كما دلَّت له الآيَة، إذ تعرَّضت له دون الجسم، أو الخزي بمعنى النَّكال، وليس كلُّ مَن يدخلها يعذَّب، فالملائكة لا يعذَّبون فيها، وأظهر النارَ ولم يضمر لها للتهويل.

7. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنَ اَنصَارٍ﴾ (مَا) لمطلقي الظالمين، أو لهؤلاء المدخلين النار المخزين من أنصار، وعبَّر بالظالمين ـ لا بقولك: (ما لهم) مراعاةً لمعنى (مَنْ)، أو: (ما له) مراعاةً للفظها ـ ليفيد أنَّ ظلمهم سبب انتفاء النجاة، ولولا ظلمهم لنصرهم الله على العذاب فلا ينالهم، ولشفع لهم رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ونصرهم على العذاب، فلا يخرج منها الفاسق كما لا يخرج منها المشرك لإطلاق الآيَة أنَّه لا ناصر لهم، بل لا يدخلوها ولا بأَن يخرجوا منها، والشفاعة نوع من النصر، فإنَّه إمَّا بالقهر وإمَّا باللين وهو الشفاعة، وَهَذَا إلى قوله: ﴿مِن بَعْضٍ﴾ للرجال والنساء، وقوله: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ﴾ للرجال، لقوله: ﴿وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ﴾، إِلَّا أن يراد التوزيع، فيكون أيضًا ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ﴾ إلى ﴿فِي سَبِيلِي﴾ للرجال والنساء، وقوله: ﴿وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ﴾ للرجال، فالآية حكم على المجموع.

8. ﴿رَبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا﴾ عظيما، كما يفيده التنكير، أي: نداء منادٍ، وهو الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، كقوله: ﴿اُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبـِّكَ﴾ [النحل: 125]، وقوله: ﴿وَدَاعِيًا اِلَى اللهِ﴾ [الأحزاب: 46]، ودعاؤه حقيقة، ومن لم يسمع من النبيء في زمانه أو بعده يصحُّ له أن يقول: سمعناه على المجاز بوسائط الرواة إليه، وشهرت نسبة الدعاء إليه ما لم تشتهر إلى القرآن، وقيل: القرآن؛ لأنَّه كالناطق للفهم منه، وقد سمَّاه صلّى الله عليه وآله وسلّم ناطقا، إذ قال: (تركت فيكم ناطقا وصامتا)، وهو مستمرٌّ في الزمان، قال بعض:

çتناديك أجداث وهنَّ صموت...وساكنها تحت التراب سكوتé

وقيل: مطلق الداعي، فيشمل الرسول والصحابة، وزاده تفخيما بإبهامه ثمَّ تخصيصه بقوله: ﴿يُنَادِي لِلاِيمَانِ﴾، وجملة المسموع بعد ذكر القائل مفعول ثان عند الفارسيِّ، وحال مِمَّا يصحُّ الحال منه، أو نعت لما لا يصحُّ الحال منه عند الجمهور، وهنا نعت (مناديا)، ذَكَرَ النداءَ مطلقا، وذَكَرَه مقيَّدًا بالإيمان تفخيما للمنادي، ولا منادي أعظم من منادي الإيمان، وبهذا القيد خرج عن التكرير، فإنَّ النداء يكون للإيمان ولمهمٍّ مَّا، و(اللام) للاستحقاق، أو الاختصاص، وقيل: للتعليل، وقيل: بمعنى الباء، وقيل: بمعنى إلى، ﴿أَنَ ـ امِنُواْ بِرَبِّكُمْ﴾ بِأَن آمنوا، أو تفسير لـ (يُنَادِي) لا مصدريَّة على تقدير الباء؛ لأَنَّ (ءَامِنُوا) طلبٌ، وهو يفوت بالمصدر، وتقديره في المصدر تكلُّف.

9. ﴿فَئَامَنَّا﴾ بربِّنا، ﴿رَبَّنَا﴾ توكيد لقوله: ﴿رَبَّنَا﴾، أو يقدَّر: تقبَّل إيماننا ربَّنا، قال ابن عبَّاس: (ربِّ اسم الله الأكبر)، ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ كبائرنا، بتوفيقك إيَّانا إلى التوبة منها، والتخلُّص من تبعاتها بردِّ التباعات وأداء الكفَّارات، وهو مأخوذ من الذَّنوب، وهو الدلو الملآن، فناسب الكبائر، وكذَا إن قلنا من الذَّنَب بمعنى الذيل فهو فيما له عاقبة وتبعة.

10. ﴿وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ صغائرنا، باجتناب الكبائر والتوبة من الكبائر، وهي من السوء بمعنى القبح، وهو دون الكفر، أو أَعَمُّ، وقيل: الذنب ما مضى والسيِّئة ما يأتي، وقيل: الذنب ما عُمل على علم بأنَّه لا يجوز، والسيِّئة ما عُمل على جهل، والقول باطل، إِلَّا إن أريد به خصوص الآيَة، وفي كلٍّ من الغفران والتكفير سترٌ، والدرع مِغْفَر لأنَّه ساتر للبدن.

11. ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الَابْرَارِ﴾ حال كوننا عابدين عبادتهم، صافِّين صفوهم فنُعدَّ منهم، أو اجعلنا مثلهم ولو لم نصِل رتبتهم في ذلك، وذلك خضوع؛ ولذلك ـ مع الفاصلة ـ لم يقولوا: (وتوفَّنا أبرارا)، والمفرد بَرٌّ، كأرباب جمع رَبٍّ، وليس المراد طلب الموت في حينهم حتَّى يُستحضر هنا: (من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءَه)، بل طلبوا أن يكونوا حال الموت من الأبرار، يروى أنَّ الأبرار برُّوا الآباء والأولاد زيادة على أداء الواجبات والسنن، وأنَّ الأبرار لا يضمرون الشرَّ ولا يؤذون الذرَّ.

12. ﴿رَبَّنَا﴾ متعلِّق بـ (تَوَفَّنَا)، ﴿وَءَاتِنَا﴾ عطف على (تَوَفَّنَا)، ﴿مَا وَعَدتَّنَا﴾ من الرحمة والفضل والثواب ﴿عَلَىٰ رُسُلِكَ﴾ على ألسنة رسلك، أو على تصديق رسلك والاقتداء بهم، أو منزَّلا على رسلك، وذلك هو الجنَّة.

13. ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ سألوا الموعود لأنَّهم لا يدرون بم يختم لهم، بل لو كانوا على يقين من السعادة يكون الدعاء تعبُّدا أو تضرُّعا أو استزادة من الفضل، ولا سيما ما لا يدرى وقته كالنصر، ففيه ذلك مع الاستعجال، وقد يحسب الإنسان أنَّه يحسن صنعا، ويبدو له عند موته أو في القيامة ما ليس في حسابه، فسألوا أن لا يخزيهم، أي: لا يفضحهم الله تعالى، أي: أن يوفِّقهم ويبقيهم على الخير ظاهرا وباطنا، فذلك حكمة الدعاء بنفي الخزي بعد قوله: ﴿وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا﴾ فإنَّ الْمُثاب لا عقاب عليه، فالمدعو به أوَّلاً الثواب، وثانيا العصمة مِمَّا يحبط العمل، وأيضا الخزي عذاب للروح ولا عذاب ولا خزي بعد إيتاء ما وُعدوا، بل مِمَّا وُعدوا عدم الخزي، وذلك تلهُّف منهم وشدَّة حرص، كما أنَّه يجوز أن يراد بالخزي إدخال النار مع أمنهم منها بإيتاء ما وُعدوا تلُّهفا كذلك، وإنَّما دعوا مع علمهم بالسعادة تعبُّدا وتذلُّلا وخضوعا، كقوله تعالى: ﴿رَّبِّ احْكُم بِالْحَقِّ﴾ [الأنبياء: 112]، أو لأَنَّ الوعد لهم على الأعمال، فهم يطلبون التوفيق إليها، أو لأَنَّ الموعود النصر ولا يدرون وقته، فهم يدعون باستعجاله.

14. ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ الوعد بالبعث، وإثابة المؤمن، وإجابة الداعي، وفسَّره ابن عبَّاس بالبعث، أي: ليجزوا خيرا، وأصله مطلق الوعد، والمراد هنا الخير، ولا مانع من العموم في الخير والشرِّ، والذي لهم هو الخير، وهو مصدر ميميٌّ غير مقيس، والياء عن واو للكسر قبلها، قال جعفر الصادق: (من حزبه أمر ـ أي: كَرَبه ـ فقال خمس مرَّات: ربَّنا، أنجاه الله مِمَّا يخاف وأعطاه ما أراد)، قيل: وكيف ذلك؟ قال: (اقرؤوا ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا﴾ إلى قوله ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾، وعن الحسن: (ما زالوا يقولون: ربَّنا ربَّنا حتَّى استجاب لهم، كما قال الله جلَّ وعلا، وقال موسى: (يَا رَبِّ) مرَّة، فأجابه الله: (لبَّيك)، فعجب، فقال: يا ربِّ ألي هَذَا خاصَّة!؟ قال: (لِكُلِّ من يدعوني بالربوبيَّة)، قال عطاء والحسن: (ما من أحد يقول ثلاثا: (يا ربِّ) إِلَّا نظر الله إليه)

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/90.

(2) يقصد الإباضية

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ أي فلا يخلو حال من أحوالهم عن ذكر الله المفيد صفاء الظاهر المؤثر في تصفية الباطن، فالمراد تعميم الذكر للأوقات، وعدم الغفلة عنه تعالى، وتخصيص الأحوال المذكورة بالذكر، ليس لتخصيص الذكر بها، بل لأنها الأحوال المعهودة التي لا يخلو عنها الإنسان غالبا.

2. ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي في إنشائهما بهذه الأجرام العظام، وما فيهما من عجائب المصنوعات، وغرائب المبتدعات، ليدلّهم ذلك على كمال قدرة الصانع سبحانه وتعالى، فيعلموا أن لهما خالقا قادرا مدبرا حكيما، لأن عظم آثاره وأفعاله تدل على عظم خالقها تعالى، كما قيل:

çوفي كل شيء له آية...تدل على أنه واحدé

3. روى ابن أبي الدنيا في (كتاب التوكل والاعتبار) عن الصوفيّ الجليل الشيخ أبي سليمان الدارانيّ أنه قال إني لأخرج من منزلي، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليّ فيه نعمة، ولي فيه عبرة، وإنما خصص التفكر بالخلق(2).

4. قال أبو البقاء: ﴿بَاطِلًا﴾ مفعول من أجله، والباطل، هنا، فاعل بمعنى المصدر، مثل العاقبة والعافية، والمعنى: ما خلقتهما عبثا، ويجوز أن يكون حالا، تقديره: ما خلقت هذا خاليا عن حكمة، ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف، أي خلقا باطلا.

5. ﴿سُبْحَانَكَ﴾ أي تنزيها لك من العبث، وأن تخلق شيئا بغير حكمة ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ قال السيوطيّ: فيه استحباب هذا الذكر عند النظر إلى السماء، ذكره النوويّ في (الأذكار)، وفيه تعليم العباد كيفية الدعاء، وهو تقديم الثناء على الله تعالى أولا، كما دل عليه قوله‏: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ ثم بعد الثناء يأتي الدعاء، كما دل عليه‏ ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، وعن فضالة بن عبيد قال: سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رجلا يدعو في صلاته، لم يمجد الله تعالى، ولم يصل على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: عجل هذا، ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه سبحانه، والثناء عليه، ثم يصلي على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم يدعو بعد بما شاء ـ رواه أبو داوود والترمذيّ‏ وقال: حديث صحيح.

6. لما حكى الله تعالى عن هؤلاء العباد المخلصين أنّ ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى، وأبدانهم في طاعة الله، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله، ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار، ثم أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي، بقولهم: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ أي أهنته وأظهرت فضيحته لأهل الموقف، وسر هذا الإتباع عظم موقع السؤال، لأن من سأل ربه حاجة، إذا شرح عظمها وقوتها، كانت داعيته في ذلك الدعاء ـ أكمل، وإخلاصه في طلبه أشد، والدعاء لا يتصل بالإجابة، إلا إذا كان مقرونا بالإخلاص، وهذا أيضا تعليم من الله تعالى فنّا آخر من آداب الدعاء.

7. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ تذييل لإظهار نهاية فظاعة حالهم، ببيان خلود عذابهم، بفقدان من ينصرهم، ويقوم بتخليصهم، وغرضهم تأكيد الاستدعاء، ووضع (الظالمين) موضع ضمير المدخلين، لذمهم، والإشعار بتعليل دخولهم النار بظلمهم، ووضعهم الأشياء في غير مواضعها، وجمع (الأنصار) بالنظر إلى جمع الظالمين، أي ما لظالم من الظالمين نصير من الأنصار، والمراد به من‏ ينصر بالمدافعة والقهر، فليس في الآية دلالة على نفي الشفاعة، على أن المراد بالظالمين هم الكفار، أفاده أبو السعود.

8. ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا﴾ حكاية لدعاء آخر لهم، وتصدير مقدمة الدعاء بالنداء لإظهار كمال الضراعة، والابتهال، والتأكيد للإيذان بصدور المقال عنهم بوفور الرغبة، وكمال النشاط، والمراد بالمنادي الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، والتنوين للتفخيم، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ﴾ [الأحزاب: 46]، وفي وصفه صلّى الله عليه وآله وسلّم بـ (المنادي) دلالة على كمال اعتنائه بشأن الدعوى وتبليغها إلى الداني والقاصي، لما فيه من الإيذان برفع الصوت‏ ﴿يُنَادِي لِلْإِيمَانِ﴾ أي لأجل الإيمان بالله.

9. سؤال وإشكال: أي فائدة في الجمع بين (المنادي) و(ينادي)؟ والجواب: ذكر النداء مطلقا، ثم مقيدا بالإيمان، تفخيما لشأن المنادي، لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان، ونحوه قولك: مررت بهاد يهدي للإسلام، وذلك أن المنادي إذا أطلق، ذهب الوهم إلى مناد للحرب أو لإطفاء النائرة، أو لإغاثة المكروب، أو لكفاية بعض النوازل، أو لبعض المنافع، وكذلك الهادي قد يطلق على من يهدي للطريق، ويهدي لسداد الرأي، وغير ذلك، فإذا قلت: ينادي للإيمان، ويهدي للإسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي، وفخمته، ويقال: دعاه لكذا وإلى كذا، وندبه له وإليه، وناداه له وإليه، ونحوه: هداه للطريق وإليه، وذلك أن معنى انتهاء الغاية، ومعنى الاختصاص واقعان جميعا، أفاده الزمخشريّ.

10. ﴿أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ أي فامتثلنا أمره، وأجبنا نداءه، و﴿إِنَّ﴾ إما تفسيرية، أي آمنوا، أو مصدرية، أي: بأن آمنوا ﴿رَبِّنَا﴾ تكرير للتضرع، وإظهار لكمال الخضوع‏ ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ أي استر لنا ذنوبنا ولا تفضحنا بها، وأذهب عنا سيئاتنا بتبديلها حسنات‏ ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ أي معدودين في جملتهم حتى نكون في درجتهم يوم القيامة، والأبرار جمع بارّ أو برّ وهو كثير البرّ (بالكسر) أي الطاعة.

11. ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ أي على تصديق رسلك والإيمان بهم، أو على ألسنة رسلك، وهو الثواب، وهذا حكاية لدعاء آخر لهم، معطوف على ما قبله، وتكرير النداء لما مرّ ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ قصدوا بذلك تذكير وعده تعالى بقوله: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [التحريم: 8]، بإظهار أنهم ممن آمن معه.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/481.

(2) أورد هنا قول الرازيّ في دلائل التوحيد، وعلاقتها بخلق السماوات والأرض، والتي سبق ذكرها.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ الذكر في الآية على عمومه لا يخص بالصلاة والمراد به القلوب وهو إحضار الله تعالى في النفس وتذكر حكمه وفضله ونعمه في حال القيام والقعود والاضطجاع وهذه الحالات الثلاث التي لا يخلو العبد عنها تكون فيها السماوات والأرض معه لا يتفارقان والآيات الإلهية لا تظهر من السماوات والأرض إلا لأهل الذكر، فكأين من عالم يقضي ليله في رصد الكواكب فيعرف منها ما لا يعرف الناس ويعرف من نظامها وسننها وشرائعها ما لا يعرف الناس، وهو يتلذذ بذلك العلم ولكنه مع هذا لا تظهر له هذه الآيات لأنه منصرف عنها بالكلية.

2. ثم إن ذكر الله تعالى لا يكفي في الاهتداء إلى الآيات ولكن يشترط مع الذكر التفكير فيها فلا بد من الجمع بين الذكر والفكر فقد يذكر المؤمن بالله ربه ولا يتفكر في بديع صنعه وأسرار خليقته ولذلك قال: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾

3. قد يتفكر المرء في عجائب السماوات والأرض وأسرار ما فيهما من الإتقان والإبداع والمنافع الدالة على العمل المحيط والحكمة البالغة والنعم السابغة والقدرة التامة وهو غافل عن العليم الحكيم القادر الرحيم الذي خلق ذلك في أبدع نظام، وكم من ناظر إلى صنعة بديعة لا يخطر في باله صانعها اشتغالا بها عنه، فالذين يشتغلون بعلم ما في السماوات والأرض هم غافلون عن خالقهما ذاهلون عن ذكره يمتعون عقولهم بلذة العلم ولكن أرواحهم تبقى محرومة من لذة الذكر ومعرفة الله عز وجل فمثلهم كما قال محمد عبده: كمثل من يطبخ طعاما شهيا يغذي به جسده ولكنه لا يرقى به عقله، يعني أن الفكر وحده وإن كان مفيدا لا تكون فائدته نافعة في الآخرة إلا بالذكر، والذكر وإن أفاد في الدنيا والآخرة لا تكمل فائدته إلا بالفكر، فيا طوبى لمن جمع بين الأمرين واستمتع بهاتين اللذتين؛ فكان من الذين أوتوا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ونجوا من عذاب النار في الآخرة، فتلك النعمة التي لا تفضلها نعمة، واللذة التي لا تعلوها لذة، لأنها هي التي يهون معها كل كرب، ويسلسل كل صعب، وتعظم كل نعمة، وتتضاءل كل نقمة، تلك اللذة التي تتجلى مع الذكر في كل شيء فيكون في عين ناظره جميلا، وفي كل صوت فيكون في سمع سامعه مطربا فلسان حال الذاكر، ينشد في هذا التجلي قول الشاعر الذاكر:

çمن كل معنى لطيف أجتلي قدحا...وكل حادثة في الكون تطربنيé

فإذا تحول التجلي عن جمال الأكوان، وتفكر الذاكر في تقصيره من حيث هو إنسان، عن شكر المنعم عليه بكل شيء يتمتع به وعن القيام بما يصل إليه استعداده من مغفرته استولى عليه سلطان الجلال فتعلو همته في طلب الكمال فينطلق لسانه بالدعاء والثناء، وقلبه بين الخوف والرجاء.

4. ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ﴾ أي يقول الذين يجمعون بين التذكر والتفكير، معبرين عن نتيجة جمع الأمرين، والتأليف بين المقدمتين: ربنا ما خلقت هذا الذي نراه من العوالم السماوية والأرضية باطلا، ولا أبدعته وأتقنته عبثا، سبحانك وتنزيها لك عن الباطل والعبث بل كل خلقك حق مؤيد بالحكم، فهو لا يبطل ولا يزول، وإن عرض له التحول والتحليل والأفول، ونحن بعض خلقك لم نخلق عبثا، ولا يكون وجودنا من كل وجه باطلا، فإن فنيت أجسادنا، وتفرقت أجزاؤنا، بعد مفارقة أرواحنا لأبداننا، فإنما يهلك منا كوننا الفاسد، ووجهنا الممكن الحادث، ويبقى وجهك الكريم؛ ومتعلق علمك القديم، يعود بقدرتك في نشأة أخرى، كما بدأته في نشأة الأولى، فريق ثبتت لهم الهداية، وفريق حقت عليهم كلمة الضلالة، فأولئك في الجنة بعملهم وفضلك، وهؤلاء في النار بعملهم وعدلك، ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ بعنايتك وتوفيقك لنا، واجعلنا مع الأبرار بهاديتك إيانا ورحمتك بنا.

5. قال محمد عبده في تفسير ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ الآية: هذا حكاية لقول هؤلاء الذين يجمعون بين تفكرهم وذكر الله عز وجل ويستنبطون من اقترانهما الدلائل على حكمة الله وإحاطة علمه سبحانه بدقائق الأكوان التي تربط الإنسان بربه حق الربط، وقد اكتفى بحكاية مناجاتهم لربهم عن بيان نتائج ذكرهم وفكرهم، فطي هذه وذكر تلك من إيجاز القرآن البديع وفيه تعليم المؤمنين كيف يخاطبون الله تعالى عندما يهتدون إلى شيء من معاني إحسانه وكرمه وبدائع خلقه، كأنه يقول: هذا هو شأن المؤمن الذاكر المتفكر يتوجه إلى الله في هذه الأحوال، بمثل هذا الثناء والدعاء والابتهال، وكون هذا ضربا من ضروب التعليم والإرشاد، لا يمنع أن بعض المؤمنين قد نظروا وذكروا وفكروا ثم قالوا هذا أو ما يؤدي معناه، فذكر الله حالهم وابتهالهم، ولم يذكر قصتهم وأسماءهم، لأجل أن يكونوا قدوة لنا في عملهم، وأسوة في سيرتهم، أي لا في ذواتهم وأشخاصهم، إذ لا فرق في هذا بيننا وبينهم.

6. أما معنى(2) كون هذا الخلق لا يكون باطلا فهو أن هذا الإبداع في الخلق، والإتقان للصنع، لا يمكن أن يكون من العبث والباطل ولا يمكن أن يفعله الحكيم العليم لهذه الحياة الفانية فقط، كما أن الإنسان الذي أوتي العقل الذي يفهم هذه الحكم، ودقائق هذا الصنع، وكلما ازداد تفكرا، ازداد علما، حتى أنه لا حد يعرف لفهمه وعلمه، لا يمكن أن يكون وجد ليعيش قليلا ثم يذهب سدى، ويتلاشى فيكون باطلا، بل لا بد أن يكون باستعداده الذي لا نهاية له قد خلق ليحيا حياة لا نهاية لها، وهي الحياة الآخرة التي يرى كل عامل فيها جزاء عمله، ولهذا وصل الثناء بهذا الدعاء، ومعناه: جنبنا السيئات، ووفقنا للأعمال الصالحات، حتى يكون ذلك وقاية لنا من عذاب النار، وهذه هي نتيجة فكر المؤمن.

7. ثم إنهم بعد أن يصلوا بالفكر مع الذكر إلى بقاء العالم واستمراره لأن نظامه البديع لا يمكن أن يجعله العليم الحكيم باطلا (أي لا في الحال ولا في الاستقبال) وبعد أن يدعوا ربهم أن يقيهم دخول النار في الحياة الثانية، يتوجهون إليه قائلين﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾

8. ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ أي إنهم ينظرون إلى هيبة ذلك الرب العلي العظيم الذي خلق تلك الأكوان المملوءة بالأسرار والحكم والدلائل على قدرته وعزته، فيعلمون أنه لا يمكن لأحد أن ينتصر عليه، وأن من عاداه فلا ملجأ ولا منجى له منه إلا إليه، فيقرون بأن من أدخله ناره فقد أخزاه أي أذله وأهانه.

9. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ وصف من يدخلون النار بالظالمين تشنيعا لأعمالهم وبيانا لعلة دخولهم فيها، وهو جورهم وميلهم عن طريق الحق، فالظالم هنا هو الذي يتنكب الطريق المستقيم لا الكافر خاصة، كما قال بعض المفسرين فإن هذا التخصيص لا حاجة إليه، ولا دليل عليه، وإنما سببه ولوع الناس بإخراج أنفسهم من كل وعيد يذكر في كتابهم، وحمله بالتأويل والتحريف على غيرهم، كذلك فعل السباقون، واتبع سننهم اللاحقون، فكل ظالم يؤخذ بظلمه، ويعاقب على قدره، ولا يجد له نصيرا يحميه من أثر ذنبه.

10. ثم إنهم بعد التعبير عما أثمره الفكر والذكر من معرفة الله تعالى وخشيته ودعائه عبروا عما أفادهم السمع من وصول دعوة الرسول إليهم واستجابتهم له وما يترتب على ذلك فقالوا: ﴿ربنا إننا سمعنا مناديا للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا﴾ المنادي للإيمان هو الرسول، وذكره بوصف المنادي تفخيما لشأن هذا النداء، ذكر استجابتهم بالعطف بالفاء لبيان أنهم بعد الذكر والفكر والوصول منهما إلى تلك النتيجة الحميدة لم يتلبثوا بالإيمان الذي يدعوهم إليه الأنبياء، كما تلبث قوم واستكبر آخرون، بل بادروا وسارعوا إليه لأنهم إنما يدعونهم إلى ما اهتدوا إليه مع زيادة صالحة تزيدهم معرفة بالله تعالى وبصيرة في عالم الغيب والحياة الآخرة اللتين دلهم الدليل على ثبوتهما دلالة مجملة مبهمة والأنبياء يزيدونها بما يوحيه الله إليهم بيانا وتفصيلا وعلى هذا التفسير يكون المراد بالآيات بيان أنه كان في كل أمة أولو ألباب هذا شأنهم مع أنبيائهم، ويصح أن يكون المراد بالمنادي نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة.

11. والمراد بأولي الألباب الموصوفين بما ذكره على هذا هم السابقون من أصحابه ومن تبعهم في ذلك له حكمهم، وسيأتي عند ذكر الهجرة ما يرجح هذا.

12. سماع النداء يشمل من سمع منه مباشرة في عصره ومن وصلت إليه دعوته من بعده، ويحتمل أن يكون قولهم ﴿فَآمَنَّا﴾ مرادا به إيمان جديد غير الإيمان الذي استفادوه من التفكر والذكر، وهو الإيمان التفصيلي الذي أشرنا إليه آنفا، ويحتمل أن يكونوا سمعوا دعوة الرسول أولا وآمنوا به، ثم نظروا وذكروا وتفكروا فاهتدوا إلى ما اهتدوا إليه من الدلائل التي تدعم إيمانهم فذكروا النتيجة؛ ثم اعترفوا بالوسيلة، ولا ينافي ذلك تأخير هذه عن تلك في العبارة كما هو ظاهر.

13. ﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ تفيد الفاء في قوله: ﴿فَاغْفِرْ﴾ اتصال هذا الدعاء بما قبله وكون الإيمان سببا له، والمراد بالإيمان الإذعان للرسل في النفس والعمل لا دعوى الإيمان باللسان مع خلو القلب من الإذعان الباعث على العمل، ولأجل هذا استشعروا الخوف من الهفوات والسيئات فطلبوا المغفرة والتكفير، وقال بعض المفسرين: إن المراد بالذنوب هنا الكبائر وبالسيئات الصغائر.

14. الذنوب هي التقصير في عبادة الله تعالى وكل معاملة بين العبد وربه، والسيئات هي التقصير في حقوق العباد ومعاملة الناس بعضهم بعضا، فالذنب معناه الخطيئة، وأما السيئة فهي ما يسوء، فاشتقاقها من الإساءة يشعر بما قلناه، وغفر الذنوب عبارة عن سترها وعدم العقوبة عليها البتة، وتكفير السيئات عبارة عن حطها وإسقاطها فكل من الطلبين مناسب لما ذكرناه من المعنيين ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ أي أمتنا على حالتهم وطريقتهم، يقال أنا مع فلان أي على رأيه وسيرته ومذهبه في عمله، والأبرار هم المحسنون في أعمالهم.

15. أما الذنب فقد قال الراغب: (إنه في الأصل الأخذ بذنب الشيء (بالتحريك) يقال ذنبته أي أصبت ذنبه ويستعمل في كل فعل يستوخم عقباه اعتبارا بذنب الشيء، ولهذا يسمى الذنب تبعة اعتبارا لما يحصل من عاقبته وجمع الذنب ذنوب)، وهو بهذا المعنى يشمل كل عمل تسوء عاقبته في الدنيا والآخرة من المعاصي كلها، سواء منها ما يتعلق بحقوق الله عز وجل وما يتعلق بحقوق العباد، ومنه ترك الطاعات الواجبة، وأما السيئة فهي الفعلة القبيحة التي تسوء صاحبها أو تسوء غيره سواء كان ذلك عاجلا أو آجلا، فهي عامة أيضا وضدها الحسنة، قال الراغب: (والحسنة السيئة ضربان أحدهما بحسب اعتبار العقل والشرع نحو المذكور في قوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا﴾ [الأنعام: 160] وحسنة وسيئة بحسب اعتبار الطبع وذلك ما يستخفه الطبع وما يستثقله نحو قوله ﴿فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ﴾ [الأعراف: 131] وقوله ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ﴾ [الأعراف: 95])

16. كان محمد عبده حمل السيئة على ما يسوء من معاملة الناس أخذا من مثل قوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [الشورى: 41 ـ 42] فالآيات صريحة في معاملات الناس بعضهم مع بعض، ويمكن ادعاء أن ما ورد من ذكر الحسنات والسيئات في مقام الجزاء في الدارين وكذا في الآخرة فقط يحمل على هذا، ومثله ما ورد من السيئات في مقابلة العمل الصالح على الإطلاق ولكن ذلك خلاف الظاهر المتبادر.

17. ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ أي أعطنا ما وعدتنا من الجزاء الحسن كالنصر في الدنيا والنعيم في الآخرة ـ وخصه بعضهم بالدنيا وبعضهم بالآخرة ـ جزاء على تصديق رسلك وأتباعهم، إذ استجبنا لهم وآمنا بما جاؤوا به، أو ما وعدتنا به منزلا على رسلك، أو ما وعدتنا به على ألسنة رسلك، والمعنى أعطنا ذلك بتوفيقنا للثبات على ما نستحقه إلى أن تتوفانا مع الأبرار، وهذه الغاية بالنسبة إلى جزاء الآخرة، وفيه هضم لنفوسهم واستشعار تقصيرها وعدم الثقة بثباتها إلا بتوفيقه وعنايته عز وجل، وقيل إن الدعاء لإظهار العبودية فقط، وقال محمد عبده: على رسلك معناه لأجل رسلك أي لأجل اتباعهم والإيمان بهم، فجعل الكاف للتعليل ولا أذكر هذا لغيره هنا، ثم ذكر ما قيل من استشكال هذا السؤال منهم مع إيمانهم بأن الله لا يخلف الميعاد، واختار في الجواب عنه: أن هؤلاء قوم هداهم النظر والفكر إلى معرفة الله تعالى واستشعار عظمته وسلطانه وإلى ضعف أنفسهم عن القيام بما يجب من شكره والقيام بحقوقه وحقوق خلقه، فطلبوا المغفرة والتكفير والعناية الإلهية التي تبلغهم ما وعد الله من استجابوا للرسل ونصروهم وأحسنوا اتباعهم؛ وهو ما أشرنا إليه آنفا ولذلك قالوا (ولا تخزنا يوم القيامة) أي لا تفضحنا وتهتك سترنا يوم القيامة بإدخالنا النار التي يخزى من دخلها كما تقدم في الآية التي قبل ما قبل هذه.

18. نقل الرازي عن حكماء الإسلام أن المراد بالخزي هنا العذاب الروحاني، لأنهم طلبوا الوقاية من النار من قبل وهو العذاب الجسماني، واستنبط من الابتداء بطلب النجاة من العذاب الجسماني، وجعل طلب النجاة من العذاب الروحاني آخرا وختاما أن العذاب الروحاني أشد، ويعنون بالعذاب الروحاني الحرمان من الرضوان الأكبر بكمال العرفان الإلهي الذي ذكره الله تعالى في قوله: ﴿وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم﴾ [التوبة: 72] ولكن طلب النجاة من الخزي لا يدل على ما ذهبوا إليه.

19. أما كلمة ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ فهي ثناء ختم به الدعاء، ولا شك أن الوعد يصيبهم إذا قاموا بما ترتب هو عليه من الإيمان والعمل الصالح فإن الوعد كما قال الرازي: (لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم بل إنما يتناولهم بحسب أوصافهم)، وقد قال تعالى في الوعد بسيادة الدنيا: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [النور: 55] الآية وقال فيه: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد: 7] وقال في الوعد بسعادة الآخرة ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ﴾ [التوبة: 72] الآية وقد ذكرت كلها آنفا، وفي معناها آيات كثيرة؛ فكل من الوعدين مترتب على الإيمان وعمل الصالحات، ولكن المحرفين لدين الله يجعلون كل جزاء حسن للأفراد بحسب ذواتهم أو ذوات غيرهم من الصالحين الذين يدعونهم ويتوسلون بهم.

__________

(1) تفسير المنار: ‏4/299.

(2) الكلام هنا، وما بعده لمحمد عبده.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ أي أولو الألباب هم الذين ينظرون ويستفيدون ويهتدون ويستحضرون عظمة الله ويتذاكرون حكمته وفضله وجليل نعمه في جميع أحوالهم من قيام وقعود واضطجاع.. والخلاصة ـ إنهم هم الذين لا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم باطمئنان قلوبهم بذكره، واستغراق سرائرهم بمراقبته.

2. ذكر الله وحده لا يكفى في الاهتداء، بل لا بد معه من التفكر في بديع صنعه وأسرار خليقته، ومن ثم قال: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، وما فيهما من الأسرار والمنافع الدالة على العلم الكامل، والحكمة البالغة، والقدرة التامة.

3. الخلاصة ـ إن الفوز والنجاة إنما يكون بتذكر عظمة الله والتفكر في مخلوقاته‏ من جهة دلالتها على وجود خالق واحد له العلم والقدرة، ويتبع ذلك صدق الرسل وأن الكتب التي أنزلت عليهم مفصّلة لأحكام التشريع، حاوية لكامل الآداب، وجميل الأخلاق، ولما يلزم نظم المجتمع في هذه الحياة، وللحساب والجزاء على الأعمال بدخول الجنة والنار.

4. إنما ذكر التفكر في خلق الله، لورود النهى عن التفكر في الخالق، لعدم الوصول إلى حقيقة ذاته وصفاته، فقد أخرج الأصبهانى عن عبد الله بن سلام قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على أصحابه وهم يتفكرون فقال: (تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق)، وقال: (تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله تعالى)

5. ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ﴾ أي يقول الذاكرون المتفكرون: ربنا ما خلقت هذا الذي نشاهده من العوالم العلوية والأرضية باطلا، ولا أبدعته عبثا، سبحانك ربنا تنزهت عن الباطل والعبث، بل كل خلقك حق مشتمل على حكم جليلة ومصالح عظيمة، والإنسان بعض خلقك لم يخلق عبثا، فإن لحقه الفناء، وتفرقت منه الأجزاء، بعد مفارقة الأرواح للأبدان، فإنما يهلك منه كونه الفاسد أي الجسم، ثم يعود بقدرتك في نشأة أخرى كما بدأته في النشأة الأولى، فريق أطاعك واهتدى، وفريق حقت عليه الضلالة؛ ف الأول يدخل الجنة بصالح أعماله والآخر يكبّ في النار بما اجترح من السيئات، وما عمل من الموبقات، جزاء وفاقا.

6. الخلاصة ـ إن المؤمن المتفكر يتوجه إلى الله بمثل هذا الثناء والدعاء والابتهال بعد أن رأى الدلائل على بديع الحكمة، وواسع العلم بدقائق الأكوان التي تربط الإنسان بربه، وفي هذا تعليم للمؤمنين كيف يخاطبون ربهم عندما يهتدون إلى شيء من معانى إحسانه وكرمه في بدائع خلقه.

7. ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ أي فوفقنا بعنايتك لصالح العمل بما فهمنا من الدلائل حتى يكون ذلك وقاية لنا من عذاب النار، ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ أي إنهم بعد أن يدعو ربهم أن يقيهم دخول النار يتوجهون إليه قائلين هذا القول، دلالة على عظم هذا العقاب وشدته وهو الخزي والفضيحة، ليكون موقع السؤال أعظم، لأن من طلب من ربه شيئا وشرح عظم المطلوب وقوّته، كانت الداعية إلى الدعاء أكمل والإخلاص في الطلب أشد.

8. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ الظالم هو الذي يتنكب الطريق المستقيم، وقد وصف من يدخل النار بالظلم للدلالة على أن سبب دخوله إياها هو جوره وظلمه، وللتشنيع عليه بهذا العمل القبيح، أي إن هؤلاء المتفكرين الذاكرين ينظرون إلى هيبة ذلك الرب العلىّ الذي خلق تلك الأكوان المملوءة بالأسرار والحكم، فيعلمون أنه لا يمكن أحدا أن ينتصر عليه، وأن من عاداه فلا ملجأ له إلا إليه.

9. ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ المنادى هو الرسول، وذكره بوصف المنادى تعظيما لشأن هذا النداء، أي إنهم بعد أن عرفوا الله تعالى حق معرفته بالذكر والفكر عبروا عن وصول دعوة الرسول إليهم واستجابتهم دعوته سراعا بدون تلبّث بهذا القول، لأنه دعاهم إلى ما اهتدوا إليه من قبل وزادهم معرفة وبصيرة في عالم الغيب والحياة الآخرة، وفي تقدمة الدعاء بالنداء إشارة إلى كمال توجههم إلى مولاهم وعدم غفلتهم عنه مع إظهار كمال الضراعة والابتهال إلى من عوّدهم الإحسان والإفضال.

10. ﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ الغفران: الستر والتغطية يقال: رجل مكفّر بالسلاح أي مغطى به، قال لبيد: (في ليلة كفر النجوم ظلامها)، أي إنهم طلبوا من الله تعالى في هذا الدعاء ثلاثة أشياء: غفران الذنوب المتقدمة، وتكفير السيئات المستقبلة، وأن تكون وفاتهم مع الأبرار بأن يموتوا على مثل أعمالهم‏ حتى يكونوا في درجاتهم يوم القيامة كما يقال فلان في العطاء مع أصحاب الألوف أي هو مشارك لهم في أنه يعطى ألفا قال تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ﴾، وفي هذا رمز إلى أنهم كانوا يحبون لقاء الله (ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)

11. ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ أي ربنا أعطنا ما وعدتنا من حسن الجزاء كالنصر في الدنيا والنعيم في الآخرة جزاء على تصديق رسلك واتباعهم، وخلاصة ذلك ـ إنهم قالوا أعطنا ذلك بتوفيقنا للثبات على ما نستحق ذلك به إلى أن تتوفانا مع الأبرار، وفي هذا استشعار بتقصيرهم وعدم الثقة بثباتهم إلا بتوفيق الله ومزيد عنايته.

12. ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي ولا تفضحنا ولا تهتك سترنا يوم القيامة بإدخالنا النار التي يخزى من دخلها، ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ أي لا تخلف ما وعدت به على الإيمان وصالح العمل، فقد وعدت بسيادة الدنيا في قولك:‏ ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ وقلت:‏ ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ ووعدت بسعادة الآخرة فقلت:‏ ﴿وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾

__________

(1) تفسير المراغي: 4/163.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ما الآيات التي في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار؟ ما الآيات التي تتراءى لأولي الألباب عندما يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، وهم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم؟ وما علاقة التفكر في هذه الآيات بذكرهم الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم؟ وكيف ينتهون من التفكر فيها إلى هذا الدعاء الخاشع الواجف: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ إلى نهاية ذلك الدعاء؟

2. إن التعبير يرسم هنا صورة حية من الاستقبال السليم للمؤثرات الكونية في الإدراك السليم، وصورة حية من الاستجابة السليمة لهذه المؤثرات المعروضة للأنظار والأفكار في صميم الكون، بالليل والنهار.. والقرآن يوجه القلوب والأنظار توجيها مكررا مؤكدا إلى هذا الكتاب المفتوح؛ الذي لا تفتأ صفحاته تقلب، فتتبدى في كل صفحة آية موحية، تستجيش في الفطرة السليمة إحساسا بالحق المستقر في صفحات هذا الكتاب، وفي (تصميم) هذا البناء، ورغبة في الاستجابة لخالق هذا الخلق، ومودعه هذا الحق، مع الحب له والخشية منه في ذات الأوان!

3. أولو الألباب.. أولو الإدراك الصحيح.. يفتحون بصائرهم لاستقبال آيات الله الكونية؛ ولا يقيمون الحواجز، ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات، ويتوجهون إلى الله بقلوبهم قياما وقعودا وعلى جنوبهم، فتتفتح بصائرهم، وتشف مداركهم، وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله‏ إياه، وتدرك غاية وجوده، وعلة نشأته، وقوام فطرته، بالإلهام الذي يصل بين القلب البشري ونواميس هذا الوجود.

4. مشهد السماوات والأرض، ومشهد اختلاف الليل والنهار، لو فتحنا له بصائرنا وقلوبنا وإدراكنا، لو تلقيناه كمشهد جديد تتفتح عليه العيون أول مرة، لو استنقذنا حسنا من همود الإلف، وخمود التكرار، لارتعشت له رؤانا، ولاهتزت له مشاعرنا، ولأحسسنا أن وراء ما فيه من تناسق لا بد من يد تنسق؛ ووراء ما فيه من نظام لا بد من عقل يدبر؛ ووراء ما فيه من إحكام لا بد من ناموس لا يتخلف.. وأن هذا كله لا يمكن أن يكون خداعا، ولا يمكن أن يكون جزافا، ولا يمكن أن يكون باطلا.

5. لا ينقص من اهتزازنا للمشهد الكوني الرائع أن نعرف أن الليل والنهار، ظاهرتان ناشئتان من دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس، ولا أن تناسق السماوات والأرض مرتكز إلى (الجاذبية) أو غير الجاذبية.. هذه فروض تصح أو لا تصح، وهي في كلتا الحالتين لا تقدم ولا تؤخر في استقبال هذه العجيبة الكونية، واستقبال النواميس الهائلة الدقيقة التي تحكمها وتحفظها.. وهذه النواميس ـ أيا كان اسمها عند الباحثين من بني الإنسان ـ هي آية القدرة، وآية الحق، في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار.

6. السياق القرآني هنا يصور خطوات الحركة النفسية التي ينشئها استقبال مشهد السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار في مشاعر أولي الألباب تصويرا دقيقا، وهو في الوقت ذاته تصوير إيحائي، يلفت القلوب إلى المنهج الصحيح، في التعامل مع الكون، وفي التخاطب معه بلغته، والتجاوب مع فطرته وحقيقته، والانطباع بإشاراته وإيحاءاته، ويجعل من كتاب الكون المفتوح كتاب (معرفة) للإنسان المؤمن الموصول بالله، وبما تبدعه يد الله‏.

7. إنه يقرن ابتداء بين توجه القلب إلى ذكر الله وعبادته: ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾.. وبين التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار.. فيسلك هذا التفكر مسلك العبادة، ويجعله جانبا من مشهد الذكر.. فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين هامتين:

أ. الحقيقة الأولى: أن التفكر في خلق الله، والتدبر في كتاب الكون المفتوح، وتتبع يد الله المبدعة، وهي تحرك هذا الكون، وتقلب صفحات هذا الكتاب.. هو عبادة لله من صميم العبادة، وذكر لله من صميم الذكر، ولو اتصلت العلوم الكونية، التي تبحث في تصميم الكون، وفي نواميسه وسننه، وفي قواه ومدخراته، وفي أسراره وطاقاته.. لو اتصلت هذه العلوم بتذكر خالق هذا الكون وذكره، والشعور بجلاله وفضله، لتحولت من فورها إلى عبادة لخالق هذا الكون وصلاة، ولاستقامت الحياة ـ بهذه العلوم ـ واتجهت إلى الله، ولكن الاتجاه المادي الكافر، يقطع ما بين الكون وخالقه، ويقطع ما بين العلوم الكونية والحقيقة الأزلية الأبدية؛ ومن هنا يتحول العلم ـ أجمل هبة من الله للإنسان ـ لعنة تطارد الإنسان، وتحيل حياته إلى جحيم منكرة، وإلى حياة قلقة مهددة، وإلى خواء روحي يطارد الإنسان كالمارد الجبار!

ب. والحقيقة الثانية: أن آيات الله في الكون، لا تتجلى على حقيقتها الموحية، إلا للقلوب الذاكرة العابدة، وأن هؤلاء الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ـ وهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ـ هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل‏ والنهار، وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح.. فأما الذين يكتفون بظاهر من الحياة الدنيا، ويصلون إلى أسرار بعض القوى الكونية ـ بدون هذا الاتصال ـ فهم يدمرون الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه الأسرار، ويحولون حياتهم إلى جحيم نكد، وإلى قلق خانق، ثم ينتهون إلى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف!

8. فهما أمران متلازمان، تعرضهما هذه الصورة التي يرسمها القرآن لأولي الألباب في لحظة الاستقبال والاستجابة والاتصال، إنها لحظة تمثل صفاء القلب، وشفافية الروح، وتفتح الإدراك، واستعداده للتلقي، كما تمثل الاستجابة والتأثر والانطباع، إنها لحظة العبادة، وهي بهذا الوصف لحظة اتصال، ولحظة استقبال، فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر؛ وأن يكون مجرد التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، ملهما للحقيقة الكامنة فيها، ولإدراك أنها لم تخلق عبثا ولا باطلا، ومن ثم تكون الحصيلة المباشرة، للخطة الواصلة.

9. ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ﴾ ما خلقت هذا الكون ليكون باطلا، ولكن ليكون حقا، الحق قوامه، والحق قانونه، والحق أصيل فيه، إن لهذا الكون حقيقة، فهو ليس (عدما) كما تقول بعض الفلسفات! وهو يسير وفق ناموس، فليس متروكا للفوضى، وهو يمضي لغاية، فليس متروكا للمصادفة، وهو محكوم في وجوده وفي حركته وفي غايته بالحق لا يتلبس به الباطل.. هذه هي اللمسة الأولى، التي تمس قلوب‏ ﴿أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ من التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار بشعور العبادة والذكر والاتصال، وهي اللمسة التي تطبع حسهم بالحق الأصيل في تصميم هذا الكون، فتطلق ألسنتهم بتسبيح الله وتنزيهه عن أن يخلق هذا الكون باطلا: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ﴾

10. ثم تتوالى الحركات النفسية، تجاه لمسات الكون وإيحاءاته، ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾

11. سؤال وإشكال: ما العلاقة الوجدانية، بين إدراك ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من حق، وبين هذه الارتعاشة المنطلقة بالدعاء الخائف الواجف من النار؟ والجواب: إن إدراك الحق الذي في تصميم هذا الكون وفي ظواهره، معناه ـ عند أولي الألباب ـ أن هناك تقديرا وتدبيرا، وأن هناك حكمة وغاية، وأن هناك حقا وعدلا وراء حياة الناس في هذا الكوكب، ولا بد إذن من حساب ومن جزاء على ما يقدم الناس من أعمال، ولا بد إذن من دار غير هذه الدار يتحقق فيها الحق والعدل في الجزاء، فهي سلسلة من منطق الفطرة والبداهة، تتداعى حلقاتها في حسهم على هذا النحو السريع، لذلك تقفز إلى خيالهم صورة النار، فيكون الدعاء إلى الله أن يقيهم منها، هو الخاطر الأول، المصاحب لإدراك الحق الكامن في هذا الوجود.. وهي لفتة عجيبة إلى تداعي المشاعر عند ذوي البصائر.

12. ثم تنطلق ألسنتهم بذلك الدعاء الطويل، الخاشع الواجف الراجف المنيب، ذي النغم العذب، والإيقاع المنساب، والحرارة البادية في المقاطع والأنغام! ولا بد من وقفة أمام الرجفة الأولى وهم يتجهون إلى ربهم ليقيهم عذاب النار.. لا بد من وقفة أمام قولهم: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾.. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾.. إنها تشي بأن خوفهم من النار، إنما هو خوف ـ قبل كل شيء ـ من الخزي الذي يصيب أهل النار، وهذه الرجفة التي تصيبهم هي أولا رجفة الحياء من الخزي الذي ينال أهل النار، فهي ارتجافة باعثها الأكبر الحياء من الله، فهم أشد حساسية به من لذع النار! كما أنها تشي بشعور القوي بأنه لا ناصر من الله، وأن الظالمين ما لهم من أنصار.

13. ثم نمضي مع الدعاء الخاشع الطويل: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾، فهي قلوب مفتوحة؛ ما إن تتلقى حتى تستجيب، وحتى تستيقظ فيها الحساسية الشديدة، فتبحث أول ما تبحث عن تقصيرها وذنوبها ومعصيتها، فتتجه إلى ربها تطلب مغفرة الذنوب وتكفير السيئات، والوفاة مع الأبرار، ويتسق ظل هذه الفقرة في الدعاء مع ظلال السورة كلها، في الاتجاه إلى الاستغفار والتطهر من الذنب والمعصية، في المعركة الشاملة مع شهوات النفس ومع الذنب والخطيئة، المعركة التي يتوقف على الانتصار فيها ابتداء كل انتصار في معارك الميدان، مع أعداء الله وأعداء الإيمان.. والسورة كلها وحدة متكاملة متناسقة الإيقاعات والظلال.

14. ختام هذا الدعاء، توجه ورجاء، واعتماد واستمداد من الثقة بوفاء الله بالميعاد: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾، فهو استنجاز لوعد الله، الذي بلغته الرسل، وثقة بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد، ورجاء في الإعفاء من الخزي يوم القيامة، يتصل بالرجفة الأولى في هذا الدعاء، ويدل على شدة الخوف من هذا الخزي، وشدة تذكره واستحضاره في مطلع الدعاء وفي ختامه، مما يشي بحساسية هذه القلوب ورقتها وشفافيتها وتقواها وحيائها من الله، والدعاء في مجموعه يمثل الاستجابة الصادقة العميقة، لإيحاء هذا الكون وإيقاع الحق الكامن فيه، في القلوب السليمة المفتوحة.

15. لا بد من وقفة أخرى أمام هذا الدعاء، من جانب الجمال الفني والتناسق في الأداء، إن كل سورة من سور القرآن تغلب فيها قافية معينة لآياتها ـ والقوافي في القرآن غيرها في الشعر، فهي ليست حرفا متحدا، ولكنها إيقاع متشابه ـ مثل:

أ. ﴿بَصِيرٌ﴾، ﴿حَكِيمٌ﴾، ﴿مُبِينٌ﴾، ﴿مُرِيبٍ﴾..

ب. ﴿الْأَلْبَابِ﴾، ﴿الْأَبْصَارِ﴾ ﴿النَّارَ﴾، ﴿قَرَارٍ﴾..

ج. ﴿خَفِيًّا﴾، ﴿شَقِيًّا﴾، ﴿شَرْقِيًّا﴾، ﴿شَيْئًا﴾.. إلخ.

16. تغلب القافية الأولى في مواضع التقرير، والثانية في مواضع الدعاء، والثالثة في مواضع الحكاية، وسورة آل عمران تغلب فيها القافية الأولى، ولم تبعد عنها إلا في موضعين: أولهما في أوائل السورة وفيه دعاء، والثاني هنا عند هذا الدعاء الجديد.. وذلك من بدائع التناسق الفني في التعبير القرآني.. فهذا المد يمنح الدعاء رنة رخية، وعذوبة صوتية.

17. هناك ظاهرة فنية أخرى.. إن عرض هذا المشهد: مشهد التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، يناسبه دعاء خاشع مرتل طويل النغم، عميق النبرات، فيطول بذلك عرض المشهد وإيحاءاته ومؤثراته، على الأعصاب والأسماع والخيال، فيؤثر في الوجدان، بما فيه من خشوع وتنغيم وتوجه وارتجاف.. وهنا طال المشهد بعباراته وطال بنغماته مما يؤدي غرضا أصيلا من أغراض التعبير القرآني، ويحقق سمة فنية أصيلة من سماته.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/545.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ ـ نداء رفيق، ينبعث من الأفق الأعلى، ليقود المؤمنين الذين شخصت قلوبهم وعقولهم إلى ما لله في السماوات والأرض، لترتاد مواقع الحق والخير، فتجد في هذا النداء الرفيق هاديا يهديها، ورفيقا يؤنسها، ويكشف لها معالم الطريق.. ففي خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، آيات مبصرة لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.

2. لكى يكون للعقل أثره وثمرته في هذا المجال، ينبغي أن ينصرف بكل وجوده إلى هذا الملكوت، وأن يعيش فيه وله، فذلك هو الذي يفتح له مغالق الخير فيه، ويطلعه على مطالع الحق منه.. وهذا ما يتفق لأولئك‏ ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ حيث يكون ذكر الله، واستحضار عظمته وجلاله، هو دأبهم، وحيث يكون النظر في ملكوت السماوات والأرض، ومطالعة آيات الخالق، واستجلاء روائع حكمته، هو شغلهم.. في قيامهم وقعودهم، وفي حركتهم وسكونهم، وفي كل لمحة أو نظرة، وفي كل غدوة أو روحة.. حيث هم أبدا في ملك الله، وحيثما كانوا أو اتجهوا فهم بين يدى ملكوت الله.. وعندئذ يطلع عليهم من آفاق الوجود هذا اللحن الموسيقى الشجىّ الذي يردّده كل موجود ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ فيتناغمون معه، بنبضات قلوبهم، وزغردة أرواحهم‏ ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ (سبحانك) ما أعظم عظمتك، وما أقدر قدرتك، وما أحكم حكمتك، وما أسعد من ينعم بنعيمك، وما أهنأ من يحظى برضاك.

3. ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ حتى لا تنزعج قلوبنا عن موارد ملكوتك ولا تطيش ألبابنا من النظر في آيات قدرتك، وروائع حكمتك! وإنه حين يشهد المؤمنون ما يشهدون من جلال ملك الله، وكمال قدرته، وسعة علمه، وروعة حكمته، يتمنّون على الله أن يقيمهم على هذا المورد، لا يتحولون عنه أبدا، فهذا هو النعيم الخالد، الذي ينعم به المؤمنون في الدنيا والآخرة، ولجهنم أهلها، الذين يحرمون هذا النعيم، ويلقون بدله عذابا ونكالا وشقاء.. وهذا خاطر إذا خطر بقلوب المؤمنين أزعجهم وأكربهم، وزحزح عنهم هذه اللحظات المسعدة التي يعيشون فيها مع الله، ويهنئون بالنظر فيها إلى ملكوته.. وهنا يتجسد لهم هذا المشهد الكئيب، الذي ينتظم أهل النّار في النار، فيناجون الله، ويطلبون غوثه: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ فإنه ليس خزى بعد هذا الخزي، ولا خذلان فوق هذا الخذلان.. حيث موارد النعيم دانية، ومنازل الرضوان مفتّحة، ثم هم يذادون عن هذا النعيم، وذلك الرضوان، ثم يساقون إلى جهنّم وعذاب السعير.

4. وفي قلوب واجفة، وأنفاس مبهورة مختنقة، يفرّ المؤمنون من هذه المواجهة لجهنم وأهلها، إلى حيث يلقون الله برحمته ورضوانه: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾.. فهذا كل ما بين أيديهم أن يقدموه بين يدى رحمة الله ومغفرته، لينالوا الخلاص من هذا الهول الذي يطبق على المنافقين والكافرين، وليكونوا في أصحاب الجنّة التي وعد المتقون.. إنهم حين سمعوا منادى الله ينادى بالإيمان ويدعوهم إليه، استجابوا لله، وآمنوا به، وبرسوله.. وهم بهذا الإيمان يطمعون في رحمته، ويرجون أن تغفر ذنوبهم، وأن تكفّر عنهم سيئاتهم، وأن يموتوا حين يموتون‏ على البر والتقوى، وأن يحشروا مع الأبرار والأتقياء.. فهم على وعد من الله، وعدوا به على لسان رسله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.. وهم يحيون أنفسهم وينعشونها بالحديث عن هذا الموعد الكريم: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾.. ومعاذ الله.. إن الله لا يخلف وعده.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏2/673.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَذْكُرُونَ اللهَ﴾ إمّا من الذّكر اللساني وإمّا من الذّكر القلبي وهو التفكّر، وأراد بقوله: ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ عموم الأحوال كقولهم: ضربه الظهر والبطن، وقولهم: اشتهر كذا عند أهل الشرق والغرب، على أنّ هذه الأحوال هي متعارف أحوال البشر في السلامة، أي أحوال الشغل والراحة وقصد النوم، وقيل: أراد أحوال المصلّين: من قادر، وعاجز، وشديد العجز، وسياق الآية بعيد عن هذا المعنى.

2. ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ عطف مرادف إن كان المراد بالذكر فيما سبق التفكّر، وإعادته لأجل اختلاف المتفكّر فيه، أو هو عطف مغاير إذا كان المراد من قوله: ﴿يَذْكُرُونَ﴾ ذكر اللسان، والتفكّر عبادة عظيمة، روى ابن القاسم عن مالك في جامع العتبية قال قيل لأمّ الدرداء: ما كان شأن أبي الدرداء؟ قالت: كان أكثر شأنه التفكّر، قيل له: أترى التفكّر عملا من الأعمال؟ قال نعم، هو اليقين.

3. الخلق بمعنى كيفية أثر الخلق، أو المخلوقات التي في السماء والأرض، فالإضافة إمّا على معنى اللام، وإمّا على معنى (في)، وقوله: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ وما بعده جملة واقعة موقع الحال على تقدير قول: أي يتفكّرون قائلين: ربّنا.. لأنّ هذا الكلام أريد به حكاية قولهم بدليل ما بعده من الدعاء.

4. سؤال وإشكال: كيف تواطأ الجمع من أولي الألباب على قول هذا التنزيه والدعاء عند التفكّر مع اختلاف تفكيرهم وتأثّرهم ومقاصدهم؟ والجواب: يحتمل أنّهم تلقّوه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فكانوا يلازمونه عند التفكّر وعقبه، ويحتمل أنّ الله ألهمهم إيّاه فصار هجيراهم مثل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ [البقرة: 285] الآيات، ويدلّ لذلك‏ حديث ابن عباس في (الصحيح) قال: بتّ عند خالتي ميمونة فقام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ العشر الآيات من سورة آل عمران) إلى آخر الحديث، ويجوز عندي أن يكون قوله: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ حكاية لتفكّرهم في نفوسهم، فهو كلام النفس يشترك فيه جميع المتفكّرين لاستوائهم في صحّة التفكّر لأنّه تنقل من معنى إلى متفرّع عنه، وقد استوى أولو الألباب المتحدّث عنهم هنا في إدراك هذه المعاني، فأوّل التفكّر أنتج لهم أنّ المخلوقات لم تخلق باطلا، ثم تفرّع عنه تنزيه الله وسؤاله أن يقيهم عذاب النار، لأنّهم رأوا في المخلوقات طائعا وعاصيا، فعلموا أنّ وراء هذا العالم ثوابا وعقابا، فاستعاذوا أن يكونوا ممّن حقّت عليه كلمة العذاب، وتوسّلوا إلى ذلك بأنّهم بذلوا غاية مقدورهم في طلب النجاة إذ استجابوا لمنادي الإيمان وهو الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وسألوا غفران الذنوب، وتكفير السيئات، والموت على البر إلى آخره.. فلا يكاد أحد من أولي الألباب يخلو من هذه التفكّرات وربّما زاد عليها، ولمّا نزلت هذه الآية وشاعت بينهم، اهتدى لهذا التفكير من لم يكن انتبه له من قبل فصار شائعا بين المسلمين بمعانيه وألفاظه.

5. معنى‏ ﴿مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ أي خلقا باطلا، أو ما خلقت هذا في حال أنّه باطل، فهي حال لازمة الذكر في النفي وإن كانت فضلة في الإثبات، كقوله: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾ [الدخان: 38] فالمقصود نفي عقائد من يفضي اعتقادهم إلى أنّ هذا الخلق باطل أو خلي عن الحكمة، والعرب تبني صيغة النفي على اعتبار سبق الإثبات كثيرا.

6. جيء بفاء التعقيب في حكاية قولهم: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ لأنّه ترتّب على العلم بأنّ هذا الخلق حقّ، ومن جملة الحقّ أن لا يستوي الصالح والطالح، والمطيع والعاصي، فعلموا أنّ لكلّ مستقرّا مناسبا فسألوا أن يكونوا من أهل الخير المجنّبين عذاب النار.

7. قولهم: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ مسوق مساق التعليل لسؤال الوقاية من النار، كما تؤذن به (إنّ) المستعملة لإرادة الاهتمام إذ لا مقام للتأكيد هنا، والخزي مصدر خزي يخزى بمعنى ذلّ وهان بمرأى من الناس، وأخزاه أذلّه على رؤوس الأشهاد، ووجه تعليل طلب الوقاية من النار بأنّ دخولها خزي بعد الإشارة إلى موجب ذلك الطلب بقولهم: ﴿عَذَابُ النَّارِ﴾ أنّ النار مع ما فيها من العذاب الأليم فيها قهر للمعذّب وإهانة علنية، وذلك معنى مستقرّ في نفوس الناس، ومنه قول إبراهيم عليه السلام: ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ [بالشعراء: 87] وذلك لظهور وجه الربط بين الشرط والجزاء، أي من يدخل النار فقد أخزيته، والخزي لا تطيقه الأنفس، فلا حاجة إلى تأويل تأوّلوه على معنى فقد أخزيته‏ خزيا عظيما، ونظّره الزمخشري بقول رعاة العرب: (من أدرك مرعى الصّمّان فقد أدرك) أي فقد أدرك مرعى مخصبا لئلّا يكون معنى الجزاء ضروري الحصول من الشرط فلا تظهر فائدة للتعليق بالشرط، لأنّه يخلي الكلام عن الفائدة حينئذ، وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران: 185]، ولأجل هذا أعقبوه بما في الطباع التفادي به عن الخزي والمذلّة بالهرع إلى أحلافهم وأنصارهم، فعلموا أن لا نصير في الآخرة للظالم فزادوا بذلك تأكيدا للحرص على الاستعاذة من عذاب النار إذ قالوا: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ أي لأهل النار من أنصار تدفع عنهم الخزي.

8. ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا﴾ أرادوا به النبي محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمنادي، الذي يرفع صوته بالكلام، والنداء: رفع الصوت بالكلام رفعا قويا لأجل الإسماع وهو مشتقّ من النداء ـ بكسر النون وبضمّها ـ وهو الصوت المرتفع، يقال: هو أندى صوتا أي أرفع، فأصل النداء الجهر بالصوت والصياح به، ومنه سمّي دعاء الشخص شخصا ليقبل إليه نداء، لأنّ من شأنه أن يرفع الصوت به؛ ولذلك جعلوا له حروفا ممدودة مثل (يا) و(آ) و(أيا) و(هيا)، ومنه سمّي الأذان نداء، وأطلق هنا على المبالغة في الإسماع والدعوة وإن لم يكن في ذلك رفع صوت، ويطلق النداء على طلب الإقبال بالذات أو بالفهم بحروف معلومة كقوله تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ [فصلت: 104، 105] ويجوز أن يكون هو المراد هنا لأنّ النبي يدعو الناس بنحو: يا أيّها الناس ويا بني فلان ويا أمّة محمد ونحو ذلك، وسيأتي تفسير معاني النداء عند قوله تعالى: ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ﴾ في سورة الأعراف [43]، واللام لام العلّة، أي لأجل الإيمان بالله.

9. (أن) في‏ ﴿أَنْ آمِنُوا﴾ تفسيرية لما في فعل (ينادي) من معنى القول دون حروفه، وجاؤوا بفاء التعقيب في ﴿فَآمَنَّا﴾: للدلالة على المبادرة والسبق إلى الإيمان، وذلك دليل سلامة فطرتهم من الخطأ والمكابرة، وقد توسّموا أن تكون مبادرتهم لإجابة دعوة الإسلام مشكورة عند الله تعالى، فلذلك فرّعوا عليه قولهم: ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ لأنّهم لمّا بذلوا كلّ ما في وسعهم من اتّباع الدين كانوا حقيقين بترجّي المغفرة.

10. الغفر والتكفير متقاربان في المادة المشتقين منها إلّا أنّه شاع الغفر والغفران في العفو عن الذنب والتكفير في تعويض الذنب بعوض، فكأنّ العوض كفّر الذنب أي ستره، ومنه سمّيت كفّارة الإفطار في رمضان، وكفّارة الحنث في اليمين إلّا أنهم أرادوا بالذنوب‏ ما كان قاصرا على ذواتهم، ولذلك طلبوا مغفرته، وأرادوا من السيّئات ما كان فيه حقّ الناس، فلذلك سألوا تكفيرها عنهم، وقيل هو مجرّد تأكيد، وهو حسن، وقيل أرادوا من الذنوب الكبائر ومن السيّئات الصغائر لأنّ اجتناب الكبائر يكفّر الصغائر، بناء على أنّ الذنب أدلّ على الإثم من السيئة.

11. سألوا الوفاة مع الأبرار، أي أن يموتوا على حالة البرّ، بأن يلازمهم البرّ إلى الممات وأن لا يرتدّوا على أدبارهم، فإذا ماتوا كذلك ماتوا من جملة الأبرار، فالمعية هنا معية اعتبارية، وهي المشاركة في الحالة الكاملة، والمعية مع الأبرار أبلغ في الاتّصاف بالدلالة، لأنّه برّ يرجى دوامه وتزايده لكون صاحبه ضمن جمع يزيدونه إقبالا على البرّ بلسان المقال ولسان الحال.

12. ولمّا سألوا أسباب المثوبة في الدنيا والآخرة ترقّوا في السؤال إلى طلب تحقيق المثوبة، فقالوا: ﴿وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾، وتحتمل كلمة (على) أن تكون لتعدية فعل الوعد، ومعناها التعليل فيكون الرسل هم الموعود عليهم، ومعنى الوعد على الرسل أنّه وعد على تصديقهم فتعيّن تقدير مضاف، وتحتمل أن تكون (على) ظرفا مستقرّا، أي وعدا كائنا على رسلك أي، منزلا عليهم، ومتعلّق الجار في مثله كون غير عامّ بل هو كون خاصّ، ولا ضير في ذلك إذا قامت القرينة، ومعنى (على) حينئذ الاستعلاء المجازي، أو تجعل (على) ظرفا مستقرّا حالا من‏ ﴿مَا وَعَدْتَنَا﴾ أيضا، بتقدير كون عامّ لكن مع تقدير مضاف إلى رسلك، أي على ألسنة رسلك.

13. الموعود على ألسنة الرسل أو على التصديق بهم الأظهر أنّه ثواب الآخرة وثواب الدنيا لقوله تعالى: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ [آل عمران: 148]، وقوله: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [النور: 55] الآية، وقوله: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: 105]، والمراد بالرسل في قوله: ﴿عَلَى رُسُلِكَ﴾ خصوص محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أطلق عليه وصف (رسل) تعظيما لقوله تعالى: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ [إبراهيم: 47]، ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ﴾ [الفرقان: 37]

14. سؤال وإشكال: إذا كانوا عالمين بأنّ الله وعدهم ذلك وبأنّه لا يخلف الميعاد فما فائدة سؤالهم ذلك في دعائهم؟ والجواب: له وجوه:

أ. أحدها: أنّهم سألوا ذلك ليكون حصوله أمارة على حصول قبول الأعمال التي وعد الله عليها بما سألوه فقد يظنّون أنفسهم آتين بما يبلّغهم تلك المرتبة ويخشون لعلّهم قد خلطوا أعمالهم الصالحة بما يبطلها، ولعلّ هذا هو السبب في مجيء الواو في قولهم: ﴿وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا﴾ دون الفاء إذ جعلوه دعوة مستقلّة لتتحقّق ويتحقّق سببها، ولم يجعلوها نتيجة فعل مقطوع بحصوله، ويدلّ لصحّة هذا التأويل قوله بعد: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ [آل عمران: 195] مع أنّهم لم يطلبوا هنا عدم إضاعة أعمالهم.

ب. الثاني: قال في (الكشّاف): أرادوا طلب التوفيق إلى أسباب ما وعدهم الله على رسله، فالكلام مستعمل كناية عن سبب ذلك من التوفيق للأعمال الموعود عليها.

ج. الثالث: قال فيه ما حاصله: أن يكون هذا من باب الأدب مع الله حتّى لا يظهروا بمظهر المستحقّ لتحصيل الموعود به تذلّلا، أي كسؤال الرسل عليهم السلام المغفرة وقد علموا أنّ الله غفر لهم.

د. الرابع: أجاب القرافي في الفرق بأنّهم سألوا ذلك لأنّ حصوله مشروط بالوفاة على الإيمان، وقد يؤيّد هذا بأنّهم قدّموا قبله قولهم: ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ لكن هذا الجواب يقتضي قصر الموعود به على ثواب الآخرة، وأعادوا سؤال النجاة من خزي يوم القيامة لشدّته عليهم.

هـ. الخامس: أنّ الموعود الذي سألوه هو النصر على العدوّ خاصّة، فالدعاء بقولهم: ﴿وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ مقصود منه تعجيل ذلك لهم، يعني أنّ الوعد كان لمجموع الأمّة، فكلّ واحد إذا دعا بهذا فإنّما يعني أن يجعله الله ممّن يرى مصداق وعد الله تعالى خشية أن يفوتهم، وهذا كقول خبّاب بن الأرتّ: هاجرنا مع النبي نلتمس وجه الله فوقع أجرنا على الله فمنّا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها، ومنّا من مات لم يأكل من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، فلم نجد له ما نكفّنه إلّا بردة) إلخ.

15. ابتدؤوا دعاءهم وخلّلوه بندائه تعالى: خمس مرات إظهار للحاجة إلى إقبال الله عليهم، وعن جعفر بن محمد رضي الله عنه‏ (من حزبه أمر فقال: يا ربّ خمس مرات أنجاه الله ممّا يخاف وأعطاه ما أراد)، واقْرَؤُواا: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾

__________

(1) التحرير والتنوير: 3/309.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ ذكر الله تعالى استحضار عظمته والإحساس بجلاله، واستشعار النفس بنعمه، وقد يدخل هذا في معنى قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فذكر الله يتضمن كل معانى العبودية والإحساس بالألوهية والنعم التي أسبغها على خلقه ظاهرة وباطنة، وذكر الله لب كل عبادة، وغاية كل نسك، لذلك قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت‏]

2. وقد وصف الله تعالى أولى الألباب الذاكرين بأنهم يذكرون الله تعالى في كل أحوالهم، فهم يذكرونه قائمين، وقاعدين، وهم على جنوبهم، فقوله تعالى: ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ إشارة إلى أن الذكر يكون في عامة أحوال الإنسان في الحياة، وظن بعض المفسرين أن المراد بالذكر الصلاة لما روى أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لعمران بن الحصين: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب) والحق أن الذكر أعم من الصلاة، وأن الصلاة الحقيقية التي تثمر ثمراتها ضرب من ضروبه، وكل العبادات من مسالكه، وقوله تعالى: ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا﴾ مصدران وضعا موضع الوصف وموقعهما في الإعراب أنهما حالان.

3. ذكر الله تعالى على هذا النحو من أكمل العبادات، ولو ذكر المؤمن ربه في عامة أحواله لساد المجتمع الإنساني كله الوئام، وما كثر الخصام، وما امتشق الناس الحسام، بل ما تنازع اثنان، وفوق ذلك من يذكر الله يعلو عن آلام الحياة واضطرابها وما ينزعج له الناس ويتحيرون فيه، ولذا قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد]

4. ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ هذا هو الوصف الثاني بعد أوصاف أولى الألباب الذين يدركون آيات الله الدالة على جلاله وعظمته في خلقه، والتفكر: ترداد الفكرة في النفس لتصل إلى أقصى ما تؤدى إليه، وقد جاء فى‏ مفردات الأصفهاني: (الفكرة قوة مطرقة للعلم، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب، ولهذا روى: (تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله، إذ كان الله منزها عن أن يوصف بصورة..) قال بعض الأدباء: (الفكر مقلوب عن الفرك، لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها)

5. التفكر في السماوات والأرض له ثلاث درجات بعضها أعلى من بعض:

أ. أدناها أن ننظر إلى السماء وما فيها من نجوم وكواكب وشمس وقمر وأبراج، وما فيها من نظام بديع محكم، وهذه هي النظرة العامة التي تكون لذوى الألباب وغيرهم؛ لأن هذه النظرة أساس الحس وإشراق المحسوس.

ب. والمرتبة الثانية التفكر في خلقها وأسرار وجودها ونواميسها وقوانينها، وهذا ما يفكر فيه علماء الكونيات الذين يعرفون ما اشتمل عليه الكون من قوى وما أودعها الخالق من أجرام وقوانين لسيرها.

ج. المرتبة الثالثة وهى أعلاها، وهى النظرة التي تتجه إلى الخالق من وراء المخلوق، فيتدبر الكون وما فيه ليدرك عظمة المبدع، فيتعرف من جمال الصنعة جلال الصانع، وهذا النوع هو المذكور في هذه الآية وهو أعلى مراتب العبادة، وقد روى عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (لا عبادة كالتفكر) وقد كان بعض الصحابة يقول: (إن ضياء الإيمان التفكر).. وإن هذا النوع الأخير من التفكر يجعل القلب يخضع واللسان يخشع فينطق مستشعرا عظمة الله قائلا: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾

6. تلك الضراعة التي بدت على الألسنة هي أولى ثمرات التفكر، لقد وصلوا بتفكرهم إلى إدراك ربهم فقالوا (ربنا) ونادوه سبحانه بذلك النداء الخاضع الضارع الشاكر لنعمائه، وقد وصلوا بتفكيرهم وتدبرهم إلى أن هذا الكون لا يمكن أن يخلق باطلا، أي لا يكون لغير غاية، ولا لغير حكمة، فمعنى البطلان هنا العبث وعدم الغاية وإنهم ليعلمون أن ذلك مستحيل على الله تعالى، ولذا أردفوا هذا بقولهم: ﴿سُبْحَانَكَ﴾، أي تنزهت ذاتك وتقدست، وبذلك ارتفعوا إلى مقام التقديس وهو كمال العبودية والألوهية، ثم اعترتهم وقد وصلوا إلى هذا النوع من العلم خشية العلماء، مصداقا لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر]، ولذلك غلب عليهم الخوف من عذاب الله تعالى فقالوا مرتبين على تفكرهم ما أدى إليه: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ فهذه ضراعة إلى الله تعالى أن يقيهم عذاب النار، والوقاية من عذاب النار تكون بأمرين: أولهما ـ أن يوفقهم لتجنب ما لا يرضيه الثاني: أن يغفر لهم ما أفرطوا في جنبه سبحانه وتعالى.

7. وقد كان ترتيب الخوف على التفكر له موضعه لأن نهاية التفكر هو الخوف؛ إذ ينته إلى أعلى درجات الشعور بالمهابة لله تعالى، وهو يجعل المؤمن يستصغر حسناته، ويستكثر سيئاته، وإن الصوفية الحق يبالغون في التفكر، حتى إنهم يفضلونه على صلوات النفل فهو من أفضل مقامات العبودية.

8. ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ هذا في مقام التعليل لضراعتهم بالوقاية من النار، وهو تعظيم لأمر العقاب يوم القيامة، وفيه فوق ذلك شعور بالعدالة إذا وقع العقاب، إذ إنه يكون من ظلم المرتكب، وفيه أيضا بيان أن العقاب إن أراده الله فلا مناص منه، ولا منجاة بنصر ناصر، أو شفاعة شفيع، وأعظم العقاب ما فيه من الخزي أمام الله واهب الوجود، ومولى النعم وذي الجلال والإكرام، والخزي في أصل معناه الوقوع في بلية، وقد يطلق على الوقوع في البلايا المعنوية بأن يكون قد ارتكب أمرا يتعير به أمام الناس‏ ولا مناص لرد اعتباره.

9. قوله تعالى: ﴿فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ يتضمن هذه المعاني فقد أوقعهم سبحانه في بلية لا يستطيعون التخلص منها، وهم في عار معنوي لأنهم نالوا سخط الله تعالى، وذلك بظلمهم، وقد أكدوا استحقاق المجرمين، وعدم خلاصهم منه بقولهم:‏ ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ أي أن المذنبين ظالمون فهم معاقبون بحق ولا ناصر لهم، و(من) دالة على استغراق النفي أي لا ناصر لهم أيا كان، وفي ذلك إشارة إلى انفراد الله تعالى بالسلطان.

10. ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا﴾ إذا كان ذكر الله يربى القلب، والتفكر يهديه، وهما معا يرفعان المؤمن إلى مرتبة الخوف من الله، فإن التذكر لله والتفكر في خلقه يفتح أيضا القلب للتصديق والإذعان للحقائق الدينية، ولذلك كان من ثمرات التفكر إجابة نداء الحق، والإيمان بالله ورسوله والغيب، ولذلك كان شأن أولئك المتذكرين المتفكرين في خلقه أنهم بمجرد أن سمعوا نداء الإيمان أجابوا.. وهنا بحوث لفظية:

أ. أولها: أن أولئك سمعوا نداء المنادى، ولكن أسند السمع إلى الشخص لكمال الانتباه إليه، ولأن شخص المنادى له أثر في حسن الاستماع لأنه رسول من عند الله، فما اقتنعوا بالحق لذات الحق فقط، بل لأن الداعي صادق أمين.

ب. ثانيها: أنه أطلق المنادى، ثم ذكر بعد ذلك أنه ينادى بالإيمان وذلك لما فيه من إبهام بعده بيان، فيكون البيان أكثر ثباتا، ولأن الإطلاق أعطى المنادى تفخيما وتكبيرا، ولأن النداء إلى الحق اعتبر كالعنوان له.

ج. ثالثها: أن الإيمان ذكر مطلقا على أنه إيمان بالرب، وذلك للدلالة على الإذعان المطلق لله وللحق والهدى.. اللهم هبنا إيمانا بالحق وإذعانا له، وقد أجابوا نداء الإيمان فقالوا (فآمنا)

11. سماع النداء لا يلزم أن يكون من شخص المنادى، بل يعم السماع من شخصه وتتبع رسالته من بعده.

12. ﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ كان التفكر والتذكر لله سببا في قوة إحساسهم بهفواتهم ونسيانهم حسناتهم وتواضعهم أمام ربهم خاضعين خاشعين، ولذلك طلبوا ثلاثة أمور:

أ. أولها: الغفران إحساسا بتقصيرهم وفضل ربهم.

ب. ثانيها: تكفير السيئات، أي الأمور التي تسيء في ذاتها، والفرق بين الذنب والسيئة، أن السيئة عصيان فيه إساءة، والذنب فيه تقصير وتبطؤ عن الخير والغفران، والتكفير كلاهما ستر، ولكن الأول يتضمن معنى عدم العقاب، والثاني يتضمن ذهاب أثر الإساءة.

ج. والمطلب الثالث الذي طلبوه هو أن الله يتوفاهم مع الأبرار، أي يميتهم مع الأبرار بأن يسلكوا طريق الاستقامة في الدنيا حتى يخرجوا منها مع المستقيمين الأبرار الأخيار.

13. ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ لقد ترقوا في الطلب، فانتقلوا من طلب الغفران إلى طلب الثواب، فمعنى النص الكريم: أعطنا يوم القيامة ما وعدتنا به على ألسنة رسلك الأكرمين، وقد أخروا ذلك لشعورهم بهفواتهم أكثر من شعورهم بحسناتهم التي يستحقون عليها الثواب، وقوله: ﴿عَلَى رُسُلِكَ﴾ على حذف مضاف أي ألسنة رسلك، وقالوا على رسلك، ولم يقولوا على رسولك للإشارة إلى أن ثواب المطيع وعقوبة العاصي مما جاء به كل الرسل، ولتأكيد طلب إعطاء الثواب، ومع بلوغهم مرتبة الرجاء كان يغلب عليهم الخوف، ولذلك أردفوا الرجاء بقولهم: ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ وختموا ضراعتهم بقولهم: ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ وقد أكدوا رجاءهم في أن يوفوا أجرهم وتغفر لهم ذنوبهم.

14. هذا وننبه إلى أمرين:

أ. أولهما: أنهم كرروا في ضراعتهم كلمة (ربنا) وذلك لأن تفكيرهم وذكرهم أداهم إلى الاعتراف بكمال الربوبية.

ب. ثانيهما: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم تلا هذه الآيات، ثم قال: اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصرى نورا، وعن يميني نورا، وعن شمالى نورا، ومن بين يدى نورا، ومن خلفى نورا، ومن فوقى نورا، ومن تحتي نورا، وأعظم لي نورا يوم القيامة)

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1547.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، المراد بالقيام والقعود وعلى جنوبهم انهم في طاعة الله أبدا ودائما، والمراد بالتفكر في خلق السماوات والأرض انهم عارفون بالله سبحانه، أما تضرعهم اليه عز وجل ان يقيهم عذاب النار فدليل التقوى والإيمان، قال الرازي: (ان أصناف العبودية ثلاثة أقسام: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، فقوله تعالى: ﴿يَذْكُرُونَ اللهَ﴾ اشارة إلى عبودية اللسان، وقوله: ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ اشارة إلى عبودية الجوارح والأعضاء، وقوله: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ اشارة إلى عبودية القلب والفكر والروح والإنسان ليس إلا هذا المجموع، فإذا استغرق اللسان في الذكر، والأعضاء في العمل، والجنان في الفكر كان مستغرقا بجميع أعضائه في العبودية ـ ثم قال ـ فما أحسن هذا الترتيب في جذب الأرواح من الخلق إلى الحق)

2. ليس من شك ان ذكر الله، والإيمان به، والتعبد له حسن.. ولكن أحسن من ذكره باللسان، والقيام له في الليل، والصيام في النهار هو العمل من أجل الإنسان، والتضحية في سبيل الصالح العام.. وكل من طلب الكرامة عند الله دون هذه التضحية، مع القدرة عليها فقد طلب الثمين من غير ثمن.

3. بمناسبة قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ نشير إلى ان السنة قالوا: لا يجوز تعليل أفعال الله بشيء من الأغراض والعلل الغائية، لأنه تعالى لا يجب‏ عليه شيء، ولا يقبح منه شيء، وفي كتاب المذاهب الاسلامية للشيخ أبي زهرة (فصل وحدانية التكوين: فقرة تعليل الأفعال) ما نصه بالحرف (قال الاشاعرة، أي السنة: (ان الله سبحانه وتعالى خلق الأشياء لا لعلة ولا لباعث)، وقال الشيعة: ان جميع أفعاله عز وجل معللة بمصالح تعود على الناس، أو تتعلق بنظام الكون، كما هو شأن العليم الحكيم.. ومما استدلوا به على ذلك هذه الآية: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾، ويمكن الرد على السنة بأقوالهم وأفعالهم، لا بآية ولا برواية.. ذلك انهم يأخذون بالقياس والاستحسان والمصلحة المرسلة القائمة على رعاية اللطف بالخلق وتحسين أحوالهم في معاشهم ومعادهم، ويتخذون ـ من القياس والاستحسان والمصلحة المرسلة ـ أصولا ومدارك للأحكام الشرعية الإلهية، كما انهم ألفوا كتبا خاصة في بيان حكمة الله في أوامره ونواهيه.. ولا معنى لهذا الا انه لا يأمر ولا ينهى الا لغرض صحيح، وعلة حكيمة.

4. ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾، ونحن نطيعك رغبة في مرضاتك، وفرارا من هذا الخزي، وهكذا المؤمن الصادق يضع ثواب الله وعقابه نصب عينيه، فيطيع خوفا من هذا، وطمعا في ذاك، قال الإمام علي عليه السلام في وصف المؤمنين: (فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون)، أما من يعبد الله لذات الله، لا طمعا في جنته، ولا خوفا من ناره فهو رسول الله وتلميذه الإمام علي.

5. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾، كل من يناصر الباطل في هذه الحياة، ويتخاذل عن نصرة الحق، ولا ينصف الناس من نفسه فهو ظالم، وما له يوم الحق والعدل من نصير.. وأبلغ موعظة في هذا الباب هي خطبة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم حين شعر بدنو أجله الشريف، قال: (أيها الناس من جلدت له ظهرا فهذا ظهري، ومن أخذت له مالا فهذا مالي، ليأخذه مني ولا يخش الشحناء من قبلي، فإنها ليست من شأني، الا وان أحبكم إليّ من أخذ مني حقا ان كان له، أو حللني منه، فلقيت ربي‏ طيب النفس)

6. ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾، هذا هو شأن من طلب الحق لوجه الحق، يفتح قلبه لدعوته، ويستجيب اليها بمجرد سماعها، أيا كان الداعي، فكيف إذا كان سيد الرسل، وخاتم النبيين؟.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/232.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا﴾ الآية أي يذكرون الله في جميع حالاتهم من القيام والقعود والاضطجاع، وقد مر البحث في معنى الذكر والتفكر، ومحصل معنى الآيتين أن النظر في آيات السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار أورثهم ذكرا دائما لله فلا ينسونه في حال، وتفكرا في خلق السماوات والأرض يتذكرون به أن الله سيبعثهم للجزاء فيسألون عندئذ رحمته ويستنجزون وعده.

2. ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾، إنما قيل‏ ﴿هَذَا﴾ مع كون المشار إليه جمعا ومؤنثا إذ الغرض لا يتعلق بتمييز أشخاصها وأسمائها، والجميع في أنها خلق واحد، وهذا نظير ما حكى الله تعالى من قول إبراهيم: ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ﴾، لعدم علمه بعد بحقيقتها واسمها سوى أنها شيء، والباطل ما ليس له غاية يتعلق به الغرض قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾: (الرعد: 17) ولذلك لما نفوا البطلان عن‏ الخلق لاح لهم أن الله سيحشر الناس للجزاء، وأنه تعالى سيجزي هناك الظالمين جزاء خزي وهو النار، ولا راد يرد مصلحة العقاب وإلا لبطل الخلقة، وهذا معنى قولهم: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾

3. ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا﴾، المراد بالمنادي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقوله: ﴿أَنْ آمِنُوا﴾، بيان للنداء وأن تفسيرية، ولما ذكروا إيمانهم بالمنادي وهو الرسول وهو يخبرهم بأمور عن الله تعالى يحذرهم من بعضها كالذنوب والسيئات والموت على الكفر والذنب، ويرغبهم في بعضها كالمغفرة والرحمة وتفاصيل الجنة التي وعد الله عباده المؤمنين الأبرار بها سألوا ربهم أن يغفر لهم ويكفر عن سيئاتهم ويتوفاهم مع الأبرار وسألوه أن ينجزهم ما وعدهم من الجنة والرحمة على ما ضمنه لهم الرسل بإذن الله فقالوا: ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ الآية فقوله تعالى: ﴿عَلَى رُسُلِكَ﴾ أي حملته على رسلك وضمنه عليك الرسل، وقوله: ﴿وَلَا تُخْزِنَا﴾، أي بإخلاف الوعد، ولذا عقبه بقوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾

4. تبين من الآيات أنهم إنما حصلوا الاعتقاد بالله واليوم الآخر وبأن لله رسلا بالنظر في الآيات وأما تفاصيل ما جاء به النبي فمن طريق الإيمان بالرسول فهم على الفطرة فيما يحكم به الفطرة، وعلى السمع والطاعة فيما فيه ذلك.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/88.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ هذه الثلاث الحالات يغفل فيها كثير من الناس فذكرها، ولم يذكر الركوع والسجود فهما مظنة الذكر، فكان المراد يذكرون الله على كل حال، ومن ذلك الذكر في الصلاة من قيام لمن استطاع، وفي القعود لمن استطاع وعجز عن القيام، وعلى جنب لمن عجز عن القيام والقعود، كما جاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والجنوب: هي الأضلاع عن يمين الإنسان وشماله، أو الأضلاع وما اختلط بها.

2. ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ﴾ في صنع الله لهما كيف جعلهما عظيمتين واسعتين للعالمين في صنع قوي محكم، فيعلمون أن الله الحكيم لم يخلق هذا الخلق العظيم إلا لحكمة فهما مقر للعالمين يظهر أن خلقهما من أجلهم، وهم لم يخلقوا عبثاً إنما خلقوا ليعبدوا الله ولكنهم مخيرون في قدرتهم يقدرون على الطاعة والمعصية فمنهم المطيع ومنهم العاصي مع ما يأتيهم من الرسل والكتب ومع ذلك يموت المطيع والعاصي قبل الثواب والعقاب فتبين أن هذا الخلق العظيم العالم والعالمين هو تقدمة للآخرة وأن فيها ثواب المحسن وعقاب المسيء كما أخبرت به الرسل.

3. ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ لجأوا إلى الدعاء وسارعوا إليه عند تذكرهم الآخرة وما فيها من النار، فهذه صفة أولي الألباب الذين استعملوها فيما يهديهم فهم يذكرون الله كثيراً ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، تفكراً يؤديهم إلى ذكر البعث والحشر والحساب والنار، تفكراً يبعثهم على اللجوء إلى الله والإعتراف بحكمته، وأن هذا الخلق خُلِقَ لأمر عظيم، فسبحوا ربهم عن العبث والإهمال وطلبوا الهداية لطريق النجاة من النار واللطف لاستعمال أسباب النجاة من النار، ومعنى (قِنَا) اجعل لنا وقاية من النار، وهو يشير إلى أنها تطلب أهلها، مثل: ﴿رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ﴾ [الفرقان:65]

4. ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ قالوا: ﴿إِنَّكَ﴾ ولم يقولوا: إنه من يدخل النار، لأن الخزي من حيث أن الذي أدخله النار هو الله، فكان إدخاله النار فضيحة له ودلالة على استحقاقه لها بعمله، لأن الله أحكم الحاكمين، ودلالة على كفره لنعم الله في الدنيا وتمرده على أكرم الأكرمين الذي دعاه في الدنيا إلى رحمته، وفتح له باب توبته وعرض عليه طريق جنته فأبى إلا طاعة الشيطان واتباع هواه، فاستحق غضب الله ولعنته وعذابه الدائم.

5. فالخزي من حيث افتضاحه بالإساءة في جنب الله العظيم، ومن حيث افتضاحه بسوء تدبيره لنفسه حيث اختار لها أسباب العذاب التافهة التي لا ينبغي لعاقل أن يرضاها بدلاً من السلامة من العذاب الدائم والثواب العظيم، ألا ترى أن السارق إذا قطعت يده من أجل عشرة دراهم سرقها يكون قطعها خزياً عليه، حتى أن قومه قد يدافعون عنه ما استطاعوا لما في ذلك من العار، وفي هذه الآية ونحوها من الآيات ردّ على الجهلة الذين يقولون: (النار ولا العار) فهي منهم جهالة عظمى من حيث أن النار أشد من كل مصيبة ومن كل عار ومن حيث أنها عار على أهلها وخزي عظيم، قال في (الكشاف): (﴿فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ فقد أبلغت في إخزائه، وهو نظير قوله: ﴿فَقَدْ فَازَ﴾ ونحوه في كلامهم: من أدرك مرعى الصمّان فقد أدرك، ومن سبق فلاناً فقد سبق)، الصمّان: موضع.

6. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ الأصل: وما لهم من أنصار، أي يدفعون عنهم عذاب الله، وأقيم الظاهر مقام المضمر للدلالة على أن سبب عذابهم هو الظلم والظلم كل حيف وجور سواء في معاملة المخلوقين أو معاملة الخالق، ولذلك قال: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان:13] لأنه حيف وجور ضد العدل والإنصاف، قال الشرفي في (المصابيح): (قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: دلت الآية على وجوب ذكر الله حيث يجب في الصلاة وغيرها، وأن من تعذر عليه القيام في الصلاة صلى قاعداً ومن تعذر عليه القعود صلى على جنبه وكيف أمكن، وعلى وجوب التفكر في السماوات والأرض وما خلق الله فيهما من الآيات، وعلى وجوب اعتقاد أن الله خلق الخلق لحكمة، وعلى تنزيه الله من أن يخلق شيئاً باطلاً لا حكمة فيه، وعلى الحث على الدعاء إلى الله تعالى في أن يقينا سبحانه عذاب النار بأن يوفقنا لما يرضيه ويعصمنا عما يسخطه سبحانه، ودل قوله: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ على تحريم معاونة الظالمين؛ لأنه من النصر لهم)

7. ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ هذه من دعاء أولي الألباب المبين لاستعمالهم عقولهم فيما يهديهم، إنا سمعنا داعياً رفيع الدعاء يدعو الناس ليؤمنوا يأمرهم بالإيمان أمراً ﴿أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ حين عرفنا الحق لم نتأخر، فنتوسل بإيماننا إلى أن تغفر لنا ذنوبنا، وتكفر عنا سيئاتنا ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾

8. في قولهم: ﴿يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ دلالة على تلازم الإيمان بالله الإيمان الكامل الصحيح والإيمان المطلق الذي يتضمن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وذلك لأنه يلزم من الإيمان بالله مع وجود الرسول والقرآن الإيمان بالرسول والقرآن ويلزم من الإيمان بالله والرسول والقرآن الإيمان باليوم الآخر والعمل بما يقتضي الإيمان من الطاعة لله والحذر من عذابه، وغفران الذنب قد يكون في الدنيا لا في الآخرة وقد يكون في الدنيا والآخرة، فطلبوا الغفران المطلق، وهو العفو أي في الدنيا والآخرة بقرينة السياق، وأن يستر الله عنهم سيئاتهم حتى لا يروها حسرات عليهم يوم القيامة؛ لأن التكفير: التغطية والستر، قال الشاعر:

çيعلو طريقة متنها متواتراً.. في ليلة كفر النجومَ غمامُهاé

9. وهم قالوا: ﴿كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ فالمعنى: استر عنا سيئاتنا التي تسؤونا رؤيتها، فهم بخلاف الذين قال الله فيهم: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة:167] ﴿وَتَوَفَّنَا﴾ أمتنا ﴿مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ مع الصادقين الذين أمرتنا أن نكون معهم وذلك من حسن الخاتمة، و﴿الْأَبْرَارَ﴾ ضد الفجار وهم المتقون المنفقون المجاهدون الصابرون في البأساء والضراء وحين البأس، كما أفادته آية ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ﴾ إلى آخرها [البقرة:177]، وهم الأمة الذين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر الذين قادتهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة الطاهرون المجاهدون في سبيل الله ومن على نهجهم الذين من مات وهو معهم لم يمت ميتة جاهلية.

10. ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ هذا بقية دعاء أولي الألباب المستعملين لها في طلب الهدى طلبوا أن يؤتيهم الله ما وعدهم على رسله، والأقرب عندي: أنه أمرٌ يقوم به الرسل يوم القيامة مثل: الشهادة لهم، أو الشفاعة، أو المرافقة في الجنة؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء:69] ومثل السقي من الحوض أو كل ذلك أو ذلك وغيره، فهذا الذي حضر في ذهني.

11. ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ كقول إبراهيم عليه السلام: ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ [الشعراء:87] وهو يعم الخزي بالعذاب وبترك الثواب، بحيث يشمت بهم الأعداء، وهو سبحانه لا يخلف الوعد، و﴿لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُنْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾ [النساء:40] ولكن هذا نوع من العبادة وقد احترسوا من إيهام خلف الوعد بقولهم: ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ أو المعنى إعصمنا عن إحباط أعمالنا حتى لا نستحق الإخزاء يوم القيامة بإحباط أعمالنا وبالعذاب ويكون قولهم: ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ أي لا بد من القيامة لأنك وعدت بها.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/598.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ لأنهم يرونه في كل ظاهرة خارج نطاق الجسم، وفي كل حركة من حركات الجسد في داخله وخارجه، فلا يغيب عنهم لحظة واحدة لأنه يملك عليهم الحسّ والشعور.. وإذا ذكروا الله في ذلك كله، فإن هذا الذكر لا يتحوّل إلى حالة صوفيّة متشنجة تجعل الإنسان يغرق في الذات في مثل الغيبوبة الروحية التي تربطه باللاوعي، بل يتحوّل إلى وعي كامل للكون من خلال الله؛ فإن الله القادر العليم الحكيم لا يمكن أن يخلق شيئا عبثا، فكل شيء عنده خاضع لحكمة خفيّة أو ظاهرة، إنها الفكرة الإجماليّة التي تحكم التصوّر الإنساني في شخصية المؤمن.

2. ثم تبدأ التفاصيل الدقيقة تباعا في حركة الفكر الذي يلاحق الظاهرة في حركة قوانين الحياة، ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ﴾ فقد انطلقت الحياة من خلال الحكمة في ظواهرها الخاضعة للنظام الكوني الشامل، وهكذا أرادت للإنسان أن يتحرك على أساس الحكمة في أقواله وأفعاله، باعتباره المظهر الحيّ المتحرّك للحياة النابضة بالروح، لتتكامل الحياة في ظواهرها الكونية والإنسانية، فتنطلق من قاعدة النظام الكامل الحكيم.

3. وإذا كان الإنسان خاضعا للنظام في الحياة من خلال ما أرادته له من سلوك عمليّ، وما وعدته من مصير مشرق في حالة الانسجام مع خط الطاعة، أو مصير مظلم في حالة التمرّد في خط المعصية؛ فإننا نحن الذين يؤمنون بك ويرجون رضاك ويخافون عقابك، ندعوك بأن توفّقنا للسير في خط رضاك لنحصل على النجاة من النار، ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ التي تمثّل الخزي كل الخزي للإنسان في ما تمثله من أوضاع مهينة يتحوّل فيها إلى كمية مهملة، وشيء حقير، كأيّة حجارة مرمية في أية زاوية من زوايا جهنم؛ في الوقت الذي يواجه فيه الذلّ والحقارة في صورة العذاب الذي يتعرّض له.

4. ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ ومن هو هذا الإنسان الذي تدخله النار؟ ما هي صفته؟ إنه الإنسان الذي يظلم نفسه بالمعصية والتمرد على الله، ويظلم الناس بالغلبة والقهر، فيكون في عداد الظالمين الذين لا يملكون أيّة قوّة أمام قوة الله‏.

5. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾، ويقف هؤلاء المؤمنون أمام الله في وقفة اعتراف وابتهال، ليشهدوه على إيمانهم الذي انطلق من وعيهم لحقيقته في ما انطلقوا فيه من فكر الحقيقة، فاستجابوا لنداء الدعوة إليه من قبل الرسل: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ فلم يتطرق إلينا الشك في الله لحظة واحدة، لأننا انطلقنا في عقولنا من منطق الوعي، فلم نجمّد حركة الفكر في قضايا العقيدة، بل أطلقنا له العنان ليفتّش ويفكر ويسأل ويحاور ويناقش الآخرين كل الآخرين، فوصلنا إلى القناعة من أقرب طريق.

6. لكن الإيمان فكرة وعمل، ولا بد للعمل من إرادة وعزم، وقد تضعف الإرادة أمام اندفاع الشهوة، وقد يتلاشى العزم أمام قوة التحدي، فقد تزلّ بنا القدم في مزالق الطريق، وقد تنحرف بنا الخطى عن الصراط المستقيم، وقد نلتقي بالشيطان فيزيّن لنا المعصية، ويشوّه لنا صورة الطاعة، ويصور لنا الباطل في صورة الحق، ثم نتراجع فنعود إلى إيماننا لنحتمي به، ونرجع إلى ربّنا لنستغفره ونخضع له: ﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ فإنك تغفر الذنوب لمن تشاء وتعفو عن السيئات لمن تشاء، ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ الذين يعيشون البرّ في الطاعة عندما يطيعون، وفي التوبة عندما يخطئون ويتراجعون عن خطئهم‏ ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ من المغفرة عند التوبة، والجنّة للمخلصين المطيعين لك في عملهم وفي توبتهم، ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ بالوقوف موقف الذل أمام أعين الناس، لأنك لا تخزي التائبين المنيبين إليك، وذلك هو وعدك الحق، وأنت أصدق الواعدين‏ ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾

7. الدعاء من كلمات، بل في ما يمثله من مواقف، فإن الله لا يتعامل مع الناس إلا من خلال العمل الذي تتحرك الرحمة في داخله ومن خلاله، فالعاملون الذين يصيبون في عملهم، أو الذين يخطئون وهم يريدون الإصابة، هم القريبون من المواقع الطبيعية للاستجابة وللرحمة، أما الذين لا يعملون، بل يعيشون الحياة عجزا واسترخاء وكسلا وراحة، فهم البعيدون عن رحمته القريبون إلى سخطه، لأنهم تنكّروا لسنّة الله في الحياة ولصراطه المستقيم في العقيدة والشريعة.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏6/457.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لا شك أنّ جميع الآيات القرآنية تتمتّع بأهمية كبرى لأنّها جميعا كلام الله، وآياته التي نزلت لتربية الإنسان ونجاته وخلاصه، وإلّا أنّ هناك من الآيات ما تحظى وتتميز على سواها ببريق خاص، ومن هذا الصنف ما نقرؤه الآن من الآيات الخمسة التي تعد من القمم القرآنية العظيمة التأثير، والتي امتزجت فيها مجموعة من معارف الدين بلحن لطيف وساحر من المناجاة والدعاء، فإذا هي نعمة سماوية تدغدغ المشاعر، وتثير الشعور، وتحرك ما غفا من العقل والضمير، ولهذا أولتها الأحاديث والأخبار المروية أهمية خاصّة ومكانة سامية بين غيرها من الآيات.

2. عن عطاء بن رباح قال: قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قالت: وأي شأن لم يكن عجبا، أنّه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي ثمّ قال ذريني أتعبد لربّي، فقام فتوضأ ثمّ قام يصلي، فبكى حتى سالت دموعه على صدره فركع فبكى، ثمّ سجد فبكى، ثمّ رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فأذنه بالصلاة، فقلت: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال أفلا أكون عبدا شكورا، ولم لا أفعل وقد أنزل عليّ هذه الليلة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ ثمّ قال: (ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها)، والعبارة الأخيرة التي تأمر الجميع ـ بتأكيد كبير ـ بأن يفكروا في هذه الآيات، وقد رويت في روايت عديدة بعبارات مختلفة، وفي رواية عن أمير المؤمنين عليه السّلام‏ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا قام الصلاة الليل يسوك، ثمّ ينظر إلى السماء ثمّ يقول: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، وعن نوف البكالي قال: بت ليلة عند أمير المؤمنين عليه السّلام فكان يصلي الليل‏ كلّه، ويخرج ساعة بعد ساعة فينظر إلى السماء ويتلو القرآن ـ ويردد هذه الآيات ـ فمرّ بي بعد هدوء الليل، فقال: يا نوف أراقد أنت أم رامق؟ قلت: بل رامق ببصري يا أمير المؤمنين، قال: (يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، أولئك الذين اتخذوا الأرض بساطا، وترابها فراشا، وماءها طيبا، والقرآن دثارا، والدعاء شعارا..)

3. ولهذا يقول سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ أي أنّهم مستغرقون كامل الاستغراق في التفكير الحيوى حول هذا الكون الرائع ونظامه البديع ومبدعه، ومبديه.

4. أشير ـ في هذه الآية ـ إلى الذكر أوّلا، ثمّ إلى الفكر ثانيا، ويعني ذلك أن ذكر الله وحده لا يكفي، إنّ الذكر إنّما يعطي ثماره القيّمة إذا كان مقترنا بالفكر، كما أنّ التفكر في خلق السماء والأرض هو الآخر لا يجدي ولا يوصل إلى النتيجة المتوخاة ما لم تقترن عملية التفكر بعملية التذكر، وبالتالي لا يقرن الفكر بالذكر.

5. ما أكثر العلماء الذين يقفون ـ في تحقيقاتهم الفلكية والفضائية ـ على مظاهر رائعة من النظام الكوني البديع، ولكنّهم حيث لا يتذكرون الله ولا ينظرون إلى كل هذه المظاهر بمنظار الموحد الفاحص، بل ينظرون إليها من الزاوية العلمية المجردة البحتة، فإنّهم لا يقطفون من هذه التحقيقات ما يترتب عليها من النتائج التربوية والآثار الإنسانية، ومثلهم في ذلك مثل من يأكل طعاما ليقوى به جسمه فلا يكون لما يأكله أي أثر في تقوية فكره وروحه.

6. إنّ التفكير في أسرار الخليقة، وفي نظام السماء والأرض يعطي للإنسان وعيا خاصّا ويترك في عقله آثارا عظيمة، وأوّل تلك الآثار هو الانتباه إلى هدفية الخلق وعدم العبثية فيه، فالإنسان الذي يلمس الهدفية في أصغر أشياء هذا الكون كيف يمكنه أن يصدق بأنّ الكون العظيم بأسره مخلوق من دون هدف، ومصنوع من دون غاية؟

7. لو أنّنا نظرنا في تركيبة نبتة معينة للاحظنا أهدافا واضحة فيها، وهكذا نلاحظ مثل تلك الأهداف في قلب الإنسان وما فيه من حفر، وصمامات، وأبواب‏ وبطون، فكلّ شيء فيه مخلوق لغاية، ومجعول لهدف، وكذا الحال في طبقات العين، بل وحتى الأجفان، والأظافر، كل واحد منها يؤدي دورا، ويحقق غاية، فهل يمكن أن يكون لهذه الأجزاء الصغيرة جدا بالنسبة للكون العظيم أهداف واضحة وغايات ملحوظة، ولا يكون لمجموعه المتمثل في الظاهرة الكونية الهائلة العظيمة أي هدف مطلقا؟ ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾

8. إنّ العقلاء لا يمكنهم وهم يواجهون هذه الحقيقة الساطعة إلّا أن يقولوا بخشوع هذه الجملة: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ﴾ أي ربّنا إنّك لم تخلق هذا العالم العظيم، وهذا الكون الذي لا يعرف له حدّ، وهذا النظام المتقن البديع الّا على أساس الحكمة والمصلحة، ولهدف صحيح، فكل هذا آية وحدانيتك، وكل هذا ينزّهك عن اللغو والعبث.

9. إن أصحاب العقول السليمة الواعية بعد أن يعترفوا بالهدفية في الخليقة يتذكرون أنفسهم فورا، وكيف يعقل أن يكونوا ـ وهم ثمرة هذا الموجود نفسه وهذا الكون بالذات ـ قد خلقوا سدى، أو جاؤوا إلى هذه الحياة عبثا، وأنّه ليس هناك من هدف سوى تربيتهم وتكاملهم! إنّهم لم يأتوا إلى هذه الحياة لأجل أن يعيشوا فيها أيّاما سرعان ما تفنى وتنقضي، فذلك أمر لا يستحق كلّ هذا العناء والتعب كما لا يليق بمكانة الإنسان ولا يتناسب مع حكمة الله العليا، بل هناك دار أخرى تنتظرهم حيث يجدون فيها جزاء أعمالهم، أن خيرا فخير، وإن شرّا فشر، وفي هذه اللحظة ينتبهون إلى مسئولياتهم، ويسألون الله التوفيق للقيام بها حتى يتجنبوا عقابه، ولهذا يقول: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾

10. ثمّ يقول: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾، ويستفاد من هذه العبارات أنّ العقلاء يخافون من الخزي قبل أن يخافوا من نار جهنم، وهذا هو حال كل من يمتلك شخصية، فإنّه مستعد لأن يتحمل كلّ شيء من الأذى والمحن شريطة أن يحافظ على شخصيته، ولهذا فإن أشدّ عقوبات الآخرة على هؤلاء هو الخزي في محضر الله وعند عباده.

11. النقطة الجديرة بالاهتمام التي تنطوي عليها جملة ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ هي أن العقلاء بعد التعرف على الأهداف التربوية المطلوبة للإنسان يقفون على هذه الحقيقة وهي أن الوسيلة الوحيدة لنجاح الإنسان ونجاته هي أعماله وممارساته، ولهذا لا يمكن أن يكون للظالمين أي أنصار، لأنّهم فقدوا النصير الأصلي وهو العمل الصالح، والتزكير على لفظة (الظلم) إمّا لأجل خطورة هذه المعصية من بين المعاصي الأخرى، وإمّا لأن جميع الذنوب ترجع إلى ظلم الإنسان لنفسه، على أنّه ليست ثمّة أيّة منافاة بين هذه الآية ومسألة الشفاعة (بمعناها الصحيح) لأنّ الشفاعة (كما قلنا سابقا في بحث الشفاعة) تحتاج إلى قابلية وأهلية خاصّة في المشفوع له، وهذه الأهلية والصلاحية لشمول الشفاعة تحصل في ضوء بعض الأعمال الصالحة الخيرة.

12. ثمّ إنّ أصحاب العقول وذوي الألباب بعد التعرف على هدف الكون والغاية من الخلق ينتبهون إلى هذه النقطة، وهي أنّ هذا الطريق الوعر يجب أن لا يسلكه أحد بدون قيادة الهداة الإلهيين، ولهذا فهم يترصّدون نداء من يدعوهم إلى الإيمان بصدق وإخلاص ويستجيبون لأوّل دعوة يسمعونها منه ويسرعون إليه، ويعتنقونها بعد أن يحققوا فيها، ويتأكدوا من صدقها وصحّتها ويؤمنون بها بكلّ وجودهم، ولهذا يقولون في محضر ربّهم: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾، أي ربّنا الآن وقد أمنا بكل وجودنا وإرادتنا، ولكننا يحيط بنا طوفان الغرائز المختلفة من كلّ جانب، فربّما ننزلق وربّما نزلّ ونرتكب معصية، ربّنا فاغفر لنا زلتنا، واستر عثرتنا، وتوفّنا مع الأبرار الصالحين.

13. لقد اتصل هؤلاء بالمجتمع الإنساني اتصالا عجيبا، وتركوا التفرد والأنانية إلى درجة أنّهم يطلبون من الله في دعواتهم أن لا يجعلهم مع الأبرار والصالحين في حياتهم فحسب، بل يجعل مماتهم ـ سواء أكان مماتا طبيعيا أو بالشهادة في سبيل الله ـ كممات الأبرار الصالحين أيضا، أو يحشرهم معهم، لأن الموت مع الأشرار موتة مضاعفة، وعناء مضاعف.

14. سؤال وإشكال: هنا يطرح سؤال وهو: ماذا يعني الستر على السيئات بعد طلب غفرانها؟ والجواب: مع ملاحظة بقية الآيات القرآنية تتضح حقيقة الإجابة على هذا السؤال، فإن الآية 31 من سورة النساء تقول: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ فيستفاد من ذلك أنّ السيئات تطلق على المعاصي الصغيرة، ولهذا فإنّ العقلاء ذوي الألباب يطلبون من الله في أدعيتهم وضراعاتهم أن يغفر لهم ذنوبهم الكبيرة، ويستر ـ عقب ذلك ـ على ذنوبهم الصغيرة، ويمحو آثارها من الوجود، ثمّ أن هؤلاء العقلاء يطلبون من ربّهم في نهاية المطاف، وبعد أن يسلكوا طريق الإيمان والتوحيد وإجابة دعوة الأنبياء والقيام بالواجبات الموجهة إليهم، أن يؤتيهم وعدهم على لسان الرسل فيقولون: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ أي ربّنا لقد وفينا بالتزاماتنا، فأتنا ما وعدتنا عن طريق أنبيائك ورسلك ولا تفضحنا ولا تلحق بنا الخزي يوم القيامة: ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾

15. إنّ التركيز على (الخزي) يؤكّد مرّة أخرى هذه الحقيقة الهامّة، وهي أن هؤلاء بسبب ما يرون لشخصيتهم من أهمية واحترام يعتبرون (الخزي) من أشد ما يلحق بالإنسان من الأذى، ولهذا يركزون عليه دون سواه من ألوان العقوبات.

16. في مستدرك الوسائل نقلا عن أبي الفتوح الرّازي في تفسيره، أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال من كان له إلى الله حاجة فليقل خمس مرات ربّنا يعطى حاجته، ومصداق‏ ذلك في كلام الله في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا﴾ إلى آخر الآيات فيها ربّنا خمس مرّات.

17. من الواضح الذي لا يخفى أن التأثير الواقعي والعميق لهذه الآيات، إنما يتحقق إذا وافق اللسان في ما يقوله القلب والعمل، وأن يحل مضمون هذه الآيات الذي يكشف عن طريقة تفكير اولي الألباب وشدّة حبّهم لله، وإحساسهم بالمسؤوليات الملقاة على عواتقهم، والقيام بواجباتهم، في فؤاد قارئها وقلبه، فيحصل له نفس ذلك الخضوع والخشوع الحاصل لأولي الألباب عند مناجاتهم لله، وتضرعهم إليه.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/49.

106. المستجاب لدعواتهم وصفاتهم ومصيرهم

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈106⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ [آل عمران: 195]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ أهل لا إله إلا الله، أهل التوحيد والإخلاص، لا أخزيهم يوم القيامة(1).

__________

(1) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ رجالكم بشكل نسائكم في الطاعة، ونساؤكم بشكل رجالكم في الطاعة، كما قال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: ٧١](1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٣/٢٣٥.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ هم المهاجرون، أخرجوا من كل وجه(1).

__________

(1) أخرج ابن أبي حاتم: ٨/٨٤٤.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾، يعني: في الدين، والنصرة، والموالاة(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٣/٢٣٥.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: فأخبر الله تعالى بفعلهم، وبما أجابهم، وأنجز الله تعالى لهم موعوده، فذلك قوله سبحانه: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾، فقال: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ في الخير، ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ إلى المدينة، ﴿وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ وذلك أن كفار مكة أخرجوا مؤمنيهم من مكة، ثم قال سبحانه: ﴿وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي﴾ يعني: في سبيل دين الإسلام، ﴿وَقَاتَلُوا﴾ المشركين، ﴿وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ﴾ يعني: لأمحون عنهم ﴿سَيِّئَاتِهِمْ﴾ يعني: خطاياهم(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ يعني بـ ﴿جَنَّاتُ﴾: البساتين، ذلك الذي ذكر كان ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ والله عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾، يعني: الجنة(1).

4. روي أنّه قال: نزلت في أم سلمة أم المؤمنين ابنة أبى أمية المخزومي حين قالت: ما لنا معشر النساء عند الله خير، وما يذكرنا بشيء؟ ففيها نزلت: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ في الأحزاب إلى آخر الآية، فأشرك الله تعالى الرجال مع النساء في الثواب، كما شاركن الرجال في الأعمال الصالحة في الدنيا(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٢٢.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله عزّ وجل: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ يدل أن الوعد لهم كان مقرونا بشرط السؤال؛ لأنه قال: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ﴾، والاستجابة تكون على أثر السؤال؛ كقوله عزّ وجل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ الآية [البقرة: 186]

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾:

أ. قيل: من الخلق كلهم، لكن جعل جزاء أعمال الكفرة في الدنيا؛ كقوله تعالى: ﴿نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ﴾ [هود: 15] وأمّا المؤمنون: في الدنيا والآخرة، وأمّا الكفار فإنما يعطيهم ابتداء ليس بجزاء، وقوله عزّ وجل: ﴿نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ أي: نردها عليهم، وهم لا يبخسون أرزاقهم.

ب. وقيل: قوله: ﴿مِنْكُمْ﴾ ـ إشارة إلى المؤمنين خاصّة؛ كقوله عزّ وجل: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ الآية [التوبة: 71]

3. ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي﴾ الذين هاجروا إلى الله تعالى ورسوله طوعا، ﴿وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ أي: اضطروهم حتى خرجوا من ديارهم فهاجروا، ﴿وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي﴾ أي: في طاعتي، ﴿وَقُتِّلُوا﴾ حتى‏ ﴿وَقُتِّلُوا﴾، ويحتمل هذا كله أن هاجر بعض طوعا، وبعض أخرجوا من ديارهم حتى هاجروا، وقاتل بعض حتى قتلوا، وقاتل بعض ولم يقتلوا، وقتل بعض.

4. ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ الآية، تأويلها ظاهر.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/565.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ وسبب نزول هذه الآية أن أم سلمة سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الرجال ما بالهم يذكرون في الهجرة وما بال النساء لا يذكرون فنزلت هذه الآية.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/160.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ حكى مجاهد، وعمرو بن دينار أن سبب نزول هذه الآية أن أم سلمة قالت: يا رسول الله ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء؟ فنزلت هذه الآية.

2. ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ أي الإناث من الذكور، والذكور من الإناث.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/443.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ حمزة والكسائي وخلف (وقتلوا وقاتلوا) بتقديم المفعولين على الفاعلين الباقون (قاتلوا وقتلوا) بتقديم الفاعلين على المفعولين، وشدد التاء من (قتلوا) ابن كثير وابن عامر، وقرأ عمر بن عبد العزيز (وقتلوا) بلا الف (وقتلوا) وقال الطبري القراءة بتقديم المفعولين لا تجوز، وهذا خطأ ظاهر، لأن من اختار اسم الفاعلين على المفعولين، وجه قراءته أن القتال قبل القتل، ومن قدم المفعولين على الفاعلين وجه قراءته يحتمل أمرين:

أ. أحدهما: أن يكون المعطوف بالواو ويجوز أن يكون أو لا في المعنى، وان كان مؤخراً في اللفظ، لأن الواو، لا يوجب الترتيب وهي تخالف الفاء في هذا المعنى، وهكذا خلافهم في سورة التوبة.

ب. الثاني: أن يكون لما قتل منهم قاتلوا ولم ينهوا ولم يضعفوا لمكان من قتل منهم كما قال تعالى: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ وقوله: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي﴾ أي بأني وحذف الباء، ولو قرئ بكسر الهمزة كان جائزاً على تقدير: قال لهم: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾

2. معنى قوله: ﴿فَاسْتَجَابَ﴾ أجابهم ربهم يعني الداعين بما تقدم وصف الله إياهم وأجاب واستجاب بمعنى قال الشاعر:

çوداع دعا يا من يجيب إلى الندى... فلم يستجبه عند ذاك مجيبé

أي لم يجبه، (بأني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) من زائدة كما يقال كان من الحديث ومن الأمر ومن القصة، ومن هاهنا أحسن، لأن حرف‏ النفي قد دخل في قوله: ﴿لَا أُضِيعُ﴾ وقال قوم: من هاهنا ليست زائدة، لأنها دخلت لمعنى ولا يصلح الكلام إلا بها، لأنها للترجمة والتفسير عن قوله: ﴿مِنْكُمْ﴾ بمعنى لا أضيع عمل عامل منكم من الذكور والإناث، قالوا ولا تكون من زائدة إلا في موضع جحد.

3. ﴿لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ لم يدركه الجحد لأنك لا تقول لا أضرب غلام رجل في الدار، ولا في البيت، فيدخل ولا، لأنه لم ينله الجحد ولكن (من) مفسرة.

4. ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ معناه لأذهبنها واسقط عقابها، وهذه الآية، والتي قبلها ـ في قول البلخي ـ نزلت في المتبعين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمهاجرين معه ثم هي في جميع من سلك سبيلهم واتبع آثارهم من المسلمين، وقوله: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ أي لأغطينها وأ محونها وأحطنها عنهم بما ينالهم من ألم الهجرة والجهاد واحتمال تلك الشدائد في جنب الله، وحمل السيئات على الصغائر.

5. ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ نصب على المصدر ذكر على وجه التأكيد، لأن معنى ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ لأثيبنهم، ومثله ﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ لأن قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ﴾ معناه كتب الله عليكم ﴿وكتاب الله عليكم﴾ مؤكد ومثل ذلك ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي﴾ لأن قوله: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ قد علم منه أن ذلك صنع الله.

6. ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ روي‏ انه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما بال الرجال يذكرون، ولا تذكر النساء في الهجرة، فأنزل الله هذه الآية، روي ذلك عن مجاهد، وعمرو بن دينار، ويقال ان القائل لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كانت أم سلمة.

7. ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ قال أبو علي: يحتمل أمرين:

أ. أحدهما: أن يريد بقوله: ﴿بَعْضُكُمْ﴾ العاملين ﴿مِنْ بَعْضٍ﴾ يعني بعض العمل الذي أمرتم به.

ب. الثاني: أن يكون عني بقوله: ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ أن ذكور المؤمنين وأناثهم مستوون في أن لا يضيع الله لأحد منهم عملا، وان يجازيهم على طاعاتهم، فإناث المؤمنين بعض المؤمنين، وكذلك ذكورهم، فبعضهم كبعض في هذا الباب.

8. وقال الطبري (بعضكم) يعني الذين يذكرونني.

9.﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ من بعض في النصرة، والملة، والدين، وحكم جميعكم فيما أفعل بكم حكم أحدكم في‏ ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ﴾ ذكر منكم ولا أنثى، والاضاعة: الإهلاك، ضاع الشيء يضيع: إذا هلك، وأضاعه اضاعة وضيعه تضييعاً، ومنه الضيعة: القرية.

10. ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ يعني الذين هاجروا عن قومهم من أهل الكفر في الله إلى إخوانهم المؤمنين‏ ﴿وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ هم المهاجرون الذين أخرجهم المشركون من مكة ﴿وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي﴾ بمعنى أوذوا في طاعتي وعبادتي، وديني، وذلك هو سبيل الله‏ ﴿وَقَاتَلُوا﴾ يعني في سبيل الله‏ ﴿وَقُتِّلُوا﴾ فيها ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ يعني لأمحونها عنهم، ولأتفضلن عليهم بعفوي ورحمتي، ولأغفرنها لهم، وذلك يدل على أن إسقاط العقاب تفضل على كل حال.

11. ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا﴾ يعني جزاء لهم على أعمالهم‏ ﴿وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ معناه أن عنده من حسن الجزاء على الاعمال مالا يبلغه وصف واصف مما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/88.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. استجاب وأجاب بمعنى، قال الشاعر:

çوَدَاعٍ دعا يا مَنْ يُجيب إلى الندا... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُé

أي فلم يجبه، وإنما جاز استفعل بمعنى أفعل؛ لأن المعنى يؤول فيهما إلى شيء واحد يوجب أصولهما، وذلك أن أصل استجاب: طلب الإجابة بقصده لها، وأصل أجاب: أوقع الإجابة بفعلها.

ب. (ومنه الهجرة، وهاجر القوم من دار إلى دار: تركوا الأولى للثانية، ومنه المهاجرون، وتهجر الرجل تشبه بالمهاجرين.

2. مما روي في سبب نزول الآيات الكريمة: روي أن أم سلمة قالت: يا رسول الله، ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء؟ فأنزل الله تعالى: ﴿لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ﴾ الآية عن مجاهد وعمرو بن دينار.

3. لما سبق ذكر دعاء المؤمنين عقبه بذكر الإجابة فقال سبحانه: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ يعني أجاب للمؤمنين الَّذِينَ تقدم ذكرهم، وعن الحسن قال: ما زالوا يقولون: ربنا ربنا حتى استجاب لهم ربهم ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾:

أ. أي وقال لهم: أني لا أبطل عمل عامل منكم أيها المؤمنون، وإضاعته ألا يثاب عليه ولا ينقص من عقابه لأجله.

ب. وقيل: معناه لا أضيع أجر عمل عامل.

4. ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ رجل أو امرأة ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾:

أ. قيل: في النصرة والدين وفي الموالاة، فحكمي في جميعكم حكم واحد: أني لا أضيع عمله.

ب. وقيل: حكم جميعكم في الثواب واحد.

ج. وقيل: كلكم من آدم وحواء.

د. وقيل: المؤمنون من المؤمنات، والمؤمنات من المؤمنين في الموالاة.

هـ. وقيل: رجالكم شكل نسائكم في الطاعة، ونساؤكم شكل رجالكم عن الضحاك.

و. وقيل ﴿مِنَ﴾ بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض في مراعاة حق الجميع.

5. ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ فارقوا قومهم من أهل الكفر ﴿وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي﴾ أي في طاعتي وديني فتحملوا الأذى لأجل الدين ﴿وَقَاتَلُوا﴾ حاربوا الكفار في الدين ﴿وَقُتلُوا﴾:

أ. قيل: قتلوا بعد المُحَاربَة.

ب. وقيل: قُتل بعضهم وقاتل بعضهم.

6. ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ لأمحون عنهم ذنوبهم ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أي من تحت أبنيتها وأشجارها الأنهار ﴿ثَوَابًا﴾:

أ. يعني أثيبهم بذلك ثوابًا.

ب. وقيل: هو ثواب لهم.

7. ﴿وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ يعني عند الله للمؤمنين من حسن الثواب حيث لا يبلغه وصف واصف.

8. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن الإجابة قد تقع بفعل المستحق؛ لأن وعده بأنه لا يضيع عمل عامل وعد بالمستحق، وإذا أبطله بارتكاب كبيرة فهو المضيع لذلك دون الله تعالى.

ب. الموازنة؛ لأنه بين أنه لا يضيع عملاً، فإذا عمل طاعة يسيرة فارتكب معاصي، فلو قلنا: إنه لا ينقص من عقابه لأدى إلى إضاعته، وهذا لا يجوز.

ج. أن جميع المكلفين واحد في أنه تعالى لا يضيع عمله.

د. أن النجاة والجنة تستحق بهذه الأعمال خلاف قول الْمُجْبِرَةِ والمرجئة.

هـ. أن العمل فعلهم، وكذلك الهجرة والقتال، وذلك يبطل قول الْمُجْبِرَةِ في خلق الأفعال.

أ. قرأ ابن كثير وابن عامر والحسن ﴿وَقَاتَلُوا﴾ أولًا ﴿وَقُتِّلُوا﴾ مشددة قيل: التشديد للمبالغة، وقيل: قطعوا عن الحسن، وقرأ أبو جعفر ونافع وعاصم وأبو عمرو ﴿وَقَاتَلُوا﴾ بالألف أولاً ﴿وَقُتِّلُوا﴾ مخففة، والمعنى أنهم تقاتلوا مع الأعداء حتى قتلوا، وقرأ حمزة والكسائي ﴿وَقُتِّلُوا﴾ بغير ألف أولاً ﴿وَقَاتَلُوا﴾ بالألف بعده، وفيه وجوه:

الأول: أن الواو لا توجب الترتيب كما في قوله: ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي﴾

الثاني: على قولهم: قُتِلنا ورب الكعبة، أي قتل قومنا وعشائرنا.

الثالث: بإضمار ﴿قَدْ﴾ أي قُتِلُوا وقد قاتلوا، قال الشاعر: (تَصَابَى وَأَمْسَى عَلَاهُ الْكِبَرْ)، أي قد علاه.

ب. في الآية قراءة شاذة فقرأ محارب بن حيان ﴿قُتِلُوا﴾ على فعل ماض يعني قتلوا الكافر، وقرأ عمر بن عبد الله ﴿قُتِلُوا﴾ و﴿قُتِلُوا﴾ بغير ألف فيهما أي قتلوا الكفار وقتلهم الكفار.

ج. قرأ عيسى بن عمر ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي﴾ بكسر الألف على إضمار القول وعلى الاستجابة قول، وقراءة العامة بفتح ﴿أَنْ﴾ لوقوع الفعل عليه، وقيل: بنزع الخافض فأجابهم بأي.

9. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿مِنْ ذَكَرٍ﴾ قيل: للتبيين بالإضافة التي تجري مجرى الصفة نحو: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ وقيل: إنها مؤكدة للنفي بمعنى عمل عامل ذكرًا أو أنثى.

ب. نصب ﴿ثَوَابًا﴾ على المصدر المؤكد لما قبله؛ لأن المعنى: يثيبهم ثوابًا، ومثله ﴿كِتَابَ اللهِ﴾ و﴿صُنْعَ اللهِ﴾، بمنزلة كَتَبَ الله، وصَنَعَ الله، وقيل: نصب على القطع، عن الكسائي، وقيل: نصب على التفسير.

ج. ﴿بَعْضُكُمْ﴾ رفع لأنَّهُ ابتداء و﴿مِنْ بَعْضٍ﴾ خبر.

د. وسيئات فيعلات، وأدغمت الياء التي في السيئة في الواو؛ لأن أصلها سيوية فقلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء بعدها.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/503.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الإضاعة: الإهلاك، ضاع الشيء يضيع ضياعا: إذا هلك، وأضاع وضيع بمعنى، ومنه الضيعة: للقرية، وأما قولهم كل رجل وضيعته فإن الضيعة هاهنا بمعنى الحرفة.

ب. هاجر: فاعل من الهجر، وهو ضد الوصل، يقال: هاجر القوم من دار إلى دار أي: تركوا الأولى للثانية، وتهجر الرجل أي: تشبه بالمهاجرين.

2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. روي أن أم سلمة قالت: يا رسول الله! ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء؟ فأنزل الله هذه الآية.

ب. قال البلخي: نزلت الآية وما قبلها في المتبعين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمهاجرين معه، ثم هي في جميع من سلك سبلهم، وحذا حذوهم من المسلمين.

3. عقب سبحانه دعوة المؤمنين بذكر الإجابة فقال: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ أي: أجاب المؤمنين الذين تقدم الخبر عنهم ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ﴾ أي: بأني لا أبطل ﴿عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ رجل أو امرأة ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ في النصرة والدين والموالاة، فحكمي في جميعكم حكم واحد، فلا أضيع عمل واحد منكم، لاتفاقكم في صفة الإيمان، وهذا يتضمن الحث على مواظبة الأدعية التي في الآيات المتقدمة، والإشارة إلى أنها مما تعبد الله تعالى بها، وندب إليها وذلك لأنه تضمن الإجابة لمن دعا بها.

4. ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ إلى المدينة، وفارقوا قومهم من أهل الكفر ﴿وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ أخرجهم المشركون من مكة ﴿وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي﴾ أي: في طاعتي وعبادتي وديني، وذلك هو سبيل الله، فتحملوا الأذى لأجل الدين ﴿وَقَاتَلُوا﴾ في سبيل الله ﴿وَقُتِّلُوا﴾ فيها ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ يعني لأمحونها، ولأتفضلن عليهم بعفوي ومغفرتي ورحمتي، وهذا يدل على أن اسقاط العقاب تفضل من الله.

5. ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أي: من تحت أبنيتها وأشجارها ﴿ثَوَابًا﴾ أي: جزاء لهم ﴿مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ على أعمالهم ﴿وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾:

أ. أي: عنده من حسن الجزاء على الأعمال، ما لا يبلغه وصف واصف، ولا يدركه نعت ناعت، مما لا رأت عين، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

ب. وقيل: حسن الثواب في دوامه، وسلامته عن كل شوب من النقصان والتكدير.

6. قرأ حمزة، والكسائي وخلف: (وقتلوا وقاتلوا) بتقديم الفعل المبني للمفعول به على الفعل المبني للفاعل، والتخفيف، وقرأ الباقون بتقديم ﴿قَاتَلُوا﴾ على ﴿قُتِلُوا﴾، وشدد التاء من ﴿قُتِلُوا﴾ ابن كثير وابن عامر.. أما تقديم ﴿قَاتَلُوا﴾ على ﴿قُتِلُوا﴾ فلأن القتال قبل القتل، وحسن التشديد لتكرر الفعل، فهو مثل ﴿مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ﴾، ومن خفف ﴿قُتِلُوا﴾ فلأن فعلوا يقع على الكثير والقليل، والتشديد يختص بالكثير، وأما تقديم ﴿قُتِلُوا﴾ على ﴿قَاتَلُوا﴾ فلأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولا في المعنى، وإن كان مؤخرا في اللفظ، ويمكن أن الوجه فيه أن يكون لما قتل منهم قاتلوا ولم يهنوا ولم يضعفوا للقتل الذي وقع بهم كقوله ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾

7. مسائل لغوية ونحوية:

﴿مِنَ﴾ في قوله ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾: للتبيين والتفسير عن قوله ﴿مِنْكُمْ﴾ أي: لا أضيع عمل عامل منكم من الذكور والإناث، فهو بيان لجنس من أضيف إليه العمل، ويقال: إنها مؤكدة بمعنى النفي في لا أضيع أي: لا أضيع عمل ذكر وأنثى منكم.

﴿بَعْضُكُمْ﴾: مبتدأ وقوله ﴿مِنْ بَعْضٍ﴾ في موضع رفع بأنه خبره.

﴿ثَوَابًا﴾: مصدر مؤكد لأن معنى ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ﴾: ولأثيبنهم، ومثله قوله ﴿كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ لأن معنى قوله ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾: كتب الله عليكم هذا، فكتاب الله مصدر مؤكد.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/914.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ روي عن أمّ سلمة أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع ذكر النّساء في الهجرة بشيء؟ فنزلت هذه الآية.

2. استجاب: بمعنى أجاب، والمعنى: أجابهم بأن قال لهم: إني لا أضيع عمل عامل منكم ذكرا أو أنثى.

3. في معنى قوله تعالى: ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: بعضكم من بعض في الدّين، والنّصرة والموالاة.

ب. الثاني: حكم جميعكم في الثّواب واحد، لأنّ الذّكور من الإناث والإناث من الذّكور.

ج. الثالث: كلّكم من آدم وحوّاء.

4. ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ أي: تركوا الأوطان والأهل والعشائر ﴿وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ يعني: المؤمنين الذين أخرجوا من مكّة بأذى المشركين، فهاجروا، ﴿وَقَتلوا﴾ المشركين‏ ﴿وَقُتِّلُوا﴾، قرأ ابن كثير، وابن عامر: (وقاتلوا وقتّلوا) مشدّدة التاء، وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم: (وقاتلوا وقتلوا) خفيفة، وقرأ حمزة، والكسائيّ: و(قتلوا وقاتلوا)، قال أبو عليّ: تقديم (قتلوا) جائز، لأنّ المعطوف بالواو يجوز أن يكون أوّلا في المعنى، مؤخّرا في اللفظ.

5. ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ قال الزجّاج: هو مصدر مؤكّد لما قبله، لأنّ معنى‏ ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ﴾: لأثيبنّهم.

__________

(1) زاد المسير: 1/363.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما حكى الله تعالى عنهم:

أ. أنهم عرفوا الله بالدليل، وهو قوله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إلى قوله: ﴿لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190]

ب. ثم حكى عنهم مواظبتهم على الذكر وهو قوله: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا﴾

ج. وعلى التفكر وهو قوله: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾

د. ثم حكى عنهم أنهم أثنوا على الله تعالى وهو قولهم: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ﴾ [آل عمران: 191]

هـ. ثم حكى عنهم أنهم بعد الثناء اشتغلوا بالدعاء وهو من قولهم: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 191 ـ 194] إلى قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾

و. بين في هذه الآية أنه استجاب دعاءهم فقال: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾

2. في قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ الآية، تنبيه على أن استجابة الدعاء مشروطة بهذه الأمور، فلما كان حصول هذه الشرائط عزيزا، لا جرم كان الشخص الذي يكون مجاب الدعاء عزيزا، قال صاحب الكشاف: يقال استجابه واستجاب له، قال الشاعر:

çوداع دعا يا من يجيب إلى الندا...فلم يستجبه عند ذاك مجيب‏é

وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ﴾ [الأنفال: 34]

3. ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ﴾: قرئ بالفتح، والتقدير: بأني لا أضيع، وبالكسر على إرادة القول، وقرئ‏ ﴿لَا أُضِيعُ﴾ بالتشديد.. وليس المراد أنه لا يضيع نفس العمل، لأن العمل كلما وجد تلاشى وفنى، بل المراد أنه لا يضيع ثواب العمل، والاضاعة عبارة عن ترك الاثابة فقوله: ﴿لَا أُضِيعُ﴾ نفي للنفي فيكون اثباتا، فيصير المعنى: اني أوصل ثواب جميع أعمالهم إليكم، إذا ثبت ما قلنا فالآية دالة على أن أحدا من المؤمنين لا يبقى في النار مخلدا، والدليل عليه أنه بإيمانه استحق ثوابا، وبمعصيته استحق عقابا، فلا بد من وصولهما اليه بحكم هذه الآية والجمع بينهما محال، فأما أن يقدم الثواب ثم ينقله إلى العقاب وهو باطل بالإجماع، أو يقدم العقاب ثم ينقله إلى الثواب وهو المطلوب.

4. (من) في قوله: ﴿مِنْ ذَكَرٍ﴾ قيل للتبيين كقوله: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ [الحج: 30] وقيل: إنها مؤكدة للنفي بمعنى: عمل عامل منكم ذكر أو أنثى.

5. جمهور المفسرين فسروا الآية بأن معناها أنه تعالى قبل منهم أنه يجازيهم على أعمالهم وطاعاتهم ويوصل ثواب تلك الأعمال إليهم.

6. سؤال وإشكال: القوم أولا طلبوا غفران الذنوب، وثانيا إعطاء الثواب فقوله: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ إجابة لهم في إعطاء الثواب، فأين الإجابة في طلب غفران الذنوب؟ والجواب:

أ. لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب، لكن يلزم من حصول الثواب سقوط العقاب فصار قوله: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ اجابة لدعائهم في المطلوبين.

ب. وعندي في الآية وجه آخر: وهو أن المراد من قوله: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ أني لا أضيع دعاءكم، وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء، فكان المراد منه أنه حصلت اجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه.

7. ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ المعنى: أنه لا تفاوت في الاجابة وفي الثواب بين الذكر والأنثى إذا كانا جميعا في التمسك بالطاعة على السوية، وهذا يدل على أن الفضل في باب الدين بالأعمال، لا بسائر صفات العاملين، لان كون بعضهم ذكرا أو أنثى، أو من نسب خسيس أو شريف لا تأثير له في هذا الباب، ومثله قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: 123] وروي‏ أن أم سلمة قالت: يا رسول الله إني لأسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت هذه الآية.

8. في قوله تعالى: ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ وجوه: أحسنها أن يقال: ﴿مِن﴾ بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض، ومثل بعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، قال القفال: هذا من قولهم: فلان مني أي على خلقي وسيرتي، قال تعالى: ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ [البقرة: 249] وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من غشنا فليس منا) وقال: (ليس منا من حمل علينا السلاح)، فقوله: ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ أي بعضكم شبه بعض في استحقاق الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، فكيف يمكن إدخال التفاوت فيه؟

9. ثم قال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ والمراد من قوله: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ الذين اختاروا المهاجرة من أوطانهم في خدمة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد من الذين أخرجوا من ديارهم الذين ألجأهم الكفار إلى الخروج، ولا شك أن رتبة الأولين أفضل لأنهم اختاروا خدمة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وملازمته على الاختيار، فكانوا أفضل.

10. ﴿وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي﴾ أي من أجله وسببه‏ ﴿وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا﴾ لان المقاتلة تكون قبل القتال، قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو ﴿وَقَاتَلُوا﴾ بالألف أولا ﴿وَقُتِلُوا﴾ مخففة، والمعنى أنهم قاتلوا معه حتى قتلوا، وقرأ ابن كثير وابن عامر ﴿وَقَاتَلُوا﴾ أولا وقتلوا مشددة قيل: التشديد للمبالغة وتكرر القتل فيهم‏ كقوله: ﴿مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ﴾ [ص: 50] وقيل: قطعوا عن الحسن، وقرأ حمزة والكسائي وقتلوا بغير ألف أولا وقاتلوا بالألف بعده وفيه وجوه:

أ. الأول: أن الواو لا توجب الترتيب كما في قوله: ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي﴾ [آل عمران: 43] و.

ب. الثاني: على قولهم: قتلنا ورب الكعبة، إذا ظهرت أمارات القتل، أو إذا قتل قومه وعشائره الثالث: بإضمار (قد) أي قتلوا وقد قاتلوا.

11. ثم ان الله تعالى وعد من فعل هذا بأمور ثلاثة:

أ. أولها: محو السيئات وغفران الذنوب وهو قوله: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ وذلك هو الذي طلبوه بقولهم: ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ [آل عمران: 193]

ب. وثانيها: إعطاء الثواب العظيم وهو قوله: ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ وهو الذي طلبوه بقولهم: وآتنا ما وعدتنا على رسلك.

ج. ثالثها: أن يكون ذلك الثواب ثوابا عظيما مقرونا بالتعظيم والإجلال وهو قوله: ﴿مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ وهو الذي قالوه: ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ لأنه سبحانه هو العظيم الذي لا نهاية لعظمته، وإذا قال السلطان العظيم لعبده: اني أخلع عليك خلعة من عندي دل ذلك على كون تلك الخلعة في نهاية الشرف وقوله: ﴿ثَوَابًا﴾ مصدر مؤكد، والتقدير: لأثيبنهم ثوابا من عند الله، أي لأثيبنهم إثابة أو تثويبا من عند الله، لان قوله لأكفرن عنهم ولأدخلنهم في معنى لأثيبنهم، ثم قال: ﴿وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ وهو تأكيد ليكون ذلك الثواب في غاية الشرف لأنه تعالى لما كان قادرا على كل المقدورات، عالما بكل المعلومات، غنيا عن الحاجات، كان لا محالة في غاية الكرم والجود والإحسان، فكان عنده حسن الثواب، روي عن جعفر الصادق أنه قال من حزبه أمر فقال خمس مرات: ربنا، أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد، وقرأ هذه الآية، قال لأن الله حكى عنهم أنهم قالوا خمس مرات: ربنا، ثم أخبر أنه استجاب لهم.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 9/470.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿إِنِّي﴾ أي بأني، وقرأ عيسى بن عمر ﴿إِنِّي﴾ بكسر الهمزة، أي فقال: إني، وروى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، ألا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ الآية، وأخرجه الترمذي، ودخلت ﴿مِنَ﴾ للتأكيد، لأن قبلها حرف نفي، وقال الكوفيون: هي للتفسير ولا يجوز حذفها، لأنها دخلت لمعنى لا يصلح الكلام إلا به، وإنما تحذف إذا كان تأكيدا للجحد.

2. ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ ابتداء وخبر، أي دينكم واحد، وقيل: بعضكم من بعض في الثواب والأحكام والنصرة وشبه ذلك، وقال الضحاك: رجالكم شكل نسائكم في الطاعة، ونساؤكم شكل رجالكم في الطاعة، نظيرها قوله عز وجل: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة]، ويقال: فلان مني، أي على مذهبي وخلقي.

3. ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ ابتداء وخبر، أي هجروا أوطانهم وساروا إلى المدينة، ﴿وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ في طاعة الله تعالى، ﴿قَاتَلُوا﴾ أي وقاتلوا أعدائي، ﴿وَقُتِلُوا﴾ أي في سبيلي، وقرأ ابن كثير وابن عامر: ﴿وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا﴾ على التكثير، وقرأ الأعمش (وقتلوا وقاتلوا) لأن الواو لا تدل على أن الثاني بعد الأول، وقيل: في الكلام إضمار قد، أي قتلوا وقد قاتلوا، ومنه قول الشاعر: (تصابى وأمسى علاه الكبر) أي وقد علاه الكبر، وقيل: أي وقد قاتل من بقي منهم، تقول العرب: قتلنا بني تميم، وإنما قتل بعضهم، وقال امرؤ القيس: (فإن تقاتلونا نقتلكم) وقرأ عمر بن عبد العزيز: (وقتلوا وقتلوا) خفيفة بغير ألف.

4. ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ أي لأسترنها عليهم في الآخرة، فلا أوبخهم بها ولا أعاقبهم عليها، ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾مصدر مؤكد عند البصريين، لأن معنى ﴿لأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ لأثيبنهم ثوابا، الكسائي: انتصب على القطع، الفراء: على التفسير، ﴿وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ أي حسن الجزاء، وهو ما يرجع على العامل من جراء عمله، من ثاب يثوب.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏4/319.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَاسْتَجَابَ﴾ الاستجابة بمعنى الإجابة؛ وقيل: الإجابة عامة، والاستجابة خاصة بإعطاء المسؤول، وهذا الفعل يتعدى بنفسه وباللام، يقال: استجابه، واستجاب له، والفاء للعطف؛ وقيل: على مقدّر، أي: دعوا بهذه الأدعية فاستجاب لهم؛ وقيل: على قوله: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ﴾ وإنما ذكر سبحانه الاستجابة وما بعدها في جملة ما لهم من الأوصاف الحسنة: لأنها منه، إذ من أجيبت دعوته فقد رفعت درجته.

2. ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ أي: بأني، وقرأ عيسى بن عمرو: بكسر الهمزة، على تقدير القول، وقرأ أبيّ: بثبوت الباء، وهي للسببية، أي: فاستجاب لهم ربهم بسبب أنه لا يضيع عمل عامل منهم، والمراد بالإضاعة: ترك الإثابة.

3. ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ من: بيانية، ومؤكدة لما تقتضيه النكرة الواقعة في سياق النفي من العموم، قوله: ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ أي: رجالكم مثل نسائكم في الطاعة، ونساؤكم مثل رجالكم فيها، والجملة معترضة، لبيان كون كل منهما من الآخر باعتبار تشعبهما من أصل واحد.

4. ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ الآية، هذه الجملة تتضمن تفصيل ما أجمل في قوله: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ﴾ أي: فالذين هاجروا من أوطانهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ﴿وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ في طاعة الله عزّ وجل؛ ﴿وَقَاتَلُوا﴾ أعداء الله؛ ﴿وَقُتِلُوا﴾ في سبيل الله، وقرأ ابن كثير وابن عامر: ﴿وَقُتِلُوا﴾ على التكثير، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي: وقتلوا وقاتلوا وهو مثل قول الشاعر: (تصابى وأمسى علاه الكبر) أي: قد علاه الكبر، وأصل الواو: لمطلق الجمع بلا ترتيب، كما قال به الجمهور، والمراد هنا: أنهم‏ قاتلوا وقتل بعضهم، كما قال امرؤ القيس: (فإن تقتلونا نقتّلكم) وقرأ عمر بن عبد العزيز: وقتلوا وقتلوا.

5. معنى قوله: ﴿وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي﴾ أي: بسببه، والسبيل: الدين الحق، والمراد هنا: ما نالهم من الأذية من المشركين بسبب إيمانهم بالله، وعملهم بما شرعه الله لعباده.

6. ﴿لَأُكَفِّرَنَّ﴾ جواب قسم محذوف، وقوله: ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ مصدر مؤكد عند البصريين، لأن معنى قوله: ﴿لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ‏﴾ لأثيبنّهم ثوابا، أي: إثابة أو تثويبا كائنا من عند الله، وقال الكسائي: إنه منتصب على الحال، وقال الفراء على التفسير: ﴿وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ أي: حسن الجزاء، وهو ما يرجع على العامل من جزاء عمله، من: ثاب، يثوب: إذا رجع.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/474.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نزل فيهم وفي قول أُمِّ سلمة ـ وهو كالدعاء ـ : (يا رسول الله، ذكر الله الرجال دون النساء) قوله: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ﴾ دُعاءهم، ﴿رَبُّهُم﴾ أعطاهم مطلوبهم، وأمَّا أجاب فقد يكون كذلك، وقد يكون بمعنى إعطاء الجواب، كقولك: قد سمعت كلامك، أو سأنظر، أو لا أفعل ما تطلب، فهو أَعَمُّ من الاستجابة، ﴿أَنِّي﴾ بأنِّي، بباء التصوير أو التعدية أو السببيَّة، أي: بسبب استمرار سنَّتي على عدم تضييع الأعمال إِلَّا لمن ضيَّعها بنفسه كما قال: ﴿لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ اَوُ انثَى﴾ متعلِّق بـ (اسْتَجَابَ)، أو بحال محذوف من اسم الله، أو مِن الهاء، أي: مخاطِبًا لهم بـ (أنِّي)، بكسر الطاء، ومخاطَبين بفتحها بـ (أنِّي)، ذكَر الغالب، أو أدخل الخنثى في أحدهما على أنَّه عند الله أحدهما لا قسم ثالث، ﴿بَعْضُكُم مِّنم بَعْضٍ﴾ الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر، فأنتم سواء في الجزاء بالأعمال وترك إضاعتها، فإنَّ كون كلٍّ من الآخَر لتشعُّبهما من أصل واحد ولفرط الاتصال بينهما، ولاتِّفاقهما في الدين والعمل، مِمَّا يستدعي الشركة والاتِّحاد في الجزاء وترك الإضاعة.

2. ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ﴾ ما كانوا فيه من بلد، وشرك، وأحبَّاء، وأقارب، وأصهار لوجه الله، إلى المدينة دار الإسلام وأهله، وإلى الحبشة، وأصل الهجرة الترك والإعراض، ﴿وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ﴾ بالتضييق عليهم لا قهرا على الخروج، وَهَذَا أولى من كونه تفسيرا لـ (هَاجَرُوا)، ﴿وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي﴾ راجع إلى (أُوذُوا)، وإلى (أُخْرِجُوا)، وإلى (هَاجَرُوا)، شبَّه التضييق بنحو الشتم بالإخراج لجامع الضرِّ، وسمَّاه إخراجا استعارة أصليَّة واشتقَّ منه أخرج على التبعيَّة، ﴿وَقَاتَلُواْ﴾ مَن كَفَرَ بالله، ﴿وَقُتِلُواْ﴾ في سبيل الله، وقدَّم الأوَّل لا للترقِّي لأَنَّ القتال قبل المقتوليَّة؛ ولأنَّ كونك قاتلا لكافر أفضل من كونك مقتوله، وقد قتل صلّى الله عليه وآله وسلّم رجلا كافرا ولم يُقتل، والكلام على التوزيع؛ لأَنَّ منهم من قاتل ولم يقتله المشركون، ومنهم من أُخرِج ولم يقاتل، ومنهم من هاجر ولم يقاتل، ومنهم من قاتل ولم يهاجر.

3. ﴿لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ لا أعاقبهم عليها، فلا يرى لها أثر عقاب؛ فذلك تكفيرها، أي: سترها، أو لأمحونَّها من اللوح المحفوظ ومن صحفهم ومن حفظ الملائكة ودواوينهم، ويكتب بدلها حسنات، والصغائر تغفر باجتناب الكبائر لقوله تعالى: ﴿اِن تَجْتَنِبُوا كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مَّدْخَلاً كَرِيمًا﴾ [النساء: 31] وبه قالت المعتزلة، وقيل: بالقربات، في نحو حديث: (من الوضوء إلى الوضوء، ومن الصلاة إلى الصلاة،،،) إلى أن قال:،،، لمن اجتنب الكبائر)، وبه قال قومنا، ومن ذلك حديث: (صوم عرفة كفَّارة سنتين)، ولا تكفَّر الكبيرة بالقربات؛ لأَنَّ الكبيرة لو كفِّرت بالقربات لم تكن التوبة واجبة، وقد قال الله تعالى: ﴿وَتُوبُواْ إِلَى اللهِ جَمِيعًا اَيُّهَا الْمُومِنُونَ﴾ إلخ [النور: 31]، وأجيب عن قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّـئَاتِ﴾ [هود: 114]، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أتبع السيِّئة الحسنة تمحها)، بِأَنَّ الحسنات والحسنة التوبة، ويجمع بِأَنَّ بعض الصغائر يكفَّر بالقربات وبعضها بمجرَّد اجتناب الكبائر، أو يتكرَّر التكفير عليهنَّ مبالغة باجتناب الكبائر وبالقربات، أو يجعل الزائد حسنات له، وأقول: السيِّئات هنا يعمُّ الكبائر والصغائر، ذكر الله تعالى أنَّه لا يعذِّبهم بذنوبهم لأنَّهم تابوا، وقُبلة الأجنبيَّة كبيرة مسًّا، وكبيرة نظرا، وغفر الله للصحابيِّ الفاعل لها لتوبته لا لكونها صغيرة.

4. ﴿وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الَانْهَارُ ثَوَابًا﴾ اسم مصدر مؤكِّد للجملة قبله وليست نفسه، أي: أثيبهم ثوابا، أي: إثابة، أو حال كون الجنَّة ثوابا، أي: مثابا بها، أو مفعول مطلق لـ (أُدخِل) لأَنَّ الإدخال إثابة، والثواب: اسم مصدر بمعنى الإثابة، ويضعف جعله حالا من هاء (أُدْخِلَنَّهُمْ)، بمعنى قولك: حال كونهم ثوابا، أي: مثابين بها، ﴿مِنْ عِندِ اللهِ﴾ أي: من عندي، ومتعلَّقُه: (أثيب) محذوفا، وَهَذَا المحذوف نعت (ثَوَابًا)، أو متعلَّقه: (ثَوَابًا)، أو يتعلَّق بـ (ثَابِتًا) نعت لـ (ثَوَاب)، أو ذلك من عند الله، فهو خبر لمحذوف على جهة التعظيم والشرف لقوله: ﴿وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ مثل قوله: ﴿حُسْنُ الْمَئَابِ﴾ [آل عمران: 14]، والثواب: الجزاء، أخبرنا الله أنَّ عنده خزائن الجزاء على الطاعات، وأنَّه قادر عليه.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/95.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي﴾ أي بأني‏ ﴿لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ بيان لـ (عامل) وتأكيد لعمومه‏ ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ أي الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر، كلكم بنو آدم، وهذه جملة معترضة مبينة سبب شركة النساء مع الرجال، فيما وعد الله عباده العاملين، وروى الحافظ سعيد بن منصور في سننه عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله تعالى‏ ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ الآية ـ وقالت الأنصار: هي أول ظعينة قدمت علينا ـ ورواه الترمذي‏، والحاكم في (مستدركه) وقال: صحيح على شرط البخاريّ، ولم يخرجاه، وروى ابن مردويه عن مجاهد عن أم سلمة قالت: آخر آية نزلت‏ ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ إلى آخرها، وعن جعفر الصادق: من حزبه أمر فقال خمس مرات (ربّنا) أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد، وقرأ الآيات.

2. ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ مبتدأ، وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم‏ له والتفخيم، كأنه قال فالذين عملوا هذه الأعمال السنية وهي المهاجرة عن أوطانهم فارّين إلى الله بدينهم من دار الفتنة.

3. ﴿وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ أي التي ولدوا فيها ونشأوا ﴿وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي﴾ أي من أجله وبسببه، يريد سبيل الإيمان بالله وحده، وهو متناول لكل أذى نالهم من المشركين‏ ﴿وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا﴾ أي غزوا المشركين واستشهدوا.

4. ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ جملة قسمية، خبر المبتدأ الذي هو الموصول، وهذا تصريح بوعد ما سأله الداعون بخصوصه، بعد ما وعد ذلك عموما ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أي من تحت قصورها الأنهار، من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

5. ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ في موضع المصدر المؤكد لما قبله، فإن تكفير السيئات وإدخال الجنة، في معنى الإثابة، وأضافه إليه تعالى ليدل على أنه عظيم، لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلا كثيرا، كما قيل‏:

çإن يعاقب يكن غراما وإن يع...ط جزيلا فإنه لا يبالي‏é

6. ﴿وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ أي حسن الجزاء لمن عمل صالحا، ثم بين تعالى قبح ما أوتي الكفرة من حظوظ الدنيا، وكشف عن حقارة شأنها وسوء مغبتها، إثر بيان حسن ما أوتي المؤمنون من الثواب، بقوله:

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/485.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى﴾ عطف استجابته لهم بفاء السببية فدل على أن ما ذكر من شأنهم هو الذي أهلهم لقبول دعائهم قال محمد عبده ما مثاله مع زيادة في مسألة الرجل والمرأة: استجاب دعاءهم لصدقهم في الإيمان والذكر والفكر والتقديس والتنزيه والوصول إلى معرفة الحياة الآخرة وصدق الرسل وإيمانهم بهم وشعورهم بعد ذلك كله بأنهم ضعفاء مقصرون في الشكر محتاجون مغفرته لهم وفضله عليهم وإحسانه بهم بإيتائهم ما وعدهم، ولكن هذه الاستجابة لم تكن بعين ما طلبوا كما طلبوا، ولذلك صورها وبين كيفيتها.

2. هذا التصوير لحكمة عالية، وهي أن الاستجابة ليست إلا توفية كل عامل جزاء عمله لينبههم بذكر العمل والعامل إلى أن العبرة في النجاة من العذاب والفوز بحسن الثواب إنما هي بإحسان العمل والإخلاص فيه فإن الإنسان قد تغشه نفسه فيظن أنه محسن وهو ليس بمحسن وأنه مخلص وما هو بمخلص وأن حوله وقوته قد فنيا في حول الله وقوته وأنه لا يريد إلا وجهه تعالى في كل حركة وسكون، ويكون في الواقع ونفس الأمر مغرورا مرائيا.

3. وذكر أن الذكر والأنثى متساويان عند الله تعالى في الجزاء متى تساويا في العمل حتى لايغتر الرجل بقوته ورياسته على المرأة فيظن أنه أقرب إلى الله منها ولا تسيء المرأة الظن بنفسها فتتوهم أن جعل الرجل رئيسا عليها يقتضي أن يكون أرفع منزلة عند الله منها، وقد بين تعالى علة هذه المساواة بقوله ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ ـ فالرجل مولود من المرأة والمرأة مولودة من الرجل فلا فرق بينهما في البشرية ولا تفاضل بينهما إلا بالأعمال، أي وما تترتب عليه الأعمال ويترتب هو عليها من العلوم والأخلاق.

4. وفيه وجه آخر، وهو أن كلا منهما صنو وزوج وشقيق للآخر، وفي معنى ذلك حديث (النساء شقائق الرجال) قالوا: أي مثلهم في الطباع والأخلاق كأنهن مشتقات منهم؛ أو لأنهن معهم من أصل واحد.

5. ووجه ثالث: أنه بمعنى حديث (سلمان منا) وحديث (ليس منا من دعا إلى عصبية، فمعنى (منا): على طريقتنا وما نحن عليه لا فرق بيننا وبينه.

6. هذه الآية ترفع قدر النساء المسلمات في أنفسهن عند الرجال المسلمين، ومن علم أن جميع الأمم كانت تهضم حق المرأة قبل الإسلام تعدها كالبهيمة المسخرة لمصلحة الرجل وشهوته وعلم أن بعض الأديان فضلت الرجل على المرأة بمجرد كونه ذكرا وكونها أنثى، وبعض الناس عد المرأة غير أهل للتكاليف الدينية، وزعموا أنها ليست لها روح خالدة، ـ من علم هذا قدر هذا الإصلاح الإسلامي لعقائد الأمم ومعاملاتها حق قدره، وتبين له أن ما تدعيه الإفرنج من السبق إلى الاعتراف بكرامة المرأة ومساواتها للرجل باطل، بل الإسلام السابق، وإن شرائعهم وتقاليدهم الدينية والمدنية لا تزال تميز الرجل على المرأة، نعم إن لهم أن يحتجوا على المسلمين بالتقصير في تعليم النساء وتربيتهن؛ وجعلهن عارفات بما لهن وما عليهن؛ ونحن نعترف بأننا مقصرون تاركون لهداية ديننا حتى صرنا حجة عليه عند الأجانب وفتنة لهم.

7. أما ما يفضل به الرجال النساء في الجملة من العلم والعقل وما يقومون به من الأعمال الدنيوية الذي ربما كان سببه ما جرى عليه الناس من أحوال الاجتماع، وكذا جعل حظ الرجل من الإرث مثل حظ الأنثيين لأنه يتحمل نفقتها ويكلف ما لا تكلفه، فلا دخل لشيء من ذلك في التفاضل عند الله تعالى في الثواب والعقاب والكرامة وضدها، بل سوى الله تعالى بين الزوجين حتى في الحقوق الاجتماعية إلا مسألة القيام والرياسة فجعل للرجال عليهن درجة كما تقدم في سورة البقرة.

8. قال محمد عبده: لم يكتف بربط الجزاء بالعمل حتى بيّن أن العمل هو الذي يستحقون به ما طلبوا من تكفير السيئات ودخول الجنة فقال: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ ذكر الإخراج من الديار بعد الهجرة من باب التفصيل بعد الإجمال فالهجرة إنما كانت وتكون بالإخراج من الديار، وتستتبع ما ذكر في قوله: ﴿وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا﴾ من الإيذاء والقتال، وقرئ وقتلوا بتشديد التاء للمبالغة فمن لم يحتمل القتل بل والتقتيل في سبيل الله تعالى ويبذل مهجته لله عز وجل فلا يطمعن بهذه المثوبة المؤكدة في قوله: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ ومثل هذه الآيات الكثيرة الواردة في صفات المؤمنين كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ [الحجرات: 15] الخ وقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال: 8] الخ وقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون: 1] الآيات، وقوله: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان: 63] الآيات، وقوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ [المعارج: 19] الآيات، وقوله: ﴿وَالْعَصْرِ﴾ [العصر: 1] الخ السورة وغير ذلك.

9. هكذا يذكر الله تعالى صفات المؤمنين لينبهنا إلى أن نرجع إلى أنفسنا ونمتحنها بهذه الأعمال والصفات فإن رأيناها تحتمل الإيذاء في سبيل الله حتى القتل فلنبشرها بالصدق منها والرضوان منه تعالى وإلا فعلينا أن نسعى لتحصيل هذه المرتبة التي لا ينجى عنده غيرها، وإنما كلف الله المؤمنين الصادقين الموقنين المخلصين هذا التكليف الشاق لأن قيام الحق مرتبط به، وإنما سعادتهم ـ من حيث هم مؤمنون بقيام الحق وتأييده، والحق في كل زمان ومكان محتاج إلى أهله لينصروه على أهل الباطل الذين يقاومونه، والحق والباطل يتصارعان دائما ولكل منهما حزب ينصره فيجب على أنصار الحق أن لا يفشلوا ولا ينهزموا، بل عليهم أن يثبتوا ويصبروا، حتى تكون كلمته العليا، وكلمة الباطل هي السفلى.

10. انظر إلى حال المؤمنين اليوم تجدهم يتعللون بأن هذه الآيات نزلت في أناس مخصوصين كأنهم يترقبون أن يستجيب الله لهم ويعطيهم ما وعد المؤمنين من غير أن يقوموا بعمل مما أمر به المؤمنين ولا أن يتصفوا بوصف مما وصفهم به من حيث هم مؤمنون وما علق عليه وعده بمثوبتهم، بل وإن اتصفوا بضده وهو ما توعد عليه بالعذاب الشديد، وهذا منتهى الغرور.

11. هذه الصفات تجتمع وتفترق، فمن المهاجرين من ترك وطنه مختارا ولم يخرج منه إخراجا، بل من الصحابة من هاجر مستخفيا لئلا يمنعه المشركون، ولكن قد يقال إنهم إذا لم يكونوا أمروهم بالهجرة أمرا، وأخرجوهم من ديارهم قسرا، فإنهم قد ضيقوا عليهم المسالك، حتى ألجؤوهم إلى ذلك، ومنهم من أوذي ولم يخرجه المشركون ولا مكنوه من الخروج.. وفي الحديث أن الهجرة دائمة لا تنقطع حتى تمنع التوبة أي إلى قبيل قيام الساعة.

12. أما قوله: ﴿وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا﴾ فقد قرأه حمزة بعكس الترتيب في اللفظ (وقتلوا وقاتلوا) وقالوا فيه إن الواو لا تفيد ترتيبا، ولأن المراد إن الكفار كانوا هم البادئين فلما قتل من المؤمنين أناس قاتلوا الكفار، وشدد ابن كثير وابن عامر تاء (قتلوا) للمبالغة كما جاء في كلام محمد عبده، وقد كان المشركون يقتلون كل من قدروا على قتله من المسلمين إلا أن يكون له من يمنعه من قريب وولي.

13. أما قوله تعالى ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ فمعناه لأكفرن عنهم سيئاتهم وأدخلنهم الجنات أثيبهم بذلك ثوابا من النوع العالي الكريم الذي عند الله لا يقدر عليه غيره، والثواب اسم من مادة ثاب يثوب ثوبا أي رجع، يقال تفرق عنه أصحابه ثم ثابوا إليه وفي المجاز ثاب إليه عقله وحلمه إذا كان خرج عن مقتضى العقل والحلم بنحو غضب شديد ثم سكت عنه غضبه، ومنه جعل البيت الحرام مثابة للناس، فإنهم يعودون إليه بعد مفارقته، ولذلك قال الراغب: الثواب ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله فيسمى الجزاء ثوابا تصورا أنه هو هو، ألا ترى كيف جعل الله تعالى الجزاء نفس الفعل في قوله: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7] ولم يقل جزاءه والثواب يقال في الخير والشر، لكن الأكثر المتعارف في الخير، وعلى هذا قوله عز وجل: ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾

14. لفظ الثواب والمثوبة حيث وقع وما في معناه من ذكر الجزاء بالعبارات التي تدل على أنه عين العمل كل ذلك يؤيد المسألة التي أخذنا على نفسنا إيضاحها وإثباتها وكررنا القول فيها بعبارات وأساليب كثيرة، وهي أن الجزاء أثر طبيعي للعمل أي إن للإعمال تأثيرا في نفس العالم تزكيا فتكون بها منعمة في الآخرة أو تدسيها فتكون معذبة فيها بحسب سنة الله تعالى، فكأن الأعمال نفسها تثوب وتعود، وليس أي الجزاء أمرا وضعيا كجزاء الحكام بحسب قوانينهم وشرائعهم، وقد أشار إلى هذا المعنى بعض المدققين من العلماء لا سيما الصوفية كالغزالي ومحيي الدين بن عربي، وإذا فقه الناس هذا المعنى زال غرورهم ولم يعتمدوا في أمر ما يرجون من نعيم الآخرة ويخشون من عذابها إلا على ما أرشدهم إليه كتاب الله من العمل الصالح دون أشخاص الصالحين وتسمية أنفسهم (محاسيب عليهم) ودعائهم والاستغاثة بهم(2).

15. ثم قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾، قال محمد عبده كغيره: إن هذا تأكيد لما قبله من كون الثواب من عند الله ليبين أن هذا الجزاء بمحض الفضل والكرم الإلهي، وأنه يقع بإرادته واختياره تعالى؛ وإن كان جزاء على عمل.

16. إن كون الجزاء بفضل الله ورحمته لا ينافي ما قلناه في معنى الجزاء والثواب لأن كل ما يصيب العباد من خير في الدنيا فهو من فضله تعالى ورحمته، وإن كان قد جعل له أسبابا هو أثر طبيعي لها المطر والنبات والصحة وغير ذلك، والله أكرم وأرحم وأعلم وأحكم.

__________

(1) تفسير المنار: ‏4/306.

(2) ذكر هنا بعض الفوائد والمسائل عن الرازي سبق ذكرها.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ أي فاستجاب لهم ربهم دعاءهم، لصدقهم في إيمانهم وذكرهم وتفكيرهم وتنزيههم لربهم وتصديقهم للرسل وشعورهم بالضعف والتقصير في الشكر واحتياجهم إلى المغفرة، ونستخلص من هذه الآية أمورا:

أ. إن الاستجابة يصح أن تكون بغير ما طلب، فقد سألوه غفران الذنوب وتكفير السيئات والوفاة مع الأبرار، فأجابهم بأن كل عامل سيوفى جزاء عمله، وفي ذلك تنبيه إلى أن العبرة في النجاة من العذاب والفوز بحسن الثواب، إنما تكون بإحسان العمل والإخلاص فيه.

ب. إن الذكر والأنثى متساويان عند الله في الجزاء متى تساويا في العمل حتى لا يغترّ الرجل بقوته ورئاسته على المرأة فيظن أنه أقرب إلى الله منها، وإن الله قد بين علة هذه المساواة بقوله: بعضكم من بعض، فالرجل مولود من المرأة والمرأة مولودة من الرجل، فلا فرق بينهما في البشرية ولا تفاضل إلا بالأعمال.

ج. إنها رفعت قدر النساء المسلمات في أنفسهن وعند الرجال المسلمين.

د. إن هذا التشريع قد أصلح معاملة الرجل للمرأة واعترف لها بالكرامة، وأنكر تلك المعاملة القاسية التي كانت تعاملها بها بعض الأمم فقد كان بعضها يعدها كالبهيمة المسخّرة لمصلحة الرجل، وبعضها يعدّها غير أهل للتكاليف الدينية، إذ زعموا أنه ليس لها روح خالد، فما زعمه الإفرنج من أنهم السبّاقون إلى الاعتراف بكرامة المرأة ومساواتها للرجل ليس مبنيا على أساس صحيح، فالإسلام هو الذي سبق كل الشرائع في هذا، ولا تزال شرائعهم الدينية والمدنية تميّز الرجل من المرأة، نعم إن المسلمين قصّروا في تعليم النساء وتربيتهن، لكن هذا لا يصلح حجة على الدين نفسه.

هـ. إن ما يفضل به الرجال النساء من العلم والعقل وما يقومون به من الأعمال الدنيوية التي جرى عرف المجتمع على إسنادها إلى الرجال، وجعل حظ الرجل في الإرث مثل حظ الأنثيين لأنه يتحمل نفقة امرأته، فلا دخل لشيء منه في التفاضل عند الله بثواب وعقاب.

2.﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، بعد أن ربط الله الجزاء بالعمل، بيّن أن العمل الذي يستحقون به ما طلبوا من تكفير السيئات، ودخول الجنات، هو الهجرة من الوطن في خدمة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، والإخراج من الديار، بإلجاء الكافرين إياهم إلى الخروج والإيذاء في سبيل الله والقتال والقتل وبذل‏ لمهجة لله عزّ وجل، كل أولئك يكفر الله به عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ولهذه الآية نظائر في الكتاب الكريم كقوله‏: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ وقوله‏: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾

3. ذكر الله صفات المؤمنين هكذا، لينبهنا إلى أن نروز أنفسنا ونختبرها، فإن رأيناها تحتمل الأذى في سبيل الله حتى القتل فلها الرضوان من ربها، وإلا فلنروّضها حتى تصل إلى هذه المنزلة، والسر في هذا التكليف الشاق أن الحق لا يقوى إلا إذا وجد من ينصره ويؤيده، ويقاوم الباطل وأعوانه، حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الباطل هي السفلى، فيجب على أنصار الحق ألا يفشلوا ولا ينهزموا، بل يثبتوا مهما لاقوا من المحن والأرزاء، فقد كتب الله النصر لعباده المؤمنين.

4. ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ الثواب والمثوبة الجزاء، وقد جعله الدين أثرا طبيعيا للعمل، فللأعمال تأثير في نفس العامل بتزكيتها فتكون منعمة في الآخرة، أو تدسيتها فتكون معذبة فيها.

5. وعد الله تعالى من فعل ذلك بأمور ثلاثة:

أ. محو السيئات وغفران الذنوب ودل على ذلك بقوله: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ وذلك ما طلبوه بقولهم‏ ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾

ب. إعطاء الثواب العظيم وهو قوله: ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ وهذا ما طلبوه بقولهم: ﴿وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾

ج. أن يكون هذا الثواب عظيما مقرونا بالتعظيم والإجلال، وهو قوله: ﴿مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ وهذا ما طلبوه بقولهم‏ ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ والمعنى لأكفرنّ‏ عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم الجنات ولأثيبنهم بذلك ثوابا من الله لا يقدر عليه غيره.

6. ﴿وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ أي هو ثواب من عنده مختص به بحيث لا يقدر عليه غيره، وهذه الجملة تأكيد لشرف ذلك الثواب، لأنه تعالى قادر على كل شيء، غنى عن كل أحد، فهو لا محالة في غاية الجود والكرم والإحسان.

__________

(1) تفسير المراغي: 4/166.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم.. طال بالرد عليه والاستجابة له كذلك: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ وهي استجابة مفصلة، وتعبير مطول، يتناسق مع السمة الفنية للتعبير القرآني؛ وفق مقتضى الحال، ومتطلبات الموقف، من الجانب النفسي والشعوري‏.

2. ثم نخلص لمحتويات هذه الاستجابة الإلهية، ودلالتها على طبيعة هذا المنهج الإلهي ومقوماته، ثم على طبيعة منهج التربية الإسلامية وخصائصه.. إن أولي الألباب هؤلاء، تفكروا في خلق السماوات والأرض، وتدبروا اختلاف الليل والنهار، وتلقوا من كتاب الكون المفتوح، واستجابت فطرتهم لإيحاء الحق المستكن فيه، فاتجهوا إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع الواجف الطويل العميق.. ثم تلقوا الاستجابة من ربهم الكريم الرحيم، على دعائهم المخلص الودود، فماذا كانت الاستجابة؟ لقد كانت قبولا للدعاء، وتوجيها إلى مقومات هذا المنهج الإلهي وتكاليفه في آن: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾

3. إنه ليس مجرد التفكر ومجرد التدبر، وليس مجرد الخشوع والارتجاف، وليس مجرد الاتجاه إلى الله لتكفير السيئات والنجاة من الخزي ومن النار.. إنما هو (العمل)، العمل الإيجابي، الذي ينشأ عن هذا التلقي، وعن هذه الاستجابة، وعن هذه الحساسية الممثلة في هذه الارتجافة، العمل الذي يعتبره الإسلام عبادة كعبادة التفكر والتدبر، والذكر والاستغفار، والخوف من الله، والتوجه إليه بالرجاء، بل العمل الذي يعتبره الإسلام الثمرة الواقعية المرجوة لهذه العبادة، والذي يقبل من الجميع: ذكرانا وإناثا بلا تفرقة ناشئة من اختلاف الجنس، فكلهم سواء في الإنسانية ـ بعضهم من بعض ـ وكلهم سواء في الميزان.

4. ثم تفصيل للعمل، تتبين منه تكاليف هذه العقيدة في النفس والمال؛ كما تتبين منه طبيعة المنهج، وطبيعة الأرض التي يقوم عليها، وطبيعة الطريق وما فيه من عوائق وأشواك، وضرورة مغالبة العوائق، وتكسير الأشواك، وتمهيد التربة للنبتة الطيبة، والتمكين لها في الأرض، أيا كانت التضحيات، وأيا كانت العقبات: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾

5. وقد كانت هذه صورة الداعين المخاطبين بهذا القرآن أول مرة، الذين هاجروا من مكة، وأخرجوا من ديارهم، في سبيل العقيدة، وأوذوا في سبيل الله لا في أي غاية سواه، وقاتلوا وقتلوا.. ولكنها صورة أصحاب هذه العقيدة في صميمها.. في كل أرض وفي كل زمان.. صورتها وهي تنشأ في الجاهلية ـ أية جاهلية ـ في الأرض المعادية لها ـ أية أرض ـ وبين القوم المعادين ـ أي قوم ـ فتضيق بها الصدور، وتتأذى بها الأطماع والشهوات، وتتعرض للأذى والمطاردة، وأصحابها ـ في أول الأمر ـ قلة مستضعفة.. ثم تنمو النبتة الطيبة ـ كما لا بد أن تنمو ـ على الرغم من الأذى، وعلى الرغم من المطاردة، ثم تملك الصمود والمقاومة والدفاع عن نفسها، فيكون القتال، ويكون القتل.. وعلى هذا الجهد الشاق المرير يكون تكفير السيئات، ويكون الجزاء ويكون الثواب.

6. هذا هو الطريق.. طريق هذا المنهج الرباني، الذي قدر الله أن يكون تحققه في واقع الحياة بالجهد البشري، وعن طريق هذا الجهد، وبالقدر الذي يبذله المؤمنون المجاهدون في سبيل الله، ابتغاء وجه الله، وهذه هي طبيعة هذا المنهج، ومقوماته، وتكاليفه.. ثم هذه هي طريقة المنهج في التربية، وطريقته في التوجيه، للانتقال من مرحلة التأثر الوجداني بالتفكر والتدبر في خلق الله؛ إلى مرحلة العمل الإيجابي وفق هذا التأثر تحقيقا للمنهج الذي أراده الله‏.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/549.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ إشارة صريحة إلى أن المرأة والرجل على سواء عند الله، في الجزاء، ثوابا أو عقابا، وأنها ليست في منزلة دون منزلة الرجل، بل هما على درجة واحدة من الأهلية واحتمال التّبعة، وحمل الأمانة.. وكيف لا يكون هذا وهما ـ المرأة والرجل ـ من خلق واحد، فالمرأة تلد الذكر والأنثى.. والرجل يولد له الذكر والأنثى.. والذكر ولد الأنثى، والأنثى بنت الرجل.. فكيف يكون لأحدهما فضل على الآخر قائما على أصل الخلقة؟ فإن كان ثمة فضل فهو فيما يتفاضل فيه الناس، بالعمل في مجال الخير والإحسان.

2. في قوله تعالى: ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ إشارة إلى أن هذا الجزاء الذي يجزونه، هو فضل عليهم من الله سبحانه وتعالى، إذ هداهم إلى الإيمان، ووفقهم للعمل الصالح، الذي أنزلهم منازل الرضا والقبول عند الله.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏2/675.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ دلّت الفاء على سرعة الإجابة بحصول المطلوب، ودلّت على أنّ مناجاة العبد ربّه بقلبه ضرب من ضروب الدعاء قابل للإجابة، و(استجاب) بمعنى أجاب عند جمهور أئمّة اللغة، فالسين والتاء للتأكيد، مثل: استوقد واستخلص، وعن الفرّاء، وعليّ بن عيسى الربعي: أنّ استجاب أخصّ من أجاب لأنّ استجاب يقال لمن قبل ما دعي إليه، وأجاب أعمّ، فيقال لمن أجاب بالقبول وبالردّ، وقال الراغب: الاستجابة هي التحرّي للجواب والتهيّؤ له، لكن عبّر به عن الإجابة لقلّة انفكاكها منها، ويقال: استجاب له واستجابة، فعدّي في الآية باللام، كما قالوا: حمد له وشكر له، ويعدّي بنفسه أيضا مثلهما، قال كعب بن سعد الغنوي، يرثي قريبا له:

çوداع دعا يا من يجيب إلى الندا...فلم يستجبه عند ذاك مجيب‏é

2. تعبيرهم في دعائهم بوصف‏ ﴿رَبِّنَا﴾ دون اسم الجلالة لما في وصف الربوبية من الدلالة على الشفقة بالمربوب، ومحبّة الخير له، ومن الاعتراف بأنّهم عبيده ولتتأتّى الإضافة المفيدة التشريف والقرب، ولردّ حسن دعائهم بمثله بقولهم: (ربّنا، ربّنا)

3. معنى نفي إضاعة عملهم نفي إلغاء الجزاء عنه: جعله كالضائع غير الحاصل في يد صاحبه، فنفي إضاعة العمل وعد بالاعتداد بعملهم وحسبانه لهم، فقد تضمّنت الاستجابة تحقيق عدم إضاعة العمل تطمينا لقلوبهم من وجل عدم القبول، وفي هذا دليل على أنّهم أرادوا من قولهم: ﴿وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ [آل عمران: 194] تحقيق قبول أعمالهم والاستعاذة من الحبط.

4. ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ بيان لعامل ووجه الحاجة إلى هذا البيان هنا أنّ الأعمال التي أتوا بها أكبرها الإيمان، ثم الهجرة، ثم الجهاد، ولمّا كان الجهاد أكثر تكرّرا خيف أن يتوهّم أنّ النساء لا حظّ لهنّ في تحقيق الوعد الذي وعد الله على ألسنة رسله، فدفع هذا بأنّ للنساء حظّهنّ في ذلك فهنّ في الإيمان والهجرة يساوين الرجال، وهنّ لهنّ حظّهنّ في ثواب الجهاد لأنّهن يقمن على المرضى ويداوين الكلمى، ويسقين‏ الجيش، وذلك عمل عظيم به استبقاء نفوس المسلمين، فهو لا يقصر عن القتال الذي به إتلاف نفوس عدوّ المؤمنين.

5. ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ (من) فيه اتّصالية أي بعض المستجاب لهم متّصل ببعض، وهي كلمة تقولها العرب بمعنى أنّ شأنهم واحد وأمرهم سواء، قال تعالى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ﴾ [التوبة: 67].. وقولهم: هو منّي وأنا منه، وفي عكسه يقولون كما قال النابغة: (فإنّي لست منك ولست منّي)، وقد حملها جمهور المفسّرين على معنى أنّ نساءكم ورجالكم يجمعهم أصل واحد، وعلى هذا فموقع هذه الجملة موقع التعليل للتعميم في قوله: ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ أي لأنّ شأنكم واحد، وكلّ قائم بما لو لم يقم به لضاعت مصلحة الآخر، فلا جرم أن كانوا سواء في تحقيق وعد الله إيّاهم، وإن اختلفت أعمالهم وهذا كقوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ [النساء: 32]

6. الأظهر عندي أن ليس هذا تعليلا لمضمون قوله: ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ بل هو بيان للتساوي في الأخبار المتعلّقة بضمائر المخاطبين أي أنتم في عنايتي بأعمالكم سواء، وهو قضاء لحقّ ما لهم من الأعمال الصالحة المتساوين فيها، ليكون تمهيدا لبساط تمييز المهاجرين بفضل الهجرة الآتي في قوله: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾، الآيات.

7. ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ تفريع عن قوله: ﴿لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ﴾ وهو من ذكر الخاصّ بعد العامّ للاهتمام بذلك الخاصّ، واشتمل على بيان ما تفاضلوا فيه من العمل، وهو الهجرة التي فاز بها المهاجرون، والمهاجرة: هي ترك الموطن بقصد استيطان غيره، والمفاعلة فيها للتقوية كأنّه هجر قومه وهجروه لأنّهم لم يحرصوا على بقائه، وهذا أصل المهاجرة أن تكون لمنافرة ونحوها، وهي تصدق بهجرة الذين هاجروا إلى بلاد الحبشة وبهجرة الذين هاجروا إلى المدينة.

8. عطف قوله: ﴿وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ على‏ ﴿هَاجَرُوا﴾ لتحقيق معنى المفاعلة في هاجر أي هاجروا مهاجرة لزّهم إليها قومهم، سواء كان الإخراج بصريح القول أم بالإلجاء، من جهة سوء المعاملة، ولقد هاجر المسلمون الهجرة الأولى إلى الحبشة لما لاقوه من سوء معاملة المشركين، ثم هاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هجرته إلى المدينة والتحق به المسلمون كلّهم، لما لاقوه من أذى المشركين، ولا يوجد ما يدلّ على أنّ المشركين أخرجوا المسلمين، وكيف واختفاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عند خروجه إلى المدينة يدلّ على حرص المشركين على صدّه عن الخروج، ويدلّ لذلك أيضا قول كعب:

çفي فتية من قريش قال قائلهم‏...ببطن مكّة لمّا أسلموا زولواé

أي قال قائل من المسلمين اخرجوا من مكّة، وعليه فكلّ ما ورد ممّا فيه أنّهم أخرجوا من ديارهم بغير حقّ فتأويله أنه الإلجاء إلى الخروج، ومنه قول ورقة ابن نوفل: (يا ليتني أكون معك إذ يخرجك قومك)، وقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم له: (أو مخرجيّ هم؟ فقال: ما جاء نبيء بمثل ما جئت به إلّا عودي)

9. ﴿وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي﴾ أي أصابهم الأذى وهو مكروه قليل من قول أو فعل، وفهم منه أنّ من أصابهم الضرّ أولى بالثواب وأوفى، وهذه حالة تصدق بالذين أوذوا قبل الهجرة وبعدها.

10. ﴿وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا﴾ جمع بينهما للإشارة إلى أنّ للقسمين ثوابا، وقرأ الجمهور: وقاتلوا وقتلوا، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: وقتلوا وقاتلوا ـ عكس قراءة الجمهور ـ ومآل القراءتين واحد، وهذه حالة تصدق على المهاجرين والأنصار من الذين جاهدوا فاستشهدوا أو بقوا.

11. ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾.. مؤكّد بلام القسم، وتكفير السيّئات تقدّم آنفا.

__________

(1) التحرير والتنوير: 3/314.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه إجابة الدعاء المتكرر الذي ابتهلوا به لربهم، وقد تكررت ضراعتهم لله تعالى بتكرار كلمة (ربنا)، إذ قد تكررت خمس مرات، وقد قال الحسن البصرى: (ما زالوا يقولون ربنا حتى استجاب لهم) وقال الإمام جعفر الصادق: (من حزبه أمر، فقال خمس مرات (ربنا) أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد، قيل: وكيف كان ذلك؟ قال اقْرَؤُوا إن شئتم: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا﴾ الآية.. والمراد من قول حفيد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن نذكر (ربنا) ضارعين خاضعين خاشعين، مدركين معنى الربوبية والألوهية، ومذعنين لأحكامه.

2. ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ الفاء للترتيب، فالاستجابة معقبة لهذا الدعاء الضارع، والاستجابة معناها هنا الإجابة، وأصل معنى الاستجابة التحري والتهيؤ للجواب، وإذا كان معناها هنا الإجابة، فالمؤدى أنها إجابة مهيأة معدة لهم قد محصوا قبلها، وإجابة الله لهم دليل على استحقاقهم لرحمته.

3. وقد أجابهم سبحانه إجابة تدل على كمال عدله، فقد قال سبحانه: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ فإذا كان سيجزيهم الجزاء الأوفى فلأنهم عملوا خيرا، وسبحان الله الشاكر العليم، هم يطلبون الجنة منحة من الله، لأنهم لا يعتقدون أن عملهم يدخلهم الجنة استصغارا لأعمالهم بجوار نعمة رب العالمين عليهم، والله الكريم المنان يبين لهم أن ما ينالون من خير من عملهم، وأن الله إذا لم يثبهم لكان مضيعا لعمل الخير الذي قاموا به، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ففي الآية الكريمة إشارة إلى عدله ورحمته، وبيان القانون الأمثل للعدل، وهو أن يكون الجزاء من جنس العمل‏ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة]

4. في الجزاء بين الذكر والأنثى، ويروى أن السيدة أم سلمة قالت: يا رسول الله ألا أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾

5. في التعبير باللفظ السامي (ربهم) إشارة إلى أن الذي يجزيهم هو خالقهم ومربيهم والمنعم عليهم، وفيه مشاكلة بين لفظ الدعاء والإجابة، ومعنى قوله تعالى: ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ أي أن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر، فأنتم جنس واحد يتمم بعضه بعضا، فلا تحرم الأنثى جزاء ولا يحابى الذكر دونها، فهذا النص السامي فيه تعليل لمعنى التسوية في الجزاء بين الذكر والأنثى، وبعض العلماء فسر قوله تعالى: ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ أنها لعموم أجناس الناس، أي أنكم جميعا أيها الناس بعضكم من بعض لا فرق بين عربي وأعجمي، ولا أسود ولا أبيض، فالجزاء من جنس العمل أيا كان العامل‏ ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات‏] وهذا النص الكريم يشير إلى عدة معان سامية:

أ. أولها: أن المرأة ليست شيطانة ولا نجسا، بل لها كل ما للرجل وإن كان له درجة في الدنيا لتنظيم الحياة.

ب. ثانيها: أن العمل له جزاؤه من غير نظر إلى قبيلة العامل أو لونه.

ج. ثالثها: أن استجابة الله ثابتة من وقت عمل العامل.

6. وقد بين سبحانه الأعمال التي استحقت الإجابة من هؤلاء الأبرار، فقال: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾، في هذا النص تعداد للأعمال الصالحات التي قام بها هؤلاء المؤمنون الأولون، واستحقوا بها نعيم الجنة، وتوقوا بها عذاب النار، وهى أمور ثلاثة آخذ بعضها بحجز بعض، ومتلاقية في معناها ومغزاها:

أ. أول هذه الأمور أنهم هاجروا وأخرجوا من ديارهم فهم هجروا مغانيهم التي تربوا فيها غير راغبين ولا محبين للخروج، بل ملجئين مضطرين، ولذلك روى أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال مخاطبا مكة عندما خرج منها: (إنك أحب أرض الله إلى، ولولا أن أهلك أخرجونى ما خرجت) ويروى أن ورقة بن نوفل قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ليتني أكون جذعا إذ يخرجك قومك، فقال له صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أو مخرجىّ هم) قال ما أوتى أحد بمثل ما أوتيت إلا عودى‏ والله تعالى يقول: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ [الأنفال‏] فكان الإخراج سبب الهجرة، ولقد جاء في التفسير الكبير للفخر الرازي أن كلمة هاجروا يراد بها الهجرة اختيارا، والإخراج هو الإخراج اضطرارا، وإني أقول: إن هذه التفرقة لم تكن في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وربما تكون من بعد ذلك، فمن الناس من يخرج من ديار الشرك أو الكفر مختارا ليكون قوة لأهل الإسلام، ومنهم من يخرج اضطهادا وإيذاء، كما فعل كفار اليوم باللاجئين المسلمين.

ب. والأمر الثاني الذي استحقوا به الجزاء الأوفى هو أنهم تحملوا الأذى في سبيل الله تعالى، فهم أوذوا في مكة قبل الهجرة، واستمر الإيذاء بعدها، وكل ذلك في سبيل الله، وفي سبيل الحق وإعلائه، وجعل كلمته هي العليا، وكلمة الباطل هي السفلى، وإن هذا يزكى الخير فيهم، فإنهم ما أخرجوا من ديارهم، وهجروا أحباءهم وذويهم إلا في سبيل الله تعالى.

ج. والأمر الثالث: أنهم قاتلوا في سبيل الله تعالى فجاهدوا الأعداء واستشهدوا في هذا القتال، فلهم فضلان: فضل القتال والتقدم، وفضل الاستمرار فيه والشهادة في سبيل الحق.

7. وقد بين سبحانه وتعالى الجزاء بقوله تعالت كلماته: ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾، والسيئات هي ما تسوء، ومعنى تكفيرها المبالغة في سترها، حتى تعتبر نسيا منسيا، وهذا أولى الجزاء، الثاني: إدخالهم الجنة، وقد صورها بأقرب صور نراها للنعيم في الدنيا، وهى الجنة التي تجرى الأنهار من تحتها، هذا، وإن نعيم الجنة حسى، وهو فوق ما نراه في الدنيا، وإن كان تصويره لا يكون إلا بما نراه، فإن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وفي تقديم تكفير السيئات على إدخال الجنة ما يسميه العلماء التخلية قبل التحلية، أي تطهيرهم مما كان منهم من سيئات، ثم تحليتهم بأعظم نعيم يكون في الآخرة.

8. وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك الجزاء بـ (اللام) الدالة على القسم، و(بنون التوكيد) الثقيلة، وبتوكيد معنى الكلام كله بالمصدر ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ إذ هو مصدر لما تضمنه معنى‏ ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ ومعناه: لأثيبنهم ثوابا، وقد أكد ذلك الثواب بأنه من عند الله تعالى ذي الجلال والإكرام، وإذا كان من عند الله فهو يتضمن رضوانه، ورضوانه سبحانه وتعالى أكبر، كما قال تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة]

9. الثواب أصله من رجوع الشيء إلى حالته، فكأن الجزاء على العمل رجوع بالعمل إلى الحال التي يكون عليها أو يستحقها، وقد قال الراغب في ذلك: (والثواب ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله، فيسمى الجزاء تصورا أنه هو هو (أي أن الجزاء هو ذات العمل) ألا ترى كيف جعل الله الجزاء نفس العمل: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة] ولم يقل جزاه، والثواب يقال في الخير والشر، لكن الأكثر المتعارف في الخير، وعلى هذا قوله عزّ وجل: ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾

10. وقد ختم سبحانه وتعالى النص الكريم بقوله تعالى: ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ لبيان اختصاصه سبحانه بالثواب الحسن كأن كل جزاء للأعمال في الدنيا لا يعد حسنا بجوار ما أعده الله تعالى للمحسنين من عباده وما في الدنيا من ثمرات الأعمال لا يعد شيئا.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1553.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ العبرة بالعمل، لا بنسب العامل وعنصره، ولا برجولته وأنوثته، فالكل سواء في الإنسانية عند الإسلام، وهذا تقرير لحق المرأة وكرامتها، ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾، فالرجل أبو المرأة، والمرأة أم الرجل، وكل منهما أخ وزوج للآخر، والجميع من أصل واحد، كلكم من آدم، وآدم من تراب، وفي الحديث: (النساء شقائق الرجال)، وسبق الكلام عن المرأة في الآية 228 من سورة البقرة.

2. ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾، بعد ان ربط سبحانه الجزاء بالعمل الصالح، لا بالعنصر ولا (بالجنس الخشن أو اللطيف)

3. بعد هذا بيّن ان الأعمال التي يضاعف الثواب عليها هي:

أ. خروج المؤمن مختارا من وطنه الذي لا يمكن اقامة دينه فيه إلى بلد يمكن فيه ذلك، ومن أجل هذه الآية، والآية 97 من سورة النساء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ من أجل هاتين الآيتين أفتى الفقهاء بتحريم المقام على المستضعف في بلد الكفر الذي لا يستطيع فيه أداء الفرائض، وشعائر الإسلام، وأوجبوا عليه الهجرة والرحيل إلى بلد مسلم يؤدي فيه ما أوجبه الله عليه إلا إذا عجز، ولم يتمكن من الهجرة، ومن المؤسف ان بعض الأغنياء من شبابنا المسلم في هذا العصر يشدون الرحال إلى أمريكا وأوروبا لا لشيء إلا للفسق والفجور، والزنا والخمور.

ب. إخراج المؤمنين قهرا من ديارهم، كما فعل مشركو قريش بمن آمن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكما فعلت إسرائيل ربيبة الاستعمار بأهل فلسطين.

ج. الإيذاء في سبيل الحق.. وما من أحد اتبع الحق إلا أوذي من أجله، وجاء في الحديث، يبتلى الرجل على حسب دينه، فان كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وان كان في دينه رقيقا ابتلي على قدر دينه، ولا شيء أعظم أجرا عند الله من احتمال الأذى في دين الله والصبر عليه.. اللهم اجعلنا من الصابرين.

د. التضحية في النفس في سبيل الحق.

4. كل هؤلاء يمحو الله سيئاتهم، وفوق ذلك يثيبهم ثوابا يليق بجلاله وعظمته، وتكرار لفظ الثواب والجلالة ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ إيماء إلى ان ثوابه ليس كمثله ثواب، كما انه جل وعلا ليس كمثله شيء.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/234.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ الآية التعبير بالرب وإضافته إليهم يدل على ثوران الرحمة الإلهية ويدل عليه أيضا التعميم الذي في قوله: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾، فلا فرق عنده تعالى بين عمل وعمل، ولا بين عامل وعامل، وعلى هذا فقوله تعالى في مقام التفريع: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا﴾ الآية في مقام تفصيل صالحات الأعمال لتثبيت ثوابها، والواو للتفصيل دون الجمع حتى يكون لبيان ثواب المستشهدين من المهاجرين فقط.

2. الآية مع ذلك لا تفصل إلا الأعمال التي تندب إليها هذه السورة وتبالغ في التحريض والترغيب فيها، وهو إيثار الدين على الوطن وتحمل الأذى في سبيل الله والجهاد.

3. الظاهر أن المراد بالمهاجرة ما يشمل المهاجرة عن الشرك والعشيرة والوطن لإطلاق اللفظ، ولمقابلته قوله: ﴿وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾، وهو هجرة خاصة، ولقوله‏ بعده: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾، فإن ظاهر السيئات في القرآن صغائر المعاصي فهم هاجروا الكبائر بالاجتناب والتوبة، فالمهاجرة المذكورة أعم فافهم ذلك.

4. المشاهدة والتجربة تقضيان أن الرجل والمرأة فردان من نوع جوهري واحد، وهو الإنسان فإن جميع الآثار المشهودة في صنف الرجل مشهودة في صنف المرأة من غير فرق، وبروز آثار النوع يوجب تحقق موضوعه بلا شك، نعم يختلف الصنف بشدة وضعف في بعض الآثار المشتركة وهو لا يوجب بطلان وجود النوعية في الفرد، وبذلك يظهر أن الاستكمالات النوعية الميسورة لأحد الصنفين ميسورة في الآخر، ومنها الاستكمالات المعنوية الحاصلة بالإيمان والطاعات والقربات، وبذلك يظهر عليك أن أحسن كلمة وأجمعها في إفادة هذا المعنى قوله سبحانه: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾

5. إذا قايست ذلك إلى ما ورد في التوراة بان لك الفرق بين موقعي الكتابين‏ ففي سفر الجامعة من التوراة: (درت أنا وقلبي لأعلم ولأبحث ولأطلب حكمة وعقلا، ولأعرف الشر أنه جهالة، والحماقة أنها جنون، فوجدت أمر من الموت المرأة التي هي شباك، وقلبها أشراك، ويداها قيود، إلى أن قال رجلا واحدا بين ألف ـ وجدت إما امرأة فبين كل أولئك لم أجد)، بعد البحث الكثير في أمرها أنها إنسان لكنها مخلوقة لخدمة الرجل، وكانت في إنجلترا قبل مائة سنة تقريبا لا تعد جزء المجتمع الإنساني، فارجع في ذلك إلى كتب الآراء والعقائد وآداب الملل تجد فيها عجائب من آرائهم.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/89.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ﴾ دعاءهم على أن يعملوا صالحاً؛ يقول سيد قطب في (تفسيره): (أنه ليس مجرد التفكر ومجرد التدبر، وليس مجرد الخشوع والارتجاف، وليس مجرد الاتجاه إلى الله لتكفير السيئات والنجاة من الخزي ومن النار إنما هو العمل الإيجابي الذي ينشأ عن هذا التلقي وعن هذه الاستجابة..) الخ، فالاستجابة ليست تحقيق مطالبهم بلا شرط، ولكنها ما فصّله الله في بقية الآية من العمل والهجرة والصبر على الأذى في الله والقتل في سبيل الله، ومعنى: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ أنه مقبول، ولهم عليه ثوابه؛ لأن هذه فائدة حفظه من الضياع.

2. ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ يصرح بالمساوات بين الذكر والأنثى في قبول العمل والثواب عليه إذا كان من أهل الصفات المذكورة، ومعنى قوله تعالى: ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ الذكور والإناث بعضهم من بعض، فهم كالنوع الواحد، وهما نوعان من جنس واحد ولكنهما متقاربان لأن صورهما وقواهما وعقولهما ونحو ذلك أمور متقاربة جداً، ومع ذلك فهما متفرعان من الذكر والأنثى، فالذكر متفرع منهما والأنثى كذلك متفرعة من الذكر والأنثى، ولا يبعد أن هذا معنى قوله تعالى: ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾، وقال في (الميزان) [ج 4/ص 89]: (بحث فلسفي: المشاهدة والتجربة تقضيان أن الرجل والمرأة فردان من نوع جوهري واحد وهو الإنسان، فإن جميع الآثار المشهودة في صنف الرجل مشهودة في صنف المرأة من غير فرق وبروز آثار النوع يوجب تحقق موضوعه بلا شك، نَعَمْ، يختلف الصنف بشدة وضعف في بعض الآثار المشتركة، وهو لا يوجب بطلان وجود النوعية في الفرد، وبذلك يظهر: أن الاستكمالات النوعية الميسورة لأحد الصنفين ميسورة في الآخر، ومنها الاستكمالات المعنوية الحاصلة بالإيمان والطاعات والقربات، وبذلك يظهر عليك أن أحسن كلمة وأجمعها في إفادة هذا المعنى قوله سبحانه: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾)

3. ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ يثبت لهم فضلين: فضل الهجرة إلى الله ورسوله، وفضل الإخراج من ديارهم لثباتهم على الإيمان فهو في الله، كقوله تعالى: ﴿وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي﴾ فهما فضيلتان لكونهما مسببين عن الإيمان واتباع الرسول، ولهما عليهما الأعواض وثواب الصبر الذي هو الثبات على الإيمان والهجرة في سبيل الله.

4. ﴿وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا﴾ أي ﴿قَاتَلُوا﴾ في سبيلي ﴿وَقُتِلُوا﴾ في سبيلي، وقوله تعالى: ﴿وَقُتِلُوا﴾ يحتمل أنه خاص بالقتلى، فيكون الكلام خاصاً بهم من قوله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ إلى آخر الآية، والأقرب: أنه شامل لهم ولإخوانهم هنا.

5. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ لأن القتل مصيبة لهم كلهم وإن كان القتلى بعضهم، نظيره قولهم: ﴿مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ والمراد قتل إخوانهم، ولعل منه: ﴿قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا﴾ ونظيره قول الشاعر:

çأفتلك أم وحشية مسبوعة... خذلت وهادية الصوار قوامهاé

والبيت من (معلقة لبيد) إحدى (المعلقات السبع) قال في شرحه: (أي أصابها السبع بافتراس ولدها)، وليس على حذف مضاف أي قتل بعضهم ولكن على معنى أصابهم في القتال قتل.

6. ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ كما سألوا ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ وقد دل هذا على وقايتهم عذاب النار؛ لأنها لا تكون إلا عقاباً على السيئات وقد صارت كأن لم تكن، ولأن دخول الجنة لازم للسلامة من النار لأنهما ضدان؛ والجنات هنا هي البساتين الغليظة التي تُجِنُّ أماكنها والأنهار مجاري الماء فهي مستمر فيها جري الماء، فالأشجار لا تزال خضراء لا تعطش، واجتمع جمال الأشجار وجري الأنهار، ثواباً على أعمالهم وإيمانهم وتفكرهم ودعائهم.

7. ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ فهو عظيم لأن الثواب يجمع بين العطاء والتكريم، والتكريم من الله عظيم؛ لأنه من العظيم ﴿وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ أعده لأوليائه بعدله وحكمته وفضله ورحمته سواء كان قد وجد أم كان في قوة الموجود؛ لأن الله قادر عليه عليم بما به يحسن الثواب من وجوه الثواب وصفاته، فهو سهل عليه كأنه موجود، فهذه صفات المؤمنين الذين بنوا إيمانهم على التفكر في آيات السماوات والأرض، وحققوا إيمانهم بالجهاد في سبيل الله وتحمل المشاق في سبيل الله، وهذه عقباهم.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/603.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جاء في أسباب النزول: روي أن أم سلمة قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ الآية، وقال البلخي: نزلت الآية وما قبلها في المتّبعين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمهاجرين معه، ثم هي في جميع من سلك سبلهم وحذا حذوهم من المسلمين‏:

أ. في الرواية الأولى دلالة على أن الناس ـ في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ومنهن بعض أمّهات المؤمنين كأمّ سلمة، كن يعشن الحساسية تجاه إغفال ذكر النساء بشكل صريح في القرآن الكريم، فقد كان المهاجرون من الرجال والنساء ممن تحمّلوا الأذى في سبيل الله لالتزامهم بالإسلام عقيدة وعملا، فلما ذا يتحدث القرآن عن المهاجرين دون المهاجرات؟ لأن الصيغة في الآيات كانت على أسلوب الجمع المذكر، ولكن الظاهر أن التذكير ليس مرادا من التعبير؛ بل الكلمة واردة على سبيل التغليب باعتبار أن صفة التذكير تغلب على صفة التأنيث عند إرادة الحديث عنهما بكلمة واحدة، وقد استجاب الله لهذه الرغبة النسائية ـ إن صحت الرواية ـ فتحدث عن الذكر والأنثى ممن يعمل لله من المؤمنين والمؤمنات من دون فرق في القيمة الإيجابية وفي الثواب، لأن القضية في هذا الجانب هي قضية المبدأ الذي يتحرك به الإنسان في سبيل الله، وهو الإخراج من داره، والإيذاء في سبيل الله والمقاتلة أو القتل في خط الجهاد في سبيل الله، وهذا هو الذي ينبغي التأكيد عليه من مساواة المرأة للرجل في القيمة الجهادية وفي الثواب الإلهي، لأنها في ذلك سواء في النية والعمل.

ب. وفي الرواية الثانية: دلالة على أن الآية لا تنغلق على الناس الذين عاشوا في عهد الدعوة الأول، ولو كانت قد نزلت فيهم، بل هي منفتحة على كل السالكين في هذا السبيل الجهادي والعملي في خط الإسلام، لأنه لا خصوصية ـ من حيث المبدأ ـ للمرحلة الأولى إلا من خلال أفضلية الموقف في عناصره القيميّة بعيدا عن الزمن في خصوصياته، فقد يكون المتأخرون متميزين ببعض الخصائص التي تميزهم عن المتقدمين، وقد تكون مرحلة التأسيس أكثر غنى في بعض عناصرها من المراحل التالية بلحاظ قسوة الاضطهاد التي عاشها المسلمون في بداية الدعوة.

2. ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ فلكل واحد جزاء عمله من دون فرق بين الذكر والأنثى، لأن قضية العمل الصالح لا تختلف في خصائص الذكورة والأنوثة، بل تنطلق من خصائص الإنسانية في حركتها الصاعدة في الحياة، وفللأنثى نصيبها من نتائج العمل الصالح، وللذكر نصيبه منه، فربما تتفوق عليه في عملها فتنال الدرجة العليا لدى الله، وربما يتفوّق عليها في عمله فينال ذلك من خلال جهده.

3. ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ فقد خلق الله الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر في عملية التوالد الطبيعي.

4. أما العمل الأفضل في حركة الدعوة، وحماية الدين، وابتغاء مرضاة الله، وتحمّل الخروج من ديارهم، والأذى في سبيل الله، والقتال الذي هو السبيل للتكفير عن السيئات وللدخول إلى الجنة ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾

5. مما نستوحيه من هذه الآيات:

أ. قد نستطيع أن نستوحي من هذه الآيات الفكرة عن شخصية المؤمن‏ في الإسلام، فهي شخصية الإنسان الواعي المفكّر الذي يحرّك طاقته الفكرية في سبيل الوصول إلى قناعاته الإيمانيّة من وحي التفكير والمعاناة والتجربة والملاحظة، فلا يعتقد بشيء إلا على أساس ذلك، وعند ما نلتقي بشخصية الإنسان المفّكر في المؤمن في خط العقيدة، فإنّ من الطبيعي أن نلتقي بها في خط الحياة، فلا ينطلق مع أحداثها إلّا في خطّ الفكر والتجربة، لأن ملامح الشخصية لا تتعدد في مضمون الأشياء، فإذا كان الإنسان عاطفيا في جانب، فإنه يتحرك عاطفيا في بقيّة الجوانب؛ وهكذا تكون القضية في خط الفكر في الحياة، ولكن شخصية المفكر لا تلغي شخصية الإنسان الروحاني الذي يعيش الروحيّة العميقة تجاه الله، من خلال ما يعيش من مشاعر روحيّة، لأن الفكر لا يتحرّك من مواقع الجفاف النفسي، بل ينطلق من أعماق الينابيع المتدفقة في الحياة في ما تشتمل عليه من أفكار ومشاعر.. ولهذا نجد الانطلاقة الروحيّة في هذه الآيات في حركة الانطلاقة الفكريّة في هذه المناجاة الخاشعة التي تلتقي بالله في مغفرته ورضوانه ورحمته لعباده المؤمنين، ليبقى الإنسان منسجما مع إيمانه في روحيّة اللقاء بالله والسعي لرضاه، باعتباره هدف الحياة الكبير، كما يعيش الانسجام معه في فكره العميق الذي يطرد من حوله الشكوك والشبهات ويركزّ الخطة الواحدة لحياته من خلاله.

ب. قد نستوحي من هذه الآيات، أن قضية الجنة تلتقي ـ في حركة الإنسان المؤمن في الحياة ـ بالجانب الجهادي الذي يعيش فيه المعاناة نتيجة ما يتعرض له من اضطهاد وما يتحمله من أذى، وما يضطر إليه من الوقوع تحت ضغط القوى الغاشمة التي تخرجه من داره وموطنه وتدفعه إلى الهجرة قسرا من خلال الضغوط القاسية التي تمارسها ضدّه، وذلك كله من أجل الله، وابتغاء للحصول على رضوانه، ومن خلال ذلك، ندعو أولئك الذين يعيشون الحياة في استرخاء، ويعتبرون الجنة ملتقّى للعابدين الذين يغرقون كل همومهم وآلامهم وتطلعاتهم في العبادة، وينعزلون عن الحياة في عمليّة هروب دائمة من التعرّض للخطر في‏ المسير، ليأخذوا لأنفسهم ولمن يتعلق بهم الأمن والراحة والطمأنينة، في الوقت الذي تهتز فيه الساحة أمام التحدّيات الكافرة والضالّة.. إننا ندعوهم إلى أن يقرؤوا هذه الآيات بوعي وتأمل، ليعرفوا ـ جيدا ـ أن هؤلاء الذين استجابوا لداعية الإيمان فآمنوا، لم يأخذوا الإيمان في كسل واسترخاء، بل انطلقوا فيه رسالة وجهادا ومعاناة ومواجهة قوية لكل الضغوط والتحديات الطاغية، فأوذوا في سبيل الله ولم يسقطوا تحت تأثير الأذى، وأخرجوا من ديارهم وهاجروا من دون أن يتعقّدوا من الجهاد وخطواته ونتائجه.

ج. ولهذا كانت الجنة ثمنا لكل هذا الجهد ولكل هذا الجهاد، وكانت دعواتهم المتصاعدة من قلوبهم تمثل دعوات المجاهدين الذين يخافون على جهادهم أن يضعف ويهتز وينحرف أمام بعض الخطايا التي يرتكبونها من دون قصد، ويخشون على علاقتهم بالله أن تنقطع من خلال الأوضاع التي تحيط بهم فتبعدهم عن الله وتنسيهم ذكره.. ولهذا يشعر الإنسان بنبض القلوب يتحرك في كل كلمة من هذه الكلمات، حتى كأن قلوبهم تحوّلت إلى دعوات وكلمات، وليست كالدعوات التي تنطلق من قلوب هادئة بعيدة عن جوّ المعاناة، حيث يتمثل الإيمان فيها كما لو كان ترف فكر لا كخفقة روح وشعور، إن هناك فرقا بين أن تدعو الله من موقع المعاناة في سبيله، وبين أن تدعوه من موقع المعاناة في سبيل ذاتك، وذلك هو الفرق بين الذين يعيشون الإسلام فكرا واسترخاء وبين الذين يعيشونه جهادا وعملا وموقف حياة.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏6/459.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ هذه الآية تعقيب على الآيات السابقة حول أولي الألباب والعقول النّيرة ونتيجة أعمالهم، والشروع بفاء التفريع ـ في هذه الآية ـ أوضح دليل على هذا الارتباط، ومع ذلك ذكرت أسباب نزول متعددة لها في الأحاديث وأقوال المفسرين، لكنها لا تنافي ـ في حقيقتها ـ الارتباط الذي ذكرناه لهذه الآية مع الآيات السابقة، ومن جملة ذلك ما نقل عن أمّ سلمة (وهي إحدى زوجات النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّها قالت للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا رسول الله ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء؟ فأنزل الله هذه الآية، كما نقل أيضا أنّ عليّا عليه السّلام لما هاجر بالفواطم (وهن فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وفاطمة بنت الزبير) من مكّة إلى المدينة، ولحقت به أم أيمن في أثناء الطريق نزلت الآية الحاضرة.. والأسباب المذكورة لنزول الآية لا تنافي الارتباط الذي أشرنا إليه بين هذه الآية، والآيات السابقة، كما أنه لا تنافي أيضا بين هذين السببين المذكورين للآية أيضا.

2. في الآيات الخمس الآنفة استعرض القرآن الكريم موجزا من إيمان أولي الألباب والعقول النّيرة، وبرامجهم العملية، وطلباتهم وأدعيتهم، وفي هذه الآية يقول سبحانه: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾، والتعبير بلفظة (ربّهم) حكاية عن غاية اللّطف، ومنتهى الرحمة الإلهية بالنسبة إليهم: ثمّ يضيف قائلا: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ دفعا للاشتباه والتوهم الذي قد يسبق إلى الذهن بأنه لا ارتباط بين الفوز والنجاة، وبين أعمال الإنسان ومواقفه، ففي هذه العبارة إشارة واضحة إلى أصل (العمل) وإشارة أيضا إلى عامله، حتى يتبيّن أن الملاك والمحور الأصلي لقبول الدعاء واستجابته هو الأعمال الصالحة الناشئة من الإيمان، وأنّ الأدعية التي تستجاب فورا هي تلك التي يدعمها العمل الصالح.

3. ثمّ أنّه سبحانه يقول: ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾، وهذا لأجل أن لا يتصور أحد أنّ هذا الوعد الإلهي يختص بطائفة معينة كالذكور دون الإناث مثلا، فلا فرق في هذا الأمر بين أن يكون العامل ذكرا أو يكون أنثى، لأنّ الجميع يعودون في أصل الخلقة إلى مصدر واحد ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ أي تولد بعضكم من بعض، النساء من الرجال، والرجال من النساء، فلا تفاوت في هذه المسألة إذن بين الذكر أو الأنثى، فلما ذا يكون تفاوت في الجزاء والثواب؟

4. يمكن أن تكون عبارة ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ إشارة إلى أنّكم جميعا أتباع دين واحد، ورواد منهج واحد وأنصار حقيقة واحدة، فلا معنى لأن يفرق الله سبحانه بين جماعة وأخرى ويميز بين طائفة وطائفة، وجنس وآخر.

5. ثمّ أنّه سبحانه يستنتج من ذلك إذ يقول: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾، أي أنّ الله سبحانه كتب على نفسه أن يغفر لهؤلاء ذنوبهم، جاعلا من هذه المشاق والمتاعب التي نالتهم كفارة لذنوبهم، ليطهروا من أدرانها تطهيرا.

6. ثمّ يقول تعالى: ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ مضافا إلى غفران ذنوبهم والتكفير عنهم، وهذا هو الثواب الإلهي لهم على ما قاموا به من تضحية وفداء ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾.. إنّ لهم أفضل الأجر عند الله وأحسنه.

7. ﴿وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ إشارة إلى أنّ الأجر الإلهي والمثوبات الإلهية ليست قابلة للوصف للناس بشكل كامل في هذه الحياة، بل يكفي أن يعلموا بأنّه أفضل وأعلى من أي ثواب.

8. هذا ويستفاد ـ جيدا ـ من هذه الآية أن الإنسان لا بدّ أن يتطهّر من أدران الذنوب في ظل العمل الصالح أوّلا، ثمّ يدخل في رحاب القرب الرّباني والنعيم الإلهي، لأنّه سبحانه قال أوّلا: ﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ ثمّ قال ﴿لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ‏﴾، وبعبارة أخرى: أنّ الجنّة مقام المتطهرين، ولا طريق لمن لم يتطهر إليها.

9. إن الآية الحاضرة ـ كبقية الآيات القرآنية الأخرى ـ تساوي بين الرجل‏ والمرأة عند الله، وفي مسألة الوصول إلى الدرجات المعنوية، ولا تفرق بينهما بسبب اختلافهما في الجنس، ولا تعتبر الفروق العضوية وما يلحقها من الفروق في المسؤوليات الاجتماعية دليلا على اختلافهما في إمكانية الحصول على درجات التكامل الإنساني وبلوغهما للمقامات المعنوية الرفيعة، بل تعتبرهما في مستوى واحد ـ من هذه الجهة ـ ولذلك ذكرتهما معا.

10. إن اختلافهما في التكاليف وتوزيع المسؤوليات يشبه إلى حد كبير الاختلاف الذي تقتضيه مسألة النظام والانضباط حيث يختار شخص كرئيس، وآخر كمعاون ومساعد، فإنّه ينبغي أن يكون الرئيس أكثر حنكة وأوسع علما، وأكثر تجربة في مجال عمله، ولكن هذا التفاوت والاختلاف في مراتب المسؤولية وسلم الوظائف لا يكون دليلا مطلقا على أن شخصية الرئيس وقيمته الوجودية أكثر من شخصية معاونيه ومساعديه، وقيمتهم الوجودية.

11. إنّ القرآن الكريم يقول بصراحة: ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، ويقول في آية أخرى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.. هذه الآيات وغيرها من الآيات القرآنية الأخرى نزلت في عصر كان المجتمع البشري فيه يشك في إنسانية جنس المرأة أساسا، بل ويعتقد أنها كائن ملعون، وأنها منبع كل إثم وانحراف وموت وفساد.

12. لقد كان الكثير من الشعوب الماضية تذهب في نظرتها السلبية تجاه المرأة إلى درجة أنها تعتقد أحيانا إنّ عبادة المرأة وما تقدمه في سبيل الله لا تقبل، وكان الكثير من اليونانيين يعتقدون أنّ المرأة كائن نجس وشرير وأنّها من عمل‏ الشّيطان، وكان الرّوم وبعض اليونانيين يعتقدون أنّ المرأة ليست ذات روح إنسانية أساسا، وأن الرجل وحده هو الذي يحمل بين جنبيه مثل هذه الروح دون غيره.

13. الملفت للنظر أن العلماء المسيحيين في أسبانيا كانوا يبحثون ـ حتى إلى الآونة الأخيرة ـ في أن المرأة هل تملك ـ مثل الرجل ـ روحا إنسانية أم لا؟ وأن روحها هل تخلد بعد الموت أم لا؟ وقد توصلوا ـ بعد مداولات طويلة ـ إلى أن للمرأة روحا برزخية، وهي نوع متوسط بين الروح الإنسانية والروح الحيوانية، وأنه ليس هناك روح خالدة ـ بين أرواح النساء ـ إلّا روح مريم‏، من هنا يتضح مدى ابتعاد بعض المغفلين عن الحقيقة حيث يتهمون الإسلام أنّه دين الرجال دون النساء.

14. إنّ بعض الاختلاف في نوع المسؤوليات الاجتماعية الذي يقتضيه اختلافات في التركيب العضوي والعاطفي لدى الرجل والمرأة لا يضرّ بالمرأة وقيمتها المعنوية أساسا، ولهذا لا يختلف الرجل والمرأة من هذه الجهة، فأبواب السعادة والتكامل الإنساني مفتوحة في وجهيهما كليهما على السواء كما ذكرنا ذلك عند البحث في قوله تعالى: ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/53.

107. أهل الغرور وأهل التقوى ومصير كليهما

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈107⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ [آل عمران: 196 ـ 198]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها من الحياة، إن كان برا فقد قال الله: ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾، وإن كان فاجرا فقد قال الله: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ [آل عمران: ١٧٨](1).

__________

(1) عبد الرزاق: ١/٤٢.

أبو الدرداء:

روي عن أبي الدرداء (ت 32 هـ) أنّه قال: ما من مؤمن إلا الموت خير له، وما من كافر إلا الموت خير له، فمن لم يصدقني فإن الله يقول: ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾، ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: ١٧٨](1).

__________

(1) سعيد بن منصور، وابن جرير: ٦/٣٢٧.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: التوبة على أربعة دعائم: ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وعمل بالجوارح، وعزم أن لا يعود، وثلاث من عمل الأبرار: إقامة الفرائض، واجتناب المحارم، واحتراس من الغفلة في الدين(1).

2. روي أنّه قال: إن صبرت أدركت بصبرك منازل الأبرار، وإن جزعت أوردك جزعك عذاب النار(2).

3. روي أنّه قال: بحسن الوفاء يعرف الأبرار(3).

4. روي أنّه قال: استشعر الحكمة وتجلبب السكينة فإنهما حلية الأبرار(4).

5. روي أنّه قال: (من رزق الدين فقد رزق خير الدنيا والآخرة(5).

6. روي أنّه قال: اعلموا عباد الله أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركوا أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ والمتجر الرابح، أصابوا لذة زهد الدنيا في دنياهم، وتيقنوا أنهم جيران الله غدا في آخرتهم، لا ترد لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيب من لذة(6).

7. روي أنّه قال: في بعض مواعظه: عليكم بتقوى الله؛ فإنها تجمع من الخير ما لا يجمع غيرها، ويدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها من خير الدنيا وخير الآخرة، قال الله: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾ [النحل: 30](7).

8. روي أنّه قال: واعلموا يا عباد الله، أن المؤمن يعمل لثلاث من الثواب: إما لخير الدنيا؛ فإن الله يثيبه بعمله في دنياه، قال الله تعالى لإبراهيم: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [العنكبوت: 27]، فمن عمل لله تعالى أعطاه أجره في الدنيا والآخرة، وكفاه المهم فيهما، وقد قال الله: ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]، فما أعطاهم الله في الدنيا لم يحاسبهم به في الآخرة، قال الله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]، فالحسنى هي الجنة، والزيادة هي الدنيا.. وإما لخير الآخرة؛ فإن الله يكفر بكل حسنة سيئة، قال الله: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114]، حتى إذا كان يوم القيامة حسبت لهم حسناتهم، ثم أعطاهم بكل واحدة عشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف، قال الله: ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾ [النبأ: 36]، وقال: ﴿فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ [سبأ: 37]، فارغبوا في هذا ـ رحمكم الله ـ واعملوا له وتحاضوا عليه(7).

9. روي أنّه قال: واعلموا يا عباد الله، أن المتقين حازوا عاجل الخير وآجله، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، أباحهم الله من الدنيا ما كفاهم وبه أغناهم، قال الله عز اسمه: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 32]، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون، وشربوا من طيبات ما يشربون، ولبسوا من أفضل ما يلبسون، وسكنوا من أفضل ما يسكنون، وتزوجوا من أفضل ما يتزوجون، وركبوا من أفضل ما يركبون، أصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا، وهم غدا جيران الله يتمنون عليه، فيعطيهم ما تمنوه، ولا يرد لهم دعوة ولا ينقص لهم نصيبا من اللذة، فإلى هذا يا عباد الله يشتاق إليه من كان له عقل، ويعمل له بتقوى الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله(7).

__________

(1) بحار الأنوار 75/81 عن كشف الغمّة.

(2) غرر الحكم الفصل: 10 رقم: 7.

(3) غرر الحكم: ص251.

(4) غرر الحكم: ص58 و59 و60.

(5) غرر الحكم: رقم: 8523.

(6) نهج البلاغة: الكتاب: 27.

(7) الأمالي للمفيد: ص 261.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ أي: بئس المنزل(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٤٥.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ بئس المضجع(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ بئس ما مهدوا لأنفسهم(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٤٥.

(2) ابن المنذر: ٢/٥٤٠.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ تقلب ليلهم ونهارهم، وما يجري عليهم من النعم، ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾(1).

__________

(1) ابن المنذر: ٢/٥٣٩.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ لا تغتر بأهل الدنيا، يا محمد(1).

2. روي أنّه قال: ﴿الْأَبْرَارَ﴾ الذين لا يؤذون الذر(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٤٥.

(2) ابن أبي حاتم: ٣/٨٤٦.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال في الآية: والله ما غروا نبي الله، ولا وكل إليهم شيئا من أمر الله، حتى قبضه الله على ذلك(1).

__________

(1) ابن جرير: ٦/٣٢٥.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ معناه ثواب عنده(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 114.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾ ضربهم في البلاد(1).

__________

(1) ابن جرير: ٦/٣٢٤.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ جزاء وثوابا من عند الله(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٣/٢٣٧.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو محزون فأتاه ملك ومعه مفاتيح خزائن الأرض، فقال: يا محمّد هذه مفاتيح خزائن الأرض يقول لك ربّك: افتح وخذ منها ما شئت من غير أن تنقص شيئا عندي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: الدنيا دار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له، فقال الملك: والّذي بعثك بالحقّ نبيّا لقد سمعت هذا الكلام من ملك يقوله في السماء الرابعة، حين أعطيت المفاتيح(1).

2. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: عرضت عليّ بطحاء مكّة ذهبا فقلت: يا ربّ لا ولكن أشبع يوما وأجوع يوما، فإذا شبعت حمدتك وشكرتك، وإذا جعت دعوتك وذكرتك(2).

3. روي أنّه قال: حبّ الأبرار للأبرار ثواب للأبرار، وحبّ الفجّار للأبرار فضيلة للأبرار، وبغض الفجّار للأبرار زين للأبرار، وبغض الأبرار للفجّار خزي على الفجّار(3).

4. روي أنّه قال: إنّ لله عبادا كسرت قلوبهم خشية، فأسكتهم عن النطق وإنّهم لفصحاء عقلاء الباء نبلاء، يستبقون إليه بالأعمال الزكية، لا يستكثرون له الكثير، ولا يرضون له بالقليل، يرون في أنفسهم أنّهم شرار، وأنّهم أكياس أبرار(4).

5. روي أنّه قال: فاز والله الأبرار وخسر الأشرار.. أتدري من الأبرار: هم الّذين خافوه، واتّقوه، وقربوا إليه بالأعمال الصالحة، وخشوه في سرّ أمرهم وعلانيتهم.. كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار به جهلا.. إنّ أعلم الناس بالله أخوفهم منه، وأخشاهم له أزهدهم في الدنيا(5).

__________

(1) أصول الكافي: 2/129.

(2) روضة الكافي: 1/191.

(3) المحاسن: ص266 كتاب مصابيح الظلم.

(4) مشكاة الأنوار: ص59.

(5) إرشاد القلوب: ص106.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ﴾ يا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ما فيه الكفار من الخير والسعة، فإنما هو: ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ يمتعون بها إلى آجالهم، ﴿ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾، فبين الله تعالى مصيرهم(1).

3. روي أنّه قال: ثم بين منازل المؤمنين في الآخرة، فقال سبحانه: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ وحدوا ربهم، ﴿لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ لا يموتون، كان ذلك: ﴿نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٢٣.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ لمن يطيع الله(1).

__________

(1) ابن جرير: ٦/٣٢٦.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله عزّ وجل: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ يحتمل تقلبهم وجوها:

أ. ذلك نعمة من الله عليهم؛ لتركهم يتّجرون في البلدان مع كفرهم بربهم.

ب. الثاني: أعطاهم أموالا يتنعمون فيها ويتلذذون.

ج. الثالث: ما أخر عنهم العذاب والهلاك إلى وقت.

2. ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ يقول: لا يغرنك يا محمد ذلك؛ إنما هو متاع يسير، ومصيرهم إلى النار؛ كقوله تعالى: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾ الآية [التوبة: 55]؛ وكقوله: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ الآية [آل عمران: 178]، وليس الاغترار في نفس التقلب؛ لأنه جهد ومشقة؛ ولكن لما فيه من الأمن والسعة والقوة؛ دليله قوله تعالى: ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ ثم قال: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ وسعيهم للآخرة متاع لا ينقطع.

3. ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ يعني: الشرك‏ ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ إلى آخر ما ذكر ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ يحتمل أن يكون الأمر ما ذكر في بعض القصّة: أن بعض المؤمنين قالوا: إن الكفار في خصب ورخاء، ونحن في جهد وشدة؛ فنزل: لا يغرنك تقلبهم في ذلك؛ إنما هو متاع قليل، وذلك ثوابهم في الدنيا، وأما ثواب الذين اتقوا ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار.. إلى آخر ما ذكر.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/566.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾ فإن قيل: فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يجوز عليه الاغترار فكيف خوطب بهذا؟ فالجواب: أن ذلك تأديب من الله عز وجل وتحذير ويجوز أن يكون الخطاب عاماً لكل من سمع تقلبهم في البلاد أي في نعمتها، ويجوز تقلبهم غير مأخوذين بذنوبهم.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/161.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾، فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يجوز عليه الاغترار فكيف خوطب بهذا؟ والجواب: عنه جوابان:

أ. أحدهما: أن الله عزّ وجل إنما قال له ذلك تأديبا وتحذيرا.

ب. الثاني: أنه خطاب لكل من سمعه، فكأنه قال لا يغرنك أيها السامع تقلب الذين كفروا في البلاد.

2. في تقلبهم قولان:

أ. أحدهما: يعني تقلبهم في نعيم البلاد.

ب. الثاني: تقلبهم غير مأخوذين بذنوبهم.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/445.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ هذا خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقيل في معناه قولان:

أ. أحدهما: ان ذلك على وجه التأديب والتحذير، لأن النبي لا تجوز عليه‏ المعاصي لمكان التحذير من الله والتخويف، كما قال‏ ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾

ب. الثاني: ان الخطاب وان توجه إليه، فالمراد به جميع المؤمنين، وتقديره لا يغرنكم أيها المؤمنون ما ترون ان قوماً من الكفار كانوا يتجرون ويربحون في الاسفار التي كانوا يسافرونها، ويسلمون فيها لكونهم في الحرم، فأعلم الله تعالى أن ذلك مما لا ينبغي أن يغبطوا به، لأن مأواهم ومصيرهم بكفرهم إلى النار، ولا خير بخير بعده النار.

2. ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ معناه ذلك الكسب، والربح الذي يربحونه متاع قليل وسماه متاعاً، لأنهم متعوا به في الدنيا، والمتاع النفع الذي تتعجل به اللذة اما بوجود اللذة أو بما يكون به اللذة نحو المال الجليل، والملك، وغير ذلك من الأولاد والاخوان، ووصفه بالقلة لسرعة زواله وانقطاعه، وذلك قليل بالإضافة إلى نعيم الآخرة.

3. ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ المهاد الموضع الذي يسكن فيه الإنسان ويفترشه، ووصفه بأنه بئس المهاد:

أ. قيل: على ضرب من المجاز، لما فيه من أنواع العذاب، لأن الذم انما هو على الاساءة كقولك: بئس الرجل ـ هذا قول أبي علي الجبائي.

ب. وقال البلخي: هو حقيقة لأنه على وجهين:

أحدهما: من جهة النقص.

والآخر: من جهة الاساءة، وهو معنى قول السدي، وقتادة، وأكثر المفسرين.

4. ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ﴾ الغرور إيهام حال السرور فيما الأمر بخلافه في المعلوم، وليس كل إيهام غروراً، لأنه قد يتوهّمه مخوفاً فيحذر منه، فلا يقال غره، والفرق بين الغرر والخطر ان الغرر قبيح، لأنه ترك الحزم فيما يمكن أن يتوثق منه، والخطر قد يحسن على بعض الوجوه، لأنه من العظم من قولهم: رجل خطير أي عظيم، وبني المضارع مع النون الشديدة، لأنه بمنزلة ضم اسم إلى اسم للتأكيد.

5. ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ ـ آية ـ قرأ أبو جعفر (لكن) بتشديد النون وفتحها ـ هاهنا وفي (الزمر) ـ وقرأ أبو عمرو والكسائي، وحمزة في أكثر الروايات (الأشرار، والأبرار، والقرار) بالإمامة، الباقون ـ بالتفخيم ـ والامالة في فتحة الراء حسنة، لأن الراء المكسورة تغلب المفتوحة كما غلبت المستعلي في قولهم: قارب وطارد، وقادر فيمن أمالهن، فإذا غلبت المستعلي، فان تغلب الراء المفتوحة أولى، لأنه لا استعلاء في الراء، وإنما هو حرف من مخرج اللام فيه تكرير، ومن لم يمل، فلأن كثيراً من الناس لا يميل شيئاً من ذلك.

6. لما أخبر الله تعالى عما للكفار من سوء العاقبة وأنواع العذاب بشر المؤمنين بما أعد لهم من الجزاء عند الله وجزيل الثواب، فقال: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ بفعل الطاعات، وترك المعاصي‏ ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ يعني ثواباً من عند الله:

أ. وهو نصب على المصدر على وجه التأكيد، لأن خلودهم فيها إنزالهم فيها، كأنه قال نزلوها نزلا، وهو بمعنى أنزلوها إنزالا.

ب. ويحتمل أن يكون نصبا على التفسير، كقولك: هو لك هبة.

7. ﴿لِلْأَبْرَارِ﴾ واحدة الأبرار بار: مثل صاحب، وأصحاب، ويجوز أن يكون بر وأبرار ـ على فعل وأفعال ـ تقول: بررت والدي، فانا بر، وأصله برر لكن أدغمت الراء للتضعيف.

8. ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ﴾ يعني من الحباء والكرامة، وحسن المآب خير للأبرار مما يتقلب فيه الذين كفروا، لأن ما يتقلبون فيه زائل فان قليل، وما عند الله دائم غير زائل.

9. قد بينا معنى (لكن) فيما مضى، وانها للاستدراك بها خلاف المعنى المتقدم من اثبات بعد نفي أو نفي بعد اثبات، فقوله: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾ يتضمن معنى فما لهم كبير نفع، فجاء على ذلك، ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ﴾

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾:

أ. قيل: معناه تجري من تحت شجرها.

ب. ويقال انها تجري معلقة من غير أخدود لها، روي ذلك عن عبد الله بن مسعود، ثم قال: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها، وقوله في الفاجرة: إن الموت خير لها يعني إذا كانت تدوم على فجورها.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/91.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الغرور ما فيه خطر ومنه نهى عن بيع الغرر، كبيع الطير في الهواء والسمك في الماء، وأصل الغرور إيهام حال السرور فيما الأمر بخلافه في المعلوم.

ب. المتاع: النفع الذي يتعجل به اللذة.

ج. المأوى: المرجع.

د. المهاد من المهد، وهو كالفراش.

هـ. النزل: ما يُهَيَّاُ للنزيل، وقيل: هو الوظيفة المقدرة لوقت.

2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾:

أ. قيل: نزلت في مشركي العرب، وكانوا في رخاء ولين عيش يتجرون ويتنعمون، فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير، وقد هلكنا من الجوع والجهد، فنزلت الآية.

ب. وقال الفراء: كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال، فأنزل الله تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ﴾ الآية.

3. لما بين تعالى ما أعد للكفار من العذاب بين أن ما لهم في الدنيا من النعيم ولين العيش لا ينفعهم مع وخام العاقبة فقال تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ﴾:

أ. قيل: لا يعجبنك عن أبي مسلم.

ب. وقيل: لا تغتر، والكاف كاف الخطاب.

ج. وقيل: لا يغرنك يا محمد والخطاب له، والمراد غيره.

د. وقيل: بل الخطاب له وإنما لم يغتر بتأديب الله وتحذيره.

هـ. وقيل: بل هو خطاب لغيره كأنه قيل: لا يغرنك أيها الإنسان، أو أيها السامع، ومعناه لا تغتروا بحال الكافرين.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾:

أ. قيل: تصرفهم في البلاد.

ب. وقيل: تقلبهم في النعم في البلاد.

ج. وقيل: تصرفهم في البلاد مأخوذين بإجرامهم.

5. ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ أي تصرفهم في البلاد والنعم متاع، يتمتعون بها قليلاً ثم يزول، وسماه قليلاً:

أ. قيل: بالإضافة إلى نعم الآخرة.

ب. وقيل: إنها قليل لانقطاعها.

6. ﴿ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ أي مصيرهم ومرجعهم الذي يأوون إليها جهنم ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ أي الفراش.

7. ﴿بِئْسَ﴾ مجاز عند أبي علي؛ لأن الذم إنما هو على الأشباه، نحو: بئس الرجل، وهو حقيقة عند أبي القاسم؛ لأنه على وجهين: أحدهما من جهة الضر والآخر من جهة الإساءة في الفعل.

8. ثم بين عاقبة المؤمنين فقال سبحانه: ﴿لَكِنِ﴾ وهو استدراك يعني بخلاف ما تقدمه، فكأن فيها نفيا وإثباتا نحو: ما قام زيد لكن عمرو، فمعناه ليس للكفار عاقبة خير، لكن للمؤمنين ﴿الَّذِينَ اتقوا﴾ معاصي الله ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ﴾ بساتين بما فيها من النعيم ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا﴾ أي من تحت أشجارها وأبنيتها ﴿الْأَنْهَارُ﴾ من الماء، وغيره ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ دائمين.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿نُزُلًا﴾:

أ. قيل: أي إنزالاً من الله لهم وكرامة منه أتاهم.

ب. وقيل: معناه أن الله ينزلهم الجنة التي هذه صفتها.

10. ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ﴾ من الثواب ﴿خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ من الدنيا ونعيمها؛ لأن ذلك دائم صاف وهذا فانٍ مشوب.

11. تدل الآيات الكريمة على:

أ. أن نعيم الدنيا لا ينال استحقاقًا، وألا يغتر بحال من نالها وإن عظم؛ لأنه قليل في جنب الآخرة وإن عاقبته النار.

ب. أن الجنة تنال بالتقوى وتحمل المشاق خلاف قول الْمُجْبِرَةِ.

ج. أن الجنة خير عن الدنيا، وذلك لوجوه: منها كثرة نعيمها عما يكدرها، ودوامها، إلى أمثال ذلك عن الوجوه.

12. قراءات ووجوه:

أ. قرأ يعقوب ﴿يَغُرَّنَّكَ﴾ بإسكان النون، وكذلك ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ﴾

ب. ﴿وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾ طلبًا للخفة، والباقون بالتثقيل، وكلاهما صحيح، إلا أن الأئمة على تشديد النون وفتحها.

ج. قرأ أبو جعفر ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ بتشديد النون من لكن والباقون بتخفيف النون.

د. قراءة العامة ﴿نُزُلًا﴾ بضم الزاي، وعن الحسن وإبراهيم بسكون الزاي استثقالاً للضمتين، والأول أولى؛ لأن عليه الأئمة.

13. مسائل لغوية ونحوية:

أ. بني المضارع في قوله: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ﴾ مع النون الشديدة، لأن النون لحقت حرف الإعراب على جهة التأكيد بالتكرير فصار بمنزلة ضم اسم إلى اسم كخمسة عشر ونحوه.

ب. نصب ﴿نُزُلًا﴾ قيل: إنه مصدر مؤكد، تقديره: أنزلوها إنزالاً، وقيل: هو نصب على التفسير نحو قولك: هبة أو صدقة عن الفراء.

ج. ﴿مَتَاعُ﴾ رفع لأنه خبر ابتداء محذوف، أي ذلك متاع قليل.

د. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ نصب على الحال.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/506.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الغرور: إيهام حال السرور فيما الأمر بخلافه في المعلوم، وليس كل إيهام غرورا، لأنه قد يتوهمه تخوفا، فيحذر منه، فلا يقال غره، والغرر: نظير الخطر، والفرق بينهما أن الغرر قبيح كله، لأنه ترك الجزم فيما يمكن أن يتوثق منه، والخطر: قد يحسن على بعض الوجوه، لأنه من العظم من قولهم: رجل خطير أي: عظيم.

ب. المتاع: النفع الذي يتعجل به اللذة إما بوجود اللذة، أو بما يكون به اللذة، نحو المال الجليل والملك والأولاد والإخوان، والمهاد الذي يسكن فيه الانسان ويفترشه.

ج. واحد الأبرار: بر، تقول: بررت والدي فأنا بر، وأصله: برر، ولكن الراء أدغمت للتضعيف.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت في مشركي العرب، وكانوا يتجرون ويتنعمون بها، فقال بعض المسلمين: إن أعداء الله في العيش الرخي، وقد هلكنا من الجوع! فنزلت الآية.

ب. وقال الفراء: كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال، فأنزل الله تعالى ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ﴾ الآية.

3. اختلف في الخطاب في قوله تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ﴾:

أ. قيل: يا محمد، الخطاب له، والمراد غيره.

ب. وقيل: معناه لا يغرنك أيها الانسان، أو أيها السامع.

4. ﴿تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي: تصرفهم ﴿فِي الْبِلَادِ﴾ سالمين غانمين، غير مؤاخذين بإجرامهم، أعلم الله تعالى أن ذلك مما لا ينبغي أن يغبطوا به، لأن مأواهم ومصيرهم إلى النار بكفرهم، ولا خير بخير بعده النار.

5. ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ معناه: تصرفهم في البلاد والنعم، متاع قليل أي: يتنعمون بذلك قليلا، ثم يزول، وسماه متاعا، لأنهم متعوا به في الدنيا، ﴿ثُمَّ مَأْوَاهُمْ﴾ أي: مصيرهم ومرجعهم ﴿جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ أي: ساء المستقر هي.

6. ثم أعلم تعالى أن من أراد الله واتقاه، فله الجنة فقال: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ لكن للاستدراك، فيكون بخلاف المعنى المتقدم، فمعناه: ليس للكفار عاقبة خير إنما هي للمؤمنين المتقين الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات، وترك المعاصي.

7. ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ بين سبحانه ما يصيرون إليه من النعيم المقيم في دار القرار المعدة للأبرار، والنزل: ما يعد للضيف من الكرامة والبر والطعام والشراب.

8. ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ﴾ من الثواب والكرامة ﴿خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ مما يتقلب فيه الذين كفروا، لأن ذلك عن قريب سيزول، وما عند الله تعالى دائم لا يزول، ويروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ما من نفس برة ولا فاجرة، إلا والموت خير لها من الحياة، فأما الأبرار فقد قال الله ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ وأما الفجار، فقال تعالى: ﴿ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم﴾ الآية، وقوله في النفس الفاجرة: إن الموت خير لها، إنما يعني بذلك إذا كانت تدوم على فجورها.

أ. قرأ يعقوب برواية رويس وزيد (لا يغرنك)، و(لا يحطمنكم)، و(لا يستخفنك)، و(إما نذهبن بك) أو (نرينك) خفيفة في الجميع، والباقون بالتشديد.

ب. قرأ أبو جعفر ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ بتشديد النون، والباقون ﴿لَكِنِ﴾ بالتخفيف.

9. مسائل لغوية ونحوية:

أ. بني المضارع مع نون التأكيد، لأنه بمنزلة ضم اسم إلى اسم كخمسة عشر ونحوه.

ب. ﴿مَتَاعُ﴾: خبر مبتدأ محذوف وتقديره: تقلبهم متاع قليل، وحذف المبتدأ لدلالة ما تقدمه عليه.

ج. ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾: حذف المخصوص بالذم من الكلام، لدلالة ما تقدمه عليه، تقديره: بئس المهاد جهنم.

د. ﴿نُزُلًا﴾: مصدر مؤكد أيضا مثل ما تقدم ذكره في قوله ﴿ثَوَابًا﴾ من عند الله لأن خلودهم في الجنة إنزالهم فيها، فصار كأنه قال: نزلوها نزلا، وهو بمعنى أنزلوها إنزالا، وقيل: هو نصب على التفسير، كما يقال: هو لك هبة أو صدقة، عن الفراء.

هـ. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾: منصوب على الحال أي: مقدرا لهم الخلود فيها.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/916.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف فيمن نزل قوله تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾ على قولين:

أ. أحدهما: أنها نزلت في اليهود، ثمّ في ذلك قولان:

أحدهما: أنّ اليهود كانوا يضربون في الأرض، فيصيبون الأموال، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.

الثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أراد أن يستسلف من بعضهم شعيرا، فأبى إلّا على رهن، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لو أعطاني لأوفيته، إنّي لأمين في السماء أمين في الأرض) فنزلت، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ.

ب. الثاني: أنها نزلت في مشركي العرب كانوا في رخاء، فقال بعض المؤمنين: قد أهلكنا الجهد، وأعداء الله فيما ترون، فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل، قال قتادة: والخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد غيره، وقال غيره: إنما خاطبه تأديبا وتحذيرا، وإن كان لا يغترّ.

2. في معنى ﴿تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: تصرّفهم في التّجارات، قاله ابن عباس، والفرّاء، وابن قتيبة، والزجّاج.

ب. الثاني: تقلّب ليلهم ونهارهم، وما يجري عليهم من النّعم، قاله عكرمة ومقاتل.

ج. الثالث: تقلّبهم غير مأخوذين بذنوبهم، ذكره بعض المفسّرين، قال الزجاج: ذلك الكسب والرّبح متاع قليل، وقال ابن عباس: منفعة يسيرة في الدنيا، والمهاد: الفراش.

3. ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ قرأ أبو جعفر: (لكنّ) بالتشديد هاهنا، وفي (الزّمر) قال مقاتل: وحّدوا.

4. قال ابن عباس: (النّزل) الثّواب، قال ابن فارس: النّزل: ما يهيّأللنّزيل، والنّزيل: الضّيف.

__________

(1) زاد المسير: 1/364.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما وعد الله تعالى المؤمنين بالثواب العظيم، وكانوا في الدنيا في نهاية الفقر والشدة، والكفار كانوا في النعم، ذكر الله تعالى هذه الآية ما يسليهم ويصبرهم على تلك الشدة، فقال: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ﴾ وفيه مسائل:

2. الغرور مصدر قولك: غررت الرجل بما يستحسنه في الظاهر ثم يجده عند التفتيش على خلاف ما يحبه، فيقول: غرني ظاهره أي قبلته على غفلة عن امتحانه، وتقول العرب في الثواب إذا نشر ثم أعيد إلى طيه: رددته على غرة.

3. في المخاطب في قوله: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ﴾ قولان:

أ. الأول: أنه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ولكن المراد هو الأمة، قال قتادة: والله ما غروا نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى قبضه الله، والخطاب وإن كان له إلا أن المراد غيره، ويمكن أن يقال: السبب لعدم إغرار الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك هو تواتر هذه الآيات عليه، كما قال: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 74] فسقط قول قتادة، ونظيره قوله: ﴿وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ [هود: 42] ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 14] و﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [القلم: 8]

ب. الثاني: وهو أن هذا خطاب لكل من سمعه من المكلفين، كأنه قيل: لا يغرنك أيها السامع.

4. في تقلب الذين كفروا في البلاد وجهان:

أ. الأول: نزلت في مشركي مكة كانوا يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير، وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية.

ب. الثاني: قال الفراء: كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال فنزلت هذه الآية، والمراد بتقلب الذين كفروا في البلاد، تصرفهم في التجارات والمكاسب، أي لا يغرنكم أمنهم على أنفسهم وتصرفهم في البلاد كيف شاءوا، وأنتم معاشر المؤمنين خائفون محضورون، فان ذلك لا يبقى إلا مدة قليلة ثم ينتقلون إلى أشد العذاب.

5. ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ قيل: أي تقلبهم متاع قليل، وقال الفراء: ذلك متاع قليل، وقال الزجاج: ذلك الكسب والربح متاع قليل، وإنما وصفه الله تعالى بالقلة لأن نعيم الدنيا مشوب بالآفات والحسرات، ثم انه بالعاقبة ينقطع وينقضي، وكيف لا يكون قليلا وقد كان معدوما من الأزل إلى الآن، وسيصير معدوما من الأزل إلى الأبد، فإذا قابلت زمان الوجود بما مضى وما يأتي وهو الأزل والأبد، كان أقل من أن يجوز وصفه بأنه قليل.

6. ﴿ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ يعني أنه مع قلته يسبب الوقوع في نار جهنم أبد الآباد والنعمة القليلة إذا كانت سببا للمضرة العظيمة لم يعد ذلك نعمة، وهو كقوله: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ [آل عمران: 178] وقوله: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: 183]

7. ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ أي الفراش، والدليل على أنه بئس المهاد قوله تعالى: ﴿لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ [الزمر: 16] فهم بين أطباق النيران، ومن فوقهم غواش يأكلون النار ويشربون النار.

8. ثم إنه تعالى لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد بالنزل، والنزل ما يهيأ للضيف، وقوله: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ يتناول جميع الطاعات، لأنه يدخل في التقوى الاحتراز عن المنهيات، وعن ترك المأمورات، واحتج بعض أصحابنا(2) بهذه الآية على الرؤية لأنه لما كانت الجنة بكليتها نزلا، فلا بد من الرؤية لتكون خلعة، ونظيره قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ [الكهف: 107]

9. ﴿نُزُلًا﴾ نصب على الحال من‏ ﴿جَنَّاتُ﴾ لتخصيصها بالوصف، والعامل اللام، ويجوز أن يكون بمعنى مصدر مؤكد، لأن خلودهم فيها إنزالهم فيها أو نزولهم، وقال الفراء: هو نصب على التفسير كما تقول: هو لك هبة وبيعا وصدقة.

10. ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ﴾ من الكثير الدائم‏ ﴿خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل، وقرأ مسلمة بن محارب والأعمش نزلا بسكون الزاي، وقرأ يزيد بن القعقاع لكن الذين اتقوا بالتشديد.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 9/472.

(2) يقصد أهل السنة، والأشاعرة خصوصا

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في الخطاب في قوله تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾:

أ. قيل: الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد الأمة.

ب. وقيل: للجميع، وذلك أن المسلمين قالوا: هؤلاء الكفار لهم تجائر وأموال واضطراب في البلاد، وقد هلكنا نحن من الجوع، فنزلت هذه الآية، أي لا يغرنكم سلامتهم بتقلبهم في أسفارهم.

2. ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ أي تقلبهم متاع قليل، وقرأ يعقوب ﴿يَغُرَّنَّكَ﴾ ساكنة النون، وأنشد:

çلا يغرنك عشاء ساكن...قد يوافي بالمنيات السحرé

ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ﴾ [المؤمن] والمتاع: ما يعجل الانتفاع به، وسماه قليلا لأنه فان، وكل فان وإن كان كثيرا فهو قليل، وفي صحيح الترمذي عن المستورد الفهري قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بماذا يرجع)، قيل: (يرجع) بالياء والتاء، ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ أي بئس ما مهدوا لأنفسهم بكفرهم، وما مهد الله لهم من النار.

3. في هذه الآية وأمثالها كقوله: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ﴾ [آل عمران] الآية، ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف]، ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ﴾ [المؤمنون]، ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف] دليل على أن الكفار غير منعم عليهم في الدنيا، لأن حقيقة النعمة الخلوص من شوائب الضرر العاجلة والآجلة، ونعم الكفار، مشوبة بالآلام والعقوبات، فصار كمن قدم بين يدي غيره حلاوة من عسل فيها السم، فهو وإن استلذ آكله لا يقال: أنعم عليه، لأن فيه هلاك روحه، ذهب إلى هذا جماعة من العلماء، وهو قول الشيخ أبي الحسن الأشعري، وذهب جماعة منهم سيف السنة ولسان الأمة القاضي أبو بكر: إلى أن الله أنعم عليهم في الدنيا، قالوا: وأصل النعمة من النعمة بفتح النون، وهي لين العيش، ومنه قوله تعالى: ﴿وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ﴾ [الدخان]، يقال: دقيق ناعم، إذا بولغ في طحنه وأجيد سحقه، وهذا هو الصحيح، والدليل عليه أن الله تعالى أوجب على الكفار أن يشكروه وعلى جميع المكلفين فقال: ﴿فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ﴾ [الأعراف]، ﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾ [البقرة] والشكر لا يكون إلا على نعمة، وقال: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص] وهذا خطاب لقارون، وقال: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً﴾ [النحل] الآية، فنبه سبحانه أنه قد أنعم عليهم نعمة دنياوية فجحدوها، وقال: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا﴾ [النحل]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ [فاطر]، وهذا عام في الكفار وغيرهم، فأما إذا قدم لغيره طعاما فيه سم فقد رفق به في الحال، إذ لم يجرعه السم بحتا، بل دسه في الحلاوة، فلا يستبعد أن يقال: قد أنعم عليه.

4. إذا ثبت هذا فالنعم ضربان: نعم نفع ونعم دفع، فنعم النفع ما وصل إليهم من فنون اللذات، ونعم الدفع ما صرف عنهم من أنواع الآفات، فعلى هذا قد أنعم على الكفار نعم الدفع قولا واحدا، وهو ما زوي عنهم من الآلام والأسقام، ولا خلاف بينهم في أنه لم ينعم عليهم نعمة دينه، والحمد لله.

5. ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ استدراك بعد كلام تقدم فيه معنى النفي، لأن معنى ما تقدم ليس لهم في تقلبهم في البلاد كبير الانتفاع، لكن المتقون لهم الانتفاع الكبير والخلد الدائم، فموضع ﴿لَكِنِ﴾ رفع بالابتداء، وقرأ يزيد بن القعقاع ﴿لَكِنِ﴾ بتشديد النون، الموافية

6. ﴿نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ نزلا مثل ثوابا عند البصريين، وعند الكسائي يكون مصدرا، الفراء: هو مفسر، وقرأ الحسن والنخعي ﴿نُزُلًا﴾ بتخفيف الزاي استثقالا لضمتين، وثقله الباقون، والنزل ما يهيأ للنزيل، والنزيل الضيف، قال الشاعر: نزيل القوم أعظمهم حقوقا وحق الله في حق النزيل والجمع الأنزال، وحظ نزيل: مجتمع، والنزل: أيضا الريع، يقال، طعام النزل والنزل، ولعل النزل ـ والله أعلم ـ ما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قصة الحبر الذي سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (هم في الظلمة دون الجسر) قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: (فقراء المهاجرين) قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: (زيادة كبد النون) قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ فقال: (ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها) قال: فما شرابهم عليه؟ قال: (من عين فيها تسمى سلسبيلا) وذكر الحديث، قال أهل اللغة: والتحفة ما يتحف به الإنسان من الفواكه، والطرف محاسنه وملاطفه، وهذا مطابق لما ذكرناه في النزل، والله أعلم، وزيادة الكبد: قطعة منه كالأصبع، قال الهروي: ﴿نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ أي ثوابا، وقيل رزقا، ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ أي مما يتقلب به الكفار في الدنيا.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏4/320.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ﴾ خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد: تثبيته على ما هو عليه، [والمراد الأمة] كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أو: خطاب لكل أحد، وهذه الآية متضمنة لقبح حال الكفار بعد ذكر حسن حال المؤمنين؛ والمعنى: لا يغرنك ما هم فيه من تقلبهم في البلاد بالأسفار للتجارة التي يتوسعون بها في معاشهم، فهو متاع قليل يتمتعون به في هذه الدار ثم مصيرهم إلى جهنم، فقوله: ﴿مَتَاعُ﴾ خبر مبتدأ محذوف، أي: هو متاع قليل لا اعتداد به بالنسبة إلى ثواب الله سبحانه: ﴿ثُمَّ مَأْوَاهُمْ﴾ أي: ما يأوون إليه، والتقلب في البلاد: الاضطراب في الأسفار إلى الأمكنة، ومثله قوله تعالى: ﴿فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ﴾ والمتاع: ما يعجل‏ الانتفاع به، وسماه: قليلا، لأنه فان، وكل فان وإن كان كثيرا فهو قليل.

2. ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ ما مهدوا لأنفسهم في جهنم بكفرهم، أو: ما مهد الله لهم من النار، فالمخصوص بالذم محذوف: وهو هذا المقدّر.

3. ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ هو استدراك مما تقدّمه، لأن معناه النفي، كأنه قال ليس لهم في تقلبهم في البلاد كثير انتفاع: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ لهم الانتفاع الكثير، والخلد الدائم، وقرأ يزيد ابن القعقاع: لكنّ، بتشديد النون.

4. ﴿نُزُلًا﴾ مصدر مؤكد عن البصريين كما تقدّم في‏ ﴿ثَوَابًا﴾ وعند الكسائي والفراء مثل ما قالا في: ثوابا، والنزل: ما يهيأ للنزيل، والجمع أنزال، قال الهروي: ﴿نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ أي: ثوابا من عند الله‏ ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ﴾ مما أعدّه لمن أطاعه‏ ﴿خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ مما يحصل للكفار من الربح في الأسفار، فإنه متاع قليل، عن قريب يزول.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/475.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال عمر بعد بكائه رقَّةً: (يا رسول الله، أنت رسول الله في جهد، وقد أثَّر حصير سريرك في وجهك، وكسرى وقيصر في رخاء وهما كافران)!، وقال بعض المسلمين: (إنَّ أعداء الله فيما نرى من الرخاء، ولين العيش، وقد هلكنا من الجوع والجهد)، فنزل قوله تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ﴾ الخطاب لِكُلِّ من يصلح له، أو له صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والمراد تثبيته، أو له صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد أمَّته، قال قتادة: (ما غُرَّ نبيٌّ قط حتَّى قبضه الله)

2. ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ﴾ يقال: غرَّه بما يستحسنه في الظاهر ثمَّ يجده ـ عند التفتيش أو يظهر بلا تفتيش ـ على خلاف ما يحبُّه، والمعنى: لا تغترَّ بتقلُّب الذين كفروا، فوضع السبب ـ وهو الغرُّ ـ موضع المُسَبَّب وهو الاغترار، وأسنده إلى فاعل الغرِّ، وهو التقلُّب، وذلك مجاز أو كناية، وهما أبلغ من الحقيقة، ولا شكَّ أنَّ فعل ما يغترُّ به أحد سبب للاغترار، والاغترار مسبَّب، فالغرُّ فعل الغارِّ، والاغترار مطاوعة ذلك الفعل، فكلُّ واحد غير الآخر؛ فلا يعترض بأَنَّ الغارِّيَّة والمغروريَّة متضايفان، والمتضايفان لا يكون أحدهما سببا للآخر بل في درجة واحدة، حتَّى القطع والانقطاع إذا اعتبَرْتَ كسبَ كلِّ جزء على حدة، واعتبرتَه بتوجيه النفس إلى حصول القطع لم يكونا في درجة.

3. ﴿تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ كاليهود وأهل مكَّة والنصارى، ﴿فِي الْبِلَادِ﴾ بالتَّجر والحرث في سعة وحظٍّ، والأصل: لا يغرَّنك الذين كفروا بتقلُّبهم، فذكر السبب أيضًا مكان المُسَبَّب.

4. ﴿مَتَاعٌ﴾ تمتُّع، أو متمتَّع به حقير، كما يفيده التنكير، أي: ذلك متاع، ﴿قَلِيلٌ﴾ بالنسبة إلى ما أعدَّ الله لكم في الآخرة، ولقصر مدَّته وتكدُّره، والمتكدِّر قليل ولو كثر؛ لأَنَّ تكدُّره نقص منه، قال مسلم عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ما الدنيا في الآخرة إلَّا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليمِّ فلينظر بم يرجع)، أي: بما يرجع من اليم فإنَّه يرجع بالبلَّة، وهو تمثيل بأقلِّ ما نفهم، وحقيقة الأمر أكثر؛ لأَنَّ البحر ينقضي ببلَّة الأصبع على طول تكرير جعل الإصبع فيه طولا، لا يعلمه إِلَّا الله، والجنَّة لا تنقضي، ويبعد أن تفسَّر القِلَّة بالنسبة إلى أعمالهم الشاقَّة فضلا عمَّا أعدَّ لهم من العذاب، إذ المقام ليس لذكر ذلك إِلَّا بتكلُّف إفهام أنَّه ما حصلوه إِلَّا بتعب شديد، مع ما لهم من النار فلم يتمحَّض لهم.

5. ﴿ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِيسَ الْمِهَادُ﴾ هي شبِّهت بالمهاد تهكُّما بهم إذ قدَّموها لأنفسهم، كما يفرش اللين للصبِّي.

6. ﴿لَكِن﴾ استدراك لرفع ما يوهِمُ أنَّ التجارة مطلقا توجب جهنَّم، فأخبر أنَّ للمؤمنين الجنَّة ولو اتَّجروا، وبأنَّ جوعهم وبؤسهم إِنَّمَا هو لكسب ما هو أعظم من نعم الدنيا وهو الجنَّة، وعلماء المعاني يقولون: (لَكِن) لقصر القلب، وردَّ اعتقاد المخاطب أنَّ المؤمنين البائسين في خسران عظيم، لا دنيا لهم ولا جنَّة لكفرهم بالجنَّة.

7. ﴿الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الَانْهَارُ خَالِدِينَ﴾ يدخلونها يوم القيامة مقدِّرين الخلود ﴿فِيهَا﴾ وأمَّا من الآن فلا يوقنون أنَّهم من أهلها، لخوف الخاتمة في حقِّ كلِّ واحد مِمَّن لم يجئ فيه الوحي، ويجوز إثبات التقدير للخلود بلا حذف على رسم فرض السعادة، أي: ثبِّتت لهم، أي: لأهل صفتهم ناوين أنَّهم يخلدون فيها إن كانوا من أهلها.

8. ﴿نُزُلاً﴾ حال من المستتر في (لَهُمْ) العائد إلى (جَنَّات)، شبَّهها بما يعدُّ للنازل من طعام وشراب وصلة، فلا تزال تزداد خيرا بلا نهاية بعد ذلك، كما يحتفل للنازل بعدما ينزل عليه فجأة كلَّ يوم في الجنَّة خير مِمَّا قبله أبدا، ومعناه: مُعدٌّ ومُهيَّأ على عجل، ولا يصحُّ أنَّه حال من (جَنَّاتٌ)؛ لأَنَّ (جَنَّاتٌ) مبتدأ، والحال لا يصحُّ قيدا للابتداء الذي هو العامل، ويجوز أن يكون حالا من ضمير (جَنَّاتٌ) المستتر في (لَهُمْ)، أي: ذات نزل، أو هو جمع نازل على غير قياس حال من المستتر في (خَالِدِينَ)، أو يقدَّر: أُنزِلُوهَا نزلا من عند الله، أي: نزولا، على أنَّه مفعول مطلق.

9. ﴿مِنْ عِندِ اللهِ﴾ وما بالك بشيءٍ من الله قابَلَ به وليَّه مضادٍّ به عدوَّه، ﴿وَمَا عِندَ اللهِ﴾ من ثواب الجنَّة لكثرته وعظمه وهنائه ودوامه ﴿خَيْرٌ لِّلَابْرَارِ﴾ مِمَّا لِلكُفَّارِ من متاع الدنيا، لقلَّته وحقارته وتنغُّصه وفنائه، أظهر اسمهم بلفظ (الأبرار) إشعارا بِأَنَّ أعمالهم تقوًى وبرٌّ.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/98.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾ أي تصرفهم فيها بالمتاجر والمكاسب، أي لا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق ودرك العاجل.

2. ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ أي هو متاع قليل، لقصر مدته، وكونه بلغة فانية، ونعمة زائلة، فلا قدر له في جنب ما أعد الله للمؤمنين، وفي صحيح مسلم‏ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: والله! ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ، فلينظر بم يرجع؟

3. ﴿ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ أي مصيرهم الذي إليه يأوون‏ ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ أي الفراش هي.

4. ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ بيان لكمال حسن حال المؤمنين، غبّ بيان وتكرير له، إثر تقرير، مع زيادة خلودهم في الجنات ليتم بذلك سرورهم، ويزداد تبجحهم، ويتكامل به سوء حال الكفرة، والنزل (بضمتين، وضم فسكون) المنزل، وما هيّئ للنزيل أن ينزل عليه.

5. ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ أي مما يتقلب فيه الفجار من المتاع القليل الزائل، والتعبير عنهم بـ (الأبرار) للإشعار بأن الصفات المعدودة من أعمال البرّ، كما أنها من قبيل التقوى:

أ. روى الشيخان‏ ـ واللفظ للبخاريّ ـ عن عمر بن الخطاب قال: جئت رسول‏ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإذا هو في مشربة، وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وعند رجليه قرظ مصبور، وعند رأسه أهب معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه، فبكيت! فقال: ما يبكيك؟ قلت: يا رسول الله! إن كسرى وقيصر فيما هم فيه، وأنت رسول الله! فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟

ب. وروى ابن أبي حاتم وعبد الرزاق عن عبد الله بن مسعود أنه قال ما من نفس برة ولا فاجرة، إلا الموت خير لها، لئن كان برّا، لقد قال الله تعالى‏ ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ وقرأ: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: 178]

ج. وروى ابن جرير عن أبي الدرداء أنه كان يقول: ما من مؤمن إلا والموت خير له، وما من كافر إلا والموت خير له، ومن يصدقني فإن الله يقول‏ ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ ويقول‏ ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ الآية.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/486.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. علم مما تقدم أن بعض المفسرين قالوا إن المراد بقوله تعالى في الآيات السابقة: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ ما وعد الله به المؤمنين من النصر والظفر وأننا اخترنا أن المراد ذلك وما وعد من ثواب الآخرة، وعلى هذين القولين ربما يستبطئ بعض المؤمنين إيتاءهم الوعد المتعلق بالنصر والتغلب على الكافرين الظالمين كما يدل قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ [البقرة: 214] فجاءه قوله تعالى: ﴿لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا﴾

2. ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾ الآية تسلية لهم وبيانا لكون الإملاء للكافرين واستدراجهم لا يصح أن يكون مدعاة ليأس المؤمنين ولا حجة للمنافقين الذين قالوا عند الشدة: ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [السجدة: 12] فهذا وجه في اتصال هذه الآية بما قبلها في ترتيب الآيات الشريفة، وقال الإمام الرازي: اعلم أنه تعالى لما وعد المؤمنين بالثواب العظيم وكانوا في الدنيا في نهاية الفقر والشدة والكفار كانوا في النعم، ذكر الله تعالى في هذه الآية ما يسليهم ويصبرهم على تلك الشدة.

3. قال محمد عبده: كان الكلام في أولي الألباب المؤمنين، وقد علمنا أن الله تعالى يستجيب لهم بالأعمال، فالعبرة بالعمل ومنه المهاجرة وتحمل الإيذاء في سبيل الله وبذل النفس في القتال حتى يقتلوا، وبذلك يستحقون ثواب الله تعالى، ثم ذكر حال الكافرين للمقابلة وربط الكلام بما قبله بالنهي عن الاغترار بما هم فيه من نعيم وتمتع، كأنه يقول: على المؤمن أن يجعل مرمى طرفه ذلك الثواب الذي وعدته فهو النعيم الحقيقي الباقي وهذا الذي فيه الكافرون متاع قليل فلا تطلبوه ولا تحفلوا به، يسهل بهذا المسلمين ما كلفوه من تحمل الإيذاء والعناء في إقامة الحق.

4. أما معنى الآية فهو: لا يغرنك أيها المخاطب المؤمن أو لا يغرنك يا محمد (قولان) تقلبهم، قالوا وما خوطب به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مثل هذا فالمراد به أمته، فروي عن قتادة أنه قال: والله ما غروا نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى قبضه الله، ومعنى غره أصاب غرته فنال منه بالقول أو العمل شيئا مما يريد وهو غافل عن ذلك لم يفطن لما في باطن الشيء مما يخالف الظاهر، قال الراغب: والغرة (بالكسر) غفلة في اليقظة والغرار غفلة مع غفوة، وأصل ذلك من الغر (بالفتح) وهو الأثر الظاهر من الشيء ومنه غرة الفرس وغرار السيف أي حده، وغر الثواب أثر كسره وقيل: اطوه على غره، وغره كذا غرور كأنما طواه على غره ا ه، فالأظهر أن الغرور مأخوذ من الغرة (بالكسر) أي الغفلة ويقرب منه أو يتصل به أخذه من غر الثوب (بالفتح) وهو أثر طيه الذي يعبر عنه بالثني والكسر، وجمع الغر على غرور، قال في الأساس) واطوه على غروره أي مكاسره) والمراد اطوه على طياته الأولى ليبقى على ما كان عليه ومنه غرارة الصغار (بالفتح) أي سذاجتهم وقلة تجاربهم يُقال فتى غر وفتاة غر (بالكسر) وقيل إن الغرور مأخوذ من الغرار بالكسر وهو من السيف والسهم والرمح حدها قالوا غره أي خدعه وأطعمه بالباطل كأنه ذبحه بالغرار، وفيه مبالغة وبعد.

5. حاصل معنى النهي عن الغرور: أن تقلب الذين كفروا في البلاد آمنين معتزين لا ينبغي أن يكون سببا لغرور المؤمن بحالهم وتوهمه أن هذا شيء يدوم لهم، فإن هذا من إبقاء الأشياء على ظاهرها من غير بحث عن أسبابها وعللها، والغوص على بواطنها ودخائلها، كما يطوى الثوب على غره وكما ينظر الغر إلى ظواهر الأشياء دون بواطنها، ومن اكتنه حالهم الاجتماعية علم أن تقلبهم في البلاد وتمتعهم بالأمن والنعمة فيها ليس قائما على أساس متين، ولا مرفوعا على ركن ركين، وإنما هو من قبيل حركة الاستمرار لمحرك من الباطل سابق لم يكن له معارض، فإذا عارضه ما عليه المؤمنون من الحق لا يلبث أن يزول بالنسبة إلى مجموعهم، وأما من يموت من أفرادهم على فراش نعيمه ولم ينسأ له في أجله إلى أن يظهر أمر المؤمنين فما يستقبله من عذاب الآخرة أعظم مما ناله من نعيم الدنيا، والنتيجة أن ذلك كما قال: ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾

6. ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ أي ذلك التقلب في البلاد الذي يتمتعون به متاع قليل عاقبته هذا المأوى الذي ينتهون إليه في الآخرة، فيكونون خالدين فيه سواء منهم من مات متمتعا بدنياه ومن أنسئ له في عمره حتى أدركه الخذلان بنصر الله المؤمنين فسلب منه متاعه أو نغصه عليه، وأما المؤمنون فسيأتي ما لهم في مقابلة هذا في الآية الآتية، وجهنم اسم للدار التي يجازى فيها الكافرون في الآخرة، قيل إنها أعجمية معربة، وقيل بل هي عربية من قولهم ركية جِهنّام (بكسر الجيم والهاء والتشديد) أي بئر بعيدة القعر، فجهنم إذا بمعنى الهاوية، والمهاد المكان الممهد الموطأ كالفراش، قيل: سميت النار مهادا تهكما بهم، وقد تقدم ذكر الكلمتين في البقرة.

7. قيل: إن الآية نزلت في مشركي مكة إذ كانوا يضربون في الأرض يتجردون ويكسبون على حين لا يستطيع المسلمون ذلك لوقوف المشركين لهم بالمرصاد وإيقاعهم بهم أينما ثقفوهم، وعجز هؤلاء عن مقاومتهم إذا خرجوا من دارهم للتجارة وغير التجارة، ويروى أن بعض المؤمنين قال: إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد، فنزلت الآية، وقال الفراء: كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال فنزلت هذه الآية في ذلك.

8. ثم بين تعالى في مقابلة ذلك مأوى المؤمنين ليعلموا أنهم في القسمة غير مغبونين فقال: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ قالوا: إن بيان النزل ما يهيأ للضيف النازل وقيل: أول ما يهيأ له وخصه الراغب بالزاد، قال الفراء: نصب (نزلا) على التفسير كما تقول: هو لك هبة وبيعا وصدقة، وإذا كانت الجنات نزلا وهي النعيم الجسماني فلا جرم يكون التعميم الروحاني رضوان الله الأكبر أعظم من الجنة ونعيمها أضعافا مضاعفة.

9. وقد وعدهم هذا الجزاء على التقوى التي يتضمن معناها ترك المعاصي وفعل الطاعات، ثم أشار إلى أن النعيم الروحاني يكون بمحض الفضل والإحسان للأبرار فقال: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ من الكرامة الزائدة على هذا النزل الذي هو بعض ما عنده وأول ما يقدمه لعباده المتقين ﴿خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ وأفضل مما يتقلب فيه الذين كفروا من متاع فان، بل ومما يحظى به المتقون من نزل الجنان، وهذا الذي قلناه أولى من القول بأن ما عند الله للأبرار هو عين ذلك النزل الذي قال إنه من عنده، لأن نكتة وضع المظهر وهو قوله تعالى: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ موضع المضمر الذي كان ينبغي أن يعبر به لو كان هذا عين ذاك تظهر على هذا ظهورا لا تكلف فيه، وبه ينجلي الفرق بين الذين اتقوا وبين الأبرار، فإن الأبرار جمع بار أو بر وهو المتصف بالبر الذي بيّنه الله تعالى في سورة البقرة بقوله: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: 175] وقد أشرنا إليه في آيات الدعاء القريبة، فشرح البر بما ذكر في تلك الآية يؤيد ما ذكره الراغب من أنه مشتق من البر (بالفتح) المقابل للبحر وأنه يقيد التوسع في فعل الخير فهو إذا أدل على الكمال من التقوى التي هي عبارة عن ترك أسباب السخط والعقوبة، وتحصل بترك المحرمات وفعل الفرائض من غير توسع في نوافل الخيرات، وذكر جزاء المؤمنين بقسميهم ـ الذين اتقوا والأبرار ـ بلفظ الاستدراك للتنصيص على ما ذكرناه من المقابلة بينهم وبين الذين كفروا كما قلنا.

__________

(1) تفسير المنار: ‏4/313.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن وعد الله المؤمنين بالثواب العظيم وكانوا في الدنيا في غاية الفقر والشدة، والكفار كانوا في رخاء ولين عيش ذكر في هذه الآية ما يسليهم ويصبّرهم على تلك الشدة، فبين لهم حقارة ما أوتى هؤلاء من حظوظ الدنيا وذكر أنها متاع قليل زائل، فلا ينبغي للعاقل أن يوازن بينه وبين النعيم الخالد المقيم.

2. ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾ أي لا يغرنك يا محمد والمراد أمته، فكثيرا ما يخاطب سيّد القوم بشيء ويراد أتباعه، وهذا معنى ما روى عن قتادة أنه قال والله ما غرّوا نبيّ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى قبضه الله، وخلاصة المعنى ـ لا يغرنكم أمنهم على أنفسهم وتصرفهم في البلاد كيف شاءوا، وأنتم معاشر المؤمنين خائفون محصورون، فإن ذلك لا يبقى إلا مدة قليلة ثم ينتقلون إلى أشد العذاب، فعلى المؤمن أن يجعل مرمى طرفه ذلك الثواب الذي وعده الله فهو النعيم الحقيقي الباقي.

3. ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ أي ذلك التقلب في البلاد الذي يتمتعون به متاع قليل، عاقبته هذا المأوى الذي ينتهون إليه في الآخرة فيكونون خالدين فيه أبدا، بما جنته أنفسهم وكسبته أيديهم.

4. نزلت الآية في مشركي مكة إذ كانوا يضربون في الأرض، يتّجرون ويكتسبون حين لا يستطيع المسلمون ذلك لوقوف المشركين لهم بالمرصاد والإيقاع بهم أينما ثقفوهم، وعجز هؤلاء عن مقاومتهم إذا خرجوا من ديارهم للتجارة أو غيرها، وقد روى من وجه آخر أن بعض المؤمنين قال إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية.

5. وبعد أن بين الله تعالى حال الكافرين ومآل أمرهم، ذكر عاقبة المؤمنين ليعلموا أنهم في القسمة غير مغبونين، فقال: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ أي لكن الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات وترك المنهيات، لهم جنات النعيم خالدين فيها أبدا، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ وفي الآية إيماء إلى أن النازلين فيها ضيوف عند ربهم يحفهم بلطفه، ويخصهم بكرمه وجوده، وهذه الجنات نعيم جسماني لهم، وهناك نعيم روحاني أعطاه الله بمحض الفضل والإحسان وإليه الإشارة بقوله: ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ أي وما عنده من الكرامة فوق ما تقدم خير وأفضل يتقلب فيه الذين كفروا من المتاع القليل الفاني.

__________

(1) تفسير المراغي: 4/169.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم التفاتة واقعية إلى الفتنة المستكنة في المتاع المتاح في هذه الأرض للكفار والعصاة والمعادين لمنهج الله.. التفاتة لإعطاء هذا المتاع وزنه الصحيح وقيمته الصحيحة، حتى لا يكون فتنة لأصحابه، ثم كيلا يكون فتنة للمؤمنين، الذي يعانون ما يعانون، من أذى وإخراج من الديار، وقتل وقتال: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾

2. تقلب الذين كفروا في البلاد، مظهر من مظاهر النعمة والوجدان، ومن مظاهر المكانة والسلطان، وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة، يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين؛ وهم يعانون الشظف والحرمان، ويعانون الأذى والجهد، ويعانون المطاردة أو الجهاد.. وكلها مشقات وأهوال، بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون!.. ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة، وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء، والباطل وأهله في منجاة، بل في مسلاة! ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم؛ فيزيدهم ضلالا وبطرا ولجاجا في الشر والفساد، هنا تأتي هذه اللمسة: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾.. متاع قليل.. ينتهي ويذهب.. أما المأوى الدائم الخالد، فهو جهنم.. وبئس المهاد!

3. وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات، وخلود، وتكريم من الله: ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾.. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾.. ﴿نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾.. ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾، وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة، وهذا النصيب في كفة، أن ما عند الله خير للأبرار، وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان، وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب!

4. إن الله سبحانه في موضع التربية، وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر، ولا يعدهم بقهر الأعداء، ولا يعدهم بالتمكين في الأرض، ولا يعدهم شيئا من الأشياء في هذه الحياة.. مما يعدهم به في مواضع أخرى، ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه، إنه يعدهم هنا شيئا واحدا، هو ﴿مَا عِنْدَ اللهِ﴾، فهذا هو الأصل في هذه الدعوة، وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة: التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية، ومن كل مطمع ـ حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله وقهر أعداء الله ـ حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون، ويكلوا أمرها إليه، وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها! هذه العقيدة: عطاء ووفاء وأداء.. فقط، وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض، وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء.. ثم انتظار كل شيء هناك! ثم يقع النصر، ويقع التمكين، ويقع الاستعلاء.. ولكن هذا ليس داخلا في البيعة، ليس جزءا من الصفقة، ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا، وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء.. والابتلاء، على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة؛ وعلى هذا كان البيع والشراء، ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء؛ ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية، إلا حين تجردوا هذا التجرد، ووفوا هذا الوفاء، قال محمد بن كعب القرظي وغيره: قال عبد الله بن رواحة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعني ليلة العقبة (ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه صلّى الله عليه وآله وسلّم على الهجرة إليهم): اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: (أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم)، قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: (الجنة).. قالوا: ربح البيع، ولا نقيل ولا نستقيل.

5. هكذا.. (الجنة).. والجنة فقط! لم يقل: النصر والعز والوحدة، والقوة، والتمكين، والقيادة، والمال، والرخاء ـ مما منحهم الله وأجراه على أيديهم ـ فذلك كله خارج عن الصفقة! وهكذا.. ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل.. لقد أخذوها صفقة بين متبايعين؛ أنهي أمرها، وأمضي عقدها، ولم تعد هناك مساومة حولها!

6. وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض، وزمام القيادة، وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها، وكل رغباتها، وكل شهواتها، حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها، والمنهج الذي تحققه، والعقيدة التي تموت من أجلها، فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب‏ لنفسه في نفسه، أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/550.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه المناجاة التي كانت تسبح فيها أرواح المؤمنين في رحاب الله، وترفّ بها على مشارف الملأ الأعلى، يؤذّن فيهم بالعودة إلى عالمهم الذي يعيشون فيه، العالم الأرضي، إذ كان لا بدّ من العودة بعد هذه الرحلة المسعدة في عالم الروح، والحق، والنور، لأن الحياة تدعوهم إليها، ليكونوا مع النّاس، وليعيشوا في الناس! ومع ما معهم من زاد طيب تزوّدوا به في تلك الرحلة المسعدة، فإن ما على الأرض من مفاسد وشرور، وما في النّاس من مفسدين وأشرار، جدير به أن يغتال هذا الزاد الطيب، وأن يحرم أصحابه منه إذا لم يحذروا، ولهذا فقد تلقّاهم الله سبحانه وتعالى بتلك اللفتة الكريمة ـ تلقاهم وهم يهبطون إلى هذا العالم الأرضي، ليأخذوا حذرهم من العدوّ الراصد لهم بما في يديه من مفاتن ومفاسد، وليظلوا هكذا محتفظين بما وقع لأيديهم من خير، في تطوافهم بالعالم العلوي، وسبحهم فيه.

2. وكان قوله تعالى مخاطبا نبيّه الكريم: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ هو اليد القويّة الرّحيمة، التي تمسك على المؤمنين إيمانهم، وتثبت على طريق الحق والخير خطوهم، فلا يغريهم ما يغدو فيه الكافرون وما يروحون، من متاع الحياة وزخرفها، وما يحصّلون فيها من مال، وما يقع لأيديهم من جاه وسلطان، فذلك كله‏ ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾

3. وفي خطاب النبيّ الكريم بهذا النهى ومواجهته بالتحذير مما فيه، ما يلقى إلى المؤمنين أن يكونوا على حذر دائم، وإشفاق متصل.. إذ كان النبيّ الكريم، وهو ما هو في صلته بربه وخشيته منه، وفي رعاية الله له، وعصمته من الزلل ـ يواجه بهذا التحذير، ويلفت إلى مراقبة نفسه، وحراستها، فإن غير النبيّ من المؤمنين أولى بأن يحذر ويخشى العدوّ المتربص به، إن أراد النجاة والسلامة.

4. ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ انظر إلى ألطاف الله ورحمته بالمؤمنين، فإن الله سبحانه وتعالى إذ يواجههم بهذا التحذير الذي لو انفرد بهم وحده لأقام نظرهم على طريق الخوف والمراقبة أبدا، إن هم أرادوا الوفاء به، أو كان في استطاعتهم أن يفوا به! ـ إن الله سبحانه إذ يواجههم بهذا التحذير من جهة، يلقاهم من جهة أخرى بما يشرح صدورهم، ويدفئ قلوبهم بالأمل والرجاء، في حياة طيبة ونعيم مقيم.

5. وبهذا تتوازن النظرتان: نظرتهم إلى العدوّ المتربص بهم، الذي يدعوهم إلى التفلت من طريق الحق ومجانبته، إلى طريق الضلال والغواية ـ ثم نظرتهم إلى ربّهم، وما يدعوهم إليه من رضوانه، ونعيم جناته.. وهنا يكون لهم بين النظرتين موقف، وإلى أي الطريقين منزع!

6. ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾، فمن محصّل النظرتين، يجد المؤمنون أن ما يدعوهم إليه ربهم هو الخير، وأن ما أعد الله لهم هو الجدير بأن يحرص عليه، ويعمل العاملون له، وأن ما يسوس لهم به الشيطان، هو الضلال المهلك، والخسران المبين.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏2/676.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾ اعتراض في أثناء هذه الخاتمة، نشأ عن قوله: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ [آل عمران: 195] باعتبار ما يتضمّنه عدم إضاعة العمل من الجزاء عليه جزاء كاملا في الدنيا والآخرة، وما يستلزمه ذلك من حرمان الذين لم يستجيبوا لداعي الإيمان وهم المشركون، وهم المراد بالذين كفروا كما هو مصطلح القرّاء، والخطاب لغير معيّن ممّن يتوهّم أن يغرّه حسن حال المشركين في الدنيا.

2. الغرّ والغرور: الإطماع في أمر محبوب على نيّة عدم وقوعه، أو إظهار الأمر المضرّ في صورة النافع، وهو مشتقّ من الغرّة ـ بكسر الغين ـ وهي الغفلة، ورجل غرّ ـ بكسر الغين ـ إذا كان ينخدع لمن خادعه، وفي الحديث: (المؤمن غرّ كريم) أي يظنّ الخير بأهل الشرّ إذا أظهروا له الخير، وهو هنا مستعار لظهور الشيء في مظهر محبوب، وهو في العاقبة مكروه.

3. أسند فعل الغرور إلى التقلّب لأنّ التقلّب سببه، فهو مجاز عقليّ، والمعنى لا ينبغي أن يغرّك، ونظيره: (لا يفتننّكم الشيطان)، و(لا) ناهية لأنّ نون التوكيد لا تجيء مع النفي.

4. التقلّب: تصرّف على حسب المشيئة في الحروب والتجارات والغرس ونحو ذلك، قال تعالى: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ﴾ [غافر: 4]، والبلاد: الأرض، والمتاع: الشيء الذي يشتري للتمتّع به.

5. جملة ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ إلى آخرها بيان لجملة ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ﴾، والمتاع: المنفعة العاجلة، قال تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾ [آل عمران: 185]

6. جملة ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ إلى آخرها افتتحت بحرف الاستدراك لأنّ مضمونها ضدّ الكلام الذي قبلها لأنّ معنى‏ ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ﴾.. وصف ما هم فيه بأنّه متاع قليل، أي غير دائم، وأنّ المؤمنين المتّقين لهم منافع دائمة.

7. النزل ـ بضم النون والزاي وبضمّها مع سكون الزاي ـ ما يعدّ للنزيل والضيف من الكرامة والقرى، قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ [فصلت: 31، 32]، و(الأبرار) جمع البرّ وهو الموصوف بالمبرّة والبرّ، وهو حسن العمل ضدّ الفجور.

__________

(1) التحرير والتنوير: 3/316.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات السابقة إشارات إلى سطوة المشركين؛ إذ آذوا المؤمنين، وأخرجوهم من ديارهم، وقاتلوهم وقتلوا منهم، وقد بين سبحانه أنه سيجزى المؤمنين على صبرهم وهجرتهم، وجهادهم، ولكن قد يعرض للخاطر: لماذا يكون هؤلاء المشركون في هذه القوة وتلك النعمة الدنيوية؟ فجاء النهى الكريم ليمنع من توسوس له نفسه من أن يغتر بما عليه هؤلاء المشركون من قوة وسطوة ومتاع دنيوي والنهى موجه للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومعناه: لا يصح أن تغر بما عليه المشركون من قوة ومال، وهو نهى لكل المؤمنين، وفيه إشارة إلى أن هذه الحال من شأنها أن تغر وتخدع من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فكان النهى لهذا، وليس من مقتضى النهى أن يكون قد وقع من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم غرور، فالنهى عن أمر من شأنه أن يقع في النفوس ليس دليلا على وقوعه، ولذلك روى أن قتادة قال: والله ما غروا نبيّ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، حتى قبضه الله إليه، ولقد قال الزمخشري في توجيه النهى للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فيه وجهان: أحدهما: مدرة القوم ومتقدمهم خاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعا، فكأنه قال لا يغرنكم، الثاني: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان غير مغرور بحالهم، فأكد ما كان عليه وثبت ما كان على التزامه كقوله: ﴿وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ [هود]، ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [القصص‏]، ﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [القلم‏]، ومعنى غره أصاب غرته، والغرة غفلة في اليقظة)

2. التقلب: التصرف، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ [الشعراء]، ومعنى تقلب هؤلاء الأعداء في البلاد تصرفهم فيها حاكمين‏ مسيطرين أقوياء ينتقلون أحرارا من بلد إلى بلد، وجملة معنى النص الكريم: لا يصح أن يخدع أحد بما عليه أولئك الناس من قوة وسطوة وتصريف في شؤون البلاد، فإن هذا إلى أمد قصير، وهو متاع قليل، ولذا قال سبحانه: ﴿قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾

3. المتاع: الشيء الذي يجعل الانتفاع به ولا يبقى طويلا، من ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران‏]، وهى هنا خبر لمبتدإ محذوف دل عليه الكلام الذي قبله، والمعنى أن تقلبهم وتصرفهم في البلاد متاع قليل، فهو انتفاع عاجل ومقداره قليل، ثم تعقبه بعد ذلك حسرات، ولذلك ذكر ما يعقبه فقال: ﴿ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ العطف بـ (ثم) ليس للدلالة على التراخي الزمنى فقط، بل للدلالة على تفاوت ما بين حالهم في الدنيا، وما يكونون عليه في الآخرة، والمأوى هو المكان الذي يأوي إليه الشخص ليستقر فيه ويطمئن، فكان استقرارهم هو جهنم، وهى اسم لنيران يوم القيامة، والمهاد هو المكان الممهد والفراش اللين، ويكون التعبير عن مآلهم بالمهاد من قبيل التهكم، ويصح أن يقال إنهم هم الذين مهدوه لأنفسهم، ويكون المعنى بئس الذي مهدوا به لأنفسهم، أي أنهم بأعمالهم في الدنيا قد مهدوا لأنفسهم فراشا من اللظى والجحيم وبئس هذا المهاد، وفي هذا تعزية للمؤمنين أبلغ تعزية، وقد روى الترمذي أن رسول الله قال: ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بما يرجع)

4. الاستدراك هنا بـ (لكن) للمقابلة بين المتقين الأبرار والمشركين الفجار بالنسبة للمآل، فالكفار مآلهم جهنم ومتاعهم دنيوي قليل، والمتقون لربهم المدركون لمعنى الربوبية الشاكرون لنعمته مآلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وليست مدتها المشركين الفجار بالنسبة للمآل، فالكفار مآلهم جهنم ومتاعهم دنيوي قليل، والمتقون لربهم المدركون لمعنى الربوبية الشاكرون لنعمته مآلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، وليست مدتها قليلة، بل لهم فيها الخلود، فالنعيم كثير والزمن طويل، بينما الآخرون نعيمهم ضئيل قصير، وعذابهم دائم كثير.

5. ﴿نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ (النّزل) ما يعد للضيف لإكرامه والحفاوة به، ونصب (نزلا) على التمييز كما تقول كان لك هذا هبة، أي من نوع الهبة، وفي هذا بيان لمقدار عناية الرحمن الرحيم بهم، وإدخالهم مدخل صدق، وإنزالهم منزلا مباركا، وقد بين العطاء الروحي بعد العطاء المادي، فقال سبحانه:

6. ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ وقد حاول بعض المفسرين أن يقول إن الأبرار مرتبة أعلى من مرتبة المتقين، سيرا على قاعدة (حسنات الأبرار سيئات المقربين)، ويكون تفسير النص السامي على نظرهم، ومعناه أن ثمة للأبرار منزلة روحية، وتكريما رضوانيا هو خير من المذكور، ومع هذا لا مانع من أن نقول إن الذين اتقوا هم الأبرار، والمعنى إن الله أعد لهم شيئا خيرا من النزل، وهو الرضوان والنعيم الروحي مع النعيم المادي.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1558.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال كثير من المفسرين في شرحها ما يتلخص بأن الكافر يعيش في هذه الحياة في رخاء ولين، ولكن مصيره إلى وبال وشقاء، والمؤمن يعيش في شك وضيق وعاقبته السعادة والهناء، وبكلمة ان الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر، والآخرة بالعكس، والذي نفهمه نحن من هذه الآيات انها تعرضت للمقارنة بين الذين يؤثرون دنياهم على دينهم، ولا يعملون إلا بوحي من مصالحهم الشخصية، كاليهود ومن على شاكلتهم، وبين الذين يؤثرون الدين على الدنيا مهما تكن النتائج، وعبر عن الفريق الأول بالذين كفروا، لأنهم يكفرون بالحق، ولا يقيمون له وزنا، وعبر عن الفريق الثاني بالذين اتقوا ربهم، لأنهم تجنبوا سخطه ومعصيته.

2. ليس من شك ان من عمل للدنيا، وجعلها كل همه، واستباح من أجلها المحرمات يجتمع في يده الكثير من حطامها، كما نشاهد ذلك بالفعل، على العكس ممن زهد في الحرام، وآثر عليه الجوع والحرمان.

3. المراد بتقلب الفريق الأول في البلاد تنعمهم فيما انتهبوا من خيراتها ومقدراتها، وقد يتوهم ويظن ان مظاهر النعمة والترف على أهل الباطل خير لهم وكرامة، وان مظاهر الشظف والحرمان على أهل الحق شر ومهانة، فدفع الله هذا التوهم بأن العكس هو الصحيح، فان نعمة المبطلين متاع قليل، ثم إلى جهنم وبئس المصير، وان بؤس المحقين إلى زوال، ثم إلى نعيم دائم، وراحة أبدية.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/235.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ﴾ الآية، هذا بمنزلة دفع الدخل والتقدير: هذا حال أبرار المؤمنين وهذا أجرهم، وأما ما ترى فيه الكفار من رفاه الحال وترف الحياة ودر المعاش فلا يغرنك ذلك (الخطاب للنبي والمقصود به الناس) لأنه متاع قليل لا دوام له.

2. ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ الآية، النزل‏ ما يعد للنازل من طعام وشراب وغيرهما، والمراد بهم الأبرار بدليل ما في آخر الآية، وهذا يؤيد ما ذكرناه من أن الآية السابقة دفع دخل.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/90.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾ إن بعض الناس يغتر ببسط النعمة لأعداء الله، فيظن أن ما هم عليه من الكفر سهل لا يوجب عليهم غضب الله، وأن الله لو كان غاضباً عليهم ما أعطاهم، وهذا خطأ من الظن فالدنيا متاع قليل لا قدر له عند الله، لأنه لم يجعله دليلاً على رضاه أو عدم غضبه وإنما هو فتنة واختبار.

2. معنى (تقلبهم في البلاد) تمكنهم من التنقل فيها لا يمنعهم سلطان المؤمنين ولا الخوف، وذلك لضعف المسلمين في وقت نزول هذه الآية، فالكفار يتنقلون لكسب الأرزاق حيث يشاؤوا في بلادهم أو في بلاد العرب.

3. ثم بين تعالى حقارة هذا التقلب، فقال تعالى: ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ فهو حقير من حيث هو ﴿مَتَاعُ﴾ قصير المدة يذهب عن قريب وحقير من حيث هو ﴿قَلِيلٍ﴾ في نفسه إما بالنسبة إلى ما يعتاد للبشر في هذه الحياة، وإما بالنسبة إلى نعيم الجنة ﴿ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ حيث يصير متاع الدنيا كأن لم يكن، بل أشد من ذلك أنه ينقلب وبالاً عليهم بكفرهم لنعم الله وتعذيبهم على كفر النعمة وبسوء تصرفهم في الدنيا باستعمال النعم في المعاصي كالربا، وبتحريم ما أحل الله وغير ذلك.

4. ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ جهنم؛ لأن المهاد هو الفراش الذي يمهد للراحة عليه أو النوم لكن جهنم نار الله لا راحة فيها ولا نوم، ولكن عذاب أليم، وهم مهدوها لأنفسهم بكفرهم، فبئس المهاد هي اتخذوها بدلاً من أن يمهدوا لأنفسهم مكاناً ينجون فيه من العذاب.

5. ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ ﴿لَكِنِ﴾ كلمة استدراك، وهي تفيد: المقارنة بين العاقبتين، فعاقبة الكفار الممكنين في الدنيا جهنم، وعاقبة المتقين الجنة سواء مكنوا في الدنيا أم لا، فليس المهم الدنيا وتمكنها أو قلة حالها إنما المهم العاقبة لأنها الدائمة، إما شقوة دائمة وإما سعادة دائمة، والدوام أمر عظيم عند من يتفكر فيه وينسب إليه الدنيا الحقيرة الفانية.

6. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ باقين فيها لا يموتون ﴿نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ فهم كالوفد المكرم الذي يقدم له عند نزوله الطعام والشراب، لكن الجنات نزل من عند الله أكرم الأكرمين فضيافته أعظم ضيافة.

7. ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ لأنه الثواب العظيم الدائم والفضل العظيم الذي لا ينقطع، كيف لا وقد قال فيه سبحانه: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ [الإنسان:20] فالتمكين في الدنيا لا يقاس به ولاسيما تمكين الكفار الذي عاقبته النار؛ والأبرار ضد الفجار وهم المؤمنون المطيعون لله ورسوله.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/606.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآية يريد الله سبحانه ـ كما في أكثر الآيات القرآنية ـ أن يفرّغ نفوس الناس من كل إحساس بالتعظيم والاحترام والرهبة من القوى الكافرة الطاغية الباغية التي تواجه الله بالتمرّد في الفكر والعمل، وذلك من أجل إرجاعهم إلى إنسانيّتهم الحقيقية في الانفتاح على ما حولهم ومن حولهم بواقعيّة وانطلاق وموضوعية، فلا يتصورون الأشياء بأكبر من حجمها الحقيقي في طبيعتها وفي تأثيرها، لأن المشكلة التي يعيشها الإنسان في حياته، هي أن الصورة التي يواجهها في ما يشاهده من القوى المسيطرة في الكون، تملأ نفسه بالرهبة والشعور بالصّغار والانسحاق أمام هذه القوى، ويتحوّل ذلك إلى خضوع لكل أفكارهم وأوضاعهم المنحرفة، مما يؤدي إلى انحراف المنحرفين وتنازل الكثيرين عن خطّهم.

2. وهذا هو المنطق الذي يفرض نفسه على كثير من الساحات الإسلامية في العالم، ولا يزال يفرض نفسه على ساحتنا الآن، فنحن ننظر إلى القوى في مرحلتها المتقدمة ولا ننظر إليها في حالة ولادتها، أو في حالة انحسارها، فنشعر بالضعف أمام ذلك كله.. أما إذا تبدّل هذا المنطق، فأصبحنا ننظر إليها في مراحل بداياتها أو نهاياتها، فإننا سننظر إلى القوّة كمرحلة مجرّدة من مراحل نموّ الإنسان وتطوّره، فنتعامل معها، من خلال ذلك، تعاملا واقعيا ليس فيه الكثير من حالات الانفعال والضعف والتضاؤل.. وهذا ما أراد القرآن الكريم أن يثيره أمام الإنسان في أكثر من صورة، فنراه يعرض هؤلاء الذين يعتبرهم الناس آلهة في حالات ضعفهم ولا يلتفت إلى حالة قوّتهم، لأنه يهدف إلى إبراز جوانب الضعف، ليعيش الإنسان الشعور بواقعية الضعف في حياتهم كشيء طبيعي جدا، فإذا رأوا جانب القوّة لديهم، نظروا إليه نظرة متوازنة تثير المقارنة بين الحالتين، فتتوازن من خلال ذلك النظرة والتصرف والعلاقة والإتباع، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾، [الحج: 73]، فإن الآية تواجه هؤلاء الذين يعتقد الناس أنهم آلهة معبودون من دون الله في ما يثيره ذلك التصور من قوّتهم وضخامة شخصيتهم، فتضع أمامهم شخصية الذباب في ضآلته وحقارته، ثم توحي بأن هؤلاء الكبار الضخام الذين قد يشيّدون القصور الكبيرة والقلاع المحصّنة، لا يستطيعون خلق الذباب ولو اجتمعوا له وبذلوا طاقاتهم فيه، لأنهم لا يملكون القدرة على الخلق حتى في أشدّ الأشياء حقارة، فتتضاءل الصورة وتتصاغر، ويتعمق الشعور بأن قضية القوة الإلهية لا تكمن في القدرة على إعلاء البناء فقط، بل تتمثل أيضا في إبداع الروح في الأشياء مهما كانت حقيرة، لأن ذلك هو الشيء الذي يميّز الخالق عن المخلوق.

3. وتتصاعد الفكرة في اتجاه جديد، فهذه الذبابة الصغيرة الحقيرة تملك من القدرة على أن تسلبهم بعض الأشياء من قوتهم وصحتهم، فلا يستطيعون إرجاع ذلك منها ولا يملكون استنقاذه، فأيّ ضعف هو هذا الضعف الذي يتمثل في هؤلاء الأقوياء الذين إذا ملكوا القوّة في جانب، فإن أكثر من جانب من جوانب الضعف يتمثل في جانب آخر، وتلك هي القصة في الأشياء التي يتمثل فيها الضعف من جهة وتتحرك فيها القوة من جهة أخرى، لتتوازن النظرة في الإنسان، فلا يصعد إلى ما لا يبلغه من الدرجة لدى نفسه ولدي الآخرين.

4. تنطلق هذه الآية في هذا الاتجاه، ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾ فقد يخضع الإنسان للشعور بالانسحاق أمام القوّة الكبيرة المتمثلة في حركة الكافرين، عندما يفتحون بلدا أو يحكمون آخر ويسيطرون على شعب من الشعوب، وقد يغرّه ذلك، فيمتد معهم في ما لا يستحقونه، ويستسلمون له استسلام الأمل الكبير للفرص الخالدة الممتدة المتعاظمة أمامهم، التي توحي إليهم بالكثير من الأطماع والشهوات، فيستريحون إلى ذلك كله في ما ينتظرهم من مستقبل الأيّام الطويلة.. ولكن القرآن يريد أن يربطهم بواقع الأشياء ويبعدهم عن الأجواء الخياليّة المتحركة بالأحلام الضبابيّة؛ فلكل واحد منهم عمر محدود وطاقة محدودة، ولكلّ واحد منهم نقاط ضعف في ذاته وفي حكمه، إنهم مجرد مرحلة في حياة الأمة، قد تتسع وقد تضيق، وقد تمتد وقد تنكمش.. ولكنها سوف تنتهي في وقت قصير.

5. ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾.. وماذا بعد ذلك؟ ما قيمة ذلك كله؟ إن العاقبة الوخيمة تنتظرهم هناك عندما يفارقون هذه الدنيا، فسيفقدون كل هذه العظمة الفارغة ويتحوّلون إلى غذاء شهيّ للنار، تماما كما هي الأخشاب والهشيم.

6. ﴿ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ فذلك هو مأواهم ومصيرهم السيّئ وبئس المهاد، إنه الدور النفسي الذي يستهدف تفريغ داخل الإنسان من التأثيرات النفسية المنبهرة بمظاهر العظمة المحيطة بهم، فما قيمة ذلك كله في نطاق إدراكنا بأن هؤلاء الكافرين يعيشون الحياة كمتاع؟ مجرّد متاع؟ فقد لا يكون لهذه النظرة السلبية في داخلنا ضدهم تأثير على القوى الطاغية والباغية بشكل فوري حاسم، ولكنه يترك الأثر الإيجابي للمستقبل، لأن الصّراع بين المستكبرين والمستضعفين، في حركة الصراع بين القوة والضعف، لا تحكمه القوى الماديّة فقط، بل تتدخل فيه القوى النفسية، فإن هناك عنصرين يساهمان في هزيمة الضعفاء أمام الأقوياء وهما: عنصر القوّة المادية التي يملكها المستكبرون، وعنصر المشاعر السلبيّة الانهزامية التي ينسحق ـ من خلالها ـ المستضعفون تحت تأثير المستكبرين، وقد تعامل الإسلام ـ في ما يريده من تقوية حركة المقاومة ضد هؤلاء ـ مع العنصر الأول في ما جاءت به الآية الكريمة: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60]، ومع العنصر الثاني في ما جاءت به هذه الآية وأمثالها للدخول في عملية موازنة ومقارنة بين القوّة التي تفنى وتزول، وبين القوّة التي تملك أمر الحياة والموت، فلا يستسلم الإنسان للقوّة الزائلة، بل يخضع للقوّة الخالدة التي تملك كل القوى المادية والمعنوية، وبذلك يتحرك في عملية تطوير القوّة المضادّة والانطلاق بالصراع إلى نهايته حتى النصر، ولو بعد حين، إن الفكرة الحاسمة هي أن كل القوى لن تدوم لأنها مجرد متاع قد يفنى في الدنيا، وقد تفنيه الدنيا.. وفي هذا الجوّ ينطلق التفاؤل بالمستقبل الكبير من أجل صنع القوى الوليدة الجديدة التي تمسك بزمام الأمر كله على اسم الله.

7. تلك هي صورة الكافرين، متاع قليل لا يلبث أن يتحوّل إلى عالم الموت، وكيان يحترق حتى يستحيل إلى رماد، ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ فوقفوا حيث يريد الله منهم أن يقفوا، وتحركوا حيث يريد الله منهم أن يتحركوا، في مختلف مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.. لأن لكل جانب من جوانب الحياة تقوى تحكمها في ما يتحرك فيها من أحكام شرعية ومفاهيم إسلامية تفرض على الإنسان الخضوع لها والانضباط على أساسها؛ انطلاقا من شمول الإسلام لكل نواحي الحياة، مما يوحي لك بأنّ عليك أن تحسب حساب الله في ذلك كله، ولا تستسلم لنزواتك ومزاجك، أو لما يحاول الآخرون أن يهوّلوا به عليك، أو يبرروه لك من دون أن تملك فيه حجة أو برهانا، فذلك هو خط التقوى الذي يعطينا الله ـ من خلاله ـ فكرة عن الأجواء في الآخرة التي تنتظر السائرين عليه.. ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ فهو الذي ينزل رحمته على المتقين في الدنيا والآخرة، ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ فإن هذه الآفاق الرحيبة التي تفتح قلب الإنسان وروحه على المتع الروحية المطلقة، هي خير من كل ما يتطلعون إليه في الدنيا أو يفقدونه فيها، وقد ورد في بعض الأحاديث المأثورة عن الجنة ونعيمها: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)

8. وهكذا تتقارن الصورتان أمام المؤمن، صورة الكافرين وصورة المتّقين، ليقف مع الخط الإيماني التقي الأصيل من موقع النهايات السعيدة التي تنتظره في نهاية المطاف.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏6/462.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان أكثر مشركي مكّة أهل تجارة، وقد كانوا يحصلون من هذا الطريق على ثروة ضخمة، يتنعمون بها، وهكذا كان يهود المدينة أهل تجارة، وكانوا يعودون من رحلاتهم التّجارية على الأغلب موفورين، في حين كان المسلمون بسبب أوضاعهم الخاصّة، لا سيما بسبب الهجرة، والحصار الذي كان مشركو مكّة قد فرضوه عليهم، يعانون من وضع اقتصادي صعب جدا، وبكلمة واحدة كانوا يعيشون في عسرة شديدة، فكانت مقارنة هاتين الحالتين تطرح على البعض السّؤال التالي: كيف يتنعّم أعداء الله في العيش الرخي، بينما يقاسي المؤمنون ألم الجوع والفقر المدقع؟ فنزلت الآيات الحاضرة تجيب على هذا التساؤل‏.

2. السّؤال الذي مرّ ذكره في سبب نزول هذه الآيات والذي كان يطرحه بعض المسلمين في عصر النّبي يعتبر سؤالا عاما يطرح نفسه على الناس في كل زمان ومكان، فإنّهم يرون كيف يتنعم العصاة والطّغاة، والفراعنة والفسّاق، ويرفلون في النعيم، ويعيشون الحياة الرفاهية، والرخاء العريض، ويقيسونه ـ غالبا ـ بحياة الشدّة والعسرة التي يعيشها جماعة من المؤمنين، ويقولون متسائلين: كيف ينعم أولئك العصاة ـ مع ما هم عليه من الإثم والفساد والجريمة ـ بمثل تلك الحياة الرخية، بينما يعيش هؤلاء ـ مع ما هم عليه من الإيمان والتقوى والصلاح ـ في مثل هذه الشدّة والعسرة، وربّما أدى هذا الأمر ببعض ضعفاء الإيمان إلى الشك والتّردد.

3. لو أنّنا درسنا هذا السؤال بصورة دقيقة وجيدة، وحللنا عوامل الأمر وأسبابه في كلا الجانبين، لظهرت أجوبة كثيرة على هذا التساؤل، وقد أشارت هذه الآيات إلى بعضها، ويمكننا الوقوف على بعضها الآخر بشيء من التأمل والفحص.

4. تقول الآية الأولى من هذه الآيات: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾ والمخاطب في هذه الآية وإن كان شخص النّبي الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلا أنه من الواضح البيّن أن المراد هو عموم المسلمين، ثمّ تقول: ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ أي أنّ هذه النّجاحات المادية التي يحرزها المشركون، وهذه الثروات الهائلة التي يحصلون عليها من كل سبيل ليست سوى متاع قليل، ولذّة عابرة.

5. ﴿ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ فالملذات المادية تستعقب عواقب سيئة، فإنّ مسئولية هذه الأموال والثروات ستجرّهم إلى مصير مشؤوم، ذلك هو الجحيم الذي ستكون محطتهم الأخيرة ومآلهم وبئس المآل.

6. إنّ هذه الآية تشير ـ في الحقيقة ـ إلى نقطتين:

أ. الأولى: إنّ أكثر مظاهر تفوّق هؤلاء العصاة الطّغاة الظالمين محدودة الأبعاد، كما أنّ متاعب أكثر المؤمنين ومشاكلهم ومحنهم كذلك مؤقتة، ومحدودة أيضا، وأفضل شاهد على هذا الموضوع هو ما نلاحظه في حياة المسلمين وحياة أعدائهم ومناوئيهم في صدر الإسلام، فحيث أنّ الحكومة الإسلامية كانت آنذاك في بداية أمرها كنبتة شابّة لا تمتلك كل عناصر القوّة والمنعة لم تكن تملك القدرة الكاملة على الدفاع عن حوزتها وكيانها أمام هجوم أعدائها الألداء الذين كانوا يهاجمونها بشراسة ودونما رحمة، وخاصّة أنّ هجرة المسلمين الذين كانوا جماعة قليلة في مكّة جعلتهم في وضع حرج جدّا إلى درجة أنّهم فقدوا كل شيء في الهجرة، ولا يختص مثل هذا الوضع بهم، بل يتعرض لمثل هذه المعاناة ومثل هذا الوضع كل من يناصر ثورة تغييرية، ونهضة معنوية وروحية جذرية في مجتمع فاسد يراد تغييره بها، ولكننا نعلم أنّ هذا الوضع لم يدم طويلا، فما لثبت الحكومة الإسلامية إلّا أن ترسخت جذورها وقويت دعائمها، واشتدّ أمرها، وقويت شوكتها، وانحدرت الأموال إلى مركز الإسلام من كل صوب وحدب، فانعكس الوضع تماما، إذ عاد المترفون الكافرون والأعداء المتنعمون الذين كانوا يرفلون في النعيم والخير مساكين وفقدوا كل ذلك النعيم، وهذا هو ما يعنيه قوله سبحانه: ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾

ب. الثّانية: إن النّجاحات المادية التي يحرزها بعض العصاة والفاسقين إنّما هي لكونهم لا يتقيدون في جمع الثّروة بأي قيد أو شرط، فهم يجمعون المال من كل سبيل، سواء كان مشروعا أم غير مشروع، حراما كان أم حلالا، بل إنّهم يجوزون لأنفسهم اكتناز الثروة حتى على حساب الضعفاء والفقراء وامتصاص دمائهم، في حين يتقيد المؤمنون بمبادئ الحق والعدالة في هذا المجال، فلا يسوغون لأنفسهم بأن يكتسبوا المال من أي طريق كان، وأي سبيل اتفق، ولهذا لا يمكن (أو لا تصح) المقارنة والمقايسة بين هؤلاء وهؤلاء، هؤلاء يشعرون بالمسؤولية الثّقيلة، وأولئك لا يشعرون بأية مسئولية، ولا يعترفون بأي ضابطة، وحيث إن الحياة الحاضرة حياة الإرادة البشرية الحرّة، وعالم الاختيار الحر، كان طبيعيا أن يترك الله سبحانه كلتا الطائفتين أحرارا ليتصرفوا كيف شاءوا، ولينتهوا في المآل إلى نتائج أعمالهم التي اكتسبوها بأيديهم، وهو ما يقصده ويعنيه سبحانه، بقوله في ختام هذه الآية: ﴿ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾

7. ثمّ إن هناك سببا آخر لتقدم ونجاح بعض الكفار والفاسقين، وتأخر بعض المؤمنين هو أن الطائفة الأولى رغم خلوهم من عنصر الإيمان يتحلون ـ أحيانا ـ ببعض نقاط القوّة التي يحققون في ظلّها ما يحققون من المكاسب، ويحرزون ما يحرزون من النجاحات، فيما تعاني الطائفة الثانية من نقاط ضعف توجب تأخرهم وانحطاطهم، فنحن نعرف أشخاصا ـ رغم انقطاعهم عن الله ـ يتسمون بالجدّية الكبيرة في أعمالهم، ويتحلّون بالاستقامة والعزم، والتنسيق والتعاون فيما بينهم، والمعرفة بقضايا العصر ومتطلباته، ومقتضياته ومستجداته، ومن الطبيعي أن يحقق هؤلاء مكاسب كبيرة ويحرزوا انتصارات ونجاحات في حياتهم المادية، وما هم في هذا الأمر ـ في الحقيقة ـ إلّا مطبقون لتعاليم الدين وبرامجه من دون إسنادها إلى الدين وإعطائها صفته وصبغته، وفي المقابل، هناك أشخاص متدينون أوفياء للعقائد الدينية، لكنهم بسبب غفلتهم عن تعاليم الدين الحيوية يعانون من الجبن والإحجام، ويفتقرون إلى الشهامة والاستقامة ويفقدون عنصر الثبات والاستمرار والاتحاد والتعاون، وطبيعي أن يصاب هذا الصنف من الناس بإخفاقات متلاحقة وهزائم متتابعة، ولكن هذه الهزائم والإخفاقات ليست أبدا بسبب إيمانهم بالله، بل هي بسبب ما بهم من نقاط الضعف، وما بأنفسهم من عوامل الهزيمة، وموجبات السقوط والإخفاق، إنّهم يتصورون (وبالأحرى يظنون) بأنهم سيتنصرون بمجرد الصلاة والصوم في جميع المجالات، وينجحون في جميع المواقف، في حين جاء الدين بسلسلة من البرامج والمناهج العملية الحيوية للتقدم والنجاح في الحياة، يستلزم تجاهلها الفشل والسقوط والهزيمة، إنّ لكلّ شيء سببا، ولكل نجاح مفتاحه الخاص، ووسيلته الخاصّة، وقد أتى الدّين بكل ذلك، وبيّنه في تعاليمه وتوصياته، فلا يمكن أن يتحقق نجاح بغيره هذه التعاليم وبغير هذه الوسائل.

8. خلاصة القول: إنه لدى كل طائفة من هاتين الطائفتين نقاط ضعف، ونقاط قوّة، ولكل واحدة منها آثارها ونتائجها الطبيعية، غاية ما في الأمر أنه قد تلتبس هذه الآثار وتشتبه على المرء عند التقييم والمحاسبة، مثلا: هناك كافر يتمتع لسعيه وجهاده واستمراره في أعماله بالحياة ويحقق في هذا المجال النجاح تلو النجاح، ولكنّه إذ يفتقد عنصر الإيمان بالله فإنّه يفتقر إلى نعمة الطمأنينة النفسية وفضيلة المشاعر الطاهرة، والأهداف الإنسانية العالية، يبقى أن نعرف أن ما ذكرناه من العوامل الثلاث لتقدم الكفار ونجاحهم، وتأخر بعض المؤمنين وفشلهم لا تصدق في مكان واحد، بل لكل واحد منها مورده ومجاله الخاص.

9. ثمّ إنّ الله سبحانه بعد أن بيّن مصير الكفار في الآية السابقة، بيّن هنا ـ في الآية التي تلت تلك الآية ـ مصير المؤمنين، إذ قال: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي إن الذين اتبعوا موازين الحق والعدل في الوصول إلى المكاسب المادية، أو أنّهم بسبب إيمانهم تعرضوا للحصار الاقتصادي والاجتماعي ولكنهم مع ذلك بقوا ملتزمين بالتقوى، فإنّه تعالى سيعوضهم عن كل ذلك بجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها.

10. ﴿نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ و(النّزل) في اللغة هو ما يعدّ للضيف من الكرامة والبر، وقال البعض: أنّه أول ما يقدم إلى الضّيف النازل من شراب أو فاكهة، وعلى هذا يكون معنى الآية أن الجنات المذكورة مع كل ما فيها من المواهب المادية هي أوّل ما يقدّم يوم القيامة إلى المؤمنين المتقين، وأمّا الضيافة المهمّة والعليا فهي النعم والمواهب المعنوية التي عبر عنها سبحانه بقوله: ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/59.

108. المؤمنون من أهل الكتاب ومصيرهم

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈108⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران: 199]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: نزلت في أهل نجران؛ أربعين رجلا من بني حارث بن كعب، اثنين وثلاثين من أرض الحبشة، وثمانية من الروم، كانوا على دين عيسى عليه السلام، فآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٣/٢٣٨.

ابن الزبير:

روي عن عبد الله بن الزبير (ت 73 هـ) قال نزل بالنجاشي عدو من أرضهم، فجاء المهاجرون فقالوا: إنا نحب أن نخرج إليهم حتى نقاتل معك، وترى جراءتنا، ونجزيك بما صنعت بنا، قال لا، دواء بنصرة الله، خير من دواء بنصرة الناس، قال وفيه نزلت: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾(1).

__________

(1) الحاكم: ٢/٣٢٩.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ هم مسلمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى(1).

2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾: أحصاه عليهم(2).

__________

(1) ابن جرير: ٦/٣٣٠.

(2) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والذين اتبعوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٤٦.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ذكر لنا: أن هذه الآية نزلت في النجاشي، وفي ناس من أصحابه آمنوا بنبي الله وصدقوا به، وذكر لنا: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم استغفر للنجاشي، وصلى عليه حين بلغه موته، قال لأصحابه: (صلوا على أخ لكم قد مات بغير بلادكم)، فقال أناس من أهل النفاق: يصلي على رجل مات ليس من أهل دينه، فأنزل الله: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ الآية(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ نزلت في النجاشي وأصحابه ممن آمن بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، واسم النجاشي أصحمة، قال الثوري: اسم النجاشي أصحمة، قال ابن عيينة: هو بالعربية عطية(2).

__________

(1) ابن جرير: ٦/٣٢٨.

(2) عبد الرزاق في تفسيره: ١/١٤٤.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ لا يأخذ على تعليم القرآن أجرا(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٤٧.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ يعني: ابن سلام، ﴿لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ يعني: يصدق بالله، ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ يعني: أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من القرآن، ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ من التوراة(1).

2. روي أنّه قال: ثم نعتهم، فقال: ﴿خَاشِعِينَ لله﴾، يعني: متواضعين لله، ﴿لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ يعني: بالقرآن: ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، يعني: عرضا يسيرا من الدنيا؛ كفعل اليهود بما أصابوا من سفلتهم من المأكل من الطعام والثمار عند الحصاد، ثم قال يعني: مؤمني أهل التوراة؛ ابن سلام وأصحابه، ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾، يعني: جزاؤهم في الآخرة: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾، وهي الجنة(1).

3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾، يقول: كأنه قد جاء(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٢٤.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: لما صلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على النجاشي طعن في ذلك المنافقون، فقالوا: صلى عليه وما كان على دينه، فنزلت هذه الآية: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ الآية، قالوا: ما كان يستقبل قبلته، وإن بينهما للبحار، فنزلت: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾ [البقرة: ١١٥]، قال ابن جريج: وقال آخرون: نزلت في النفر الذين كانوا من يهود فأسلموا، عبد الله بن سلام ومن معه(1).

__________

(1) ابن المنذر: ٢/٥٤٢.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في الآية: هؤلاء يهود(1).

2. روي أنّه قال: ﴿خَاشِعِينَ لله﴾، قال الخاشع: المتذلل لله الخائف(2).

__________

(1) ابن جرير: ٦/٣٢٩.

(2) ابن جرير: ٦/٣٣١.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ يعني: القرآن، ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ يعني: التوراة.

2. اختلف في نزوله:

أ. قال بعضهم: نزل في شأن عبد الله بن سلام وأصحابه: أقرّوا بأنه واحد لا شريك له، وصدقوا رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وما أنزل عليه.. الآية.

ب. وقيل: نزل في شأن النجاشي‏، وروي عن جابر بن عبد الله‏ أن‏ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما صلى على النجاشي قال أناس‏ من المنافقين: يصلي على حبشى مات في أرض الحبشة!؟ فأنزل الله عزّ وجل: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ الآية، وعن الحسن قال لما مات النجاشي، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (استغفروا لأخيكم) قالوا: يا رسول الله، لذلك العلج!؟ فأنزل الله عزّ وجل: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ الآية، وقيل: لما صلّى عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم]؛ قال المنافقون: صلى على من ليس من أهل دينه؛ فأنزل الله الآية، وعن الزهري‏ عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى على النجاشي، فكبّر عليه أربع تكبيرات، وصففنا في المصلّى خلفه، وكان مات بالحبشة.

3. النوازل على وجهين:

أ. من ترك بسببه خيرا وسعة فله فيه فضل؛ لأنه كان مفتاح الخير، ومن ترك بسببه ضيقا فعليه فضل لوم؛ كأنه مفتاح الضيق.

ب. وأمّا الأحكام: فإنه ينظر إلى ما فيه نزل فيشترك فيه الخلق، ولا يجوز أن يقال: نزل في شأن فلان؛ إنما أنزل لما في شأن فلان، لا في شأنه.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/566.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ هذه الآية نزلت في النجاشي حين مات فصلى عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال بعض المنافقين انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني فأنزل الله فيه هذه الآية.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/161.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ اختلفوا في سبب نزولها على قولين:

أ. أحدهما: أنها نزلت في النجاشي، روى سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: أخرجوا فصلّوا على أخ لكم فصلّى بنا أربع تكبيرات، فقال هذا النجاشيّ أصحمة) فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهو قول قتادة.

ب. الثاني: أنها نزلت في عبد الله بن سلام وغيره من مسلمة أهل الكتاب، وهذا قول مجاهد، وابن جريج.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/445.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لله لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾:

أ. قال جابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب، وقتادة، وابن جريج‏ إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما بلغه موت النجاشي، دعا له واستغفر له، وصلى عليه، وقال للمؤمنين: صلوا عليه، فقالوا نصلي على رجل ليس بمسلم؟ وقال قوم منافقون: نصلي على علج بنجران؟ فنزلت هذه الآية، فالصفات التي فيها صفات النجاشي.

ب. وقال ابن زيد وفي رواية عن ابن جريج وابن إسحاق إنها نزلت في جماعة من اليهود وكانوا أسلموا، منهم: عبد الله بن سلام، ومن معه.

ج. وقال مجاهد: إنها نزلت في كل من أسلم من أهل الكتاب من اليهود والنصاري وهو أولى، لأنه عموم الآية، ولا دليل يقطع به علي ما قالوه على انها لو نزلت في النجاشي أو من ذكر، لم يمنع ذلك من حملها على عمومها، في كل من أسلم من أهل الكتاب، لأن الآية قد تنزل على سبب وتكون عامة في كل من تتناوله.

2. إنما خصوا بالوعيد، ليبين ان جزاء أعمالهم موفر عليهم، لا يضرهم كفر من كفر منهم فتأويل الآية ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾: التوراة والإنجيل‏ ﴿لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ أي يصدق بالله ويقر بوحدانيته، ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ أيها المؤمنون من كتابه ووحيه على لسان نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ يعني إلى أهل الكتاب من الكتب‏ ﴿خَاشِعِينَ﴾ يعني خاضعين بالطاعة مستكينين لها بها متذللين قال ابن زيد: الخاشع: المتذلل الخائف.

3. ﴿لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ معناه لا يحرفون ما أنزل الله في كتبه من أوصاف محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيبدلونه، ولا غير ذلك من أحكامه، وحججه لغرض من الدنيا خسيس يعطونه على التبديل، وابتغاء الرئاسة على الجهال، كما فعله غيرهم ممن وصفه بقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ وقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾ لكن ينقادون للحق، ويعلمون بما أمرهم الله به مما أنزل إليهم، وينتهون عما نهاهم عنه.

4. ثم قال: ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني هؤلاء الذين يؤمنون‏ ﴿بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾.. ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ يعني لهم عوض أعمالهم وثواب طاعاتهم فيما يطيعونه فيها مذخور عند ربهم حتى يوفيهم يوم القيامة.

5. ﴿إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ وصفه بالسرعة:

أ. لأنه لا يؤخر الجزاء عمن يستحقه لطول الحساب، لأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم قبل أن يعملوها وبعد أن عملوها، فلا حاجة به إلى احصاء، عدد فيقع في الإحصاء إبطاء.

ب. وقال الجبائي: لأنه قادر على أن يكلمهم في حال واحدة كل واحد بكلام يخصه، لأنه قادر لنفسه.

6. ﴿خَاشِعِينَ﴾ نصب على الحال، ويمكن أن يكون حالا من الضمير في (يؤمن) وهو عائد إلى قوله: ﴿لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ ويمكن أن يكون حالا من قوله: (إليهم) وقال الحسن: الخشوع: الخوف اللازم للقلب من الله، وأصل الخشوع: السهولة: والخشعة، سهولة الرمل كالربوة، والخاشع من الأرض: الذي لا يهتدى له، لأن الرمل يعفي اثاره، ومنه قوله: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ﴾ ﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ﴾ والخاشع: الخاضع ببصره، والخشوع: التذلل خلاف التصعب.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/94.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الخشوع: الخضوع بالخلال الظاهرة في الأطراف من الهدى والصمت، وأصله من السهولة من قولهم: الخُشْعَة، وهي سهولة في الرمل كالربوة، والخاشع من الأرض الذي لا يهتدى له؛ لأن الرمال سهولتها تعفي آثارها، والخشوع: التذلل خلاف التعصب.

2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾:

أ. قيل: لما صلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على النجاشي قال المنافقون: إنه يصلي على علج نصراني، فنزلت الآية، وروي أن جبريل نعاه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فخرج إلى البقيع، وقال لأصحابه: اخرجوا فصلوا على أخٍ لكم)، قالوا: ومن هو؟ قال: النجاشي)، وكشف له أرض الحبشة حتى رأى سرير النجاشي وصلى عليه، وكبر أربع تكبيرات عن ابن مسعود وابن عباس وأنس وقتادة وابن جريج.

ب. وقيل: نزلت الآية في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم، وكانوا على دين عيسى ثم آمنوا بمحمد عن عطاء.

ج. وقيل: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه عن ابن زيد.

د. وقيل: نزلت في مؤمني أهل الكتاب عن مجاهد.

3. لما تقدم وصف أهل الكتاب بيّن أن منهم طائفة قائمة بالحق، فقال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ يعني اليهود والنصارى ﴿لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ أي منهم طائفة تقر بتوحيد الله وعدله ورسله ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ أيها المؤمنون وهو القرآن والإسلام ﴿وَمَا أُنْزِلَ إلَيهِمْ﴾ من الكتاب وهو التوراة والإنجيل.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿خَاشِعِينَ لِلَّهِ﴾:

أ. قيل: أي خاضعين له لسكونهم إلى طاعته ونفورهم عن معصيته، وأفعالهم الدالة على ما في قلوبهم من الخوف عن أبي علي.

ب. وقيل: خشوعهم خوفهم من الله عن الحسن، وقد بينا ما قيل فيهم إنه النجاشي، أو ابن سلام، أو مؤمنو أهل الكتاب.

5. ﴿لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي لا يأخذون عوضًا على تحريف الكتاب وكتمان الحق وتغيير الأحكام عوضًا يسيرًا، ولكن ينقادون للحق ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني المذكورين ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أي أجر أعمالهم مدخر عنده حتى يصيروا إليه.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾:

أ. قيل: يعني أنه لا يخفى عليه شيء فحسابهم يسير سريع، والحساب هو أن يعرفهم ما لهم وما عليهم.

ب. وقيل: سريع الحساب؛ لأنه يحاسب كل الخلق معًا، فإذا حاسب واحدًا فقد حاسب الجميع.

7. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن التأديب إذا كان صفته ما ذكر لحقه من الوعد ما يلحق المطيع المستمر على طاعته.

ب. أن منْ أهل الكتاب من يقطع على إيمانه.

ج. أن الإيمان بجميع الرسل وجميع ما أنزل إليهم واجب.

د. أن من صفات المؤمنين الخشوع لله.

هـ. يدل قوله: ﴿إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ أن كلامه محدث؛ لأنه يحدثه عند المحاسبة.

و. أن كلامه بفعله لا بآلة؛ لأنه لو كان بآلة لما صح وصفه بالسرعة لما فيه من الترتيب.

ز. أنه ليس بجسم؛ إذ لو كان جسمًا لما صح أن يحاسب جميع الخلق دفعة واحدة.

ح. بطلان الجبر من وجوه:

منها: أن الإيمان والخشوع فعلهم.

ومنها: أنه لو كان خلقه تعالى لما صح الحساب مع العبد.

8. نصب ﴿خَاشِعِينَ﴾ على الحال من الضمير في ﴿يُؤْمِنْ﴾، وهو عائد إلى ﴿مِنَ﴾ وقيل: حال من الضمير في ما أنزل إليهم)، والأول أحسن.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/508.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أصل الخشوع: السهولة من قولهم الخشعة: وهي السهولة في الرمل، كالربوة، والخاشع من الأرض: الذي لا يهتدى له، لأن الرمل يعفي آثاره، والخاشع: الخاضع ببصره، والخشوع هو التذلل خلاف التصعب.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت في النجاشي ملك الحبشة، واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية، وذلك أنه لما مات نعاه جبرائيل لرسول الله في اليوم الذي مات فيه، فقال رسول الله: أخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم، قالوا: ومن؟ قال: النجاشي، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى البقيع، وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة، فأبصر سرير النجاشي، وصلى عليه، فقال المنافقون: أنظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني حبشي لم يره قط، وليس على دينه! فأنزل الله هذه الآية، عن جابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس، وقتادة.

ب. وقيل: نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران، من بني الحرث بن كعب، واثنين وثلاثين من أرض الحبشة، وثمانية من الروم، كانوا على دين عيسى، فآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن عطاء.

ج. وقيل: نزلت في جماعة من اليهود، كانوا أسلموا منهم: عبد الله بن سلام ومن معه، عن ابن جريج وابن زيد وابن إسحاق.

د. وقيل: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم، لأن الآية قد تنزل على سبب، وتكون عامة في كل ما يتناوله، عن مجاهد.

3. لما ذم تعالى أهل الكتاب فيما تقدم، وصف طائفة منهم بالإيمان، وإظهار الحق والصدق فقال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ أي: من اليهود والنصارى ﴿لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ أي: يصدق بالله، ويقر بوحدانيته (و) ب‌ ﴿مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ أيها المؤمنون وهو القرآن، ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ وهو التوراة والإنجيل.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿خَاشِعِينَ لِلَّهِ﴾:

أ. قيل: أي: خاضعين له، مستكينين له بالطاعة، متذللين بها.

ب. وقال ابن زيد: الخاشع المتذلل الخائف.

ج. وقال الحسن: الخشوع الخوف اللازم للقلب من الله.

5. ﴿لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي: لا يأخذون عوضا يسيرا على تحريف الكتاب، وكتمان الحق من الرشى والمأكل، كما فعله غيرهم ممن وصفهم تعالى في قوله: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ولكن ينقادون إلى الحق يعملون بما أمرهم الله به وينتهون عما نهاهم عنه)

6. ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني هؤلاء الذين وصفناهم ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ معناه: لهم ثواب أعمالهم، وأجر طاعاتهم عند الله مذخور، حتى يوفيهم الله يوم القيامة.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾:

أ. قيل: وصف الحساب بالسرعة، لأنه تعالى لا يؤخر الجزاء عمن يستحقه بطول الحساب، لأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم قبل أن يعملوها، وبعد أن عملوها، فلا حاجة به إلى إحصاء عدد، فيقع في الإحصاء إبطاء.

ب. وقيل: معناه إنه يحاسب كل الخلق معا، فإذا حاسب واحدا فقد حاسب الجميع، لأنه قادر على أن يكلمهم في حالة واحدة، كل واحد بكلام يخصه، لأنه القادر لنفسه، عن أبي علي الجبائي.

8. إنما خص الله تعالى هذه الطائفة بالوعيد، ليبين أن جزاء أعمالهم موفر عليهم، ولا يضرهم كفر من كفر منهم.

9. ﴿خَاشِعِينَ﴾: نصب على الحال من الضمير في ﴿يُؤْمِنْ﴾، وهو عائد إلى ﴿مِنَ﴾ وقيل: هو حال من الضمير في ﴿أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ المجرور بإلى، والأول أحسن.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/917.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلفوا فيمن نزل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ على أربعة أقوال:

أ. أحدها: أنها نزلت في النّجاشيّ، لأنه لمّا مات صلّى عليه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال قائل: يصلّي على هذا العلج النّصرانيّ، وهو في أرضه!؟ فنزلت هذه الآية، هذا قول جابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس، وقال الحسن، وقتادة: فيه وفي أصحابه.

ب. الثاني: أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنّصارى، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.

ج. الثالث: في عبد الله بن سلّام، وأصحابه، قاله ابن جريج، وابن زيد، ومقاتل.

د. الرابع: في أربعين من أهل نجران، وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الرّوم كانوا على دين عيسى، فآمنوا بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله عطاء.

2. ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ يعني: القرآن، ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ يعني: كتابهم، والخاشع: الذّليل، ﴿لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي: عرضا من الدنيا كما فعل رؤساء اليهود، وقد سلف بيان سرعة الحساب.

__________

(1) زاد المسير: 1/364.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى حال المؤمنين وكان قد ذكر حال الكفار من قبل، بأن مصيرهم إلى النار بين في هذه الآية أن من آمن منهم كان داخلا في صفة الذين اتقوا فقال: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ واختلفوا في نزولها:

أ. فقال ابن عباس وجابر وقتادة: نزلت في النجاشي حين مات وصلى عليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال المنافقون: إنه يصلي على نصراني لم يره قط.

ب. وقال ابن جريج وابن زيد: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه.

ج. وقيل: نزلت في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا.

د. وقال مجاهد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم، وهذا هو الأولى لأنه لما ذكر الكفار بأن مصيرهم إلى العقاب، بين فيمن آمن منهم بأن مصيرهم إلى الثواب.

2. وصفهم الله تعالى بصفات:

أ. أولها: الايمان بالله.

ب. ثانيها: الايمان بما أنزل الله على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ج. ثالثها: الايمان بما أنزل على الأنبياء الذين كانوا قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

د. رابعها: كونهم خاشعين لله وهو حال من فاعل يؤمن لأن من يؤمن في معنى الجمع.

هـ. خامسها: أنهم لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلا كما يفعله أهل الكتاب ممن كان يكتم أمر الرسول وصحة نبوته.

3. ثم قال تعالى في صفتهم: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ والفائدة في كونه سريع الحساب كونه عالما بجميع المعلومات، فيعلم ما لكل واحد من الثواب والعقاب.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 9/473.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ الآية، قال جابر بن عبد الله وأنس وابن عباس وقتادة والحسن: نزلت في النجاشي، وذلك أنه لما مات نعاه جبريل صلّى الله عليه وآله وسلّم لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأصحابه: (قوموا فصلوا على أخيكم النجاشي)، فقال بعضهم لبعض: يأمرنا أن نصلي على علج من علوج الحبشة، فأنزل الله تعالى ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾، قال الضحاك: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ القرآن، ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ التوراة والإنجيل، وفي التنزيل: أولئك يؤتون أجرهم مرتين، [القصص]، وفي صحيح مسلم: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين ـ فذكر ـ رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم أدرك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران) وذكر الحديث، وقد تقدم في البقرة الصلاة عليه وما للعلماء في الصلاة على الميت الغائب، فلا معنى للإعادة، وقال مجاهد وابن جريج وابن زيد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب، وهذا عام والنجاشي واحد منهم، واسمه أصحمة، وهو بالعربية عطية.

2. ﴿خَاشِعِينَ﴾ أذلة، ونصب على الحال من المضمر الذي في ﴿يُؤْمِنْ﴾، وقيل: من الضمير في ﴿إِلَيْهِمْ﴾ أو في ﴿إِلَيْكُمْ﴾، وما في الآية بين، وقد تقدم.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏4/323.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ هذه الجملة سيقت لبيان أن بعض أهل الكتاب لهم حظّ من الدين، وليسوا كسائرهم في فضائحهم التي حكاها الله عنهم فيما سبق، وفيما سيأتي، فإن هذا البعض يجمعون بين الإيمان بالله وبما أنزل الله على نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وما أنزله على أنبيائهم حال كونهم: ﴿خَاشِعِينَ لله لَا يَشْتَرُونَ﴾ أي: يستبدلون ﴿بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ بالتحريف والتبديل، كما يفعله سائرهم، بل يحكون كتب الله سبحانه كما هي.

2. الإشارة بقوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ إلى هذه الطائفة الصالحة من أهل الكتاب، من حيث اتصافهم بهذه الصفات الحميدة ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ الذي وعد الله سبحانه به بقوله: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾ وتقديم الخبر يفيد اختصاص ذلك الأجر بهم، وقوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ في محل نصب على الحال.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/476.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. روى ابن عبَّاس: أنَّه مات النجاشيُّ ملك الحبشة، فأخبر جبريل عليه السلام  النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم بموته في يومه، فقال للصحابة: (اُخرجوا صلُّوا على أخ لكم بأرض الحبشة مات)، وكشف له عن سريره وكبَّر عليه أربعا واستغفر له، فقال المنافقون: إنَّه صلَّى على حبشيٍّ نصرانيٍّ لم يره قطُّ، وليس على دينه!، فنزل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنَ اَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُّومِنُ بِاللهِ﴾

2. النجاشي المذكور، (بكسر النون وفتحها وإسكان الياء وشدِّها) لغتان، وقيل: الشدُّ غلط لأنَّه ليس نَسَبًا، وشدُّ الجيم غلط لا غير، واسمه (أَصْحَمة) (بفتح الهمزة وإسكان الصاد وفتح الحاء، والتاء الزائدة)، من العربية، أي: عطيَّة الله، وقيل: عطيَّة الصنم، والحبشة يقولونه بالخاء المعجمة، والقول بِأَنَّ اسمه (مكحول بن صعصعة) خطأ لأَنَّ هَذَا اللَّفظ عربيٌّ، وأسلم قبل الفتح ومات أيضًا قبله في رجب عام تسعة، وكعبد الله بن سلام من اليهود وأربعين من نصارى نجران من بني الحارث بن كعب، وهم من العرب، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم على دين عيسى، آمنوا برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم .

3. الصلاة عليه [أي النجاشي] حجَّة للصلاة على الغائب؛ لأنَّه ولو كشف له صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكشف للصحابة، وقالت الحنفيَّة: إنَّه لا يصلَّى على غائب، وَإِنَّ ذلك مخصوص بالنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم مع النجاشي تكريما له، ألا ترى أنَّه لم يصلِّ على غيره من الغائبين؟.

4. ﴿وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ من القرآن وغيره، ﴿وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ من التوراة والإنجيل وغير ذلك، قدَّم ما أنزل إلينا مع تأخُّره عمَّا أنزل إليهم لأنَّه المعيار لا عبرة بإيمانهم إن لم يوافقوه؛ ولأنَّ ما أنزل إليهم قد نُسخ بعضُه بالقرآن، وقد حرَّفوه، فإنَّما يعتبر ما صحَّحه القرآن، ولتعجيل مسرَّة المؤمنين بذكر ما أنزل إليهم.

5. ﴿خَاشِعِينَ لِلهِ﴾ (خَاشِعِينَ) حال من ضمير (يُومِنُ) مراعاة لمعناه وهو الجمع، أو من هاء (إِلَيْهِمْ)، والخشوع بعد النزول، والخشوع: الخضوع، أو الخوف والتذلُّل، أو الخوف اللازم للقلب، قيل: تحرَّز به عن إيمان المنافقين لخوف القتل لا لله، ويبحث بأنَّه لا يشمله الإيمان المذكور للمؤمنين فكيف يتحرَّز عنه؟ إِلَّا إن أريد بـ (يُومِنُ): يتلفَّظ بالإيمان.

6. ﴿لَا يَشْتَرُونَ بِئَايَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً﴾ من الدنيا خوفا من زوال الرئاسة إن لم يكتموا، ووصفه بالقلَّة لأَنَّ ما أخذوه بدلا من دين الله قليل ولو الدنيا كلّها، وتعريضا بخسَّتهم إذ باعوا الدائم الكثير الذي في غاية الجودة بما هو عكس ذلك، ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمُو أَجْرُهُمْ﴾ مرَّتين بما صبروا ﴿يُوتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ﴾ [الحديد: 27]، ﴿عِندَ رَبِّهِمُو إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ يحاسب في لحظة أو في يوم، وهو قادر على أقلّ، فلزم من ذلك سرعة وصول الثواب إليهم إذا وضع الحساب.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/101.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ جملة مستأنفة سيقت لبيان أن أهل الكتاب ليس كلهم كمن حكيت هناتهم من نبذ الميثاق، وتحريف الكتاب وغير ذلك، بل منهم طائفة يؤمنون بالله حق الإيمان، ويؤمنون بما أنزل على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة، وأنهم خاشعون لله، أي مطيعون له، خاضعون متذللون بين يديه، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، أي لا يكتمون ما بأيديهم من البشارة بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم، سواء كانوا هودا أو نصارى، وقد قال تعالى في سورة القصص: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾ [القصص: 52 ـ 54] الآية، وقال تعالى‏ ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف: 159]، وقال تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران: 113]، وهذه الصفات توجد في اليهود، ولكن قليلا، كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود، ولم يبلغوا عشرة أنفس، وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق، كما قال تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: 82 ـ 85]، وهكذا قال هنا ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾

2. ثبت في الحديث‏ أن جعفر بن أبي طالب لما قرأ سورة (كهيعص) بحضرة النجاشي ملك الحبشة، وعنده البطاركة والقساقسة، بكى وبكوا معه، حتى أخضبوا لحاهم، وثبت في الصحيحين‏ أن النجاشي لما مات نعاه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أصحابه، وقال: إن أخا لكم بالحبشة قد مات فصلوا عليه، فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه، وروى ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه عن أنس بن مالك قال لما توفي النجاشي، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: استغفروا لأخيكم، فقال بعض الناس: يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة!؟ فنزلت: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ الآية ـ ورواه عبد بن حميد أيضا مرسلا، ورواه ابن جرير عن جابر، وفيه: فقال المنافقون: يصلي على علج مات بأرض الحبشة!؟ فنزلت، وروى الحاكم في (مستدركه) عن عبد الله بن الزبير قال نزل بالنجاشي عدوّ من أرضهم، فجاءه المهاجرون فقالوا: إنا نحب أن نخرج إليهم حتى نقاتل معك وترى جرأتنا ونجزيك بما صنعت بنا، فقال: لداء بنصر الله عز وجل، خير من دواء بنصرة الناس، قال وفيه نزلت: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ الآية ـ ثم قال هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: وإن من أهل الكتاب، يعني مسلمة أهل الكتاب، وقال عباد بن منصور: سألت الحسن البصريّ عن قول الله: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ الآية ـ قال هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فاتبعوه وعرفوا الإسلام، فأعطاهم الله أجر اثنين: للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، واتباعهم محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ رواه ابن أبي حاتم ـ، وقد ثبت في الصحيحين‏ عن أبي موسى قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ثلاثة يؤتون أجورهم مرتين، فذكر منهم رجلا من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي‏ ـ أفاده ابن كثير ـ.

3. ثم إن الإخبار، في آخر الآية، بكونه تعالى: ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾، كناية عن كمال علمه بمقادير الأجور ومراتب الاستحقاق، وأنه يوفّيها كل عامل على ما ينبغي، وقدر ما ينبغي، ويجوز أن يكون كناية عن قرب إنجاز ما وعد من الأجر لكونه من لوازمها، ولكونه من لوازمها أشبه التأكيد، فلذا لم يعطف عليه.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/489.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ إن من يفسر الذين كفروا في الآية السابقة بأهل الكتاب بجعل هذه الآية استدراكا أو استثناء من عمومها، أي ذلك جزاء من استكبرتم ما يتمتعون به من أصر منهم على كفره، وإن منهم لمن يؤمن بالله الخ، ويصح هذا أيضا على الوجه الذي اخترناه وهو عموم الذين كفروا، وقد جاء بمعنى هذه الآية عدة آيات، وقد روى النسائي من حديث أنس قال لما جاء نعي النجاشي قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم) صلوا عليه) قالوا يا رسول الله نُصلي على عبد حبشي؟ فأنزل الله هذه الآية، وروى ابن جرير نحوه عن جابر وفي المستدرك عن عبد الله بن الزبير قال نزلت في النجاشي (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله)، ونقول إنها تشمل النجاشي وغيره من اليهود والنصارى الذين صدق عليهم ما فيها من الصفات، وكذا المجوس على القول بأنهم أهل كتاب كما روي عن علي، ولكن لا نعرف أحدا منهم أسلم في عهد التنزيل إلا سلمان الفارسي، على أنه كان قد تنصر قبل إسلامه، ثم راجعت الرازي فإذا هو يقول: واختلفوا في نزولها فقال ابن عباس وجابر وقتادة نزلت في النجاشي حين مات وصلى عليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال المنافقون: إنه يصلي على نصراني لم يره قط، وقال ابن جريج وابن زيد: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل: نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فأسلموا، وقال مجاهد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم، وهذا هو الأولى لأنه لما ذكر الكفار بأن مصيرهم إلى العقاب بين فيمن آمن منهم بأن مصيرهم إلى الثواب.

2. قال محمد عبده: إنه بعد أن بيّن حال المؤمنين وما أعد لهم من الثواب، وذكر حال الكافرين وما أعدّ لهم من العقاب، ذكر فريقا من أهل الكتاب، يهتدون بهذا القرآن، وكانوا مهتدين من قبله ما عندهم من هدى الأنبياء، وذكر من وصفهم الخشوع لله، وما كل من يدعي الإيمان بالكتاب خاشع لله، وهذا الخشوع هو روح الدين وهو السائق لهم إلى الإيمان بالنبي الجديد، وهو الذي حال بينهم وبين أن يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، وهذا الثمن يعم المال والجاه؛ فإن منه التمتع بما كانوا فيه من ذلك وإن صعبا على الإنسان أن يترك ما ألفه، وخص هؤلاء بالذكر على كونهم من المؤمنين الذين وعدوا بما تقدم ذكره في مقابلة الكافرين لأجل القدوة بهم في صبرهم على الحق في الدين السابق والدين اللاحق، وذكر إيمانهم بصيغة التأكيد لأن أهل الكتاب ـ بغرورهم بكتابهم وتوهمهم الاستغناء بما عندهم من غيره كانوا أبعد الناس على الإيمان وكان من الغرابة بعد ذلك العناد ومكابرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحسده على النبوة والتشديد في إيذائه أن يؤمن بعضهم إيمانا صحيحا كاملا، ولهذا كان المؤمنون منهم قليلين وكانوا من خيارهم علما وفضلا وبصيرة، وإننا نرى علماءنا الأذكياء في هذا العصر قلما يرجعون عن عقيدة أو رأي في الدين جروا عليه وتلقوه عن مشايخهم وقرؤوه في كتبهم، وإن كان باطلا وخطأ ظاهرا.

3. في هذه الآية تأييد لكون حال المؤمنين على ما كانوا عليه من ضيق خيرا من حال الكافرين على ما كانوا عليه من سعة، كأنه يقول انظروا إلى حال الأخيار من أهل الكتاب كيف لا يحفلون بذلك المتاع الدنيوي، بل يؤثرون عليه ما عند الله تعالى، فهذا من باب المثل والأسوة للمسلمين.

4. وصفهم الله تعالى بخمس صفات:

أ. إحداها: الإيمان بالله، يعني الإيمان الصحيح الذي لا تشوبه نزعات الشرك ولا يفارقه الإذعان الباعث على العمل، لا كمن قال فيهم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 8] ولا من قال فيهم: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف: 106]

ب. ثانيها: الإيمان بما أنزل إلى المسلمين وهو ما أوحاه الله إلى نبيهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقدمه على ما بعده لأنه العمدة الذي عليه العمل وله الهيمنة والحكم الفصل في الخلاف لثبوته باليقين؛ وعدم طروء الضياع عليه والتحريف.

ج. ثالثها: ما أنزل إليهم وهو ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائهم، ولا ينافي ذلك ضياع بعض ونسيان بعض وطروء التحريف بالترجمة والنقل بالمعنى على البعض الآخر، فإن المراد هو الإيمان به إجمالا واتباع ما أرشد إليه القرآن فيه تفصيلا، والقرآن هو العمدة فلا يعتد بإيمان من خالفه بعد العلم به على ما سيأتي قريبا، وقد تقدم بيان حكم القرآن في التوراة والإنجيل في تفسير الآية الأولى من هذه السورة فراجعه.

د. رابعها: الخشوع وهو ثمرة الإيمان الصحيح الذي يعين على اتباع ما يقتضيه الإيمان من العمل، فالخشوع أثر خشية الله تعالى في القلب تفيض على الجوراح والمشاعر فيخشع البصر بالسكون والانكسار، ويخشع الصوت بالمخافتة والتهدج، كما يخشع غيرهما.

هـ. خامسها: وهي أثر لما قبله، عدم اشتراء شيء من متاع الدنيا بآيات الله كما هو فاش في أصحاب الإيمان التقليدي الجنسي من علماء ملتهم، ويقع مثله من أمثالهم في سائر الملل، وقد تقدم بيانه في هذه السورة وما قبلها.

5. (أولئك لهم أجرهم عند ربهم) أي أولئك المتصفون بما ذكر من الصفات لهم أجرهم اللائق بهم عند ربهم الذي رباهم بنعمه وهداهم إلى الحق، أي في دار الرضوان التي نسبها الرب عز وجل إليه تشريفا لها ولأهلها، بخلاف الذين ليس لهم مثل هذه الصفات من أهل الكتاب المغرورين بأنفسهم وسلفهم عنادا حملهم على كتمان الحق الذي هو نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم يعلمون أنه الحق، فأولئك هم الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار، فإن كل من بلغته دعوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وظهرت له حقيتها كما ظهرت لهم وجحد وعاند كما جحدوا وعاندوا فلا يعتد بإيمانه بالأنبياء السابقين وكتبهم، ولا يكون إيمانه بالله تعالى إيمانا صحيحا مقرونا بالخشية والخشوع، ولذلك لا يخشاه في مكابرة الحق والإصرار على الباطل، ولا ينافي هذا ما في آية: (إن الذين آمنوا والذين هادوا) [البقرة: 62] من الإطلاق لأن تلك الآية فيمن لم تبلغهم دعوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على حقيقتها ولم تظهر لهم حقيتها كالذين كانوا قبله.

6. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ يحاسب الخلق كلهم في وقت واحد قصير بما يكشف لهم من تأثير أعمالهم في نفوسهم، بحيث يتمثل لهم فيها كل عمل سبق منهم كالصور المتحركة التي تمثل الوقائع في هذا العصر، وقد سبق تقرير ذلك.

__________

(1) تفسير المنار: ‏4/316.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لله لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ بعد أن بين حال المؤمنين وما أعدّ لهم من الثواب وحال الكافرين وما هيأ لهم من العقاب، ذكر هنا حال فريق من أهل الكتاب يهتدون بهذا القرآن وكانوا من قبله مهتدين بما عندهم من هدى الأنبياء وقد وصفهم الله بصفات كلها تستحق المزية والشرف:

أ. الأولى: الإيمان بالله إيمانا لا تشوبه نزعات الشرك ولا يفارقه الإذعان الباعث على العمل، لا كمن قال الله فيهم‏ ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾

ب. الثانية: الإيمان بما أنزل إلى المسلمين، وهو ما أوحاه الله إلى نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ج. الثالثة: الإيمان بما أنزل إليهم وهو ما أوحاه الله إلى أنبيائهم، والمراد به الإيمان إجمالا وما أرشد إليه القرآن تفصيلا فلا يضير في ذلك ضياع بعضه ونسيان بعضه الآخر.

د. الرابعة: الخشوع وهو الثمرة للإيمان الصحيح فإن الخشوع أثر خشية الله في القلب ومنه تفيض على الجوارح والمشاعر، فيخشع البصر بالانكسار، ويخشع الصوت بالخفوت والتهدج.

هـ. الخامسة: عدم اشتراء شيء من متاع الدنيا بآيات الله وهذا أثر لما قبله.

2. ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أي هؤلاء المتصفون بحميد الصفات، وجليل الأعمال، لهم ثواب أعمالهم وأجر طاعتهم عند ربهم الذي رباهم بنعمه وهداهم إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.

3. ﴿إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ فهو يحاسب الناس جميعهم في وقت قصير فيتمثل لهم ما كسبته أيديهم، وانطوت عليه جوانحهم، وهو مكتوب في صحائف أعمالهم، فما أحرانا أن نشبهها بالصور المتحركة (الأفلام) التي تعرض فيها الحوادث والوقائع في عصرنا الحاضر.

__________

(1) تفسير المراغي: 4/171.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قبل ختام السورة يعود السياق إلى أهل الكتاب، فيقرر أن فريقا منهم يؤمن إيمان المسلمين، وقد انضم إلى موكب الإسلام معهم، وسار سيرتهم، وله كذلك جزاؤهم: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لله لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾

2. إنه الحساب الختامي مع أهل الكتاب، وقد ذكر من طوائفهم ومواقفهم فيما سبق من السورة الكثير، ففي معرض الإيمان، وفي مشهد الدعاء والاستجابة، يذكر كذلك أن من أهل الكتاب من سلكوا الطريق، وانتهوا إلى النهاية، فآمنوا بالكتاب كله، ولم يفرقوا بين الله ورسله، ولم يفرقوا بين أحد من رسله، آمنوا بما أنزل إليهم من قبل، وآمنوا بما أنزل للمسلمين ـ وهذه سمة هذه العقيدة التي تنظر إلى موكب الإيمان نظرة القرب والود؛ وتنظر إلى خط العقيدة موصولا بالله، وتنظر إلى منهج الله في وحدته وكليته الشاملة.

3. يبرز من سمات المؤمنين من أهل الكتاب: سمة الخشوع لله وسمة عدم شرائهم بآياته ثمنا قليلا.. ليفرقهم بهذا من صفوف أهل الكتاب، وسمتهم الأصيلة هي التبجح وقلة الحياء من الله، ثم التزوير والكتمان لآيات الله، لقاء أعراض الحياة الرخيصة! ويعدهم أجر المؤمنين عند الله، الذي لا يمطل المتعاملين معه ـ حاشاه ـ! ﴿إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/552.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. دعوة الحق والخير، دعوة تقوم على الفلاح والرشد، تستجيب لها النفوس الطيبة، وتتفتح لها القلوب السليمة، وتتقبلها العقول المتحررة من تلقيات الغواة والمفسدين، وإذ كان ذلك شأنها، فإنها ميراث الإنسانية كلها، وحظ مشاع في الأمم والشعوب جميعا، ودعوة الإسلام دعوة خالصة للحق والخير، استقبلتها النفوس الطيبة، وتداعت إليها القلوب السليمة، وعلقت بها العقول المتحررة، وسرعان ما كثر جند الله حولها، وتزاحم عباد الله على مواردها، ودخل الناس في دين الله أفواجا، ولكن في حسد قاتل، وفي عداوة عمياء، وقف اليهود من هذه الدعوة موقف الخصام والكيد.. فبهتوا رسول الله وكذّبوه، وافتروا على الله، فبدلوا وغيّروا في آياته التي بين أيديهم من كتب الله.

2. ومع هذا، فإن قلّة قليلة منهم، وكثير غيرهم من النصارى قد خرجوا عن موكب هذا الركب الضالّ، فآمنوا بالله، وصدّقوا رسوله، كما كانوا مؤمنين بالله من قبل، ومصدقين برسل الله الذين دعوهم إلى الإيمان، وفي إيمان هؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب، ما يؤنس الذين آمنوا من المشركين، ويجيء إليهم بشاهد جديد على صحة دينهم وسلامته، إن كان فيهم من يحتاج إلى هذه الشهادة أو يلتفت إليها، بعد أن شهد ما شهد من آيات الكتاب المبين، ومعجزات كلماته.

3. ثم إن في هذا الإيمان تسفيها لمن وقف من الإسلام هذا الموقف المعادى له من أهل الكتاب، إذ كان فيهم تلك الطلائع الراشدة التي عرفت الحق فيه، ووجدت الخير معه، فآمنت واهتدت، على حين ظلوا هم في ضلالهم يعمهون.

4. في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ إشارة إلى الصلة الوثيقة التي تجمع بين رسالات الرسل ودعوات الأنبياء، وأنها كلها على طريق الحق، والخير.

5. في قوله سبحانه: ﴿لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ تعريض بعلماء اليهود وأحبارهم، وما افتروا على الله، وغيروا وبدلوا في آياته، لقاء ثمن قليل، ومتاع زهيد!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏2/678.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ عطف على جملة ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ [آل عمران: 198] استكمالا لذكر الفرق في تلقّي الإسلام: فهؤلاء فريق الذين آمنوا من أهل الكتاب ولم يظهروا إيمانهم لخوف قومهم مثل النجاشي أصحمة، وأثنى الله عليهم بأنّهم لا يحرّفون الدين، والآية مؤذنة بأنّهم لم يكونوا معروفين بذلك لأنّهم لو عرفوا بالإيمان لما كان من فائدة في وصفهم بأنّهم من أهل الكتاب، وهذا الصنف بعكس حال المنافين، وأكّد الخبر بأنّ وبلام الابتداء للردّ على المنافقين الذين قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا صلّى على النجاشي: انظروا إليه يصلّي على نصراني ليس على دينه ولم يره قط، على ما روي عن ابن عباس وبعض أصحابه أنّ ذلك سبب نزول هذه الآية، ولعلّ وفاة النجاشي حصلت قبل غزوة أحد، وقيل: أريد بهم هنا من أظهر إيمانه وتصديقه من اليهود مثل عبد الله بن سلام ومخيريق، وكذا من آمن من نصارى نجران أي الذين أسلموا ورسول الله بمكّة إن صحّ خبر إسلامهم.

2. جيء باسم الإشارة في قوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ للتنبيه على أنّ المشار إليهم به أحرياء بما سيرد من الإخبار عنهم لأجل ما تقدّم اسم الإشارة.

3. أشار بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ إلى أنّه يبادر لهم بأجرهم في الدنيا ويجعله لهم يوم القيامة.

__________

(1) التحرير والتنوير: 3/318.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين سبحانه ما كان من أهل الكتاب، وما كانوا ينزلونه بالمؤمنين، وما يسمعونهم من أذى، كما قال سبحانه: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ [آل عمران‏]، وفي هذا النص الكريم يبين الله سبحانه باب الرحمة المفتوح لهم، فذكر سبحانه مؤكدا القول بـ (إن) وب (اللام) الدالة على القسم اهتداء فريق منهم، وذلك أن هؤلاء المهتدين قد تحلوا بخلال خمس:

أ. أولها أنهم يؤمنون أقوى الإيمان وأخلصه، والإيمان يزيل العناد والغطرسة فيطلبون الحق لذات الحق.

ب. الثانية أنهم يؤمنون بما أنزل على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يعلموا أنه آخر لبنة في صرح النبوة، وأنه لو كان موسى حيا لآمن بمحمد.

ج. الثالثة أن يؤمنوا بحقيقة ما أنزل إليهم، ويعرفوا أن الرؤساء حرفوا الكلم عن مواضعه، وأن يعرفوا أن ما أنزل إليهم أو إلى أسلافهم‏ هو ما جاء به محمد مخبرا عنه.

د. الرابعة الخشوع، وهو الخوف من الله تعالى مع الضراعة إليه وطلب رضاه دون سواه.

هـ. الخامسة ألا يؤثروا شيئا على آيات الله تعالى هي أماراته البينات، وقد ذكرت هذه في آخر الآية بقوله سبحانه: ﴿لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي لا يتركون آيات الله المبينة لشرعه ودينه في نظير ثمن هو عرض من أعراض الدنيا فهو قليل مهما يكن كثيرا في نظر الضالين.

2. هذه الأمور الخمسة يترتب بعضها على بعض، فيترتب على الإيمان الصادق بالله الإيمان بمحمد والإيمان بما نزل على النبيين الصادقين، ويترتب على هذا كله الخشوع، وأولى ثمرات الخشوع ألا يتركوا آيات الله تعالى لأى عرض من أعراض الدنيا، هؤلاء ينالون جزاءهم، ولذا قال سبحانه: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أي أولئك المتصفون بهذه الصفات التي تدل على الخلوص لله لهم جزاؤهم عند ربهم، وإنه عاجل لهم في الآخرة، كما أن العذاب لمن لم يؤمنوا عاجل، ولذلك قال سبحانه مؤكدا: ﴿إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1560.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لله لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾، المراد بما انزل إليكم القرآن، وبما انزل اليهم التوراة والإنجيل.

2. تشمل الآية كل من آمن ويؤمن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من أهل الكتاب، وليست خاصة بالنجاشي، أو بعبد الله بن سلام كما قيل، لأن اللفظ عام، ولا دليل على التخصيص، وإذا كان الله سبحانه يتقبل الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ممن لم يؤمن بالله ولا بكتاب فب الأولى أن يتقبل هذا الإيمان من أهل التوراة والإنجيل، بخاصة بعد أن تركوا دينهم وأصعب شيء على الإنسان أن يترك ما ألف وورث من دين.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/236.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ الآية، المراد أنهم مشاركون للمؤمنين في حسن الثواب، والغرض منه أن السعادة الأخروية ليست جنسية حتى يمنع منها أهل الكتاب وإن آمنوا بل الأمر دائر مدار الإيمان بالله وبرسله فلو آمنوا كانوا هم والمؤمنون سواء، وقد نفي عن هؤلاء الممدوحين من أهل الكتاب ما ذمهم الله به في سوابق الآيات وهو التفريق بين رسل الله، وكتمان ما أخذ ميثاقهم لبيانه اشتراء بآيات الله ثمنا قليلا.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/90.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآية الكريمة تأكيد لما سبق من ذكر المؤمنين من أهل الكتاب في قوله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ إلى آخر الآيتين، وفي هذه الآية تنزيه لهم عما يقع من غيرهم من أهل الكتاب من اشتراء ثمن قليل بآيات الله، وذلك أن للمؤمنين كرامتهم عند الله فاستحقوا الإشادة بذكرهم وتأكيد الثناء عليهم في هذه السورة التي فيها كثر الرد على أهل الكتاب وذكر كثير من باطلهم، فناسب فيها إعلان تنزيه المؤمنين من أهل الكتاب وتبرئتهم من رجس الكافرين.

2. ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ أي القرآن وسائر ما أنزل على رسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وقوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ أي التوراة والإنجيل وغيرهما مما أنزل على أنبيائهم، وفي إسناد المنزل إلى رسلهم إليهم والمنزل إلى المبعوث من العرب إليهم تكريم للطائفتين لمن قبل الكرامة مثل هؤلاء المؤمنين من أهل الكتاب، فأبقى لهم كرامتهم بإنزال الله ما أنزل إلى أنبيائهم مع إيمانهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبما أنزل إلى بني إسماعيل.

3. ﴿خَاشِعِينَ لله﴾ خاضعين لله ذالّين لله ﴿لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ لأنهم مهتدون بهدى الله، لا يصرفهم عنه كبر ولا حسد ولا حب الدنيا فليسوا كالكافرين من أهل الكتاب.

4. ﴿أُولَئِكَ﴾ أهل الصفات المذكورة من قوله تعالى: ﴿لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ حق لهم فلا يضيعه الله ربهم الرحيم بهم ﴿إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ فلا ينقص من أجرهم مثقال ذرة؛ لأن الله يعلمه كله ولا يخفى عليه من مقداره وحسابه شيء؛ لأنه يحيط علمه بمقدار الشيء وعدده من دون إجالة فكر ولا تأمل كما يفعل الحاسب ولا يسبق علمه به خفاء عليه ولا غفلة عنه سبحانه وتعالى.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/607.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جاء في مجمع البيان: اختلفوا في نزولها فقيل: نزلت في النجاشي ملك‏ الحبشة واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية، وذلك أنه‏ لما مات نعاه جبرائيل لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في اليوم الذي مات فيه، فقال رسول الله: اخرجوا فصلّوا على أخ لكم مات بغير أرضكم، قالوا: ومن؟ قال النجاشي، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة، فأبصر سرير النجاشي وصلّى عليه، فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني حبشي لم يره قط وليس على دينه؛ فأنزل الله هذه الآية، عن جابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس، وقتادة، وقيل: نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب واثنين وثلاثين من أرض الحبشة، وثمانية من الروم، كانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن عطاء، وقيل: نزلت في جماعة من اليهود كانوا أسلموا، منهم: عبد الله بن سلام ومن معه، عن ابن جريج، وابن زيد، وابن إسحاق، وقيل: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم لأن الآية قد تنزل في سبب وتكون عامة في كل ما تتناوله، عن مجاهد.

2. لعلّ الرواية الأخيرة، أو الرأي الأخير، هو الأقرب إلى الجوّ القرآني في الآية، لأن الحديث عن أهل الكتاب يمثل الحديث العام المتحرك في ساحة الواقع الديني الذي كان الإسلام يعيش فيه باعتبار أنهم الفريق الآخر المعترف به إسلاميا في المجتمع المسلم، بحيث إن الإسلام يعمل ـ في تشريعه أو في حركته ـ على توحيد الأسس الإيمانية بينه وبين أهل الكتاب، وذلك على أساس الكلمة السواء في توحيد الله، وفي ضوء ذلك كانت التجربة الإسلامية في خط الدعوة والحوار تنفتح على جماعة هنا وجماعة هناك من أهل الكتاب يؤمنون بالإسلام من خلال البراهين الموجودة عندهم، كما أن هناك منهم من يعيشون العقدة الفئوية التي لا تريد التنازل عن موروثاتها وامتيازاتها فتبقى في ساحة التحدي تواجه النبوّة في عقائدها ومفاهيمها وأحكامها ومناهجها.

3. هكذا كانت هذه الآية حركة في المسيرة القرآنية التي توصل خطوط العقيدة في الواقع الذي كانت تعيشه الدعوة في خط الإيمان والكفر، وربما كانت الاختلافات المذكورة اختلافات في الاجتهاد في تطبيق الآية على هذا أو ذاك، أو هذه الجماعة أو تلك؛ والله العالم.

4. ينطلق القرآن في ساحة الصراع الفكري والعملي بين أتباع الديانات السماويّة، ليؤكّد حقيقة ثابتة في مجال الدعوة إلى الله، وهي الابتعاد عن خط اليأس من تغيير الواقع عندما نواجه الكثيرين ممن يتعصبون لفكرهم ويخالفون فكرنا ويحاربونه ويتعصبون ضدّه، فقد نخضع في مثل هذه الحالة إلى حالة نفسيّة سيّئة ضاغطة تجعلنا نفكر بعدم الجدوى في الحديث مع هؤلاء عن الإسلام ومفاهيمه وأحكامه.. ويريد القرآن أن يوحي إلينا بأن لا نيأس ولا ننهزم، بل يجب أن نتابع الطريق حتى نهاياته، ونؤمن بأن هناك جانبا طيّبا في نفس كل إنسان يمكن أن يلتقي بالحقيقة، فيؤمن بها ويتحرك معها، فلا بد لنا من أن نلاحقه ونستثيره، ونصرّ على التعامل معه، فلا نهزم أنفسنا ومواقفنا قبل أن ندخل في المعركة، بل نتابع المسيرة لنلتقي بالجانب الطيب الإنساني الذي يلتقي بالإيمان في دعوتنا إلى الله.

5. ربما يحتاج العاملون للإسلام أن يتعاملوا مع هذه الحقيقة في مجال الدعوة، في المجتمعات الضاغطة التي تخضع للسيطرة ـ شبه المطلقة ـ لبعض الاتجاهات غير الإسلامية، مما يوحي بأن القضية ميؤوس منها على مستوى الحاضر والمستقبل، فقد يبدو لنا أن مثل هذا التفكير ينطلق من دراسة المستقبل على أساس طبيعة الأمر الواقع في الحاضر، فيتصور المستقبل في أجواء الحاضر، ولكن هذا الاتجاه خاطئ في المجال العملي، لأن قضية النصر في أيّة معركة تتطلب منك أن تتصور المستقبل من خلال المعطيات الجديدة التي تستقبل الكثير من المتغيّرات السياسية والعسكرية والاجتماعية، مما يمكن أن يترك أثره الإيجابي أو السلبي على حركة المعركة كما يفرض عليك التصور الواقعي أن تبحث عن نقاط الضعف في الحاضر لدى خصومك من أجل أن تنميها وتطورها وتستفيد منها في عملية التغيير، وتبحث عن نقاط القوة الصغيرة لديك من أجل أن تثيرها وتوجّهها في الاتجاه الواسع الكبير الذي يتحول إلى القوة الكبيرة الضاغطة.

6. إن الشرط الأساسي في حركة التغيير يبدأ من الداخل، وذلك بالشعور العميق بإمكانية التغيير أيا تكن الصعوبات، لأن الصعوبات لا تنطلق في حجم الحياة، بل تتحرك في حجم المرحلة، مما يجعلك تفكر في الهدف على أساس سياسة المراحل، فإذا التقيت بمرحلة ضاغطة صعبة، فإن بإمكانك أن تقفز إلى مرحلة أخرى تملك زمام الأمر فيها من أجل الوصول إلى الهدف، إن التحديات الصعبة لا تلغي الهدف، بل ربما تؤخره إلى مرحلة جديدة.

7. وهذا ما عاشه الأنبياء في حركة الدعوة إلى الله والعمل في سبيله، فقد دخلوا المعركة والعالم من حولهم يعبد الأصنام ويكفر بالله، ويستسلم للقيم المادية التي يفرضها واقع الكفر والشرك، ووقفوا يطلقون الصوت بقوّة، وكانت الأصوات المضادّة أقوى، ولم يخفت الصوت الجديد ولم يتراجع، بل انطلق مرّة ثانية وثالثة ورابعة، واخترق الحاجز المضادّ، وبدأت الأصوات تخفّ، واستمر الأنبياء، وخفتت الأصوات كلها، وبدأ صوت الله يتحرك في كل أذن، ويعيش في كل قلب، ويفرض نفسه على كل ساحة، لقد آمن الأنبياء بحقيقة إنسانية ثابتة في الإنسان، وهي أن في الإنسان ينابيع خير يمكن أن تتفجر، وطاقة إيمان يمكن أن تتحرك وتتنامى فلا بد من التعامل معها بواقعية وصبر، ولا بد للواقعية من أن تتحرك في ضمن خطة تحسب حساب الرواسب التاريخية التقليدية والعقد النفسية الصعبة والظروف الموضوعية الضاغطة، وتصبر على ذلك كله من أجل أن تذوّبه تدريجيا، لتعود الأرض صالحة للغراس الجديدة من دون عوائق أو صعوبات كبيرة، وهكذا انطلقت غراس الإيمان في أرض الإنسان الذي صبر الأنبياء عليه حتى اكتشف الحقيقة.

8. إن من واجبنا أن نفكر أن الحياة بحاجة إلى الإسلام، ولكنها تحتاج إلى جهد كبير لتكتشف حاجتها إليه، ولتسعى ـ بعد ذلك ـ من أجل الانطلاق إيجابيا مع هذه الحاجة، ولذلك فإن علينا أن نتعامل مع هذه الحقيقة بحجم الحياة وبحجم العالم، فلا نستسلم للقضايا الصغيرة في عملية ضعف واستسلام.

9. إن معنى أن نحمل الإسلام هو أن نشعر بأن دعوته لا بدّ من أن تشمل العالم بعيدا عن كل الحواجز الفكرية والسياسية، تماما كما حمله رسول الله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإن مهمتنا هي أن نتقدم به نحو هذا الهدف، ولو خطوة واحدة، أو بضع خطوات، من أجل أن يسير الآخرون على أساس هذه الخطوات في انطلاقهم نحو الهدف، فإن الحياة مليئة بالفرص المتحركة في قضية الإيمان لدى الإنسان.

10. وهذا ما أرادت الآية الكريمة أن توحيه من خلال ما تقدمه من نماذج أهل الكتاب الذين كانوا يمثلون الخط المعادي للإسلام في فكره ومسيرته، ولكنهم انطلقوا مع حقيقة الإيمان بعيدا عن التعقيدات، وتحركوا مع الخشوع لله الذي يستدعي الخضوع لشريعته، فآمنوا بالإسلام فكرا وشريعة وحياة.. ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لله﴾ فقد كانوا يطلبون الوصول إلى الحق، ولكن الطريق مسدودة أمامهم في ما يعيشونه ويلتقون به من حواجز مادية ومعنوية.. إلا أنهم استطاعوا تحطيم تلك الحواجز وخشعوا لله، فخضعوا للحق الواحد الذي أوحى به الله في رسالاته، ورفضوا كل الحساسيات السلبيّة التي تحول بينهم وبين الإيمان.

11. ﴿لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ لأنهم يؤمنون أن قضية العقيدة هي قضية الإنسان في روحيته وإنسانيته ومصيره، فلا يمكن أن يتاجر بها لقاء دراهم معدودة، ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ لأنهم تمردوا على كل مشاعر العصبيّة الضاغطة، وتحرروا من كل الدوائر الضيّقة التي تحبس فكرهم وشعورهم وتسجنه في الظلام، وعرفوا أن الحياة موقف، وأن الموقف يجسّد للإنسان معنى أن يكون إنسانا أو لا يكون.. ﴿إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾

__________

(1) من وحي القرآن: ‏6/468.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية ـ حسب ما يذهب إليه أكثر المفسّرين ـ نزلت في مؤمني أهل الكتاب الذين تركوا العصبية العمياء، والتحقوا بصفوف المسلمين، وكانوا يشكلون عددا معتدّا به من النصارى واليهود، ولكنّها حسب اعتقاد بعض المفسّرين أنّها نزلت في النّجاشي ملك الحبشة العادل، وإن كان مفهومها أوسع من ذلك المورد، ففي السنة التاسعة للهجرة وفي شهر رجب بالذات توفي النجاشي، فبلغ خبر وفاته إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بإلهام إلهي في اليوم الذي مات فيه وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ (اخرجوا فصلّوا على أخ لكم مات بغير أرضكم)، قالوا: ومن؟ قال النجاشي، فخرج النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي، وصلى عليه، فقال بعض المنافقين: انظروا إلى هذا يصلّي على علج نصراني حبشي لم يره قطّ وليس على دينه، فأنزل الله هذه الآية ردّا على‏ مقالتهم‏.. ويستفاد من هذه الرواية أن النجاشي اعتنق الإسلام بالكامل وإن لم يظهر ذلك.

2. قلنا ـ في ما سبق ـ ان القرآن الكريم إذا تطرق إلى أمور حول إتباع الشرائع الأخرى لم ينظر إلى الجميع نظرة سواء، ولم يحسب لهم حسابا واحدا، ولم تتسم أبحاثه حولهم بصفة قومية أو حزبية علائية، بل ينطلق في أحكامه من أسس اعتقادية ومبدئية، ولهذا ينتقد أعمالهم، وممارساتهم ولا يتناول بسوء قومياتهم أو أجناسهم، ولهذا لا ينسى فضل تلك القلّة المؤمنة الصالحة منهم والتي تميزت عن الأكثرية الساحقة بصلاحها وحسن عملها، ولا يتجاهل قيمتها ومكانتها.

3. والمقام الذي نحن فيه هو أحد تلك الموارد التي جاء فيها الكلام عن هذه القلة المؤمنة الصالحة التي استجابت لدعوة الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وخضعت للحق، فالآية الكريمة بعد أن وبّخت كثيرا من أهل الكتاب على كتمانهم لآيات الله، وطغيانهم وتمردهم في الآيات السابقة ذكرت هذه القلّة المؤمنة، وبينت خمسا من صفاتها الممتازة هي:

أ. ﴿يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ (أي أنهم يؤمنون بالله عن طواعية وصدق)

ب. ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ (أي يؤمنون بالقرآن)

ج. ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ أي إيمانهم بنبيّ الإسلام نابع في الحقيقة من إيمانهم بكتبهم السّماوية الواقعية التي بشّرت بهذا النّبي ودعت إلى الإيمان به إذا ظهر، فهم في الحقيقة يؤمنون بكتبهم.

د. ﴿خَاشِعِينَ لله﴾ أي أنّهم مسلمون لأمر الله وخاضعون لإرادته، وهذا التسليم والخضوع هو السبب الحقيقي لإيمانهم، وهو الذي فرّق بينهم وبين العصبيات الحمقاء، وحرّرهم من التعنت والاستكبار تجاه منطق الحقّ.

هـ. ﴿لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي أنّهم ليسوا مثل بعض أحبار اليهود الذين يحرفون آيات الله حفاظا على مراكزهم وإبقاء على حاكميتهم على أقوامهم وجماعاتهم، وصولا إلى بعض المكاسب المادية، والإشارة إلى (الثّمن القليل) في الآية للتلويح بما كان عليه أولئك الأحبار المحرفون للكلم من تفاهة الهمّة، وضعف الطموح، وقصر النظر، وحقارة النفس، هذا مضافا إلى أن كل أجر دون الأجر الإلهي حقير، وكل مكسب يحصل عليه الإنسان عوضا عن آيات الله فهو مكسب تافه ورخيص.

4. سيكون لهذه الطائفة من أهل الكتاب بسبب هذه الصفات الإنسانية العالية هذا الموقف الواضح الحي، أجرهم عند ربّهم‏ ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾، والتعبير هنا بلفظة (ربّهم) إشارة إلى غاية لطفه سبحانه ومنتهى رحمته بهم، كما أنه إشارة أيضا إلى أن الله هو الذي يهديهم في هذه المسيرة الخيرة، وهو يتكفل بمساعدتهم، ويعينهم في هذا الطريق.

5. ﴿إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ فلا يتأخر عن إعطاء الصالحين المؤمنين أجرهم، كما لا يبطئ عن مجازاة المنحرفين والظالمين، وهذه العبارة بشارة إلى الصالحين المؤمنين، كما هي أيضا تحذير وتهديد للعصاة والمذنبين‏.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/65.

109. الصبر والتصابر والرباط والتقوى

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈109⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

أبو هريرة:

روي عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن أنّه قال: أقبل علي أبو هريرة يوما، فقال: أتدري يا ابن أخي فيم أنزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾؟ قلت: لا، قال أما إنه لم يكن في زمان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها، فعليهم أنزلت: ﴿اصْبِرُوا﴾ أي: على الصلوات الخمس، ﴿وَصَابِرُوا﴾ أنفسكم وهواكم، ﴿وَرَابِطُوا﴾ في مساجدكم، ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ فيما علمكم، ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(1).

__________

(1) ابن مردويه كما في تفسير ابن كثير: ٢/١٩٦.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿وَصَابِرُوا﴾ الوعد الذي وعدتكم(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٣/٢٣٨.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: اصبروا على طاعة الله، وصابروا أعداء الله، ورابطوا في سبيل الله(1).

2. روي أنّه قال: ﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾ الرباط: انتظار الصلاة إلى الصلاة(2).

__________

(1) ابن المنذر: ٢/٥٤٤.

(2) أبو نعيم في أخبار أصبهان: ٢/١٤٥.

المسيب:

روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾ يزعمون أن ذلك لزوم الصلوات في المساجد(1).

__________

(1) ابن وهب في الجامع: ٢/١٥٤.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال في الآية: اصبروا على الفرائض، وصابروا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الموطن، ورابطوا فيما أمركم ونهاكم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٤٧.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾: اصبروا على ما أمرتم به، وصابروا العدو ورابطوهم(1).

__________

(1) ابن جرير: ٦/٣٣٣.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في الآية: أمرهم أن يصبروا على دينهم، ولا يدعوه لشدة ولا رخاء ولا سراء ولا ضراء، وأمرهم أن يصابروا الكفار، وأن يرابطوا المشركين(1).

2. روي أنّه قال: ﴿اصْبِرُوا﴾ عند المصيبة، ﴿وَصَابِرُوا﴾ على الصلوات، ﴿وَرَابِطُوا﴾ جاهدوا في سبيل الله(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَرَابِطُوا﴾ رابطوا على دينكم(3).

__________

(1) ابن جرير: ٦/٣٣٢.

(2) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره.

(3) ابن أبي حاتم: ٣/٨٥٠.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿اصْبِرُوا﴾ على طاعة الله، ﴿وَصَابِرُوا﴾ أهل الضلالة؛ فإنكم على حق وهم على باطل، ﴿وَرَابِطُوا﴾ في سبيل الله(1).

__________

(1) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره: ص٦٧.

القرظي:

روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: ﴿اصْبِرُوا﴾ على دينكم، ﴿وَصَابِرُوا﴾ الوعد الذي وعدتكم، ﴿وَرَابِطُوا﴾ عدوي وعدوكم حتى يترك دينه لدينكم، ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ فيما بيني وبينكم، ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ غدا إذا لقيتموني(1).

__________

(1) ابن جرير: ٦/٣٣٣.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿وَرَابِطُوا﴾ معناه اثبتوا ودوموا(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 114.

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿اصْبِرُوا﴾ على الجهاد، ﴿وَصَابِرُوا﴾ عدوكم، ﴿وَرَابِطُوا﴾ على دينكم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿اصْبِرُوا﴾ على الخير، ﴿وَصَابِرُوا﴾ عدوكم(2).

__________

(1) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره: ص٦٧.

(2) أخرج ابن أبي حاتم: ٣/٨٤٨.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿اصْبِرُوا﴾ على البلاء(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٣/٢٣٨.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: في قوله تعالى: ﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾ قال: اصبروا على الفرائض، وصابروا على المصائب، ورابطوا على الأئمة(1).

2. روي أنه قيل له: تبقى الأرض يوما بغير عالم منكم يفزع الناس إليه؟ فقال: إذن لا يعبد الله، لا تخلوا الأرض من عالم منا ظاهر يفزع الناس إليه في حلالهم وحرامهم، وإن ذلك لمبين في كتاب الله قال الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾ اصبروا على دينكم، وصابروا على عدوكم ممن يخالفكم، ورابطوا إمامكم، واتقوا الله فيما أمركم به، وافترض عليكم(2).

__________

(1) الكافي: 2/66.

(2) تفسير العيّاشي: 1/212!.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿اصْبِرُوا﴾ على الفرائض، ﴿وَصَابِرُوا﴾ عدوكم، ﴿وَرَابِطُوا﴾ مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم العدو(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٣/٨٤٧.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا﴾ على أمر الله تعالى وفرائضه، ﴿وَصَابِرُوا﴾ مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في المواطن، ﴿وَرَابِطُوا﴾ العدو في سبيل الله حتى يدعو دينهم لدينكم، ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ ولا تعصوا، ومن يفعل ذلك فقد أفلح، فذلك قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾(1).

2. روي أنّه قال: نزلت في مشركي العرب، وذلك أن كفار مكة كانوا في رخاء ولين عيش حسن، فقال بعض المؤمنين: أعداء الله فيما ترون من الخير وقد أهلكنا الجَهْد، فأخبر الله ـ عز وجل ـ بمنزلة الكفار في الآخرة، وبمنزلة المؤمنين في الآخرة، فقال سبحانه: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ﴾ الآيات(2).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٢٤.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٢٣.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿اصْبِرُوا﴾ على الطاعة، ﴿وَصَابِرُوا﴾ أعداء الله، ﴿وَرَابِطُوا﴾ في سبيل الله(1).

__________

(1) ابن جرير: ٦/٣٣٣.

الثوري:

روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: ﴿اصْبِرُوا﴾ اصبروا على الفرائض، ﴿وَصَابِرُوا﴾ صابروا على العدو، فلا تكونوا أجزع منهم(1).

__________

(1) ابن المنذر: ٢/٥٤٤.

الكاظم:

روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنّه سئل عن قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾، فقال: اصبروا على المصائب، وصابروهم على التقية، ورابطوا على ما تقتدون به، ﴿وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(1).

__________

(1) معاني الأخبار: 369/1.

الرضا:

روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنّه قال: إذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين الصابرون؟ فيقوم فئام من الناس، ثم ينادي: أين المتصبرون؟ فيقوم فئام من الناس، قيل له: جعلت فداك، وما الصابرون؟ قال: على أداء الفرائض، والمتصبرون على اجتناب المحارم(1).

__________

(1) تفسير القمي: 1/129.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا﴾:

أ. قيل: على أداء الفرائض والعبادات.

ب. وقيل: اصبروا على البلايا والمصائب والشدائد.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَصَابِرُوا﴾:

أ. قيل: في الجهاد لعدوكم‏.

ب. وقيل: اصبروا على أمر الله وفرائضه، وصابروا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى آله وصحبه في المواطن‏.

ج. وعن الحسن قال أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضى الله لهم، وهو الإسلام، ولا يدعو دينهم؛ لشدة ولا لرخاء، ولا ضراء، ولا سراء، حتى يموتوا، ويكونوا يصابرون الكفار، حتى يكونوا هم يميلون عن دينهم، وأمروا أن يرابطوا المشركين‏.

د. وقيل: اصبروا على الجهاد، وصابروا لعدوكم‏

3. ﴿وَرَابِطُوا﴾

أ. أي: داوموا على دينكم.

ب. وقيل: رابطوا مع عدوكم ما أقاموا، واتقوا الله فيما أمركم به، فلا تدعوا ذلك مع نبيكم، وذروا ما نهاكم عنه‏، ولا قوة إلا بالله.

4. الصبر في نفسه خاصة في طاعة يصبر عليها، ومعصية يصبر عنها وفي بلوى، والمصابرة مع غيره، وقد يكون كل واحد على المعنيين؛ لأنه لا يخلو عن مصابرة عدوّ فيما يطيع ربه.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/568.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾: أي احبسوا أنفسكم على المكروه، وحاسوا أعداء الله في الجهاد، ولا زموهم ولا تتركوهم، وكذلك المرابطة فهي الملازمة التي لا رخاوة فيها ولا ركاكة ولا جبن ولا هلع، ولا خيفة ولا جزع، فنسأل الله أن يرزقنا الملازمة لأعدائه، وأن يجمع كلمة من يصطفي من أوليائه، إنه قريب مجيب.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 268.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي اصبروا على طاعة الله عز وجل وصابروا أعداء الله ورابطوا في سبيل الله، وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: ألا أدلكم على ما يحط الخطايا ويرفع الله به الدرجات؟) قالوا: بلى يا رسول الله؛ قال: إسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الخُطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلك الرباط.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/161.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾ فيه أربعة تأويلات: ـ

أ. أحدها: اصبروا على طاعة الله، وصابروا أعداء الله، ورابطوا في سبيل الله، وهو قول الحسن، وقتادة، وابن جريج، والضحاك.

ب. الثاني: اصبروا على دينكم، وصابروا الوعد الذي وعدكم، ورابطوا عدوي وعدوكم، وهو قول محمد بن كعب.

ج. الثالث: اصبروا على الجهاد، وصابروا العدو، ورابطوا بملازمة الثغر، وهو مأخوذ من ربط النفس، ومنه قولهم ربط الله على قلبه بالصبر، وهو معنى قول زيد بن أسلم.

د. الرابع: رابطوا على الصلوات بانتظارها واحدة بعد واحدة: روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألا أدلّكم على ما يحطّ به الله الخطايا ويرفع به الدّرجات؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصّلاة بعد الصّلاة، فذلكم الرّباط)

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/445.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾:

أ. قال قوم: معنى اصبروا اثبتوا على دينكم وصابروا الكفار ورابطوهم يعني في سبيل الله ذهب إليه الحسن، وقتادة، وابن جريج، والضحاك.

ب. وقال آخرون: معناها ﴿اصْبِرُوا﴾ على دينكم‏ ﴿وَصَابِرُوا﴾ الوعد الذي وعدتكم به‏ ﴿وَرَابِطُوا﴾ عدَّوي وعدوكم ذهب إليه محمد بن كعب القرظي.

ج. وقال آخرون:‏ ﴿اصْبِرُوا﴾ على الجهاد ﴿وَصَابِرُوا﴾ عدوكم‏ ﴿وَرَابِطُوا﴾ الخيل عليه ذهب إليه زيد بن أسلم.

د. وقال آخرون: رابطوا الصلوات أي انتظروها واحدة بعد واحدة، لأن المرابطة لم تكن حينئذ وهذا مروي عن علي عليه السلام، ذهب إليه أبوسلمة بن عبدالرحمن، وجابر بن عبدالله وأبوهريرة.

هـ. وروي عن أبي جعفر عليه السلام انه قال:‏ اصبروا على المصائب، وصابروا على عدوكم، ورابطوا عدوكم.

و. الاولى أن تحمل الآية على عمومها في الصبر على كل ما هو من الدين، فعلا كان أوتركا.

2. ﴿وَرَابِطُوا﴾ أصل الرباط ارتباط الخيل للعدو، والربط الشد، ومنه قولهم: ربط الله على قلبه بالصبر، ثم استعمل في كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراء من أرادهم بسوء وينبغي أن يحمل قوله رابطوا أيضا على المرابطة لما عندالله لانه العرف في استعمال الخبر، وعلى انتظار الصلاة واحدة بعد أخرى.

3. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ معناه اتقوا ان تخالفوه فيما يأمركم به لكي تفلحوا وتفوزوا بنعيم الأبد وتنجحوا بطاعتكم من الثواب الدائم.

4. انما جمع بين‏ ﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا﴾ من أن المصابرة من الصبر، للبيان عن تفصيل‏ الصبر الذي يعني به في الذكر لأن المصابرة صبر على جهاد العدو يقابل صبره لأن المفاعلة بين اثنين.

5. إنما وصف (أي) بالموصول ولم يوصف بالمضاف، لأن (الذي) يجري مجري الجنس، لأن فيه الالف واللازم بمنزلة قوله يا أيها المؤمنون، ولا يجوز يا أيها أخو زيد، لأنه لا يصح فيه الجنس.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/96.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الرِّباط والمرابطة واحد، وأصل الربط الشد، ربطت الشيء أَرْبِطُهُ ربطا، والرباط ما يشد به، والرباطة ملازمة ثغر العدو لدفع ضرر؛ لأنه بمنزلة ارتباط الخيل بدفعه.

ب. المصابرة مفاعلة من الصبر.

2. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:

أ. قيل: لما حكى تعالى أحوال المؤمنين والكافرين فيما تقدم حث على الصبر على الطاعة، ولزوم الدين والجهاد في سبيل الله.

ب. وقيل: لما بين من حال المؤمنين بأنهم قاتلوا وقتلوا، وما أعد لهم، أمر بالتمسك بطريقتهم لينالوا مثل ما نال أولئك.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾:

أ. قيل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ صدقوا الله ورسوله ﴿اصْبِرُوا﴾ على طاعة الله ﴿وَصَابِرُوا﴾ أعداء الله في الجهاد ﴿وَرَابِطُوا﴾ في سبيل الله عن الحسن وقتادة وابن جريج والضحاك.

ب. وقيل: اصبروا على دينكم، وصابروا وَعْدي إياكم، ورابطوا أعداءكم عن محمد بن كعب.

ج. وقيل: اصبروا على الجهاد، وصابروا العدو، ورابطوا الخيل عليه عن زيد بن أسلم.

د. وقيل: ورابطوا بانتظار الصلاة بعد الصلاة عن أبي مسلم.

4. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ أي اجتنبوا مخالفة أمره ونهيه ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ يعني لتفلحوا:

أ. قيل: أي لتنالوا البغية من الثواب.

ب. وقيل: لتفلحوا بالسلامة من إحباط هذه الأعمال.

ج. وقيل: اعملوا هذه الأعمال على رجاء الفلاح.

5. تدل الآية الكريمة على:

أ. جماع ما يتناوله التكليف؛ لأن قوله: ﴿اصْبِرُوا﴾ يتناول العبادات واجتناب المحارم ﴿وَصَابِرُوا﴾ يتناول ما يتصل بالغير، كمجاهدة الجن والإنس من المخالفين للحق باليد واللسان ﴿وَرَابِطُوا﴾ يدخل فيه لزوم الثغور والدفع عن الإسلام ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ يتناول اتقاء جميع المعاصي.

ب. أن الفلاح ينال بجميع ذلك، فيدل على بطلان قول المرجئة.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/511.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أصل الرباط: ارتباط الخيل للعدو، والربط: الشد، ومنه قولهم: ربط الله على قلبه بالصبر، ثم استعمل في كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه ممن أرادهم بسوء، والرباط أيضا: اسم لما يشد به.

2. لما حكى الله تعالى أحوال المؤمنين والكافرين فيما تقدم، حث بعد ذلك على الصبر على الطاعة، ولزوم الدين في الجهاد في سبيل الله فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: صدقوا الله ورسوله.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾ على وجوه:

أ. أحدها: إن المعنى اصبروا على دينكم أي: اثبتوا عليه، وصابروا الكفار، ورابطوهم في سبيل الله، عن الحسن وقتادة وابن جريج والضحاك، فعلى هذا يكون معناه: اصبروا على طاعة الله، وعن معاصيه، وقاتلوا العدو، واصبروا على قتالهم في الحق، كما يصبرون على قتالكم في الباطل، وإنما أتى بلفظ صابروا هاهنا، لأن فاعل إنما يأتي لما يكون بين اثنين، والرباط هو المرابطة، فيكون بين اثنين أيضا، يعني: أعدوا لهم من الخيل ما يعدونه لكم، كقوله ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾

ب. ثانيها: إن المراد اصبروا على دينكم، وصابروا وعدي إياكم، ورابطوا عدوي وعدوكم، عن محمد بن كعب القرظي.

ج. وثالثها: إن المراد اصبروا على الجهاد، عن زيد بن أسلم، وقيل: إن معنى رابطوا أي: رابطوا الصلوات، ومعناه: انتظروها واحدة بعد واحدة، لأن المرابطة لم تكن حينئذ، روي ذلك عن علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلوات، وأكمل التحيات، وعن جابر بن عبد الله، وأبي سلمة ابن عبد الرحمن، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه سئل عن أفضل الأعمال، فقال: إسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال: معناه اصبروا على المصائب، وصابروا على عدوكم، ورابطوا عدوكم، وهو قريب من القول الأول.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾:

أ. قيل: معناه: واتقوا أن تخالفوا الله فيما يأمركم به، لكي تفلحوا بنعيم الأبد.

ب. وقيل: معناه اتقوا عذاب الله بلزوم أمره، واجتناب نهيه، لكي تظفروا وتفوزوا بنيل المنية، ودرك البغية، والوصول إلى النجح في الطلبة، وذلك حقيقة الفلاح.

5. هذه الآية تتضمن جميع ما يتناوله المكلف لأن قوله:

أ. ﴿اصْبِرُوا﴾ يتناول لزوم العبادات، واجتناب المحرمات.

ب. ﴿وَصَابِرُوا﴾ يتناول ما يتصل بالغير كمجاهدة الجن والإنس، وما هو أعظم منها من جهاد النفس.

ج. ﴿وَرَابِطُوا﴾ يدخل فيه الدفاع عن المسلمين، والذب عن الدين.

د. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾: يتناول الانتهاء عن جميع المناهي والزواجر، والائتمار بجميع الأوامر، ثم يتبع جميع ذلك الفلاح والنجاح.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/919.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا﴾ قال أبو سلمة بن عبد الرّحمن: نزلت في انتظار الصّلاة بعد الصّلاة، وليس يومئذ غزو يرابط.

2. في الذي أمروا بالصّبر عليه خمسة أقوال:

أ. أحدها: البلاء والجهاد، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: الدّين، قاله الحسن، والقرظيّ، والزجّاج.

ج. الثالث: المصائب، روي عن الحسن أيضا.

د. الرابع: الفرائض، قاله سعيد بن جبير.

هـ. الخامس: طاعة الله، قاله قتادة.

3. في الذي أمروا بمصابرته قولان:

أ. أحدهما: العدوّ، قاله ابن عباس، والجمهور.

ب. الثاني: الوعد الذي وعدهم الله: قاله عطاء، والقرظيّ.

4. فيما أمروا بالمرابطة عليه قولان:

أ. أحدهما: الجهاد للأعداء، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة في آخرين، قال ابن قتيبة: وأصل المرابطة والرّباط: أن يربط هؤلاء خيولهم، وهؤلاء خيولهم في الثّغر، كلّ يعدّ لصاحبه.

ب. الثاني: أنه الصّلاة، أمروا بالمرابطة عليها، قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن.

__________

(1) زاد المسير: 1/365.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى في هذه السورة أنواعا كثيرة من علوم الأصول والفروع، أما الأصول ففيما يتعلق بتقرير التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وأما الفروع ففيما يتعلق بالتكاليف والأحكام نحو الحج والجهاد وغيرهما، ختم هذه السورة بهذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ المشتملة على جميع الآداب، وذلك لأن أحوال الإنسان قسمان: منها ما يتعلق به وحده، ومنها ما يكون مشتركا بينه وبين غيره، أما القسم الأول فلا بد فيه من الصبر، وأما القسم الثاني فلا بد فيه من المصابرة.

2. أما الصبر فيندرج تحته أنواع:

أ. أولها: أن يصبر على مشقة النظر والاستدلال في معرفة التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وعلى مشقة استنباط الجواب عن شبهات المخالفين.

ب. ثانيها: أن يصبر على مشقة أداء الواجبات والمندوبات.

ج. ثالثها: أن يصبر على مشقة الاحتراز عن المنهيات.

د. رابعها: الصبر على شدائد الدنيا وآفاتها من المرض والفقر والقحط والخوف.

فقوله: ﴿اصْبِرُوا﴾ يدخل تحته هذه الأقسام، وتحت كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة أنواع لا نهاية لها.

3. أما المصابرة فهي عبارة عن تحمل المكاره الواقعة بينه وبين الغير، ويدخل فيه تحمل الأخلاق الردية من أهل البيت والجيران والأقارب، ويدخل فيه ترك الانتقام ممن أساء إليك كما قال: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]، وقال: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72]، ويدخل فيه الإيثار على الغير كما قال: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9]، ويدخل فيه العفو عمن ظلمك كما قال: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [البقرة: 237]، ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فان المقدم عليه ربما وصل اليه بسببه ضرر، ويدخل فيه الجهاد فإنه تعريض النفس للهلاك، ويدخل فيه المصابرة مع المبطلين، وحل شكوكهم والجواب عن شبههم، والاحتيال في إزالة تلك الأباطيل عن قلوبهم، فثبت ان قوله‏: ﴿اصْبِرُوا﴾ تناول كل ما تعلق به وحده‏ ﴿وَصَابِرُوا﴾ تناول كل ما كان مشتركا بينه وبين غيره.

4. الإنسان وان تكلف الصبر والمصابرة إلا أن فيه أخلاقا ذميمة تحمل على أضدادها وهي الشهوة والغضب والحرص، والإنسان ما لم يكن مشتغلا طول عمره بمجاهدتها وقهرها لا يمكنه الإتيان بالصبر والمصابرة، فلهذا قال: ﴿وَرَابِطُوا﴾ ولما كانت هذه المجاهدة فعلا من الأفعال ولا بد للإنسان في كل فعل‏ يفعله من داعية وغرض، وجب أن يكون للإنسان في هذه المجاهدة غرض وباعث، وذلك هو تقوى الله لنيل الفلاح والنجاح، فلهذا قال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وتمام التحقيق فيه أن الأفعال مصدرها هو القوى، فهو تعالى أمر بالصبر والمصابرة، وذلك عبارة عن الإتيان بالافعال الحسنة، والاحتراز عن الأفعال الذميمة، ولما كانت الأفعال صادرة عن القوى أمر بعد ذلك بمجاهدة القوى التي هي مصادر الأفعال الذميمة، وذلك هو المراد بالمرابطة، ثم ذكر ما به يحصل دفع هذه القوى الداعية إلى القبائح والمنكرات، وذلك هو تقوى الله، ثم ذكر ما لأجله وجب ترجيح تقوى الله على سائر القوى والأخلاق، وهو الفلاح.

5. فظهر أن هذه الآية التي هي خاتمة لهذه السورة مشتملة على كنوز الحكم والأسرار الروحانية، وانها على اختصارها كالمتمم لكل ما تقدم ذكره في هذه السورة من علوم الأصول والفروع فهذا ما عندي فيه.

6. أما قوله: ﴿وَرَابِطُوا﴾ ففيه قولان:

أ. الأول: أنه عبارة عن أن يربط هؤلاء خيلهم في الثغور ويربط أولئك خيلهم أيضاً، بحيث يكون كل واحد من الخصمين مستعداً لقتال الآخر، قال تعالى: ﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: 60] وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ (من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان مثل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينتقل عن صلاته إلا لحاجة)

ب. الثاني: أن معنى المرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة ويدل عليه وجهان:

الأول: ما روي عن أبي سلمة عبد الرحمن أنه قال لم يكن في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم غزو يرابط فيه، وإنما نزلت هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة.

الثاني: ما روي من حديث أبي هريرة حين ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ثم قال: فذلكم الرباط) ثلاث مرات.

7. يمكن حمل اللفظ على الكل، وأصل الرباط من الربط وهو الشد، يقال: لكل من صبر على أمر ربط قلبه عليه، وقال آخرون: الرباط هو اللزوم والثبات، وهذا المعنى أيضاً راجع إلى ما ذكرناه من الصبر وربط النفس، ثم هذا الثبات والدوام يجوز أن يكون على الجهاد، ويجوز أن يكون على الصلاة.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 9/474.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا﴾ الآية، ختم تعالى السورة بما تضمنته هذه الآية العاشرة من الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء والفوز بنعيم الآخرة، فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات، والصبر الحبس، وقد تقدم في البقرة بيانه.

2. وأمر بالمصابرة فقيل: معناه مصابرة الأعداء، قاله زيد بن أسلم، وقال الحسن: على الصلوات الخمس، وقيل: إدامة مخالفة النفس عن شهواتها فهي تدعو وهو ينزع، وقال عطاء والقرظي: (صابروا الوعد الذي وعدتم، أي لا تيأسوا وانتظروا الفرج، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: انتظار الفرج بالصبر عبادة)، واختار هذا القول أبو عمر، والأول قول الجمهور، ومنه قول عنترة:

çفلم أر حيا صابروا مثل صبرنا...ولا كافحوا مثل الذين نكافحé

قوله: (صابروا مثل صبرنا) أي صابروا العدو في الحرب ولم يبد منهم جبن ولا خور، والمكافحة: المواجهة والمقابلة في الحرب.

3. ولذلك اختلفوا في معنى قوله ﴿وَرَابِطُوا﴾ فقال جمهور الأمة: رابطوا أعدائكم بالخيل، أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداءكم، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ [الأنفال] وفي الموطأ عن مالك عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة ابن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله له بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم غزو يرابط فيه، رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه، واحتج أبو سلمة بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط) ثلاثا، رواه مالك، قال ابن عطية: (والقول الصحيح هو أن الربط هو الملازمة في سبيل الله، أصلها من ربط الخيل، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا، فارسا كان أو راجلا، واللفظ مأخوذ من الربط، وقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فذلكم الرباط) إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله، والرباط اللغوي هو الأول، وهذا كقوله: (ليس الشديد بالصرعة) وقوله: (ليس المسكين بهذا الطواف) إلى غير ذلك.. وقوله: (والرباط اللغوي هو الأول) ليس بمسلم، فإن الخليل بن أحمد أحد أئمة اللغة وثقاتها قد قال: الرباط ملازمة الثغور، ومواظبة الصلاة أيضا، فقد حصل أن انتظار الصلاة رباط لغوي حقيقة، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأكثر من هذا ما قاله الشيباني أنه يقال: ماء مترابط أي دائم لا ينزح، حكاه ابن فارس، وهو يقتضي تعدية الرباط لغة إلى غير ما ذكرناه، فإن المرابطة عند العرب: العقد على الشيء حتى لا ينحل، فيعود إلى ما كان صبر عنه، فيحبس القلب على النية الحسنة والجسم على فعل الطاعة، ومن أعظمها وأهمها ارتباط الخيل في سبيل الله كما نص عليه في التنزيل في قوله: ﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ [الأنفال] على ما يأتي، وارتباط النفس على الصلوات كما قاله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، رواه أبو هريرة وجابر وعلي ولا عطر بعد عروس.

4. المرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما، قاله محمد بن المواز ورواه، وأما سكان الثغور دائما بأهليهم الذين يعمرون ويكتسبون هنالك، فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين، قال ابن عطية، وقال ابن خويز منداد: وللرباط حالتان: حالة يكون الثغر مأمونا منيعا يجوز سكناه بالأهل والولد، وإن كان غير مأمون جاز أن يرابط فيه بنفسه إذا كان من أهل القتال، ولا ينقل إليه الأهل والولد لئلا يظهر العدو فيسبي ويسترق، والله أعلم.

5. جاء في فضل الرباط أحاديث كثيرة:

أ. منها ما رواه البخاري عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (رباط يوم في سبيل الله خير عند الله من الدنيا وما فيها)

ب. وفي صحيح مسلم عن سلمان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان)

ج. وروى أبو داوود في سننه عن فضالة ابن عبيد أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (كل ميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتان القبر)، وفي هذين الحديثين دليل على أن الرباط أفضل الأعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت، كما جاء في حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) وهو حديث صحيح انفرد بإخراجه مسلم، فإن الصدقة الجارية والعلم المنتفع به والولد الصالح الذي يدعو لأبويه ينقطع ذلك بنفاد الصدقات وذهاب العلم وموت الولد، والرباط يضاعف أجره إلى يوم القيامة، لأنه لا معنى للنماء إلا المضاعفة، وهي غير موقوفة على سبب فتنقطع بانقطاعه، بل هي فضل دائم من الله تعالى إلى يوم القيامة، وهذا لأن أعمال البر كلها لا يتمكن منها إلا بالسلامة من العدو والتحرز منه بحراسة بيضة الدين وإقامة شعائر الإسلام، وهذا العمل الذي يجري عليه ثوابه هو ما كان يعمله من الأعمال الصالحة.

د. وعن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من مات مرابطا في سبيل الله أجري عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمل وأجري عليه رزقه وأمن من الفتان وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع)، وفي هذا الحديث قيد ثان وهو الموت حالة الرباط.

هـ. وروي عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (من رابط ليلة في سبيل الله كانت له كألف ليلة صيامها وقيامها)

و. وروي عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان أعظم أجرا من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم أجرا ـ أراه قال: من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها فإن رده الله إلى أهله سالما لم تكتب عليه سينه ألف سنة وتكتب له الحسنات ويجرى له أجر الرباط إلى يوم القيامة)، ودل هذا الحديث على أن رباط يوم في شهر رمضان يحصل له من الثواب الدائم وإن لم يمت مرابطا، والله أعلم.

ز. وعن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (حرس ليلة في سبيل الله أفضل من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنة السنة ثلاثمائة يوم وستون يوما واليوم كألف سنة)

6. جاء في انتظار الصلاة بعد الصلاة أنه رباط، فقد يحصل لمنتظر الصلوات ذلك الفضل إن شاء الله تعالى، وقد روى أبو نعيم عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى ذات ليلة المغرب فصلينا معه فعقب من عقب ورجع من رجع، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يثوب الناس لصلاة العشاء، فجاء وقد حضره الناس رافعا أصبعه وقد عقد تسعا وعشرين يشير بالسبابة إلى السماء فحسر ثوبه عن ركبتيه وهو يقول: أبشروا معشر المسلمين هذا ربكم قد فتح بابا من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة يقول يا ملائكتي انظروا إلى عبادي هؤلاء قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى.

7. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي لم تؤمروا بالجهاد من غير تقوى، ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ لتكونوا على رجاء من الفلاح، وقيل: لعل بمعنى لكي، والفلاح البقاء، وقد مضى هذا كله في البقرة مستوفى، والحمد لله.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏4/323.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا﴾ الآية، هذه الآية العاشرة من قوله سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ﴾ ختم بها هذه السورة لما اشتملت عليه من الوصايا التي جمعت خير الدنيا والآخرة، فحض على الصبر على الطاعات والشهوات، والصبر: الحبس، وقد تقدم تحقيق معناه.

2. المصابرة مصابرة الأعداء، قاله الجمهور، أي: غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب، وخص المصابرة بالذكر بعد أن ذكر الصبر: لكونها أشدّ منه وأشقّ، وقيل: المعنى صابروا على الصلوات، وقيل: صابروا الأنفس عن شهواتها؛ وقيل: صابروا الوعد الذي وعدتم ولا تيأسوا، والقول الأول هو المعنى العربي، ومنه قول عنترة:

çفلم أر حيّا صابروا مثل صبرنا...ولا كافحوا مثل الذين نكافح‏é

أي: صابروا العدوّ في الحرب.

3. ﴿وَرَابِطُوا﴾ أي: أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها، كما يربطها أعداؤكم، هذا قول جمهور المفسرين، وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم غزو يرابط فيه، وسيأتي ذكر من خرج عنه هذا، والرباط اللغوي هو الأوّل، ولا ينافيه تسميته صلّى الله عليه وآله وسلّم لغيره رباطا كما سيأتي، ويمكن إطلاق الرباط على المعنى الأول، وعلى انتظار الصلاة، قال الخليل: الرباط ملازمة الثغور ومواظبة الصلاة، هكذا قال وهو من أئمة اللغة، وحكى ابن فارس عن الشيباني أنه قال يقال: ماء مترابط: دائم لا يبرح، وهو يقتضي تعدية الرباط إلى غير ارتباط الخيل في الثغور.

4. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ فلا تخالفوا ما شرعه لكم‏ ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي: تكونون من جملة الفائزين بكل مطلوب، وهم المفلحون.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/476.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ﴾ على مشاقِّ الجهاد والطاعات والمصائب، وعن المعاصي، ﴿وَصَابِرُواْ﴾ عالجوا أن تكونوا أصبر من أعداء الله في القتال، وأن تكونوا غالبين لأنفسكم، فيكون تخصيصا للمزيَّة بعد تعميم، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)

2. ﴿وَرَابِطُواْ﴾ الزموا ثغور العدوِّ بخيلكم مترقِّبين له، رادِّين عمَّن وراءكم، ثمَّ أطلق الرباط على ذلك ولو بلا خيل، ﴿وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من رابط يوما وليلة في سبيل الله فهو كصائم رمضان وقائمه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إِلَّا لحاجة) رواه مسلم، وروى هو والبخاري عن سهل بن سعد عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها)، وروى ابن ماجه عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من مات مرابطا في سبيل الله تعالى أجري عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن من الفتَّان، وبعثه الله آمنا من الفزع)، وروى الطبراني عن جابر: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (من رابط يوما في سبيل الله تعالى جعل الله بينه وبين النار سبعة خنادق، كلُّ خندق كسبع سماوات وسبع أرضين)، وعن ابن عمر عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (الصلاة بأرض الرباط بألفِ ألفيْ صلاة)، وذلك في أطراف ممالك الإسلام التي يخاف فيها، وعن ابن عمر: (الرباط أفضل من الجهاد؛ لأنَّه حقن دماء المسلمين، والجهاد سفك دماء المشركين)؛ ولذلك ورد: (إنَّ المرابط لا يسأل في قبره)، والإِفْلَاحُ: الفوز بالمطلوب الحسن، والنجاةُ من المكروه.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/103.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا﴾ أي على مشاق الطاعات وما يمسكم من المكاره والشدائد ﴿وَصَابِرُوا﴾ أي غالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الجهاد، لا تكونوا أقل صبرا منهم وثباتا، ولمصابرة باب من الصبر، ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه، تخصيصا، لشدته وصعوبته ـ كذا في الكشاف ـ

2. ﴿وَرَابِطُوا﴾ أي أقيموا على مرابطة الغزو في نحر العدوّ بالترصد والاستعداد لحربهم، وارتباط الخيل، قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: 60]، والرباط في الأصل أن يربط كل من الفريقين خيولهم في ثغره، وكل معدّ لصاحبه، ثم صار لزوم الثغر رباطا، وربما سميت الخيل أنفسها رباطا، وقد يتجوّز بالرباط عن الملازمة والمواظبة على الأمر، فتسمى رباطا ومرابطة، قال الفارسيّ: هو ثان من لزوم الثغر، ولزوم الثغر ثان من رباط الخيل، وقد وردت الأخبار بالترغيب في الرباط، وكثرة أجره:

أ. فمنها ما رواه البخاريّ‏ في صحيحه عن سهل بن سعد الساعديّ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال رباط يوم في سبيل الله، خير من الدنيا وما عليها.

ب. وروى مسلم‏ عن سلمان الفارسيّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: رباط يوم وليلة، خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتّان.

ج. وروى الإمام أحمد عن فضالة بن عبيد قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله، فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر، وهكذا رواه أبو داوود والترمذيّ وقال: حسن صحيح، وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضا، وبقيت أحاديث أخر ساقها الحافظ ابن كثير في تفسيره.

3. هذا ومن الوجوه في قوله تعالى:‏ ﴿رابِطُوا﴾ أن يكون معناه انتظار الصلاة بعد الصلاة:

أ. فقد روى مسلم‏ والنسائيّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فشبه صلّى الله عليه وآله وسلّم ما ذكر من الأفعال الصالحة بالرباط.

ب. وروى الحاكم في (مستدركه) والحافظ ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: أقبل عليّ أبو هريرة يوما فقال: أتدري، يا ابن أخي! فيم نزلت هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾؟ قلت: لا! قال: أما إنه لم يكن في زمان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها، فعليهم أنزلت‏ ﴿اصْبِرُوا﴾ أي على الصلوات الخمس، ﴿وَصَابِرُوا﴾ أنفسكم وهواكم ورابطوا في مساجدكم.

4. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ فيما عليكم‏ ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي تفوزون بما يغتبط به، و(لعل) لتغييب المآل، لئلا يتكلوا على الآمال.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/491.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم ختم سبحانه السورة بهذه الوصية للمؤمنين لأنها هي التي تتحقق بها استجابة ذلك الدعاء وإيفاء الوعد بالنصر في الدنيا وحسن الجزاء في الآخرة فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، قال محمد عبده: أي اصبروا على ما يلحقكم من الأذى، وصابروا الأعداء الذين يقاومونكم ليغلبوكم على أمركم ويخذلون الحق الذي في أيديكم، ورابطوا الخيل كما يربطونها استعدادا للجهاد.

2. المصابرة والمرابطة وهي الرباط بمعنى مباراة الأعداء ومغالبتهم في الصبر وفي ربط الخيل كما قال: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ [الأنفال: 60] على الأصل الذي قرره الإسلام من مقاتلتهم بمثل ما يقاتلوننا به، فيدخل في ذلك مباراتهم في هذا العصر بعمل البنادق والمدافع والسفن والآلات البحرية والبرية والهوائية، وغير ذلك من الفنون والعدد العسكرية، ويتوقف ذلك كله على البراعة في العلوم الرياضية والطبيعية، فهي واجبة على المسلمين في هذا العصر لأن الواجب من الاستعداد العسكري لا يتم إلا بها، وقد أطلق لفظ المرابطة عند المسلمين على الإقامة في ثغور البلاد وهي مداخلها على حدود المحاربين لأجل الدفاع عنها إذا هاجمها الأعداء فإن هؤلاء يقيمون فيها ويقومون في أثناء ذلك بربط خيولهم وخدمتها وغير ذلك مما يحتاج إليه من الاستعداد.

3. قال محمد عبده في الوصية بالتقوى: يكثر الله تعالى من هذه الوصية ومع ذلك نرى الناس قد انصرفوا عنها بتة حتى صار التقي عند الناس هو الأهبل الذي لا يعقل مصلحته ولا مصلحة الناس، ولا شيء أشأم على التقوى من فهمها بهذا المعنى.. والتقوى أن تقي نفسك من الله أي من غضبه وسخطه وعقوبته، ولا يمكن هذا إلا بعد معرفته ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه، ولا يعرف هذا إلا من فهم كتاب الله تعالى وعرف سنة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم وسيرة سلف الأمة الصالح، مطالبا نفسه بالاهتداء بذلك كله، فمن صبر وصابر ورابط لأجل حماية الحق وأهله، ونشر دعوته، واتقى ربه في سائر شؤونه، فقد أعد نفسه بذلك للفلاح والفوز بالسعادة عند الله تعالى.

4. الفلاح هو الفوز والظفر بالبغية المقصودة من العمل، وقد يكون ذلك خاصا بالدنيا كما في قوله تعالى حكاية عن فرعون: ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾ [طه: 64] وقد يكون خاصا بالآخرة كقوله حكاية عن أهل الكهف: ﴿وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ [الكهف: 20] ويكون مشتركا بين الدارين، وعندي أن أكثر وعد القرآن المؤمنين من هذا النوع، وإرادة الفلاح الدنيوي من الآية التي نفسرها ظاهرة، فإن الصبر ومصابرة الأعداء والمرابطة والتقوى كلها من أسباب الفوز على الأعداء في الدنيا، كما أنها مع حسن النية وقصد إقامة الحق والعدل ـ الذي هو شأن المؤمن ـ من أسباب سعادة الآخرة، وهذه الأعمال كلها اختيارية داخلة في مقدور الإنسان، ولذلك أمر بها فعمله إذا هو سبب فلاحه.. فنسأل الله تعالى أن ينيلنا ما أرشدنا إليه وأقدرنا على أسبابه من سعادة الدارين.

__________

(1) تفسير المنار: ‏4/319.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ختم الله هذه السورة بوصية للمؤمنين إذا عملوا بها كانوا أهلا لاستجابة الدعاء وأحق بالنصر في الدنيا وحسن المثوبة في الآخرة فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي اصبروا على شدائد الدنيا وآلامها من مرض وفقر وخوف، وصابروا: أي تحملوا المكاره التي تلحقكم من سواكم، ويدخل في ذلك احتمال الأذى من الأهل والجيران وترك الانتقام ممن يسيء إليكم كما قال: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ وإيثار غيركم على أنفسكم كما قال: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ والعفو عمن ظلمكم كما قال:‏ ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ ودفع شبه المبطلين وحلّ شكوكهم والإجابة عن شبههم، وقوله ورابطوا: أي اربطوا خيلكم في الثغور كما يربط العدو خيله استعداد للقتال كما قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ ويدخل في هذا كل ما ولّده العلم في هذا العصر من وسائل الدفاع من طائرات وقاذفات للقنابل ودبابات ومدافع رشاشة وبنادق وأساطيل بحرية ونحو ذلك مما ضار ضروريا من آلات الحروب الحديثة، وصار من فقدها يشبه أن يكون أعزل من السلاح وإن كان مدجّجا به، ويلزم هذا أن يكونوا عالمين بفنون الحرب والخطط العسكرية بارعين في العلوم الطبيعية والرياضية، فكل ذلك واجب على المسلمين في هذا العصر، لأن الاستعداد لا يتم إلا به.

2. أكثر الله في كتابه من ذكر التقوى ويراد بها الوقاية من سخط الله وغضبه، ولا يكون هذا إلا بعد معرفته ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه، ولا يعرف هذا إلا من فهم كتاب الله، وعرف سنة نبيه، وسيرة السلف الصالح من الأمة الإسلامية، ومن فعل كل ما تقدم فصبر وصابر ورابط لحماية الحق وأهله ونشر دعوته واتقى ربه في سائر شؤونه فقد أفلح وفاز بالسعادة عند ربه.

3. وهذا الفوز والفلاح بالبغية قد يكون في شؤون الدنيا كما جاء حكاية عن فرعون:‏ ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾، وقد يكون في شؤون الآخرة كقوله تعالى حكاية عن أهل الكهف:‏ ﴿وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾، وقد يكون فيهما معا، وأكثر ما جاء في القرآن من هذا كالذي نحن فيه، فإن مصابرة الأعداء والمرابطة والتقوى كلها من وسائل الظفر على الأعداء في الدنيا كما أنها من أسباب السعادة في الآخرة بعد توافر حسن النية، وقصد إقامة الحق والعدل.. وفقنا الله للعمل إلى ما يرضيه، حتى نصل إلى سعادة الدارين، بفضله وإحسانه، ومنّه وكرمه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه‏

__________

(1) تفسير المراغي: 4/172.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم يجيء الإيقاع الأخير، في نداء الله للذين آمنوا، وتلخيص أعباء المنهج، وشرط الطريق: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، إنه النداء العلوي للذين آمنوا، نداؤهم بالصفة التي تربطهم بمصدر النداء، والتي تلقي عليهم هذه الأعباء، والتي تؤهلهم للنداء وتؤهلهم للأعباء، وتكرمهم في الأرض كما تكرمهم في السماء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، النداء لهم، للصبر والمصابرة، والمرابطة، والتقوى.

2. سياق السورة حافل بذكر الصبر وبذكر التقوى.. يذكران مفردين، ويذكران مجتمعين.. وسياق السورة حافل كذلك بالدعوة إلى الاحتمال والمجاهدة ودفع الكيد وعدم الاستماع لدعاة الهزيمة والبلبلة، ومن ثم تختم السورة بالدعوة إلى الصبر والمصابرة، وإلى المرابطة والتقوى، فيكون هذا أنسب ختام.

3. الصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة، إنه طريق طويل شاق، حافل بالعقبات والأشواك، مفروش بالدماء والأشلاء، وبالإيذاء والابتلاء.. الصبر على أشياء كثيرة: الصبر على شهوات النفس ورغائبها، وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها، وعجلتها وملالها من قريب! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم، وانحراف طباعهم، وأثرتهم، وغرورهم، والتوائهم، واستعجالهم‏ للثمار! والصبر على تنفج الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وغلبة الشهوة، وتصعير الغرور والخيلاء! والصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق، ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة، من الألم والغيظ، والحنق، والضيق، وضعف الثقة أحيانا في الخير، وقلة الرجاء أحيانا في الفطرة البشرية؛ والملل والسأم واليأس أحيانا والقنوط! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله، واستسلام لقدره، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع.. والصبر على هذا كله ـ وعلى مثله ـ مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل.. لا تصوره حقيقة الكلمات، فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة، إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق؛ وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات! والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي، فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء، كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه.

4. والمصابرة.. وهي مفاعلة من الصبر.. مصابرة هذه المشاعر كلها، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين.. مصابرتها ومصابرتهم، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة، بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى: أعدائهم من كوامن الصدور، وأعدائهم من شرار الناس سواء، فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر، والدفع بالدفع، والجهد بالجهد، والإصرار بالإصرار.. ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء، وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصرارا وأعظم صبرا على المضي في الطريق!

5. والمرابطة.. الإقامة في مواقع الجهاد، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء.. وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبدا، ولا تستسلم للرقاد! فما هادنها أعداؤها قط، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة، والتعرض بها للناس، وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد، حيثما كانت إلى آخر الزمان! إن هذه الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي، منهج يتحكم في ضمائرهم، كما يتحكم في أموالهم، كما يتحكم في نظام حياتهم ومعايشهم، منهج خير عادل مستقيم، ولكن الشر لا يستريح للمنهج الخير العادل المستقيم؛ والباطل لا يحب الخير والعدل والاستقامة؛ والطغيان لا يسلم للعدل والمساواة والكرامة.. ومن ثم ينهد لهذه الدعوة أعداء من أصحاب الشر والباطل والطغيان، ينهد لحربها المستنفعون المستغلون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الاستنفاع والاستغلال، وينهد لحربها الطغاة المستكبرون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الطغيان والاستكبار، وينهد لحربها المستهترون المنحلون، لأنهم لا يريدون أن يتخلوا عن الانحلال والشهوات.. ولا بد من مجاهدتهم جميعا، ولا بد من الصبر والمصابرة، ولا بد من المرابطة والحراسة، كيلا تؤخذ الأمة المسلمة على غرة من أعدائها الطبيعيين، الدائمين في كل أرض وفي كل جيل.

6. هذه طبيعة هذه الدعوة، وهذا طريقها.. إنها لا تريد أن تعتدي؛ ولكن تريد أن تقيم في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم.. وهي واجدة أبدا من يكره ذلك المنهج وهذا النظام، ومن يقف في طريقها بالقوة والكيد، ومن يتربص بها الدوائر، ومن يحاربها باليد والقلب واللسان.. ولا بد لها أن تقبل المعركة بكل‏ تكاليفها، ولا بد لها أن ترابط وتحرس ولا تغفل لحظة ولا تنام!

7. والتقوى.. التقوى تصاحب هذا كله، فهي الحارس اليقظ في الضمير يحرسه أن يغفل؛ ويحرسه أن يضعف؛ ويحرسه أن يعتدي؛ ويحرسه أن يحيد عن الطريق من هنا ومن هناك، ولا يدرك الحاجة إلى هذا الحارس اليقظ، إلا من يعاني مشاق هذا الطريق؛ ويعالج الانفعالات المتناقضة المتكاثرة المتواكبة في شتى الحالات وشتى اللحظات، إنه الإيقاع الأخير في السورة التي حوت ذلك الحشد من الإيقاعات، وهو جماعها كلها، وجماع التكاليف التي تفرضها هذه الدعوة في عمومها.. ومن ثم يعلق الله بها عاقبة الشوط الطويل وينوط بها الفلاح في هذا المضمار: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وصدق الله العظيم.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/552.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بهذه الآية الكريمة تختم سورة (آل عمران) التي كان أبرز ألوانها هذا اللون المصبوغ بدم المجاهدين في سبيل الله، في أولى معارك الإسلام، وعلى امتداد الطريق الذي ساروا فيه، من أول يومهم معه، إلى يوم أحد! فالمسلمون كانوا إلى يوم أحد في مواجهة عواصف عاتية، تهبّ عليهم من كل جهة، وتطلع عليهم من كل أفق، كانوا في مكة قلّة مستضعفين، أخذتهم قريش بالبأساء والضرّاء، ففرّوا بدينهم وانخلعوا عن ديارهم وأهليهم في غربة موحشة، لا يؤنسهم فيها غير دينهم، ولا يملأ عليهم حياتهم إلا آيات الله يرتلونها، ويسعدون بما تفيض عليهم من رحمة ورضوان.. وكانوا في المدينة أعدادا قليلة، تتربص بهم قريش، وتعدّ العدة للقضاء عليهم، على حين يمكر بهم اليهود ويؤلّبون الناس على حربهم، ثم إذا كان يوم بدر استروح المسلمون ريح النّصر، وتنفسوا أنفاس الرضا.. فلما جاءت موقعة أحد ألقت على المسلمين هموما ثقالا، وأطمعت فيهم أعداءهم، فأظهروا لهم ما كانوا يخفون من عداوة، وما كانوا يبيتون من عدوان، وقد رأينا كيف كانت رحمة الله بالمسلمين ومواساته لهم، فيما نزل من آيات، بعد أحداث أحد.

2. الصبر هو زاد المؤمنين وعتادهم في مسيرتهم إلى الله، وبلوغ مرضاته، وبغير الصبر، وتوطين النفس على ما تكره، لا يستقيم خطو الإنسان أبدا على طريق الحق والخير، إذ كان ذلك الطريق دائما، موحشا، تعترض سالكه الحواجز والمزالق والعثرات! لهذا كانت تلك الآية الكريمة دعوة خالصة للصبر، تغرى المسلمين به، وتحرضهم عليه، وتفتح لهم طريق النجاح والفلاح بيده! ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾

3. فالصبر، والمصابرة، والمرابطة، وتقوى الله، هنّ اللائي يمكّنّ للمؤمن من أن يضع قدميه على طريق النجاح والفلاح، وأن يقطع هذا الطريق إلى غايته، فيظفر برضا الله، ويفوز برضوانه، والصبر، هو القوة التي يلقى بها المرء المكاره والشدائد، فيحتملها في إصرار وعزم، وفي غير وهن أو ضعف.. فذلك هو الصبر الذي يدعو إليه الإسلام، ويزكّيه، كما تدعو إليه رسالات السماء، وحكمة الحكماء.. وفي هذا يقول لقمان لابنه فيما يقول القرآن الكريم عنه: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾

4. والمصابرة، هي التجربة الحيّة للصبر، والمحكّ الذي يظهر به معدن الصبر عند الصابرين.. فليس الصبر درجة واحدة.. بل هو ـ شأنه شأن كل فضيلة ـ درجات متفاوتة، تختلف حظوظ الناس منه، كلّ حسب وثاقة إيمانه، وقوة عزيمته.. وفي المصابرة مغالبة ومصاولة، بين الإنسان وبين الشدائد والمحن، التي يريد قهرها والغلب عليها، سواء كانت تلك الشدائد والمحن ممّا يعتمل في نفسه من أهواء ونزعات، أو مما تسوق إليه الحياة من بلاء وامتحان!

5. والمرابطة هي الثمرة المباركة من ثمار الصبر والمصابرة.. فإذا صبر الإنسان على المكروه، ثم صابر هذا المكروه على ثقله وامتداد الزمن به، فلم يضعف ولم يضجر، أسلمه ذلك إلى (المرابطة) التي يذلّ فيها المكروه ويصبح شيئا مألوفا.. وهكذا تتحول المكاره مع الصبر والمصابرة إلى أشياء أقرب إلى نفس الإنسان، وأشكل بطبيعته، وهكذا يصبح معتادا لها، مرتبطا بها.

6. وبهذا يحصل على الثمرة الكبرى، وهى التقوى، التي لا تكون إلا بقهر شهوات النفس وأهوائها، وذلك هو الفلاح المبين والفوز العظيم.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏2/679.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ختمت السورة بوصاية جامعة للمؤمنين تجدّد عزيمتهم وتبعث الهمم إلى دوام الاستعداد للعدوّ كيلا يثبّطهم ما حصل من الهزيمة، فأمرهم بالصبر الذي هو جماع الفضائل وخصال الكمال، ثم بالمصابرة وهي الصبر في وجه الصابر، وهذا أشدّ الصبر ثباتا في النفس وأقربه إلى التزلزل، ذلك أنّ الصبر في وجه صابر آخر شديد على نفس الصابر لما يلاقيه من مقاومة قرن له في الصبر قد يساويه أو يفوقه، ثم إنّ هذا المصابر إن لم يثبت على صبره حتّى يملّ قرنه فإنّه لا يجتني من صبره شيئا، لأنّ نتيجة الصبر تكون لأطول الصابرين صبرا، كما قال زفر بن الحارث في اعتذاره عن الانهزام:

çسقيناهم كأسا سقونا بمثلها...ولكنّهم كانوا على الموت أصبراé

فالمصابرة هي سبب نجاح الحرب كما قال شاعر العرب الذي لم يعرف اسمه:

çلا أنت معتاد في الهيجا مصابرة...يصلى بها كلّ من عاداك نيراناé

2. ﴿وَرَابِطُوا﴾ أمر لهم بالمرابطة، وهي مفاعلة من الرّبط، وهو ربط الخيل للحراسة في غير الجهاد خشية أن يفجأهم العدوّ، أمر الله به المسلمين ليكونوا دائما على حذر من عدوّهم تنبيها لهم على ما يكيد به المشركون من مفاجأتهم على غرّة بعد وقعة أحد كما قدّمناه آنفا، وقد وقع ذلك منهم في وقعة الأحزاب فلمّا أمرهم الله بالجهاد أمرهم بأن يكونوا بعد ذلك أيقاظا من عدوّهم، وفي كتاب الجهاد من (البخاري): باب فضل رباط يوم في سبيل الله وقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾ الآية، وكانت المرابطة معروفة في الجاهلية وهي ربط الفرس للحراسة في الثغور أي الجهات التي يستطيع العدوّ الوصول منها إلى الحيّ مثل الشعاب بين الجبال، وما رأيت من وصف ذلك مثل لبيد في معلّقته إذ قال ولقد حميت الحيّ تحمل شكّتي‏...فرط وشاحي إذ غدوت لجامها

çفعلوت مرتقبا على ذي هبوة...حرج إلى إعلامهن قتامها

حتّى إذا ألقت يدا في كافر...وأجنّ عورات الثّغور ظلامهاé

فذكر أنّه حرس الحيّ على مكان مرتقب، أي عال بربط فرسه في الثغر، وكان المسلمون يرابطون في ثغور بلاد فارس والشام والأندلس في البرّ، ثم لمّا اتّسع سلطان الإسلام وامتلكوا البحار صار الرباط في ثغور البحار وهي الشطوط التي يخشى نزول العدوّ منها: مثل رباط المنستير بتونس بإفريقية، ورباط سلا بالمغرب، وربط تونس ومحارسها: مثل محرس علي بن سالم قرب صفاقس، فأمر الله بالرباط كما أمر بالجهاد بهذا المعنى وقد خفي على بعض المفسّرين فقال بعضهم: أراد بقوله: ﴿وَرَابِطُوا﴾ إعداد الخيل مربوطة للجهاد، قال ولم يكن في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم غزو في الثغور، وقال بعضهم: أراد بقوله: ﴿وَرَابِطُوا﴾ انتظار الصلاة بعد الفراغ من التي قبلها، لما روى مالك في (الموطأ)، عن أبي هريرة: أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة، وقال: (فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)، ونسب هذا لأبي سلمة بن عبد الرحمن، قال ابن عطية: والحقّ أن معنى هذا الحديث على التشبيه، كقوله: (ليس الشديد بالصرعة) وقوله: (ليس المسكين بهذا الطّواف الذي تردّه اللقمة واللقمتان)، أي وكقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (رجعنا من‏ الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)

3. أعقب هذا الأمر بالأمر بالتقوى لأنّها جماع الخيرات وبها يرجى الفلاح.

__________

(1) التحرير والتنوير: 3/318.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كانت سورة آل عمران مبينة لألوان الجهاد الذي يقوم به المؤمنون، ففيها جهاد بالحق والبرهان، وجهاد بالقتال وتحمل مرارة الهزيمة، ولذلك ختمها سبحانه بهذا النداء السامي الذي يجب أن يكون شعار كل مؤمن، وابتدأ النداء بيا أيها الذين آمنوا، لإشعارهم بأن ما يطلب منهم هو من ثمرات الإيمان ومن مقضياته، وقد أمر بأمور أربعة: الصبر، والمصابرة، والمرابطة، والتقوى.

2. الصبر: معناه ضبط النفس عن أهوائها، وتحمل المكاره راضيا غير ساخط، والقيام بالطاعات على وجهها، وتجنب المعاصي وتحمل آثار الهزيمة، والعمل على النهوض بعد الكبوة، وتحمل أذى الأعداء وسخريتهم، فالصبر معنى نفسي في الصابر يجعله يعلو على الحوادث والنوازل، ويستولى على نفسه، ويحملها على ما تحب وتكره، والصبر كما يكون في الفقر يكون في الغنى، وصبر الغنى بقمع شهواته، وعدم البطر، وعدم الفرح المسرف الفاخر المستعلى.

3. المصابرة هي المغالبة بالصبر، وهى تكون في الجهاد مع الأعداء في الملحمة، أو في المجادلة، أو في أي مغالبة على أي لون كانت.

4. المرابطة هي القيام على الثغور الإسلامية لحمايتها من الأعداء، فهي استعداد ودفاع وحماية للديار الإسلامية، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (رباط يوم في سبيل الله خير عند الله من الدنيا وما عليها)، وكان كبار الزهاد يرابطون نصف السنة، ويطلبون قوتهم بالعمل في النصف الآخر.

5. التقوى هي لب كل عمل صالح، وهى النية المحتسبة للخير، فالمرابطة والمصابرة إن لم تكن منبعثة من التقوى لإرضاء الله تعالى فإنه لا خير فيها، وإن هذه الأمور الأربعة هي التي يرجى بها الفلاح، أي الفوز في الدنيا والآخرة، ولذا قال سبحانه: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي رجاء أن يكتب لكم الفوز بالنصر في الدنيا والجزاء في الآخرة، اللهم اكتبنا برحمتك في عبادك الفائزين برضاك.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1561.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ختم الله سبحانه سورة آل عمران بهذه الآية التي جمعت بين الأمر بتقوى الله، والأمر بجهاد أعدائه، وسبق الكلام في الصبر مفصلا.

2. نختم هذه السورة الكريمة بكلمة موجزة عن التقوى، سئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن التقوى؟ فقال: ان لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك.. اذن لا بد في التقوى من العلم بأحكام الله، والعمل بها لوجه الله، لأن العلم بلا عمل حجة على صاحبه، والعمل بلا علم كالسير على غير الطريق، وعلى هذا الأساس تكون التقوى هي الدين والأخلاق، وأساس الفضائل.. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تقولوا: ان محمدا منا، فوالله ما أوليائي منكم ولا من غيركم إلا المتقون)، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ولا من غيركم يشعر بأن غير المسلم إذا سلم الناس من يده ولسانه أقرب إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ممن انتسب إلى الإسلام، ولم يكف أذاه عن الناس.

3. جاء في القرآن الكريم العديد من الآيات في ان الفوز والنجاة غدا للمتقين وحدهم.. وفي الأساطير حكاية تومئ إلى هذه الحقيقة، وهي ان رجلا كان في قديم الزمان يكثر من قول: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، فاغتاظ إبليس من ذلك، وأرسل اليه بعض شياطينه، فذهب اليه، وقال له: قل: العاقبة للأغنياء، فقال: الرجل: كلا، العاقبة للمتقين، ولما كثر بينهما الجدال اتفقا على أن يتحاكما إلى أول من يطلع عليهما، ومن حكم عليه تقطع يده، فلقيا شخصا، فأخبراه، فقال: العاقبة للأغنياء، لا للمتقين، فقطعت يد الرجل، فرجع، وهو يكرر القول: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، فجاء الشيطان ثانية، وقال له: ألم تتعظ؟ قال كلا، قال الشيطان: أحاكمك على اليد الأخرى، قال أجل، فطلع شخص، وتحاكما اليه، فحكم ان العاقبة للأغنياء لا للمتقين، فقطعت يده الثانية، وعاد يكرر أكثر من الأول: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين.. وحينئذ قال له الشيطان: أحاكمك الآن على ضرب العنق، قال الرجل: نعم، وإذا بفارس مقبل، فتحاكما اليه، بعد ان قصا عليه القصة، فأخذ السيف، وقطع عنق الشيطان، وقال له: هذه عاقبة المفسدين، وأعاد الله للرجل يديه كما كانتا.. وتحقق ما قال من أن العاقبة للمتقين، ولكن بعد الصبر، وقطع اليمين واليسار.. ومحال ان يصل الإنسان إلى ما يبتغي الا بالصبر وتحمل المشاق.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/237.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الآية بمنزلة الفذلكة لتفصيل البيان الوارد في السورة، وفيه تخلص منه بأخذ النتيجة وإعطائها.

2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا﴾ الآية، الأوامر مطلقة فالصبر يراد به الصبر على الشدائد، والصبر في طاعة الله، والصبر عن معصيته، وعلى أي حال هو الصبر من الفرد بقرينة ما يقابله.

3. المصابرة هي التصبر وتحمل الأذى جماعة باعتماد صبر البعض على صبر آخرين فيتقوى الحال ويشتد الوصف ويتضاعف تأثيره، وهذا أمر محسوس في تأثير الفرد إذا اعتبرت شخصيته في حال الانفراد، وفي حال الاجتماع والتعاون بإيصال القوى بعضها ببعض وسنبحث فيه إن شاء الله بحثا مستوفى في محله.

4. ﴿وَرَابِطُوا﴾ أعم معنى من المصابرة وهي إيجاد الجماعة، الارتباط بين قواهم وأفعالهم في جميع شؤون حياتهم الدينية أعم من حال الشدة وحال الرخاء ولما كان المراد بذلك نيل حقيقة السعادة المقصودة للدنيا والآخرة ـ وإلا فلا يتم بها إلا بعض سعادة الدنيا وليست بحقيقة السعادة ـ عقب هذه الأوامر بقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ يعني الفلاح التام الحقيقي.

5. ذكر هنا بعض المباحث المهمة المرتبطة بالجانب الاجتماعي في القرآن والإسلام، ومقارنته بغيره من النظم، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/92.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أمرهم بالصبر لأنه لإثبات على الدين إلا به وقد تقدم في السورة ذكر بعض الشدائد، وأنه لابد من الجهاد والصبر لدخول الجنة، وأمرهم بالمصابرة وهي المغالبة في الصبر، فإذا صبروا على الجهاد وصبر العدو لم يكفهم الصبر الأول، بل لابد من المغالبة في الصبر بقدر ما يستطيعون، فكلما تجددت من العدو مغالبة وجب الصبر على دفعها، وكلما صبر العدو وجدد صبراً وجب عليهم أن يجددوا صبراً على القتال ومحاولة قهره.

2. المرابطة الثبات في مواقف الاستعداد للعدو وهجومه المتوقع حيث يتوقع إتيانه، فهناك تربط الخيل معدة للجهاد، كما قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال:60]، والرباط شاق حيث يكون استعداداً لهجوم العدو فيكون فيه الخوف والمحاذرة، ويتحمل فيه البرد أو الحر وترك الأهل والمساكن، فيحتاج فيه إلى الصبر.

3. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ وهي كلمة جامعة لطاعة الله فيما أمر ونهى، فلابد من إكمال الطاعة لينفع الصبر والمصابرة والرباط ويكون العاقبة فلاحاً وظفراً بالجنة والسلامة من النار؛ لأنه ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة:27] فالجاهل الذي يمني نفسه إذا كان في العسكرية أنه لا يضره ترك الصلاة أو شرب الخمر أو غير ذلك من المعاصي، إنما يخادع نفسه وهو في الآخرة من الخاسرين.

قال الشرفي في (المصابيح): (قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: دلت على وجوب ما ذكره الله سبحانه من الصبر والمصابرة والمرابطة في الجهاد وتقوى الله من القيام بما فرض الله سبحانه، واجتناب ما حرم)، والتوبة عند كل زلة كما تقدم في تفسير (المتقين)

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/609.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قد يكون هذا النداء الأخير في هذه السورة دعوة إلى الانطلاق مع كل القضايا التي أثارها الله في السورة من مواقف الصراع الصعب بين المؤمنين والكافرين من المشركين وأهل الكتاب، لأن ذلك يفرض على الإنسان الصلابة والثبات والاستمرار على الخط، فلا يضعف ولا ينحرف ولا يتزلزل، بل يبقى في المستوى الكبير من المسؤولية إزاء إيمانه ومسيرته ومصير الناس من حوله، وبهذا انطلق النداء في التركيز على جوانب أربعة ذات قيمة عملية في تحقيق عملية التوازن في حركة الشخصية الإسلامية:

أ. ﴿اصْبِرُوا﴾ وقد تحدث الله عن الصبر في القرآن الكريم من حيث ما يمثله من قيمة روحيّة وعملية كبيرة، في ما تتحرك فيه من تحقيق القوّة والتماسك أمام نوازع الضعف، واشتداد الأزمات، واهتزاز المواقف من خلال اهتزاز الساحة، فإن الإنسان الذي يملك طاقة الصبر على الشدائد والأهوال يستطيع أن يملك أمره في كل مواقفه الخاصة والعامة، وبذلك كان الصبر من عزم الأمور كما تحدث به القرآن، وقد لا نحتاج إلى التأكيد على قيمة الصبر في حياة الداعية إلى الله في ما يواجهه من انحرافات ضاغطة في الأفكار والمشاعر والمواقف والأوضاع السلبيّة المحيطة به، ليقابل ذلك بهدوء الرسالة وعمقها وامتدادها في حركة الحياة.

ب. ﴿وَصَابِرُوا﴾ فسّر بعضهم المصابرة بما يلتقي مع معنى الصبر، كما لو كانت كلمة مرادفة لها، وفسّرها البعض بـ (الغالبة في الصبر) فهو لا يطلب منهم أن يصبروا في أنفسهم فقط، ولكن أن يغالبوا أعداءهم في الصبر؛ فالصبر يكون في كل ما يصيب المرء من أزمات تقع عليه خاصة، والمصابرة تكون في ما يصيب المرء ويصيب أعداءه من شدائد في مثل الحرب والجهاد، وقد جاء الأمر بالمصابرة في قوله تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ [آل عمران: 140] أي: فلا يغلبوكم بالصبر على قرحهم أكثر من صبركم على قرحكم، وفي قوله تعالى: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾ [النساء: 104]؛ أي: فعندكم سبب للتفوق والغلبة مما ليس عندهم مع استوائكم وإياهم في تحمل الأذى والألم.

ج. ﴿وَرَابِطُوا﴾، والرباط: اللزوم والثبات، وأصله من الربط بمعنى الشدّ، وهو عزيمة يعزمها المؤمن بالشيء، فيربط الله بها على قلبه، فلا يتحول ولا يتزلزل، ولعل المراد بها هنا هو أن يكون الإنسان مستعدا للثبات والصمود على حدود الإسلام، سواء أكانت حدودا جغرافية أم كانت حدودا فكرية أم سياسية أو اجتماعية أم اقتصادية، فيشعر أن من واجبه مراقبة تحركات العدو في كل أوضاعه، سواء كان العدو شيطانا يريد أن يغويه، أو إنسانا يريد أن يتحداه أو يتحدى أيّ ثغر من ثغور الإسلام، أو فكرا من أفكاره أو شريعة من شرائعه، أو شعبا من شعوبه أو سرا من أسراره.. ليدافع عن الإسلام من مواقعه التي يرابط فيها من حيث يملك إمكانات الدفاع، وربما كانت هذه الكلمة انطلاقة إيحائية بأن على المؤمنين أن يبتعدوا عن أجواء الكسل والاسترخاء واللامبالاة والابتعاد عن تحمّل المسؤولية ومواجهة التحديات، لأن معنى ذلك أن تكون الساحة الإسلامية في بعض مجالاتها خالية من وسائل الدفاع، مفتوحة لكل مغامر وعدوّ، فلا بد لكل مؤمن من أن يدرس ساحته وطاقته وحاجة الإسلام إليه ليحدّد دوره الرسالي على أساس ذلك كله، وقد لا يعذر الله الكثيرين من المؤمنين الذين انعزلوا عن حركة الحياة، وعاشوا لأنفسهم ومسئولياتهم الشخصية بعيدا عن مسئولية الإسلام والمسلمين، لأنهم استراحوا للفكرة السهلة التي تخفّف عنهم أثقال المسؤولية لتجعلها في حركة انتظار طويلة إلى آخر الزمان، لأننا نفهم الانتظار حركة متقدّمة نحو الهدف الذي ننتظر أن نصل إليه من خلال تحرّكنا الطويل، وليس استرخاء وغيبوبة في أجواء الراحة والفراغ.

د. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ والتقوى ـ كما ألمحنا إليها في أكثر من مرّة ـ تمثل الانضباط أمام الله في ما أحلّه وما حرّمه، وذلك هو معنى أن تكون مسلما في الخط العملي للإسلام الذي هو موقف في حركة الواقع، وليس مجرد كلمة وشعور.

2. تأتي كلمة ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ في نهاية الآية، لتوحي للإنسان بأن السعي في تحقيق هذه المبادئ التي تضمّنها هذا النداء يمكن أن يحقق لك الفلاح من خلال التدقيق في الموازنة بين جانبي النظرية والتطبيق، وربما كانت كلمة (لعل) واردة في الإيحاء بضرورة التركيز على طبيعة الخطوات العملية والتدقيق في مراحل الطريق، فقد يحصل للإنسان بعض المفاجآت التي لم يحسب لها حسابا، فتنحرف به عما يهدف إليه، فلا بد من مضاعفة الجهد واستنفاد الطاقة ليضمن لنفسه الفلاح حتى لا يسترخي ولا يستريح أمام الطاقات التي يبذلها في المعركة، بل يعمل على تنمية طاقات جديدة في ما يملك أن ينمّيه ويطوّره من طاقاته وطاقات الآخرين.

3. ورد في بعض الروايات تفسير الآية بطريقة أخرى(2).. والمرابطة في اصطلاح الفقهاء هي السفر إلى ثغور بلاد الإسلام، حيث يخشى هجوم الكفار من خلاله، والمرابطون هم الذين يمثلون جنود الحدود للبلاد الإسلامية، وقد جاء في الحديث عن سلمان عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم‏: (رباط ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، فإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأجرى عليه رزقه، وأمن الفتّان)، وعن فضالة بن عبيدة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال‏: (كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتّان القبر)، وجاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (كل عين باكية يوم القيامة إلّا ثلاثة أعين: عينّ بكت من خشية الله، وعين غضّت عن محارم الله، وعين باتت ساهرة في سبيل الله)

4. من الطبيعي أن الرباط يمثل وسيلة من وسائل الجهاد، بل هو من أكثر الأعمال ارتباطا بحركيته وسلامته من حيث إنه يرصد حركة العدو ويحدّد مواقعه، وينذر الجيش بكل أوضاعه، ليقف المسلمون على أهبة الاستعداد للمواجهة المدروسة المنطلقة في الخطة المرسومة للوصول إلى النصر أو إلى‏ دفع العدوان، وهذا ما جعلها من أفضل المستحبات، بل قد تكون من الواجبات التي يتوقف عليها حماية البلاد الإسلامية بطريقة أو بأخرى.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏6/474.

(2) ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):(1)

1. هذه الآية هي آخر الآيات من سورة آل عمران، وتحتوي على برنامج يتكون من أربع نقاط لعامّة المسلمين، وهي لذلك تبدأ بتوجيه الخطاب إلى المؤمنين إذ تقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾:

أ. ﴿اصْبِرُوا﴾: إن أوّل مادة في هذا البرنامج الذي يكفل عزّة المسلمين وانتصارهم هو الاستقامة والثبات، والصبر في وجه الحوادث الذي هو ـ في الحقيقة ـ أصل كلّ نجاح مادي، وعلّة كل انتصار معنوي، وهو الأمر الذي يستحق حديثا مفصلا لما له من أثر جدّ مهم في الانتصارات والنجاحات الفردية والاجتماعية، وهو الذي‏ قال عنه الأمام علي عليه السّلام في حكمه وكلماته القصار: (إن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد)

ب. ﴿وَصَابِرُوا﴾ وهي من المصابرة (من باب المفاعلة) بمعنى الصبر والاستقامة والثبات في مقابل صبر الآخرين وثباتهم واستقامتهم، وعلى هذا فإن القرآن يوصي المؤمنين أوّلا بالصبر والاستقامة (التي تشمل‏ كل ألوان الجهاد، كجهاد النفس، والاستقامة في مواجهة مشاكل الحياة)، ثمّ يوصي ثانيا بالصبر والثبات والاستقامة أمام الأعداء، وهذا بنفسه يفيد أن الأمّة ما لم تتغلب وتنتصر في جهادها مع النفس، وفي إصلاح ما بها من نقاط الضعف الداخلية يستحيل انتصارها على الأعداء، وهذا يعني أن أكثر هزائمها أمام أعدائها إنّما هي بسبب ما لحق بها من هزائم في جبهة الجهاد مع النفس وما أصابها من إخفاقات في إصلاح نقاط الضعف التي تعاني منها، كما وأنّه يستفاد من هذا التعليم (صابروا) أن على المسلمين أن يضاعفوا من صبرهم ومن ثباتهم كلما ضاعف العدو من صبره وثباته ومقاومته وعناده.

ج. ﴿وَرَابِطُوا﴾ وهذه العبارة مشتقة من مادة (الرباط) وتعني ربط شيء في مكان (كربط الخيل في مكان)، ولهذا يقال لمنزل المسافرين (الرباط)، ويقال أيضا ربط على قلبه بمعنى أنّه أعطاه السكينة، وملأه بالطمأنينة وكأن قلبه انشد إلى مكان، وارتكز على ركن وثيق، و(المرابطة) بمعنى مراقبة الثغور وحراستها لأن فيها يربط الجنود أفراسهم، وهذه العبارة أمر صريح إلى المسلمين بأن يكونوا على استعداد دائم لمواجهة الأعداء، وأن يكونوا في حالة تحفز وتيقظ ومراقبة مستمرة لثغور البلاد الإسلامية وحدودها حتى لا يفاجئوا بهجمات العدوّ المباغتة، كما أنّه حثّ على التأهب الكامل لمواجهة الشيطان، والأهواء الجامحة حتى لا تباغتهم وتأخذهم على حين غرّة وغفلة، ولهذا جاء في بعض الأحاديث عن الإمام علي عليه السّلام تفسير المرابطة بانتظار الصلاة بعد الصلاة، لأن من حافظ على يقظة روحه وضميره بهذه العبادات المستمرة المتلاحقة، كان كالجندي المتأهب لمواجهة الأعداء على الدّوام، وخلاصة القول: إن للمرابطة معنى وسيعا يشمل كل ألوان الدفاع عن النفس والمجتمع.. ثمّ إنّ هناك في الفقه الإسلامي بابا خاصّا ـ في كتاب الجهاد ـ تحت عنوان (المرابطة) بمعنى الاستعداد والتأهب الكامل في الثغور لحراستها وحمايتها وحفظها أمام حملات الأعداء الاحتمالية، وقد ذكرت لها أحكام خاصّة يقف عليها كل من راجع الكتب الفقهية، هذا وقد أطلق على العلماء ـ كما في بعض الأحاديث ـ صفة المرابط، فعن الإمام الصادق عليه السّلام: (علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، ويمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا وعن أن يتسلط عليهم إبليس..)، وتعتبر نهاية هذا الحديث العلماء أعلى مكانة من الجنود والقادة الذين يحرسون الثغور ويذبون عنها أعداء الإسلام، وما ذلك إلّا أن العلماء حماة الدين وحرّاسه والأمناء المدافعون عن القيم الإسلامية، والجنود حماة الثغور الجغرافية، ومن الثابت المسلم به أن الثغور الفكرية والثقافية لأمّة من الأمم لو تعرضت لكيد الأعداء، ولم تستطع الذّب عنها بنجاح، فإنّها سرعان ما تصيبها الهزائم العسكرية والسياسية أيضا.

د. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ وهذا بالتالي آخر التعاليم والأوامر في هذا البرنامج، وهو بمثابة المظلة الواقية لما سبقها من التعاليم أنّه حثّ على التقوى، ولا بدّ للاستقامة والمصابرة والمرابطة من أن تمتزج بعنصر التقوى، ولا يشوبها شيء من أنانية أو رياء أو أغراض شخصية.

2. ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وهكذا تختم الآية هذا البرنامج بذكر النّتيجة التي تنتظر كلّ من يطبق هذا البرنامج، إنه الفلاح والنجاح الذي يمكنكم الوصول إليه عبر الأخذ بهذه التعاليم والأوامر، وإلّا فلن تحصلوا على شيء من النجاح والانتصار.

3. سؤال وإشكال: لماذا تبدأ بعض العبارات والجمل القرآنية بلفظة (لعل) مثل قوله تعالى‏ ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، و﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، و﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ وهي كما نعلم تفيد التّرديد الذي لا يليق بالله سبحانه العالم بكل شيء.. وقد صارت هذه المسألة ذريعة بأيدي بعض أعداء الإسلام الذين انطلقوا يقولون: إن الإسلام لا يعطي وعودا قطعية بالثواب، فوعوده مرددة غير مجزوم بها، لأنها تبدأ ـ في أغلبها ـ بلعلّ، والجواب: من حسن الاتفاق أن هذا النمط من التعبير يشكّل جانبا من عظمة هذا الكتاب العزيز، وواقعيته في النظرة إلى الأمور وفي بيانها، ذلك لأن القرآن استخدم هذه اللفظة في كل مقام يتوقف الاستنتاج فيه على شرائط ومقدمات قد أشار إليها ولوح بها إجمالا بلفظة (لعل)، فالسكوت عند الاستماع إلى القرآن والانتباه والتوجه إلى ألفاظ الآيات القرآنية مثلا لا يكفي ـ بمجرده ـ لإحراز الرحمة الإلهية، بل لا بدّ من فهم الآيات ودرك معانيها، ومقاصدها، وتطبيق توصياتها، وتعاليمها وأوامرها ونواهيها، ولهذا يعلق سبحانه شمول الرحمة بقوله: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، وعلى هذا الأساس لو كان القرآن يقول أنكم سترحمون حتما كان بعيدا عن الواقعية، لأنّ لتحقق هذا الموضوع كما قلنا شرائط أخرى أيضا، فيكون التعبير الجازم تجاهلا لهذه الشرائط، ولكنّه إذا قال: (لعلّكم) فإنّه يكون قد أخذ تلك الشرائط بنظر الاعتبار وحسب لها حسابها، بيد أن عدم الالتفات إلى هذه الحقيقة جرّ البعض إلى الاعتراض على مثل هذا التعبير في الآيات القرآنية إلى درجة أن بعض علمائنا ـ أيضا ـ ذهب إلى‏ القول بأن (لعل) ليست مستعملة في مثل هذه الموارد في معناها الحقيقي، وهذا كما ترى خلاف للظاهر دونما دليل، وفي المقام نجد الآية الحاضرة مع أنها أشارت إلى أربع نقاط من أهم التعاليم الإسلامية، ولكن حتى لا يغفل المسلمون عن بقية البرامج والتعاليم الإسلامية البناءة استخدمت كلمة (لعل) للإيذان بأن هناك أيضا من الظروف والشرائط ما له دخل في تحقق هذه الرحمة ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، وعلى كلّ حال لو أن المسلمين اليوم جعلوا الآية الحاضرة شعارهم ومنهجهم في حياتهم اليومية وطبقوا مفادها لانحل الكثير من مشاكلهم التي يعانون منها الآن بشدّة.

4. إن الضربات الموجعة التي يتلقاها الإسلام والمسلمون اليوم ليست ـ في الحقيقة ـ إلّا بسبب تجاهل هذه التوصيات الإسلامية الأربع أو تناسيها كلّها أو بعضها، ولو أنّ المسلمين أعادوا إلى نفوسهم روح الثبات والاستقامة، ولو أنّهم ضاعفوا جهودهم في مقابل مضاعفة الأعداء لجهودهم، ولو أنّهم ـ حسب ما في هذه الآية ـ شددوا من مراقبتهم للثغور الجغرافية والفكرية والاعتقادية وحافظوا على حالة الاستعداد والتأهب الدائمة لمواجهة أي خطر داهم، أو أي عدوّ مباغت، ولو أنّهم ـ فوق كل هذا ـ تسلحوا بسلاح التقوى والورع، أفرادا وجماعات، وطهروا بيئاتهم من أدران الفساد لضمنوا النصر والظفر.. رباه، وفقنا جميعا للأخذ بتعاليم كتابك السماوي العزيز في حياتنا، وجد علينا برحمتك الواسعة، ومنّ علينا بلطفك، آمين يا أرحم الراحمين ويا ربّ العالمين.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/68.

سورة النساء

ننبّه في مقدمة هذه السورة، كما في كل سورة إلى أنّنا قسّمنا السورة إلى مقاطع بحسب معناها، من غير مراعاة لطول المقطع أو قصره، وأنا لم نذكر ما يرتبط بتعريف السورة وفضلها ومواضيعها ونحو ذلك، لأنّا تحدثنا عنه في الكتاب الثاني من هذه السلسلة، وهو (المفسّرون والوحدة الموضوعية للقرآن)، ومثل ذلك حذفنا الإشارات واللطائف والمباحث التي لا علاقة لها مباشرة بالتفسير التحليلي، لأنّا أفردناها بالحديث في سائر كتب السلسلة.

وننبه إلى أننا نذكر ما ذكره المفسّرون بحسب التسلسل التاريخي ابتداء من الصحابة، فما بعدهم، ولم نذكر الأحاديث المرفوعة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ضمن الأحاديث التفسيرية، لصلتها في العادة بمواضيع القرآن الكريم، وقد ذكرناها في سلسلة (سنة بلا مذاهب)، بالإضافة إلى أن المفسّرين في العادة يذكرونها، ويذكرون مواقفهم منها(1).

__________

(1) كرّرنا هذه التنبيهات في كل سورة لأن هناك من لا يطلع على التنبيه الوارد في أول سورة.

1. التقوى والأرحام والنفس الواحدة وزوجها

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈1⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: علمنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خطبة الصلاة وخطبة الحاجة؛ فأما خطبة الصلاة فالتشهد، وأما خطبة الحاجة فـ: (إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله)، ثم يقرأ ثلاث آيات من كتاب الله: ﴿اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢]، ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١]، ﴿اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [الأحزاب: ٧٠]، ثم تعمد لحاجتك(1).

__________

(1) أحمد ٦/ ٢٦٤.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: خلقت حواء من قصيرى جنب آدم ـ والقصيرى: هو الضلع الأصغر ـ وأبدل الله مكانه لحما(1).

2. روي أنّه قال: صلوا أرحامكم، ولو بالتسليم، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿واتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ والْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾(2).

3. روي أنّه قال: إن أحدكم ليغضب فما يرضى حتى يدخل به النار، فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدن منه، فإن الرحم إذا مسها الرحم استقرت، وإنها متعلقة بالعرش، تنتقض انتقاض الحديد، فتنادي: اللهم صل من وصلني، واقطع من قطعني، وذلك قول الله في كتابه: ﴿واتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ والْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ وأيما رجل غضب وهو قائم فليلزم الأرض من فوره، فإنه يذهب رجز الشيطان(3).

4. روي أنّه قال: (إن أحدكم ليغضب فما يرضى حتى يدخل به النار، فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدن منه، فإن الرحم إذا مسها الرحم استقرت، وإنها متعلقة بالعرش، تنتقض انتقاض الحديد، فتنادي: اللهم صل من وصلني، واقطع من قطعني، وذلك قول الله في كتابه: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَساأَلونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ وأيما رجل غضب وهو قائم فليلزم الأرض من فوره، فإنه يذهب رجز الشيطان(4).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/215.

(2) الكافي 2/ 125/ 26.

(3) تفسير العيّاشي 1/ 217/ 8.

(4) تفسير العيّاشي 1/217.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ من آدم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ تعاطفون به(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ اتقوا الله الذي تساءلون به، واتقوا الأرحام وصلوها(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ إن الرحم لتقطع، وإن النعمة لتكفر، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء أبدا، ثم قرأ: ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [الأنفال: ٦٣]، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الرحم شجنة من الرحمن، وإنها تجيء يوم القيامة تتكلم بلسان طلق ذلق، فمن أشارت إليه بوصل وصله الله، ومن أشارت إليه بقطع قطعه الله)(4).

5. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَساأَلونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ﴾، نزلت في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته، وذوي أرحامه، وذلك أن كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة، إلا ما كان من سببه ونسبه صلّى الله عليه وآله وسلّم(5)

6. روي أنّه قال: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾، خلق حواء من قصيرى(6)، أضلاعه(1).

7. روي أنّه قال: خلقت المرأة من الرجل؛ فجعلت نهمتها في الرجال؛ فاحبسوا نساءكم، وخلق الرجل من الأرض؛ فجعل نهمته في الأرض(7).

8. روي أنّه قال: ولد آدم أربعون ولدا: عشرون غلاما، وعشرون جارية(8).

__________

(1) عزاه السيوطي إلى أبي الشيخ.

(2) ابن جرير ٦/ ٣٤٤.

(3) ابن جرير ٦/ ٣٤٧.

(4) الحاكم ٢/ ٣٣٠.

(5) المناقب 2/168، تفسير الحبري: 253/ 18.

(6) القُصَيْرى: هي الضلع التي تلي الشاكلة، وهي ضِلَعُ الخَلْفِ.

(7) ابن المنذر ٢/ ٥٤٧.

(8) ابن عساكر ٢٣/ ٢٧٣.

السجاد:

روي عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت علي بن الحسين (ت 94 هـ) يحدث رجلاً من قريش قال: لما تاب الله على آدم، واقع حواء ولم يكن غشيها منذ خلق وخلقت إلا في الأرض، وذلك بعدما تاب الله عليه، وكان آدم يعظم البيت وما حوله من حرمة البيت، وكان إذا أراد أن يغشى حواء خرج من الحرم وأخرجها معه، فإذا جاز الحرم غشيها في الحل ثم يغتسلان إعظاماً منه للحرم، ثم يرجع إلى فناء البيت.. فولد لآدم من حواء عشرون ولداً ذكراً، وعشرون أنثى، فولد له في كل بطن ذكر وأنثى، فأول بطن ولدت حواء هابيل ومعه جارية يقال لها: إقليما، وولدت في البطن الثاني، قابيل ومعه جارية يقال لها: لوزا، وكانت لوزا أجمل بنات آدم، فلما أدركوا خاف عليهم آدم الفتنة، فدعاهم إليه وقال: أريد أن أنكحك يا هابيل لوزا، وأنكحك يا قابيل إقليما، قال قابيل: ما أرضى بهذا، أتنكحني أخت هابيل القبيحة وتنكح هابيل أختي الجميلة!؟ قال آدم: فأنا أقرع بينكما، فإن خرج سهمك يا قابيل على لوزا، وخرج سهمك يا هابيل على إقليما زوجت كل واحد منكما التي خرج سهمه عليها، فرضيا بذلك، فاقترعا، فخرج سهم هابيل على لوزا أخت قابيل، وخرج سهم قابيل على إقليما أخت هابيل، فزوجهما على ما خرج لهما من عند الله، ثم حرم الله نكاح الأخوات بعد ذلك.. قال فقال له القرشي: فأولداهما!؟ قال نعم، فقال القرشي: فهذا فعل المجوس اليوم، فقال علي بن الحسين: إن المجوس إنما فعلوا ذلك بعد التحريم من الله، ثم قال علي بن الحسين: لا تنكر هذا، أليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثم أحلها له!؟ فكان ذلك شريعة من شرائعهم، ثم أنزل الله التحريم بعد ذلك(1).

__________

(1) الإحتجاج ج2 ص43.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ اتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به(1).

2. روي أنّه قال: ﴿الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ يقول: اتقوا الله في الأرحام؛ فصلوها(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ خلق حواء من آدم من ضلع الخلف، وهو أسفل الأضلاع(3).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٤٢.

(2) ابن جرير ٦/ ٣٤٨.

(3) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٥٢.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ يقول: أسألك بالله وبالرحم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ اتقوا الله، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، نصب الأرحام(2).

3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ حفيظا(3).

4. روي أنّه قال: في قوله: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾، حواء من قصيرى آدم وهو نائم، فاستيقظ، فقال: أثا ـ بالنبطية: امرأة ـ(4).

5. روي أنّه قال: من جنبه الأيسر(5).

6. روي أنّه قال: لذلك سميت المرأة مقصورة عن الخلق(6).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٤٥.

(2) ابن جرير ٦/ ٣٤٨.

(3) ابن جرير ٦/ ٣٥٠.

(4) ابن جرير ٦/ ٣٤١.

(5) تفسير ابن أبي زمنين: ١/ ٣٤٤.

(6) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره ص ٦٩.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: هو قول الرجل: أنشدك بالله وبالرحم(1).

2. روي أنّه قال: إذا سئلت بالله فأعطه، وإذا سئلت بالرحم فأعطه(2).

__________

(1) عبد الرزاق ١/ ١٤٥.

(2) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٥٤.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار(1):

1. روي عن خالد بن إسماعيل، عن رجل من أهل الجبل، قال: ذكرت له المجوس وأنهم يقولون: نكاح كنكاح ولد آدم وإنهم يحاجونا بذلك، فقال: أما أنتم فلا يحاجونكم به، لما أدرك هبة الله قال آدم: يا رب زوج هبة الله، فأهبط الله عز وجل له حوراء فولدت له أربعة غلمة، ثم رفعها الله فلما أدرك ولد هبة الله، قال: يا رب زوج ولد هبة الله فأوحى الله عز وجل إليه أن يخطب إلى رجل من الجن، وكان مسلما أربع بنات له على ولد هبة الله فزوجهن، فما كان من جمال وحلم فمن قبل الحوراء والنبوة، وما كان من سفه أو حدة فمن الجن(2).

2. روي أنّه قال: إن الله تبارك وتعالى أنزل على آدم حوراء من الجنة فزوجها أحد ابنيه، وتزوج الآخر ابنة الجان، فما كان في الناس من جمال كثير أو حسن خلق فهو من الحوراء، وما كان فيهم من سوء خلق فهو من ابنة الجان(3).

3. روي أنّه قال: إن آدم ولد أربعة ذكور، فأهبط الله إليهم أربعة من الحور العين، فزوج كل واحد منهم واحدة فتوالدوا، ثم إن الله رفعهن وزوج هؤلاء الأربعة أربعة من الجن، فصار النسل فيهم فما كان من حلم فمن آدم، وما كان من جمال من قبال الحور العين، وما كان من قبح أو سوء خلق فمن الجن(4).

4. روي عن بريد بن معاوية العجليّ، عن أبي جعفر قال: إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ أنزل حوراء من الجنّة إلى آدم عليه السّلام فزوّجها أحد ابنيه وتزوّج الآخر إلى الجنّ، فولدتا جميعا، فما كان من النّاس من جمال وحسن خلق فهو من الحوراء، وما كان فيهم من سوء الخلق فمن بنت الجانّ، وأنكر أن يكون زوّج بنيه، من بناته(5).

5. روي عن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر قال: قال لي: ما يقول الناس في تزويج آدم ولده؟ قال قلت: يقولون: أن حواء كانت تلد لآدم في كل بطن غلاما وجارية، فتزوج الغلام الجارية التي من البطن الآخر الثاني، وتزوج الجارية الغلام الذي من البطن الآخر الثاني حتى توالدوا، فقال أبو جعفر: ليس هذا، كذلك يحجكم المجوس، ولكنه لما ولد آدم هبة الله وكبر سأل الله أن يزوجه، فأنزل الله له حوراء من الجنة فزوجها إياه، فولدت له أربعة بنين، ثم ولد لآدم ابن آخر، فلما كبر أمره فتزوج إلى الجان، فولد له أربع بنات، فتزوج بنو هذا بنات هذا، فما كان من جمال فمن قبل الحور العين، وما كان من حلم فمن قبل آدم، وما كان من حقد فمن قبل الجان، فلما توالدوا صعدت الحوراء إلى السماء(6).

__________

(1) مع العلم أن الآثار الواردة عنه حول كيفية تزاوج بني آدم، وعلاقته بالجن، ونحوهم غير صحيحة، وردها كبار علماء الإمامية أنفسهم، حتى لو وردت في الكافي ونحوه، فليس كل ما في الكافي باتفاقهم صحيح

(2) الكافي: 5 / 569.

(3) من لا يحضره الفقيه: 3 / 382، علل الشرائع: 1 / 103.

(4) تفسير العياشي: 1 / 215.

(5) علل الشرائع، ص103.

(6) تفسير العياشي: 1 / 216.

عطاء:

روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) أنّه قال: كان آدم لا يستأنس إلى خلق في الجنة ولا يسكن إليه، ولم يكن في الجنة شيء يشبهه، فألقى الله عليه النوم، وهو أول نوم كان، فانتزعت من ضلعه الصغرى من جانبه الأيسر، فخلقت حواء منه، فلما استيقظ آدم جلس فنظر إلى حواء تشبهه، من أحسن البشر ـ ولكل امرأة فضل على الرجل بضلع ـ، وكان الله علم آدم اسم كل شيء، فجاءته الملائكة، فهنوه وسلموا عليه، فقالوا: يا آدم، ما هذه؟ قال هذه مرأة، قيل له: فما اسمها؟ قال حواء، فقيل له: لم سميتها حواء؟ قال لأنها خلقت من حي، فنفخ بينهما من روح الله، فما كان من شيء يتراحم الناس به فهو من فضل رحمتها(1).

__________

(1) عزاه السيوطي إلى إسحاق بن بشر، وابن عساكر.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ معناه حافظ(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 115.

السدي:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ جعل من آدم حواء(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَبَثَّ﴾: خلق(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٤٢.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار(1):

1. روي أنّه سئل عن خلق حوّاء وقيل له: إنّ أناسا عندنا يقولون: إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ خلق حوّاء من ضلع آدم الأيسر الأقصى، قال سبحان الله وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا، أيقول من يقول هذا، إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ لم يكن له من القدرة ما يخلق لآدم زوجته، من غير ضلعه، وجعل للمتكلّم من أهل التّشنيع سبيلا إلى الكلام، يقول: إنّ آدم كان ينكح بعضه بعضا، إذا كانت من ضلعه ما لهؤلاء حكم الله بيننا وبينهم(2).

2. روي أنّه قال: إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ لمّا خلق آدم من طين، أمر الملائكة فسجدوا له.. وألقى عليه السّبات.. ثمّ ابتدع له حوّاء، فجعلها في موضع النّقرة الّتي بين وركيه، وذلك لكي تكون المرأة تبعا للرّجل، فأقبلت تتحرّك فانتبه لتحرّكها، فلمّا انتبه نوديت: أن تنحّي عنه، فلمّا نظر إليها، نظر إلى خلق حسن يشبه، صورته غير أنّه، أنثى، فكلّمها فكلّمته بلغته، فقال لها: من أنت؟ فقالت: خلق، خلقني الله كما ترى، فقال آدم عند ذلك: يا ربّ، من هذا الخلق الحسن، الّذي قد آنسني قربه والنّظر إليه؟ فقال الله: يا آدم، هذه أمتي حوّاء، أفتحبّ أن تكون معك فتؤنسك وتحدّثك وتأتمر لأمرك؟ فقال: نعم يا ربّ، ولك عليّ بذلك الشّكر والحمد ما بقيت، فقال الله ـ تبارك وتعالى ـ: فاخطبها إليّ، فإنّها أمتي، وقد تصلح لك ـ أيضا ـ زوجة.. فقال: يا ربّ، فإنّي أخطبها إليك، فما رضاك لذلك؟ فقال: رضائي، أن تعلّمها معالم ديني، فقال: ذلك لك يا ربّ إن شئت، ذلك لي، فقال: قد شئت ذلك، وقد زوّجتكها، فضمّها إليك، فقال لها آدم عليه السّلام: إليّ فأقبلي، فقالت: بل أنت فأقبل إليّ، فأمر الله ـ عزّ وجلّ ـ آدم أن يقوم إليها، فقام، ولو لا ذلك لكان النّساء هنّ يذهبن إلى الرّجال، حتّى يخطبن على أنفسهن، فهذه قصّة حوّاء ـ صلوات الله عليها(2).

3. روي أنّه قال: سميت حواء حواء لأنها خلقت من حي، قال الله عز وجل: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾(3).

4. روي أنّه قال: سميت المرأة مرأة لأنها خلقت من المرء(4).

5. روي أنّه قال: إن الله خلق آدم عليه السلام من الماء والطين، فهمة ابن آدم في الماء والطين، وإن الله خلق حواء من آدم عليه السلام، فهمة النساء في الرجال، فحصنوهن في البيوت(5).

6. روي أنّه سئل عن قول الله عز ذكره: ﴿واتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ والْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾، فقال: هي أرحام الناس، إن الله عز وجل أمر بصلتها، وعظمها، ألا ترى أن الله جعلها معه!؟(6).

7. روي أنّه سئل عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿واتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ والْأَرْحامَ﴾، فقال: هي أرحام الناس، إن الله أمر بصلتها وعظمها، ألا ترى أنه جعلها معه!؟)(7).

8. روي أنّه سئل عن قول الله (عز ذكره): ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَساأَلونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾، فقال: هي أرحام الناس، إن الله عز وجل أمر بصلتها، وعظمها، ألا ترى أن الله جعلها معه!؟(8).

9. روي أنّه سئل عن قول الله تبارك وتعالى ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَساأَلونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ﴾، فقال: هي أرحام الناس، إن الله أمر بصلتها وعظمها، ألا ترى أنه جعلها معه!؟(9).

10. روي أنّه سئل عن بدء النّسل من ذرّيّة آدم عليه السّلام، وقيل له: إنّ عندنا أناسا يقولون: إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ أوحى إلى آدم أن يزوّج بناته من بنيه، وإنّ هذا الخلق أصله كلّه من الإخوة والأخوات، فقال: سبحان الله، وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا، يقول من يقول هذا، إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ جعل أصل صفوة خلقه وأحبّائه وأنبيائه ورسله وحججه، والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات من حرام، ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من الحلال، وقد أخذ ميثاقهم على الحلال والطّهر الطّاهر الطّيّب، والله لقد نبّئت: أنّ بعض البهائم تنكّرت له أخته، فلما نزا عليها ونزل كشف له عنها، وعلم أنّها أخته، أخرج غرموله، ثمّ قبض عليه بأسنانه، ثمّ قلعه، ثمّ خرّ ميّتا(10).

11. روي عن سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبد الله: جعلت فداك إن الناس يزعمون أن آدم زوج ابنته من ابنه؟ فقال أبو عبد الله: قد قال الناس في ذلك، ولكن يا سليمان أما علمت أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لو علمت أن آدم زوج ابنته من ابنه، لزوجت زينب من القاسم وما كنت لأرغب عن دين آدم، فقلت: جعلت فداك إنهم يزعمون أن قابيل إنما قتل هابيل لأنهما تغايرا على أختهما؟ فقال له: يا سليمان تقول هذا؟ أما تستحيي أن تروي هذا على نبي الله آدم؟ فقلت: جعلت فداك ففيم قتل قابيل هابيل؟ فقال: في الوصية، ثم قال لي: يا سليمان إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى آدم أن يدفع الوصية واسم الله الأعظم إلى هابيل، وكان قابيل أكبر منه، فبلغ ذلك قابيل فغضب فقال: أنا أولى بالكرامة والوصية، فأمرهما أن يقربا قربانا بوحي من الله إليه ففعلا، فقبل الله قربان هابيل فحسده قابيل فقتله، فقلت: جعلت فداك فممن تناسل ولد آدم هل كانت أنثى غير حواء، وهل كان ذكر غير آدم؟ فقال: يا سليمان إن الله تبارك وتعالى رزق آدم من حواء قابيل وكان ذكر ولده من بعده هابيل، فلما أدرك قابيل ما يدرك الرجال أظهر الله له جنية وأوحى إلى آدم أن يزوجها قابيل، ففعل ذلك آدم ورضي بها قابيل وقنع، فلما أدرك هابيل ما يدرك الرجال أظهر الله له حوراء، وأوحى الله إلى آدم أن يزوجها من هابيل، ففعل ذلك فقتل هابيل والحوراء حامل، فولدت الحوراء غلاما فسماه آدم هبة الله، فأوحى الله إلى آدم أن ادفع إليه الوصية واسم الله الأعظم، وولدت حواء غلاما فسماه آدم شيث بن آدم، فلما أدرك ما يدرك الرجال أهبط الله له حوراء وأوحى إلى آدم أن يزوجها من شيث ابن آدم، ففعل فولدت الحوراء جارية فسماها آدم حورة، فلما أدركت الجارية زوج آدم حورة بنت شيث من هبة الله بن هابيل فنسل آدم منهما فمات هبة الله بن هابيل فأوحى الله إلى آدم أن ادفع الوصية واسم الله الأعظم وما أظهرتك عليه من علم النبوة، وما علمتك من الأسماء إلى شيث بن آدم فهذا حديثهم يا سليمان(11).

12. روي عن عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله عن آدم أبي البشر أكان زوج ابنته من ابنه؟ فقال: معاذ الله، والله لو فعل ذلك آدم عليه السلام لما رغب عنه رسول الله صلى الله عليه وآله، وما كان آدم إلا على دين رسول الله صلى الله عليه وآله، فقلت: وهذا الخلق من ولد من هم ولم يكن إلا آدم وحواء؟ لأن الله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ فأخبرنا أن هذا الخلق من آدم وحواء عليهما السلام فقال عليه السلام: صدق الله وبلغت رسله وأنا على ذلك من الشاهدين، فقلت: ففسر لي يا ابن رسول الله، فقال: إن الله تبارك وتعالى لما أهبط آدم وحواء إلى الأرض وجمع بينهما ولدت حواء بنتا فسماها عناقا، فكانت أول من بغى على وجه الأرض فسلط الله عليها ذئبا كالفيل ونسرا كالحمار فقتلاها، ثم ولد له أثر عناق قابيل بن آدم، فلما أدرك قابيل ما يدرك الرجل أظهر الله عز وجل جنية من ولد الجان يقال لها جهانة في صورة إنسية، فلما رآها قابيل ومقها فأوحى الله إلى آدم: أن زوج جهانة من قابيل فزوجها من قابيل، ثم ولد لآدم هابيل فلما أدرك هابيل ما يدرك الرجل أهبط الله إلى آدم حوراء واسمها ترك الحوراء، فلما رآها هابيل ومقها فأوحى الله إلى آدم أن زوج تركا من هابيل ففعل ذلك، فكانت ترك الحوراء زوجة هابيل بن آدم(12).

13. روي عن زرارة قال: سئل أبو عبد الله عن بدء النّسل من آدم كيف كان؟ وعن بدء النّسل من ذرّيّة آدم، وذكر الحديث إلى أن قال إنّ الله أمر القلم، فجرى على اللّوح المحفوظ بما هو كائن إلى يوم القيامة قبل خلق آدم بألفي عام، وإنّ كتب الله كلّها فيما جرى فيه القلم في كلّها تحريم الأخوات على الإخوة مع ما حرّم، وهذا نحن قد نرى منها هذه الكتب الأربعة المشهورة في هذا العالم: التّوراة والإنجيل والزّبور والفرقان، أنزلها الله عن اللّوح المحفوظ على رسله ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ منها التّوراة على موسى، والزّبور على داود، والإنجيل على عيسى، والفرقان، على محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى النّبيّين عليهم السّلام ليس فيها تحليل شيء من ذلك، حقّا أقول، ما أراد من يقول هذا وشبهه إلّا تقوية حجج المجوس، فما لهم قاتلهم الله(13).

14. روي عن زرارة قال: حدثّنا أبو عبد الله كيف كان بدء النّسل من آدم، وكيف كان بدء النّسل من ذريته، فقال: إنّ آدم ـ صلوات الله عليه ـ ولد له سبعون بطنا، في كلّ بطن غلام وجارية إلى أن قتل هابيل، فلمّا قتل قابيل هابيل جزع آدم على هابيل جزعا قطعه عن إتيان النّساء، فبقي لا يستطيع أن يغشى حوّاء خمسمائة عام، ثمّ تجلّى ما به من الجزع عليه، فغشى حوّاء، فوهب الله شيئا، وحده ليس معه ثان، واسم شيث هبة الله، وهو أوّل وصيّ، أوصي إليه من الآدميّين في الأرض، ثمّ ولد له من بعد شيث يافث ليس معه ثان، فلمّا أدركا، وأراد الله ـ عزّ وجلّ ـ أن يبلغ بالنّسل ما ترون، وأن يكون ما قد جرى به القلم من تحريم ما حرّم الله ـ عزّ وجلّ ـ من الأخوات على الإخوة أنزل بعد العصر في يوم الخميس حوراء من الجنّة، اسمها نزلة، فأمر الله ـ عزّ وجلّ ـ آدم أن يزوّجها من شيث فزّوجها منه، ثمّ أنزل بعد العصر من الغد حوراء من الجنة، اسمها منزلة، فأمر الله ـ عزّ وجلّ ـ آدم أن يزوّجها من يافث فزوّجها منه، فولد لشيث غلام، وولد ليافث جارية، فأمر الله ـ عزّ وجلّ ـ آدم حين أدركا أن يزوّج بنت يافث من ابن شيث، ففعل، فولد الصّفوة من النّبيّين والمرسلين من نسلهما، ومعاذ الله أن يكون ذلك على ما قالوا من أمر الإخوة والأخوات(13).

15. روي عن عمر بن أذينة قال: قيل لأبي عبد الله: إن الناس يحتجون علينا ويقولون: إن أمير المؤمنين زوج فلانا ابنته أم كلثوم، وكان متكئا فجلس وقال: وتقبلون أن عليا أنكح فلانا بنته!؟ إن قوما يزعمون ذلك لا يهتدون إلى سواء السبيل، ولا الرشاد، فصفق بيده وقال: سبحان الله أما كان أمير المؤمنين يقدر أن يحول بينه وبينها فينقذها!؟ كذبوا لم يكن ما قالوا، إن فلانا خطب إلى علي بنته أم كلثوم فأبى علي، فقال للعباس: والله لئن لم يزوجني لأنتزعن منك السقاية وزمزم، فأتى العباس عليا فكلمه، فأبى عليه، فألح العباس، فلما رأى أمير المؤمنين مشقة كلام الرجل على العباس، وأنه سيفعل بالسقاية ما قال أرسل أمير المؤمنين إلى جنية من أهل نجران يهودية، يقال لها: سحيقة بنت جريرية، فأمرها، فتمثلت في مثال أم كلثوم، وحجبت الأبصار عن أم كلثوم، وبعث بها إلى الرجل، فلم تزل عنده حتى أنه استراب بها يوما، فقال: ما في الأرض أهل بيت أسحر من بني هاشم، ثم أراد أن يظهر ذلك للناس، فقتل وحوت، الميراث وانصرفت إلى نجران، وأظهر أمير المؤمنين أم كلثوم(14).

__________

(1) مع العلم أن الآثار الواردة عنه حول كيفية تزاوج بني آدم، وعلاقته بالجن، ونحوهم غير صحيحة، وردها كبار علماء الإمامية أنفسهم، حتى لو وردت في الكافي ونحوه، فليس كل ما في الكافي باتفاقهم صحيح

(2) علل الشرائع / 17 ـ 18، ح 1.

(3) علل الشرائع: 16/ 1 باب 14.

(4) علل الشرائع: 16/ 1.

(5) تفسير العيّاشي 1/215.

(6) الكافي 2/ 124/ 22.

(7) الكافي 2: 120.

(8) الكافي 2/120.

(9) كتاب الزهد: 39/ 105.

(10) علل الشرائع / 17.

(11) تفسير العياشي: 1 / 312.

(12) بحار الأنوار: 11 / 226.

(13) علل الشرائع، ص 18.

(14) الخرائج والجرائح: 2 / 825.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا﴾ من آدم وحواء، يقول: خلق منهما رجالا كثيرا ونساء(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٥٣.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾، يخوفهم: اخشوا ربكم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ تسألون بالله بعضكم بعض الحقوق والحوائج(1).

3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، يعني: حفيظا لأعمالكم(1).

4. روي أنّه قال: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾، يقول: وخلق من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء، هم ألف أمة(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/ ٣٥٥.

ابن إسحاق:

روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ألقي على آدم صلّى الله عليه وآله وسلّم السنة ـ فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم، عن عبد الله بن العباس وغيره ـ، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر، ولأم مكانه لحما، وآدم نائم لم يهب من نومته، حتى خلق الله تبارك وتعالى من ضلعه تلك زوجته حواء، فسواها امرأة ليسكن إليها، فلما كشفت عنه السنة وهب من نومته رآها إلى جنبه، فقال ـ فيما يزعمون والله أعلم ـ: لحمي، ودمي، وزوجتي، فسكن إليها(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٤١.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ يقول: اتقوا الله الذى تساءلون به، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ [الرعد: ٢١](1).

2. روي أنّه قال: ﴿رَقِيبًا﴾ على أعمالكم؛ يعلمها، ويعرفها(2).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٤٩.

(2) ابن جرير ٦/ ٣٥٠.

الرضا:

روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن الناس كيف تناسلوا من آدم عليه السلام!؟ فقال: حملت حواء هابيل وأختاً له في بطن، ثم حملت في البطن الثاني قابيل وأختاً له في بطن، فزوج هابيل التي مع قابيل وتزوج قابيل التي مع هابيل، ثم حدث التحريم بعد ذلك(1).

2. روي أنّه قال: إن رحم آل محمد ـ الأئمة ـ لمعلقة بالعرش، تقول: اللهم صل من وصلني، واقطع من قطعني، ثم هي جارية في أرحام المؤمنين، ثم تلا هذه الآية ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَساأَلونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ﴾(2).

__________

(1) قرب الإسناد ص366.

(2) الكافي 2/125.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سؤال وإشكال: سألت عن قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، فقلت: هل خلقت حواء من نفس آدم، من الطين الذي خلق منه آدم؟ والجواب: اعلم ـ هداك الله وأعانك ـ أن الناس قد اختلفوا في هذه الآية، وتفسير خلق حواء من آدم:

أ. فقال فيها قوم: خلقها الله من ضلعه الأصغر، وهو الأسفل من الأضلاع.

ب. وقال آخرون: خلقت من بعض لحمه، وتكلموا في ذلك، ورووا روايات قد سمعتها إن كانت وصلت بك، ووقفت على شرحهم فيها ونظرته.

ج. وكل عندي لم يصب المعنى، ولم يقع فيه على باب حق ولا هدى، والقول فيها ـ والله أعلم، وهو الموفق للصواب ـ: أن الله سبحانه لما أن خلق آدم من الطين، أقام مطروحا من طين على هيئة إنسان في: الذراع، والعضد، والرأس، والأنف، والأصابع، فكان على ذلك تبصره الملائكة لا روح فيه، وخلق الله سبحانه حواء من تلك الطينة، من قبل أن ينفخ فيها الروح، ثم نفخ فيه الروح صلى الله عليه، فإذا هو يسمع ويبصر ويتحرك، وينطق ويقوم ويقعد؛ فهذا معنى ﴿خلق منها زوجها﴾، وهو صواب إن شاء الله.

2. وقد قيل: إن معنى ﴿خلق منها زوجها﴾، أي: خلقها من جنسه، وأنشأها مما أنشأه منه.. وليس ذلك عندي بقول، والقول الأول أحب إلينا، وهو إن شاء الله الصواب(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/203.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ في كل ما كان الخطاب للكفرة ذكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ على أثره حجج وحدانيته، ودلائل ربوبيته؛ لأنهم لم يعرفوا ربهم، من نحو ما ذكر: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ الآية، وكقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ الآية [البقرة: 21]، وكقوله ـ عزّ وجل ـ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [فاطر: 5]، ونحوه كثير: ذكر الحجج والدلائل التي بها يوصل إلى معرفة الصانع وتوحيده؛ لينظروا فيها وليتفكروا؛ فيعرفوا بها خالقهم وإلههم.

2. في كل ما كان الخطاب للمؤمنين: لم يذكر حجج الوحدانية، ولا دلائل الربوبية؛ لأنهم قد عرفوا ربهم قبل الخطاب، ولكن ذكر على أثره نعمه التي أنعمها عليهم، وثوابه الذي وعد لهم، نحو قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ إلى آخر ما ذكر [آل عمران: 102 ـ 103]، ذكر نعمه التي أنعمها عليهم، وكقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ﴾ كذا إلى [آخر] ما ذكر [الحديد: 28]؛ على هذا يخرج الخطاب في الأغلب.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾:

أ. قيل: اتقوا عذابه ونقمته.

ب. وقيل: اتقوا عصيانه في أمره ونهيه.

ج. وقيل اتقوا الله بحقه في أمره ونهيه‏.

4. ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ أضاف خلقنا إلى آدم؛ إذ صورة الإنسان في النطفة، قال: دلت إضافة خلقنا من آدم ـ وإن لم تكن أنفسنا مستخرجة منه ـ على أمرين:

أ. أحدهما: جواز إضافة الشيء إلى الأصل الذي إليه المرجع، وإن بعد ذلك عن الراجع إليه؛ على التوالد والتتابع.

ب. الثاني: أنّا لم نكن بأبداننا فيه، وإن أضيف خلقنا إليه؛ إذ لو كنا فيه لكنّا منه بحق الإخراج لا بحق الخلق منه، وذلك يبطل قول من يجعل صورة الإنسان في النطفة مع الإحالة أن يكون معنانا في التراب أو النطفة؛ إذ هما من الموات الخارج من احتمال الدرك، ونحن أحياء داركون‏.

5. ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ أي: فرق، ونشر، وأظهر منهما أولادا كثيرا: ذكورا وإناثا.

6. ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾، أي: اتقوا الله الذي تساءلون بعضكم من بعض، أي: يسأل بعضكم من بعض الحوائج والحقوق به، يقول: أسألك بوجه الله، وبحق الله، وبالله، ويسأل بعضكم من بعض بالرحم، يقول الرجل لآخر: أسألك بالرّحم وبالقرابة أن تعطيني.

7. ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾، روي عن ابن عباس يقول: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾، واتقوا في الأرحام وصلوها، وقرئ بالنصب والخفض‏: ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾:

أ. فمن قرأ بالنصب يقول: اتقوا الله فلا تعصوه، واتقوه الأرحام فلا تقطعوها.

ب. ومن قرأ بالخفض يقول: اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام.

8. وروي في الخبر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: اتّقوا الله وصلوا الأرحام؛ فإنّه أتقى لكم في الدّنيا، وخير لكم في الآخرة)، والآية في الظاهر على العظة والتنبيه، وكذلك قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، هو على التنبيه والاتعاظ.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/4.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ أي احذروا الله أن يعذبكم، واحذروا الأرحام أن تقطعوها فيسخط عليكم ربكم.

2. معنى قوله: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ أي إن الله رقيب عالم بجميع أفعالكم، لا يخفى عليه سبحانه صغير ولا كبير من أعمالكم.

3. معنى قول سيدنا ومولانا: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾، أي من طينة آدم، وخلق من تلك الذات زوجها، يعني حواء رحمة الله عليهما جميعاً.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 233.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ يعني آدم وفي ذلك نعمة لأنه أقرب إلى التعاطف بينهم ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أي بقية طينته ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ ومعنى قوله: تساءلون به هو قول الرجل أسألك بالله، والرحم أي صلوا الأرحام ولا تقطعوها لأن الله قصد بأول السورة حين أخبرهم أنهم من نفس واحدة أن يتواصلوا ولا يتقاطعوا ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ أي حفيظاً عليماً.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/162.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ يعني آدم، وفي ذلك نعمة عليكم لأنه أقرب إلى التعاطف بينكم.

2. ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ يعني حواء، قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن خلقت من ضلع آدم، وقيل الأيسر، ولذلك قيل للمرأة: ضلع أعوج.

3. ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال عند نزولها عليه: (خلقت المرأة من الرّجل فهمّها في الرّجل، وخلق الرّجل من التّراب فهمّه في التّراب)

4. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ ومعنى قوله‏ ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾، هو قولهم أسألك بالله وبالرحم، وهذا قول مجاهد وإبراهيم، وقرأ حمزة والأرحام بالكسر على هذا المعنى، وفي الأرحام قول آخر: أنه أراد صلوها ولا تقطعوها، وهو قول قتادة، والسدي، لأن الله تعالى قصد بأول السورة حين أخبرهم أنهم من نفس واحدة أن يتواصلوا ويعلموا أنهم إخوة وإن بعدوا.

5. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: حفيظا، وهو قول مجاهد.

ب. الثاني: عليما، وهو قول ابن زيد.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/447.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ أهل الكوفة (تساءلون به) بتخفيف السين، والباقون بتشديدها، وقرأ حمزة وحده (والأرحام) بجر الميم، الباقون بفتحها، فمن قرأ من أهل الكوفة

2. ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ بالتخفيف فوجهه ان أصله تتساءلون، فحذف احدى التاءين وهي الاصلية، لأن الأخرى للمضارعة، وإنما حذفوها لاستثقالهم إياها في اللفظ فحذفت لأن الكلام غير ملتبس، ومن شدد أدغم احدى التاءين في السين، لقرب مكان هذه من هذه.

3. معنى‏ ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ تطلبون حقوقكم به (والأرحام) القراءة المختارة عند النحويين النصب في الأرحام على تقدير: واتقوا الأرحام، وتكون‏ معطوفة على موضع (به) ذكره أبو علي الفارسي، فأما الخفض فلا يجوز عندهم إلا في ضرورة الشعر كما قال الشاعر أنشده سيبويه:

çفاليوم قربت تهجونا وتشتمنا...فاذهب فما بك والأيام من عجب‏é

فجروا الأيام عطفاً على موضع الكاف في (بك) وقال آخر:

çنعلق في مثل السواري سيوفنا...وما بينها والكعب غوط نفانف‏é

فعطف الكعب على الهاء والالف في (بينها) وهو ظاهر على مكنى وقال آخر:

çوان الله يعلمني ووهباً...وانا سوف نلقاه سِواناé

فعطف وهباً على الياء في يعلمني، ومثل ذلك لا يجوز في القرآن والكلام.

قال المازني: لأن الثاني في العطف شريك للأول، فان كان الأول يصلح أن يكون شريكا للثاني جاز وإن لم يصلح أن يكون الثاني شريكا له لم يجز، قال فكم الا تقول: مررت بزيد وذاك‏ لا تقول مررت بك وزيد، وقال أبو علي الفارسي: لأن المخفوض حرف متصل غير منفصل فكأنه كالتنوين في الاسم فقبح أن يعطف باسم‏ يقوم بنفسه على اسم لا يقوم بنفسه، ويفسد من جهة المعنى من حيث ان اليمين بالرحم لا يجوز، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لا تحلفوا بآبائكم)، فكيف تساءلون به وبالرحم على هذا وقال إسماعيل بن إسحاق: الحلف بغير الله أمر عظيم، وان ذلك خاص الله تعالى، وهو المروي في أخبارنا، وقال ابراهيم النخعي وغيره: انه من قولهم: نشدتك بالله وبالرحم، وقال ابن عباس، والسدي، وعكرمة، والحسن، والربيع، والضحاك، وابن جريج، وابن زيد، وقتادة: المعنى والأرحام فصلوها.

4. هذه الآية خطاب لجميع المكلفين من البشر، وقوله: ﴿واتقوا ربكم﴾ فيه وعظ بان يتقى عصيانه بترك‏ ما أمر به وارتكاب ما نهى عنه، وحذر من قطع الأرحام لما أراد من الوصية بالأولاد والنساء والضعفاء، فأعلمهم انهم جميعاً من نفس واحدة، فيكون ذلك داعياً لهم إلى لزوم أمره وحدوده في ورثتهم ومن يخلفون بعدهم، وفي النساء، والأيتام عطفاً لهم عليهم.

5. ثم اخبر تعالى انه خلق الخلق من نفس واحدة فقال: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ والمراد بالنفس هاهنا آدم عند جميع المفسرين: السدي وقتادة ومجاهد وغيرهم، وقوله: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ يعني حوَّاء، روي انها خلقت من ضلع من أضلاع آدم، ذهب إليه أكثر المفسرين، وقال أبو جعفر عليه السلام: خلقها من فضل الطينة التي خلق منها آدم‏، ولفظ النفس مؤنث بالصيغة، ومعناه التذكير هاهنا، ولو قيل نفس واحد لجاز.

6. ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ معنى بث نشر، يقال: بث الله الخلق، ومنه قوله: ﴿كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾ وذلك يدل على بث، وبعض العرب يقول أبث الله الخلق، ويقال بثثتك سري، وأبثثتك سري لغتان.

7. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ أي حافظاً تقول رقب يرقب رقاباً، وإنما قال ﴿كَانَ عَلَيْكُمْ﴾ ولفظ كان يفيد الماضي لأنه أراد أنه كان حفيظاً على من تقدم زمانه من عهد آدم وولده إلى زمان المخاطبين، وانه كان عالماً بما صدر منهم، لم يخف عليه منه شيء، والرقيب الحافظ في قول مجاهد، وقال ابن زيد: الرقيب العالم، والمعنى متقارب، يقال: رقب يرقب رقوباً ورقباً ورقبة، قال أبو داود: (كقاعد الرقباء للضرباء أيديهم نواهد)

8. قيل في معنى‏ ﴿الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما ـ قال الحسن ومجاهد وابراهيم: هو من قولهم: اسألك بالله والرحم، فعلى هذا يكون عطفاً على موضع به كأنه قال وتذكرون الأرحام في التساؤل.

ب. الثاني ـ قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك والربيع وابن زيد وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام: (واتقوا الأرحام أن تقطعوها)، فعلى هذا يكون معطوفا على اسم الله تعالى.

9. وجه النعمة في الخلق من نفس واحدة انه أقرب إلى أن يتعطفوا ويأمن بعضهم بعضاً ويحامي بعضهم عن بعض، ولا يأنف بعضهم عن بعض، لما بينهم من القرابة والرجوع إلى نفس واحدة، لأن النفس الواحدة هاهنا آدم عليه السلام بإجماع المفسرين: الحسن وقتادة والسدي ومجاهد، وجاز من نفس واحدة لأن حواء من آدم على ما بيناه، فرجع الجميع إلى آدم وإنما أنت النفس والمراد بها آدم لأن لفظ النفس مؤنثة، وان عني بها مذكر كما قال الشاعر:

çأبوك خليفة ولدته أخرى‏...وأنت خليفة ذاك الكمال‏é

فانث على اللفظ، وقد حكينا عن أكثر المفسرين: ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي وابن إسحاق: ان حواء خلقت من ضلع من أضلاع آدم، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم انه قال: (المرأة خلقت من ضلع، وانك ان أردت أن تقيمها كسرتها وان تركتها وفيها عوج استمعت بها)، وروي عن أبي جعفر عليه السلام أن حواء خلقت من فضل طينة آدم عليه السلام.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/98.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. بَثَّ وأبث: فرق، ومنه ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾

ب. تساءلون أصله تتساءلون من السؤال فأدغمت التاء في السين.

ج. الرقيب: الحافظ فَعِيل بمعنى فاعل، رَقَبَ يَرْقُبُ رَقابةً وَرُقوبًا ورِقْبة ورِقْبانًا أي انتظر، والمرقب المكان العالي الذي يقف عليه الرقيب.

2. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ قيل: النداء في سائر الكتب بـ (يا أيها المساكين)، وفي القرآن: ما نزل بمكة بـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، وما نزل بالمدينة فمرة بـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ومرة بـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾

3. قيل ﴿يَا﴾ نداء، و﴿أَيِّ﴾: تنبيه، و﴿هَا﴾ إشارة، والناس لفظه عام والمراد به خاص؛ لأن المراد به إلمكلفون دون الصبيان والمجانين والأموات.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾:

أ. قيل: اتقوا معاصي ربكم.

ب. وقيل: اتقوا عذابه باتقاء معاصيه واتباع أمره.

5. ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ أي أحدثكم مقدرًا كما أراد ﴿مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ يعني آدم عن جماعة المفسرين؛ لأن الناس كلهم بنو آدم ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا﴾ من ذلك النفس ﴿زَوْجِهَا﴾ يعني حواء، خلقت من ضلع من أضلاعه عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي وابن إسحاق، وروي أنه تعالى ألقى النعاس على آدم، ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى، فلما رآها إلى جنبه سكن إليها، وقال: لحمي ودمي.

6. إنما ذكر الخلق عقيب الأمر بالاتقاء؛ لأنه بين أنه المنعم بالخلق والإحياء، والعبادة تجب له، فيجب أن يعبدوه دون ما اتخذوه آلهة، وإنما ذكر أنه خلقهم من نفس واحدة؛ لأنه أقرب إلى التعاطف والمحاباة، وترك التفاخر، فتكون النعمة أعم، والقدرة أظهر؛ إذ خلق جميع الخلق من نفس واحدة، ولأنه علق بالإنسان كثيرًا من الأحكام والعبادات.

7. ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا﴾ أي فرق وأظهر من آدم وحواء ﴿رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ﴾ أي اتقوا معاصيه.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾:

أ. قيل: هو قول القائل: أسألك بِاللهِ وبالرحم عن الحسن ومجاهد وإبراهيم كأنه قيل: بِاللهِ تساءلون وبالرحم، فتذكرون الأرحام في التساؤل.

ب. وقيل: اتقوا الأرحام أن تقطعوها عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي والضحاك، والربيع وابن زيد.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تَسَاءَلُونَ﴾:

أ. قيل: تطلبون مِن غيركم الحوائج بِاللهِ وبالرحم، فتقول: بِاللهِ ألا أعطيتني عن أبي علي وأبي مسلم.

ب. وقيل: تطلبون حقوقكم من الغير بِاللهِ أي تُحَلِّفُونهُ، والمعنى: كما تعظمون الله بألسنتكم فعظموه بطاعتكم.

ج. وقيل: اتقوا الله الذي به تعاهدون.

د. وقيل: هو قولهم ـ للغير: اتق الله.

هـ. وقيل: به يدفع بعضكم بعضًا، فلا تبخسوا حقه بالعصيان عن الأصم، وإنما قرن الأرحام به تنبيهًا على عظم الأمر في قطعها وترك حقها، ولأنه أراد أن يذكر عقيبه أحكام الرحم فقدم الأمر بمراعاة حقها.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾:

أ. قيل: حفيظًا عن مجاهد.

ب. وقيل: عليمًا عن ابن زيد وكلاهما جائز؛ لأن الحفيظ بإحصاء الأعمال رقيب، والعليم بها رقيب.

11. تدل الآية الكريمة على:

أ. عظيم قدرته ونعمته تعالى؛ إذ خلق جميع هذا الخلق من نفس واحدة، وفرقهم في البلاد إتمامًا للنعمة، وقيل: نبه على قدرته على ما يشاء؛ إذ خلق آدم من غير ذكر وأنثى، وخلق حواء لا من أنثى، وخلق عيسى من دون ذكر، وخلق الخلق من ذكر وأنثى.

ب. أن الإنس كلهم ولد آدم، ومعنى قولنا: خلق شيئا من شيء وأن هذا الخلق خُلِق من النطفة: أنها الأصل، ثم لا يزال ينمو ويزيد بزيادة الأجزاء وضم الأجزاء إليه حتى يصير جسدًا حيًا.

ج. أن الإنسان هذا الشخص المبني؛ لأنه بين أنه خلق الإنسان من النطفة.

د. أنه تعالى به يُنال الخير وبه تدفع المضار.

هـ. النهي عن قطع الأرحام ووجوب مراعاتها، ثم مراعاة الرحم تختلف قد تكون بقبول النسب، وقطعه بنفي النسب، وقد يكون بالإنفاق على ذي الرحيم، وغير ذلك مما يرجع إلى صلة الرحم.

12. قراءات ووجوه:

أ. قرأ ﴿تَسَاءَلُونَ﴾ بتخفيف السين عاصم وحمزة والكسائي، والباقون بالتشديد، أما التخفيف فلحذف التاء، والتشديد على إدغام التاء، وقرأ حمزة وحده ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ بخفض الميم، وهي قراءة النخعي وقتادة والأعمش، وقرأ الباقون بفتح الميم، فوجه ذلك: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وأما الكسر فبالعطف على ﴿بِهِ﴾، على تقدير تساءلون به وبالأرحام كقولك: سألتك بِاللهِ وبالرحم، والأول هو الوجه؛ لأن العرب لا تعطف الظاهر على المجرور المضمر إلا في ضرورة الشعر، بل يعيدون الخافض كقولك: مررت به وبزيد، وقد جاء ذلك في الشعر مع قِلَّتِهِ، قال الشاعر:

çفَالْيَوْمَ أَصْبَحْتَ تَهْجُونَا وَتَشَتُمُنَا... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالْأَيَّامِ مِنْ عَجَبِé

ب. وعن بعضهم ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ بالرفع على الابتداء، كأنه نوى تمام الكلام عند قوله: ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ ثم ابتدأ، ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ كما يقال: زيد ينبغي أن يُكرم، قال الأخفش: وإذا كسرت الميم أضمرت الباء، أراد وبالأرحام)، ولو لم يضمر لم يجز، والقراء على إظهار القاف والكاف في قوله: ﴿خَلَقَكُمْ﴾ ومنهم من يدغم القاف في الكاف؛ لأنه من مخرجها فصارت كافًا ثقيلة.

13. مسائل لغوية ونحوية:

أ. أنث النفس والْمَعْنِيُّ به آدم، قلنا: لأن لفظ النفس مؤنث، وإن عبر به عن مذكر، كما قال الشاعر:

çأبوك خَليفةٌ ولَدَتْهُ أخرى... وأنت خليفةٌ ذَاكَ الكمَالُé

ب. ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ نصب، قيل: عطفًا على اسم الله، أي اتقوا الله واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وقيل: بل هو معطوف على موضع ﴿بِهِ﴾، وهو من قولك: أسألك بِاللهِ وبالرحم.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/513.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. البث: النشر، يقال بث الله الخلق ومنه قوله ﴿كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾ وبعضهم يقول: أبث بمعناه يقال: بثثتك سري وأبثثتك سري لغتان.

ب. أصل الرقيب من الترقب، وهو الانتظار، ومنه الرقبى، لان كل واحد منهما ينتظر موت صاحبه يقال: رقب، يرقب، رقوبا، ورقبة، ورقبا، فعلى هذا يكون الرقيب فعيلا، بمعنى الفاعل، وهو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء.

2. ابتدأ الله سبحانه هذه السورة بالموعظة والامر بالتقوى فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾: وهو خطاب للمكلفين من جميع البشر، وقيل: النداء إنما كان في سائر كتب الله السالفة بيا أيها المساكين، وأما في القرآن فما نزل بمكة فالنداء بيا أيها الناس، وما نزل بالمدينة فمرة بيا أيها الذين آمنوا، ومرة بيا أيها الناس.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾:

أ. قيل: معناه اتقوا معصية ربكم، أو مخالفة ربكم، بترك ما أمر به، وارتكاب ما نهى عنه.

ب. وقيل، معناه: اتقوا حقه أن تضيعوه.

ج. وقيل: اتقوا عتابه، فكأنه قال: يحق عليكم أن تتقوا عقاب من أنعم عليكم بأعظم النعم، وهي أن خلقكم من نفس واحدة، وأوجدكم، ومن عظمت عنده النعمى، فهو بالتقوى أولى.

د. وقيل: إن المراد به بيان كمال قدرته، فكأنه قال: الذي قدر على أن خلقكم من نفس واحدة، فهو على عقابكم أقدر، فيحق عليكم أن تتركوا مخالفته، وتتقوا عقوبته.

4. ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾: المراد بالنفس هنا: آدم عند جميع المفسرين، وإنما لم يقل نفس واحد بالتذكير، وإن كان المراد آدم، لأن لفظ النفس مؤنث بالصيغة، فهو كقول الشاعر:

çأبوك خليفة، ولدته أخرى... وأنت خليفة، ذاك الكمالé

فأنث على اللفظ، ولو قال من نفس واحد لجاز.

5. ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾: يعني حواء عليها السلام، ذهب أكثر المفسرين إلى أنها خلقت من ضلع من أضلاع آدم عليه السلام، ورووا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (خلقت المرأة من ضلع آدم عليه السلام، إن أقمتها كسرتها، وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها)، وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: (إن الله تعالى خلق حواء من فضل الطينة التي خلق منها آدم)، وفي تفسير علي بن إبراهيم: من أسفل أضلاعه.

6. ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا﴾: أي نشر وفرق من هاتين النفسين على وجه التناسل رجالا، ﴿وَنِسَاءٌ﴾ وإنما من علينا تعالى بأن خلقنا من نفس واحدة، لأنه أقرب إلى أن يعطف بعضنا على بعض، ويرحم بعضنا بعضا، لرجوعنا إلى أصل واحد، ولأن ذلك أبلغ في القدرة، وأدل على العلم والحكمة.

7. في قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه من قولهم أسألك بالله أن تفعل كذا، وأنشدك بالله وبالرحم، ونشدتك الله والرحم، وكذا كانت العرب تقول عن الحسن وإبراهيم وعلى هذا يكون قوله: ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ عطفا على موضع قوله به، والمعنى: انكم كما تعظمون الله بأقوالكم، فعظموه بطاعتكم إياه.

ب. والآخر: إن معنى تساءلون به: تطلبون حقوقكم وحوائجكم فيما بينكم به والأرحام، معناه: واتقوا الأرحام أن تقطعوها عن ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والضحاك، والربيع، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، فعلى هذا يكون منصوبا عطفا على اسم الله تعالى، وهذا يدل على وجوب صلة الرحم، ويؤيده ما رواه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال الله تعالى: (أنا الرحمن خلقت الرحم، وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته)، وفي أمثال هذا الخبر كثرة.

8. صلة الرحم، قد تكون بقبول النسب، وقد تكون بالانفاق على ذي الرحم، وما يجري مجراه، وروى الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: (إن أحدكم ليغضب فما يرضى حتى يدخل به النار، فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمه، فليمسه فإن الرحم إذا مستها الرحم استقرت، وانها متعلقة بالعرش، تقول وتنادي: اللهم صل من وصلني، واقطع من قطعني)

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾:

أ. قيل: أي حافظا، عن مجاهد.

ب. وقيل: الرقيب العالم عن ابن زيد.

ج. والمعنى متقارب.

10. إنما أتى بلفظة ﴿كَانَ﴾ المفيدة للماضي، لأنه أراد أنه كان حفيظا على من تقدم زمانه من عهد آدم وولده إلى زمان المخاطبين، وعالما بما صدر منهم، لم يعزب عنه من ذلك شيء.

11. قراءات ووجوه:

أ. قرأ أهل الكوفة ﴿تُسْأَلُونَ﴾ بتخفيف السين، والباقون بتشديدها.. من خفف تسألون أراد تتساءلون، فحذف التاء من تتفاعلون لاجتماع حروف متقاربة، ومن شدد فقال تسألون فإنه أدغم التاء في السين، وحسن ذلك لاجتماعهما في أنهما من حروف طرف اللسان، وأصول الثنايا، واجتماعهما في الهمس، فخفف هنا بالادغام كما خفف هناك بالحذف.

ب. قرأ حمزة ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ بالجر، والباقون بالنصب، وقرئ في الشواذ ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ بالرفع.. قال أبو علي:

من نصب ﴿الْأَرْحَامِ﴾ احتمل انتصابه وجهين:

● أحدهما: أن يكون معطوفا على موضع الجار والمجرور.

● والاخر: أن يكون معطوفا على ﴿اتَّقُوا﴾ وتقديره: واتقوا الله، واتقوا الأرحام، فصلوها ولا تقطعوها.

أما من جر فإنه عطف على الضمير المجرور بالباء، وهذا ضعيف في القياس، وقليل في الاستعمال، وما كان كذلك فترك الأخذ به أحسن، وإنما ضعف في القياس، لان الضمير قد صار عوضا مما كان متصلا بالاسم من التنوين، فقبح أن يعطف عليه، كما لا يعطف الظاهر على التنوين، ويدلك على أنه أجري عندهم مجرى التنوين، حذفهم الياء من المنادى المضاف إليها، كحذفهم التنوين، وذلك قولهم يا غلام وهو الأكثر من غيره، ووجه الشبه بينهما أنه على حرف، كما أن التنوين كذلك، واجتماعهما في السكون، ولأنه لا يوقف على الاسم منفصلا منه، كما أن التنوين، كذلك، والمضمر أذهب في مشابهة التنوين من المظهر، لأنه قد يفصل بين المضاف والمضاف إليه إذا كان ظاهرا بالظروف وبغيرها نحو قول الشاعر:

çكأن أصوات من إيغالهن بنا... أواخر الميس أصوات الفراريجé

وقول الآخر: (من قرع القسي الكنائن)، وليس المضمر في هذا كالظاهر، فلما كان كذلك لم يستجيزوا عطف الظاهر عليه، لأن المعطوف ينبغي أن يكون مشاكلا للمعطوف عليه، وقد جاء ذلك في ضرورة الشعر، أنشد سيبويه:

çفاليوم قربت تهجونا وتشتمنا... فاذهب فما بك والأيامé

من عجب فعطف الأيام على موضع الكاف، وقال آخر:

çنعلق في مثل السواري سيوفنا... وما بينها والكعب غوط نفانفé

فعطف الكعب على الهاء والألف في بينها، ومثل ذلك لا يجوز في القرآن والكلام الفصيح، قال المازني: وذلك لأن الثاني في العطف شريك للأول، فإن كان الأول يصلح أن يكون شريكا للثاني، وإلا لم يصلح أن يكون الثاني شريكا، فكما لا تقول: مررت بزيد وك، كذلك لا تقول: مررت بك وزيد.

ج. أما القراءة الشاذة في رفع ﴿الْأَرْحَامِ﴾ فالوجه في رفعه على الابتداء أي: والأرحام مما يجب أن تتقوه، وحذف الخبر للعلم به.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/4.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة على قولين‏:

أ. أحدهما: أنها مكّيّة، رواه عطيّة عن ابن عباس، وهو قول الحسن، ومجاهد، وجابر بن زيد، وقتادة.

ب. الثاني: أنها مدنيّة، رواه عطاء عن ابن عباس، وهو قول مقاتل، وقيل: إنها مدنيّة، إلا آية نزلت بمكّة في عثمان بن طلحة حين أراد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يأخذ منه مفاتيح الكعبة، فيسلّمها إلى العبّاس، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ ذكره الماورديّ.

2. في قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه بمعنى الطّاعة، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: بمعنى الخشية، قاله مقاتل.

3. النّفس الواحدة: آدم، وزوجها حوّاء، و(من) في قوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا﴾ للتبعيض في قول الجمهور، وقال ابن بحر: (منها)، أي: من جنسها، واختلفوا أيّ وقت خلقت له، على قولين:

أ. أحدهما: أنها خلقت بعد دخوله الجنّة، قاله ابن مسعود، وابن عباس.

ب. الثاني: قبل دخوله الجنّة، قاله كعب الأحبار، ووهب، وابن إسحاق، قال ابن عباس: لمّا خلق الله آدم، ألقى عليه النّوم، فخلق حوّاء من ضلع من أضلاعه اليسرى، فلم تؤذه بشيء، ولو وجد الأذى ما عطف عليها أبدا، فلمّا استيقظ؛ قيل: يا آدم ما هذه؟ قال حوّاء.

4. ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا﴾ قال الفرّاء: بثّ: نشر، ومن العرب من يقول: أبثّ الله الخلق، ويقولون: بثثتك ما في نفسي، وأبثثتك، ﴿الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ قرأ ابن كثير، وابن عامر، والبرجمي، عن أبي بكر، عن عاصم، واليزيديّ، وشجاع، والجعفيّ، وعبد الوارث، عن أبي عمرو: (تسّاءلون) بالتشديد، وقرأ عاصم، وحمزة والكسائيّ، وكثير من أصحاب أبي عمرو عنه بالتخفيف، قال الزجّاج: الأصل: تتساءلون، فمن قرأ بالتشديد، أدغم التّاء في السين، لقرب مكان هذه من هذه، ومن قرأ بالتخفيف، حذف التاء الثانية لاجتماع التّاءين.

5. في معنى قوله تعالى: ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: تتعاطفون به، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: تتعاقدون، وتتعاهدون به، قاله الضّحّاك، والرّبيع.

ج. الثالث: تطلبون حقوقكم به، قاله الزجّاج.

6. ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ فالجمهور على نصب الميم على معنى: واتّقوا الأرحام أن تقطعوها، وفسّرها على هذا ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسّدّيّ، وابن زيد، وقرأ الحسن، وقتادة، والأعمش، وحمزة بخفض الميم على معنى: تساءلون به وبالأرحام، وفسّرها على هذا الحسن، وعطاء والنّخعيّ، وقال الزجّاج: الخفض في (الأرحام) خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشّعر، وخطأ في الدّين، لأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لا تحلفوا بآبائكم)، وذهب إلى نحو هذا الفرّاء، وقال ابن الأنباريّ: إنما أراد، حمزة الخبر عن الأمر القديم الذي جرت عادتهم به، فالمعنى: الذي كنتم تساءلون به وبالأرحام في الجاهليّة، قال أبو عليّ: من جرّ، عطف على الضّمير المجرور بالباء، وهو ضعيف في القياس، قليل في الاستعمال، فترك الأخذ به أحسن.

7. الرّقيب: قال ابن عباس، ومجاهد: الرّقيب: الحافظ، وقال الخطّابيّ: هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، وهو في نعوت الآدميين الموكّل بحفظ الشيء، المترصّد له، المتحرّز عن الغفلة فيه، يقال منه: رقبت الشيء أرقبه رقبة.

__________

(1) زاد المسير: 1/367.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه السورة مشتملة على أنواع كثيرة من التكاليف، وذلك لأنه تعالى أمر الناس في أول هذه السورة بالتعطف على الأولاد والنساء والأيتام، والرأفة بهم وإيصال حقوقهم إليهم وحفظ أموالهم عليهم، وبهذا المعنى ختمت السورة، وهو قوله: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ [النساء: 176] وذكر في أثناء هذه السورة أنواعا أخر من التكاليف، وهي الأمر بالطهارة والصلاة وقتال المشركين ولما كانت هذه التكاليف شاقة على النفوس لثقلها على الطباع، لا جرم افتتح السورة بالعلة التي لأجلها يجب حمل هذه التكاليف الشاقة، وهي تقوى الرب الذي خلقنا والإله الذي أوجدنا، فلهذا قال ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾

2. اختلف في الخطاب في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾:

أ. روى الواحدي عن ابن عباس في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ أن هذا الخطاب لأهل مكة.. وحجة ابن عباس أن قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ مختص بالعرب لأن المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم، فيقولون أسألك بالله وبالرحم، وأنشدك الله والرحم، وإذا كان كذلك كان قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ مختصا بالعرب، فكان أول الآية وهو قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ مختصا بهم لأن قوله في أول الآية: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ وقوله بعد ذلك: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ وردا متوجهين إلى مخاطب واحد، ويمكن أن يجاب عنه بأنه ثبت في أصول الفقه أن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها، فكان قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ عاما في الكل، وقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾، خاصاً بالعرب.

ب. الأصوليون من المفسرين اتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلفين، وهذا هو الأصح لوجوه:

أحدها: أن لفظ الناس جمع دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق.

ثانيها: أنه تعالى علل الأمر بالاتقاء بكونه تعالى خالقاً لهم من نفس واحدة، وهذه العلة عامة في حق جميع المكلفين بأنهم من آدم عليه السلام خلقوا بأسرهم، وإذا كانت العلة عامة كان الحكم عاما.

ثالثها: أن التكليف بالتقوى غير مختص بأهل مكة، بل هو عام في حق جميع العالمين، وإذا كان لفظ الناس عاما في الكل، وكان الأمر بالتقوى عاما في الكل، وكانت علة هذا التكليف، وهي كونهم خلقوا من النفس الواحدة عامة في حق الكل، كان القول بالتخصيص في غاية البعد.

3. جعل الله تعالى هذا المطلع مطلعا لسورتين في القرآن:

أ. إحداهما: هذه السورة وهي السورة الرابعة من النصف الاول من القرآن.

ب. الثانية: سورة الحج، وهي أيضا السورة الرابعة من النصف الثاني من القرآن.

4. ثم إنه تعالى علل الأمر بالتقوى في هذه السورة بما يدل على معرفة المبدأ، وهو أنه تعالى خلق الخلق من نفس واحدة، وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه وكمال حكمته وجلاله، وعلل الأمر بالتقوى في سورة الحج بما يدل على كمال معرفة المعاد، وهو قوله: ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: 1] فجعل صدر هاتين السورتين دلالة على معرفة المبدأ ومعرفة المعاد، ثم قدم السورة الدالة على المبدأ على السورة الدالة على المعاد، وتحت هذا البحث أسرار كثيرة.

5. أمرنا الله تعالى بالتقوى وذكر عقبيه أنه خلقنا من نفس واحدة، وهذا مشعر بأن الأمر بالتقوى معلل بأنه تعالى خلقنا من نفس واحدة، ولا بد من بيان المناسبة بين هذا الحكم وبين ذلك الوصف، وهو أنه تعالى خلقنا من نفس واحدة، مشتمل على قيدين:

أ. أحدهما: أنه تعالى خلقنا.. ولا شك أن هذا المعنى علة لأن يجب علينا الانقياد لتكاليف الله تعالى والخضوع لأوامره ونواهيه، وبيان ذلك من وجوه:

الأول: أنه لما كان خالقا لنا وموجداً لذواتنا وصفاتنا فنحن عبيده وهو مولى لنا، والربوبية توجب نفاذ أوامره على عبيده، والعبودية توجب الانقياد للرب والموجد والخالق.

الثاني: أن الإيجاد غاية الانعام ونهاية الإحسان، فإنك كنت معدوما فأوجدك، وميتا فأحياك، وعاجزا فأقدرك، وجاهلا فعلمك، كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَيَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَيُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ‏﴾ [الشعراء: 78، 79] فلما كانت النعم بأسرها من الله سبحانه وجب على العبد أن يقابل تلك النعم بإظهار الخضوع والانقياد، وترك التمرد والعناد، وهذا هو المراد بقوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [البقرة: 28]

الثالث: وهو أنه لما ثبت كونه موجداً وخالقاً وإلهاً ورباً لنا وجب علينا أن نشتغل بعبوديته وأن نتقي كل ما نهى عنه وزجر عنه، ووجب أن لا يكون شيء من هذه الأفعال موجباً ثواباً ألبتة، لأن هذه الطاعات لما وجبت في مقابلة النعم السالفة امتنع أن تصير موجبة للثواب، لأن أداء الحق إلى المستحق لا يوجب شيئاً آخر، هذا إذا سلمنا أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه ابتداء، فكيف وهذا محال، لأن فعل الطاعات لا يحصل إلا إذا خلق الله القدرة على الطاعة، وخلق الداعية على الطاعة، ومتى حصلت القدرة والداعي كان مجموعهما موجبا لصدور الطاعة عن العبد، وإذا كان كذلك كانت تلك الطاعة إنعاما من الله على عبده، والمولى إذا خص عبده بإنعام لم يصر ذلك الانعام موجبا عليه إنعاماً آخر، فهذا هو الإشارة إلى بيان أن كونه خالقاً لنا يوجب علينا عبوديته والاحتراز عن مناهيه.

ب. الثاني: كيفية ذلك التخليق، وهو أنه تعالى إنما خلقنا من نفس واحدة، وهو يوجب علينا الطاعة والاحتراز عن المعصية، وبيانه من وجوه:

الأول: أن خلق جميع الأشخاص الانسانية من الإنسان الواحد أدل على كمال القدرة، من حيث انه لو كان الأمر بالطبيعة والخاصية لكان المتولد من الإنسان الواحد، لم يكن إلا أشياء متشاكلة في الصفة متشابهة في الخلقة والطبيعة، فلما رأينا في أشخاص الناس الأبيض والأسود والأحمر والأسمر والحسن والقبيح والطويل والقصير، دل ذلك على أن مدبرها وخالقها فاعل مختار، لا طبيعة مؤثرة، ولا علة موجبة، ولما دلت هذه الدقيقة على أن مدبر العالم فاعل مختار قادر على كل الممكنات عالم بكل المعلومات، فحينئذ يجب الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه، فكان ارتباط قوله: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ بقوله: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ في غاية الحسن والانتظام.

الثاني: وهو أنه تعالى لما ذكر الأمر بالتقوى ذكر عقيبه الأمر بالإحسان إلى اليتامى والنساء والضعفاء، وكون الخلق بأسرهم مخلوقين من نفس واحدة له أثر في هذا المعنى، وذلك لأن الأقارب لا بد وأن يكون بينهم نوع مواصلة ومخالطة توجب مزيد المحبة، ولذلك ان الإنسان يفرح بمدح أقاربه وأسلافه، ويحزن بذمهم والطعن فيهم، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها)، وإذا كان الأمر كذلك، فالفائدة في ذكر هذا المعنى أن يصير ذلك سبباً لزيادة شفقة الخلق بعضهم على البعض.

الثالث: أن الناس إذا عرفوا كون الكل من شخص واحد تركوا المفاخرة والتكبر وأظهروا التواضع وحسن الخلق.

الرابع: أن هذا يدل على المعاد، لأنه تعالى لما كان قادرا على أن يخرج من صلب شخص واحد أشخاصا مختلفين، وأن يخلق من قطرة من النطفة شخصا عجيب التركيب لطيف الصورة، فكيف يستبعد إحياء الأموات وبعثهم ونشورهم، فتكون الآية دالة على المعاد من هذا الوجه‏ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أساؤوا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى‏﴾ [النجم: 31]

الخامس: قال الأصم: الفائدة فيه: أن العقل لا دليل فيه على أن الخلق يجب أن يكونوا مخلوقين من نفس واحدة، بل ذلك إنما يعرف بالدلائل السمعية، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمياً ما قرأ كتابا ولا تلمذ لأستاذ، فلما أخبر عن هذا المعنى كان إخبارا عن الغيب فكان معجزا، فالحاصل أن قوله: ﴿خَلَقَكُمْ﴾ دليل على معرفة التوحيد، وقوله: ﴿مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ دليل على معرفة النبوة.

6. سؤال وإشكال: كيف يصح أن يكون الخلق أجمع من نفس واحدة مع كثرتهم وصغر تلك النفس؟ والجواب: بين الله المراد بذلك لأن زوج آدم إذا خلقت من بعضه، ثم حصل خلق أولاده من نطفتهما ثم كذلك أبدا، جازت إضافة الخلق أجمع الى آدم.

7. أجمع المسلمون على أن المراد بالنفس الواحدة هاهنا هو آدم عليه السلام، إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس، ونظيره قوله تعالى: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ [الكهف: 74] وقال الشاعر:

çأبوك خليفة ولدته أخرى‏...فأنت خليفة ذاك الكمال‏é

قالوا فهذا التأنيث على لفظ الخليفة.

8. ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ المراد من هذا الزوج هو حواء، وفي كون حواء مخلوقة من آدم قولان:

أ. الأول: وهو الذي عليه الأكثرون أنه لما خلق الله آدم ألقى عليه النوم، ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى، فلما استيقظ رآها ومال إليها وألفها، لأنها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه، واحتجوا عليه‏ بقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ان المرأة خلقت من ضلع أعوج فان ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها).. قال القاضي: وهو أقوى، لكي يصح قوله: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين، لا من نفس واحدة، ويمكن أن يجاب عنه بأن كلمة (من) لابتداء الغاية، فلما كان ابتداء التخليق والإيجاد وقع بآدم عليه السلام صح أن يقال: خلقكم من نفس واحدة، وأيضا فلما ثبت أنه تعالى قادر على خلق آدم من التراب كان قادرا أيضا على خلق حواء من التراب، وإذا كان الأمر كذلك، فأي فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم.

ب. الثاني: وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني: أن المراد من قوله: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أي من جنسها وهو كقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ [النحل: 72] وكقوله: ﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [آل عمران: 164] وقوله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: 128]

9. قال ابن عباس: إنما سمي آدم بهذا الاسم لأنه تعالى خلقه من أديم الأرض كلها أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها؛ فلذلك كان في ولده الأحمر والأسود والطيب والخبيث والمرأة إنما سميت بحواء لأنها خلقت من ضلع من أضلاع آدم فكانت مخلوقة من شيء حي، فلا جرم سميت بحواء.

10. سؤال وإشكال: احتج جمع من الطبائعيين بهذه الآية فقالوا: قوله تعالى: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ يدل على أن الخلق كلهم مخلوقون من النفس الواحدة، وقوله: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ يدل على أن زوجها مخلوقة منها، ثم قال في صفة آدم: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ [آل عمران: 59]، فدل على أن آدم مخلوق من التراب، ثم قال في حق الخلائق: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ﴾ [طه: 55] وهذه الآيات كلها دالة على ان الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة يصير الشيء مخلوقا منها، وأن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال، والجواب: أجاب المتكلمون فقالوا: خلق الشيء من الشيء محال في العقول:

أ. لأن هذا المخلوق ان كان عين ذلك الشيء الذي كان موجودا قبل ذلك لم يكن هذا مخلوقا ألبتة، وإذا لم يكن مخلوقا امتنع كونه مخلوقا من شيء آخر.

ب. وان قلنا: ان هذا المخلوق مغاير للذي كان موجوداً قبل ذلك، فحينئذ هذا المخلوق وهذا المحدث إنما حدث وحصل عن العدم المحض، فثبت أن كون الشيء مخلوقا من غيره محال في العقول.

ج. أما كلمة (من) في هذه الآية فهو مفيد ابتداء الغاية، على معنى أن ابتداء حدوث هذه الأشياء من تلك الأشياء لا على وجه الحاجة والافتقار، بل على وجه الوقوع فقط.

11. ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ قال الواحدي: بث منهما: يريد فرق ونشر، قال ابن المظفر: البث تفريقك الأشياء، يقال: بث الخيل في الغارة وبث الصياد كلابه، وخلق الله الخلق فبثهم في الأرض، وبثثت البسط إذا نشرتها، قال الله تعالى: ﴿وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾ [الغاشية: 16] قال الفراء والزجاج: وبعض العرب يقول: أبث الله الخلق، ولم يقل: وبث منهما الرجال والنساء لأن ذلك يوجب كونهما مبثوثين عن نفسهما وذلك محال، فلهذا عدل عن هذا اللفظ إلى قوله: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾

12. سؤال وإشكال: لم لم يقل: وبث منهما رجالا كثيراً ونساء كثيراً؟ ولم خصص وصف الكثرة بالرجال دون النساء؟ والجواب: السبب فيه والله أعلم أن شهرة الرجال أتم، فكانت كثرتهم أظهر، فلا جرم خصوا بوصف الكثرة، وهذا كالتنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج والبروز، واللائق بحال النساء الاختفاء والخمول.

13. اختلف في معنى قوله تعالى:: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾:

أ. الذين يقولون: إن جميع الأشخاص البشرية كانوا كالذر، وكانوا مجتمعين في صلب آدم عليه السلام، حملوا قوله: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ على ظاهره.

ب. والذين أنكروا ذلك قالوا: المراد بث منهما أولادهما ومن أولادهما جمعا آخرين، فكان الكل مضافا إليهما على سبيل المجاز.

14. قراءات ووجوه لقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾:

أ. قرأ عاصم وحمزة والكسائي: ﴿تَسَاءَلُونَ﴾ بالتخفيف والباقون بالتشديد، فمن شدد أراد: تتساءلون فأدغم التاء في السين لاجتماعهما في أنهما من حروف اللسان وأصول الثنايا واجتماعهما في الهمس، ومن خفف حذف تاء تتفاعلون لاجتماع حروف متقاربة، فأعلها بالحذف كما أعلها الأولون بالإدغام، وذلك لأن الحروف المتقاربة إذا اجتمعت خففت تارة بالحذف وأخرى بالإدغام.

ب. قرأ حمزة وحده‏ ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ بجر الميم قال القفال: وقد رويت هذه القراءة عن غير القراء السبعة عن مجاهد وغيره، وأما الباقون من القراء فكلهم قرؤوا بنصب الميم، وقال الزمخشري: قرئ‏ ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ بالحركات الثلاث، أما قراءة حمزة فقد ذهب الأكثرون من النحويين إلى أنها فاسدة، قالوا: لأن هذا يقتضي عطف المظهر على المضمر المجرور وذلك غير جائز، واحتجوا على عدم جوازه بوجوه:

أولها: قال أبو علي الفارسي: المضمر المجرور بمنزلة الحرف، فوجب أن لا يجوز عطف لمظهر عليه، إنما قلنا المضمر المجرور بمنزلة الحرف لوجوه:

● الأول: أنه لا ينفصل ألبتة كما أن التنوين لا ينفصل، وذلك ان الهاء والكاف في قوله: به، وبك لا ترى واحدا منفصلا عن الجار ألبتة فصار كالتنوين.

● الثاني: أنهم يحذفون الياء من المنادى المضاف في الاختيار كحذفهم التنوين من المفرد، وذلك كقولهم: يا غلام، فكان المضمر المجرور مشابها للتنوين من هذا الوجه، فثبت أن المضمر المجرور بمنزلة حرف التنوين، فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه لأن من شرط العطف حصول المشابهة بين المعطوف والمعطوف عليه، فإذا لم تحصل المشابهة هاهنا وجب أن لا يجوز العطف.

ثانيها: قال علي بن عيسى: أنهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع، فلا يجوز أن يقال: اذهب وزيد، وذهبت وزيد بل يقولون: اذهب أنت وزيد، وذهبت أنا وزيد، قال تعالى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا﴾ [المائدة: 24] مع أن المضمر المرفوع قد ينفصل، فإذا لم يجز عطف المظهر على المضمر المجرور مع أنه أقوى من المضمر المجرور بسبب أنه قد ينفصل، فلأن لا يجوز عطف المظهر على المضمر المجرور مع أنه ألبتة لا ينفصل كان أولى.

ثالثها: قال أبو عثمان المازني: المعطوف والمعطوف عليه متشاركان، وإنما يجوز عطف الأول على الثاني لو جاز عطف الثاني على الأول، وهاهنا هذا المعنى غير حاصل، وذلك لأنك لا تقول: مررت بزيدوك، فكذلك لا تقول مررت بك وزيد.

15. هذه الوجوه ليست وجوها قوية في دفع الروايات الواردة في اللغات، وذلك لأن حمزة أحد القراء السبعة، والظاهر أنه لم يأت بهذه القراءة من عند نفسه، بل رواها عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة، والقياس يتضاءل عند السماع لا سيما بمثل هذه الأقيسة التي هي أوهن من بيت العنكبوت، وأيضا فلهذه القراءة وجهان:

أ. أحدهما: أنها على تقدير تكرير الجار، كأنه قيل تساءلون به وبالأرحام.

ب. ثانيها: أنه ورد ذلك في الشعر وأنشد سيبويه في ذلك:

çفاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا...فاذهب فما بك والأيام من عجب‏é

وأنشد أيضا:

çنعلق في مثل السواري سيوفنا...وما بينها والكعب غوط نفانف‏é

16. العجب من هؤلاء النحاة أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين ولا يستحسنون إثباتها بقراءة حمزة ومجاهد، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن، واحتج الزجاج على فساد هذه القراءة من جهة المعنى‏ بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تحلفوا بآبائكم)، فإذا عطفت الأرحام على المكنى عن اسم الله اقتضى ذلك جواز الحلف بالأرحام، ويمكن الجواب عنه بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية لأنهم كانوا يقولون: أسألك بالله والرحم، وحكاية هذا الفعل عنهم في الماضي لا تنافي ورود النهي عنه في المستقبل، وأيضاً فالحديث نهى عن الحلف بالآباء فقط، وهاهنا ليس كذلك، بل هو حلف بالله أولا ثم يقرن به بعده ذكر الرحم، فهذا لا ينافي مدلول ذلك الحديث، فهذا جملة الكلام في قراءة قوله: ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ بالجر.

17. أما قراءته بالنصب ففيه وجهان:

أ. الأول: وهو اختيار أبي علي الفارسي وعلي بن عيسى أنه عطف على موضع الجار والمجرور كقوله: فلسنا بالجبال ولا الحديدا

ب. الثاني: وهو قول أكثر المفسرين: أن التقدير: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وهو قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد والفراء والزجاج، وعلى هذا الوجه فنصب الأرحام بالعطف على قوله: ﴿اللَّهُ﴾ أي: اتقوا الله واتقوا الأرحام أي اتقوا حق الأرحام فصلوها ولا تقطعوها قال الواحدي: ويجوز أيضاً أن يكون منصوبا بالإغراء، أي والأرحام فاحفظوها وصلوها كقولك: الأسد الأسد، وهذا التفسير يدل على تحريم قطيعة الرحم، ويدل على وجوب صلتها، وأما القراءة بالرفع فقال الزمخشري: الرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف كأنه قيل: والأرحام كذلك على معنى والأرحام مما يتقى، أو والأرحام مما يتساءل به.

18. قال الله تعالى أولا: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ ثم قال بعده: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ وفي هذا التكرير وجوه:

أ. الأول: تأكيد الأمر والحث عليه كقولك للرجل: اعجل اعجل فيكون أبلغ من قولك: اعجل

ب. الثاني: أنه أمر بالتقوى في الأول لمكان الانعام بالخلق وغيره، وفي الثاني أمر بالتقوى لمكان وقوع التساؤل به فيما يلتمس البعض من البعض.

ج. الثالث: قال أولا: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ وقال ثانيا: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ والرب لفظ يدل على التربية والإحسان، والإله لفظ يدل على القهر والهيبة، فأمرهم بالتقوى بناء على الترغيب، ثم أعاد الأمر به بناء على الترهيب كما قال ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [السجدة: 16] وقال: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ [الأنبياء: 90]، كأنه قيل: انه رباك وأحسن إليك فاتق مخالفته لأنه شديد العقاب عظيم السطوة.

19. التساؤل بالله وبالأرحام قيل هو مثل أن يقال: بالله أسألك، وبالله أشفع إليك، وبالله أحلف عليك، الى غير ذلك مما يؤكد المرء به مراده بمسألة الغير، ويستعطف ذلك الغير في التماس حقه منه أو نواله ومعونته ونصرته، وأما قراءة حمزة فهي ظاهرة من حيث المعنى، والتقدير: واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، لأن العادة جرت في العرب بأن أحدهم قد يستعطف غيره بالرحم فيقول: أسألك بالله والرحم، وربما أفرد ذلك فقال: أسألك بالرحم، وكان يكتب المشركون الى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: نناشدك الله والرحم أن لا تبعث إلينا فلانا وفلانا، وأما القراءة بالنصب فالمعنى يرجع الى ذلك، والتقدير: واتقوا الله واتقوا الأرحام، قال القاضي: وهذا أحد ما يدل على أنه قد يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة، لأن معنى تقوى الله مخالف لمعنى تقوى الأرحام، فتقوى الله إنما يكون بالتزام طاعته واجتناب معاصيه، واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يتصل بالبر والإفضال والإحسان، ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى لعله تكلم بهذه اللفظة مرتين، وعلى هذا التقدير يزول الأشكال.

20. اختلف في اشتقاق الرحم:

أ. قال بعضهم: اسم الرحم مشتق من الرحمة التي هي النعمة، واحتج بما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (يقول الله تعالى أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي)، ووجه التشبيه ان لمكان هذه الحالة تقع الرحمة من بعض الناس لبعض.

ب. وقال آخرون: بل اسم الرحم مشتق من الرحم الذي عنده يقع الانعام وانه الأصل، وقال بعضهم: بل كل واحد منهما أصل بنفسه، والنزاع في مثل هذا قريب.

21. دلت الآية على جواز المسألة بالله تعالى، روى مجاهد عن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من سألكم بالله فأعطوه)، وعن البراء بن عازب قال أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بسبع: منها ابرار القسم.

22. دل قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ على تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعها، قال تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد: 22] وقال: ﴿لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾ قيل في الأول: إنه القرابة، وقال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23] وقال: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ [النساء: 36]:

أ. عن عبد الرحمن بن عوف: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: يقول الله تعالى أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته)

ب. وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ (ما من شيء أطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرحم وما من عمل عصي الله به أعجل عقوبة من البغي واليمين الفاجرة)

ج. وعن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ان الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء ويدفع الله بهما المحذور والمكروه)

د. وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح)، قيل الكاشح العدو.

23. ثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها، ثم إن أصحاب أبي حنيفة بنوا على هذا الأصل مسألتين:

أ. إحداهما: أن الرجل إذا ملك ذا رحم محرم عتق عليه مثل الأخ والاخت، والعم والخال، قال لأنه لو بقي الملك لحل الاستخدام بالإجماع، لكن الاستخدام إيحاش يورث قطيعة الرحم، وذلك حرام بناء على هذا الأصل، فوجب أن لا يبقى الملك.

ب. ثانيهما: أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يجوز الرجوع فيها لان ذلك الرجوع إيحاش يورث قطيعة الرحم، فوجب أن لا يجوز، والكلام في هاتين المسألتين مذكور في الخلافيات.

24. ثم أنه تعالى ختم هذه الآية بما يكون كالوعد والوعيد والترغيب والترهيب فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ والرقيب هو المراقب الذي يحفظ عليك جميع أفعالك، ومن هذا صفته فإنه يجب أن يخاف ويرجى، فبين تعالى أنه يعلم السر وأخفي، وانه إذا كان كذلك يجب أن يكون المرء حذرا خائفا فيما يأتي ويترك.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 9/476.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ قد مضى في البقرة اشتقاق ﴿النَّاسِ﴾ ومعنى التقوى والرب والخلق والزوج والبث، فلا معنى للإعادة وفي الآية تنبيه على الصانع:

أ. قال: ﴿وَاحِدَةٌ﴾ على تأنيث لفظ النفس، ولفظ النفس يؤنث وإن عني به مذكر، ويجوز في الكلام من نفس واحد وهذا على مراعاة المعنى، إذ المراد بالنفس آدم صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله مجاهد وقتادة، وهي قراءة ابن أبي عبلة ﴿وَاحِدٌ﴾ بغير هاء.

ب. ﴿وَبَثَّ﴾ معناه فرق ونشر في الأرض، ومنه ﴿وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾ وقد تقدم في البقرة، و﴿مِنْهُمَا﴾ يعني آدم وحواء، قال مجاهد: خلقت حواء من قصيرى آدم، وفي الحديث: (خلقت المرأة من ضلع عوجاء)، وقد مضى في البقرة.

ج. ﴿رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ حصر ذريتهما في نوعين، فاقتضى أن الخنثى ليس بنوع، لكن له حقيقة ترده إلى هذين النوعين وهي الآدمية فيلحق بأحدهما، على ما تقدم ذكره في البقرة من اعتبار نقص الأعضاء وزيادتها.

2. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ كرر الاتقاء تأكيدا وتنبيها لنفوس المأمورين، و﴿الَّذِي﴾ في موضع نصب على النعت، و﴿الْأَرْحَامِ﴾ معطوف، أي اتقوا الله أن تعصوه، واتقوا الأرحام أن تقطعوها.

3. قرأ أهل المدينة ﴿تَسَاءَلُونَ﴾ بإدغام التاء في السين، وأهل الكوفة بحذف التاء، لاجتماع تاءين، وتخفيف السين، لأن المعنى يعرف، وهو كقوله: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ﴾ و﴿تَنَزَّلُ﴾ وشبهه.

4. قرأ إبراهيم النخعي وقتادة والأعمش وحمزة ﴿الْأَرْحَامِ﴾ بالخفض، وقد تكلم النحويون في ذلك، فأما البصريون فقال رؤساؤهم: هو لحن لا تحل القراءة به، وأما الكوفيون فقالوا: هو قبيح، ولم يزيدوا على هذا ولم يذكروا علة قبحه، قال النحاس: فيما علمت، وقال سيبويه: لم يعطف على المضمر المخفوض، لأنه بمنزلة التنوين، والتنوين لا يعطف عليه، وقال جماعة: هو معطوف على المكني، فإنهم كانوا يتساءلون بها، يقول الرجل: سألتك بالله والرحم، هكذا فسره الحسن والنخعي ومجاهد، وهو الصحيح في المسألة، على ما يأتي، وضعفه أقوام منهم الزجاج، وقالوا: يقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإظهار الخافض، كقوله ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾ ويقبح (مررت به وزيد)، قال الزجاج عن المازني: لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان، يحل كل واحد منهما محل صاحبه، فكما لا يجوز مررت بزيد وكـ (كذلك لا يجوز مررت بك وزيد)، وأما سيبويه فهي عنده قبيحة ولا تجوز إلا في الشعر، كما قال:

çفاليوم قربت تهجونا وتشتمنا...فاذهب فما بك والأيام من عجبé

عطف ﴿الْأَيَّامِ﴾ على الكاف في ﴿بِكَ﴾ بغير الباء للضرورة، وكذلك قول الآخر:

çنعلق في مثل السواري سيوفنا...وما بينها والكعب مهوى نفانفé

عطف الكعب) على الضمير في ﴿بَيْنَهَا﴾ ضرورة، وقال أبو علي: ذلك ضعيف في القياس، وفي كتاب التذكرة المهدية عن الفارسي أن أبا العباس المبرد قال: لو صليت خلف إمام يقرأ (ما أنتم بمصرخي) (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) لأخذت نعلي ومضيت، قال الزجاج: قراءة حمزة مع ضعفها وقبحها في العربية خطأ عظيم في أصول أمر الدين، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لا تحلفوا بآبائكم) فإذا لم يجز الحلف بغير الله فكيف يجوز بالرحم، ورأيت إسماعيل بن إسحاق يذهب إلى أن الحلف بغير الله أمر عظيم، وأنه خاص لله تعالى، قال النحاس: وقول بعضهم ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ قسم خطأ من المعنى والإعراب، لأن الحديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّمة يدل على النصب.

5. روى شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى جاء قوم من مضر حفاة عراة، فرأيت وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يتغير لما رأى من فاقتهم، ثم صلى الظهر وخطب الناس فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾، إلى: ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾، ثم قال: تصدق رجل بديناره تصدق رجل بدرهمه تصدق رجل بصاع تمره) وذكر الحديث، فمعنى هذا على النصب، لأنه حضهم على صلة أرحامهم، وأيضا فقد صح عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)، فهذا يرد قول من قال: المعنى أسألك بالله وبالرحم، وقد قال أبو إسحاق: (معنى ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ يعني تطلبون حقوقكم به، ولا معنى للخفض أيضا مع هذا)

6. هذا ما وقفت عليه من القول لعلماء اللسان في منع قراءة ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ بالخفض، واختاره ابن عطية، ورده الإمام أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري، واختار العطف فقال: ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين، لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تواترا يعرفه أهل الصنعة، وإذا ثبت شي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، واستقبح ما قرأ به، وهذا مقام محذور، ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو، فإن العربية تتلقى من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا يشك أحد في فصاحته، وأما ما ذكر من الحديث ففيه نظر، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لأبي العشراء: (وأبيك لو طعنت في خاصرته)، ثم النهي إنما جاء في الحلف بغير الله، وهذا توسل إلى الغير بحق الرحم فلا نهي فيه، قال القشيري: (وقد قيل هذا إقسام بالرحم، أي اتقوا الله وحق الرحم، كما تقول: افعل كذا وحق أبيك، وقد جاء في التنزيل: ﴿وَالنَّجْمُ﴾، والطور، والتين، لعمرك.. وهذا تكلف)، لا تكلف فيه فإنه لا يبعد أن يكون ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ من هذا القبيل، فيكون أقسم بها كما أقسم بمخلوقاته الدالة على وحدانيته وقدرته تأكيدا لها حتى قرنها بنفسه، والله أعلم، ولله أن يقسم بما شاء ويمنع ما شاء ويبيح ما شاء، فلا يبعد أن يكون قسما، والعرب تقسم بالرحم.

ويصح أن تكون الباء مرادة فحذفها كما حذفها في قوله:

çمشائيم ليسوا مصلحين عشيرة...ولا ناعب إلا ببين غرابهاé

فجر وإن لم يتقدم باء، قال ابن الدهان أبو محمد سعيد بن مبارك: والكوفي يجيز عطف الظاهر على المجرور ولا يمنع منه، ومنه قوله:

çآبك أيه بي أو مصدر...من حمر الجلة جأب حشورé

ومنه: (فاذهب فما بك والأيام من عجب)، وقول الآخر: (وما بينها والكعب غوط نفانف) ومنه: (فحسبك والضحاك سيف مهند) وقول الآخر:

çوقد رام آفاق السماء فلم يجد...له مصعدا فيها ولا الأرض مقعداé

وقول الآخر:

çما إن بها والأمور من تلف...ما حم من أمر غيبه وقعاé

وقول الآخر:

çأمر على الكتيبة لست أدري...أحتفي كان فيها أم سواهاé

فمجرور الموضع بفي، وعلى هذا حمل بعضهم قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ﴾ فعطف على الكاف والميم.

7. قرأ عبد الله بن يزيد ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ بالرفع على الابتداء، والخبر مقدر، تقديره: والأرحام أهل أن توصل، ويحتمل أن يكون إغراء، لأن من العرب من يرفع المغرى، وأنشد الفراء:

çإن قوما منهم عمير وأشبا...هـ عمير ومنهم السفاح

لجديرون باللقاء إذا قا...ل أخو النجدة السلاح السلاحé

وقد قيل: إن ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ بالنصب عطف على موضع به، لأن موضعه نصب، ومنه قوله: (فلسنا بالجبال ولا الحديدا) وكانوا يقولون: أنشدك بالله والرحم، والأظهر أنه نصب بإضمار فعل كما ذكرنا.

8. اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة، وقد صح أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لأسماء وقد سألته (أأصل أمي): (نعم صلي أمك) فأمرها بصلتها وهي كافرة، فلتا كيدها دخل الفضل في صلة الكافر، حتى انتهى الحال بأبي حنيفة وأصحابه فقالوا بتوارث ذوي الأرحام إن لم يكن عصبة ولا فرض مسمى، ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرحم، وعضدوا ذلك بما رواه أبو داوود أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من ملك ذا رحم محرم فهو حر)، وهو قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة، وهو قول الحسن البصري وجابر بن زيد وعطاء والشعبي والزهري، وإليه ذهب الثوري وأحمد وإسحاق، ولعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال:

أ. الأول: أنه مخصوص بالآباء والأجداد.

ب. الثاني: الجناحان يعني الإخوة.

ج. الثالث: كقول أبي حنيفة، وقال الشافعي: لا يعتق عليه إلا أولاده وآباؤه وأمهاته، ولا يعتق عليه إخوته ولا أحد من ذوي قرابته ولحمته.

9. الصحيح الأول للحديث الذي ذكرناه وأخرجه الترمذي والنسائي، وأحسن طرقه رواية النسائي له، رواه من حديث ضمرة عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من ملك ذا رحم محرم فقد عتق عليه)، وهو حديث ثابت بنقل العدل عن العدل ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بعلة توجب تركه، غير أن النسائي قال في آخره: هذا حديث منكر، وقال غيره: تفرد به ضمرة، وهذا هو معنى المنكر والشاد في اصطلاح المحدثين، وضمرة عدل ثقة، وانفراد الثقة بالحديث لا يضره، والله أعلم.

10. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بالأرحام والعتق، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.

11. ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ الرحم اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره، وأبو حنيفة يعتبر الرحم المحرم في منع الرجوع في الهبة، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام مع أن القطيعة موجودة والقرابة حاصلة، ولذلك تعلق بها الإرث والولاية وغيرهما من الأحكام، فاعتبار المحرم زيادة على نص الكتاب من غير مستند، وهم يرون ذلك نسخا، سيما وفيه إشارة إلى التعليل بالقطيعة، وقد جوزوها في حق بني الأعمام وبني الأخوال والخالات.

12. ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ أي حفيظا، عن ابن عباس ومجاهد، ابن زيد: عليما، وقيل: ﴿رَقِيبًا﴾ حافظا، قيل: بمعنى فاعل، فالرقيب من صفات الله تعالى، والرقيب: الحافظ والمنتظر، تقول: رقبت أرقب رقبة ورقبانا إذا انتظرت، والمرقب: المكان العالي المشرف، يقف عليه الرقيب، والرقيب: السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء.. ويقال: إن الرقيب ضرب من الحيات، فهو لفظ مشترك.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/2.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. المراد بالناس: الموجودون عند الخطاب من بني آدم، ويدخل من سيوجد، بدليل خارجي، وهو الإجماع على أنهم مكلفون بما كلف به الموجودون، أو تغليب الموجودين على من لم يوجد، كما غلب الذكور على الإناث في قوله: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ لاختصاص ذلك بجمع المذكر، والمراد بالنفس الواحدة هنا: آدم، وقرأ ابن أبي عبلة: واحد، بغير هاء، على مراعاة المعنى، فالتأنيث: باعتبار اللفظ، والتذكير: باعتبار المعنى.

2. ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ قيل: هو معطوف على مقدر يدل عليه الكلام، أي: خلقكم من نفس واحدة خلقها أولا، وخلق منها زوجها؛ وقيل: على: خلقكم، فيكون الفعل الثاني داخلا مع الأوّل في حيز الصلة، والمعنى: وخلق من تلك النفس التي هي عبارة عن آدم زوجها، وهي حواء، وقد تقدم في البقرة معنى: التقوى، والربّ، والزوج، والبث.

3. الضمير في قوله: ﴿مِنْهَا﴾ راجع إلى آدم وحواء المعبر عنهما بالنفس والزوج، وقوله: ﴿كَثِيرًا﴾ وصف مؤكد، تفيده صيغة الجمع، لكونها من جموع الكثرة، وقيل: هو نعت لمصدر محذوف، أي: بثا كثيرا، وقوله: ﴿وَنِسَاءٌ﴾ أي: كثيرة، وترك التصريح به استغناء بالوصف الأوّل.

4. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾: قرأ أهل الكوفة بحذف التاء الثانية، وأصله تتساءلون، تخفيفا لاجتماع المثلين، وقرأ أهل المدينة، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، بإدغام التاء في‏ السين؛ والمعنى: يسأل بعضكم بعضا بالله والرحم، فإنهم كانوا يقرنون بينهما في السؤال والمناشدة، فيقولون: أسألك بالله والرحم، وأنشدك الله والرحم، وقرأ النخعي، وقتادة، والأعمش، وحمزة: ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ بالجر، وقرأ الباقون بالنصب.

5. اختلف أئمة النحو في توجيه قراءة الجر، فأما البصريون فقالوا: هي لحن لا تجوز القراءة بها، وأما الكوفيون فقالوا: هي قراءة قبيحة، قال سيبويه في توجيه هذا القبح: إن المضمر المجرور بمنزلة التنوين، والتنوين لا يعطف عليه، وقال الزجاج وجماعة: بقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإعادة الخافض كقوله تعالى: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾ وجوز سيبويه ذلك في ضرورة الشعر، وأنشد:

çفاليوم قرّبت تهجونا وتمدحنا...فاذهب فما بك والأيّام من عجب‏é

ومثله قول الآخر:

çنعلّق في مثل السّواري سيوفنا...وما بينها والكعب مهوى‏é

وقول الآخر:

çأكرّ على الكتيبة لست أدري‏...أحتفي كان فيها أم سواهاé

فسواها: في موضع جرّ عطفا على الضمير في فيها، ومنه قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ﴾

6. أما قراءة النصب فمعناها واضح جليّ، لأنه عطف الرحم على الاسم الشريف، أي: اتقوا الله واتقوا الأرحام فلا تقطعوها، فإنهما مما أمر الله به أن يوصل؛ وقيل: إنه عطف على محل الجار والمجرور في قوله: ﴿بِهِ﴾ كقولك مررت بزيد وعمرا، أي: اتقوا الله الذي تساءلون به وتتساءلون بالأرحام، والأوّل أولى.

7. قرأ عبد الله بن يزيد: والأرحام بالرفع على الابتداء، والخبر مقدّر، أي: والأرحام صلوها، أو: والأرحام أهل أن توصل، وقيل: إن الرفع على الإغراء عند من يرفع به، ومنه قول الشاعر:

çإنّ قوما منهم عمير وأشبا...ه عمير ومنهم السّفّاح‏

لجديرون باللّقاء إذا قا...ل أخو النّجدة: السّلاح السّلاح‏é

8. الأرحام: اسم لجميع الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره، لا خلاف في هذا بين أهل الشرع، ولا بين أهل اللغة، وقد خصص أبو حنيفة وبعض الزيدية الرحم بالمحرم في منع الرجوع في الهبة؛ مع موافقتهم على أن معناها أعم، ولا وجه لهذا التخصيص، قال القرطبي: اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة، وأن قطيعتها محرّمة، انتهى، وقد وردت بذلك الأحاديث الكثيرة الصحيحة، والرقيب: المراقب، وهي صيغة مبالغة، يقال: رقبت، أرقب، رقبة ورقبانا: إذا انتظرت.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/480.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يآ أيُّها النَّاسُ﴾ الموجودون المكلَّفون من نزول الآية إلى القيامة، أهل مكَّة وغيرهم، الذكور والإناث، فتناول الخطاب من سيوجد متوقِّفًا إلى وجوده وصلوحه للخطاب، كما تَكتب إلى أحد غائب بأمر ونهي فيصله الكتاب، وذلك بالحقيقة عند الحنابلة وعندي، كما ينزل الحكم بشرط غير موجود في الحين، أو بالتغليب للموجودين حين نزلت على من سيوجد، وفيه أنَّ الموجودين حين النزول لم يسمعوا الآيَة من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على الفور من نزولها مرَّةً، بل بعضٌ سمع اليوم وبعضٌ غدًا، وبعض بعد شهر أو سنة، وأقلَّ وأكثر، فمن لم يسمع كمن لم يوجد، أو بدليل خارجيٍّ، فإنَّ آخر الأمَّة مكلَّف بما كلِّف أوَّلها، ووضع الجزية عند نزول عيسى من أحكام هَذِهِ الأمَّة عند نزوله، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (الحلال ما جرى على لساني إلى يوم القيامة)، والخطاب شامل للعبيد في كلِّ ما كلِّفوا به كالصلاة، وما يرجع إلى سادتهم فإلى سادتهم.

2. ﴿اتَّقُوا ربَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم﴾ علَّل الاتِّقاء بكونه خالقا لهم، وذلك أنَّ الموصول كالمشتقِّ يؤذن بالعِلِّية، ومثل ذلك الخطاب الذي هو بصيغة الذكور شامل للنساء تغليبا، فتارة يدخلن تغليبا وتارة بصيغتهنَّ مثل: ﴿اِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ﴾ [الأحزاب: 35]، ومعنى قول أمِّ سلمة: (لم لا نذكر في القرآن): لِمَ لا نذكر بصيغ النساء؟ وبعد سؤالها ذُكِرن بها.

3. ﴿مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ هي آدم، وبقوله: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا﴾ من ضلعها الأيسر الأسفل، قال البخاري ومسلم عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (استوصوا بالنساء خيرًا فإنهنَّ خُلقن من ضلع، وإنَّ أعوج شيء من الضلع أعلاه، إن ذهبتَ تُقِيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج)، وبَطْلٌ للآية والحديث القول بأنَّها خُلقت من فضلة طينة آدم، إذ لا حاجة إلى دعوى المجاز، أي: وخلق من جنسها زوجها ولو اختاره أبو مسلم الأصفهاني في جعله كقوله تعالى: ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنَ اَنفُسِكُمُ أَزْوَاجًا﴾ [النحل: 72]، وقوله: ﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنَ اَنفُسِهِمْ﴾ [آل عمران: 164]، وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنَ اَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة: 128]، وعلمنا أنَّ الملائكة والدوابَّ والطير والجنَّ قبل آدم، ولا نعلم صحَّة ما قيل: إنَّ قبل آدم ألف ألف آدم، ولا ما قال ابن العربي: إنَّ قبل آدم بأربعين ألف سنة آدما غيره، وحكم (زين العرب) من قومنا بكفر من أثبت آدما آخر، ﴿زَوْجَهَا﴾ هي حوَّاء في الجنَّة على الصحيح، وهو قول ابن مسعود وابن عبَّاس، أو في الدنيا عند كعب الأحبار ووهب وابن إسحاق، ثمَّ دخلاها معًا، حملته الملائكة إلى الجنَّة، ولم يرو أنَّها محمولة، فهي تجري.

4. ﴿وَبَثَّ﴾ نشر ﴿مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَآءً﴾ أكثر بدليل أنَّ لِكُلِّ رجل أن يتزوَّج أربعا، وبدليل المشاهدة، والمراد الذكور والإناث، ولو أطفالا، مجازا، أو لم يذكر الأطفال لأَنَّ السورة في التكليف، فمن نعمته وقدرته كذلك، كيف لا يتَّقي ولا يشكر؟ وكيف يتظالم عبيده مع أنَّهم إخوة بخلقهم من أب وأمٍّ!؟.. وليست حوَّاء أختا لنا؛ لأنَّها خرجت من آدم بغير طريق البنوَّة، ولَمَّا كان زوجها حوَّاء متفرِّعة منها ـ أعني من النفس ـ وهي آدم، صحَّ أن يقال لمن تفرَّع منهما إنَّهم خلقوا من نفس واحدة، لأنَّهم منها ومنه، وهي منه، فرجعوا إليه برجوعها إليه.

5. بدأ السورة بالتقوى لاشتمالها على المشاقِّ من القتال والطهارة والصلاة، وغير ذلك مِمَّا يكون الحامل على أدائه اتِّقاء عذاب الآمر القادر، ومن شأن الرجال البروز، وقد برزوا وظهرت كثرتهم، فوصفهم بها دون النساء ـ ولو كنَّ أكثر ـ لخفائهنَّ الذي هو من شأنهنَّ، وهنَّ مَحْرَثٌ، ومن أراد كثرة الغلَّة أكثر المزارع.

6. ﴿وَاتَّقُوا﴾ أعاد لفظ (اتَّقُوا) للتأكيد، وقيل: الأوَّل للعموم وَهَذَا للعرب، وقيل: الأوَّل لغير العرب وَهَذَا للعرب، والصحيح العموم فيهما، وقيل: المراد فيهما العرب، وأمَّا غيرهم فتبع؛ لأَنَّ العرب هم الذين يتساءلون بالله، وليس كذلك.

7. ﴿اللهَ الَّذِي تَسَّآءَلُونَ﴾ تتساءلون، أبدلت التاء الثانية سينا وأدغمت، ﴿بِهِ﴾ أي: يسأل بعضكم بعضا به، فيقول: افعل لوجه الله، أو: لا تفعل لوجه الله، فهذا سؤال بالله، كما أنَّ قولك: أسالك بالله، سؤال، والتفاعل على أصله، يسألك وتسأله، أو بمعنى الثلاثيِّ، كما قرأ ابن مسعود ثلاثيَّا، ودلَّت الآيَة على جواز السؤال بالله، وخصَّته السنَّة بالحاجة، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من سألكم بالله ومن سألكم بالرحم فأعطوه)، وعن البراء: (أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بسبع، منها: إبرار القسم)، أي: بقضاء حاجة من سألك بالله.

8. ﴿وَالَارْحَامَ﴾ عطف على لفظ الجلالة، أو يقدَّر: صِلوا الأرحام، أمر باتِّقاء الأرحام، أي: اتَّقوا قطع الأرحام، وهو ترك وصلها، أو اتِّقاؤها هو نفس وصلها، كما يستعمل تقوى الله بمعنى عدم مخالفته، أي: احفظوها، ولا يعطف على هاء (به)؛ لأنَّه لا يجوز مررت بعمرو ووجدت زيدا في الفصيح على الصحيح.

9. ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ يحاسبكم ولا يخفى عنه شيء.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/104.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ أي اخشوه أن تخالفوه فيما أمركم به أو نهاكم عنه، ثم نبههم على اتصافه بكمال القدرة الباهرة، لتأييد الأمر بالتقوى وتأكيد إيجاب الامتثال به على طريق الترغيب والترهيب، بقوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ أي فرّعكم من أصل واحد وهو نفس أبيكم آدم، وخلقه تعالى إياهم على هذا النمط البديع مما يدل على القدرة العظيمة، ومن قدر على نحوه كان قادرا على كل شيء، ومنه عقابهم على معاصيهم، فالنظر فيه يؤدي إلى الاتقاء من موجبات نقمته، وكذا جعله تعالى إياهم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة من موجبات الاحتراز عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوة، كما ينبئ عنه ما يأتي من الإرشاد إلى صلة الأرحام، ورعاية حال الأيتام، والعدل في النكاح وغير ذلك.

2. ثبت في صحيح مسلم‏ من حديث جرير بن عبد الله البجليّ‏ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ حين قدم عليه أولئك النفر من مضر، وهم مجتابو النمار (أي من عريهم وفقرهم) قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ حتى ختم الآية، ثم قال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر: 18]، ثم حضهم على الصدقة فقال: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره، وذكر تمام الحديث، وهكذا رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة، وفيها: ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ الآية.

3. ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أي من نفسها، يعني من جنسها ليكون بينهما ما يوجب التآلف والتضامّ، فإن الجنسية علة الضم، وقد أوضح هذا بقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21]

4. ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا﴾ أي نشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها، بطريق التوالد والتناسل، ﴿رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ أي كثيرة، وترك التصريح بها للاكتفاء بالوصف المذكور.

5. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ تكرير للأمر وتذكير لبعض آخر من موجبات الامتثال به، فإن سؤال بعضهم بعضا بالله تعالى بأن يقولوا: أسألك بالله وأنشدك الله، على سبيل الاستعطاف، يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه، وتعليق الاتقاء بالاسم الجليل لمزيد التأكيد والمبالغة في الحمل على الامتثال بتربية المهابة وإدخال الروعة، ولوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته.

6. ﴿تَسَاءَلُونَ﴾ أصله تتساءلون، فطرحت إحدى التاءين تخفيفا، وقرئ بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس، وقرئ تسألون (من الثلاثيّ) أي تسألون به غيركم، وقد فسر به القراءة الأولى الثانية، وحمل صيغة التفاعل على اعتبار الجمع، كما في قولك رأيت الهلال وتراءيناه ـ أفاده أبو السعود ـ

7. ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ قرأ حمزة بالجر عطفا على الضمير المجرور، والباقون بالنصب عطفا على الاسم الجليل، أي اتقوا الله والأرحام أن تقطعوها، فإن قطيعتها مما يجب أن يتقى، أو عطفا على محل الجار والمجرور، كقولك مررت بزيد وعمرا، وينصره قراءة ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ فإنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله عز وجل، ويقولون: أسألك بالله وبالرحم، ولقد نبه سبحانه وتعالى، حيث قرنها باسمه الجليل، على أن صلتها بمكان منه، كما في قوله تعالى: ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23]، وقال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ [النساء: 36]:

أ. وقد روى الشيخان‏ عن عائشة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: الرحم معلقة بالعرش، تقول: (من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله)

ب. ورويا أيضا عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لا يدخل الجنة قاطع)، قال سفيان في روايته: يعني قاطع رحم.

ج. وروى البخاري‏ عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)

د. ورويا عن أبي هريرة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه‏، والأحاديث في الترغيب بصلة الرحم وترهيب من قطيعتها كثيرة.

8. دلت الآية على جواز المسألة بالله تعالى، كذا قاله الرازيّ، ووجهه أنه تعالى أقرهم على هذا التساؤل، لكونهم يعتقدون عظمته، ولم ينكره عليهم، نعم من أداه التساؤل باسمه تعالى إلى التساهل في شأنه وجعله عرضة لعدم إجلاله ووسيلة للأبواب الساسانية، فهذا محظور قطعا، وعليه يحمل ما ورد من لعن من سأل بوجه الله، كما سنذكره، وقد ورد في هذا الباب أحاديث وافرة، منها:

أ. عن ابن عمر قال:‏ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه ومن دعاكم فأجيبوه ومن أتى عليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى‏ تعلموا أن قد كافأتموه)، رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم.

ب. وروى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عباس مرفوعا: (من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بوجه الله فأعطوه)

ج. وعن ابن عمر مرفوعا: (من سئل بالله فأعطى كتب له سبعون حسنة)، رواه البيهقيّ بإسناد ضعيف.

د. وفي البخاري‏ عن البراء بن عازب: (أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بسبع)، وذكر منها: وإبرار القسم.‏

هـ. وروى أبو داود والضياء في (المختارة) بإسناد صحيح عن جابر مرفوعا: لا يسأل بوجه الله تعالى إلا الجنة.

و. وروى الطبرانيّ عن أبي موسى الأشعريّ مرفوعا: ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأل هجرا، قال السيوطيّ: إسناده حسن، وقال الحافظ المنذريّ: رجاله رجال الصحيح إلا شيخه (يعني الطبرانيّ) يحيى بن عثمان بن صالح، وهو ثقة وفيه كلام، وهجرا (بضم الهاء وسكون الجيم) أي ما لم يسأل أمرا قبيحا لا يليق، ويحتمل أنه أراد ما لم يسأل سؤالا قبيحا بكلام قبيح، انتهى.

ز. وعن أبي عبيدة، مولى رفاعة، عن رافع أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (ملعون من سأل بوجه الله وملعون من سئل بوجه الله فمنع سائله) رواه الطبراني.

ح. وعن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: ألا أخبركم بشر الناس؟ رجل يسأل بوجه الله ولا يعطي، رواه الترمذيّ، وقال: حسن غريب، والنسائيّ وابن حبان في صحيحه.

ط. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: ألا أخبركم بشر البرية؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الذي يسأل بالله ولا يعطي‏.

9. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ أي مراقبا لجميع أحوالكم وأعمالكم، يراها ويعلمها فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، كما قال والله على كل شيء شهيد، وفي الحديث‏: (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وهذا إرشاد وأمر بمراقبته تعالى، فعلى المرء أن يراقب أحوال نفسه ويأخذ حذره من أن ينتهز الشيطان منه فرصة فيهلك على غفلة.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/6.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال محمد عبده: افتتح سبحانه السورة بتذكير الناس المخاطبين بأنهم من نفس واحدة فكان هذا تمهيدا وبراعة مطلع لما في السورة من أحكام القرابة بالنسب والمصاهرة وما يتعلق بذلك من أحكام الأنكحة والمواريث فبين القرابة العامة بالإجمال ثم ذكر الأرحام، وشرع بعد ذلك في تفصيل الأحكام المتعلقة بها، وسميت سورة النساء لأنها افتتحت بذكر النساء، وبعض الأحكام المتعلقة بهن.

2. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ خطاب عام ليس خاصا بقوم دون قوم فلا وجه لتخصيصها بأهل مكة كما فعل المفسر (الجلال) لا سيما مع العلم بأن السورة مدنية إلا آية واحدة فيها شك، هل هي مدنية أم مكية، ولفظ (الناس) اسم لجنس البشر، قيل أصله (أناس) فحذفت الهمزة عند إدخال الألف واللام عليه.

3. عزا الرازي القول بأن الخطاب لأهل مكة إلى ابن عباس، وقال: وأما الأصوليون من المفسرين فقد اتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلفين وهذا هو الأصح، وأيده بثلاثة وجوه: كون اللام في الناس للاستغراق وكون جميعهم مخلوقين ومأمورين بالتقوى، وأذكر أن أقدم عبارة سمعتها في التفسير فوعيتها وأنا صغير عن والدي رحمه الله هي قوله: إن الله تعالى كان ينادي أهل مكة بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ وأهل المدينة بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: 104] ولم يناد الكفار بوصف الكفر إلا مرة واحدة في سورة التحريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ﴾ [التحريم: 7] وهذا إخبار عما ينادون به في الآخرة.

4. كلمة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ كثيرة في السور المكية كالأعراف ويونس والحج والنمل والملائكة، ووردت أيضا في البقرة والنساء والحجرات من السور المدنية، فخطاب أهل مكة فيها هو الغالب وهو مع ذلك يعم غيرهم وورودها في السور المدنية يُراد به خطاب جميع المكلفين ابتداء، وما أظن أن ابن عباس قال في فاتحة النساء إنها خطاب لأهل مكة، بل يوشك أن يكون قد قال نحوا مما رويناه آنفا عن الوالد فتصرف فيه الناقلون وحملوه على كل فرد من أفراد هذا الخطاب حتى غلط فيه الجلال السيوطي في التفسير وإن حقق في الإتقان أن السورة مدنية.

5. ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ قد تقدم مثله كثيرا وآخره في آخر السورة السابقة، والمناسبة بين الأمر بتقوى رب الناس ومغذيهم بنعمه وبين وصفه بقوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ ظاهرة، فإن الخلق أثر القدرة، ومن كان متصفا بهذه القدرة العظيمة جدير بأن يتقى ويحذر عصيانه، كذا قال بعضهم، قال محمد عبده: وأحسن من هذا أن يُقال إن هذا تمهيد لما يأتي من أحكام اليتامى ونحوها كأنه يقول: يا أيها الناس خافوا الله واتقوا اعتداء ما وضعه لكم من حدود الأعمال، واعلموا أنكم أقرباء يجمعكم نسب واحد وترجعون إلى أصل واحد، فعليكم أن تعطفوا على الضعيف كاليتيم الذي فقد والده وتحافظوا على حقوقه، وفي ذكر لفظ الرب هنا ما هو داعية لهذا الاستعطاف أي ربوا اليتيم وصلوا الرحم كما رباكم خالقكم بنعمه وحاطكم بجوده وكرمه.

6. قال محمد عبده: ليس المراد بالنفس الواحدة آدم بالنص ولا بالظاهر، فمن المفسرين من يقول إن كل نداء مثل هذا يراد به أهل مكة أو قريش، فإذا صح هذا هنا جاز أن يفهم منه بنو قريش أن النفس الواحدة هي قريش أو عدنان، وإذا كان الخطاب للعرب عامة جاز أن يفهموا منه أن المراد بالنفس الواحدة يعرب أو قحطان، وإذا قلنا إن الخطاب لجميع أهل الدعوة إلى الإسلام أي لجميع الأمم فلا شك أن كل أمة تفهم منه ما تعتقده، والذين يعتقدون أن جميع البشر من سلالة آدم يفهمون أن المراد بالنفس الواحدة آدم، والذين يعتقدون أن لكل صنف من البشر أبا يحملون النفس على ما يعتقدون (والأصناف الكبرى هي الأبيض القوقاسي والأصفر المغولي والأسود الزنجي وغيره وبعض فروع هذا تكاد تكون أصولا كالأحمر الحبشي والهندي الأمريكي والملقي)

7. القرينة على أنه ليس المراد هنا بالنفس الواحدة آدم قوله: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ بالتنكير: وكان المناسب على هذا الوجه أن يقول: وبث منهما جميع الرجال والنساء، وكيف ينص على نفس معهودة والخطاب عام لجميع الشعوب وهذا العهد ليس معروفا عند جميعهم، فمن الناس من لا يعرفون آدم ولا حواء ولم يسمعوا بهما، وهذا النسب المشهور عند ذرية نوح مثلا هو مأخوذ عن العبرانيين فإنهم هم الذين جعلوا للبشر تاريخا متصلا بآدم وحددوا له زمنا قريبا، وأهل الصين ينسبون البشر إلى أب آخر ويذهبون بتاريخه إلى زمن أبعد من الزمن الذي ذهب إليه العبرانيون، والعلم والبحث في آثار البشر مما يطعن في تاريخ العبرانيين ونحن المسلمين لا نكلف تصديق تاريخ اليهود وإن عزوه إلى موسى عليه السلام فإنه لا ثقة عندنا بأنه من التوراة وأنه بقي كما جاء به موسى.

8. نحن لا نحتج على ما وراء مدركات الحس والعقل إلا بالوحي الذي جاء به نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم وإننا نقف عند هذا الوحي لا نزيد ولا ننقص كما قلنا مرات كثيرة، وقد أبهم الله تعالى ههنا أمر النفس التي خلق الناس منها وجاء بها نكرة فندعها على إبهامها، فإذا ثبت ما يقوله الباحثون من الإفرنج أن لكل صنف من أصناف البشر أبا كان ذلك غير وارد على كتابنا كما يرد على كتابهم التوراة لما فيها من النص الصريح في ذلك وهو ما حمل باحثيهم على الطعن في كونها من عند الله تعالى ووحيه.

9. ما وردت في آيات أخرى من مخاطبة الناس بقوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾) لا ينافي هذا ولا يعد نصا قاطعا في كون جميع البشر من أبنائه إذ يكفي في صحة الخطاب أن يكون من وجه إليهم في زمن التنزيل من أولاد آدم، وقد تقدم في تفسير قصة آدم في أوائل سورة البقرة أنه كان في الأرض قبله نوع من هذا الجنس أفسدوا فيها وسفكوا الدماء.

10. أقول زيادة في الإيضاح: إذا كان جماهير المفسرين فسروا النفس الواحدة هنا بآدم فهم لم يأخذوا ذلك من نص الآية ولا من ظاهرها بل المسألة المسلمة عندهم وهي أن آدم أبو البشر، وقد اختلفوا في مثل هذا التعبير من قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ [الأعراف: 189] الآية، فقد ذكر الرازي في تفسيرها ثلاثة تأويلات:

أ. الأول: ما ذكره عن القفال؛ وهو أنه تعالى ذكر هذه القصة على سبيل ضرب المثل، والمراد خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية الخ.

ب. الثاني: أن الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم آل قصي؛ وأن المراد بالنفس الواحدة قصي.

ج. الثالث: أن النفس الواحدة آدم، وأجاب عما يرد من وصفه هو وزوجه بالشرك، وقد تقدم في سورة البقرة توجيه كون قصة آدم نفسها من قبيل التمثيل الذي حمل القفال عليه آية سورة الأعراف.

11. نقل عن الإمامية والصوفية أنه كان قبل آدم المشهور عند أهل الكتاب وعندنا آدمون كثيرون قال في روح المعاني: وذكر صاحب جامع الأخبار من الإمامية في الفصل الخامس عشر خبرا طويلا نقل فيه أن الله تعالى خلق قبل أبينا آدم ثلاثين آدم بين كل آدم وآدم ألف سنة وان الدنيا بقيت خرابا بعدهم خمسين ألف سنة ثم عمرت خمسين ألف سنة ثم خلق أبونا آدم عليه السلام؛ وروى ابن بابويه في كتاب التوحيد عن الصادق في حديث طويل أيضا أنه قال: لعلك ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم؛ بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين؛ وقال الميثم في شرحه الكبير للنهج: ونقل عن محمد بن علي الباقر أنه قال: قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر، وذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته ما يقتضي بظاهره أن قبل آدم بأربعين ألف سنة آدم غيره، وفي كتاب الخصائص (لابن بابويه كما في الهامش) ما يكاد يفهم التعدد أيضا الآن حيث روى فيه عن الصادق أنه قال: إن لله تعالى اثنى عشر ألف عالم كل عالم منهم أكبر من سبع سموات وسبع أرضين ما يرى عالم منهم أن الله عز وجل عالما غيرهم.

12. في المسألة نقول أخرى في الفتوحات وغيرها ثم نقل عن زين العرب القول بكفر من يقول بتعدد آدم، وهذا من جرأته وجرأة أمثاله يتهجمون على تكفير المسلمين لأوهى الشبهات.

13. لمحمد عبده في هذا المقام رأيان:

أ. أحدهما: أن ظاهر هذه الآية يأبى أن يكون المراد بالنفس الواحدة آدم أي سواء كان هو الأب لجميع البشر أم لا، لما ذكره من معارضة المباحث العلمية والتاريخية له، ومن تنكير ما بثه منها ومن زوجها، على أنه يمكن الجواب عن هذا الأخير بأن التنكير لمن ولد منهما مباشرة، كأنه يقول بث منهما كثيرا من الرجال والنساء وبث من هؤلاء سائر الناس، وعن الأول بأنه لا يزال غير قطعي.

ب. وثانيهما: أنه ليس في القرآن نص أصولي قاطع على أن جميع البشر من ذرية آدم، والمراد بالبشر هنا هذا الحيوان الناطق البادي البشرة المنتصب القامة الذي يطلق عليه لفظ الإنسان، وعلى هذا الرأي لا يرد على القرآن ما يقوله بعض الباحثين ومن اقتنع قولهم من أن للبشر عدة آباء ترجع إليهم سلائل كل صنف منهم.

14. ما ذهب إليه محمد عبده يرد الشبهات التي ترد في هذا المقام، ولكنه لا يمنع المعتقدين أن آدم هو أبو البشر كلهم من اعتقادهم هذا، لأنه لا يقول إن القرآن ينفي هذا الاعتقاد، وإنما يقول إنه لا يثبته إثباتا قطعيا لا يحتمل التأويل، وقد صرحنا بهذا لأن بعض الناس كان فهم من درسه أنه يقول إن القرآن ينافي هذا الاعتقاد أي اعتقاد أن آدم أبو البشر كلهم، وهو لم يقل هذا تصريحا ولا تلويحا، وإنما بين أن ثبوت ما يقوله الباحثون في العلوم وآثار البشر وعادياتهم والحيوانات من أن للبشر عدة أصول ومن كون آدم ليس أبا لهم كلهم في جميع الأرض قديما وحديثا ـ كل هذا لا ينافي القرآن ولا يناقضه، ويمكن لمن ثبت عنده أن يكون مسلما مؤمنا بالقرآن، بل له حينئذ أن يقول لو كان القرآن من عند محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لما خلا من نص قاطع يؤيد الاعتقاد الشائع عن أهل الكتاب في ذلك، لكنه وهو من عند الله جاء في ذلك بما لم تستطع اليهود أن تعارضه من قبل بدعوى مخالفته لكتبهم، ولم يستطع الباحثون أن يعارضوه من بعد لمخالفته ما ثبت عندهم، وليت شعري ماذا يقول الذين يذهبون إلى أن المسألة قطعية بنص القرآن فيمن يوقن بدلائل قامت عنده بأن البشر من عدة أصول؟ هل يقولون إذا أراد أن يكون مسلما وتعذر عليه ترك يقينه في المسألة: إنه لا يصح إيمانه ولا يقبل إسلامه وإن أيقن بأن القرآن كلام الله وأنه لا نص فيه يعارض يقينه؟؟

15. المتبادر من لفظ النفس بصرف النظر عن الروايات والتقاليد المسلمات أنها هي الماهية أو الحقيقة التي كان بها الإنسان هو هذا الكائن الممتاز على غيره من الكائنات، أي خلقكم من جنس واحد وحقيقة واحدة ولا فرق في هذا بين أن تكون هذه الحقيقة بدئت بآدم كما عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين أو بدئت بغيره وانقرضوا، كما قال بعض الشيعة والصوفية، أو بدئت بعدة أصول انبث منها عدة أصناف، كما عليه بعض الباحثين، ولا بين أن تكون هذه الأصول أو الأصل مما ارتقى عن بعض الحيوانات أو خلق مستقلا على ما عليه الخلاف بين الناس في هذا العصر، والله تعالى يقول في سورة المؤمنين: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ [المؤمنون: 12] الآيات، وسنبين في تفسيرها أو تفسير سورة الحجر ما يفيده مجموع الآيات المنزلة في خلق الإنسان من كيفية تكوينه.

16. على كل حال وكل قول يصح أن جميع الناس هم من نفس واحدة هي الإنسانية التي كانوا بها ناسا، وهي التي يتفق الذين يدعون إلى خير الناس وبرهم ودفع الأذى عنهم على كونها هي الحقيقة الجامعة لهم، فتراهم على اختلافهم في أصل الإنسان يقولون عن جميع الاجناس والأصناف إنهم إخوتنا في الإنسانية فيعدون الإنسانية مناط الوحدة وداعية الألفة والتعاطف بين البشر سواء اعتقدوا أن أباهم آدم عليه السلام أو القرد أو غير ذلك، وهذا المعنى هو المراد من تذكير الناس بأنهم من نفس واحدة لأنه مقدمة للكلام في حقوق الأيتام والأرحام، وليس كلاما مستقلا لبيان مسائل الخلق والتكوين بالتفصيل لأن هذا ليس من مقاصد الدين، وبهذا التفسير ينحل ما سيأتي من الإشكال اللفظي بأوضح مما حلوه به.

17. أما حقيقة النفس التي يحيا به الإنسان وتتحقق وحدة جنسه على كثرة أصنافه فقد اختلف فيها المسلمون كما اختلف فيها من قبلهم ومن بعدهم، فقال بعضهم: هي عرض من أعراض البدن لا استقلال لها بنفسها بل هي الحياة، وقال الجمهور بل هي جوهر قال بعضهم مادي وبعضهم إنه مجرد عن المادة، وقيل: هي جزء من البدن، وقيل جسم مودع فيه، واختلف في الروح، فقيل هي النفس وقيل غيرها، وقال بعضهم بالوقف وعدم جواز الكلام في حقيقة الروح، كل هذه الأقوال نقلت عن علماء المسلمين من أهل الكلام والفلسفة والتصوف، ولم يكن يكفر أحد منهم أحدا بمذهبه فيها، ومن الغرائب أن القول بأن الروح عرض من أعراض الجسم هو الحياة منقول عن القاضي أبي بكر الباقلاني وأتباعه من متكلمي الأشاعرة، وهو مع ذلك يعد من أئمة أهل السنة الأشاعرة وروي عن الإمام مالك أن الروح صورة كالجسد، وقال أبو عبد الله بن القيم في تعريف الروح وشرح حقيقته على مذهب أهل السنة: إنه جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم، فمادامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف مشابكا لهذه الأعضاء، أفادها هذه الآثار الفائضة عليها من الحس والحركة الإرادية وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأجزاء الغليظة عليها وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن وانفصل إلى عالم الأرواح.

18. إن أقوى النظريات الفلسفية في إثبات الروح أو النفس ـ وهما يطلقان على معنى واحد ـ هي أن العقل والحفظ والذكر (بالضم أي الذاكرة) ليست من صفات هذا الجسد أو أجزاء ماهيته، وهي أمور ثابتة قطعا فلا بد لها من منشأ وجودي غير هذا الجسد الكثيف حتى أن الدماغ الذي هو مظهرها تنحل دقائقه حتى يندثر ويزول ثم يتجدد المرة بعد المرة وتبقى المدركات محفوظة في النفس تفيضها على الدماغ الجديد بعد زوال ما قبله فيتذكرها الإنسان عند الحاجة إليها، وقد عبر الأقدمون عن منشئها الوجودي الذي لا بد أن يكون لطيفا خفيا للطافته بالنفس (بسكون الفاء) وبالروح (بضم الراء)، وهما قريبا المعنى يدلان على ألطف الموجودات المعروفة عند كل الناس، فالروح (بالضم) والرَّوح (بالفتح) الذي هو التنفس واحد في الأصل وكلاهما من مادة الريح فإن ياء الريح واو قلبت ياء لانكسار ما قبلها، فقد أطلقوا على هذا المعنى اللطيف الذي هو منشأ الإدراك والحياة اسمين من أسماء ألطف الموجودات المدركة لهم.

19. لو كان الواضعون لهذين الاسمين يعرفون ما يعرفه أهل هذا الزمان من الموجودات التي هي ألطف من الريح والنفس كالأدروجين والكهرباء لأطلقوا لفظهما أو لفظا مشتقا منهما على منشأ الحياة والإدراك وسببهما، ألا ترى أن سائقي المركبات الكهربائية (الترام) وغيرهم يعبرون عن التيار الكهربائي الذي تسير به هذه المركبات بالنفس (بفتح الفاء) فالتسمية لا تعين حقيقة المسمى وإنما تدل على أن الواضعين تخيلوا منشأ الحياة شيئا في منتهى اللطافة والخفاء مع قوة تأثيره وعظم آثاره، وإنما كان الفلاسفة هم الذين بحثوا كعادتهم عن حقيقة هذا الأمر ولا يزالون يبحثون، وقد قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85] أي إن قلة ما عندكم من العلم لا يمكنكم من معرفة حقيقة الروح، قال كثير من العلماء إن الآية تدل على أنه لا مطمع في معرفة حقيقة الروح، وأقول إنها لا تدل على ذلك بل تدل على أنه إذا أوتي الناس من العلم أكثر مما أوتي أولئك السائلون جاز أن يعرفوها.

20. لم أر موضحا أو مقربا لمعنى الروح والنفس في الإنسان كالتمثيل بالكهربائية، فالمادي الذي يقول إنه لا روح إلا هذا العرض الذي يسمى الحياة يشبه الجسد بالبطارية الكهربائية ويقول إنها بوضعها الخاص وبما يودع فيها من المواد تتولد فيها الكهربائية فإذا زال شيء من ذلك فقدت وكذلك تتولد الحياة في البدن بتركيب مزاجه بكيفية خاصة وبزوالها تزول، ويقول المعتقد استقلال الأرواح إن الجسد يشبه المركبة الكهربائية وشبهها من الآلات التي تدار بالكهرباء توجه إليها من المعمل المولد لها فإذا كانت الآلة على وضع خاص في أجزائها وأدواتها كانت مستعدة لقبول الكهربائية التي توجه إليها وأداء وظيفتها فيها وإن فقد منها بعض الأدوات الرئيسية أو اختل وضعها الخاص فارقتها الكهربائية ولم تعد تعمل بها، على أنهم كانوا يظنون أن الكهرباء قوة تعرض للمادة لا وجود لها في ذاتها فصاروا من عهد قريب يرجحون أنها هي أصل الموجودات كلها أي أنها موجودة بذاتها وكل المواد الأخرى موجودة بها ويقرب من هذا قول الروحيين إن الروح هي حقيقة الإنسان الثابتة وإن قوام الجسد بها فهي الحافظة لوجوده والمنظمة لشؤونه الحيوية فإذا فارقته انحل وعاد إلى بسائطه، وإنما يقال هذا باعتبار الأسباب والظواهر وإلى الله ترجع الأمور، وهذا المهب الجديد في الكهربائية قريب من مذهب أهل وحدة الوجود من الصوفية وربما كان سلما موصلا إليه؛ وسنعود إلى هذا المبحث فنبسط القول فيه على مذاهب أهل الفلسفة والعلوم الطبيعية لهذا العهد في موضع أليق به من هذا الموضع إن شاء الله تعالى.

21. أما قوله تعالى ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ فمعناه على الوجه الذي قررناه يظهر بطريق الاستخدام بحمل النفس على الجنس وإعادة الضمير عليه بمعنى أحد الزوجين، أو بجعل العطف على محذوف يناسب ذلك كما قال الجمهور، أي وحد تلك الحقيقة أولا ثم خلق لها زوجها من جنسها، ومعناه المراد عند الجمهور أن الله تعالى خلق لتلك النفس التي هي آدم زوجا منها وهي حواء، قالوا إنه خلقها من ضلعه الأيسر وهو نائم وذلك ما صرح به في الفصل الثاني من سفر التكوين، وورد في بعض الأحاديث، ولولا ذلك لم يخطر على بال قارئ القرآن، وهناك قول آخر اختاره أبو مسلم كما قال الرازي وهو أن معنى خلق منها زوجها خلقه من جنسها فكان مثلها، فهو كقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21] وقوله: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ [النحل: 17] وقوله: ﴿فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يدرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾ [الشورى: 11] ومن هذا القبيل قوله عز وجل: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: 128] وقوله: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [آل عمران: 164] ومثلهما في سورة البقرة وسورة الجمعة، فلا فرق بين عبارة الآية التي نفسرها وعبارة هذه الآيات، فالمعنى في الجميع واحد، ومن ثبت عنده ان حواء خلقت من ضلع آدم فهو غير ملجأ إلى إلصاق ذلك بالآية وجعله تفسيرا لها وإخراجها عن أسلوب أمثالها من الآيات.

22. هذا وإن في النفس الواحدة وجهها آخر وهو أنها الأنثى ولذلك أنثها حيث وردت وذكر زوجها الذي خلق منها في آية الأعراف فقال: ﴿لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ [الأعراف: 189] وعليه يظهر افتتاح السورة بها ووجه تسميتها بالنساء أكثر، وأصحاب هذا الرأي يقولون إنه من قبيل ما هو ثابت إلى اليوم عن العلماء من التوالد البكري، وهو أن إناث بعض الحيوانات الدنيا تلد عدة بطون بدون تلقيح من الذكور، ولكن لا بد أن يكون قد سبق تلقيح لبعض أصولها، وخلق زوجها منها على هذا الوجه يحتمل أن يكون منها ذاتها وأن يكون من جنسها، وثَم وجه آخر قريب من هذا وهو أن النفس الواحدة كانت جامعة لأعضاء الذكورة والأنوثة كالدودة الوحيدة ثم ارتقت فصار أفرادها زوجين، قال بهذا وذاك بعض الباحثين العصريين ومحل تحقيقه تفسير آية أخرى.

23. ذكر الزمخشري وجهين في عطف ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ على ما قبله:

أ. أحدهما: أنه معطوف على محذوف كأنه قيل من نفس واحدة أنشأها وابتدأها وخلق منها زوجها، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه، والمعنى: شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها الخ.

ب. ثانيهما: أنه معطوف على خلقكم، قال والمعنى: خلقهم من نفس آدم لأنها من جملة الجنس المفرع منه، وخلق منها أمكم حواء: (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) غيركم من الأمم الفائتة للحصر، أقول: وفيه اكتفاء، أي ونساء كثيرا.

24. قال محمد عبده نكر رجالا ونساء وأكد هذا بقوله كثيرا إشارة إلى كثرة الأنواع وإلى أنه ليس المراد بالتثنية في قوله (منها) آدم وحواء بل كل زوجين، وهو ينطبق على ما قلناه في تفسير الجملة السابقة، ثم إن ذكر خلق الزوج بعد ذكر خلق الناس لا يقتضي تأخره عنه في الزمن فإن العطف بالواو لا يفيد الترتيب ولا ينافي كون الكلام مرتبا متناسقا كما تطلب البلاغة، فإنه جاء على أسلوب التفصيل بعد الإجمال: يقول إنه خلقكم من نفس واحدة، فهذا إجمال فصله ببيان كونه خلق من جنس تلك النفس زوجا لها وجعل النسل من الزوجين كليهما، فجميع سلائل البشر متولدة من زوجين ذكر وأنثى ا ه، ويرد على قوله أن الواو لا تفيد الترتيب آية الزمر: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [الزمر: 6] وقد أجابوا عنه بما يذكر في محله.

25. يرد على رأي أبي مسلم ورأي الجمهور أن بث الرجال والنساء من الزوجين معا ينافي كونهم مخلوقين من نفس واحدة ويناقضه، ولا يرد على جعل النفس الواحدة عبارة عن الجنس والحقيقة الجامعة، فكونهم من جنس واحد لا ينافي كون هذا الجنس خلق زوجين ذكرا وأنثى وكونه بث منهما رجالا كثيرا ونساء، بل ولا جميع الرجال والنساء كما هو ظاهر، ونقل الرازي عن القاضي أن هذا الاعتراض وارد على القول الذي اختاره أبو مسلم، وهو كون الزوج خلق من جنس تلك النفس خلقا مستقلا دون قول الجمهور الذين يقولون إن الزوج خلق من النفس ذاتها بخلق حواء من ضلع آدم، والظاهر أنه وارد على القولين، لأن الواقع ونفس الأمر أن الناس مخلوقون من الزوجين الذكر والأنثى وهما نفسان اثنتان سواء خلقتا مستقلين أو خلقت إحداهما من الأخرى كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13] الآية، ولكن التأويل على قول الجمهور أسهل؛ إذ يقولون إنهم لما كانوا من نفسين إحداهما مخلوقة من الأخرى صاروا بهذا الاعتبار من نفس واحدة، وليس تأويل القول الآخر بالعسير، فقد قال الرازي فيه: ويمكن أن يجاب بأن كلمة(من) لابتداء الغاية فلما كان ابتداء التخليق والإيجاد وقع بآدم عليه السلام صح أن يقال: (خلقكم من نفس واحدة)، وأيضا فلما ثبت أنه تعالى قادر على خلق آدم من التراب كان قادرا أيضا على خلق حواء من التراب وإذا كان الأمر كذلك فأي فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم، ا ه كلامه وهو يدل على اختياره ما اختاره أبو مسلم ومثله محمد عبده.

26. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ قرأ عاصم وحمزة والكسائي تساءلون بتخفيف السين وأصله تتساءلون فحذفت إحدى التائين للتخفيف، والباقون بتشديدها بإدغام التاء في السين لتقاربهما في المخرج، وكل من الوجهين فصيح معهود عن العرب في صيغة تتفاعلون، والمعنى اتقوا الله الذي يسأل به بعضكم بعضا بأن يقول سألتك بالله أن تقضي هذه الحاجة يرجو بذلك إجابة سؤاله، فمعنى سؤاله بالله سؤاله بإيمانه به وتعظيمه إياه والباء فيه للسبب أي أسألك بسبب ذلك أن تفعل كذا.

27. أما قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ فقد قرأه الجمهور بالنصب، قال أكثر المفسرين معطوف على الاسم الكريم أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها أو اتقوا إضاعة حق الأرحام بأن تصلوها ولا تقطعوها، وجعله بعضهم عطفا على محل الضمير المجرور في (به) واختاره محمد عبده: وجوز الواحدي نصبه بالإغراء كالقول المأثور عن عمر: يا سارية الجبل، أي الزم الجبل ولذ به، والمعنى واحفظوا الأرحام وأدوا حقوقها، وقرأ حمزة وحده بالجر، قيل إنه على تقدير تكرير الجار أي واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام وقد سمع عطف الاسم المظهر على الضمير المجرور بدون إعادة الجار الذي هو الأكثر وأنشد سيبويه في ذلك قولهم:

çنعلق في مثل السواري سيوفنا...وما بينها والكعب غوطٌ نفانفُé

وقولهم:

çفاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا...فاذهب فما بك والأيام من عَجَبِé

28. اعترض النحاة البصريون على حمزة في قراءته هذه لأن ما ورد قليلا عن العرب لا يعدونه فصيحا ولا يجعلونه قاعدة، بل يسمونه شاذا وهذا من اصطلاحاتهم، ومثل هذه اللغات التي لم ينقل منها شواهد كثيرة قد تكون فصيحة ولكن هؤلاء النحاة مفتونون بقواعدهم، وقد نبه محمد عبده على خطأهم في تحكيمها في كتاب الله تعالى، على أنه ليس لهم أن يجعلوا قواعدهم حجة على عربي ما، وقال هنا: إن الأرحام إما منصوب عطفا على لفظ الجلالة وإما مجرور عطفا على الضمير في (به) وهو جائز بنص هذه الآية على هذه القراءة وهي متواترة خلافا لبعضهم، وقال الرازي هنا: والعجب من هؤلاء النحاة أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين، ولا يستحسنون إثباتها بقراءة حمزة ومجاهد مع أنهما من أكابر علماء السلف في علم القرآن.

29. هذا وإن المنكرين على حمزة جاهلون بالقراءات ورواياتها متعصبون لمذهب البصريين من النحاة، والكوفيون يرون مثل هذا العطف مقيسا ورجح مذهبهم بعض أئمة البصريين وأطال بعض العلماء في الانتصار له، وقد اعترض بعضهم على قراءة حمزة من جهة المعنى فقالوا إن ذكره في مقام الأمر بالتقوى والترغيب فيها مخل بالبلاغة لأنه أجنبي من هذا المقام ثم إن فيه تقريرا لما كانت عليه الجاهلية من التساؤل بالأرحام كما يتساءل بالله تعالى وهذا مما منعه الإسلام بدليل حديث الصحيحين (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت):

أ. وأجيب عن الأول: بأن ذكر التساؤل بالأرحام ليس أجنبيا من مقام الأمر بالتقوى هنا لأن هذا الأمر تمهيد لحفظ حقوق القرابة والرحم والتزام الأحكام التي جاءت بها السورة في ذلك حتى إن بعض المفسرين قد أرجع قراءة الجمهور إلى قراءة حمزة بجعل نصب الأرحام بالعطف على محل الضمير من قوله تساءلون به كما تقدم.

ب. وأجيب عن الثاني: بأن الحلف بغير الله ليس ممنوعا مطلقا وإنما يمنع الحلف الذي يعتقد وجوب البر به لا ما قصد به محض التأكيد على طريقة العرب في التأكيد بصيغة القسم كالتأكيد بأن، وأقول إن هذا الجواب مبني على كون التساؤل بالأرحام هو قسما بها وهو خطأ، فإن السؤال بالله غير القسم بالله والسؤال بالرحم غير الحلف بها.

30. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ أي مشرفا على أعمالكم ومناشئها من نفوسكم وتأثيرها في أحوالكم لا يخفى عليه شيء من ذلك فهو يشرع لكم من الاحكام ما يصلح شأنكم ويعدكم به للسعادة في الدنيا والآخرة.

31. (الرقيب) وصف بمعنى الراقب من رقبه إذا أشرف عليه من مكان عال، ومنه المرقب للمكان الذي يشرف منه الإنسان على ما دونه، وأطلق بمعنى الحفظ لأنه من لوازمه وبه فسر مجاهد، وقال محمد عبده: إن الله تعالى ذكرنا هنا بمراقبته لنا لتنبيهنا إلى الإخلاص يعني أن من تذكر أن الله مشرف عليه مراقب لأعماله كان جديرا بأن يتقيه ويلتزم حدوده.

__________

(1) تفسير المنار: ‏4/323.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي أنشأكم من العدم، ورباكم وشملكم بالجود والكرم، واذكروا أنه خلقكم من نفس واحدة وجعلكم جنسا تقوم مصالحه على التعاون والتآزر، وحفظ بعضكم حقوق بعض، واتقوا الله الذي تعظمونه وتتساءلون فيما بينكم باسمه الكريم، وبحقه على عباده وبما له من السلطان والجبروت، وتذكّروا حقوق الرحم عليكم فلا تفرّطوا فيها، فإنكم إن فعلتم ذلك أفسدتم الأسر والعشائر، فعليكم أن تحافظوا على هاتين الرابطتين‏.

2. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ أي أيها الناس احذروا عصيان من رباكم بإحسانه، وتفضل عليكم بجوده وإنعامه، وجعلكم أقرباء يجمعكم نسب واحد وأصل واحد، وجمهرة العلماء على أن المراد بالنفس الواحدة هنا آدم، وهم لم يأخذوا هذا من نص الآية، بل أخذوه تسليما وهو أن آدم أبو البشر، وقال القفّال: (إن المراد أنه خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجا هو إنسان يساويه في الإنسانية، أو أن الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم آل قصىّ، وأن المراد بالنفس الواحدة قصىّ)

3. قال بعض العلماء: أبهم الله تعالى أمر النفس التي خلق الناس منها، فلندعها على إبهامها، فإذا ثبت ما يقوله الباحثون من أن لكل صنف من أصناف البشر أبا كان ذلك غير مخالف لكتابنا، كما هو مخالف للتوراة التي نصت صراحة على أن آدم أبو البشر فحمل ذلك بعض الناس على الطعن في كونها من عند الله ووحيه، وقال محمد عبده: إن ظاهر الآية يأبى أن يكون المراد بالنفس الواحدة آدم لوجهين:

أ. البحث العلمي والتأريخي المعارض لذلك.

ب. إنه قال رجالا كثيرا ونساء، ولم يقل الرجال والنساء، ولكن ليس في القرآن ما ينفى هذا الاعتقاد ولا ما يثبته إثباتا قاطعا لا يحتمل التأويل.

4. ما جاء من مخاطبة الناس بقوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾ لا يعد نصّا في كون جميع البشر من أبنائه إذ يكفى في صحة هذا الخطاب أن يكون من وجّه إليهم في زمن التنزيل من أولاد آدم.

5. اختلف المسلمون في حقيقة النفس أو الروح الذي يحيا به الإنسان وتتحقق وحدة جنسه على اختلاف أصنافه، وأشهر آرائهم في ذلك: الرأي القائل: إنها جسم نورانى علوىّ خفيف حيّ متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسرى فيها سريان الماء في الورد والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار التي تفيض عليها من هذا الجسم اللطيف، وجد الحسّ والحركة الإرادية والفكر وغيرها، وإذا فسدت هذه الأعضاء، وعجزت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح.

6. مما يثبت ذلك أن العقل والحفظ والتذكر وهى أمور ثابتة قطعا ـ ليست من صفات هذا الجسد، فلا بد لها من منشأ وجودى عبر عنه الأقدمون بالنفس أو الروح وما مثلها إلا مثل الكهرباء، فالماديون الذين يقولون لا روح إلا هذه الحياة، يكون مثل الجسد عندهم مثل المستودع الكهربائى، فهو بوضعه الخاص، وبما يودع فيه من الموادّ تتولد فيه الكهرباء، فإذا زال شيء مما أودع فيه، أو أزيل تركيبه الخاص فقد الكهرباء، وهكذا حال الجسم تتولد فيه الحياة بتركيب مزاجه بكيفية خاصة، وبزوالها تزول الحياة، والذين يقولون إن للأرواح استقلالا عن الجسد، يكون مثل الجسد مثل الآلة التي تدار بكهرباء تأتى إليها من المولّد الكهربائى، فإذا كانت الآلة على وضع خاص في أجزائها وأدواتها كانت مستعدة لقبول الكهرباء التي توجه إليها حتى تؤدى وظيفتها، وإن فقدت منها بعض الأجزاء الرئيسية، أو اختل وضعها الخاص تصبح غير قابلة للكهرباء، ومن ثم لا تؤدى وظيفتها الخاصة بها.

7. ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أي وخلق لتلك النفس التي هي آدم زوجا منها وهى حواء، قالوا إنه خلقها من ضلعه الأيسر وهو نائم، وقد صرح بهذا في الفصل الثاني من سفر التكوين وورد في بعض الأحاديث، فقد روى البخاري قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم‏: (إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن ذهبت تقيمها كسرتها، وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها)، وخلاصة هذا: إنه شعّبكم من نفس واحدة أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حواء.

8. يرى أبو مسلم الأصفهانى: أن معنى (منها) أي من جنسها كما جاء مثل هذا في قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ وقوله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ وقوله: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ فلا فرق بين أسلوب هذه الآية وأساليب الآيات الأخرى، والمعنى في الجميع واحد، ومن ثبت عنده أن حواء خلقت من ضلع آدم فلا يكون مصدر الإثبات عنده هذه الآية، وإلا كان إخراجا لها عما جاء في أمثالها اه.

9. ثم فصل ما أجمله في قوله: خلقكم من نفس واحدة، فقال: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ أي ونشر من آدم وحواء نوعى جنس الإنس وهما الذكور والإناث، فجعل النسل من الزوجين كليهما، فجميع سلائل البشر متوالدة من زوجين ذكر وأنثى.

10. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ أي واتقوا الله الذي يسأل به بعضكم بعضا، بأن يقول سألتك بالله أن تقضى هذه الحاجة، وهو يرجو بذلك إجابة سؤله، والمراد من سؤاله بالله سؤاله بإيمانه به وتعظيمه إياه، أي أسألك بسبب ذلك أن تفعل كذا، واتقوا إضاعة حق الأرحام، فصلوها بالبر والإحسان ولا تقطعوها.

11. كرر الأمر بالتقوى للحث عليها، وعبر أوّلا بلفظ (الربّ) الذي يدل على التربية والإحسان، ثم بلفظ ﴿اللَّهُ﴾ الذي يدل على الهيبة والقهر للترغيب أولا والترهيب ثانيا كما قال تعالى: ﴿يَدْعُونَنا رَغَباً ورَهَباً﴾ كأنه قيل: إنه رباك وأحسن إليك فاتق مخالفته، لأنه شديد العقاب، عظيم السطوة.

12. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ أي إنه مشرف على أعمالكم ومناشئها من نفوسكم، وتأثيرها في أحوالكم لا يخفى عليه شيء من ذلك، فلا يشرع لكم من الأحكام إلا ما فيه صلاحكم وسعادتكم في الدنيا والآخرة، وفي ذلك تنبيه لنا إلى الإخلاص في أعمالنا، إذ من كان متذكرا أن الله مراقب لأعماله كان جديرا أن يتقيه ويلتزم حدوده.

__________

(1) تفسير المراغى: 4/176.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ النّاس جميعا من كلّ جنس ومن كلّ قوم، ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ فإن تقوى الله، ومراقبته، ومل‏ء القلب خشية له، والولاء لجلاله وعظمتهـ هي ملاك الأمر كله، في إقامة الإنسان على طريق الحق والخير، وفي الوصول به إلى درجات عالية، في منازل الكمال البشرى، المتاح للإنسان أن يصل إليه عالم البشر.

2. ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ على تلك الصورة الكريمة التي تتجلّى فيها قدرة الله، وحكمته ورحمته.. فالإنسانية كلها ما ظهر منها وما سيظهر، هي ثمرة بذرة واحدة، أنبتها الله بحكمته، ونفخ فيها من روحه، فأعطت هذا الثمر الكثير، المختلف الألوان، المتعدد الطعوم، المبثوث في كل أفق.

3. ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أي وخلق من هذه النفس، ومن مادتها وطبيعتها زوجا لهذه النفس، مقابلا لها، ومكمّلا لوجودها، والقصّة التي تقول إن (حواء) خلقت من ضلع آدم، هي من واردات الأساطير، وقد أخذ بها معظم المفسّرين، وفهموا هذه الآية الكريمة عليها، والآية الكريمة لا تعين على هذا الفهم، ولا تسانده.. وإنا إذ ننظر في قوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ لنجد الضمير في (منها) الذي يشير إلى النفس الواحدة، لا يقصدها باعتبارها كائنا بشريا هو (آدم) وإنما يشير إليها باعتبارها مادّة مهيأة لخلق البشر، ومن هذه المادة كان خلق آدم، ومن هذه المادة أيضا كان خلق زوجه، التي يكتمل بها وجوده، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى ـ في آية أخرى ـ ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا﴾.. وليس هذا في خلق الإنسان وحده، بل هو التدبير الذي قدّره الله لخلق الكائنات الحية كلها، من حيوان‏ ونبات.. ومن يدرى فربّما كان ذلك في عالم الجماد أيضا، وفي هذا يقول الحق جلّ وعلاء: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ ويقول سبحانه: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾، فهل كان خلق هذه الموجودات على تلك الصورة التي خلق عليها آدم (وحواء) كما تحدّث الأساطير عنها؟ الذّكر أولا، ثم كان من ضلع الذّكر خلق الأنثى؟.. ذلك ما لا مفهوم له في علم، ولا معقول له في عقل!

4. إن آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن الذكر والأنثى لا تفرق بينهما في أصل الخلقة، بل تجعلهما طبيعة واحدة، كان منها الذكر والأنثى، وهذا ما فهمنا عليه قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾، وهذا ما نفهم عليه قوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ ففي قوله تعالى: ﴿فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ إشارة صريحة إلى أن الإنسان يحمل في كيانه طبيعة الذكر والأنثى، أي المادة المخلّق منها الذكر والأنثى، ففي الذّكر، ذكر وأنثى وفي الأنثى أنثى وذكر، وذلك ما يقرره العلم الحديث، ويزكّيه القرآن العظيم.

5. لو أردنا أن نأخذ بهذه الأسطورة ونقول في خلق آدم وحواء بما تقول به الأساطير لكان علينا أن نرتفع بخلق آدم إلى بذرة الحياة الأولى للأحياء، في (الإميبيا) حيث يقوم التوالد والتكاثر فيها على الانقسام في الجرثومة الواحدة! فهل إلى هذه الجرثومة الإيميبية تمتد أنظار المفسّرين الذين قالوا ان حواء وآدم خلقا من جرثومة واحدة كانت آدم أولا ثم انقسمت على نفسها فكانت آدم وحواء ثانيا؟ إن يكن ذلك فلا بأس به عندنا، وهو الذي‏ نقول به، وهو أن آدم وليد دورة طويلة في سلسلة التطور، وأنّ أول سلسلة للحياة التي تطور منها كانت (الإيميبيا) التي تتوالد بالانقسام!.

6. ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ أي من هذين المخلوقين، الزوجين: الذكر والأنثى، تكاثر الناس وانتشروا، فكانوا هذه الأمم وتلك الشعوب بقدرة القادر العظيم، وصنعة العليم الحكيم، فهؤلاء هم الناس الذين دعاهم الله سبحانه وتعالى أن يتّقوه.. أن يتّقوا ربّهم، الذي أنشأهم وربّاهم وصنعهم بقدرته، في أطوار درجت بهم من عالم التراب والنبات، إلى عالم النطف.. ثم إلى الإنسان المسوّى في أحسن تقويم، وكلمة (ربّهم) هنا تفيد معنى الرعاية والتربية التي يكون الإنسان أحوج ما يكون إليها وهو في دور الخلق والتكوين.

7. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾.. وهذا نداء آخر من قبل الحق، يدعو به عباده إلى التّقوى، بعد أن ناداهم بها (ربّهم) وهم عالم الخلق والتكوين.. إنهم هنا بشر سوىّ، يعقل ويفهم، ويدرك، يعقل أنه لم يولد هكذا إنسانا مكتمل الخلق مرة واحدة، بل تنقّل في أطوار عديدة، تحت رعاية رحيمة، وبيد حكيمة.. ويفهم أنّه لم يخلق نفسه، كما أن أبويه لم يخلقا نفسيهما، وأن هذا الخلق الخالق عظيم فوق عالم البشر، ويدرك بعد هذا وذاك أن هذا الخالق هو الذي تنتسب إلى صنعته المخلوقات جميعا، وأنه الإله المستحق للألوهية المنفرد بها، كما أنه الربّ المختصّ بالربوبية، المحمود وحده عليها، ومن أجل هذا كانت تقوى الله، وخشيته، والولاء له، أمرا لازما، منوطا في عنق الإنسان، لربّه وإلهه، وهذا نداء الحق جلّ وعلا يذكّره بهذا الواجب، ويدعوه إليه، فإن قصّر أو كفر بهذا الحق، فقد خاب وخسر!

8. في قوله: ﴿الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ إيقاظ لهذا الشعور الذي يسكن كيان (الإنسان) كلّ إنسان، فيهيج فيه دواعى التطلع إلى الله والبحث عنه، والمساءلة به، فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين الناس، ففي كل إنسان داع يدعوه إلى البحث عن الله، والمساءلة عن ذاته وصفاته، فالبحث عن الله، والسؤال عنه، والمساءلة به، أمر شغل الإنسان ـ كل إنسان ـ منذ كانت الإنسانية، ومنذ فتحت عينها على هذا الوجود، وأدارت بصرها فيه، وقلّبت وجهها بين السماء والأرض، وفيما بين السماء والأرض، فالله سبحانه يملأ على الإنسان وجوده كله، ويطرق حواسّه كلّها، ويخالط مشاعره ومدركاته جميعها، فيما بثّ الله في هذا الوجود، من روائع صنعته، وآيات خلقه، الأمر الذي لا يكون معه إنسان من الناس قادرا على الذّهول عنه، أو التفلّت منه، وحبس الحواس، والمشاعر، والمدارك، عن الاشتغال به، فلينظر المرء أيّ إنسان هو؟ إن أراد أن يكون في الناس، أو أن يكون من الناس.

9. ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾.. قرئ قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ بالنّصب عطفا على قوله تعالى‏ ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ بمعنى اتقوا الله والأرحام، وتقوى الأرحام هي من تقوى الله، فكما أن لله حقوقا، ينبغي رعايتها والحرص عليها، فكذلك الأرحام ـ وهم الأقارب، ومنهم الأبوان ـ لهم حقوق يجب رعايتها والحرص عليها، إذ كان لهما شأن في تربية الإنسان ورعايته، فهذا الواجب الذي يؤديه الإنسان لذوى رحمه، هو وفاء لحقوق لهم عليه، وأداء لدين أقرضوه إياه، وقد آن أوان استقضائه منه، حين قدر وعجزوا، وملك ولم يملكوا.

10. في الجمع بين اتقاء حقوق الله، وحقوق ذوى الأرحام لفتات.. منها:

أ. أولا: التنويه بشأن الصّلة التي تصل الإنسان بأصوله وفروعه، وأنها صلة يجب أن تقوم على التوادّ والتراحم، وأنّ في رعايتها مرضاة لله، واستكمالا لتقواه.

ب. ثانيا: الإلفات إلى حقوق الله، وأنها حقوق عظيمة، لا يستطيع الإنسان الوفاء ببعضها، وأن الغفلة عنها، أو التفريط فيها عدوان على الله، وكفران به وبنعمه، وأنه إذا كان فرضا لازما على الإنسان أن يبرّ أبويه، ويرعى ذوى رحمه، بدواعى الانتساب إليهم، فإن حبّه لله، ورعايته لحقوقه، بالتزام تقواه أوجب وألزم، إذ كان نسبه إلى خالقه وربّه وإلهه هو النسب الحق الأصيل، وما سواه تبع وإضافىّ.

11. كذلك قرئ قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ بالجرّ، عطفا على الضمير في (به) في قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ بمعنى واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام، أي الذي هو ملء خواطركم وأفكاركم، كما هو شأنكم مع أهليكم وذوى أرحامكم، فالإنسان أكثر ما يدور على لسانه، ويجرى في خاطره، هم أهله وقرابته، وربما شغل الإنسان بأهله عن الله، وهذا ما نبّه الله سبحانه وتعالى إليه وحذّر منه في قوله سبحانه: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ ويقول تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾.. ومع هذا فإن‏ والقراءتان ـ بالنصب والجرّ ـ يكملان بعضهما ـ ويكشفان عن وجه من وجوه الإعجاز القرآني ويأخذان على الناس السبيل إلى الانحراف عن سواء السبيل، في الجمع بين تقوى الله، وبرّ ذوى الأرحام.. فمن الناس من يلتفت بوجوده كلّه إلى الله، ويذهل عن حقّ أهله وذوى قرابته، ومن الناس من تشغله أمور أهله وذوى قرابته فيجور على حقّ الله عنده، والطريق القويم هو أن يرعى الأمرين معا، فلله حقوق يجب أن يؤديها، وللأهل حقوق ينبغي أن يرعاها، وهو ملوم إن قصّر في حق على حساب الحق الآخر.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/682.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ جاء الخطاب بيا أيّها الناس: ليشمل جميع أمّة الدعوة الذين يسمعون القرآن يومئذ وفيما يأتي من الزمان، فضمير الخطاب في قوله: ﴿خَلَقَكُمْ﴾ عائد إلى الناس المخاطبين بالقرآن، أي لئلّا يختصّ بالمؤمنين، ـ إذ غير المؤمنين حينئذ هم كفّار العرب ـ وهم الذين تلقّوا دعوة الإسلام قبل جميع البشر لأنّ الخطاب جاء بلغتهم، وهم المأمورون بالتبليغ لبقية الأمم، وقد كتب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كتبه للروم وفارس ومصر بالعربية لتترجم لهم بلغاتهم، فلمّا كان ما بعد هذا النداء جامعا لما يؤمر به الناس بين مؤمن وكافر، نودي جميع الناس، فدعاهم الله إلى التذكّر بأنّ أصلهم واحد، إذ قال: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ دعوة تظهر فيها المناسبة بين وحدة النوع ووحدة الاعتقاد، فالمقصود من التقوى في‏ ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ اتّقاء غضبه، ومراعاة حقوقه، وذلك حقّ توحيده والاعتراف له بصفات الكمال، وتنزيهه عن الشركاء في الوجود والأفعال والصفات، وفي هذه الصلة براعة استهلال مناسبة لما اشتملت عليه السورة من الأغراض الأصلية، فكانت بمنزلة الديباجة.

2. عبّر بـ ﴿رَبُّكُمُ﴾، دون الاسم العلم، لأنّ في معنى الربّ ما يبعث العباد على الحرص في الإيمان بوحدانيته، إذ الربّ هو المالك الذي يربّ مملوكه أي، يدبّر شؤونه، وليتأتّى بذكر لفظ (الربّ) طريق الإضافة الدالّة على أنّهم محقوقون بتقواه حقّ التقوى، والدالّة على أنّ بين الربّ والمخاطبين صلة تعدّ إضاعتها حماقة وضلالا.

3. أمّا التقوى في قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ فالمقصد الأهمّ منها: تقوى المؤمنين بالحذر من التساهل في حقوق الأرحام واليتامى من النساء والرجال، ثم جاء باسم الموصول‏ ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ للإيماء إلى وجه بناء الخبر لأنّ الذي خلق الإنسان حقيق بأن يتّقى.

4. وصل‏ ﴿خَلَقَكُمْ﴾ بصلة ﴿مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ إدماج للتنبيه على عجيب هذا الخلق وحقّه بالاعتبار، وفي الآية تلويح للمشركين بأحقّيّة اتّباعهم دعوة الإسلام، لأنّ الناس أبناء أب واحد، وهذا الدين يدعو الناس كلّهم إلى متابعته ولم يخصّ أمّة من الأمم أو نسبا من الأنساب، فهو جدير بأن يكون دين جميع البشر، بخلاف بقية الشرائع فهي مصرّحة باختصاصها بأمم معيّنة، وفي الآية تعريض للمشركين بأنّ أولى الناس بأن يتّبعوه هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنّه من ذوي رحمهم، وفي الآية تمهيد لما سيبيّن في هذه السورة من الأحكام المرتّبة على النسب والقرابة، والنفس الواحدة: هي آدم، والزوج: حوّاء، فإنّ حوّاء أخرجت من آدم، من ضلعه، كما يقتضيه ظاهر قوله: ﴿مِنْهَا﴾

5. (من) تبعيضية، ومعنى التبعيض أنّ حوّاء خلقت من جزء من آدم، قيل: من بقية الطينة التي خلق منها آدم، وقيل: فصلت قطعة من ضلعه وهو ظاهر الحديث الوارد في (الصحيحين)، ومن قال إنّ المعنى وخلق زوجها من نوعها لم يأت بطائل، لأنّ ذلك لا يختصّ بنوع الإنسان فإنّ أنثى كلّ نوع هي من نوعه.

6. عطف قوله: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ على‏ ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾، فهو صلة ثانية، وقوله: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا﴾ صلة ثالثة لأنّ الذي يخلق هذا الخلق العجيب جدير بأن يتّقى، ولأنّ في معاني هذه الصلات زيادة تحقيق اتّصال الناس بعضهم ببعض، إذ الكلّ من أصل واحد، وإن كان خلقهم ما حصل إلّا من زوجين فكلّ أصل من أصولهم ينتمي إلى أصل فوقه، وقد حصل من ذكر هذه الصلات تفصيل لكيفية خلق الله الناس من نفس واحدة، وجاء الكلام على هذا النظم توفية بمقتضى الحال الداعي للإتيان باسم الموصول، ومقتضى الحال الداعي لتفصيل حالة الخلق العجيب، ولو غير هذا الأسلوب فجي‏ء بالصورة المفصّلة دون سبق إجمال، فقيل: الذي خلقكم من نفس واحدة وبثّ منها رجالا كثيرا ونساء لفاتت الإشارة إلى الحالة العجيبة، وقد ورد في الحديث: أنّ حواء خلقت من ضلع آدم‏، فلذلك يكون حرف (من) في قوله: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا﴾ للابتداء، أي أخرج خلق حواء من ضلع آدم.

7. والزوج هنا أريد به الأنثى الأولى التي تناسل منها البشر، وهي حوّاء، وأطلق عليها اسم الزوج لأنّ الرجل يكون منفردا فإذا اتّخذ امرأة فقد صارا زوجا في بيت، فكلّ واحد منهما زوج للآخر بهذا الاعتبار، وإن كان أصل لفظ الزوج أن يطلق على مجموع الفردين، فإطلاق الزوج على كلّ واحد من الرجل والمرأة المتعاقدين تسامح صار حقيقة عرفية، ولذلك استوى فيه الرجل والمرأة لأنّه من الوصف بالجامد، فلا يقال للمرأة (زوجة)، ولم يسمع في فصيح الكلام، ولذلك عدّه بعض أهل اللغة لحنا، وكان الأصمعي ينكره أشد الإنكار قيل له: فقد قال ذو الرمّة:

çأذو زوجة بالمصر أم ذو خصومة...أراك لها بالبصرة العام ثاوياé

فقال: إنّ ذا الرّمة طالما أكل المالح والبقل في حوانيت البقّالين، يريد أنّه مولّد، وقال الفرزدق:

çوإنّ الذي يسعى ليفسد زوجتي‏...كساع إلى أسد الشرى يستبيلهاé

وشاع ذلك في كلام الفقهاء، قصدوا به التفرقة بين الرجل والمرأة عند ذكر الأحكام، وهي تفرقة حسنة، وتقدّم عند قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ في سورة البقرة [35]

8. شمل‏ ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ العبرة بهذا الخلق العجيب الذي أصله واحد، ويخرج هو مختلف الشكل والخصائص، والمنّة على الذكران بخلق النساء لهم، والمنّة على النساء بخلق الرجال لهنّ.

9. ثم منّ على النوع بنعمة النسل في قوله: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ مع ما في ذلك من الاعتبار بهذا التكوين العجيب، والبثّ: النشر والتفريق للأشياء الكثيرة قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾ [القارعة: 4]

10. وصف الرجال، وهو جمع، بكثير، وهو مفرد، لأنّ كثير يستوي فيه المفرد والجمع، وقد تقدّم في قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ في سورة آل عمران [146]، واستغنى عن وصف النساء بكثير لدلالة وصف الرجل به ما يقتضيه فعل البث من الكثرة.

11. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، شروع في التشريع المقصود من السورة، وأعيد فعل‏ ﴿اتَّقُوا﴾: لأنّ هذه التقوى مأمور بها المسلمون خاصّة، فإنّهم قد بقيت فيهم بقية من عوائد الجاهلية لا يشعرون بها، وهي التساهل في حقوق الأرحام والأيتام.

12. استحضر اسم الله العلم هنا دون ضمير يعود إلى ربّكم لإدخال الرّوع في ضمائر السامعين، لأنّ المقام مقام تشريع يناسبه إيثار المهابة بخلاف مقام قوله: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ فهو مقام ترغيب.

13. معنى‏ ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ يسأل بعضكم بعضا به في القسم فالمساءلة به تؤذن بمنتهى العظمة، فكيف لا تتّقونه، وقرأ الجمهور تسائلون ـ بتشديد السين ـ لإدغام التاء الثانية، وهي تاء التفاعل في السين، لقرب المخرج واتّحاد الصفة، وهي الهمس، وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف: تساءلون ـ بتخفيف السين ـ على أنّ تاء الافتعال حذفت تخفيفا.

14. ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ قرأه الجمهور ـ بالنصب ـ عطفا على اسم الله، وقرأه حمزة ـ بالجرّ ـ عطفا على الضمير المجرور، فعلى قراءة الجمهور يكون الأرحام مأمورا بتقواها على المعنى المصدري أي اتّقائها، وهو على حذف مضاف، أي اتّقاء حقوقها، فهو من استعمال المشترك في معنييه، وعلى هذه القراءة فالآية ابتداء تشريع وهو ممّا أشار إليه قوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ وعلى قراءة حمزة يكون تعظيما لشأن الأرحام أي التي يسأل بعضكم بعضا بها، وذلك قول العرب: (ناشدتك الله والرحم) كما روى في (الصحيح): أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين قرأ على عتبة بن ربيعة سورة فصّلت حتّى بلغ: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [فصلت: 13] فأخذت عتبة رهبة وقال: ناشدتك الله والرحم، وهو ظاهر محمل هذه الرواية وإن أباه جمهور النحاة استعظاما لعطف الاسم على الضمير المجرور بدون إعادة الجارّ، حتّى قال المبرّد: (لو قرأ الإمام بهاته القراءة لأخذت نعلي وخرجت من الصلاة) وهذا من ضيق العطن وغرور بأنّ العربية منحصرة فيما يعلمه، ولقد أصاب ابن مالك في تجويزه العطف على المجرور بدون إعادة الجارّ، فتكون تعريضا بعوائد الجاهلية، إذ يتساءلون بينهم بالرحم وأواصر القرابة ثم يهملون حقوقها ولا يصلونها، ويعتدون على الأيتام من إخوتهم وأبناء أعمامهم، فناقضت أفعالهم أقوالهم، وأيضا هم قد آذوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وظلموه، وهو من ذوي رحمهم وأحقّ الناس بصلتهم كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: 128] وقال: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [آل عمران: 164]، وقال: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى: 23]، وعلى قراءة حمزة يكون معنى الآية تتمّة لمعنى التي قبلها.

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/9.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾، قيل: يا أيها الناس خطاب لأهل مكة، والصحيح انه عام لجميع المكلفين، لأن ظاهر اللفظ يشمل الكل، ولا دليل على التخصيص، بل الأمر بالتقوى يؤكد الشمول والعموم، لأن وجوب اتقاء المعاصي لا يختص بفئة دون فئة.

2. ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾، نقل صاحب تفسير المنار عن استاذه الشيخ محمد عبده ان الله تعالى (قد أبهم أمر النفس التي خلق الناس منها، وجاء بها نكرة، فندعها نحن على إبهامها.. وما ورد في آيات أخرى من مخاطبة الناس بقوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾ لا ينافي هذا ـ أي لا يرفع الإبهام ـ ولا يعد نصا قاطعا في كون جميع البشر من أبناء آدم، إذ يكفي في صحة الخطاب أن يكون من وجّه اليهم الخطاب في زمن التنزيل هم من أولاد آدم، وقد تقدم في تفسير قصة آدم في أوائل سورة البقرة انه كان في الأرض قبله نوع من هذا الجنس فسدوا فيها، وسفكوا الدماء)، ويتلخص ما أراده الشيخ عبده ان القرآن لا يثبت ولا ينفي ان آدم أب لجميع البشر، بل من الجائز أن يكون للبشر العديد من الآباء، وآدم واحد منهم، أما قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾ فإنه ان دل على شيء فإنما يدل على ان الذين خوطبوا بذلك في عهد محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا أولادا لآدم، ولا يدل على ان كل من كان ويكون من البشر هو من نسل آدم، بل يجوز أن يكون له أب غير آدم، هذا ملخص ما أراده الشيخ، ونجيبه:

أ. أولا: بأن الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة لا تختص بمن وجد حال الخطاب، بل تشمل كل من وجد ويوجد إلى آخر يوم، لأنها من القضايا التشريعية التي تعم الحاضرين والغائبين من وجد منهم ومن يوجد من غير تفاوت، تماما مثل من بلغ عشرين عاما فعليه كذا، ومن هذا الباب قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾، فإنه موجه لجميع الناس دون استثناء، سواء أكانوا في زمن الخطاب، أم لم يكونوا.

ب. ثانيا: ان الأوامر والنواهي في الكتاب والسنة التي خوطب بها بنو آدم، لو كانت موجهة لخصوص من كانوا في عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لما كنا نحن مكلفين بها، ولما صح لنا الاستدلال بشيء منها على حكم من أحكام الله، مع ان جميع المسلمين، ومنهم الشيخ عبده يحتجون بالقرآن وسنة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل هما المصدر الأول للعقيدة والشريعة الإسلامية بضرورة الدين، وإذا كان التكليف الموجه لبني آدم شاملا لجميع البشر فالجميع يكونون، والحال هذه، نسلا لآدم دون استثناء، وعليه تكون الآية 60 من يس، والآية 27 من الأعراف: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ﴾، والآية 171 من الأعراف: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾، والآية 70 من الاسراء: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾، تكون هذه الآيات بيانا وتفسيرا للنفس الواحدة في قوله تعالى: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ وان المراد منها هو أبونا آدم دون لبس واشتباه بغيره، أما قول الشيخ محمد عبده: كان قبل آدم نوع من هذا الجنس فأجبنيّ عما نحن فيه، لأن الكلام في الجنس الباقي، لا في الجنس البائد، هذا، إلى ان الله سبحانه خاطبنا بقوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾ وأيضا خاطبنا بقوله: ﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾، وأيضا قال ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ فإذا عطفنا هذه الآيات بعضها على بعض تكون النتيجة: (كلكم لآدم، وآدم من تراب) كما جاء في الحديث الشريف.

ج. ثالثا: لقد ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم انه قال أنا سيد ولد آدم، فهل لمسلم ـ السؤال موجه للشيخ عبده ـ أن يظن أو يحتمل ان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أراد نوعا خاصا من البشر، لا كل البشر؟.

3. ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾، قيل: ان من في (منها) للتبعيض، وان المراد بزوجها حواء، وان الله تعالى خلقها من ضلع آدم، وقيل: بل خلقها من فضل طينته كما في بعض الروايات، ويلاحظ بأنه لا دليل على ان من في (منها) للتبعيض، بل يجوز أن تكون للبيان، مثل قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾، وعليه يكون المعنى ان كلا من النفس الواحدة وزوجها خلق من أصل واحد، وهذا الأصل هو التراب، لقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾، أما قول من قال ان المراد بزوجها حواء فلا دليل عليه من القرآن، حيث لم يرد لها ذكر فيه على الإطلاق.

4. ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾، أي ونساء كثيرا، فحذف الوصف من الثاني لدلالة الأول عليه، ومن الطريف قول الرازي: ان وصف الرجال بالكثير، دون النساء للتنبيه على ان اللائق بحال الرجال الاشتهار والبروز، واللائق بحال النساء الخفاء والخمول، وان دل هذا التعليل على شيء فإنما يدل على ان الرازي حكم على طبيعة المرأة بما تستدعيه تقاليد المجتمع الذي تعيش فيه.. وبديهة ان هذه التقاليد تتغير وتتحول بحسب مقتضيات الزمن، فمن الخطأ أن نأخذ منها مقياسا عاما، وقاعدة مطردة، ومهما يكن، فإن المعنى واضح، وهو ان البشر متوالد من زوجين ذكر وأنثى، ومنهما انتشرت الملايين جيلا بعد جيل، ويقال: ان في العالم الآن ما يزيد على ثلاثة آلاف من الملايين.

5. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾، هذا اشارة ما يقوله بعضنا إلى بعض: سألتك بالله أن تفعل كذا، أو سألتك بالرحم أن تفعل كذا، أي سألتك بحق الله العظيم عليك، وحق الرحم العزيز عليك، والغرض من الأمر بتقوى الله والرحم أن نؤدي ما لهما علينا من حق، فالآية أشبه بقوله تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾

6. الخلاصة ان الله سبحانه أمرنا في هذه الآية أن نتقي غضبه وعذابه، وان نحسن إلى الأرحام، وان لا يعلو بعضنا على بعض، ولا يظلم أحد أحدا، لأن الجميع من أصل واحد، وختم ذلك بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، وهو تهديد ووعيد لمن عصى وتمرد.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/241.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية في نفسها فهي وعدة من الآيات التالية لها المتعرضة لحال اليتامى والنساء كالتوطئة لما سيبين من أمر المواريث والمحارم وأما عدد الزوجات الواقعة في الآية الثالثة فإنه وإن كان من مهمات السورة إلا أنه ذكر في صورة التطفل بالاستفادة من الكلام المقدمي الذي وقع في الآية كما سيجي‏ء بيانه.

2. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَنِسَاءٌ﴾ يريد دعوتهم إلى تقوى ربهم في أمر أنفسهم وهم ناس متحدون في الحقيقة الإنسانية من غير اختلاف فيها بين الرجل منهم والمرأة والصغير والكبير والعاجز والقوي حتى لا يجحف الرجل منهم بالمرأة ولا يظلم كبيرهم الصغير في مجتمعهم الذي هداهم الله إليه لتتميم سعادتهم والأحكام والقوانين المعمولة بينهم التي ألهمهم إياها لتسهيل طريق حياتهم، وحفظ وجودهم وبقائهم فرادى ومجتمعين.

3. من هناك تظهر نكتة توجيه الخطاب إلى الناس دون المؤمنين خاصة وكذا تعليق التقوى بربهم دون أن يقال: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ ونحوه فإن الوصف الذي ذكروا به أعني قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (إلخ) يعم جميع الناس من غير أن يختص بالمؤمنين، وهو من أوصاف الربوبية التي تتكفل أمر التدبير والتكميل لا من شؤون الألوهية.

4. ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ النفس‏ على ما يستفاد من اللغة عين الشيء يقال: جاءني فلان نفسه وعينه وإن كان منشأ تعين الكلمتين ـ النفس والعين ـ لهذا المعنى (ما به الشيء شيء) مختلفا، ونفس الإنسان هو ما به الإنسان إنسان، وهو مجموع روح الإنسان وجسمه في هذه الحياة الدنيا والروح وحدها في الحياة البرزخية على ما تحقق فيما تقدم من البحث في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ﴾ الآية.

5. ظاهر السياق أن المراد بالنفس الواحدة آدم عليه السلام، ومن زوجها زوجته، وهما أبوا هذا النسل الموجود الذي نحن منه وإليهما ننتهي جميعا على ما هو ظاهر القرآن الكريم كما في قوله تعالى: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾، وقوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ﴾، وقوله تعالى: حكاية عن إبليس: ﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾، أما ما احتمله بعض المفسرين أن المراد بالنفس الواحدة وزوجها في الآية مطلق الذكور والإناث من الإنسان الزوجين اللذين عليهما مدار النسل فيئول المعنى إلى نحو قولنا: خلق كل واحد منكم من أب وأم بشرين من غير فرق في ذلك بينكم فيناظر قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، حيث إن ظاهره نفي الفرق بين الأفراد من جهة تولد كل واحد منهم من زوجين من نوعه: ذكر وأنثى، ففيه فساد ظاهر وقد فاته أن بين الآيتين أعني آية النساء وآية الحجرات فرقا بينا فإن آية الحجرات في مقام بيان اتحاد أفراد الإنسان من حيث الحقيقة الإنسانية، ونفي الفرق بينهم من جهة انتهاء تكون كل واحد منهم إلى أب وأم إنسانين فلا ينبغي أن يتكبر أحدهم على الآخرين ولا يتكرم إلا بالتقوى، وأما آية النساء فهي في مقام بيان اتحاد أفراد الإنسان من حيث الحقيقة، وأنهم على كثرتهم رجالا ونساء إنما اشتقوا من أصل واحد وتشعبوا من منشإ واحد فصاروا كثيرا على ما هو ظاهر قوله: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾، وهذا المعنى كما ترى لا يناسب كون المراد من النفس الواحدة وزوجها مطلق الذكر والأنثى الناسلين من الإنسان على أنه لا يناسب غرض السورة أيضا كما تقدم بيانه.

6. ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ فقد قال الراغب: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة: زوج‏، ولكل قرينين فيها وفي غيرها: زوج كالخف والنعل، ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا: زوج، إلى أن قال وزوجه لغة رديئة.

7. ظاهر الجملة أعني قوله: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أنها بيان لكون زوجها من نوعها بالتماثل وأن هؤلاء الأفراد المبثوثين مرجعهم جميعا إلى فردين متماثلين متشابهين فلفظة من نشوئية والآية في مساق قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ﴾ ﴿مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾، وقوله تعالى: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾، ونظيرها قوله: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾، فما في بعض التفاسير: أن المراد بالآية كون زوج هذه النفس مشتقة منها وخلقها من بعضها وفاقا لما في بعض الأخبار: أن الله خلق زوجة آدم من ضلع من أضلاعه مما لا دليل عليه من الآية.

8. في نهج البيان، للشيباني عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه قال سألت أبا جعفر عليه السلام: من أي شيء خلق الله حواء؟ فقال عليه السلام: أي شيء يقولون هذا الخلق؟ قلت يقولون: إن الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم ـ فقال: كذبوا أكان الله يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه؟ فقلت: جعلت فداك من أي شيء خلقها؟ فقال: أخبرني أبي عن آبائه قال قال رسول الله ص: إن الله تبارك وتعالى قبض قبضة من طين ـ فخلطها بيمينه ـ وكلتا يديه يمين ـ فخلق منها آدم، وفضلت فضلة من الطين فخلق منها حواء.. ورواه الصدوق عن عمرو مثله‏، وهناك روايات أخر تدل على أنها خلقت من خلف آدم وهو أقصر أضلاعه من الجانب الأيسر، وكذا ورد في التوراة في الفصل الثاني من سفر التكوين، وهذا المعنى وإن لم يستلزم في نفسه محالا إلا أن الآيات القرآنية خالية عن الدلالة عليها كما تقدم.

9. ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾، البث‏ هو التفريق بالإثارة ونحوها قال تعالى: ﴿فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا﴾: الواقعة 6، ومنه بث الغم ولذلك ربما يطلق البث ويراد به الغم لأنه مبثوث يبثه الإنسان بالطبع، قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾: يوسف 86، أي غمي وحزني.

10. ظاهر الآية أن النسل الموجود من الإنسان ينتهي إلى آدم وزوجته من غير أن يشاركهما فيه غيرهما حيث قال وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، ولم يقل: منهما ومن غيرهما، ويتفرع عليه أمران:

أ. أحدهما: أن المراد بقوله: ﴿رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ أفراد البشر من ذريتهما بلا واسطة أو مع واسطة فكأنه قيل: وبثكم منهما أيها الناس.

ب. ثانيهما: أن الازدواج في الطبقة الأولى بعد آدم وزوجته أعني في أولادهما بلا واسطة إنما وقع بين الإخوة والأخوات (ازدواج البنين بالبنات) إذ الذكور والإناث كانا منحصرين فيهم يومئذ، ولا ضير فيه فإنه حكم تشريعي راجع إلى الله سبحانه فله أن يبيحه يوما ويحرمه آخر، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾، وقال: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾، وقال: ﴿وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾، وقال: ﴿وَهُوَاللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى‏ وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏﴾

11. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ المراد بالتساؤل‏ سؤال بعض الناس بعضا بالله، يقول أحدهم لصاحبه: أسألك بالله أن تفعل كذا وكذا هو إقسام به تعالى، والتساؤل بالله كناية عن كونه تعالى معظما عندهم محبوبا لديهم فإن الإنسان إنما يقسم بشيء يعظمه ويحبه.

12. ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ ظاهره أنه معطوف على لفظ الجلالة، والمعنى: واتقوا الأرحام، وربما قيل: إنه معطوف على محل الضمير في قوله: به وهو النصب يقال: مررت بزيد وعمرا، وربما أيدته قراءة حمزة: والأرحام بالجر عطفا على الضمير المتصل المجرور ـ وإن ضعفه النحاة ـ فيصير المعنى: واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام يقول أحدكم لصاحبه: أسألك بالله وأسألك بالرحم، هذا ما قيل، لكن السياق ودأب القرآن في بياناته لا يلائمانه فإن قوله: ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ إن جعل صلة مستقلة للذي، وكان تقدير الكلام: واتقوا الله الذي تساءلون بالأرحام كان خاليا من الضمير وهو غير جائز، وإن كان المجموع منه ومما قبله صلة واحدة للذي كان فيه تسوية بين الله عز اسمه وبين الأرحام في أمر العظمة والعزة وهي تنافي أدب القرآن.

13. أما نسبة التقوى إلى الأرحام كنسبته إليه تعالى فلا ضير فيها بعد انتهاء الأرحام إلى صنعه وخلقه تعالى، وقد نسب التقوى في كلامه تعالى إلى غيره كما في قوله: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾، وقوله: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾، وقوله: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾

14. كيف كان فهذا الشطر من الكلام بمنزلة التقييد بعد الإطلاق والتضييق بعد التوسعة بالنسبة إلى الشطر السابق عليه أعني قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا﴾ إلى قوله: ﴿وَنِسَاءٌ﴾، فإن محصل معنى الشطر الأول: أن اتقوا الله من جهة ربوبيته لكم، ومن جهة خلقه وجعله إياكم ـ معاشر أفراد الإنسان ـ من سنخ واحد محفوظ فيكم ومادة محفوظة متكثرة بتكثركم، وذلك هو النوعية الجوهرية الإنسانية، ومحصل معنى هذا الشطر: أن اتقوا الله من جهة عظمته وعزته عندكم (وذلك من شؤون الربوبية وفروعها) واتقوا الوحدة الرحمية التي خلقها بينكم (والرحم شعبة من شعب الوحدة والسنخية السارية بين أفراد الإنسان)

15. من هنا يظهر وجه تكرار الأمر بالتقوى وإعادته ثانيا في الجملة الثانية فإن الجملة الثانية في الحقيقة تكرار للجملة الأولى مع زيادة فائدة وهي إفادة الاهتمام التام بأمر الأرحام.

16. الرحم‏ في الأصل رحم المرأة وهي العضو الداخلي منها المعبأ لتربية النطفة وليدا، ثم أستعير للقرابة بعلاقة الظرف والمظروف لكون الأقرباء مشتركين في الخروج من رحم واحدة، فالرحم هو القريب والأرحام الأقرباء.

17. اعتنى القرآن الشريف بأمر الرحم كما اعتنى بأمر القوم والأمة، فإن الرحم مجتمع صغير كما أن القوم مجتمع كبير، وقد اعتنى القرآن بأمر المجتمع وعده حقيقة ذات خواص وآثار كما اعتنى بأمر الفرد من الإنسان وعده حقيقة ذات خواص وآثار تستمد من الوجود، قال تعالى: ﴿وَهُوَالَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً وَهُوَالَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً﴾، وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾، وقال تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾، وقال تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات.

18. في المجمع، في قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾، عن الباقر عليه السلام: واتقوا الأرحام أن تقطعوها.. وبناؤه على قراءة النصب، وفي الكافي، وتفسير العياشي: هي أرحام الناس إن الله عز وجل أمر بصلتها وعظمها، ألا ترى أنه جعلها معه؟ قوله: ألا ترى (إلخ) بيان لوجه التعظيم، والمراد بجعلها معه الاقتران الواقع في قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾

19. في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله: ﴿الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ قال قال ابن عباس: قال رسول الله ص: يقول الله تعالى: صلوا أرحامكم ـ فإنه أبقى لكم في الحياة الدنيا وخير لكم في آخرتكم.. قوله: فإنه أبقى لكم (إلخ)، إشارة إلى ما ورد مستفيضا: أن صلة الرحم تزيد في العمر وقطعها بالعكس من ذلك، ويمكن أن يستأنس لوجهه بما سيأتي في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ الآية، يمكن أن يكون المراد بكونه أبقى كون الصلة أبقى للحياة من حيث أثرها فإن الصلة تحكم الوحدة السارية بين الأقارب فيتقوى بذلك الإنسان قبال العوامل المخالفة لحياته المضادة لرفاهية عيشه من البلايا والمصائب والأعداء.

20. في تفسير العياشي، عن الأصبغ بن نباتة قال سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إن أحدكم ليغضب فما يرضى حتى يدخل النار، فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمهـ فليدن منه فإن الرحم إذا مستها الرحم استقرت، وإنها متعلقة بالعرش تنقضه انتقاض الحديد فتنادي: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني ـ وذلك قول الله في كتابه: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، وأيما رجل غضب وهو قائم ـ فليلزم الأرض من فوره فإنه يذهب رجز الشيطان..

21. الرحم كما عرفت هي جهة الوحدة الموجودة بين أشخاص الإنسان من حيث اتصال مادة وجودهم في الولادة من أب وأم أو أحدهما، وهي جهة حقيقية سائرة بين أولي الأرحام لها آثار حقيقية خلقية وخلقية، وروحية وجسمية غير قابلة الإنكار وإن كان ربما توجد معها عوامل مخالفة تضعف أثرها أو تبطله بعض الإبطال حتى يلحق بالعدم ولن يبطل من رأس.

22. كيف كان فالرحم من أقوى أسباب الالتيام الطبيعي بين أفراد العشيرة، مستعدة للتأثير أقوى الاستعداد، ولذلك كان ما ينتجه المعروف بين الأرحام أقوى وأشد مما ينتجه ذلك بين الأجانب، وكذلك الإساءة في مورد الأقارب أشد أثرا منها في مورد الأجانب، وبذلك يظهر معنى قوله عليه السلام: فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدن منه، فإن الدنو من ذي الرحم رعاية لحكمها وتقوية لجانبها فتتنبه بسببه وتحرك لحكمها ويتجدد أثرها بظهور الرأفة والمحبة، وكذلك قوله عليه السلام في ذيل الرواية: وأيما رجل غضب وهو قائم فليلزم الأرض (إلخ)، فإن الغضب إذا كان عن طيش النفس ونزقها كان في ظهوره وغليانه مستندا إلى هواها وإغفال الشيطان إياها وصرفها إلى أسباب واهية وهمية، وفي تغيير الحال من القيام إلى القعود صرف النفس عن شأن إلى شأن جديد يمكنها بذلك أن تشتغل بالسبب الجديد فتنصرف عن الغضب بذلك لأن نفس الإنسان بحسب الفطرة أميل إلى الرحمة منها إلى الغضب ولذلك بعينه ورد في بعض الروايات مطلق تغيير الحال في حال الغضب‏، كما في المجالس، عن الصادق عن أبيه عليه السلام: أنه ذكر الغضب فقال: إن الرجل ليغضب حتى ما يرضى أبدا، ويدخل بذلك النار، فأيما رجل غضب وهو قائم فليجلس ـ فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان، وإن كان جالسا فليقم، وأيما رجل غضب على ذي رحم فليقم إليه وليدن منه وليمسهـ فإن الرحم إذا مست الرحم سكنت‏، وتأثيره محسوس مجرب، قوله عليه السلام: وإنها متعلقة بالعرش تنقضه انتقاض الحديد (إلخ) أي تحدث فيه صوتا مثل ما يحدث في الحديد بالنقر، وفي الصحاح: الإنقاض‏ صويت مثل النقر، وقد تقدم في الكلام على الكرسي إشارة إجمالية سيأتي تفصيلها في الكلام على العرش: أن المراد بالعرش مقام العلم الإجمالي الفعلي بالحوادث وهو من الوجود المرحلة التي تجتمع عندها شتات أزمة الحوادث ومتفرقات الأسباب والعلل الكونية فهي تحرك وحدها سلاسل العلل والأسباب المختلفة المتفرقة أي تتعلق بروحها الساري فيها المحرك لها كما أن أزمة المملكة على اختلاف جهاتها وشئونها وأشكالها تجتمع في عرش الملك والكلمة الواحدة الصادرة منه تحرك سلاسل القوى والمقامات الفعالة في المملكة وتظهر في كل مورد بما يناسبه من الشكل والأثر.

23. الرحم كما عرفت حقيقة هي كالروح السالب في قوالب الأشخاص الذين يجمعهم جامع القرابة فهي من متعلقات العرش فإذا ظلمت واضطهدت لاذت بما تعلقت به واستنصرت، وهو قوله عليه السلام: تنقضه انتقاض الحديد، وهو من أبدع التمثيلات شبه فيه ما يحدث في هذا الحال بالنقر الواقع على الحديد الذي يحدث فيه رنينا يستوعب بالارتعاش والاهتزاز جميع جسامة الحديد كما في نقر الأجراس والجامات وغيرها.

24. قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: فتنادي اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني، حكاية لفحوى التجائها واستنصارها، وفي الروايات الكثيرة أن صلة الرحم تزيد في العمر وأن قطعها يقطعه وقد مر في البحث عن ارتباط الأعمال والحوادث الخارجية من أحكام الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب أن مدير هذا النظام الكوني يسوقه نحو الأغراض والغايات الصالحة، ولن يهمل في ذلك، وإذا فسد جزء أو أجزاء منه عالج ذلك إما بإصلاح أو بالحذف والإزالة، وقاطع الرحم يحارب الله في تكوينه فإن لم يصلح بالاستصلاح بتر الله عمره وقطع دابره، وأما أن الإنسان اليوم لا يحس بهذه الحقيقة وأمثالها فلا غرو لأن الأدواء قد أحاطت بجثمان الإنسانية فاختلطت وتشابهت وأزمنت فالحس لا يجد فراغا يقوى به على إدراك الألم والعذاب.

25. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ الرقيب‏ الحفيظ والمراقبة المحافظة، وكأنه مأخوذ من الرقبة بعناية أنهم كانوا يحفظون رقاب عبيدهم، أو أن الرقيب كان يتطلع على من كان يرقبه برفع رقبته ومد عنقه، وليس الرقوب مطلق الحفظ بل هو الحفظ على أعمال المرقوب من حركاته وسكناته لإصلاح موارد الخلل والفساد أو ضبطها، فكأنه حفظ الشيء مع العناية به علما وشهودا ولذا يستعمل بمعنى الحراسة والانتظار والمحاذرة والرصد، والله سبحانه رقيب لأنه يحفظ على العباد أعمالهم ليجزيهم بها، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾، وقال: ﴿اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾، وقال: ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾

26. في تعليل الأمر بالتقوى في الوحدة الإنسانية السارية بين أفراده وحفظ آثارها اللازمة لها، بكونه تعالى رقيبا أعظم التحذير والتخويف بالمخالفة، وبالتدبر فيه يظهر ارتباط الآيات المتعرضة لأمر البغي والظلم والفساد في الأرض والطغيان وغير ذلك، وما وقع فيها من التهديد والإنذار، بهذا الغرض الإلهي وهو وقاية الوحدة الإنسانية من الفساد والسقوط.

27. كلام في عمر النوع الإنساني والإنسان الأولي‏:

أ. يذكر تاريخ اليهود أن عمر هذا النوع لا يزيد على ما يقرب من سبعة آلاف سنة والاعتبار يساعده فإنا لو فرضنا ذكرا وأنثى زوجين اثنين من هذا النوع وفرضناهما عائشين زمانا متوسطا من العمر في مزاج متوسط في وضع متوسط من الأمن والخصب والرفاهية ومساعدة سائر العوامل والشرائط المؤثرة في حياة الإنسان ثم فرضناهما وقد تزوجا وتناسلا وتوالدا في أوضاع متوسطة متناسبة ثم جعلنا الفرض بعينه مطردا فيما أولدا من البنين والبنات على ما يعطيه متوسط الحال في جميع ذلك وجدنا ما فرضناه من العدد أولا وهو اثنان فقط يتجاوز في قرن واحد (رأس المائة) الألف أي إن كل نسمة يولد في المائة سنة ما يقرب من خمس مائة نسمة، ثم إذا اعتبرنا ما يتصدم به الإنسان من العوامل المضادة له في الوجود والبلايا العامة لنوعه من الحر والبرد والطوفان والزلزلة والجدب والوباء والطاعون والخسف والهدم والمقاتل الذريعة والمصائب الأخرى غير العامة، وأعطيناها حظها من هذا النوع أوفر حظ، وبالغنا في ذلك حتى أخذنا الفناء يعم الأفراد بنسبة تسعمائة وتسعة وتسعين إلى الألف، وأنه لا يبقى في كل مائة سنة من الألف إلا واحد أي إن عامل التناسل في كل مائة سنة يزيد على كل اثنين بواحد وهو واحد من ألف، ثم إذا صعدنا بالعدد المفروض أولا بهذا الميزان إلى مدة سبعة آلاف سنة وجدناه تجاوز بليونين ونصفا، وهو عدد النفوس الإنسانية اليوم على ما يذكره الإحصاء العالمي.

ب. فهذه الاعتبار يؤيد ما ذكر من عمر نوع الإنسان في الدنيا لكن علماء الجيولوجي (علم طبقات الأرض) ذكروا أن عمر هذا النوع يزيد على مليونات من السنين، وقد وجدوا من الفسيلات الإنسانية والأجساد والآثار ما يتقدم عهده على خمس مائة ألف سنة على ما استظهروه، فهذا ما عندهم، غير أنه لا دليل معهم يقنع الإنسان ويرضي النفس باتصال النسل بين هذه الأعقاب الخالية والأمم الماضية من غير انقطاع، فمن الجائز أن يكون هذا النوع ظهر في هذه الأرض ثم كثر ونما وعاش ثم انقرض ثم تكرر الظهور والانقراض ودار الأمر على ذلك عدة أدوار، على أن يكون نسلنا الحاضر هو آخر هذه الأدوار.

ج. أما القرآن الكريم فإنه لم يتعرض تصريحا لبيان أن ظهور هذا النوع هل ينحصر في هذه الدورة التي نحن فيها أو أن له أدوارا متعددة نحن في آخرها؟ وإن كان ربما يستشم من قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ الآية، سبق دورة إنسانية أخرى على هذه الدورة الحاضرة، وقد تقدمت الإشارة إليه في تفسير الآية.

د. نعم في بعض الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليه السلام ما يثبت للإنسانية أدوارا كثيرة قبل هذه الدورة، ففي التوحيد، عن الصادق عليه السلام في حديث قال: لعلك ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم؟ بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين.. ونقل ابن ميثم في شرح نهج البلاغة عن الباقر عليه السلام ما في معناه، ورواه الصدوق في الخصال أيضا.. وفي الخصال، عن الصادق عليه السلام قال إن الله تعالى خلق اثني عشر ألف عالم ـ كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات وسبع أرضين ـ ما يرى عالم منهم أن الله عز وجل عالما غيرهم.. وفيه، عن أبي جعفر عليه السلام: لقد خلق الله عز وجل في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ـ ليس هم من ولد آدم خلقهم من أديم الأرض ـ فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمهـ ثم خلق الله عز وجل آدم أبا البشر وخلق ذريته منه، الحديث.

هـ. سؤال وإشكال: ربما قيل: إن اختلاف الألوان في أفراد الإنسان وعمدتها البياض كلون أهل النقاط المعتدلة من آسيا وأوربا، والسواد كلون أهل إفريقيا الجنوبية، والصفرة كلون أهل الصين واليابان، والحمرة كلون الهنود الأمريكيين يقضي بانتهاء النسل في كل لون إلى غير ما ينتهي إليه نسل اللون الآخر لما في اختلاف الألوان من اختلاف طبيعة الدماء وعلى هذا فالمبادي الأول لمجموع الأفراد لا ينقصون من أربعة أزواج للألوان الأربعة، وربما يستدل عليه بأن قارة أمريكا انكشفت ولها أهل وهم منقطعون عن الإنسان القاطن في نصف الكرة الشرقي بالبعد الشاسع الذي بينهما انقطاعا لا يرجى ولا يحتمل معه أن النسلين يتصلان بانتهائهما إلى أب واحد وأم واحدة، والجواب: الدليلان ـ كما ترى ـ مدخولان:

أما مسألة اختلاف الدماء باختلاف الألوان فلأن الأبحاث الطبيعية اليوم مبنية على فرضية التطور في الأنواع، ومع هذا البناء كيف يطمأن بعدم استناد اختلاف الدماء فاختلاف الألوان إلى وقوع التطور في هذا النوع وقد جزموا بوقوع تطورات في كثير من الأنواع الحيوانية كالفرس والغنم والفيل وغيرها، وقد ظفر البحث والفحص بآثار أرضية كثيرة يكشف عن ذلك؟ على أن العلماء اليوم لا يعتنون بهذا الاختلاف ذاك الاعتناء.

أما مسألة وجود الإنسان في ما وراء البحار فإن العهد الإنساني على ما يذكره علماء الطبيعة يزهو إلى ملايين من السنين، والذي يضبطه التاريخ النقلي لا يزيد على ستة آلاف سنة، وإذا كان كذلك فما المانع من حدوث حوادث فيما قبل التاريخ تجزي قارة أمريكا عن سائر القارات، وهناك آثار أرضية كثيرة تدل على تغييرات هامة في سطح الأرض بمرور الدهور من تبدل بحر إلى بر وبالعكس، وسهل إلى جبل وبالعكس، وما هو أعظم من ذلك كتبدل القطبين والمنطقة على ما يشرحه علوم‏ طبقات الأرض والهيئة والجغرافيا فلا يبقى لهذا المستدل إلا الاستبعاد فقط هذا.

و. أما القرآن فظاهره القريب من النص أن هذا النسل الحاضر المشهود من الإنسان ينتهي بالارتقاء إلى ذكر وأنثى هما الأب والأم لجميع الأفراد أما الأب فقد سماه الله تعالى في كتابه بآدم، وأما زوجته فلم يسمها في كتابه ولكن الروايات تسميها حواء كما في التوراة الموجودة، قال تعالى: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ وقال تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، وقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ الآية، وقال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ الآيات.. فإن الآيات ـ كما ترى ـ تشهد بأن سنة الله في بقاء هذا النسل أن يتسبب إليه بالنطفة لكنه أظهره حينما أظهره بخلقه من تراب، وأن آدم خلق من تراب وأن الناس بنوه، فظهور الآيات في انتهاء هذا النسل إلى آدم وزوجته مما لا ريب فيه وإن لم تمتنع من التأويل.

ز. ربما قيل: إن المراد بآدم في آيات الخلقة والسجدة آدم النوعي دون الشخصي كان مطلق الإنسان من حيث انتهاء خلقه إلى الأرض ومن حيث قيامه بأمر النسل والإيلاد سمي بآدم، وربما استظهر ذلك من قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ فإنه لا يخلو عن إشعار بأن الملائكة إنما أمروا بالسجدة لمن هيأه الله لها بالخلق والتصوير وقد ذكرت الآية أنه جميع الأفراد لا شخص إنساني واحد معين حيث قال ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾، وهكذا قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ (إلى أن قال): ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ (إلى أن قال): ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ حيث أبدل ما ذكره مفردا أولا من الجمع ثانيا، ويرده مضافا إلى كونه على خلاف ظاهر ما نقلناه من الآيات ظاهر قوله تعالى ـ بعد سرد قصة آدم وسجدة الملائكة وإباء إبليس في سورة الأعراف‏ ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا﴾ فظهور الآية في شخصية آدم مما لا ينبغي أن يرتاب فيه، وكذا قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾، وكذا الآية المبحوث عنها ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ الآية، بالتقريب الذي مر بيانه، فالآيات ـ كما ترى ـ تأبى أن يسمى الإنسان آدم باعتبار وابن آدم باعتبار آخر، وكذا تأبى أن تنسب الخلقة إلى التراب باعتبار وإلى النطفة باعتبار آخر وخاصة في مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ الآية، وإلا لم يستقم استدلال الآية على كون خلقة عيسى خلقة استثنائية ناقضة للعادة الجارية، فالقول بآدم النوعي في حد التفريط، والإفراط الذي يقابله قول بعضهم: إن القول بخلق أزيد من آدم واحد كفر، ذهب إليه زين العرب من علماء أهل السنة.

28. كلام في أن الإنسان نوع مستقل غير متحول من نوع آخر:

أ. الآيات السابقة تكفي مئونة هذا البحث فإنها تنهي هذا النسل الجاري بالنطفة إلى آدم وزوجته وتبين أنهما خلقا من تراب فالإنسانية تنتهي إليهما وهما لا يتصلان بآخر يماثلهما أو يجانسهما وإنما حدثا حدوثا، والشائع اليوم عند الباحثين عن طبيعة الإنسان أن الإنسان الأول فرد تكامل إنسانا وهذه الفرضية بخصوصها وإن لم يتسلمها الجميع تسلما يقطع الكلام واعترضوا عليه بأمور كثيرة مذكورة في الكتب لكن أصل الفرضية وهي (أن الإنسان حيوان تحول إنسانا) مما تسلموه وبنوا عليه البحث عن طبيعة الإنسان، فإنهم فرضوا أن الأرض ـ وهي أحد الكواكب السيارة ـ قطعة من الشمس‏ مشتقة منها وقد كانت في حال الاشتعال والذوبان ثم أخذت في التبرد من تسلط عوامل البرودة، وكانت تنزل عليها أمطار غزيرة وتجري عليها السيول وتتكون فيها البحار ثم حدثت تراكيب مائية وأرضية فحدثت النباتات المائية ثم حدثت بتكامل النبات واشتمالها على جراثيم الحياة السمك وسائر الحيوان المائي ثم السمك الطائر ذو الحياتين ثم الحيوان البري ثم الإنسان، كل ذلك بتكامل عارض للتركيب الأرضي الموجود في المرتبة السابقة يتحول به التركيب في صورته إلى المرتبة اللاحقة فالنبات ثم الحيوان المائي ثم الحيوان ذو الحياتين ثم الحيوان البري ثم الإنسان على الترتيب هذا كل ذلك لما يشاهد من الكمال المنظم في بنيها نظم المراتب الآخذة من النقص إلى الكمال ولما يعطيه التجريب في موارد جزئية التطور.

ب. وهذه فرضية افترضت لتوجيه ما يلحق بهذه الأنواع من الخواص والآثار من غير قيام دليل عليها بالخصوص ونفي ما عداها مع إمكان فرض هذه الأنواع متباينة من غير اتصال بينها بالتطور وقصر التطور على حالات هذه الأنواع دون ذواتها وهي التي جرى فيها التجارب فإن التجارب لم يتناول فردا من أفراد هذه الأنواع تحول إلى فرد من نوع آخر كقردة إلى إنسان وإنما يتناول بعض هذه الأنواع من حيث خواصها ولوازمها وأعراضها.

ج. واستقصاء هذا البحث يطلب من غير هذا الموضع، وإنما المقصود الإشارة إلى أنه فرض افترضوه لتوجيه ما يرتبط به من المسائل من غير أن يقوم عليه دليل قاطع فالحقيقة التي يشير إليها القرآن الكريم من كون الإنسان نوعا مفصولا عن سائر الأنواع غير معارضة بشيء علمي.

29. سؤال وإشكال: الطبقة الأولى من الإنسان وهي آدم وزوجته تناسلت بالازدواج فأولدت بنين وبنات (إخوة وأخوات) فهل نسل هؤلاء بالازدواج بينهم وهم إخوة وأخوات أو بطريق غير ذلك؟ والجواب:

أ. ظاهر إطلاق قوله تعالى: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ الآية على ما تقدم من التقريب أن النسل الموجود من الإنسان إنما ينتهي إلى آدم وزوجته من‏ غير أن يشاركهما في ذلك غيرهما من ذكر أو أنثى ولم يذكر القرآن للبث إلا إياهما، ولو كان لغيرهما شركة في ذلك لقال: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا﴾ ومن غيرهما، أو ذكر ذلك بما يناسبه من اللفظ، ومن المعلوم أن انحصار مبدإ النسل في آدم وزوجته يقضي بازدواج بنيهما من بناتهما.

ب. أما الحكم بحرمته في الإسلام وكذا في الشرائع السابقة عليه على ما يحكى فإنما هو حكم تشريعي يتبع المصالح والمفاسد لا تكويني غير قابل للتغيير، وزمامه بيد الله سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فمن الجائز أن يبيحه يوما لاستدعاء الضرورة ذلك ثم يحرمه بعد ذلك لارتفاع الحاجة واستيجابه انتشار الفحشاء في المجتمع.

ج. القول بأنه على خلاف الفطرة وما شرعه الله لأنبيائه دين فطري، قال تعالى‏ ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾، فاسد فإن الفطرة لا تنفيه ولا تدعو إلى خلافه من جهة تنفرها عن هذا النوع من المباشرة (مباشرة الأخ الأخت) وإنما تبغضه وتنفيه من جهة تأديته إلى شيوع الفحشاء والمنكر وبطلان غريزة العفة بذلك وارتفاعها عن المجتمع الإنساني، ومن المعلوم أن هذا النوع من التماس والمباشرة إنما ينطبق عليه عنوان الفجور والفحشاء في المجتمع العالمي اليوم، وأما المجتمع يوم ليس هناك بحسب ما خلق الله سبحانه إلا الإخوة والأخوات والمشية الإلهية متعلقه بتكثرهم وانبثاثهم فلا ينطبق عليه هذا العنوان.

د. الدليل على أن الفطرة لا تنفيه من جهة النفرة الغريزية تداوله بين المجوس أعصارا طويلة (على ما يقصه التاريخ) وشيوعه قانونيا في روسيا (على ما يحكى) وكذا شيوعه سفاحا من غير طريق الازدواج القانوني في أوربا.

هـ. وربما يقال: إنه مخالف للقوانين الطبيعية وهي التي تجري في الإنسان قبل عقده‏ المجتمع الصالح لإسعاده فإن الاختلاط والاستيناس في المجتمع المنزلي يبطل غريزة التعشق والميل الغريزي بين الإخوة والأخوات كما ذكره بعض علماء الحقوق‏، وفيه أنه ممنوع كما تقدم أولا، ومقصور في صورة عدم الحاجة الضرورية ثانيا، ومخصوص بما لا تكون القوانين الوضعية غير الطبيعية حافظة للصلاح الواجب الحفظ في المجتمع، ومتكفلة لسعادة المجتمعين وإلا فمعظم القوانين المعمولة والأصول الدائرة في الحياة اليوم غير طبيعية.

و. في الإحتجاج، عن السجاد عليه السلام في حديث له مع قرشي يصف فيه تزويج هابيل بلوزا أخت قابيل ـ وتزويج قابيل بإقليما أخت هابيل، قال فقال له القرشي: فأولداهما؟ قال نعم، فقال له القرشي: فهذا فعل المجوس اليوم، قال فقال: إن المجوس فعلوا ذلك بعد التحريم من الله، ثم قال له: لا تنكر هذا إنما هي شرائع الله جرت، أليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثم أحلها له؟ فكان ذلك شريعة من شرائعهم ـ ثم أنزل الله التحريم بعد ذلك، الحديث.. وهذا الذي ورد في الحديث هو الموافق لظاهر الكتاب والاعتبار، وهناك روايات أخر تعارضها وهي تدل على أنهم تزوجوا بمن نزل إليهم من الحور والجان وقد عرفت الحق في ذلك.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/135.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ هذا خطاب عام للناس أمرهم الله بتقواه، فقال: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ ليذكروا أنه مالكهم الذي تجب عليهم طاعته.

2. ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ فأصلكم واحد فلا تتظالموا، فمن التقوى تقوى الله من بعضكم في بعض ﴿وَ﴾ خَلَق من النفس الواحدة التي هي آدم عليه السلام ﴿خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ وهي أم بني آدم ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا﴾ من آدم وزوجه في أقطار الأرض ﴿رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ وذلك دليل على قدرته ورعايته لخلقه ورزقه لهم حتى كثروا، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا يهملهم فهو إعداد لما يأتي في السورة من التكاليف على بعضهم لبعض.

3. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ لعلمكم أنه رقيب عليكم، ومعنى ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ يقول بعضكم لبعض: (أسألك بالله) ﴿وَ﴾ اتقوا ﴿الْأَرْحَامِ﴾ أن تقطعوها في المواريث أو غيرها.

4. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ في الحال والماضي فيما قد ظلمتم فيه النساء واليتامى وقطعتم فيه الأرحام وغير ذلك.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/3.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تبدأ السورة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ في نداء إلهي الانخراط في سير تقواه تعالى، وذلك انطلاقا من كونه هو خالقهم‏ ﴿مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾، تؤكد على وحدة نوعهم ومصدرهم، وبالتالي على وحدة سيرهم المشترك (نحو الله تعالى)، الأمر الذي يفرض عليهم الانخراط في خط تقواه تعالى، لما تقتضيه الحاجة العميقة للمخلوق بالخالق، في كل مجالات الحياة الروحية وغير الروحية، ولعلّ التدقيق في هذا الجانب يؤدي الى الانفتاح على آفاق جديدة من خصائص الوحدة في هذا التنوع الإنساني، وروعة العظمة في هذا التلاؤم بين الوحدة والتنوّع، في ما يوحيه من وحدة الشعور وحيوية العلاقات الإنسانية، التي يريد القرآن تركيزها على الأسس الروحية المرتبطة بالله دائما، باعتباره القوة التي تجمعهم في ما اختلفوا فيه.

2. من الممكن أن يكون هذا المعنى، هو الذي أوجب اختلاف النداءات، فهناك النداء الذي يبدأ بكلمة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، والنداء الذي يبدأ بكلمة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ في ما يريده القرآن من الدعوة الى التقوى، فإن هناك أسلوبا يعمل على تحريك النفس الإنسانية على مشاعر الإيمان والتقوى في جانبها الإنساني، ويقابل ذلك في اتجاه المؤمنين، أسلوب آخر يخاطب به المؤمنين لاستثارة إيمانهم، وتحويله إلى قوة فاعلة حية لا تتجمد في المشاعر، ولا تغيب في أجواء التجريد؛ للتأكيد على تزاوج الإيمان والعمل في علاقة الإيمان بالفكر والشعور بالعمل في خط الحركة، وفي هذا الجو يستطيع الداعية المسلم أن يفرّق في أسلوبه العملي الذي يريد من خلاله استثارة الآخرين بطريقة النداء، بين ما يرتبط بالجانب الإنساني الذي يخاطب به جميع الناس، وبين ما يرتبط بالجانب الإيماني الذي يخاطب به المؤمنين؛ فلا يخلط بينهما، حين يفرض فيه التفريق؛ لأن لذلك دخلا كبيرا في واقعية الأسلوب ومرونته وفاعليته، وربما كان من المفيد ـ في هذا المجال ـ أن لا يشعر بالحرج، إذا احتاج إلى تجاوز صفة الإيمان في خطابه، والتأكيد على الصفة الإنسانية، تبعا لاختلاف المواقف والأشخاص، لأن ذلك لا يعني إغفالها، بل يعمل على إغنائها بعنصر إيجابي جديد.

3. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ التقوى هي الدعوة التي يدعو الله إليها عباده في أغلب الآيات، لممارستها كأسلوب تربويّ في نطاق العمل الإنساني من خلال مراقبة الله والإحساس العميق بوجوده، والفرق كبير بين أن تقول لإنسان ما: اعمل كذا، وبين أن تدعوه إلى العمل تحت شعار التقوى، فالأسلوب الثاني يربط العمل بالله في دوافعه وخطواته ونتائجه، في حين لا يمثل الأسلوب الأول إلا التأكيد على طبيعة العمل؛ مما لا يحقّق للإنسان عمقا وحبا للعمل، بينما يتحقق ذلك من خلال الفاعلية الروحية للتقوى في الحياة، وهذا ما يستهدفه الإسلام في تخطيطه لبناء الشخصية الإسلامية، في تشريعه الذي يريد أن يجعل من التزام الإنسان بأحكام الله، حركة يومية تجدّد في داخله الإحساس الدائم بحضور الله ومسئوليته في إطاعة أوامره ونواهيه، لئلا يكون هناك خلل في داخل الشخصية بين طبيعة الإيمان والعمل، بل على العكس من ذلك، يقوم كل منهما لدعم الآخر.

4. هذا ما يجب أن يركزه في أسلوب التربية للمؤمنين، لا سيما العاملين منهم، من أجل الابتعاد عن الجفاف الروحي الذي قد يعانيه المؤمن من جرّاء التأكيد على جانب العمل بعيدا عن روحية التقوى، وقد يكون لذلك قيمة أخرى تربوية، وهي الحفاظ على حيوية الكلمات القرآنية وتحريكها في حياة الناس، وتحويلها إلى طاقة فاعلة تمد الإنسان بالتجدد والحركة، وإبعادها عن المفاهيم الضيقة التي ربما تختزنها في الممارسات المتخلفة، التي يمارسها المؤمنون في بعض مواقع التخلف ومراحله، كما حدث لكلمة (التقوى) التي أخذت معنى تقليديا يجعلها من الكلمات المحبوسة في نطاق الأعمال العبادية والأخلاق الفردية، بعيدا عن حياة الناس العامة، وفي هذا الإطار التربوي، تبقى الكلمات علامة على الشخصية الإسلامية ورمزا من رموزها، في حركة تأثر وتأثير في الواقع الداخلي والخارجي للإنسان.

5. التقوى ـ في ما نفهمه ـ هي الإسلام بمعناه الحيّ المتحرك، فقد يمكن لقائل أن يقول: إنها التلخيص العملي لكلمة الإسلام، لأنها تشمل الجانب الفكري الذي يمثل العمق الداخلي، والجانب العملي الذي يمثل‏ الحركة الخارجية له؛ وذلك بأن تنطلق في فكرك وعملك وعاطفتك وعلاقتك وتعاملك مع الآخرين، من خلال رضا الله في أمره ونهيه في عملية التزام وانضباط؛ (فلا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك)؛ وأن تملك إرادتك في مواقع حركة المبادئ في الحياة، بين يدي ربّك، فلا تسقط التزاماتك أمام ضغط شهواتك ومطامعك.

6. قد يكون في اختيار كلمة ﴿رَبُّكُمُ﴾ بدلا من كلمة ﴿اللَّهُ﴾ ما توحيه الكلمة الأولى من معنى التربية، التي تجعل من التقوى وجها من وجوه التربية، يلتقي فيه الإنسان بالله من موقع النمو العملي للشخصية، وما يستتبعه ذلك من التركيز على نوعية العلاقة بين الإنسان وربه؛ فليست هي مجرد صلة تنتهي بانتهاء عملية الخلق، بل هي علاقة متصلة بوجود الإنسان في نموّه الجسدي والعقلي والروحي والعملي، فإذا انسجم الإنسان مع ذلك، من خلال ما أودعه الله من عقل وأرسله إليه من وحي، انطلقت التربية في نطاقها الطبيعي، أما إذا تمرّد، وانطلق مع شهواته، وترك نداء العقل؛ كانت النداءات الإلهية في أجواء الترغيب والترهيب له بالمرصاد، يقرّبه من الجنّة وتبعده عن النار؛ وكانت الاختيارات بالابتلاءات والصدمات تنتظره في كل مجال، لترجعه الى عقله وربه.

7. ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ هذه هي الصفة التي يثيرها القرآن أمام التصور الإنساني، ليتصوره من موقع ارتباطه الوثيق به في عملية الوجود، مما يجعله يعيش الشعور بالله، في كل نبضة من نبضات قلبه، وفي كل خلجة من خلجات مشاعره، وفي كل حركة من حركات جسمه، وفي كل‏ مظهر للحياة، فيمتلئ إحساسا بالله، كلما تعاظم إحساسه بالحياة، حيث يجد الله في ذلك كله، لأنها وجدت به ومنه، واستمرت من خلاله، وتستمر بقدرته.

8. سؤال وإشكال: لكن كيف كانت هذه النفس الواحدة؟ والجواب: ربما يلوح من بعض المفسرين أن ذلك إشارة إلى الحقيقة الواحدة التي تتمثل في الذكر والأنثى، لأن الله ـ حين خلقها ـ أبدعها على أساس الزوجية، فليس هناك ـ حسبما تدل عليه الآية ـ حديث عن آدم في ما يمثله كشخص ووجود عينيّ، وقد لا يكون هذا بعيدا عن جو الآية، ولكن قد يبتعد عن ظاهرها اللفظي، فإنّ الظاهر أن الحديث لم يكن عن طبيعة الوجود الإنساني، بل هو عن بدايته وطريقة استمراره؛ فهناك مخلوق أول، خلقه الله في البداية كجسد، وأودع فيه روحا من روحه، وفي هذا الجو كانت الزوجية طبيعة ذاتية في هذا المخلوق، ولا بد أن تكون الإشارة في هذا الى آدم وحواء، على أساس أنهما خلق الله المباشر الذي كان القاعدة الأولى التي انطلق منها التكاثر؛ وهو ما توحيه فقرة ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾؛ فإنّ القضية لو كانت كما ذكره ذلك البعض، لما كان هناك مكان لهذه الفقرة التي تتحدث عن عملية التكاثر من موقع الوحدة.

9. ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ كيف نتصور عملية الخلق هذه؟ جاء في بعض الآثار المروية، أن حواء خلقت من ضلع آدم، ويدخل البعض في حساب أضلع المرأة وأضلع الرجل، بعد أن أكد البعض الفكرة بهذه الآية، على أساس أن المراد من كلمة ﴿زَوْجِهَا﴾ حواء؛ ويذهب آخرون إلى أن كلمة الزوج لا يراد منها ذلك، لأنها تطلق على الذكر والأنثى، فيقال: فلان زوج فلانة، كما يقال: فلانة زوج فلان، وبهذا لا يكون المراد من النفس الواحدة آدم ومن زوجها حوّاء، ولكننا استظهرنا من الآية ذلك، باعتبار أنها واردة في مقام تسلسل الخلق، دون أن يتم الخلق من ضلع آدم، فإن الآية لا تدل عليه؛ بل يمكن أن يتجه النظر نحو الجزء المتبقي من الطينة التي خلق منها آدم، وقد ورد ذلك في حديث عن الإمام محمد الباقر عليه السّلام، فعن عمرو بن أبي المقدام، عن أبيه قال‏: سألت أبا جعفر عليه السّلام: من أي شيء خلق الله حواء؟ فقال عليه السّلام: أي شيء يقولون هذا الخلق؟ قلت يقولون: إن الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم، فقال: كذبوا، أكان الله يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه؟ فقلت: جعلت فداك، من أي شيء خلقها؟ فقال: أخبرني أبي عن آبائه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الله تبارك وتعالى قبض قبضة من طين، فخلطها بيمينه، وكلتا يديه يمين، فخلق منها آدم وفضلت فضلة من الطين، فخلق منها حوّاء.

10. مما يؤكد ذلك أن الله تحدث في آيات أخرى عن الموضوع بطريقة الجمع، مما يدل على أن المراد من خلق الزوج من نوعه ومن عنصره الأصلي وذلك في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ [الروم: 21]، وفي قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ [النحل: 73]، فإن من المعلوم من خلال طبيعة التعبير، أن المراد منه أن الله خلق لكل إنسان من داخل نوعه زوجا، لا من بعض أعضاء جسده، والله العالم.

11. هذا في جانب، وفي جانب آخر فإننا قد نستوحي من عنوان (النفس الواحدة) الرفض القرآني لكل جوانب التمييز العنصري والعرقي واللوني واللغوي والجغرافي، فإن هذه العناصر المتنوعة لا تمثل عمقا في إنسانية الإنسان المتمثلة في نفس واحدة، بل هي من الأمور الطارئة في حركة وجوده في خط التنوع الذي يمثل قدرة الله على تنويع الشيء الواحد بألوان وخصائص متعددة ومن دون أن يفقد في تنوعه هذا طبيعته الأصيلة، وفي ذلك فلا مجال لأن يرى الناس في هذه الخصائص مميزات وأمجادا وعناوين للتفاضل، فهي ليست خصائص الوجود في العمق، بل هي من خصائص الشكل والامتداد.

12. جاء في تفسير المنار ـ كما نقله صاحب التفسير الكاشف ـ أنه نقل عن أستاذه الشيخ محمد عبده، أن الله تعالى قد أبهم أمر النفس التي خلق الناس منها، وجاء بها نكرة، فندعها نحن على إبهامها، وما ورد في آيات أخرى من مخاطبته الناس بقوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾ لا ينافي هذا؟ رأي لا يرفع الإبهام ولا يعدّ نصا قاطعا في كون جميع البشر من أبناء آدم، إذ يكفي في صحة الخطاب أن يكون من وجّهه إليهم في زمن التنزيل، هم من أولاد آدم، وقد تقدم في تفسير قصة آدم في أوائل سورة البقرة أنه كان في الأرض قبله نوع من هذا الجنس، فسدوا فيها وسفكوا الدماء، لكننا نلاحظ على هذا الرأي، أن الحديث القرآني عن (بني آدم) لم يكن مختصا بزمن التنزيل، بل هو شامل للإنسان كله كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الأعراف: 171] وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70] وقوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ﴾ [الأعراف: 27] فإن هذه الخطابات أو الأحاديث لم‏ تتوجه إلى الناس في زمن الدعوة، بل هي موجّهة للإنسان كله، الأمر الذي يوحي أن هذا الإنسان الذي يعيش في هذه الأرض هو ابن آدم، وليس ابن نفس أخرى.

13. لا ينافي ذلك ورود بعض الروايات‏ الدالة على وجود مخلوقات مشابهة لهذا الإنسان قبل وجود آدم، لأن الظاهر ـ على تقدير صحة الرواية ـ أنّ هذا النوع انقرض ولم يعد له دور في الأرض، ولذلك جعل الله الإنسان الجديد الذي بدأه بآدم خليفة له في الأرض، وقد تحدثنا في تفسير سورة البقرة أن حديث الملائكة عن مخلوق أرضي يفسد في الأرض ويسفك الدماء لا يدل على وجود تجربة إنسانية سابقة، فهناك احتمال آخر في التفسير.

14. ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ ربما يستظهر من هذه الآية الفكرة التي تقول: إن مصدر التوالد في النوع الإنساني هما آدم وحوّاء، وليس هناك أي عنصر آخر غير إنساني، كما تحاول بعض الروايات الإيحاء به، من أن بداية التناسل في الطبقة الثانية كانت من حورية أو جنية تزوج إحداهما بعض أولاد آدم، وتزوّج الأخرى بعض آخر، فقد يستفاد من الآية أنه لو كان هذا صحيحا، لقال: وبث منهما ومن غيرهما، ولكن هذا الاستظهار غير دقيق. جاء في كتاب التوحيد للصدوق عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام في حديث قال‏: لعلك ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم، بلى والله، لقد خلق ألف ألف آدم، أنتم في آخر أولئك الآدميين، لأن هذه الفقرة تتحدث عن انطلاق التناسل منهما، باعتبارهما المصدر الأول، من دون تعرّض لما حدث بعدهما في خصوصية التزاوج؛ فلا ظهور لها من هذه الجهة نفيا أو إثباتا.

15. سؤال وإشكال: ربما يتساءل البعض ما إذا كان من الممكن إثارة هذا الموضوع من زاوية أخرى، غير جهة الاستظهار من الآية، وهي أن بداية التناسل في الطبقة الثانية، إذا كانت إنسانية بجميع عناصرها، كانت القضية منطلقة من زواج الأخ بأخته؟ وهذا أمر مرفوض في الشرائع السماوية، بل ربما يحاول البعض أن يعتبر الموضوع غير وارد حتى لدى الحيوانات، والجواب: أن قضية شرعية أية علاقة زوجية وعدم شرعيتها خاضعة لحركة التشريع من ناحية التحليل والتحريم، من دون أية عوامل ذاتية أو فطرية، وفي ضوء ذلك، ترتكز الحالة النفسية المضادّة على عناصر التربية، في ما يلتقي عليه الناس من قيم سلبية مستندة إلى التشريع، الأمور على العكس من ذلك، في طروء التحريم بعد التحليل؛ ولعلّ الأساس في هذا الاختلاف هو انطلاق الأحكام من المصالح والمفاسد المحدودة بحدود الزمان والمكان، والظروف الموضوعية المحيطة بالمسألة المتغيّرة، تبعا للعوامل المتنوّعة المؤثرة، وهذا هو الذي انطلق منه مبدأ النسخ في التشريع، في داخل الشريعة الواحدة أو في نطاق الشرائع المتعددة، وفي هذا الجو، لا نجد هناك مانعا من أن يكون الله ـ سبحانه ـ قد أحلّ للطبقة الأولى من أولاد آدم أن يتزوجوا من بعضهم البعض، وذلك من أجل الانطلاق بعملية التناسل في نطاقها الطبيعي، بعيدا عن أية مفسدة في ذلك، لأن النظام الأسري الذي يفرض بعض الحواجز النفسية في قضية تزاوج الإخوة والأخوات، لم يكن قد انطلق بعد في حركة الحياة العامة، لأن المجتمع الذي يعتبر هذا النظام جزءا من حركته، لم يكن قد ولد بعد، ثم جاء التحريم بعد ذلك، لأن المصلحة الداعية إلى التشريع قد انتهت عند هذا الحدّ، وأصبحت القضية تتحرك في أجواء المفسدة الملزمة، التي تفرض التشريع المضادّ للحكم بالحلّيّة، لذلك يمكن اعتبار النظام الاجتماعي، الذي ربطه التشريع بنظام الأسرة، قاعدة للحكم بالتحريم الذي قد يراد منه خلق حاجز نفسيّ يمنع الأخ من الزواج بأخته، ويخلق حالة شعورية مضادة في ما يتعلق بالعلاقات الجنسية بينهما، مما يمكنهما من العيش في ظل بيت واحد بشكل طبيعي، من دون خوف من الحالات السلبية في هذا النطاق، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعدّاه إلى التشريع المتحرك في نظام تحريم الزواج بالمحارم، وإذا كان هذا الفهم هو التفسير الطبيعي للموضوع، فليست هناك مشكلة نبحث لها عن حل.

16. أكّد هذا المعنى‏ الحديث الوارد عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام، في ما روي عن الإمام علي بن الحسين، زين العابدين عليه السّلام‏ في حديث له مع قرشي، يصف فيه تزويج هابيل بلوزا أخت قابيل، وتزويج قابيل بإقليما أخت هابيل، فقال له القرشي: فأولداهما؟ قال نعم، فقال له القرشي: فهذا فعل المجوس اليوم، قال فقال: إن المجوس فعلوا ذلك بعد التحريم من الله، ثم قال له: لا تنكر هذا، إنما هي شرائع الله جرت، أليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثم أحلّها له؟ فكان ذلك شريعة من‏ شرائعهم، ثم أنزل الله التحريم بعد ذلك‏.

17. قد يثار في هذا المجال نقطة ثانية، وهي أن الإنسان لم يخلق إنسانا سويا كاملا، بل خلق في البداية حيوانا، ثم مر في مراحل تطورية، حتى أخذ حجم إنسانيته ومعناها، على أساس قاعدة التطور التي قررها داروين في نظريته في (أصل الأنواع) التي حاول أن يؤكد فيها شمول النظرية لأبعد من موضوع الإنسان، لكننا نرفض ذلك، من خلال وجهة النظر الإسلامية التي يمثلها القرآن الكريم، استنادا إلى مداليل ظهور هذه الآية وغيرها من الآيات المتحدثة عن بداية الخلق، في ما حدثنا الله عنه من خلق آدم الذي هو الأب الأول للنوع الإنساني، في الصورة الكاملة، من حيث الخلق والعقل والإدراك والمسؤولية التامة عن أعماله، مما يوحي بأن إنسانيته كانت متأصلة في حركة وجوده منذ البداية، ولهذا كانت هذه النظرية منافية للنصوص الدينيّة القرآنية، ولما ورد في السنة الشريفة، وما اشتملت عليه من حديث بداية الخلق، هذا من ناحية إسلامية.

18. أما من الناحية العلمية الموضوعية، فقد لا يكون هذا التفسير هو المجال الطبيعي لمناقشتها، ولكن هناك جانبا لا بد أن نثيره هنا، وهو أن هذه النظرية قد ارتكزت على أساس التجربة المحدودة التي لا تتسع لكل النماذج الإنسانية، بل تقتصر على نماذج معينة لا يصح معها تعميم الاستنتاج وإطلاقه، ونضيف إلى ذلك أن هذه التجربة لا تنحصر في تفسير واحد، بل ربما تتسع لأكثر من ملاحظة أو تفسير يبتعد بها عن مجرى النظرية، وربما تحدّث بعض الباحثين عن وجود نماذج سابقة في الزمان، تكشف عن أقدمية الإنسان عن المدى الذي تمثله نماذج داروين، مما يعني أن عملية الاستنتاج لديه لا تخضع لحسابات دقيقة، ومهما اختلفت الفروض، فإنّ هناك حقيقة أساسية في ذلك كله، وهي أن النتائج الحاصلة في هذه النظرية لا تعتبر حقائق علمية، بل هي فرضيّات ظنية تخضع للحدس والتخمين، لأنها لا تمنع الاحتمالات المضادة، من خلال طبيعة التجربة، أو من خلال الحلقات المفقودة في حركة التجربة، ولذلك، فإنّها لا تمثل أساسا علميا في مقابل الوحي الإلهي الذي يمثل الحقيقة الدينيّة.

19. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ وجاءت هذه الفقرة آمرة بالتقوى، تأكيدا للخط الذي يريد الله لعباده السير عليه وينهجوا نهجه، وربما كان في إلحاق كلمة الجلالة، بقوله‏ ﴿الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ إيحاء بالصلة الوثيقة التي تربط الإنسان بالله، من جهة مناشدة الآخرين له‏ ومساءلتهم إياه بالله، في ما يطلبونه من حاجات وما يبتغونه من قضايا، مما يعني مزيدا من الحضور الممتد في وعي الإنسان، ومن الشعور العميق بمسؤوليته تجاهه، حتى أن الناس يتوسلون إليه باسمه، ويستنجحون طلباتهم من خلاله، الأمر الذي يقتضي المراقبة والمحاسبة التي تقود إلى الانضباط في الانطلاق بالإرادة في خط رضاه، فإذا كانت المساءلة بالله مظهرا للتعظيم، فإن طاعته وتقواه تعتبر مظهرا أقوى وأكثر تأكيدا.

20. أما كلمة: ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾، فقد وردت فيها القراءة بالكسر، وذلك بأن تكون معطوفة على الضمير في كلمة (به)، على أساس ما يتعارف بين الناس في قول بعضهم لبعض: (أنشدك بالله والرحم..)، بحيث تكون متعلقا للمساءلة والمناشدة، كما كان الأمر كذلك بالنسبة الى الله، وذلك باعتبار أنهما أقرب شيء الى الإنسان، فإن الله سبحانه هو الخالق، والرحم هو القريب في النسب، لكن الطبري في تفسيره يقول: (وذلك غير فصيح من الكلام عند العرب، لأنها لا تنسق بظاهر على مكني في الخفض إلا في ضرورة شعر، وذلك لضيق الشعر، وأما الكلام فلا شيء يضطرّ المتكلم إلى اختيار المكروه من المنطق والردي‏ء في الإعراب منه، ومما جاء في الشعر من ردّ ظاهر على مكنيّ في حال الخفض قول الشاعر:

çنعلّق في مثل السّواري سيوفنا...وما بينها والكعب غوط نفانف‏é

فعطف (الكعب)، وهو ظاهر، على الهاء والألف في قوله (بينها) وهي مكنية)

21. يقول صاحب الميزان، في هذا الاتجاه: (لكن السياق ودأب القرآن في بياناته لا يلائمانه، فإن قوله: ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾، إن جعل صلة مستقلة للذي، وكان تقدير الكلام: واتقوا الله الذي تساءلون بالأرحام، كان خاليا من الضمير، وهو غير جائز، وإن كان المجموع منه ومما قبله صلة واحدة للذي، كان فيه تسوية بين الله ـ عز اسمه ـ وبين الأرحام في أمر العظمة والعزة وهي تنافي أدب القرآن)

22. في ضوء ذلك، نلتقي بقراءة النصب في كلمة ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ لنختارها باعتبار أنها هي الأرجح والأقرب، وذلك في ما رواه الضحاك أن ابن عباس كان يقرأ ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ على هذا القول: اتقوا الله في الأرحام فصلوها، وعن الربيع قال: ﴿اتَّقُوا اللهَ الَّذِي تساءلون بِهِ والْأَرْحامَ‏﴾، قال يقول: واتقوا الله في الأرحام فصلوها، وجاء في‏ الحديث عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال‏: (سألته عن قول الله عز وجل: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ قال هي أرحام الناس، أمر الله تبارك وتعالى بصلتها وعظّمها، ألا ترى أنّه جعلها معه؟)

23. سؤال وإشكال: قد يتساءل الإنسان عن سر هذا التأكيد على الأرحام، في ما يريد القرآن أن يوحي به من الاهتمام بصلتها وعدم مقاطعتها واعتبار ذلك قيمة إسلامية، وربما يضيف البعض إلى ذلك أن هذا الاتجاه في العلاقات الإنسانية قد يفسح المجال للعصبية العائلية أن تولد وتتحرّك بما تمثله صلة الرحم من خصوصية شرعية ترقى إلى مستوى القيمة الإسلامية الكبيرة، وقد يؤدي ذلك إلى المزيد من الانغلاق في داخل النطاق العائلي، والجواب: القضية ـ في ما نفهمه من حكمة التشريع ـ لا تتحرك في هذا الجو، بل تبتعد عنه ابتعادا كليا:

أ. لأنها تدخل في الفكرة الإسلامية التي تخطّط لتعميق العلاقات الإنسانية وامتدادها، والعمل على التحرك من أجل تطويق الانفعالات السلبية التي تنمو في النفس، من خلال حالة التماس المتواصل الذي تفرضه صلة القرابة، مما قد يؤدي إلى تقاطع شديد وعداوة عميقة، وذلك إذا حدثت بعض الأوضاع الشاذة في نطاق الأقرباء، كما نشاهده كثيرا في المشاكل العائلية الصعبة التي تحدث بين ذوي القربى، بالمستوى الذي يثير الحقد والبغضاء لمدة طويلة، فأراد الإسلام أن يجعل لهذه العلاقة قاعدتها الروحية.

ب. بالإضافة إلى القاعدة العاطفية الطبيعية التي تفرضها العوامل الذاتية المؤثرة في حركة المشاعر، حتى يكون ذلك أساسا تربويا للانسجام في خط السيطرة على الأوضاع السلبية، للحيلولة دون تدهور العلاقات الإنسانية، لأن الإنسان الذي لا يقدر على امتصاص السلبيات في نوازعه ومشاعره مع الناس الذين يرتبط معهم بصلة الرحم، فإنه قد لا يكون قادرا على مثل ذلك في علاقته بالناس الآخرين الذين لا يرتبط معهم بصلة في مثل هذا المستوى، ربما كان هذا الأسلوب الإسلامي في رعاية العلاقات الإنسانية ظاهرة في التشريع، في جميع الموارد التي تتمثل فيها العلاقات في نطاق التماس المتواصل، على أساس الرحم تارة، أو الجوار أخرى، أو الإيمان في حركة العقيدة الواحدة.

ج. قد نلاحظ أن الأحاديث الواردة في هذه المجالات تؤكد على التواصل حتى في حالات المقاطعة من قبل الآخرين، وعلى الإحسان حتى في حالات الإساءة، وعلى العفو والتسامح واللين حتى في مجالات الاعتداء، وإذا كان هناك من يقول: إن هذه المبادئ تمثل الطابع العام للخلق الإسلامي وليست شيئا خاصا بمثل هذه العلاقات، فإننا نجيب عن ذلك بالتأكيد على أصل المبدأ، ولكن مع الملاحظة التالية، وهي أن إثارة هذه المبادئ في حديث هذه الحالات كان بطريقة أكثر حسما وتأكيدا، مما يوحي بأن القضية ترقى إلى ما لا ترتقي إليه الأمور الأخرى من الأهمية، فقد جاء في حديث صلة الرحم عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام ـ في ما رواه السكوني ـ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تقطع رحمك وإن قطعتك)، وجاء في كتاب الكافي، عن عنبسة العابد قال‏: (جاء رجل فشكا إلى أبي عبد الله عليه السّلام أقاربه، فقال له: (اكظم غيظك وافعال، فقال: إنهم يفعلون ويفعلون، فقال: أتريد أن تكون مثلهم، فلا ينظر الله إليكم)، وجاء في الحديث عن أبي حمزة الثمالي قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام في خطبته: أعوذ بالله من الذنوب التي تعجّل الفناء، فقام إليه عبد الله بن الكوّاء اليشكري فقال: يا أمير المؤمنين أو يكون ذنوب تعجّل الفناء؟ فقال: نعم ويلك، قطيعة الرحم، إن أهل البيت ليجتمعون ويتواسون وهم فجرة، فيرزقهم الله عز وجلّ، وإن أهل البيت ليتفرّقون ويقطع بعضهم بعضا، فيحرمهم الله وهم أتقياء)

د. هكذا نجد أن القضية لا تتحرك من موقع الاختناق في أجواء العصبية العائلية، بل تتحرك في آفاق التأكيد على أصالة العلاقات الإنسانية والعمل على تعميقها وامتدادها الأخلاقي في شخصية الإنسان المسلم، فلا تخضع للأوضاع السلبية الطارئة في ما تفرزه التشنجات من سلبيات، أما حدود هذه العلاقات ومجالها الحركي وامتدادها في الخط الإنساني، فتتكفل بها التشريعات الإسلامية التي تضع هذه العلاقات في نطاق التفاصيل الشرعية، من حيث انسجامها مع الخطوط الأخرى التي تتحرك فيها العلاقات العامة، كما نواجه ذلك في الخط الإيماني الذي يضع للإنسان المسلم الحدود الفاصلة لعلاقته بالمؤمنين والكافرين في ما يتحفظ به أو في ما ينطلق فيه، وذلك ما يمثّل الضوابط الثابتة لحركة علاقة الإنسان بأرحامه.

24. وربما كان من الإخلاص للبحث ـ هنا ـ أن نشير إلى نقطة مهمة جدا في مجال استنباط المفاهيم الإسلامية من المصادر الشرعية في الكتاب والسنّة، فقد لا يكفي في استخلاص المفاهيم من المصادر الإسلامية أن نأخذ حدودها من حديث واحد أو آية واحدة، بل لا بد لنا من الدخول في عملية مقارنة بين الأحاديث أو الآيات التي يتعرض كلّ منها لجانب من جوانب الصورة، لتكتمل الصورة من خلال الموازنة بين جوانبها، وقد وقع الكثيرون في الخطأ من خلال إغفالهم لهذا الجانب، من خلال ما حاولوه من تحديد المفاهيم العامة في الإسلام، كما نواجهه في الأبحاث التي تتحدث عن رفض الإسلام للدنيا من خلال أحاديث الزهد، من دون ملاحظة للأحاديث أو الآيات التي تتحدث عن التشجيع الإيجابي لانطلاق الإنسان مع طيبات الحياة ولذائذها أو بالعكس، مما يوحي بالبعد عن الصورة الواقعية للمفهوم التي تضع الزهد في نطاقه النفسي الذي يبتعد بالإرادة عن الخضوع للضغوط الشديدة الناشئة من قوة الرغبة، وتضع الإقبال على الحياة في الموقع المتوازن الذي لا يفقد الحياة معناها الحسي في حساب القيمة الإسلامية، ولا يدفعها الى الانسياق مع الهوى في اندفاع التيار، وبكلمة واحدة، إن الأسلوب الذي جرت عليه الآيات والأحاديث يرتكز على أساس القاعدة التي توحي بالفكرة في مجالها الذاتي في نص خاص، ثم تضع لها الحدود والأجواء في نص آخر، مما يفرض الموازنة الدائمة بين النصوص.

25. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ أي حفيظا يحفظ أعمالكم ويراقبها ويرصدها، الأمر الذي يفرض عليكم الانطلاق في جو هذا الشعور من أجل الانضباط عند خط الله، فلا تنحرفون عنه في أجواء الغفلة.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/20.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ الخطاب في الآية الأولى من هذه السّورة موجه إلى كافة أفراد البشر، لأنّ محتويات هذه السورة ـ هي في الحقيقة ـ نفس الأمور التي يحتاج إليها كل أفراد البشر في حياتهم.

2. الآية تدعو إلى التقوى باعتبارها أساسا لأيّ برنامج إصلاحي للمجتمع، فأداء الحقوق والتقسيم العادل للثروة، وحماية الأيتام، ورعاية الحقوق العائلية، وما شابه ذلك كلها من الأمور التي لا تتحقق بدون التقوى، ولهذا تفتتح هذه السورة ـ التي تحتوي على جميع هذه الأمور ـ بالدعوة إلى التزام التقوى: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾، وللتعريف بالله الذي يراقب كلّ أعمال الإنسان وتصرفاته أشير في الآية إلى واحدة من صفاته التي تعتبر أساسا للوحدة الاجتماعية في عالم البشر: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾

3. على هذا الأساس لا مبرر للتمييز العنصري، واللغوي، والمحلي، والعشائري وما شابه ذلك ممّا يسبب في عالمنا الرّاهن آلافا من المشاكل في المجتمعات، ولا مجال لهذه الأمور وما يترتب عليها من الأمجاد الكاذبة والتفوق الموهوم في المجتمع الإسلامي، لأنّ كافة البشر على اختلاف ألوانهم، ولغاتهم، وأقطارهم يرجعون إلى أب واحد وأمّ واحدة.

4. تتّضح أهمية مكافحة هذا الأمر ـ أكثر فأكثر ـ إذا لاحظنا أنّ ذلك قد تمّ في زمن كان يعاني بقايا ورواسب نظام قبلي وعشائري ظالم، ونعني عصر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، هذا وقد ورد نظير هذا التعبير في موارد أخرى من القرآن الكريم أيضا، وسنشير إلى كل ذلك في موضعه.

5. سؤال وإشكال: من هو المقصود من (نفس واحدة)؟ هل المراد من (نفس واحدة) هو شخص معين، أو أنه واحد نوعي (أي جنس المذكر)؟ والجواب: لا شك أنّ ظاهر هذا التعبير هو الشخص المعين، والواحد الشخصي، وهو إشارة إلى أوّل إنسان قد سمّاه القرآن الكريم بـ (آدم) ويعتبره أبا البشر، كما وقد عبر عن البشر ببني آدم في آيات كثيرة من القرآن الكريم، فاحتمال أن يكون المراد من نفس واحدة هو الواحد النوعي بعيد عن ظاهر الآية جدّا، ثمّ إنّ قوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ قد فهم منها بعض المفسرين أن (حواء) قد خلقت من جسم آدم واستشهدوا لذلك بروايات وأحاديث غير معتبرة تقول: إنّ حواء خلقت من أضلاع آدم (وهو أمر قد صرّح به في سفر التكوين من التوراة أيضا)، لكن مع ملاحظة سائر الآيات القرآنية يرتفع كلّ إبهام حول تفسير هذه الآية، ويتضح أن المراد منها هو أن الله سبحانه خلق زوجة آدم من جنسه (أي جنس البشر) ففي الآية من سورة الروم نقرأ ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ كما نقرأ: في الآية من سورة النّحل‏ ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾، ومن الواضح أنّ معنى قوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ هو أنّه خلقهم من جنسكم لا أنّه خلقهن من أعضاء جسمكم، ووفقا لرواية منقولة عن الإمام محمّد الباقر عليه السّلام كما في تفسير العياشي ـ أنه كذّب بشدّة فكرة خلق حواء من ضلع آدم، وصرح عليه السّلام ـ بأنه خلقت من فضل الطينة التي خلق منها آدم.

6. سؤال وإشكال: كيف كان زواج أبناء آدم؟ والجواب: قال سبحانه: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ هذه العبارة يستفاد منها أنّ انتشار نسل آدم، وتكاثره قد تمّ عن طريق آدم وحواء فقط، أي بدون أن يكون الموجود ثالث أي دخالة في ذلك، وبعبارة أخرى أنّ النسل البشري الموجود إنّما ينتهي إلى آدم وزوجته من غير أن يشاركهما في ذلك غيرهما من ذكر أو أنثى، وهذا يستلزم أن يكون أبناء آدم (أخوة وأخوات) قد تزاوجوا فيما بينهم، لأنه إذا تمّ تكثير النسل البشري عن طريق تزوجهم بغيرهم لم يصدق ولم يصح قوله: (منهما)، وقد ورد هذا الموضوع في أحاديث متعددة أيضا، ولا داعي للتعجب والاستغراب إذ طبقا للاستدلال الذي جاء في طائفة من الأحاديث المنقولة عن أهل البيت عليهم السّلام إنّ هذا النوع من الزواج كان مباحا حيث لم يرد بعد حكم بحرمة (تزوج الأخ بأخته)، ومن البديهي أن حرمة شيء تتوقف على تحريم الله سبحانه له، فما الذي يمنع من أن توجب الضرورات الملحة والمصالح المعينة أن يبيح شيئا في زمان، ويحرمه بعد ذلك في زمن آخر.

7. غير أنّه قد صرّح في أحاديث أخرى بأن أبناء آدم لم يتزوجوا بأخواتهم، وتحمل بشدّة على من يرى هذا الرأي ويذهب هذا المذهب، ولو كان علينا عند تعارض الأحاديث أن نرجح ما وافق منها ظاهر القرآن لوجب أن نختار الطائفة الأولى، لأنّها توافق ظاهر الآية الحاضرة كما عرفت قبل هذا.

8. سؤال وإشكال: هاهنا احتمال آخر يقول: إن أبناء آدم تزوجوا بمن تبقى من البشر الذين سبقوا آدم ونسله، لأن آدم ـ حسب بعض الروايات ـ لم يكن أوّل إنسان سكن الأرض، وقد كشفت الدراسات والتحقيقات العلمية اليوم أن النوع الإنساني كان يعيش في الأرض منذ عهد ضارب في القدم، في حين لم يمر على تاريخ ظهور (آدم) في الأرض زمن طويل، فلا بدّ إذن من القبول النظرية التي تقول: بأنّه كان يعيش في الأرض قبل آدم بشر آخرون قارن غياب آخر بقاياهم ظهور آدمنا، فما المانع من أن يكون (أبناء آدم) قد تزوجوا ببقايا النوع البشري السابق الذي كان في أواخر انقراضه؟ والجواب: هذا الاحتمال هو أيضا لا يتوافق وظاهر الآية الحاضرة (وهذا البحث يحتاج إلى توسع أكثر لا يسعه هذا المجال)

9. بعد ذكر ما بين أبناء النوع الإنساني من وشيجة القربى قال سبحانه: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ﴾ ﴿بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾، إنّ أهمية التقوى، ودورها في بناء قاعدة المجتمع الصالح سببت في أن تذكر مجددا في نهاية الآية الحاضرة، وأن يدعو سبحانه الناس إلى التزام التقوى، غاية الأمر أنّه تعالى أضاف إليها جملة أخرى إذ قال ﴿اتَّقُوا اللهَ الَّذِي تساءلون بِهِ‏﴾ أي اتقوا الله الذي هو عندكم عظيم، وتذكرون اسمه عند ما تطلبون حقوقكم وحوائجكم فيما بينكم.

10. ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ وهو عطف على ﴿اللَّهُ﴾، ولهذا كانت القراءة المعروفة هي نصب ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ فيكون معناها: واتقوا الأرحام، ولا تقطعوا صلاتكم بهم.

11. إنّ ذكر هذا الموضوع هنا يدل أوّلا على الأهمية الفائقة التي يعطيها القرآن الكريم لمسألة الرحم ووشيجة القربى إلى درجة أنّه يذكر اسم الأرحام بعد ذكر اسم الله سبحانه، وهو إشارة ـ ثانيا ـ إلى الأمر الذي ذكر في مطلع الآية، وهو أنكم جميعا من أب واحد وأمّ واحدة، وهذا يعني ـ في الحقيقة ـ أنّ جميع أبناء آدم أقرباء وأرحام، وهذا الارتباط والترابط يستوجب أن يتحاب الجميع ويتوادوا دون تفريق أو تمييز بين عنصر وآخر، وقبيلة وأخرى، تماما كما يتحاب أفراد القبيلة الواحدة.

12. ثمّ يختم الله تعالى الآية بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، والرقيب أصله من الترقب، وهو الانتظار من مكان مرتفع، ثمّ استعمل بمعنى الحافظ والحارس، لأن الحراسة من لوازم الترقب والنظارة، وارتفاع مكان الرقيب قد يكون من الناحية الظاهرية بكون الرقيب يرقب على مكان مرتفع، ويمارس النظارة من ذلك الموقع، وقد يكون من الناحية المعنوية، يقول سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ أي أنّه يحصي عليكم نياتكم وأعمالكم، ويعلم بها ويراها جميعا، كما أنه هو الذي يحفظكم أمام الحوادث (والتعبير بـ (كان) المفيد للماضي، إنّما هو للتأكيد)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/79.

2. أموال اليتامى وتبديل الخبيث بالطيب

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈2⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: 2]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: من الكبائر: قتل المؤمن عمدا، والفرار من الزحف، وأكل الربا بعد البيّنة، وأكل مال اليتيم ظلما، والتعرب بعد الهجرة، ورمي المحصنات الغافلات المؤمنات(1).

__________

(1) دعائم الإسلام ج 2 ص 402.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿حُوبًا كَبِيرًا﴾ إثما عظيما(1).

2. روي أنّه قال: ﴿حُوبًا﴾ ظلما كبيرا(2).

3. روي أنّه قال:، أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله: ﴿حُوبًا﴾، قال إثما، بلغة الحبشة، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول الأعشى(3).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٥٧.

(2) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٥٦.

(3) كما في ديوانه ص ١١٥.

المسيب:

روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ لا تعط مهزولا وتأخذ سمينا(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٥٢.

السجاد:

روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) أنّه قال: (الذنوب التي تحبس غيث السماء جور الحكّام في‏ القضاء، وشهادة الزور، وكتمان الشهادة، ومنع الزكاة والقرض والماعون، وقساوة القلب على أهل الفقر والفاقة، وظلم اليتيم والأرملة، وانتهار السائل وردّه بالليل(1).

__________

(1) معاني الاخبار ص 270.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾، يعني: الأوصياء، يقول: أعطوا اليتامى أموالهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ لا تتبدلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم، يقول: لا تبذروا أموالكم الحلال، وتأكلوا أموالهم الحرام(1).

3. روي أنّه قال: إن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب ماله، فمنعه عمه، فخاصمه إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فنزلت: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٥٤.

النخعي:

روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنّه قال في الآية: لا تعط زيفا وتأخذ جيدا(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٥٢.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ كان أحدهم يعطي الدراهم الغش، ويأخذ الدراهم الجيد(1).

__________

(1) الثوري في تفسيره ص ٨٦.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ الحرام بالحلال، لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال الذي قدر لك(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ لا تأكلوا أموالهم مع أموالكم، تخلطونها فتأكلونها جميعا، ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ إثما(2).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٥١.

(2) ابن جرير ٦/ ٣٥٣.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ أمروا أن يوفروا أموال اليتامى(1).

2. روي أنّه قال: الخبيث: أكل أموال اليتامى ظلما، والطيب: الذي رزقكم الله، يقول: لا تذروا الطيب، وتأكلوا الخبيث(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٥٤.

(2) تفسير ابن أبي زمنين ١/ ٣٤٥.

عطاء:

روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) أنّه قال: لا تربح على يتيمك الذي عندك وهو غر صغير(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/ ٢٤٣.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنه قيل له: أصلحك الله ما أيسر ما يدخل به العبد النار؟ قال: من أكل من مال اليتيم درهما(1).

__________

(1) كمال الدين ص 521.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ فالخبيث: الحرام والطّيب الحلال(1).

2. روي أنّه قال: ﴿كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ معناه إثم كبير.. ويقال حوبا وحوبا(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 115.

السدي:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في الآية: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل فيها مكانها الشاة المهزولة، ويقول: شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجيد، ويطرح مكانه الزيف، ويقول: درهم بدرهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ لا تأكلوا أموالكم وأموالهم؛ تخلطوها فتأكلوها جميعا(2).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٥٣.

(2) ابن جرير ٦/ ٣٥٥.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿حُوبًا كَبِيرًا﴾ خطأ عظيما(1).

__________

(1) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره ص ٧١.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿حُوبًا كَبِيرًا﴾ هو مما تخرج الأرض من أثقالها(1).

2. روي أنّه سئل عن رجل أكل مال اليتيم، هل له توبة؟ فقال: يؤدي إلى أهله، لأن الله يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾، وقال: ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾(2).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/217.

(2) تفسير العيّاشي 1/ 217/ 11.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ لا تشتروا الخبيث بالطيب(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٥٥.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى﴾، يعني: الأوصياء، يعني: أعطوا اليتامى أموالهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ ولا تتبدلوا الحرام من أموال اليتامى بالحلال من أموالكم، ولا تذرو الحلال وتأكلوا الحرام(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾، يعني: مع أموالكم، كقوله سبحانه: ﴿فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ﴾ [الشعراء: ١٣]، يعني: معي هارون(1).

4. روي أنّه قال: نزلت في رجل من غطفان، يقال له: المنذر بن رفاعة، كان معه مال كبير ليتيم، وهو ابن أخيه، فلما بلغ طلب ماله، فمنعه، فخاصمه إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأمر أن يرد عليه ماله، وقرأ عليه الآية، فلما سمعها قال أطعنا الله، وأطعنا الرسول، ونعوذ بالله من الحوب الكبير، فدفع إليه ماله، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (هكذا من يطع ربه ـ عز وجل ـ، ويوق شح نفسه، فإنه يحل داره)، يعني: جنته، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ثبت الأجر، وبقي الوزر)، فقالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: قد عرفنا ثبت الأجر، فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال: (الأجر للغلام، والوزر على والده(2).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/ ٣٥٥.

(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/ ٣٥٦.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء، ولا يورثون الصغار، يأخذه الأكبر، وقرأ: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ [النساء: ١٢٧] قال إذا لم يكن لهم شيء، ﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ﴾ لا يورثونهم، قال فنصيبه من الميراث طيب، وهذا الذي أخذه خبيث(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٥٣.

الدنداني:

روي عن أبي صالح الدنداني (ت 190 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال الذي قدر لك(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٥٣.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ يحتمل هذا وجهين:

أ. أحدهما: احفظوا أموالهم إلى أن يخرجوا من اليتم‏، فإذا خرجوا من اليتم أعطوهم أموالهم.

ب. ويحتمل قوله: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾، أي: أنفقوا عليهم من أموالهم، ووسعوا عليهم النفقة ولا تضيقوها لينظروا إلى أموال غيرهم.

2. ﴿وَآتُوا﴾، بمعنى: آتوا لوقت الخروج من اليتم، أي: احفظوا؛ لتؤتوا.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾:

أ. أي: لا تأخذوا الخبيث فتتركوا لهم ما وعد لكم في الآخرة بحفظ أموالهم.

ب. وقيل: لا تأخذوا الجياد من ماله وتعطى الدون من ماله‏؛ فذلك تبديل الخبيث بالطيب.

ج. وقيل: لا تأكلوا الخبيث: وهو أموال اليتامى، وتذروا الطيب: وهو أموالكم؛ إشفاقا على أموالكم أن [تفنى‏]

د. وقيل: لا تأكلوا الحرام مكان الحلال‏؛ لأن أكل مال اليتيم حرام، وأكل ماله حلال؛ فنهي أن يبدلوا الخبيث بالطيب.

هـ. ويحتمل: لا تأخذ ماله ـ وهو خبيث ـ ليؤخذ منك الذي لك وهو طيب.

و. ويحتمل: لا تأكلوا ذلك؛ إبقاء لأموالكم التي طيبها الله تعالى لكم، بما جعل الله لكم خبيثا.

ز. ويحتمل: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ﴾ في الدنيا؛ فتكون هي نارا تأكلونها؛ فتتركون الموعود لكم في إبقاء الخبيث؛ كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ [الآية] [النساء: 10]

قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ يحتمل ـ والله أعلم ـ وجهين:

أ. يحتمل قوله: ﴿أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾، أي: مع أموالكم، أي: لا تخلطوا أموالهم مع أموالكم فتأكلوها؛ ففيه نهي عن الخلط والجمع.

ب. ويحتمل: ﴿أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾، أي: بأموالكم؛ ففيه النهي عن أكل أموالهم بأموال أنفسهم تبعا؛ كقوله ـ عزّ وجل ـ: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء: 34]

4. قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾، بمعنى: لا تجمعوها إليها فتأكلونهما معا، ويحتمل: مع أموالكم.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾:

أ. قيل: جورا.

ب. وقيل: الحوب: الإثم، وهو واحد.

ج. وقيل: خطأ.

د. وقيل: ذنبا كبيرا.

هـ. وقيل: إثما؛ وكذلك روي عن ابن عباس.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/6.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾، أي لا تأكلوا أموالهم مع أموالكم، فقامت إلى مقام مع.

2. معنى قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ أي مأثماً عظيماً.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 233.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ أي الحرام بالحلال والزائف بالجيد والمهزول بالسمين ويقول درهم بدرهم وشاة بشاة، وقيل إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون الصغار والنساء وكان الكبير يأخذ المال وكان يتبدل الخبيث بالطيب لأن نصيبه من الميراث طيب ونصيب غيره خبيث له إذا أخذه.

2. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ أي مع أموالكم وهو أن تخلطوها بأموالهم ليصير في ذممهم ليأكلوا ربحها ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ والحوب الإثم يقال: حاب الرجل إذا أثم قيل: لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وجعل ولي اليتيم يعزل ماله عن ماله فشكوا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأنزل الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة:220]، فخالطوهم.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/162.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ أربعة تأويلات:

أ. أحدها: الحرام بالحلال، وهو قول مجاهد.

ب. الثاني: هو أن يجعل الزائف بدل الجيد، والمهزول بدل السمين ويقول درهم بدرهم، وشاة بشاة، وهو قول ابن المسيب والزهري والضحاك والسدي.

ج. الثالث: هو استعجال أكل الحرام قبل إتيان الحلال، وهو معنى قول مجاهد.

د. الرابع: أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون الصغار والنساء ويأخذه الرجل‏ الأكبر، فكان يستبدل الخبيث بالطيب لأن نصيبه من الميراث طيب، وأخذه الكل خبيث، وهو قول ابن زيد.

2. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ أي مع أموالكم، وهو أن يخلطوها بأموالهم لتصير في ذمتهم فيأكلوا ربحها.

3. ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ والحوب: الإثم، ومنه قولهم تحوّب فلان من كذا، إذا توقّى، قال الشاعر:

çفإن مهاجرين تكنفاه‏...غداة إذ لقد خطئا وحاباé

4. قال الحسن البصري: لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وجعل ولي اليتيم يعزل ماله عن ماله فشكوا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنزل الله تعالى: ﴿ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى‏ قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ‏﴾ [البقرة: 220] أي فخالطوهم واتقوا إثمه.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/448.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا خطاب لأوصياء اليتامي، أمرهم الله بأن يعطوا اليتامى أموالهم إذا بلغوا الحلم وأونس منهم الرشد، وسماهم يتامى بعد البلوغ، وإيناس الرشد مجازاً، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لا يتم بعد احتلام)، كما قالوا في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إنه يتيم أبي طالب بعد كبره يعنون انه رباه.

2. ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ معناه: لا تستبدلوا لما حرمه الله عليكم من أموال اليتامى بما أحله الله لكم من أموالكم، واختلفوا في صفة التبديل:

أ. فقال بعضهم: كان أوصياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتيم والرفيع منه ويجعلون مكانه الردي‏ء الخسيس، ذهب إليه ابراهيم النخعي، والسدي، وابن المسيب، والزهري، والضحاك.. وهو أقوى الوجوه، لأنه ذكر عقيب مال اليتامى وإن حمل على عموم النهي عن التبديل بكل مال حرام كان قوياً.

ب. وقال قوم: معناه‏ ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ بأن تتعجلوا الحرام قبل أن يأتيكم الرزق الحلال الذي قدر لكم، ذهب إليه أبو صالح، ومجاهد.

ج. وقال ابن زيد: معناه ما كان أهل الجاهلية يفعلونه، من أنهم لم يكونوا يرزقون النساء ولا الصغار بل يأخذه الكبار.

3. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ يعني أموال اليتامى مع أموالكم والتقدير: ولا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم فتأكلوهما جميعاً، فأما خلط مال اليتيم بمال نفسه إذا لم يظلمه فلا بأس به بلا خلاف‏، قال الحسن‏ لما نزلت هذه الآية كرهوا مخالطة اليتامى، فشق ذلك عليهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله، فانزل الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام.

4. ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ يعني إن أكلكم أموال اليتامي مع أموالكم حوب كبير، أي اثم كبير في قول ابن عباس ومجاهد، والهاء في قوله: (انه) دالة على اسم الفعل الذي هو الاكل، والحوب الإثم، يقال: حاب يحوب حوباً وحباة والاسم الحوب، وقرأ الحسن حوباً: ذهب إلى المصدر، ويقال: تحوب فلان من كذا إذا تخرج منه، ويقال نزلنا بحوبة من الأرض وبحيب من الأرض يعني بموضع سوء، وحكى الفراء عن بني أسد ان الحائب القاتل، وقال الشاعر:

çإيها تطيع ابن عباس انها رحم‏...حُبتم بها فاناختكم بجعجاع‏é

أي أثمتم والحوبة الحزن، والتحوب التحزن، والتحوب التأثم، والتحوب الصياح الشديد، والحوباء الروح والكبير العظيم‏

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/102.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. اليتيم: من لا أب له من الأطفال، ثم يسمى بعد البلوغ توسعًا، قالوا: يتيم أبي طالب، فأما في الحقيقة فلا، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا يُتمَ بعد الحلم)

ب. الحُوبُ: الإثم بالضم وبالفتح قيل: واحد، وقيل: هو المصدر يقال: حاب يَحُوب حَوْبًا وحُوبًا وحَابًا وحِيابة، وحَوْب: زجر للإبل، وهو الأصل، وسمي الإثم حوبا للزجر عنه، وتحوب من كذا أي تأثم، ونزلنا حُوبَةً من الأرض أي منزل سوء؛ لأنه يزجر عن النزول فيه.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت في رجل من غطفان كان معه مال لابن أخ له، فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه، فرفعا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزلت الآية، فقال الرجل: سمعنا وأطعنا، نعوذ بِاللهِ من الحوب الكبير، ودفع إليه ماله عن مقاتل والكلبي.

ب. وقيل: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصغار، ويأخذ الميراث الأكبر فنهوا عن ذلك، ونزلت الآية عن ابن زيد.

3. لما أمر تعالى بصلة الرحم، ومراعاة حقه ابتدأ ببيان حق اليتيم؛ لأنهم أضعف وحاجتهم إلى القَيِّم أشد، فقال سبحانه: ﴿وَآتُوا﴾ أي أعطوا ﴿الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾:

أ. قيل: إذا بلغوا أو أونس منهم الرشد كما بينه في آية أخرى، وسماهم أيتامًا بعد البلوغ لقرب عهدهم باليتم، كقوله تعالى: ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾ ولا سِحْرَ مع السجود، وإنما سماهم بذلك لما كانوا عليه من قبل عن أكثر المفسرين، وهو قول أبي علي وأبي مسلم.

ب. وقيل: المراد أعطوهم ما يحتاجون إليه لنفقتهم وكسوتهم، وكان يجوز أن يظن أنه لا يجوز إنفاق ماله عليه فأباح ذلك، قال القاضي: وهو الصحيح.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾:

أ. قيل: الحرام بالحلال، أي لا تجعل بعدل رزقك الحلال، حرامًا تتعجله عن مجاهد وأبي صالح والأصم.

ب. وقيل: لا تجعل الزائف بدل الجيد، والمهزول بدل السمين عن سعيد ابن المسيب والزهري والضحاك والسدي قالوا: كان الوصي يأخذ الجيد من مال اليتيم ويجعل مكانه الرديء الزيف، ويقول: درهم بدرهم، ويأخذ الشاة السمينة ويجعل بدلها المهزولة، فنهوا عن ذلك.

ج. وقيل: هو في الميراث، كانوا لا يورثون الصغار، أي: ما أَخَذْتَ من ميراث غيرك خبيث، والحلال الطيب ما جعله الله لك عن ابن زيد.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾:

أ. قيل: أي مع أموالكم أي مضيفين لها إلى أموالكم عن مجاهد والسدي.

ب. وقيل: لا تخلطوا أموالهم بأموالكم للحيلة بأن تصير في الذمة فيجوز لكم أكلها وأكل أرباحها ﴿إِنَّهُ﴾

ج. قيل: أكل أموال اليتامى.

د. وقيل: التبدل.

6. ﴿كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ قيل: إثمًا عظيمًا وظلمًا كبيرًا.

7. اختلف في نسخ الآية الكريمة:

أ. قيل: لما نزلت هذه كرهوا أن يخالطوهم، وجعل ولي اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله، فشكوا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأنزل الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ عن الحسن، قيل: إنه نسخ.

ب. وقيل: إنه نهي عن تناول مالِهِم على سبيل الظلم، فهو تخصيص.

ج. وقيل: بين تعالى وقال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ ثم قال: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ ثم قال: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى﴾ وأمر في جميع الأحوال في مالهم بالعدل دون الجور.

8. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن القَيِّم يقوم بأمر الأيتام لذلك أمره بهذه الأمور.

ب. أنه يؤتى مال اليتيم ويدفعه إليه، وكلا المعنيين جائز؛ لأن كليهما واجب، لأن ما يحتاج إليه للنفقة والكسوة يجب على القيم إنفاقه عليه، وإذا بلغ وأُوِنسَ منه الرشد وطالب ماله يجب دفعه إليه، ولا مانع من حمله على الوجهين، فوجب أن يحمل عليهما، وكان يجوز أن يظن أنه إذا تكفل به لا يجوز أن ينفق عليه من ماله، فبين جوازه.

ج. المنع من أكل أموال اليتامى، وإنما خص الأكل؛ لأنه معظم النفع، وإلا فسائر أنواع الإنفاق ممنوع منه.

د. أنه لا يجوز منع اليتيم حقه، ولا قوته إلا من جهة الأحسن والاحتياط.

9. قراءة العامة ﴿حُوبًا﴾ بضم الحاء، وعن الحسن بفتح الحاء، وعن أُبَيٍّ بن كعب حابا)، وقيل: الكل بمعنى، والفتح لغة تميم، والضم لغة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل الحجاز، فأما الحاب فقيل: هو المصدر، وقيل: الاسم، كالزاد، وقيل: الحَوْب بالفتح المصدر، والحُوب بالضم الاسم، عن أبي مسلم.

10. ﴿إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ أي مع أموالكم، و﴿إِلَى﴾ تجيء بمعنى ﴿مَعَ﴾ عن أبي مسلم، وقد قال تعالى: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ أي مع الله، وأنشد المفضل:

çيَسُدُّون أبواب القِبَاب بضُمَّرٍ... إلى عُنُنٍ مُسْتوثقات الأواصرِé

أي مع.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/517.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الحوب: الاثم، يقال: حاب، يحوب، حوبا، وحيابة، والاسم: الحوب، وروي عن الحسن أنه قرأ ﴿حُوبًا﴾ ذهب إلى المصدر، وتحوب فلان من كذا: إذا تحرج منه، ونزلنا بحوبة من الأرض: أي بموضع سوء، والحوبة: الحزن، والتحوب: التحزن، والحوباء: الروح.

2. لما أمر الله سبحانه بالتقوى، وصلة الأرحام، عقبه بباب آخر من التقوى، وهو توفير حقوق اليتامى، فقال: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾، وهذا خطاب لأوصياء اليتامى: أي أعطوهم أموالهم بالإنفاق عليهم في حالة الصغر، وبالتسليم إليهم عند البلوغ، إذا أونس منهم الرشد وسماهم يتامى بعد البلوغ مجازا لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لا يتم بعد احتلام كما قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: يتيم أبي طالب بعد كبره، يعنون أنه رباه، وكقوله سبحانه ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾: أي الذين كانوا سحرة.

3. ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾، معناه: لا تستبدلوا ما حرمه الله تعالى عليكم من أموال اليتامى، بما أحله الله لكم من أموالكم، واختلف في صفة التبديل:

أ. فقيل: كان أوصياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتيم، والرفيع منه، ويجعلون مكانه الخسيس والردئ، عن إبراهيم النخعي، والسدي، وسعيد بن المسيب، والزهري، والربيع، والضحاك.. وهو أقوى الوجوه، لأنه إنما ذكر عقيب أموال اليتامى، فيكون معناه: لا تأخذوا السمين والجيد من أموالهم، وتضعوا مكانهما المهزول والردئ فتحفظون عليهم عدد أموالهم ومقاديرها، وتجحفون بهم في صفاتها ومعانيها.

ب. وقيل: معناه لا تتبدلوا الخبيث بالطيب، بأن تتعجلوا الحرام، قبل أن يأتيكم الرزق الحلال الذي قدر لكم، عن أبي صالح، ومجاهد، وقيل: معناه ما كان أهل الجاهلية يفعلونه، من أنهم لم يكونوا يورثون النساء، ولا الصغار، بل يأخذه الكبار، عن ابن زيد.

4. قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: أي مع أموالكم، ومعناه: ولا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم، فتأكلوهما جميعا.

ب. ويحتمل أن يكون معناه: ولا تخلطوا الجيد من أموالهم بالردئ من أموالكم، فتأكلوها، فإن في ذلك إجحافا وإضرارا بهم، فأما إذا لم يكن في ذلك إضرار، ولا ظلم، فلا بأس بخلط مال اليتيم بماله، فقد روي أنه لما نزلت هذه الآية، كرهوا مخالطة اليتامى، فشق ذلك عليهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنزل الله سبحانه: ﴿ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم في الدين﴾ الآية، عن الحسن، وهو المروي عن السيدين الباقر عليه السلام، والصادق عليه السلام.

5. ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾: أي إثما عظيما.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/7.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سبب نزولها: أنّ رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلمّا بلغ، طلب ماله فمنعه، فخاصمه إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزلت، قاله سعيد بن جبير.

2. الخطاب بقوله تعالى: ﴿وَآتُوا﴾ للأولياء والأوصياء، قال الزجّاج: وإنما سمّوا يتامى بعد البلوغ، بالاسم الذي كان لهم، وقد كان يقال للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: يتيم أبي طالب.

3. ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾، قرأ ابن محيصن: (تبدّلوا) بتاء واحدة، ثمّ في معنى الكلام قولان:

أ. أحدهما: أنه إبدال حقيقة، ثمّ فيه قولان:

أ. أحدهما: أنه أخذ الجيّد، وإعطاء الرّدي‏ء مكانه، قاله سعيد بن المسيّب، والضّحّاك، والنّخعيّ، والزّهريّ، والسّدّيّ، قال السّدّيّ: كان أحدهم يأخذ الشّاة السّمينة من غنم اليتيم، ويجعل مكانها المهزولة، ويأخذ الدّراهم الجياد، ويطرح مكانها الزّيوف.

ب. الثاني: أنه الرّبح على اليتيم، واليتيم غرّ لا علم له، قاله عطاء، والقول الثاني: أنه ليس بإبدال حقيقة، وإنّما هو أخذه مستهلكا، ثمّ فيه قولان:

أحدهما: أنهم كانوا لا يورّثون النساء والصّغار، وإنما يأخذ الميراث الأكابر من الرّجال، فنصيب الرّجل من الميراث طيّب، وما أخذه من حقّ اليتيم خبيث، هذا قول ابن زيد.

الثاني: أنه أكل مال اليتيم بدلا من أكل أموالهم، قاله الزجّاج.

4. (إلى) بمعنى (مع) والحوب: الإثم، وقرأ الحسن، وقتادة، والنّخعيّ بفتح الحاء، قال الفرّاء: أهل الحجاز يقولون: حوب بالضّم، وتميم يقولونه بالفتح، قال ابن الأنباريّ: وقال الفرّاء: المضموم الاسم، والمفتوح المصدر، قال ابن قتيبة: وفيه ثلاث لغات: حوب، وحوب، وحاب.

__________

(1) زاد المسير: 1/368.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما افتتح الله تعالى السورة بذكر ما يدل على أنه يجب على العبد أن يكون منقادا لتكاليف الله سبحانه، محترزا عن مساخطه، شرع بعد ذلك في شرح أقسام التكاليف، فالنوع الأول: ما يتعلق بأموال اليتامى، وهو هذه الآية، وأيضا أنه تعالى وصى في الآية السابقة بالأرحام، فكذلك في هذه الآية وصى بالأيتام، لأنهم قد صاروا بحيث لا كافل لهم ولا مشفق شديد الإشفاق عليهم، ففارق حالهم حال من له رحم ماسة عاطفة عليه لمكان الولادة أو لمكان الرحم فقال: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾

2. ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ قال الزمخشري: اليتامى الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم، واليتم الانفراد، ومنه الرملة اليتيمة والدرة اليتيمة، وقيل: اليتم في الأناسي من قبل الآباء، وفي البهائم من قبل الأمهات، قال وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء الانفراد عن الآباء، إلا أن في العرف اختص هذا الاسم بمن لم يبلغ مبلغ الرجال، فإذا صار بحيث يستغني بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافل يكفله وقيم يقوم بأمره، زال عنه هذا الاسم، وكانت قريش تقول لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يتيم أبي طالب، إما على القياس، وإما على حكاية الحال التي كان عليها حين كان صغيرا ناشئا في حجر عمه توضيعا له، وأما قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يتم بعد حلم) فهو تعليم الشريعة لا تعليم اللغة، يعني إذا احتلم فإنه لا تجرى عليه أحكام الصغار، وروى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن أن جده كتب الى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه؟ فكتب اليه: إذا أونس منه الرشد انقطع يتمه، وفي بعض الروايات: أن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعد، فأخبر ابن عباس أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد، ثم قال أبو بكر: واسم اليتيم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (تستأمر اليتيمة) وهي لا تستأمر إلا وهي بالغة، قال الشاعر:

çان القبور تنكح الأيامى‏...النسوة الأرامل اليتامى‏é

فالحاصل من كل ما ذكرنا أن اسم اليتيم بحسب أصل اللغة يتناول الصغير والكبير، إلا أنه بحسب العرف مختص بالصغير.

3. سؤال وإشكال: كيف جمع اليتيم على يتامى؟ واليتيم فعيل، والفعيل يجمع على فعلى، كمريض ومرضى وقتيل وقتلى وجريح وجرحى؟ والجواب: قال الزمخشري: فيه وجهان:

أ. أحدهما: أن يقال: جمع اليتيم يتمى، ثم يجمع فعلى على فعالي، كأسير وأسرى وأسارى.

ب. الثاني: أن يقال: جمع يتيم يتائم، لأن اليتيم جار مجرى الأسماء نحو صاحب وفارس، ثم يقلب اليتائم يتامى، قال القفال: ويجوز يتيم ويتامى، كنديم وندامى، ويجوز أيضا يتيم وأيتام كشريف وأشراف.

4. سؤال وإشكال: اسم اليتيم مختص بالصغير، فما دام يتيما لا يجوز دفع ماله اليه، وإذا صار كبيراً بحيث يجوز دفع ماله إليه لم يبق يتيما، فكيف قال ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾؟ والجواب: على طريقين:

أ. الأول: أن نقول المراد من اليتامى الذين بلغوا أو كبروا ثم فيه وجهان:

أحدهما: أنه تعالى سماهم يتامى على مقتضى أصل اللغة.

الثاني: أنه تعالى سماهم باليتامى لقرب عهدهم باليتم وان كان قد زال في هذا الوقت كقوله تعالى: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾ [الأعراف: 120] أي الذين كانوا سحرة قبل السجود، وأيضاً سمى الله تعالى مقاربة انقضاء العدة، بلوغ الأجل في قوله: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ [الطلاق: 2] والمعنى مقاربة البلوغ، ويدل على أن المراد من اليتامى في هذه الآية البالغون قوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ [النساء: 6] والاشهاد لا يصح قبل البلوغ وإنما يصح بعد البلوغ.

ب. الثاني: أن نقول: المراد باليتامى الصغار، وعلى هذا الطريق ففي الآية وجهان:

أحدهما: ان قوله: ﴿وَآتُوا﴾ أمر، والأمر انما يتناول المستقبل، فكان المعنى أن هؤلاء الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتم عنهم أموالهم، وعلى هذا الوجه زالت المناقضة.

الثاني: المراد: وآتوا اليتامى حال كونهم يتامى ما يحتاجون اليه لنفقتهم وكسوتهم، والفائدة فيه انه كان يجوز أن يظن أنه لا يجوز إنفاق ماله عليه حال كونه صغيرا، فأباح الله تعالى ذلك، وفيه إشكال وهو انه لو كان المراد ذلك لقال: وآتوهم من أموالهم، فلما أوجب إيتاءهم كل أموالهم سقط ذلك.

5. نقل أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم، فشكوا ذلك الى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأنزل الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة: 220] قال أبو بكر الرازي: وأظن أنه غلط من الراوي، لان المراد بهذه الآية إيتاؤهم أموالهم بعد البلوغ وإنما غلط الراوي بآية أخرى، وهو ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أنزل الله‏ ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [البقرة: 152] و﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ [النساء: 10] ذهب من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فاشتد ذلك على اليتامى، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنزل الله تعالى‏ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ فخلطوا عند ذلك طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم، قال المفسرون: الصحيح‏ أنها نزلت في رجل من غطفان، كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه، فتراجعا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزلت هذه الآية، فلما سمعها العم قال أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير، ودفع ماله اليه، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره) أي جنته، فلما قبض الصبى ماله أنفقه في سبيل الله، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ثبت الأجر وبقي الوزر) فقالوا: يا رسول الله لقد عرفنا أنه ثبت الأجر، فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال: ثبت أجر الغلام وبقي الوزر على والده.

6. احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أن السفيه، لا يحجر عليه بعد الخمس العشرين، قال لأن قوله: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ مطلق يتناول السفيه أونس منه الرشد أو لم يؤنس ترك العمل به قبل الخمس العشرين سنة لاتفاق العلماء على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذا السن، شرط في وجوب دفع المال اليه، وهذا الإجماع لم يوجد بعد هذا السن، فوجب إجراء الأمر بعد هذا السن على حكم ظاهر هذه الآية، أجاب أصحابنا(2) عنه: بأن هذه الآية عامة، لأنه تعالى ذكر اليتامى فيها جملة، ثم إنهم ميزوا بعد ذلك‏ بقوله: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ [النساء: 6] وبقوله: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ [النساء: 5] حرم بهاتين الآيتين إيتاءهم أموالهم إذا كانوا سفهاء، ولا شك أن الخاص مقدم على العام.

7. ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾، قال الزمخشري: ولا تتبدلوا، أي ولا تستبدلوا، والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز، ومنه التعجل بمعنى الاستعجال، والتأخر بمعنى الاستئخار، وقال الواحدي: يقال: تبدل الشيء بالشيء إذا أخذه مكانه، وفي تفسير هذا التبدل وجوه:

أ. الأول: قال الفراء والزجاج: لا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى، بالحلال وهو مالكم الذي أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض، فتأكلوه مكانه.

ب. الثاني: لا تستبدلوا الأمر الخبيث، وهو اختزال أموال اليتامى، بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع منها وهو قول الأكثرين انه كان ولي اليتيم يأخذ الجيد من ماله ويجعل مكانه الدون، يجعل الزائف بدل الجيد، والمهزول بدل السمين، وطعن الزمخشري في هذا الوجه، فقال: ليس هذا بتبدل إنما هو تبديل إلا أن يكارم صديقا له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبي.

ج. الثالث: هو أن هذا التبدل معناه: أن يأكلوا مال اليتيم سلفا مع التزام بدله بعد ذلك، وفي هذا يكون متبدلا الخبيث بالطيب.

8. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ وجهان:

أ. الأول: معناه ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم في الانفاق حتى تفرقوا بين أموالكم وأموالهم في حل الانتفاع بها، وهو أصح.

ب. الثاني: أن يكون (إلى) بمعنى (مع) قال تعالى: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾ [آل عمران: 52] أي مع الله.

9. الله تعالى وان ذكر الأكل، فالمراد به التصرف لأن أكل مال اليتيم كما يحرم، فكذا سائر التصرفات المهلكة لتلك الأموال محرمة، والدليل عليه أن في المال ما لا يصح ان يؤكل، فثبت ان المراد منه التصرف، وإنما ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف.

10. سؤال وإشكال: انه تعالى لما حرم عليهم أكل أموال اليتامى ظلما في الآية الأولى المتقدمة دخل فيها أكلها وحدها وأكلها مع غيرها، فما الفائدة في إعادة النهي عن أكلها مع أموالهم؟ والجواب: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من حلال وهم مع ذلك يطمعون في أموال اليتامى، كان القبح أبلغ والذم أحق.

11. عرّف الله تعالى الخلق بعد ذلك ان أكل مال اليتيم من جميع الجهات المحرمة إثم عظيم فقال: ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ قال الواحدي: الكناية تعود إلى الأكل، وذلك لأن قوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا﴾ دل على الأكل والحوب الإثم الكبير، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ان طلاق أم أيوب لحوب) وكذلك الحوب والحاب ثلاث لغات في الاسم والمصدر قال الفراء: الحوب لأهل الحجاز، والحاب لتميم، ومعناه الإثم‏ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (رب تقبل توبتي واغسل حوبتي) قال الزمخشري: الحوب والحاب كالقول والقال، قال القفال: وكأن أصل الكلمة من التحوب وهو التوجع، فالحوب هو ارتكاب ما يتوجع المرتكب منه، وقال البصريون: الحوب بفتح الحاء مصدر، والحوب بالضم الاسم، والحوبة، المرة الواحدة، ثم يدخل‏ بعضها في البعض كالكلام فإنه اسم، ثم يقال: قد كلمته كلاما فيصير مصدرا، قال الزمخشري: قرأ الحسن حوبا، وقرئ: حابا.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 9/483.

(2) يقصد الشافعية

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ وأراد باليتامى الذين كانوا أيتاما، كقوله: ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾ ولا سحر مع السجود، فكذلك لا يتم مع البلوغ، وكان يقال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يتيم أبي طالب) استصحابا لما كان.

2. ﴿وَآتُوا﴾ أي أعطوا، والإيتاء الإعطاء، ولفلان أتو، أي عطاء، أبو زيد: أتوت الرجل آتوه إتاوة، وهي الرشوة، واليتيم من لم يبلغ الحلم، وقد تقدم في البقرة) مستوفى، وهذه الآية خطاب للأولياء والأوصياء، نزلت ـ في قول مقاتل والكلبي ـ في رجل من غطفان [كان معه [مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه، فنزلت، فقال العم: نعوذ بالله من الحوب الكبير! ورد المال، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: من يوق شح نفسه ورجع به هكذا فإنه يحل داره) يعني جنته، فلما قبض الفتى المال أنفقه في سبيل الله، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: ثبت الأجر وبقي الوزر)، فقيل: كيف يا رسول الله؟ فقال: ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده) لأنه كان مشركا.

3. إيتاء اليتامى أموالهم يكون بوجهين:

أ. أحدهما: إجراء الطعام والكسوة ما دامت الولاية، إذ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلي والاستبداد كالصغير والسفيه الكبير.

ب. الثاني: الإيتاء بالتمكن وإسلام المال إليه، وذلك عند الابتلاء والإرشاد، وتكون تسميته مجازا، المعنى: الذي كان يتيما، وهو استصحاب الاسم، كقوله تعالى: ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾ أي الذين كانوا سحرة، وكان يقال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يتيم أبي طالب)

4. إذا تحقق الولي رشده حرم عليه إمساك ماله عنه وكان عاصيا، وقال أبو حنيفة: (إذا بلغ خمسا وعشرين سنة أعطي ما له كله على كل حال، لأنه يصير جدا).. لما لم يذكر الله تعالى في هذه الآية إيناس الرشد، وذكره في قوله: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾، قال أبو بكر الرازي الحنفي في أحكام القرآن: (لما لم يقيد الرشد في موضع وقيد في موضع وجب استعمالهما، فأقول: إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وهو سفيه لم يؤنس منه الرشد، وجب دفع المال إليه، وإن كان دون ذلك لم يجب، عملا بالآيتين، وقال أبو حنيفة: لما بلغ رشده صار يصلح أن يكون جدا فإذا صار يصلح أن يكون جدا فكيف يصح إعطاؤه المال بعلة اليتم وباسم اليتيم!؟ وهل ذلك إلا في غاية البعد؟)، قال ابن العربي: (وهذا باطل لا وجه له، لا سيما على أصله الذي يرى المقدرات لا تثبت قياسا وإنما تؤخذ من جهة النص، وليس في هذه المسألة)

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾:

أ. قيل: أي لا تتبدلوا الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة، ولا الدرهم الطيب بالزيف، وكانوا في الجاهلية لعدم الدين لا يتحرجون عن أموال اليتامى، فكانوا يأخذون الطيب والجيد من أموال اليتامى ويبدلونه بالرديء من أموالهم، ويقولون: اسم باسم ورأس برأس، فنهاهم الله عن ذلك، هذا قول سعيد بن المسيب والزهري والسدي والضحاك وهو ظاهر الآية.

ب. وقيل: المعنى لا تأكلوا أموال اليتامى وهي محرمة خبيثة وتدعوا الطيب وهو مالكم، وقال مجاهد وأبو صالح وباذان: لا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم وتدعو انتظارا الرزق الحلال من عند الله، وقال ابن زيد: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان ويأخذ الأكبر الميراث، عطاء: لا تربح يتيمك الذي عندك وهو غر صغير، وهذان القولان خارجان عن ظاهر الآية، فإنه يقال: تبدل الشيء بالشيء أي أخذه مكانه، ومنه البدل.

6. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ قال مجاهد: (هذه الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك، ثم نسخ بقوله إن تخالطوهم فإخوانكم)، وقال ابن فورك عن الحسن: تأول الناس في هذه الآية النهي عن الخلط فاجتنبوه من قبل أنفسهم فخفف عنهم في آية البقرة، وقالت طائفة من المتأخرين: إن ﴿إِلَى﴾ بمعنى مع، كقوله تعالى: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾، وأنشد القتبي:

çيسدون أبواب القباب بضمر...إلى عنن مستوثقات الأواصرé

وليس بجيد.

وقال الحذاق: ﴿إِلَى﴾ على بابها وهي تتضمن الإضافه، أي لا تضيفوا أموالهم وتضموها إلى أموالكم في الأكل، فنهوا أن يعتقدوا أموال اليتامى كأموالهم فيتسلطوا عليها بالأكل والانتفاع.

7. ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ ﴿إِنَّهُ﴾ أي الأكل، ﴿كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ أي إثما كبيرا، عن ابن عباس والحسن وغيرهما، يقال: حاب الرجل يحوب حوبا إذا أثم، وأصله الزجر للإبل، فسمي الإثم حوبا، لأنه يزجر عنه وبه، ويقال في الدعاء: اللهم اغفر حوبتي، أي إثمي، والحوبة أيضا الحاجة، ومنه في الدعاء: إليك أرفع حوبتي، أي حاجتي، والحوب الوحشة، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأبي أيوب: إن طلاق أم أيوب لحوب)، وفيه ثلاث لغات ﴿حُوبًا﴾ بضم الحاء وهي قراءة العامة ولغة أهل الحجاز، وقرأ الحسن ﴿حُوبًا﴾ بفتح الحاء، وقال الأخفش: وهي لغة تميم، مقاتل: لغة الحبش، والحوب المصدر، وكذلك الحيابة، والحوب الاسم، وقرأ أبي بن كعب (حابا) على المصدر مثل القال، ويجوز أن يكون اسما مثل الزاد، والحوأب بهمزة بعد الواو: المكان الواسع، والحوأب ماء أيضا، ويقال: ألحق الله به الحوبة أي المسكنة والحاجة، ومنه قولهم: بات بحيبة سوء، وأصل الياء الواو، وتحوب فلان أي تعبد وألقى الحوب عن نفسه، والتحوب أيضا التحزن، وهو أيضا الصياح الشديد، كالزجر، وفلان يتحوب من كذا أي يتوجع وقال طفيل:

çفذوقوا كما ذقنا غداة محجر...من الغيظ في أكبادنا والتحوبé

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/9.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ خطاب للأولياء والأوصياء، والإيتاء: الإعطاء، واليتيم: من لا أب له، وقد خصصه الشرع بمن لم يبلغ الحلم، وقد تقدم تفسير معناه في البقرة مستوفى، وأطلق اسم اليتيم عليهم عند إعطائهم أموالهم ـ مع أنهم لا يعطونها إلا بعد ارتفاع اسم اليتيم بالبلوغ ـ مجازا؛ باعتبار ما كانوا عليه؛ ويجوز أن يراد: باليتامى؛ المعنى الحقيقي، وبالإيتاء: ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة والكسوة، لا دفعها جميعا، وهذا الآية مقيدة بالآية الأخرى وهي قوله تعالى: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ فلا يكون مجرد ارتفاع اليتم بالبلوغ مسوغا لدفع أموالهم إليهم، حتى يؤنس منهم الرشد.

2. ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ نهي لهم عن أن يصنعوا صنع الجاهلية في أموال اليتامى، فإنهم كانوا يأخذون الطيب من أموال اليتامى ويعوضونه بالردي‏ء من أموالهم، ولا يرون بذلك بأسا، وقيل: المعنى: لا تأكلوا أموال اليتامى ـ وهي محرّمة خبيثة ـ وتدعوا الطيب من أموالكم، وقيل: المراد: لا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم، وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله، والأوّل أولى؛ فإن تبدل الشيء بالشيء في اللغة: أخذه مكانه، وكذلك استبداله، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ وقوله: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَأَدْنى‏ بِالَّذِي هُوَخَيْرٌ﴾، وأما التبديل: فقد يستعمل كذلك، كما في قوله: ﴿وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ﴾، وأخرى بالعكس، كما في قولك: بدّلت الحلقة بالخاتم: إذا أذبتها وجعلتها خاتما، نص عليه الأزهري.

3. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ ذهب جماعة من المفسرين: إلى أن المنهي عنه في هذه الآية: هو الخلط، فيكون الفعل مضمنا معنى الضم، أي: لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم، ثم نسخ هذا بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ وقيل: إن: إلى، بمعنى: مع، كقوله تعالى: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾، والأوّل أولى، والحوب: الإثم، يقال: حاب الرجل، يحوب، حوبا: إذا أثم، وأصله: الزجر للإبل، فسمى الإثم: حوبا، لأنه يزجر عنه، والحوبة: الحاجة، والحوب أيضا: الوحشة، وفيه ثلاث لغات: ضم الحاء، وهي قراءة الجمهور، وفتح الحاء، وهي قراءة الحسن، قال الأخفش: وهي لغة تميم، الثالثة: الحاب، وقرأ أبيّ بن كعب: حابا، على المصدر، كقال قالا، والتحوب: التحزن، ومنه قول طفيل:

çفذوقوا كما ذقنا غداة محجّر...من الغيظ في أكبادنا والتّحوّب‏é

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/482.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1.روي أنَّ يتيما من غطفان طلب بعد بلوغه مالَه من عمَّه فمنعه، وترافعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزل قوله تعالى: ﴿وَءَاتُوا﴾ الخطاب للأولياء والأوصياء ﴿أَمْوَالَهُمْ﴾ إلخ، وَلَمَّا سمعه العمُّ قال: (أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير)، ودفع المال لليتيم فأنفقه في سبيل الله.. أي آتوهم أموالهم إذا بلغوا؛ لأَنَّ موجب كون ماله تحت غيره عدم بلوغه وعدم رشده، فإذا بلغ ورشد أعطي ماله لا قبل ذلك.

2. ﴿الْيَتَامَى﴾ جمع يتيم، فالأصل: (يتائم)، فأخِّرت الهمزة على الميم فكانت ألفا، وذلك جمع على غير قياس، أو روعي أنَّه كغير وصف، وإلَّا فالوصف الذي على وزن فعيل لا يجمع على فَعَالَى، بل يجمع على فُعُل كنذير ونُذُر، وعلى فَعْلَى، كمريض ومرضى، وعلى فعال وفُعَلاء، ككريم وكرماء، ألا ترى أنَّه لم يسمع: (إنسان يتيم) أو (طفل يتيم) إِلَّا قليلا، أو جمع يَتْمَى كأسرى، ويتمى جمع يتيم، وشملت الآية الذكور والإناث، وذلك إلحاق له بباب الآفات، فإنَّ فعيلا فيه يجمع على فَعلى وفُعلى وفُعَالى، كأسير وأسرى وأسارى، لكن اختلفا بالفتح والضمِّ، ووجه الإلحاق ذلُّ اليتيم وانكساره، أو سوء أدبه إن لم يؤدَّب؛ فذلك آفة، واليتيم لغة: الكبير والصغير، واختصاصه بالصغير اعتبار شرعيٌّ.

3. سمِّي يتيما لكونه كان يتيما قبلُ، كقوله: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾ [الشعراء: 46]، واليتيم: هو من لا أب له من الجنِّ والإنس، وما لا أمَّ له من الدوابِّ، وما لا أمَّ له ولا أب من الطير، وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا يُتمَ بعد الحُلُم)، أي: لا يجري عليه حكم اليتيم بعد البلوغ، ويجوز أن يكون المراد: أعطوا من هو يتيم الآن ماله إذا بلغ، فلا مجاز، بل اليتيم من الانفراد، كما يقال: دُرَّة يتيمة؛ فباعتباره البالغُ يتيمٌ، أي: منفرد عن أبيه بموت أبيه، ولكنَّ العرف خصَّه بمن لم يبلغ، وقد علمت أنَّ معنى (لا يتمَ بعد بلوغ) أنَّه لا يجري عليه حكم من يسمَّى يتيما في العرف، وهو من لم يبلغ ومات أبوه، واختار في الآيَة لفظ اليتم تعجيلا أوَّل البلوغ والرشد، قريبا من اليتم، أو المراد: أعطوهم أموالهم قبل البلوغ إن أُنِس منهم الرشد، وقدروا على حفظه.

4. ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ﴾ الحرام، وهو شامل لأموالهم تصير خبيثة في حقِّ من يأخذها باطلا، أو يعطي فيها ما دونها، كهزيلته بسمينة اليتيم، وشامل لأخذها ﴿بِالطَّيِّبِ﴾ هو شامل لأموال المخاطبين، ولحفظ مال اليتامى، ولإعطاء ما هو رفيع فيها.

5. ﴿وَلَا تَاكُلُوا أَمْوَالَهُمُ إِلَى أَمْوَالِكُم﴾ أي: مضمومة إلى أموالكم، أو مع أموالكم، أي: لا تُتْلِفُوهَا غير مبالين بها كأنَّها أموالكم أو من سائر ما يباح، فأطلق الأكل على مطلق الإتلاف لعلاقة الإطلاق والتقييد، أو الكلِّـيَّة والجزئيَّة، أو يراد ظاهر الأكل ويقاس عليه غيره من الإتلاف، واختار لفظ الأكل لأَنَّ الأكل معظم ما يقع التصرُّف لأجله، ولِمُعامِلِ مالِ اليتيم أجرتُه بمعروف، قال رجل لابن عبَّاس: (إنَّ لي يتيما، وإنَّ له إبلا أفأشرب من لبنها؟) فقال: (إن كنت تبغي ضالَّة إبله، وتهنأ جربانها، وتلوط حوضها، وتسقيها يوم ورودها، فاشرب غير مضرٍّ بنسلها ولا ناهك في الحلب)، وذلك من الأكل بالمعروف، ويجوز من الآيَة تزويج اليتيمة الصغيرة، وينظر الصلاح، وخصَّ بذات تسع فصاعدا.

6. ﴿إِنَّهُ﴾ أي: الأكل، بمعنى الإتلاف مطلقا، أو الأكل المقيس عليه غيره، ﴿كَانَ حُوبًا﴾ ذنبا ﴿كَبِيرًا﴾، ولَمَّا نزلت الآيَة قال عمُّ اليتيم الذي نزلت الآيَة فيه: (أطعنا الله ورسوله، ونعوذ بالله من الحوب الكبير)

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/108.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ شروع في تفصيل موارد الاتقاء ومظانه بتكليف ما يقابلها أمرا ونهيا، وتقديم ما يتعلق باليتامى لإظهار كمال العناية بأمرهم ولملابستهم بالأرحام، إذ الخطاب للأولياء والأوصياء وقلما تفوض الوصاية إلى الأجانب.

2. اليتيم من مات أبوه، من اليتم، وهو الانفراد، ومنه الدرة اليتيمة، والقياس الاشتقاقيّ يقتضي وقوعه على الصغار والكبار، وقد خصه الشرع بمن لم يبلغ الحلم، كما روى أبو داود بإسناد حسن عن عليّ عليه السّلام عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا يتم بعد احتلام.

3. في الآية وجوه:

أ. الأول: أن يراد باليتامى الكبار الذين أونس منهم الرشد مجازا، باعتبار ما كان، أوثر لقرب العهد بالصغر، والإشارة إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم حينئذ، حتى كأنّ اسم اليتيم باق بعد، غير زائل.

ب. الثاني: أن يراد بهم الكبار حقيقة، واردة على أصل اللغة.

ج. الثالث: أن يراد بهم الصغار، وبـ (الإيتاء) ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة والكسوة، لا دفعها إليهم، وفيه بعد.

د. الرابع: أن يراد بهم ما ذكر، وب (إيتائهم) الأموال، أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء ولاة السوء وقضاته ويكفّوا عنها أيديهم الخاطفة حتى تؤتى اليتامى إذا بلغوا سالمة غير محذوفة، فالتجوّز في الإيتاء حينئذ باستعماله في لازم معناه وهو تركها سالمة لأنها لا تؤتى إلا إذا كانت كذلك، قال الناصر في (الانتصاف): هذا الوجه قويّ بقوله بعد آيات: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 6]، دل على أن الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم، وفي الحض على الإيتاء الحقيقيّ عند حصول البلوغ والرشد، ويقويه أيضا قوله عقيب الأولى: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا﴾ إلخ.. فهذا كله تأديب للوصيّ ما دام المال بيده واليتيم في حجره.

4. أما على الوجه الأول فيكون مؤدى الآيتين واحدا وهو الأمر بالإيتاء حقيقة، ويخلص عن التكرار بأن الأولى كالمجملة، الثانية كالمبيّنة لشرط الإيتاء: من البلوغ وإيناس الرشد.

5. ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ أي ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو ما لكم، وما أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه‏ ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ نهى عن منكر آخر كانوا يتعاطونه، أي لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم مخلوطة بها للتوسعة ﴿إِنَّهُ﴾ أي الأكل‏ ﴿كَانَ حُوبًا﴾ أي ذنبا عظيما، وقرئ بفتح الحاء، وقوله تعالى: ﴿كَبِيرًا﴾ مبالغة في بيان عظم ذنب الأكل المذكور، كأنه قيل من كبار الذنوب.

6. خص من ذلك مقدار أجر الملل عند كون الوليّ فقيرا لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ كذا قاله البيضاويّ وتابعه أبو السعود، وعندي أنه لا حاجة إلى تخصيص هذا النهي بالفقير في هذه الآية لأنها في الغنيّ، لقوله: ﴿إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾، فلا يشمل مساقها الفقير، وسنوضح ذلك.

7. سؤال وإشكال: قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم، فلم ورد النهي عن أكله معها؟ والجواب: قال الزمخشريّ: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال وهم على ذلك يطمعون فيها، كان القبح أبلغ والذم أحق، ولأنهم كانوا يفعلون كذلك، فنعى عليهم فعلهم وسمّع بهم ليكون أزجر لهم.

8. قال الناصر في (الانتصاف): أهل البيان يقولون: المنهي متى كان درجات فطريق البلاغة النهي عن أدناها تنبيها على الأعلى، كقوله تعالى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ [الإسراء: 23]، وإذا اعتبرت هذا القانون بهذه الآية وجدته ببادئ الرأي مخالفا لها إذ أعلى درجات أكل مال اليتيم في النهي أن يأكله وهو غنيّ عنه، وأدناها أن يأكله وهو فقير إليه، فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقير إليه حتى يلزم نهي الغنيّ عنه من طريق الأولى، وحينئذ فلا بد من تمهيد أمر يوضح فائدة تخصيص الصورة العليا بالنهي في هذه الآية، فنقول: أبلغ الكلام ما تعددت وجوه إفادته، ولا شك أن النهي عن الأدنى، وإن أفاد النهي عن الأعلى، إلا أن للنهي عن الأعلى أيضا فائدة أخرى جليلة، لا تؤخذ من النهي عن الأدنى، وذلك أن المنهيّ كلما كان أقبح كانت النفس عنه أنفر والداعية إليه أبعد، ولا شك أن المستقر في النفوس أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الأكل، فخصص بالنهي تشنيعا على من يقع فيه، حتى إذا استحكم نفوره من أكل ماله على هذه الصورة الشنعاء دعاه ذلك إلى الإحجام عن أكل ماله مطلقا، ففيه تدريب للمخاطب على النفور من المحارم، ولا تكاد هذه الفائدة تحصل لو خصص النهي بأكله مع الفقر، إذ ليست الطباع في هذه الصورة معينة على الاجتناب، كإعانتها عليه في الصورة الأولى.

9. قال الناصر في (الانتصاف): يحقق مراعاة هذا المعنى تخصيصه الأكل، مع أن تناول مال اليتيم، على أي وجه كان، منهيّ عنه، كان ذلك بالادخار أو بالتباس أو ببذله في لذة النكاح مثلا، أو غير ذلك، إلا أن حكمة تخصيص النهي بالأكل أن العرب كانت تتذمم بالإكثار من الأكل، وتعدّ البطنة من البهيمية، وتعيب على من اتخذها ديدنه، ولا كذلك سائر الملاذ، فإنهم ربما يتفاخرون بالإكثار من النكاح ويعدونه من زينة الدنيا، فلما كان الأكل عندهم أقبح الملاذ خص النهي به، حتى إذا نفرت النفس منه بمقتضى طبعها المألوف جرها ذلك إلى النفور من صرف مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها، أكلا أو غيره، ومثل هذه الآية في تخصيص النهي بما هو أعلى قوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ [آل عمران: 130]، فخص هذه الصورة لأن الطبع عن الانتهاء عنها أعون، ويقابل هذا النظر في النهي نظر آخر في الأمر، وهو أنه تارة يخص صورة الأمر الأدنى تنبيها على الأعلى، وتارة يخص صورة الأعلى لمثل الفائدة المذكورة من التدريب، ألا ترى إلى قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ﴾ الآية [النساء: 8]، كيف خص صورة حضورهم وإن كانت العليا بالنسبة إلى غيبتهم، وذلك أن الله تعالى علم شح الأنفس على الأموال، فلو أمر بإسعاف الأقارب واليتامى من المال الموروث ولم يذكر حالة حضورهم القسمة، لم تكن الأنفس بالمنبعثة إلى هذا المعروف كانبعاثها مع حضورهم، بخلاف ما إذا حضروا، فإن النفس يرقّ طبعها وتنفر من أن تأخذ المال الجزل وذو الرحم حاضر محروم، ولا يسعف ولا يساعد، فإذا أمرت في هذه الحالة بالإسعاف هان عليها امتثال الأمر وائتلافها على امتثال الطبع، ثم تدربت بذلك على إسعاف ذي الرحم مطلقا حضر أو غاب، فمراعاة هذا وأمثاله من الفوائد لا يكاد يلقى إلا في الكتاب العزيز، ولا يعثر عليه إلا الحاذق الفطن المؤيد بالتوفيق، نسأل الله أن يسلك بنا في هذا النمط، فخذ هذا القانون عمدة، وهو: أن النهي، إن خص الأدنى فلفائدة التنبيه على الأعلى، وإن خص الأعلى، فلفائدة التدريب على الانكفاف عن القبح مطلقا من الانكفاف عن الأقبح، ومثل هذا، النظر في جانب الأمر.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/10.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَتَوْا﴾ أعطوا ﴿الْيَتَامَى﴾ جمع يتيم وهو من الناس من فقد أباه قبل بلوغه السن التي يستغني فيها عن كفالته، ومن الحيوان من فقد أمه صغيرا لأن إناث الحيوان هي التي تكفل صغارها، وكل منفرد يتيم ومنه الدرة اليتيمة، ولم ينقل من جمع فعيل على فعالى ما يعدونه به مقيسا، ولذلك قيل إن لفظ يتيم قد جمع هذا الجمع لأنه أجرى مجرى الأسماء الخ ما قالوا: ﴿ولا تتبدوا الخبيث بالطيب﴾ أي لا تأخذوا الخبيث فتجعلوه بدلا من الطيب، يقال تبدل الشيء بالشيء واستبدله به إذا أخذ الأول بدلا من الثاني الذي دخلت عليه الباء بعد أن كان حاصلا له أو في شرف الحصول ومظنته، يستعملان دائما بالتعدي إلى المأخوذ بأنفسهما وإلى المتروك بالباء كما تقدم في قوله تعالى: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ [البقرة: 61]

2. وأما التبديل فيستعمل بالوجهين (والخبيث) ما يكره رداءة وخساسة محسوسا كان أو معقولا، من خبث الحديد وهو صدأه، قال الراغب، وأصله الرديء الدخلة الجاري مجرى خبث الحديد كما قال الشاعر:

çسبكناه ونحسبه لجينا...فأبدى الكير عن خبث الحديدé

وذلك يتناول الباطل في الاعتقاد والكذب في المقال والقبيح في الفعال، ثم أورد الآيات في هذه المعاني المختلفة.

3. أصل ﴿الطَّيِّبُ﴾ ما تستلذه الحواس وما تستلذه النفس، وهو كمقابله يوصف به الشخص ومنه قوله تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾ [النور: 25] والأشياء ومنه قوله تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف: 157] وقوله: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ [الأعراف: 58] والأعمال ومنه الآية التي نفسرها في قول من قال إن معناها ولا تتبدلوا العمل الخبيث بالعمل الطيب أن تجعلوه بدلا منه، ومنه مثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة في سورة إبراهيم.

4. الحوب: الإثم ومصدره بفتح الحاء، وذكر الراغب أن الأصل فيه كلمة) حوب) لزجر الإبل، قال وفلان يتحوب من كذا أي يتأثم، وقولهم: ألحق الله به الحوبة أي المسكنة والحاجة، وحقيقتها هي الحاجة التي تحمل صاحبها على ارتكاب الإثم، والحوباء قيل هي النفس وحقيقتها هي النفس المرتكبة للحوب اه، ويروى عن ابن عباس تفسيره بالإثم وبالظلم، وفي الطبراني أن نافع بن الأزرق سأله عنه فقال: هو الإثم بلغة الحبشة، قال: فهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم أما سمعت قول الأعشى:

çفإني وما كلفتموني من أمركم...ليعلم من أمسى أعق وأحوباé

وحاب يحوب حوبا وحابا قال الزمخشري وهما كالقول والقال، وقال القفال أصله التحوب وهو التوجع، فالحوب ارتكاب ما يتوجع منه.

5. ﴿تُقْسِطُوا﴾ تعدلوا، من الإقساط، يقال أقسط الرجل إذا عدل ويقال قسط إذا جار، قال تعالى: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9] وقال: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ [الجن: 5] وكلاهما من القسط وهو العدل وقال: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾ [الأعراف: 29] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ [النساء: 124] والقسط في الأصل النصيب بالعدل، وقالوا قسط فلان بوزن جلس ـ إذا أخذ قسط غيره ونصيبه، وقالوا أقسط إذا أعطى غيره قسطه ونصيبه، كذا قال الراغب، والمشهور أن الهمزة في أقسط للسلب، فقسط بمعنى عدل وأقسط بمعنى أزال القسط فلم يقمه كما يقال في شكا وأشكى فإن أشكاه بمعنى أزال شكواه، وقال في لسان العرب كأن الهمزة للسلب.

6. ﴿فَانْكِحُوا﴾ معناه فتزوجوا وتقدم في سورة البقرة الخلاف في إطلاقه على العقد وعلى ما يقصد من العقد ولو بدونه، وقوله: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ معنى اثنتين اثنتين وثلاثا وثلاثا وأرباعا أربعا، فتلك الألفاظ المفردة معدولة عن هذه الأعداد المكررة، ولما كان الخطاب للجمع حسن اختيار الألفاظ المعدولة الدالة على العدد المكرر وكانت من الإيجاز ليصيب كل من يريد الجمع من أفراد المخاطبين اثنين فقط أو ثلاثا أو أربعا فقط، وليس بعد ذلك غاية في التعدد بشرطه، قال الزمخشري: كما تقول للجماعة اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم: درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ولو أفردت لم يكن له معنى، أي لو قلت للجمع اقتسموا المال الكثير درهمين لم يصح الكلام فإذا قلت درهمين درهمين كان المعنى أن كل واحد يأخذ درهمين فقط لا أربعة دراهم، سؤال وإشكال: فإن قلت لم جاء العطف بالواو دون (أو؟) والجواب: كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك ولو هبت تقول اقتسموا هذا المال درهمين درهمين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة علمت أنه لا يسوغ لهم ان يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة وليس لهم أن يجمعوا بينها فيجعلوا بعض القسم على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع، وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو، وتحريره أن الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع إن شاؤوا مختلفين في تلك الأعداد وإن شاؤوا متفقين فيها محظورا عليهم ما وراء ذلك.

7. وهو ما ينقض ما ذهب إليه بعض الناس من دلالة العبارة على جواز جمع الواحد بين تسع نسوة وهو مجموع 2 و3و 4 وبعض آخر على جواز الجمع بين 18 وهو مجموع اثنتين اثنتين وثلاث ثلاث وأربع أربع، فإن قولك وزع هذا المال على الفقراء قرشين قرشين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، معناه أعط بعضهم اثنين فقط وبعضهم ثلاثة فقط بعضهم أربعة فقط، وللموزع الخيار في التخصيص ولا يجيز له هذا النص أن يعطي أحدا منهم 9 قروش ولا 18 قرشا، واستدلال بعضهم على صحة ما قيل بموت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من تسع نسوة وعقده على أكثر من ذلك لا يصح، للإجماع على أن ذلك خصوصية له صلّى الله عليه وآله وسلّم.

8. ﴿تَعُولُوا﴾ تجوروا، وأصل العول الميل يقولون عال الميزان إذا مال وميزان عائل، وجعله بعضهم بمعنى كثرة العيال ويروى عن الشافعي ويقال عال الرجل عياله إذا مالهم وأنفق عليهم، كأنه أراد لئلا يكثر من تعولون الأول أظهر في الآية.

9. ﴿صَدُقَاتِهِنَّ﴾ جمع صدقة بضم الدال وهو الصداق بفتح الصاد وكسرها أي ما تعطى المرأة من مهرها، وإيتاء النساء صدقاتهم يحتمل المناولة بالفعل ويحتمل الالتزام والتخصيص، يقال أصدقها وأمهرها بكذا إذا ذكر ذلك في العقد وإن لم يقبض.

10. قوله: ﴿نِحْلَةً﴾ روي عن ابن عباس وغيره من السلف تفسيرها بالفريضة وفسرها بعضهم بالعطية والهبة، ووجه أنه مال تأخذه بلا عوض مالي، وجعلها الراغب مشتقة من النحل كأنها عطية كما يجني النحل، وهذا القول لا يعارض ما يدل عليه الأول من فرضية المهر وعدم جواز أكل شيء منه بدون رضا المرأة كما سيأتي.

11. قال محمد عبده: إن الكلام في أوائل هذه السورة في الأهل والأقارب والأزواج وهو يتسلسل في ذلك إلى قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: 36]، ولذلك افتتحها بالتذكير بالقراءة والأخوة العامة وهي كون الأمة من نفس واحدة ثم طفق يبين حقوق الضعفاء من الناس كاليتامى والنساء والسفهاء ويأمر بالتزامها.

12. ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ اليتيم لغة من مات أبوه مطلقا وفي عرف الفقهاء من مات أبوه وهو صغير فمتى بلغ زال يتمه إلا إذا بلغ سفيها فإنه يبقى في حكم اليتيم ولا يزول عنه الحجر، ومعنى إيتاء اليتامى أموالهم هو جعلها لهم خاصة وعدم أكل شيء منها بالباطل أي أنفقوا عليهم من أموالهم حتى يزول يتمهم بالرشد كما سيأتي في آية: (وابتلوا اليتامى) فعند ذلك يدفع إليهم ما بقي لهم بعد النفقة عليهم في زمن اليتم والقصور.

13. هذه الآية في إعطاء اليتامى أموالهم في حالتي اليتم والرشد كل حالة بحسبها وتلك خاصة بحال الرشد، وليس في هذه تجوز كما قالوا، فإن نفقة ولي اليتيم عليه من ماله يصدق عليه أنه إيتاء مال اليتيم لليتيم، والمقصود من هذه الآية ظاهر وهو المحافظة على مال اليتيم وجعله له خاصة وعدم هضم شيء منه لأن اليتيم ضعيف لا يقدر على حفظه والدفاع عنه.

14. ولذلك قال: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ المراد بالخبيث الحرام وبالطيب الحلال أي لا تتمتعوا بمال اليتيم في المواضع والأحوال التي من شأنكم أن تتمتعوا فيها بأموالكم، يعني أن الإنسان إنما يباح له التمتع بمال نفسه في الطرق المشروعة، فإذا عرض له استمتاع فعليه أن يجعله من مال نفسه لا من مال اليتيم الذي هو قيم ووصي عليه، فإذا استمتع بمال اليتيم فقد جعل مال اليتيم في هذا الموضع بدلا من ماله، وبهذا يظهر معنى التبدل والاستبدال.

15. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ أي لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم، وهذا صريح فيما إذا كان للولي مال يضم مال اليتيم إليه، ويمكن أن يقال إن أكله مفردا غير مضموم إلى مال الولي أولى بالتحريم وهو داخل في عموم قوله: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ وقيل يفهم من هذا القيد جواز أكل الوصي الفقير الذي لا مال له شيئا من مال اليتيم وسيأتي التصريح بذلك في الآية السادسة.

16. مراد محمد عبده بنفي التجوز من الآية يعم ما قاله بعضهم من التجوز بلفظ الإيتاء باستعماله بمعنى ترك الأموال سالمة لهم وعدم اغتيال شيء منها وما قالوه من أن المراد بإيتائهم إياها هو تسليمهم إياها بعد الرشد، وأطلق عليهم لفظ اليتامى باعتبار ما كانوا عليه من عهد قريب كما ذكر بعض فلاسفة البلاغة وكتب الأصول، وهو ما سيأتي حكمه في الآية السادسة فلا حاجة إلى دسه في هذه، وقيل أكل أموالهم إلى أموال اليتامى هو خلطها بها وتقدم حكم مخالطتهم في سورة البقرة.

17. اختلفوا أيضا في تبدل الخبيث بالطيب والأظهر فيه ما اختاره محمد عبده فيما تقدم آنفا، وقيل إن المراد به ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من أخذ الجيد من مال اليتيم ووضع الرديء بدله وأخذ السمين منه وإعطائه الهزيل، ونسبة الرازي للأكثرين قال وطعن فيه صاحب الكشاف بأنه تبديل لا تبدل.

18. عبر عن أخذ المال والانتفاع به بالأكل لأنه معظم ما يقع به التصرف، وهذا الاستعمال شائع معروف كقوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 188] وهو يعم كل ما يأخذه الإنسان من مال غيره بغير حق.

19. ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ أي إن أكل مال اليتيم أو تبدل الخبيث بالطيب منه أو ما ذكر من مجموع الأمرين وكانت تفعله الجاهلية كان في حكم الله حوبا كبيرا أي إثما عظيما.

__________

(1) تفسير المنار: ‏4/339.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن افتتح سبحانه السورة بذكر ما يجب على العبد أن ينقاد له من التكاليف، ليبتعد عن سخطه وغضبه في الدنيا والآخرة ـ شرع يذكر أنواعها، أولها إيتاء اليتامى أموالهم، وثانيها حكم ما يحل عدده من الزوجات ومتى يجب الاقتصار على واحدة، ثم وجوب إيتاء الصداق لهن.

2. ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ المراد بإيتاء الأموال إياهم: جعلها لهم خاصة وعدم أكل شيء منها بالباطل، أي أيها الأولياء والأوصياء احفظوا أموال اليتامى ولا تتعرضوا لها بسوء وسلموها لهم متى آنستم منهم الرشد، فاليتيم ضعيف لا يقدر على حفظ ماله والدفاع عنه.

3. ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ أي ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم الذي اكتسبتموه من فضل الله. وخلاصة ذلك ـ لا تتمتعوا بمال اليتيم في المواضع والحالات التي من شأنكم أن تتمتعوا فيها بأموالكم، فاذا فعلتم ذلك فقد جعلتم مال اليتيم بدلا من مالكم.

4. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ المراد من الأكل سائر التصرفات المهلكة للأموال، وإنما ذكر الأكل لأن معظم ما يقع من التصرفات فهو لأجله، و﴿إِلَى﴾ بمعنى مع أي لا تأكلوا أموالهم مخلوطة ومضمومة إلى أموالكم حتى لا تفرقوا بينهما، لأن في ذلك قلة مبالاة بما لا يحل وتسوية بين الحرام والحلال.

5. ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ أي إن هذا الأكل ذنب عظيم وإثم كبير.

__________

(1) تفسير المراغى: 4/179.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. من هذا الافتتاح القوي المؤثر، ومن هذه الحقائق الفطرية البسيطة، ومن هذا الأصل الأساسي الكبير، يأخذ في إقامة الأسس التي ينهض عليها نظام المجتمع وحياته: من التكافل في الأسرة والجماعة، والرعاية لحقوق الضعاف فيها، والصيانة لحق المرأة وكرامتها، والمحافظة على أموال الجماعة في عمومها، وتوزيع الميراث على الورثة بنظام يكفل العدل للأفراد والصلاح للمجتمع.

2. يبدأ فيأمر الأوصياء على اليتامى أن يردوا لهم أموالهم كاملة سالمة متى بلغوا سن الرشد، وألا ينكحوا القاصرات اللواتي تحت وصايتهم طمعا في أموالهن، أما السفهاء الذين يخشى من إتلافهم للمال، إذا هم تسلموه، فلا يعطى لهم المال، لأنه في حقيقته مال الجماعة، ولها فيه قيام ومصلحة، فلا يجوز أن تسلمه لمن يفسد فيه، وأن يراعوا العدل والمعروف في عشرتهم للنساء عامة.

3. تشي هذه التوصيات المشددة ـ كما قلنا ـ بما كان واقعا في الجاهلية العربية من تضييع لحقوق الضعاف بصفة عامة، والأيتام والنساء بصفة خاصة.. هذه الرواسب التي ظلت باقية في المجتمع المسلم ـ المقتطع أصلا من المجتمع الجاهلي ـ حتى جاء القرآن يذيبها ويزيلها، وينشئ في الجماعة المسلمة تصورات جديدة، ومشاعر جديدة، وعرفا جديدا، وملامح جديدة.

4. ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾، أعطوا اليتامى أموالهم التي تحت أيديكم، ولا تعطوهم الردي‏ء في مقابل الجيد، كأن تأخذوا أرضهم الجيدة، وتبدلوهم منها من أرضكم الرديئة، أو ماشيتهم، أو أسهمهم، أو نقودهم ـ وفي النقد الجيد ذو القيمة العالية والردي‏ء ذو القيمة الهابطة ـ أو أي نوع من أنواع المال، فيه الجيد وفيه الردي‏ء.. وكذلك لا تأكلوا أموالهم بضمها إلى أموالكم، كلها أو بعضها.. إن ذلك كله كان ذنبا كبيرا، والله يحذركم من هذا الذنب الكبير، فلقد كان هذا كله يقع إذن في البيئة التي خوطبت بهذه الآية أول مرة.

5. الخطاب يشي بأنه كان موجها إلى مخاطبين فيهم من تقع منه هذه الأمور، وهي أثر مصاحب من آثار الجاهلية.. وفي كل جاهلية يقع مثل هذا، ونحن نرى أمثاله في جاهليتنا الحاضرة في المدن والقرى، وما تزال أموال اليتامى تؤكل بشتى الطرق، وشتى الحيل، من أكثر الأوصياء، على الرغم من كل الاحتياطات القانونية، ومن رقابة الهيئات الحكومية المخصصة للإشراف على أموال القصر، فهذه المسألة لا تفلح فيها التشريعات القانونية، ولا الرقابة الظاهرية، كلا لا يفلح فيها إلا أمر واحد.. التقوى.. فهي التي تكفل الرقابة الداخلية على الضمائر، فتصبح للتشريع قيمته وأثره، كما وقع بعد نزول هذه الآية، إذ بلغ التحرج من الأوصياء أن يعزلوا مال اليتيم عن مالهم، ويعزلوا طعامه عن طعامهم، مبالغة في التحرج والتوقي من الوقوع في الذنب العظيم، الذي حذرهم الله منه وهو يقول: ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾

6. إن هذه الأرض لا تصلح بالتشريعات والتنظيمات، ما لم يكن هناك رقابة من التقوى في الضمير لتنفيذ التشريعات والتنظيمات.. وهذه التقوى لا تجيش ـ تجاه التشريعات والتنظيمات ـ إلا حين تكون صادرة من الجهة المطلعة على السرائر، الرقيبة على الضمائر.. عندئذ يحس الفرد ـ وهو يهم بانتهاك حرمة القانون ـ أنه يخون الله، ويعصي أمره، ويصادم إرادته؛ وأن الله مطلع على نيته هذه وعلى فعله.. وعندئذ تتزلزل أقدامه، وترتجف مفاصلة، وتجيش تقواه.

7. إن الله أعلم بعباده، وأعرف بفطرتهم، وأخبر بتكوينهم النفسي والعصبي ـ وهو خلقهم ـ ومن ثم جعل التشريع تشريعه، والقانون قانونه، والنظام نظامه، والمنهج منهجه، ليكون له في القلوب وزنه وأثره ومخافته ومهابته.. وقد علم ـ سبحانه ـ أنه لا يطاع أبدا شرع لا يرتكن إلى هذه الجهة التي تخشاها وترجوها القلوب، وتعرف أنها مطلعة على خفايا السرائر وخبايا القلوب، وأنه مهما أطاع العبيد تشريع العبيد، تحت تأثير البطش والإرهاب، والرقابة الظاهرية التي لا تطلع على الأفئدة، فإنهم لا بد متفلتون منها كلما غافلوا الرقابة، وكلما وأتتهم الحيلة، مع شعورهم دائما بالقهر والكبت والتهيؤ للانتقاض.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/577.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. التطبيق العملي للتقوى بشقّيها ـ تقوى الله، وتقوى ذوى الأرحام ـ يكون أكثر ما يكون ظهورا في رعاية حقوق الضعفاء من ذي الأرحام، وهم اليتامى، حيث يكون اليتم غالبا في كفالة أحد أقاربه، ولهذا كان أول اختبار عملىّ للتقوى التي دعا الله إليها في مطلع السورة هو الدعوة إلى رعاية حقوق اليتامى، واتقاء الله فيهم، وفي أموالهم التي هي أمانة في أيدى الأوصياء، كما أنهم هم أنفسهم أمانة في ذمة هؤلاء الأوصياء، فلا تبرأ ذمة الوصىّ حتى يؤدّى تلك الأمانة على وجهها الذي أمر الله أن تؤدّى عليه.

2. خصّ الأمر الإلهي المال بالذكر، لأن أكثر ما تطمح إليه نفوس الأوصياء وتطمع فيه، هو المال، وما سواه فهو تبع له، فلو أن الوصىّ عفّ عن مال اليتيم، وراقب الله فيه، وبذل له من الجهد والرأى ما يبذل لماله هو ـ لو أنه فعل ذلك لا استقام أمره كلّه مع اليتيم، فبذل له من الحبّ والعطف، ما ينعش نفسه، ويطيّب خاطره، ويعدّل سلوكه، والعكس صحيح، فإنه حين تمتد عين الوصىّ إلى مال اليتيم بالخيانة والغدر، فإنه لا يتحرج أبدا بعد هذا من أن يسوق البغض والكراهية لهذا اليتيم، وأن يسومه الخسف والهوان، وأن يرخى له الحبل في طريق الضلال والفساد، حتى يخلى له الطريق لأكل ماله الذي استباح أكله، واستمرأه.

3. في قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ أمر قاطع بأداء أموال اليتامى إليهم سليمة كاملة، سواء كان اليتيم لا يزال صغيرا تحت كفالة الوصىّ، أو بلغ رشده واستحق أن يتولىّ أمر نفسه، وعلى هذا، فليذكر الوصىّ دائما أن مال اليتيم هو مال اليتيم، وأنه أمانة في يده، مطالب بأن يحاسب نفسه عليها في كل يوم، وأن يدفعها إلى اليتيم عند أي طلب.. وهذا ما يجعله في مراجعة ومحاسبة مع نفسه أبدا، غير منتظر هذا اليوم البعيد، الذي قد يمتد إلى سنين، حين يبلغ اليتيم رشده، ويحين وقت الحساب!.

4. ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾، نهى بعد أمر.. وفي هذا النهى، وبالامتثال له، يتحقق الأمر، ويجيء الوفاء به على وجه مرضى سليم، والخبيث، هو أكل مال اليتيم، وتضييع حقوقه، وإفساد مصالحه أو تفويتها، إهمالا وتقصيرا.. عن عمد أو غير عمد، والطيب، هو رعاية مال اليتيم، وحسن القيام عليه، وتحرّى أعدل الوجوه لإنمائه وتثميره.

5. تبدّل الخبيث بالطيّب، أن يسلك الوصىّ بمال اليتيم مسالك التضييع والإهمال، والاغتيال.. فيكون بذلك قد ترك الطيب الذي أمره الله به، وأخذ الخبيث الذي دعته نفسه إليه، ومال به هواه نحوه.

6. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾، هو بيان لبعض المداخل التي يتبدل الأوصياء فيها الخبيث بالطيب، في شأن اليتامى الذين في أيديهم، وذلك بأن يضيفوا أموال اليتامى إلى أموالهم، ويحسبوا أنها من بعض ما يملكون، دون أن يكون في تقديرهم أن مال اليتيم لليتيم وحده، وأنهم أمناء عليه، حرّاس له.

﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾، الحوب الذنب والإثم.. والضمير في (إنه) يعود إلى التصرف المعيب الذي يتصرفه الأوصياء في أموال اليتامى، وإضافتها إلى أموالهم.. وذلك جور غاشم، وعدوان مبين.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/688.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. مناسبة عطف الأمر على ما قبله أنّه من فروع تقوى الله في حقوق الأرحام، لأنّ المتصرّفين في أموال اليتامى في غالب الأحوال هم أهل قرابتهم، أو من فروع تقوى الله الذي يتساءلون به وبالأرحام فيجعلون للأرحام من الحظّ ما جعلهم يقسمون بها كما يقسمون بالله، وشيء هذا شأنه حقيق بأن تراعى أواصره ووشائجه وهم لم يرقبوا ذلك، وهذا ممّا أشار إليه قوله تعالى: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النساء: 1]

2. الإيتاء حقيقته الدفع والإعطاء الحسي، ويطلق على تخصيص الشيء بالشيء وجعله حقّا له، مثل إطلاق الإعطاء في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ [الكوثر: 1] وفي الحديث: (رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحقّ ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها)

3. اليتامى جمع يتيم وجمع يتيمة، فإذا جمعت به يتيمة فهو فعائل أصله يتائم، فوقع فيه قلب مكانيّ فقالوا يتامئ ثم خفّفوا الهمزة فصارت ألفا وحرّكت الميم بالفتح، وإذا جمع به يتيم فهو إمّا جمع الجمع بأن جمع أوّلا على يتمى، كما قالوا: أسير وأسرى، ثم جمع على يتامى مثل أسارى بفتح الهمزة، أو جمع فعيل على فعائل لكونه صار اسما مثل أفيل وأفائل، ثم صنع به من القلب ما ذكرناه آنفا، وقد نطقت العرب بجمع يتيمة على يتائم، وبجمع فعيل على فعائل في قول بشر النجدي:

çأأطلال حسن في البراق اليتائم‏...سلام على أطلالكنّ القدائم‏é

4. اشتقاق اليتيم من الانفراد، ومنه الدرّة اليتيمة أي المنفردة بالحسن، وفعله من باب ضرب وهو قاصر، وأطلقه العرب على من فقد أبوه في حال صغره كأنّه بقي منفردا لا يجد من يدفع عنه، ولم يعتدّ العرب بفقد الأمّ في إطلاق وصف اليتيم إذ لا يعدم الولد كافلة، ولكنّه يعدم بفقد أبيه من يدافع عنه وينفقه، وقد ظهر ممّا راعوه في الاشتقاق أنّ الذي يبلغ مبلغ الرجال لا يستحقّ أن يسمّى يتيما إذ قد بلغ مبلغ الدفع عن نفسه، وذلك هو إطلاق الشريعة لاسم اليتيم، والأصل عدم النقل، وقيل: هو في اللغة من فقد أبوه، ولو كان كبيرا، أو كان صغيرا وكبر، ولا أحسب هذا الإطلاق صحيحا، وقد أريد باليتامى هنا ما يشمل الذكور والإناث وغلب في ضمير التذكير في قوله: ﴿أَمْوَالِهِمْ﴾

5. ظاهر الآية الأمر بدفع المال لليتيم، ولا يجوز في حكم الشرع أن يدفع المال له ما دام مطلقا عليه اسم اليتيم، إذ اليتيم خاصّ بمن لم يبلغ، وهو حينئذ غير صالح للتصرّف في ماله، فتعيّن تأويل الآية إمّا بتأويل لفظ الإيتاء أو بتأويل اليتيم، فلنا أن نؤوّل‏ ﴿أَتَوْا﴾ بغير معنى ادفعوا، وذلك بما نقل عن جابر بن زيد أنّه قال نزلت هذه الآية في الذين لا يورّثون الصغار مع وجود الكبار في الجاهلية، فيكون‏ ﴿أَتَوْا﴾ بمعنى عيّنوا لهم حقوقهم، وليكون هذا الأمر وما يذكر بعده تأسيسات أحكام، لا تأكيد بعضها لبعض، أو تقييد بعضها لبعض، وقال الزمخشري: (يراد بإيتائهم أموالهم أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته ويكفّوا عنها أيديهم الخاطفة حتّى تأتي اليتامى إذا بلغوا سالمة) فهو تأويل للإيتاء بلازمه وهو الحفظ الذي يترتّب عليه الإيتاء كناية بإطلاق اللازم وإرادة الملزوم، أو مجاز بالمآل إذ الحفظ يؤول إلى الإيتاء، وعليه فيكون هو معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾، وعلى هذين الوجهين فالمراد هنا الأمر بحفظ حقوق اليتامى من الإضاعة لا تسليم المال إليهم وهو الظاهر من الآية إذ سيجي‏ء في قوله: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ [النساء: 6] الآية.

6. لنا أن نؤوّل اليتامى بالذين جاوزوا حدّ اليتم ويبقى الإيتاء بمعنى الدفع، ويكون التعبير عنهم باليتامى للإشارة إلى وجوب دفع أموالهم إليهم في فور خروجهم من حدّ اليتيم، أو يبقى على حاله ويكون هذا الإطلاق مقيّدا بقوله الآتي: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 6]

7. من الناس من قال اليتيم يطلق على الصغير والكبير لأنّه مشتقّ من معنى الانفراد أي انفراده عن أبيه، ولا يخفى أنّ هذا القول جمود على توهّم أنّ الانفراد حقيقيّ وإنّما وضع اللفظ للانفراد المجازي، وهو انعدام الأب المنزّل منزلة بقاء الولد منفردا وما هو بمنفرد فإنّ له أمّا وقوما.

8. قيل: نزلت هذه الآية في رجل من غطفان كان له ابن أخ في حجره، فلمّا بلغ طلب ماله، فمنعه عمّه، فنزلت هذه الآية، فردّ المال لابن أخيه، وعلى هذا فهو المراد من قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ﴾

9. ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ أي لا تأخذوا الخبيث وتعطوا الطيّب، والقول في تعدية فعل تبدّل ونظائره مضى عند قوله تعالى في سورة فالبقرة [61] قال: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ وعلى ما تقرّر هناك يتعيّن أن يكون الخبيث هو المأخوذ، والطيّب هو المتروك.

10. الخبيث والطيّب أريد بهما الوصف المعنوي دون الحسي، وهما استعارتان؛ فالخبيث المذموم أو الحرام، والطيّب عكسه وهو الحلال: وتقدّم في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ في البقرة [168]، فالمعنى: ولا تكسبوا المال الحرام وتتركوا الحلال أي لو اهتممتم بإنتاج أموالكم وتوفيرها بالعمل والتجر لكان لكم من خلالها ما فيه غنية عن الحرام، فالمنهي عنه هنا هو ضدّ المأمور به من قبل تأكيدا للأمر، ولكنّ النهي بيّن ما فيه من الشناعة إذا لم يمتثل الأمر، وهذا الوجه ينبئ عن جعل التبدّل مجازا والخبيث والطيّب كذلك، ولا ينبغي حمل الآية على غير هذا المعنى وهذا الاستعمال، وعن السديّ ما يقتضي خلاف هذا المعنى وهو غير مرضي.

11. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ نهي ثالث عن أخذ أموال اليتامى وضمّها إلى أموال أوليائهم، فينتسق في الآية أمر ونهيان: أمروا أن لا يمنعوا اليتامى من مواريثهم ثم نهوا عن اكتساب الحرام، ثم نهوا عن الاستيلاء على أموالهم أو بعضها، والنهي والأمر الأخير تأكيدان للأمر الأول.

12. الأكل استعارة للانتفاع المانع من انتفاع الغير وهو الملك التامّ، لأنّ الأكل هو أقوى أحوال الاختصاص بالشيء لأنّه يحرزه في داخل جسده، ولا مطمع في إرجاعه، وضمّن‏ ﴿تَأْكُلُوا﴾ معنى تضمّوا فلذلك عدي بإلى أي: لا تأكلوها بأن تضمّوها إلى أموالكم.

13. ليس قيد ﴿إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ محطّ النهي، بل النهي واقع على أكل أموالهم مطلقا سواء كان للآكل مال يضمّ إليه مال يتيمه أم لم يكن، ولكن لمّا كان الغالب وجود أموال للأوصياء، وأنّهم يريدون من أكل أموال اليتامى التكثّر، ذكر هذا القيد رعيا للغالب، ولأنّه أدخل في النهي لما فيه من التشنيع عليهم حيث يأكلون حقوق الناس مع أنّهم أغنياء؛ على أنّ التضمين ليس من التقييد بل هو قائم مقام نهيين، ولذلك روي: أنّ المسلمين تجنّبوا بعد هذه الآية مخالطة أموال اليتامى فنزلت آية البقرة [220]: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ فقد فهموا أنّ ضمّ مال اليتيم إلى مال الوصيّ حرام، مع علمهم بأنّ ذلك ليس مشمولا للنهي عن الأكل ولكن للنهي عن الضمّ، وهما في فهم العرب نهيان، وليس هو نهيا عن أكل الأغنياء أموال اليتامى حتى يكون النهي عن أكل الفقراء ثابتا بالقياس لا بمفهوم الموافقة إذ ليس الأدون بصالح لأن يكون مفهوم موافقة.

14. الحوب ـ بضمّ الحاء ـ لغة الحجاز، وبفتحها ـ لغة تميم، وقيل: هي حبشية، ومعناه الإثم، والجملة تعليل للنهي: لموقع إنّ منها، أي نهاكم الله عن أكل أموالهم لأنّه إثم عظيم، ولكون إنّ في مثله لمجرد الاهتمام لتفيد التعليل أكّد الخبر بكان الزائدة.

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/13.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ أوجب سبحانه وتعالى الرحمة العامة في الآية السابقة وأخصها ما كان في الأسرة الواحدة، وقد ابتدأ في هذا بأحق الناس بالرحمة العاطفة، والمودة الواصلة، وهم الذين نزلوا إلى هذا الوجود من غير حام غير الله تعالى يحميهم، ولا قلب يحنو عليهم حنو الوالد الشفيق، وأولئك هم اليتامى.

2. اليتم معناه: (الانفراد) واليتيم هو الصغير الذي مات أبوه، وقد حث الله تعالى على إكرام اليتامى في آيات كثيرة، وأحاديث نبوية مستفيضة قد تضافرت كلها على وجوب إكرامه ومنع قهره وإذلاله، ذلك أن اليتيم يحتاج إلى إصلاح وعطف ومحبة تعوضه عما فقد من رعاية، وإن العواطف الإنسانية تنمو في الطفل وهو صغير بالمجاوبة النفسية بينه وبين من يحيطون به، فإذا انقطعت تلك العاطفة في الصغر نفر ونظر إلى الجماعة كلها نظرة العدو إلى عدوّه، فيكون من هؤلاء الذين فقدوا عطف الأبوة ولم يكن ما يعوضها ـ الشذاذ وقطاع الطرق، وبعبارة عامة من ليس عندهم ضمائر، ولا نفوس لوّامة.

3. في قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ أمر واضح بالرعاية من ناحية المال، فلا يمنعون حقهم المالى، والأمر بالإيتاء أمر لعموم الجماعة الإسلامية بأن تتضافر في تمكين اليتيم من أن يصل إليه ماله، فلا يأكله الورثة ويضيّعون حقه، وعلى ذلك يكون معنى الإيتاء تخصيص نصيب لليتامى كاملا غير منقوص، فتحفظ لهم حصتهم في أبيهم أو في مورثهم، ويحفظ لهم نصيبهم في كل غلة لأموالهم، ويكون وصف اليتامى على حقيقته؛ لأن ذلك وهم صغار، وفسر بعض العلماء الإيتاء بالإعطاء لهم إذا بلغوا رشدهم، ويكون التعبير عنهم باليتامى باعتبار ما كان.

4. ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ معناه: لا تجعلوا لهم خبيث المال بدل الطيب، ويكون الطيب معناه الجيد، والخبيث معناه الردى‏ء، فعلى هذا يكون المعنى الجملى: لا تجعلوا ردى‏ء المال لهم بدل الجيد، فإذا كانت التركة شاء فلا تجعلوا لهم الهزيلة، ولكم السمينة، وإذا كانت نقدا فلا تجعلوا لهم الزيوف، وتجعلوا لأنفسكم الجيد، ومعنى التّبدل، جعل شيء بدل شيء أي يجعلون الردى‏ء بدل الجيد، والباء في مادة التبدل يجوز أن تدخل على المتروك، ويجوز أن تدخل على المأخوذ، وهى هنا على المتروك، لأنه يترك عنهم الجيد، ويؤخذ لهم الردى‏ء وفسر بعضهم الخبيث بالحرام، والطيب بالحلال، ويكون المعنى: لا تجعلوا الحرام عليكم بدلا عن الحلال، أي لا تأخذوا الحرام من مالهم وتتركوا الحلال الطيب من أموالكم، وبهذا فسر الزمخشري.

5. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ الكلام السابق كان في تخصيص أنصبة لهم غير منقوصة، وتخير هذه الأنصبة من الطيب دون الخبيث، وهنا الكلام في خلط أموالهم بأموال الأوصياء، ومعنى النص الكريم: لا تضموا أموالهم إلى أموالكم آكلين لها، والآية صريحة في النهى عن خلط مال القاصر بمال الموصى عليه قاصدا أكله؛ لأن الأكل في ذاته حرام، وهى أيضا تتضمن النهى عن خلط مال القاصر، ولو لم يقصد أكله؛ لأنه قد يؤدى إلى ضياعه وعدم تمييزه، إذ يخشى أن يموت من غير أن يعرف مال اليتيم من ماله، فيؤدى الأمر إلى أكله، وإن لم يكن مقصودا، ولذا يقول الفقهاء: إذا مات الموصى على اليتيم مجهلا مال اليتيم اعتبر مستهلكا له.

6. ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ الضمير يعود إلى النهى عن أكل مال اليتيم بأي طريق كان الأكل، ومعنى‏ ﴿حُوبًا كَبِيرًا﴾: إثما كبيرا، فالحوب معناه الإثم، وفلان يتحوب أي يتأثم، والحوباء النفس المرتكبة للإثم، وإن الإثم في هذا كان كبيرا؛ لأنه اعتداء على ضعيف، والاعتداء على الضعيف أكبر الإثم، ولأنه خيانة للأمانة، ولأنه تضييع لنفس بشرية وهى نفس اليتيم؛ لأنه إذا كان يؤكل ماله فمم يأكل؟ ولأن ذلك ينشئ اليتيم على النفرة من المجتمع، وفي ذلك شر مستطير، ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء]

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1579.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾، لا بد لليتيم من عاقل أمين يرعاه في تربيته، ويدبر أمواله لمصلحته إلى أن يصبح أهلا للاستقلال في نفسه، ومعرفة ما يصلحها ويفسدها، وهذه الآية تتعلق بأموال الأيتام، فتأمر أوصياءهم أن يحافظوا عليها، ولا يتعرضوا لها بسوء، وأن يوصلوها اليهم بالإنفاق عليهم ما داموا صغارا، ويسلموها لهم عند البلوغ والاستقلال.

2. ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾، المراد بالخبيث هنا المال الحرام، وبالطيب المال الحلال، والمعنى لا تأكلوا وتتمتعوا بأموال اليتيم، وتحتفظوا بأموالكم، وإذا فعلتم ذلك فقد استبدلتم الخبيث الذي حرمه عليكم من أموال اليتامى بالطيب الذي أحله الله لكم من أموالكم.. فهو نظير قوله تعالى: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَأَدْنى‏ بِالَّذِي هُوَخَيْرٌ﴾ ـ 61 البقرة)

3. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾، المراد بلا تأكلوا هنا لا تتصرفوا، والمعنى لا تتسلطوا على أموال اليتامى بالأكل والانتفاع، كما تفعلون في أموالكم، لأن مهمتكم تنحصر في حدود صيانتها، واستثمارها لصالح الأيتام، فإذا تجاوزتم هذه الحدود كنتم آثمين مجرمين.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/246.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الآيات تتمة التمهيد والتوطئة التي وضعت في أول السورة لبيان أحكام المواريث وعمدة أحكام التزويج كعدد النساء وتعيين المحارم وهذان البابان من أكبر أبواب القوانين الحاكمة في المجتمع الإنساني وأعظمها، ولهما أعظم التأثير في تكون المجتمع وبقائه فإن النكاح يتعين به وضع المواليد من الإنسان الذين هم أجزاء المجتمع والعوامل التي تكونه، والإرث يتعلق بتقسيم الثروة الموجودة في الدنيا التي يبتني عليها بنية المجتمع في عيشته وبقائه، وقد تعرضت الآيات في ضمن بيانها للنهي عن الزنى والسفاح والنهي عن أكل المال بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض وعند ذلك تأسس أساسان قيمان لأمر المجتمع في أهم ما يشكله وهو أمر المواليد وأمر المال، ومن هنا يظهر وجه العناية بالتمهيد المسوق لبيان هذه الأحكام التي تعلقت بالاجتماع الإنساني ونشبت في أصوله وجذوره، وصرف الناس عما اعتادت عليه جماعتهم، والتحمت عليه أفكارهم، ونبتت عليه لحومهم، ومات عليه أسلافهم، ونشأ عليه أخلافهم عسير كل العسر، وهذا شأن ما شرع في صدر هذه السورة من الأحكام المذكورة، يتضح ذلك بتأمل إجمالي في وضع العالم الإنساني يومئذ بالعموم وفي وضع العالم العربي و(دارهم دار نزول القرآن وظهور الإسلام) بالخصوص، وفي كيفية تدرج القرآن في نزوله وظهور الأحكام الإسلامية في تشريعها.

2. كلام في الجاهلية الأولى(2):

أ. القرآن يسمي عهد العرب المتصل بظهور الإسلام بالجاهلية، وليس إلا إشارة منه إلى أن الحاكم فيهم يومئذ الجهل دون العلم، والمسيطر عليهم في كل شيء الباطل‏ وسفر الرأي دون الحق، وكذلك كانوا على ما يقصه القرآن من شؤونهم، قال تعالى: ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾، وقال: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾:، وقال: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾، وقال: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾

ب. كانت العرب يومئذ تجاور في جنوبها الحبشة وهي نصرانية، وفي مغربها إمبراطورية الروم وهي نصرانية، وفي شمالها الفرس وهم مجوس، وفي غير ذلك الهند ومصر وهما وثنيتان وفي أرضهم طوائف من اليهود، وهم أعني العرب مع ذلك وثنيون يعيش أغلبهم عيشة القبائل، وهذا كله هو الذي أوجد لهم اجتماعا همجيا بدويا فيه أخلاط من رسوم اليهودية والنصرانية والمجوسية وهم سكارى جهالتهم، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾

ج. وقد كانت العشائر وهم البدو على ما لهم من خساسة العيش ودناءته يعيشون بالغزوات وشن الغارات واختطاف كل ما في أيدي آخرين من متاع أو عرض فلا أمن بينهم ولا أمانة، ولا سلم ولا سلامة، والأمر إلى من غلب والملك لمن وضع عليه يده، أما الرجال فالفضيلة بينهم سفك الدماء والحمية الجاهلية والكبر والغرور واتباع الظالمين وهضم حقوق المظلومين والتعادي والتنافس والقمار وشرب الخمر والزنا وأكل الميتة والدم وحشف التمر، وأما النساء فقد كن محرومات من مزايا المجتمع الإنساني لا يملكن من أنفسهن إرادة ولا من أعمالهن عملا ولا يملكن ميراثا ويتزوج بهن الرجال من غير تحديد بحد كما عند اليهود وبعض الوثنية ومع ذلك فقد كن يتبرجن بالزينة ويدعون من أحببن إلى أنفسهن وفشا فيهن الزنا والسفاح حتى في المحصنات المزوجات منهن، ومن عجيب بروزهن أنهن ربما كن يأتين بالحج عاريات.

د. وأما الأولاد فكانوا ينسبون إلى الآباء لكنهم لا يورثون صغارا ويذهب الكبار بالميراث ومن الميراث زوجة المتوفى، ويحرم الصغار ذكورا وإناثا والنساء، غير أن المتوفى لو ترك صغيرا ورثه لكن الأقوياء يتولون أمر اليتيم ويأكلون‏ ماله، ولو كان اليتيم بنتا تزوجوها وأكلوا مالها ثم طلقوها وخلوا سبيلها فلا مال تقتات به ولا راغب في نكاحها ينفق عليها والابتلاء بأمر الأيتام من أكثر الحوادث المبتلى بها بينهم لمكان دوام الحروب والغزوات والغارات فبالطبع كان القتل شائعا بينهم.

هـ. وكان من شقاء أولادهم أن بلادهم الخربة وأراضيهم القفر البائرة كان يسرع الجدب والقحط إليها فكان الرجل يقتل أولاده خشية الإملاق (الأنعام آية 151)، وكانوا يئدون البنات (التكوير آية 8)، وكان من أبغض الأشياء عند الرجل أن يبشر بالأنثى (الزخرف آية 17)

و. وأما وضع الحكومة بينهم فأطراف شبه الجزيرة وإن كانت ربما ملك فيها ملوك تحت حماية أقوى الجيران وأقربها كإيران لنواحي الشمال والروم لنواحي الغرب والحبشة لنواحي الجنوب إلا أن قرى الأوساط كمكة ويثرب والطائف وغيرها كانت تعيش في وضع أشبه بالجمهورية وليس بها، والعشائر في البدو بل حتى في داخل القرى كانت تدار بحكومة رؤسائها وشيوخها وربما تبدل الوضع بالسلطنة.

ز. فهذا هو الهرج العجيب الذي كان يبرز في كل عدة معدودة منهم بلون، ويظهر في كل ناحية من أرض شبه الجزيرة في شكل مع الرسوم العجيبة والاعتقادات الخرافية الدائرة بينهم، وأضف إلى ذلك بلاء الأمية وفقدان التعليم والتعلم في بلادهم فضلا عن العشائر والقبائل.

ح. وجميع ما ذكرناه من أحوالهم وأعمالهم والعادات والرسوم الدائرة بينهم مما يستفاد من سياق الآيات القرآنية والخطابات التي تخاطبهم بها أوضح استفادة، فتدبر في المقاصد التي ترومها الآيات والبيانات التي تلقيها إليهم بمكة أولا ثم بعد ظهور الإسلام وقوته بالمدينة ثانيا، وفي الأوصاف التي تصفهم بها، والأمور التي تذمها منهم وتلومهم عليها، والنواهي المتوجهة إليهم في شدتها وضعفها، إذا تأملت كل ذلك تجد صحة ما تلوناه عليك، على أن التاريخ يذكر جميع ذلك ويتعرض من تفاصيلها ما لم نذكره لإجمال الآيات الكريمة وإيجازها القول فيه، وأوجز كلمة وأوفاها لإفادة جمل هذه المعاني ما سمى القرآن هذا العهد بعهد الجاهلية فقد أجمل في معناها جميع هذه التفاصيل، هذا حال عالم العرب ذلك اليوم.

ط. أما العالم المحيط بهم ذلك اليوم من الروم والفرس والحبشة والهند وغيرهم فالقرآن يجمل القول فيه، أما أهل الكتاب منهم أعني اليهود والنصارى ومن يلحق بهم فقد كانت مجتمعاتهم تدار بالأهواء الاستبدادية والتحكمات الفردية من الملوك والرؤساء والحكام والعمال فكانت مقتسمة طبعا إلى طبقتين طبقة حاكمة فعالة لما تشاء تعبث بالنفس والعرض والمال، وطبقة محكومة مستعبدة مستذلة لا أمن لها في مال وعرض ونفس، ولا حرية إرادة إلا ما وافق من يفوقها، وقد كانت الطبقة الحاكمة استمالت علماء الدين وحملة الشرع وأتلفت بهم، وأخذت مجامع قلوب العامة وأفكارهم بأيديهم فكانت بالحقيقة هي الحاكمة في دين الناس ودنياهم تحكم في دين الناس كيفما أرادت بلسان العلماء وأقلامهم وفي دنياهم بالسوط والسيف.

ي. وقد اقتسمت الطبقة المحكومة أيضا على حسب قوتها في السطوة والجدة فيما بينهم نظير الاقتسام الأول (والناس على دين ملوكهم) إلى طبقتي الأغنياء المترفين والضعفاء والعجزة والعبيد، وكذا إلى رب البيت ومربوبيه من النساء الأولاد، وكذا إلى الرجال المالكين لحرية الإرادة والعمل في جميع شؤون الحياة والنساء المحرومات من جميع ذلك التابعات للرجال محضا الخادمات لهم في ما أرادوه منهن من غير استقلال ولو يسيرا، وجوامع هذه الحقائق التاريخية ظاهرة من قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ وقد أدرجها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتابه إلى هرقل عظيم الروم، وقد قيل إنه كتب بها أيضا إلى عظيم مصر وعظيم الحبشة وملك الفرس وإلى نجران، وكذا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾: (الحجرات: 13)، وقوله في ما وصى به التزوج بالإماء والفتيات: ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ﴾، وقوله في النساء: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ﴾ ﴿بَعْضَ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.

ك. وأما غير أهل الكتاب وهم يومئذ الوثنية ومن يلحق بهم فقد كان الوضع فيهم أردأ وأشأم من وضع أهل الكتاب، والآيات النازلة في الاحتجاج عليهم تكشف عن‏ خيبة سعيهم وخسران صفقتهم في جميع شؤون الحياة وضروب السعادة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾، وقال تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾

3. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بمنهج دعوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/151.

(2) هذه مقدمة مهمة لتفسير هذا المقطع وما يليه، وكل ما يرتبط به في سائر القرآن الكريم، ولهذا اعتبرناه من التفسير التحليلي، وليس موضوعا خارجيا، بل يمكن اعتباره من أسباب النزول

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى﴾ أموالهم في حال إنفاقها عليهم، وعند إيناس رشدهم إذا بلغوا النكاح، والخبيثُ: الحرام، والطيبُ: الحلال، فقد يرى الرجل شيئاً من مال اليتيم يستحسنه ويرغب فيه، فيأخذه لنفسه ويجعل لليتيم بدله ليزعم أنه هو نصيب اليتيم وقد غش نفسه؛ لأنه تبدّل الخبيث بالطيب.

2. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ بضم مال اليتيم إلى مال الرجل ودعوى أن الكل للرجل ليس لليتيم منه شيء، وأكثر ما يقع هذا من الذي يتلف ماله فيحتاج إلى مال اليتيم فيتلفه كما أتلف مال نفسه فعبر عنه بالأكل لأن أكثر الإتلاف يكون في الأكل للحاجة إلى الأكل كل يوم وعموم الحاجة للكبير والصغير.

3. ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ في (مفردات الراغب): (الحوب: الذنب) ومثله في (الصحاح) وفي (الكشاف): (الحوب: الذنبُ العظيم) وكذا في (المصابيح)، وهو في (لسان العرب) عن الفراء، الأول في (لسان العرب) أيضاً عن أبي عبيد والزجاج، وقد وصفه الله بالكبر، فإذا كان معناه: الإثم العظيم، فهو مثل العذاب الأليم فهو عظيم جداً.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/6.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه نقلة جديدة في أجواء العلاقات الإنسانية، في ما يمارسه الإنسان من المسؤولية تجاه الأيتام الذين يمثلون الفئة الضعيفة التي تعيش ـ في ذاتها ـ معلّقة في الفراغ، لأنها فقدت القوة التي تمنحها التماسك والثبات؛ وذلك في ما يمثله الآباء للأبناء الصغار من معنى الرعاية والحماية والقوة، في ما يغدقونه عليهم من حنان وعاطفة، وما يحيطونهم به من عناية واهتمام، فيصونونهم ـ بذلك ـ من كل عوامل الضعف والقهر المحيطة بهم.

2. في ضوء ذلك، كان الإسلام حاسما في هذه المسألة التي لا تحتمل المساومة والتهاون، لأنها تتعلّق بقضية الإنسان الضعيف في الأرض، الذي أراد الله منحه من عوامل القوة، فجعل كفالته مسئولية المجتمع، وحمّل أفراده كل التبعات التي تترتب على ذلك، وحذّرهم من الانسياق مع نوازع‏ الطمع التي قد يثيرها الشعور بالأمن من العقوبة، على أساس فقدان القوة الذاتية التي يستطيع اليتيم أن يدافع بها عن نفسه، وانعدام القوة البديلة التي تتولى التعويض عن ذلك، حتى لا يمتنعوا عن إعطاء الأيتام أموالهم الموجودة لديهم، أو يستبدلوا بالجيّد الردي‏ء، وبالطيب الخبيث للحصول على بعض المنافع والامتيازات، أو إضافة أموال الأيتام إلى أموالهم ببعض الوسائل غير الشرعية، واعتبر هذه الأعمال إثما كبيرا يستحق الإنسان عليه العقاب الكبير لدى الله.

3. هذا السلوك الخياني ربما كان منطلقا من حاجة الولي القائم على مال اليتيم إلى الأخذ منه، لأن ذلك هو الغالب في أمثال هذه الموارد، وربما كانت الكلمة في استعمالاتها العرفية مجردة عن خصوصية هذا المعنى لتأخذ معنى الإثم بشكل مطلق، والله العالم.

4. لعلّ هذا التأكيد القرآني على عدم الإضرار بمال اليتيم، سواء أكان ذلك بتبديله بالأدون أم بمصادرته واغتصابه، ينطلق من إيجاد حالة من الخوف الداخلي لدى الإنسان من الوقوع في الإثم الكبير الذي ينتهي به إلى عذاب الله من أجل إيجاد ضمانة روحية تحمي اليتيم من ضياع ماله لدى الذين يتولون أمره شرعيا أو عرفيا، أو الذين يملكون القوة الغاشمة التي تتيح لهم إمكانية التسلط على الضعفاء في أنفسهم وأموالهم، فإن التربية الإسلامية تعمل على تركيز العقدة الذاتية في نفوس الناس المانعة لهم من الذهاب بعيدا في الاتجاه المنحرف، بالإضافة إلى السلطة التي يمنحها الشرع للسلطات الشرعية في معاقبة هؤلاء ومنعهم من ظلم الضعفاء في الدنيا على أساس القانون الإسلامي.

5. إن هذا التوجيه الإلهي هو أحد مظاهر التقوى العملية التي دعت إليها الآية الأولى، وذلك من خلال ما يفرضه من الوقوف عند حدود الله، وما يدعو إليه من الالتزام بأوامر الله ونواهيه، وما يثيره في النفس من الشعور بالخوف من الله ومن عقابه والرغبة في رضاه وفي ثوابه وهذا ما يمكن أن يحقّق المناعة الطبيعية ضد الانحراف، لأن مثل هذه الأمور، التي يستطيع الكثيرون اللعب على ظروفها، قد تفسح المجال لكثير من هؤلاء الناس القيام بعملية التفاف عليها، في ما يريدونه من خيانة، وما يعملون له من غايات وأهداف ذاتية، لا سيما في الحالات التي لا يملك فيها الأيتام أيّه مستندات تثبت حقوقهم، أو أية معرفة للآخرين في ذلك، كما قد يحدث غالبا، ولهذا كان التأكيد شديدا وذلك من خلال قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/39.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. روي أنّ رجلا من بني غطفان كان معه مالا كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه، فخاصمه إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزلت: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ فلما سمع الغطفاني ذلك ارتدع وقال: أعوذ بالله من الحوب الكبير.

2. كثيرا ما يحدث في المجتمعات البشرية أن يفقد أطفال صغار ءاباءهم بسبب الحوادث والنكبات والكوارث، فتلك حالة كثيرا ما تقع، فإن المجتمعات المريضة التي تعاني من صراعات وحروب ونزاعات داخلية مستمرة مثل المجتمع الجاهلي العربي يقع فيها هذا الأمر بنسبة أكبر، ولذلك يكثر فيها عدد الأيتام، وهو ما يجب أن تهتمّ به الحكومة الإسلامية، بل ويهتمّ به كل المسلمين، فيتكفّلوا أمر اليتامى وشؤونهم.

3. في هذه الآية ثلاثة تعاليم بشأن أموال اليتامى.

أ. ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ أي يجب أن تعطوا اليتامى عند رشدهم أموالهم المودعة عندكم، ويكون تصرفكم في هذه الأموال على نحو تصرف الأمين والنّاظر والوكيل لا على نحو تصرّف المالك.

ب. ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ أي لا تأخذوا أموالهم الطّيبة وثرواتهم الجيدة وتضعوا بدلها من أموالكم الخبيثة والمغشوشة وهذا التعليم ـ في الحقيقة ـ يهدف إلى المنع ممّا قد يرتكبه بعض القيمين على أموال اليتامى من أخذ الجيد من مال اليتيم والرفيع منه وجعل الخسيس والردي‏ء مكانه، بحجّة أن هذا التبديل يضمن مصلحة اليتيم، أو لأنّه لا تفاوت بين ماله والبديل، أو لأن بقاء مال اليتيم يؤول إلى التلف والضياع وغير ذلك من الحجج والمعاذير.

ج. ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ يعني لا تخلطوا أموال اليتامى مع أموالكم بحيث تكون نتيجتها تملك الجميع، أو أنّ المراد لا تخلطوا الجيد من أموالهم بالردى من أموالكم بحيث تكون نتيجتها الإضرار باليتامى وضياع حقوقهم، ولفظة (إلى) في العبارة بمعنى (مع) في الحقيقة.

4. ثمّ إنّه سبحانه، لبيان أهمية هذا الموضوع والتأكيد عليه يختم الآية بقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾، يقول الرّاغب في مفرداته: (الحوبة حقيقتها هي الحاجة التي تحمل صاحبها على ارتكاب الإثم) وحيث أن العدوان على أموال اليتامى ينشأ ـ في الأغلبـ من الحاجة، أو بحجّة الحاجة استعمل القرآن الكريم مكان لفظة الإثم في هذه الآية لفظة (الحوب) للإشارة إلى هذه الحقيقة.

5. إنّ ملاحظة الآيات القرآنية المختلفة ـ في هذا المجال ـ تكشف عن أن الإسلام يولي هذا الموضوع أهمية كبرى، ويهدد الخائنين في أموال اليتامى بالعقوبات الشديدة، ويدعو القيمين على اليتامى بكلمات صريحة وجازمة إلى مراقبة أموالهم والمحافظة عليها مراقبة شديدة، ومحافظة بالغة، وسيأتي تفصيل كلّ هذا في نفس هذه السورة في الآيات القادمة، وفي ذيل الآيات من سورة الأنعام، ومن سورة الإسراء.

6. إنّ اللهجة القوية التي اتسمت بها هذه الآيات قد تركت من التأثير البالغ في نفوس المسلمين بحيث خافوا أن يخالطوا اليتامى وأن يشتركوا معهم في الطعام، ولهذا كانوا يهيئون طعاما خاصّا لأنفسهم ولأولادهم، وطعاما مستقلا لليتامى ولا يخالطون طعام اليتامى بطعامهم خشية الإجحاف بهم، وقد شقّ هذا على الجميع ـ اليتامى الأولياء ـ ولهذا أمرهم سبحانه في الآية من سورة البقرة قائلا ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ أي إن كان في مخالطتهم لطعام اليتيم بطعامهم خير ومصلحة لليتيم فلا بأس‏.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/85.

3. القسط في اليتامى والتعدد والعدل

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈3⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ [النساء: 3]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

عائشة:

روي عن عائشة (ت 57 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّها قالت: نزلت هذه الآية في اليتيمة تكون عند الرجل وهي ذات مال، فلعله ينكحها لمالها وهي لا تعجبه، ثم يضر بها، ويسيء صحبتها، فوعظ في ذلك(1).

2. روي أنّه سألها عروة عن قول الله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾، قالت: يا ابن أختي، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في مالها، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن، وإن الناس استفتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد هذه الآية؛ فأنزل الله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾ الآية [النساء: ١٢٧]، قالت عائشة: وقول الله في الآية الأخرى: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من باقي النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال(2).

3. روي أنّها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقسم فيعدل، ويقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك، ولا أملك) يعني القلب(3).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٦٠.

(2) البخاري ٦/ ٤٣.

(3) أبو داود (2134)،والترمذي (1140).

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان الرجل يتزوج بمال اليتيم ما شاء الله تعالى، فنهى الله عن ذلك(1).

2. روي أنّه قال: قصر الرجال على أربع من أجل أموال اليتامى(1).

3. روي أنّه قال: كما خفتم أن لا تعدلوا في اليتامى؛ فخافوا أن لا تعدلوا في النساء إذا جمعتموهن عندكم(2).

4. روي أنّه قال: في الآية: فإن خفتم الزنا فانكحوهن، يقول: كما خفتم في أموال اليتامى أن لا تقسطوا فيها؛ كذلك فخافوا على أنفسكم ما لم تنكحوا(3).

5. روي أنّه قال: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ فكانوا في حلال مما ملكت أيمانهم من الإماء كلهن، ثم أنزل الله بعد هذا تحريم نكاح المرأة وأمها، ونكاح ما نكح الآباء والأبناء، وأن يجمع بين الأخت والأخت من الرضاعة، والأم من الرضاعة، والمرأة لها زوج، حرم الله ذلك، فحرمن حرة أو أمة(4).

6. روي أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾، قال أجدر ألا تميلوا، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول الشاعر(5):

çإنا تبعنا رسول الله واطرحوا... قول النبي وعالوا في الموازينé

7. روي أنّه قال: كانوا في الجاهلية ينكحون عشرا من النساء الأيامى، وكانوا يعظمون شأن اليتيم، فتفقدوا من دينهم شأن اليتامى، وتركوا ما كانوا ينكحون في الجاهلية(6).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٦٢.

(2) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٢٧.

(3) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٥٧.

(4) ابن المنذر ٢/ ٥٥٦.

(5) الطستيُّ في مسائله ـ كما في الإتقان ٢/ ٧٨.

(6) ابن جرير ٦/ ٣٦٥.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: بعث الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم والناس على أمر جاهليتهم، إلا أن يؤمروا بشيء وينهوا عنه، فكانوا يسألون عن اليتامى، ولم يكن للنساء عدد ولا ذكر؛ فأنزل الله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ الآية، وكان الرجل يتزوج ما شاء، فقال: كما تخافون أن لا تعدلوا في اليتامى فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن، فقصرهم على الأربع(1).

__________

(1) سعيد بن منصور في السنن (٥٥٤.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: كانوا في جاهليتهم لا يرزءون من مال اليتيم شيئا، وهم ينكحون عشرا من النساء، وينكحون نساء آبائهم، فتفقدوا من دينهم شأن اليتامى، فسألوا نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن مخالطتهم، ولم يتفقدوا من دينهم شأن النساء، فوعظهم الله في اليتامى وفي النساء، فقال في اليتامى: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ إلى ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: ٢]، وعظهم في شأن النساء، فقال: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ الآية، وقال: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: ٢٢](1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٦٥.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾ إن تحرجتم في ولاية اليتامى وأكل أموالهم إيمانا وتصديقا؛ فكذلك فتحرجوا من الزنا، وانكحوا النساء نكاحا طيبا مثنى وثلاث ورباع(1).

2. روي أنّه قال: ﴿مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ نكاحا طيبا(2).

3. روي أنّه قال: ﴿أَلَّا تَعُولُوا﴾ ألا تضلوا(3).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٦٦.

(2) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٥٨.

(3) الثوري في تفسيره ص ٨٧.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَلَّا تَعُولُوا﴾ ألا تميلوا، ثم قال أما سمعت قول أبي طالب: بميزان قسط لا يخيس شعيرة... ووزان صدق وزنه غير عائل(1).

2. روي أنّه قال: كان الرجل من قريش يكون عنده النسوة، ويكون عنده الأيتام، فيذهب ماله، فيميل على مال الأيتام؛ فنزلت هذه الآية: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ الآية(2).

3. روي أنّه قال: كان الرجل يتزوج الأربع، والخمس، والست، والعشر، فيقول الرجل: ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان!؟ فيأخذ مال يتيمه فيتزوج به، فنهوا أن يتزوجوا فوق الأربع(3).

__________

(1) سعيد بن منصور (٥٥٧.

(2) ابن أبي شيبة في المصنف ٤/ ٣٥٩.

(3) ابن جرير ٦/ ٣٦١.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: في هذه الآية: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ أي: ما حل لكم من يتاماكم من قراباتكم ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿مَا طَابَ لَكُمْ﴾ ما أحل لكم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ ما هي لكم من نسائكم من قرابتكم(3).

4. روي أنّه قال: العدل في النساء ألا تميلوا(4).

5. روي أنّه قال: لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم، وجعل ولي اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله، فشكوا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فأنزل الله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠]، قال فخالطوهم، واتقوا(5).

6. روي أنّه قال: كان الرجل من أهل المدينة يكون عنده الأيتام، وفيهن من يحل له نكاحها، فيتزوجها لأجل مالها، وهي لا تعجبه؛ كراهية أن يدخله غريب فيشاركه في مالها، ثم يسيء صحبتها، ويتربص بها أن تموت ويرثها؛ فعاب الله تعالى ذلك، وأنزل الله هذه الآية(6).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٦٧.

(2) ابن جرير ٦/ ٣٦٩.

(3) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٥٨.

(4) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٥٩.

(5) ابن جرير ٦/ ٣٥٥.

(6) تفسير الثعلبي ٣/ ٢٤٥.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: من تزوج امرأة فلها ما للمرأة من النفقة والقسمة، ولكنه إن تزوج امرأة فخافت منه نشوزا وخافت أن يتزوج عليها أو يطلقها فصالحت من حقها على شيء من نفقتها أو قسمتها فإن ذلك جائز لا بأس به(1).

__________

(1) الكافي 5/403..

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ حتى بلغ: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ كما خفتم الجور في اليتامى وهمكم ذلك؛ فكذلك فخافوا في جمع النساء، وكان الرجل في الجاهلية يتزوج العشرة فما دون ذلك، فأحل الله ـ جل ثناؤه ـ أربعا، ثم الذي صيرهن إلى أربع قوله: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾، يقول: إن خفت ألا تعدل في أربع فثلاثا، وإلا فثنتين، وإلا فواحدة، وإن خفت ألا تعدل في واحدة فما ملكت يمينك(1).

2. روي أنّه قال: إن خفت أن لا تعدل في أربع فثلاث، وإلا فاثنتين، وإلا فواحدة، فإن خفت أن لا تعدل في واحدة فما ملكت يمينك(2).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٦٣.

(2) ابن جرير ٦/ ٣٧٥.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾ معناه أيقنتم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ معناه ما أحّل لكم(1).

3. روي أنّه قال: ﴿أَدْنَى﴾ معناه أقرب، و﴿أَلَّا تَعُولُوا﴾ ألّا تجوروا(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 115.

ربيعة:

4. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ يقول: اتركوهن، فقد أحللت لكم أربعا(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٥٩.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ فإن خفت ألا تعدل في واحدة فما ملكت يمينك(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٧٥.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي عن نوح بن شعيب، قال سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم، فقال: أليس الله حكيما؟ قال بلى، هو أحكم الحاكمين، قال: فأخبرني عن قوله عز وجل: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ أليس هذا فرض؟ قال: بلى، قال: فأخبرني عن قوله عز وجل: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ أي حكيم يتكلم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب، فرحل إلى المدينة، إلى الإمام الصادق، فقال: يا هشام في غير وقت حج ولا عمرة؟، قال: نعم جعلت فداك، لأمر أهمني، إن ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شي ء قال: وما هي؟ قال: فأخبره بالقصة، فقال له الإمام الصادق أنّه قال: أما قوله عز وجل: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ يعني في النفقة، وأما قوله: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ يعني في المودة، قال فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب وأخبره، قال والله، ما هذا من عندك(1).

2. روي عن علي بن إبراهيم قال سأل رجل من الزنادقة أبا جعفر الأحول، فقال: أخبرني عن قول الله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ وقال في آخر السورة: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ فبين القولين فرق؟ قال أبو جعفر الأحوال: فلم يكن عندي في ذلك جواب، فقدمت المدينة، فدخلت على الإمام الصادق وسألته عن الآيتين، فقال: أما قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ فإنما عنى به النفقة، وقوله: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ فإنما عنى به في المودة، فإنه لا يقدر أحد أن يعدل بين المرأتين في المودة)، فرجع أبو جعفر الأحول إلى الرجل فأخبره، فقال: هذا حملته الإبل من الحجاز(2).

3. روي أنّه قال: ليس الغيرة إلّا للرّجال، فأمّا، النّساء فإنّما ذلك منهنّ حسد، والغيرة للرّجال، ولذلك حرّم الله على النّساء إلّا زوجها وأحلّ للرّجل أربعا، فإنّ الله أكرم من أن يبتليهنّ بالغيرة ويحلّ للرّجل معها ثلاثا(3).

4. روي أنّه قال: لا يحلّ لماء الرّجل أن يجزي في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر(4).

5. روي عن إبراهيم الكرخي قال: سألت الإمام الصادق عن رجل له أربع نسوة فهو يبيت عند ثلاث منهن في لياليهن فيمسهن، فإذا بات عند الرابعة في ليلتها لم يمسها، فهل عليه في هذا إثم؟ قال: إنما عليه أن يبيت عندها في ليلتها، ويظل عندها في صبيحتها، وليس عليه أن يجامعها إذا لم يرد ذلك(5).

6. روي أنّه سئل عن قوله تعالى: ﴿فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فان خفتم أن لا تعدلوا فواحدة﴾؟ قال: يعني في النفقة، وعن قوله تعالى: ﴿ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذوروها كالمعلقة﴾؟ يعني في المودة.. فإنه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودة(6).

7. روي أنّه قال: في كل شيء إسراف إلا في النساء قال الله: ﴿انكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع﴾، وقال: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾(7).

__________

(1) الكافي 5: 362/ 1.

(2) تفسير القمي 1/ 130.

(3) الكافي 5 / 504، ح 1.

(4) تفسير العياشي 1 / 218، ح 14.

(5) من لا يحضره الفقيه 3/270.

(6) الكافي 5/362..

(7) تفسير العياشي 1/218..

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ ألا تعدلوا في أمر اليتامى، فخافوا الإثم في أمر النساء، واعدلوا بينهن، فذلك قوله ـ عز وجل ـ: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ الإثم ﴿أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ في الاثنين والثلاث والأربع في القسمة والنفقة ﴿فَوَاحِدَةً﴾، يقول: فتزوج واحدة، ولا تأثم(1).

3. روي أنّه قال: لما نزلت: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ كان يومئذ تحت قيس بن الحارث ثمان نسوة، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خل سبيل أربعة منهن، وأمسك أربعة)، فقال للتي يريد إمساكها: أقبلي، وللتي لا يريد إمساكها: أدبري، فأمسك أربعة، وطلق أربعة(1).

4. روي أنّه قال:: ‌‌﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ نزلت في خميصة بن الشمردل، وذلك أن الله ـ عز وجل ـ أنزل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ يعني: بغير حق ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾، فخاف المؤمنون الحرج، فعزلوا كل شيء لليتيم من طعام، أو لبن، أو خادم، أو ركوب، فلم يخالطوهم في شيء منه، فشق ذلك عليهم وعلى اليتامى، فرخص الله ـ عز وجل ـ من أموالهم في الخلطة، فقال: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠]، فنسخ من ذلك الخلطة، فسألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عما ليس به بأس، وتركوا أن يسألوه عما هو أعظم منه، وذلك أنه كان يكون عند الرجل سبع نسوة، أو ثمان، أو عشر حرائر، لا يعدل بينهن، فقال سبحانه: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾(2).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/ ٣٥٧.

(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/ ٣٥٦.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ ذلك أقل لنفقتك، الواحدة أقل من ثنتين وثلاث وأربع، وجاريتك أهون نفقة من حرة، ﴿أَلَّا تَعُولُوا﴾: أهون عليك في العيال(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٨٠.

الكاظم:

روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنّه سئل عن رجل له امرأتان قالت إحداهما: ليلتي ويومي لك، يوما أو شهرا أو ما كان، أيجوز ذلك؟ قال إذا طابت نفسها واشترى ذلك منها فلا بأس(1).

__________

(1) التهذيب 7/474..

عيينة:

روي عن سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) أنّه قال: ﴿أَلَّا تَعُولُوا﴾ ألا تفتقروا(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٦٠.

الرضا:

روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنّه قال: علّة تزويج الرّجل أربع نسوة، وتحريم أن تتزوّج المرأة أكثر من واحد، لأنّ الرّجل إذا تزوّج أربع نسوة كان الولد منسوبا إليه، والمرأة لو كان لها زوجان أو أكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو، إذ هم مشتركون في نكاحها، وفي ذلك فساد الأنساب والمواريث والمعارف(1).

__________

(1) عيون أخبار الرضا ـ عليه السّلام ـ 1 / 95.

الهادي إلى الحق:

ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾، فبين بذلك: ما أحل للرجال أن ينكحوا من النساء، وأخبر أنهن أربع نسوة سواء، لا يجوز لمسلم أن يجمع في ملكه أكثر من الأربع من الزوجات الحرائر المتزوجات، إلا أن يكون لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنه قد أطلق له ما أطلق من النكاح، ثم حظر عليه من بعد صلى الله عليه وعلى آله وسلم الزيادة على تسع زوجات، وحرم عليه أن يستبدل بهن غيرهن، أو يزيد معهن سواهن.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/204.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾:

أ. فقيل: إنهم كانوا يخافون من أموال اليتامى ويتحرجون منها؛ لكثرة ما جاء من الوعيد فيها؛ فنزل هذا: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾ وتحرجتم من أموال اليتامى؛ فكذا فتحرجوا من الزنا: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ الآية، عن عائشة أنها قالت: نزلت في يتامى من يتامى النساء كنّ عند الرجال؛ فتكون اليتيمة الشوهاء عند الرجل ـ وهي ذات مال ـ فلا ينكحها؛ لشوهتها، ولا ينكحها؛ ضنّا بمالها؛ لتموت فيرثها، وإن نكحها أمسكها على غير عدل منه في أداء حقها إليها، ولا ولى‏ لها سواه يطالبه بحقها؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ فذروهن، ولا تنكحوهن‏، ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾، وروي عنها ـ أيضا ـ أنها سئلت عن هذه الآية؟ فقالت: نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها، فيرغب في جمالها ومالها، وينقص من صداقها؛ فنهوا عن نكاحهن، إلا أن يقسطوا في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهن من النساء، قالت عائشة: واستفتى الناس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد ذلك؛ فأنزل الله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾ [إلى قوله: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ [النساء: 127] فأنزل الله تعالى لهم في هذه الآية: أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا فيها ـ في نكاحها ـ وسنتها، وقلة مالها؛ تركوها وأخذوا غيرها من النساء، قالت: فكما تتركونها حين ترغبون عنها؛ فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق‏.

ب. وقيل: لما أنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ الآية [النساء: 10]، ترك المؤمنون مخالطة اليتامى، وتنزهوا عنها؛ فشق ذلك عليهم؛ فاستفتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مخالطتهم‏، وكان يكون عند الرجل عدد من النساء ثم لا يعدل بينهن؛ فأنزل الله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ الجور في مخالطة اليتامى؛ فكذلك خافوا جمع النساء وترك التسوية بينهن في النفقة والجماع.

2. من الناس من يبيح نكاح التسع‏ بقوله تعالى: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ فذلك تسع، وأما عندنا: فإنه لا يحتمل ذلك:

أ. لأن معنى قوله تعالى: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾: مثنى أو ثلاث أو رباع؛ لأنه قال ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾: استثنى الواحدة إذا خاف ألا يعدل بينهن، فلو كان ما ذكر؛ لكان لا معنى لاستثناء واحدة منهن، ولكن يقول: (وإن خفتم ألا تعدلوا) بين التسع؛ فثمان، أو سبع، أو ست؛ فلمّا لم يستثن إلا واحدة دل أن التأويل ما ذكرنا: مثنى أو ثلاث أو رباع، على الانفراد.

ب. الثاني: ما ذكر في القصة: أنه كان عند الرجل عدد من النساء عشر أو أكثر أو أقل، فخرج ذلك على بيان ما يحل من العدد، وذلك أربعة، وروي أن رجلا أسلم وتحته ثمانى نسوة، فأسلمن، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اختر منهنّ أربعا، وفارق البواقى)، والخبر في بيان منتهى ما يحل من العدد دون وجه الحل؛ فاحتمل أن يختار أربعا على استقبال النكاح.

3. في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ وجوه:

أ. أحدها: أنه قال إذا خفتم الجور في كفالة اليتامى فانقيتموها؛ فخافوا في كفالة النساء؛ فلا تكثروا منهن‏.

ب. الثاني: أنكم‏ إذا خفتم في أموال اليتامى؛ فتحرجتم ضم أموالهم إليكم؛ إشفاقا على أنفسكم أن تأكلوا منها ـ فخافوا النساء مواقعتهن من وجه يحرم عليكم؛ فانكحوهن‏.

ج. الثالث: أنه إذا خفتم الجور في يتامى النساء لو تزوجتموهن من حيث ليس معهن من يمنعكم من ظلمهن، فانكحوهن من غيرهن ممن إذا جرتم فيهن منعتم من ذلك، لكنه معلوم أن الحد في عدد النساء؛ لخوف الجور، وبما علم الله من عجز البشر على ما جبل عليه، أخبر أنه لا يقوم بوفاء الحق في أكثر [من‏] ما ذكر.

4. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ ليس على الحكم والحتم؛ ولكنه أدب؛ لأنه وإن خاف ألا يعدل فتزوج أربعا ـ جاز، وهو مثل الذي نهى ـ في الإصرار ـ المراجعة، وأمر بالقصد فيها والعدل، فإن فعل ذلك أثم ورجعته صحيحة، وكذلك كالأمر بالطلاق في العدة، والنهي [عنه‏] والجماع والنفقة.

5. ﴿فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ إن خفتم ألا تعدلوا في واحدة؛ لأنه ليس للإماء قبل سادتهن حقّ الجماع والقسم؛ ينكح ما شاء؛ كأنه قال هذا؛ لما ليس لأكثرهن غاية؛ فله أن يجمع ما شاء من الإماء في ملكه، وليس له أن يجمع بالنكاح أكثر من أربع، ولو كان التأويل ما ذهب إليه لم يكن لقوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ وجه، وفيه إذن بتكثير العيال، مع ما أن كثرة العيال معدودة من الكرم؛ إذا أحسن إليهم لم يحتمل أن يزهد فيه، وقال بعض أهل العلم: إن قوله تعالى: ﴿أَلَّا تَعْدِلُوا﴾: من كثرة العيال، وهو قول الشافعي ولكن‏ ذلك في الجور.

6. سؤال وإشكال: إن قيل: روي في الخبر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (ابدأ بمن تعول) والجواب: لكن تأويله ـ والله أعلم ـ: ابدأ بمن يلزمك نفقته، أي: ابدأ بمن تصير جائرا بترك النفقة عليه، وكذلك يقال: عال يعول عولا؛ إذا أنفق على عياله، وليس من كثرة العيال في شيء، ألا ترى أن على الرجل أن يبدأ بمن يعول؛ فلو كان قوله: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ من العيال؛ لكان المتزوج واحدة ذا عيال، وإن قول الله تعالى: ﴿أَلَّا تَعُولُوا﴾، والمتزوج واحدة يعولها؛ فدل بما ذكرنا أن قوله: ﴿أَلَّا تَعُولُوا﴾، أي: لا تجوروا ولا تميلوا؛ على ما قيل، وعن عائشة: ﴿أَلَّا تَعُولُوا﴾: ألا تميلوا، وعن ابن عباس مثله‏، والعول: هو المجاوزة عن الحد؛ ولذلك سمى الحساب الذي ازداد على أصله عولا؛ لمجاوزته الحد؛ فعلى ذلك العول هاهنا هو: المجاوزة عن الحد الذي جعل له، وهو الجور.

7. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾: ليس بشرط؛ ليتفق القول، ولأنه لا وجه لمعرفة حد الخوف الذي يجعل شرطا للجواز، وكل عدل يخاف أدنى خوف، بل جميع أمور الدين هي على الخوف والرجاء، ولأنه يوجب جهل النساء بمن يحل لهن النكاح ويحرم؛ إذ لا يعرفن ذلك، ومتى حرم عليه حرم عليها، ولا يحتمل أن يجعل للحل شرطا لا يوصل إلى حقيقته، ولظهور الجور في الأمة على الإبقاء على النكاح؛ فضلا عن خوفه؛ مع ما في قوله: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا﴾ الآية [النساء: 129] دلالة ظاهرة، وكذلك في قوله: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا﴾ الآية [النساء: 128]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾ [النساء: 35]، ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 229]

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/8.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ الآية، يريد عز وجل بقوله وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى أي إن خفتم أن لا تعدلوا فيهم فاتقوا الله، ولكنه اختصر.

2. ثم ابتداء ذكر النكاح، فقال عز وجل: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ أي وأنكحوا ولكن الفاء قامت مقام الواو، وقد فسر مولانا الهادي إلى الحق صلوات الله عليه ذلك على وجه حسن، وهو موجود للمرتضى لدين الله في كتاب الإيضاح، ولكن رأيت هذا الوجه أقرب إلى أفهام المتعلمين، وكلا الوجهين حسن عند أهل النظر العالمين.

3. معنى قوله: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ أي اثنتين وثلاثاً وأربعاً، ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾، أي فإن خشيتم أن لا تعدلوا بينهن في القسمة، وخشيتم المأثم في جمعهن، ﴿فَوَاحِدَةً﴾ أي فانكحوا واحدة، ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ من السراري، وهن اللواتي يصلحن للنكاح من الجواري.

4. معنى قوله: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ أي ذلك أقرب أن لا تجوروا، والعول هاهنا هو الجور، قال الشاعر:

çإنا تبعنا رسول الله واطَّرَحُوا... قولَ النبي وعالُوا في الموازينé

أي جاروا ولم يعدلوا في الموازين.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 233.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ ومعنى الكلام وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى أي أن لا تعدلوا في نكاح اليتامى فانكحوا ما يحل لكم من غيرهن من النساء وقيل إن سبب نزولها أن قريشاً كانوا في الجاهلية يكثروا التزويج بغير عدد محصور وإذا كثر على الواحد مؤن زوجاته وقل ماله مد يده إلى ما عنده من أموال اليتامى فأنزل الله تعالى ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ تقديراً لعددهن وحصراً لمن أبيح نكاحهن ويحتمل فانكحوا من النساء ما حل قوله مثنى وثلاث ورباع معدول عن اثنتين وثلاث وأربع كما يقال آحاد وموحد وثني ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع وهو اسم للعدد جاء الشعر به متفرقاً قال تميم بن مقبل:

çقتلنا به من بين مثنى وموحد... بأربعة منكم وآخر خامساé

1. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ في الأربع ﴿فَوَاحِدَةً﴾ يعني من النساء ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ يعني من الإماء ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ أي أن لا تميلوا عن الحق وتجوروا وأصل العول الخروج عن الحق ومنه عول الفرائض لخروجها عن حد السهام المسماة، وأنشد عكرمة شعراً لأبي طالب:

çأي غير مائل...، وميراث صدق وزنه غير عائلé

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/163.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ أربع تأويلات:

أ. أحدها: يعني إن خفتم ألا تعدلوا في نكاح اليتامى، فانكحوا ما حلّ لكم من غيرهن من النساء، وهو قول عائشة.

ب. الثاني: أنهم كانوا يخافون ألّا يعدلوا في أموال اليتامى، ولا يخافون أن لا يعدلوا في النساء، فأنزل الله تعالى هذه الآية، يريد كما خفتم ألّا تعدلوا في أموال اليتامى، فهكذا خافوا ألا تعدلوا في النساء، وهذا قول سعيد بن جبير، والسدي، وقتادة.

ج. الثالث: أنهم كانوا يتوقّون أموال اليتامى ولا يتوقّون الزنى، فقال كما خفتم في أموال اليتامى، فخافوا الزنى، وانكحوا ما طاب لكم من النساء، وهذا قول مجاهد.

د. الرابع: أن سبب نزولها، أن قريشا في الجاهلية كانت تكثر التزويج بغير عدد محصور، فإذا كثر على الواحد منهم مؤن زوجاته، وقلّ ماله، مدّ يده إلى ما عنده من أموال الأيتام، فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾

2. في قوله تعالى: ﴿مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن ذلك عائد إلى النساء وتقديره فانكحوا من النساء ما حلّ، وهذا قول الفراء.

ب. الثاني: أن ذلك عائد إلى النكاح وتقديره فانكحوا النساء نكاحا طيبا، وهذا قول مجاهد.

3. ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ تقديرا لعددهن وحصرا لمن أبيح نكاحه منهن وهذا قول عكرمة، ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ معدول به عن اثنين وثلاث وأربع، وكذلك أحاد وموحد، وثناء ومثنى، وثلاث ومثلث، ورباع ومربع، وهو اسم للعدد معرفة، وقد جاء الشعر بمثل ذلك، قال تميم بن أبي مقبل:

çترى العثرات الزّرق تحت لبانه‏...أحاد ومثنى أضعفتها كواهله‏é

وقال آخر:

çقتلنا به من بين مثنى وموحد...بأربعة منكم وآخر خامس‏é

قال أبو عبيدة: ولم يسمع من العرب صرف ما جاوز الرباع والمربع عن‏ جهته إلا في بيت للكميت، فإنه قال في العشرة عشار وهو قوله:

çفلم يستريثوك حتى رمد...ت فوق الرجال خصالا عشاراé

وقال أبو حاتم: بل قد جاء في كلامهم من الواحد إلى العشرة، وأنشد قول الشاعر:

çضربت خماس ضربة عبشمي‏...أدار سداس ألّا يستقيماé

4. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ يعني في الأربع، ﴿فَوَاحِدَةً﴾ يعني من النساء، ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ يعني في الإماء.

5. في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: ألّا يكثر من تعولون، وهو قول الشافعي.

ب. الثاني: معناه ألّا تضلوا، وهو قول ابن إسحاق، ورواه عن مجاهد.

ج. الثالث: ألا تميلوا عن الحق وتجوروا وهو قول ابن عباس‏، وقتادة، وعكرمة.

6. أصل العول الخروج عن الحد ومنه عول الفرائض لخروجها عن حد السهام المسمّاة، وأنشد عكرمة بيتا لأبي طالب:

çبميزان قسط لا يخيس شعيرة...ووازن صدق وزنه غير عائل‏é

أي غير مائل، وكتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه: إني لست بميزان قسط لا أعول.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/449.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية على ستة أقوال:

أ. أولها: ما روي عن عائشة انها قالت: نزلت في اليتيمة التي تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها.. ويريد أن ينكحها بدون صداق مثلها، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لها صداق مهر مثلها، وأمروا أن ينكحوا ما طاب مما سواهن من النساء إلى الأربع‏ ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ من سواهن‏ ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ ومثل هذا ذكر في تفسير أصحابنا، وقالوا: انها متصلة بقوله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ ﴾ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى‏ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ﴾ الآية وبه قال الحسن والجبائي والمبرد.

ب. الثاني: قال ابن عباس وعكرمة: ان الرجل منهم كان يتزوج الأربع والخمس والست والعشر ويقول: ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان فإذا فنى ماله مال على مال اليتيم فأنفقه، فنهاهم الله تعالى عن أن يتجاوزوا بالأربع إن خافوا على مال اليتيم وإن خافوا من الأربع أيضاً أن يقتصروا على واحدة.

ج. الثالث: قال سعيد بن جبير والسدي وقتادة والربيع والضحاك، وفي احدى الروايات عن ابن عباس قالوا: كانوا يشددون في أمر اليتامى ولا يشددون في النساء، ينكح أحدهم النسوة فلا يعدل بينهن، فقال الله تعالى كما تخافون ألا تعدلوا في اليتامي فخافوا في النساء، فانكحوا واحدة إلى الأربع، فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة:

د. الرابع: قال مجاهد: ان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى معناه: ان تحرجتم‏ من ولاية اليتامى وأكل أموالهم إيماناً وتصديقاً فكذلك تحرجوا من الزنا، وانكحوا النكاح المباح من واحدة إلى أربع، فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة.

هـ. الخامس: قال الحسن: ان خفتم ألا تقسطوا في اليتيمة المرباة في حجركم فانكحوا ما طاب لكم من النساء مما أحل لكم من يتامى قراباتكم مثنى وثلاث ورباع، فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة، أو ما ملكت ايمانكم، وبه قال الجبائي وقال: الخطاب متوجه إلى أولياء اليتيمة إذا أراد أن يتزوجها إذا كان هو وليها كان له أن يزوجها قبل البلوغ وله أن يتزوجها.

و. السادس: قال الفراء: المعنى ان كنتم تتحرجون من مؤاكلة اليتامى فاحرجوا من جمعكم بين اليتامى، ثم لا تعدلون بينهن.

2. قوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ جواب لقوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا﴾ على قول من قال ما رويناه أولا عن عائشة وأبي جعفر عليه السلام، ومن قال تقديره: ان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء الجواب قوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ والتقدير: فان خفتم ألا تقسطوا في أموال اليتامى فتعدلوا فيها فكذلك فخافوا ألا تقسطوا في حقوق النساء، فلا تتزوجوا منهن إلا من تأمنون معه الجور، مثنى وثلاث ورباع، وان خفتم أيضاً من ذلك فواحدة، فان خفتم من الواحدة فما ملكت ايمانكم، فترك ذكر قوله فكذلك فخافوا ألا تقسطوا في حقوق النساء لدلالة الكلام عليه وهو قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾

3. معنى‏ ﴿أَلَّا تُقْسِطُوا﴾ أي لا تعدلوا ولا تنصفوا، فالاقساط هو العدل والانصاف والقسط هو الجور، ومنه قوله: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ وقد بيناه فيما مضى.

4. اليتامى جمع لذكران اليتامى وإناثهم في هذا المعنى.

﴿مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ قال الحسين بن علي المغربي: معنى ما طاب أي بلغ من النساء كما يقال: طابت الثمرة إذا بلغت، قال والمراد المنع من تزويج اليتيمة قبل البلوغ لئلا يجري‏ عليها الظلم، فان البالغة تختار لنفسها، وقيل: معنى‏ ﴿مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ من أحل لكم منهن دون من حرم عليكم، وإنما قال: ﴿مَا طَابَ﴾ ولم يقل: من طاب وان كان من لما يعقل وما لما لا يعقل لأن المعنى: انكحوا الطيب أي الحلال هذه العدة، لأنه ليس كل النساء حلالا، لأن الله حرم كثيراً منهن بقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ الآية، هذا قول الفراء، وقال مجاهد: فانكحوا النساء نكاحاً طيباً، وقال المبرد: (ما) هاهنا للجنس كقول القائل: ما عندك؟ فتقول: رجل أو امرأة، فالمعني بقوله: ما طاب الفعل دون اعيان النساء واشخاصهن، لأن الأعيان لا تحرم ولا تحلل، وإنما يتناول التحريم والتحليل التصرف فيها، وجرى ذلك مجري قول القائل: خذ من رقيقي ما أردت: إذا أراد خذ منهم ارادتك ولو أراد خذ الذي تريد لم يجز إلا أن يقول خذ من رقيقي من أردت وكذلك قوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ معناه أو ملك ايمانكم.

5. معنى‏ ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ فلينكح كل واحد منكم مثنى وثلاث ورباع، كما قال ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ معناه: فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة.

6. ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ بدل من‏ ﴿مَا طَابَ﴾ وموضعه النصب وتقديره: اثنين اثنين، وثلاثاً وثلاثا، واربعاً أربعا، إلا انه لا ينصرف لعلتين، إحداهما: انه معدول عن اثنين اثنين وثلاث ثلاث في قول الزجاج، وقال غيره: لأنه معدول ولأنه نكرة، والنكرة أصل للأشياء، وقال غيرهم: هو معرفة، وهذا فاسد عند البصريين، لأنه صفة للنكرة في قوله: ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ والمعنى اولي اجنحة ثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، وقال الفراء لأنه معدول، لأنه يقع على الذكر والأنثى، ولأنه مضاف الى ما يضاف إليه الثلاث، فكأن لامتناعه من الاضافة كان فيه الالف واللام، قال الشاعر:

çولكنها اهلي بواد أنيسه‏...ذئاب تبغى الناس مثنى وموحدé

ومن قال انه اسم للعدد معرفة استدلّ بقول تميم بن أبي مقبل:

çترى النعرات الرزق تحت لبانه‏...أحاد ومثنى أصعقتها صواهله‏é

فرد أحدا ومثنى على النعرات وهي معرفة، وقد يجيء منكراً مصروفاً كما قال الشاعر:

çقتلنا به من بين مثنى وموحد...باربعة منكم وآخر خامس‏é

وترك الصرف أكثر قال صخر الغي:

çمنت لك أن تلاقيني المنايا...أحاد أحاد في شهر حلال‏é

7. قد تقع هذه الألفاظ على الذكر والأنثى، فوقوعها على الأنثى مثل الآية التي نحن في تفسيرها، ووقوعها على الذكر قوله: ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ لأن المراد به الجناح وهو مذكر، ويقال: أحاد وموحد وثنى ومثنى، وثلاث ومثلث، ورباع ومربع، ولم يسمع في ما زاد عليه مثل خماس ولا الخمس ولا السداس والسباع إلا بيت للكميت فإنه يروى في العشرة عشار، وهو قوله:

çوان الغلام المستهام بذكره‏...قتلنا به من بين مثنى وموحد

باربعة منكم وآخر خامس‏...وساد مع الاظلام في رمح معبدé

فلم يستريثوك حتى رميت فوق الرجال خصالا عشارا يريد عشراً، وقال صخر السلمي في ثنا وموحد:

çولقد قتلتكم ثناء وموحداً...وتركت مرة مثل أمس الدابرé

ولم يرد أنه قتل الثلاثة، وإنما أراد انه قتل نفراً كثيراً منهم واحداً بعد واحد واثنين بعد اثنين.

8. ﴿فَوَاحِدَةً﴾ نصب على انه مفعول به، والتقدير: فان خفتم ألا تعدلوا فيما زاد على الواحدة فانكحوا واحدة، ولو رفع كان جائزاً، وقد قرأ به أبو جعفر المدني، وتقديره: فواحدة كافية، أو فواحدة مجزية، كما قال: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾

9. من استدلّ بهذه الآية على أن نكاح التسع، جائز فقد اخطأ، لأن ذلك خلاف الإجماع، وأيضاً فالمعنى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى ان أمنتم الجور وإما ثلاث ان لم تخافوا ذلك أو رباع ان أمنتم ذلك فيهن، بدلالة قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ لأن معناه فان خفتم في الثنتين فانكحوا واحدة، ثم قال فان خفتم أيضاً في الواحدة فما ملكت ايمانكم، على أن مثنى لا يصح إلا لاثنين اثنين، أو اثنتين اثنتين على التفريق في قول الزجاج، فتقدير الآية ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ﴾ فثلاث بدلا من مثنى ورباع بدلا من ثلاث، ولو قيل بـ (أو) لظن أنه ليس لصاحب مثنى ثلاث، ولا لصاحب الثلاث رباع، ومن استدلّ بقوله: ﴿فَانْكِحُوا﴾ على وجوب التزويج من حيث أن الامر يقتضي الإيجاب، فقد اخطأ، لأن ظاهر الأمر وإن اقتضى الإيجاب، فقد ينصرف عنه بدليل، وقد قام الدليل على أن التزويج ليس بواجب على أن الغرض بالآية النهي عن العقد على من يخاف ألا يعدل بينهن، والتقدير: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامي، فتحرجتم فيهم، فكذلك فتحرجوا في النساء، فلا تنكحوا إلا ما أمنتم الجور فيه‏ أو التهديد كقوله: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ وقال: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ والمراد بذلك كله التهديد والزجر، فكذلك معنى الآية النهي، وتقديرها: فلا تنكحوا إلا ما طاب لكم من النساء على ما بيناه.

10. ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ اشارة الى العقد على الواحدة مع الخوف من الجور فيما زاد عليها، أو الاقتصار على ما ملكت إيمانكم، ومعنى (أدنى) أقرب‏ ﴿أَلَّا تَعُولُوا﴾ وقيل في معنى ألا تعولوا ثلاثة أقوال:

أ. أحدها ـ وهو الأقوى والأصح ـ أن معناه: ألا تجوروا، ولا تميلوا يقال منه: عال الرجل يعول عولا وعيالة إذا مال وجار، ومنه عول الفرائض، لأن سهامها إذا زادت دخلها النقص، قال أبو طالب: (بميزان قسط وزنه غير عائل‏)، وقال أبو طالب أيضاً:

çبميزان قسط لا يخيس شعيرة...له شاهد من نفسه غير عائل‏é

وبهذا قال ابراهيم، وعكرمة، والحسن، ومجاهد، وقتادة، وأبو مالك، والربيع بن أنس، والسدي، وابن عباس، واختاره الطبري، والجبائي.

ب. وقال قوم: معناه: ألا تفتقروا، وهذا خطأ، لأن العول الحاجة، يقال منه: عال الرجل يعيل عيلة إذا احتاج، كما قال الشاعر:

çوما يدري الفقير متى غناه‏...وما يدري الغني متى يعيل‏é

أي: متى يفتقر.

ج. وقال ابن زيد: معناه: ألا تكثر عيالكم، وهذا أيضاً خطأ، لأن المراد لو كان ذلك لما أباح الواحدة، وما شاء من ملك الايمان، لأن اباحة كل ما ملكت اليمين أزيد في العيال من أربع حرائر، على أن من كثرة العيال يقال: أعال يعيل فهو معيل، إذا كثر عياله وعال العيال: إذ أمانهم، ومنه قوله: ابدأ بمن تعول، وحكي الكسائي، قال سمعت كثيراً من العرب يقول: عال الرجل يعول إذا كثر عياله.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/103.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. القسط والإقساط: العدل، وهو مثل الإنصاف، وهو أن يأخذ الرجل قسطه دون قسط غيره، فإذا أعطى حق غيره وأخذ حقه فهو مقسط، وقال الزجاج: قسط وأقسط واحد إلا أن الأفصح أقسط إذا عدل، وقسط إذا جار، وفي مجمل اللغة: القِسط بكسر القاف: العدل، وهو النصيب أيضًا، وبفتحها الجور، والقُسُوطُ: العدول عن الحق، يقال: قسط إذا جار يَقْسِطُ قسطًا، وأقسط يقسط إذا عدل.

ب. اليتامى: جمع لذكران الأيتام وإناثهم.

ج. الطيب: الحلال، والطيب ضد الخبيث، والطاب الطيب، وسمي الاستنجاء استطابة؛ لأنه يطيب نفسه من الخبيث، وسمي الحلال طيبًا منه، كأنه من الطيب الذي لاخبيث فيه.

د. العَوْل: الميل إلى الجور في الحكم وأصله الخروج عن الحد، ومنه العول في الفريضة، لأنه خروج عن حد السهام المسماة، والعويل خروج عن الحد في البكاء، قال أبو مسلم: وللعول معان: منها: الفقر، ومنها: الزيادة كالعول في الفرائض، ومنها: [الثقل] عاله الأمر: أثقله، ومنها: الجور والميل.

2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. عن عروة بن الزبير قال: سألت عائشة عن هذه الآية فقالت: هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن يتزوجها بأدنى من صداقها، فنهوا عن ذلك، وأمروا أن ينكحوا ما سواهن من النساء.

ب. وعن الحسن كان الرجل من أهل المدينة يكون عنده الأيتام، وفيهن من يحل له تزويجه فيقول: لا أدخل في رباعي أحدًا كراهة أن يَدْخُلَ غريب فيشاركه في مالهن، فربما يتزوجهن لمالهن ويسيء صحبتهن، ويتربص بهن أن يمتن فيرثهن، فنهى الله عن ذلك، وأنزل هذه الآية.

ج. وعن عكرمة كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء وأكثر وأقل، فإذا صار مغرمًا لما يلزمه من مؤنة نسائه مال على مال اليتامى الذي في حجره وأنفقه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمرهم بالاقتصار على أربع، وألا ينفقوا من مال اليتامى، وروي نحوه عن ابن عباس.

د. وقيل: كانوا يتحرجون عن أموال اليتامى، ولا يتحرجون عن النساء، وربما لا يعدلون بينهن فنهوا عن ذلك، فنزلت الآيات؛ لأن النساء في الضعف كاليتيم عن سعيد بن المسيب والربيع والضحاك والسدي.

هـ. وقيل: تحرجوا عن مال اليتامى وعن نكاحهن فرخص لهن في ذلك، فنزلت الآية عن الحسن.

3. اختلفوا في وجه اتصال الآية كما اختلفوا في سبب نزولها:

أ. قيل: تقديره: إن خفتم ألا تقسطوا في نكاح اليتامى فانكحوا ما حل من النساء من غيرهن عن عائشة والحسن وأبي علي والأصم وجماعة، كأنه لما بين حال أموال اليتامى بين حال نكاحهن.

ب. وقيل: إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذا خافوا في النساء عن سعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك والربيع.

ج. وقيل: إن تحرجتم عن مال اليتامى تأثمًا، فكذلك تحرجوا عن الزنا، وانكحوا من النساء.

د. وقيل: إن خفتم ألا تقسطوا في أموال اليتامى وما وجب عليكم فيه كذلك فخافوا ألا تقسطوا في حقوق النساء، فلا تتزوجوا إلا ما يمكنكم العدل.

هـ. وقيل: كانوا يظلمون اليتامى في الأموال والتزويج، فنزلت هذه الآيات في النهي عن ذلك عن الأصم.

4. ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾ خطاب للأولياء كأنه قيل: وإن خفتم يا معشر أولياء اليتامى ﴿أَلَّا تُقْسِطُوا﴾ ألا تعدلوا ﴿فِي الْيَتَامَى﴾:

أ. قيل: في مالهن.

ب. وقيل: في نكاحهن.

5. ﴿فَانْكِحُوا﴾ فتزوجوا ﴿مَا طَابَ﴾ ما حل دون ما حرم ﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾ غيرهن ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾:

أ. يعني اثنتين وثلاثًا وأربعًا، ولم تسمع العرب فيما جاوز الأربع هذا البناء كسباع وثمان، وهذا التقدير للمنع من الزيادة.

ب. وقيل: تقديره: مثنى إن شئتم، وثلاث إن شئتم، ورباع إن شئتم.

ج. وقيل: مثنى في حال، وثلاث في حال.

د. وقيل: مثنى داخل في الثلاث، وثلاث داخل في الأربع؛ لأنه ثبت أنه لا يحل أكثر من أربع، ولأنه لو أراد الجمع لقال: تسعًا فما دونه، لا يقال: أعطيتك اثنتين وثلاثة وأربعة إذا أعطاه تسعة.

هـ. وقيل: الواو بمعنى ﴿أَوْ﴾ كقوله: ﴿يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾ أي أو كنت، و﴿أَوْ﴾ والواو يستعمل أحدهما مكان الآخر كقوله: ﴿إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾:

أ. قيل: خشيتم.

ب. وقيل: علمتم، والخوف يرجع إلى الاعتقاد.

7. ﴿أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ بين الأربع والثلاث والثنتين ﴿فَوَاحِدَةً﴾ أي انكحوا واحدة أي تكفيكم واحدة على القراءتين ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾:

أ. قيل: جارية يتزوجها، والمراد جارية غيركم لاستحالة أن يتزوج أمَةَ نفسه.

ب. وقيل: المراد أو ما ملكت أيمانكم من الجواري فلا حد في عددهن.

8. ﴿ذَلِكَ﴾ يعني نكاح الواحدة أو ملك اليمين ﴿أَدْنَى﴾ أقرب ﴿أَلَّا تَعُولُوا﴾:

أ. قيل: تميلوا عن الحق وتجوروا عن ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم وقتادة والربيع والسدي وأبي علي وأبي مسلم.

ب. وقيل: ذلك أدنى ألا تفتقروا بأن تجاوزوا حدكم في الإنفاق؛ لأن كثرة المؤن يعال بها.

ج. وقيل: أدنى ألا تجاوزوا ما فرض الله عليكم عن الفراء والأصم، وروي عن الشافعي معناه لئلا يكثر عيالكم، قال أبو العباس: وعند أكثر أهل اللغة هو غلط؛ لأن صاحب الإماء في العيال بمنزلة من له النساء، وإنما يُقال: أعال يعيل إذا كثر عياله، قال القاضي: إنما أراد الشافعي ألا يكثر ما يعولون فتقع الحاجة إلى زيادة النفقة، فيكون من هذا الوجه عائلاً، قال: ولهذا الوجه ترجيح؛ لأنَّهُ لو حمل على الجور لكان تكرارًا، لأنه فهم ذلك من قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا﴾ فالأليق أنه أراد ذلك أدنى ألا تحتاجوا إلى زيادة الإنفاق لكثرة العيلة، إلا أن المفسرين وأهل اللغة على خلاف ما قاله.

9. تدل الآية الكريمة على:

أ. أنه خطاب للأحرار؛ لأنه خطاب لولي اليتيم ولا يدخل فيه العبد ومن لا يصلح أن يكون وليًا، ولأنه أطلق الأمر بالنكاح، وليس للعبد ذلك إلا بإذن مولاه، وكذلك قوله: ﴿مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، ﴿وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ وليس للعبد ملك يمين، وليس له أن يتزوج أكثر من ثنتين.

ب. أن تزويج الصغيرة جائز خلاف ما يقوله الأصم، عن أبي علي قال:

ج. أن للولي أن يتزوج الصغيرة.

د. أن له أن يتزوج الكبيرة بإذنها خلاف ما يقوله الشافعي في المسألتين أن غير الأب والجد لا يزوج الصغيرة وأن الكبيرة يزوجها الولي والسلطان بإذنها.

هـ. أن النكاح محصور بعدد، وأجمعت الأمة على ذلك وهو أربع، فإن تزوج خامسة فنكاحها فاسد، وإن تزوج خمسًا في عقده فالجميع فاسد بالاتفاق، إلا في مسألة الكافر إذا تزوج خمسًا في عقده ثم أسلم، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف نكاح الجميع فاسد، وعند محمد والشافعي يختار أربعا ويصح نكاحهن.

و. أنه لا عدد في ملك اليمين؛ لأنه أطلق.

ز. أنه يلزمه بالنكاح حقوق من النفقة والسكنى والقَسْمِ، وأنه يجب عليه أن يعدل بينهن.

10. قراءات ووجوه:

أ. قرأ العامة ﴿تُقْسِطُوا﴾ بضم التاء، وعن النخعي بفتحها، فالأول من الإقساط وهو العدل، الثاني من القِسْط وهو العدل أيضًا، ويحتمل أن يكون من الجَوْر وجعل ﴿لَا﴾ زيادة، فيصح الكلام.

ب. قراءة العامة ﴿مَا طَابَ﴾، وعن إبراهيم بن أبي عبلة من طابت) ف﴿مَا﴾ لما لا يعقل، و﴿مِنَ﴾ لمن يعقل، فمن قرأ ﴿مَا﴾ قيل: أراد به الجنس، تقول: ما عندك؟ فتقول: رجل وامرأة عن أبي العباس، وقيل: إنه بمعنى المصدر أي انكحوا من النساء الطيب أي الحلال عن الفراء، وقيل ﴿مَا﴾ بمعنى ﴿مِنَ﴾ وقيل: رده إلى الفعل يعني فانكحوا النكاح الذي يحل لكم من النساء، تقديره: فانكحوا النساء نكاحًا طيبًا عن مجاهد، وقراءة العامة ﴿طَابَ﴾ بالتفخيم، وعن الأعمش بالإمالة، وروي أن في مصحف أبي هو بالياء لأن أصله الياء من الطيب.

ج. قرأ الحسن وأبو جعفر ﴿فَوَاحِدَةً﴾ بالرفع والباقون بالنصب، فالنصب على تقدير وانكحوا واحدة، وقيل: ولتكن واحدة، فهو خبر كان، والرفع على تقدير: فواحدة كافية، أو يكفيكم واحدة.

د. قراءة العامة ﴿تَعُولُوا﴾ وقرئ في الشواذ: تُعِيلُوا) من العيال، وقرئ: تعيلوا) من العيل وهو الفقر.

11. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ لا ينصرف؛ لأنه اجتمع فيه علتان: أحدهما: أنه معدول عن اثنين وثلاث وأربع، الثاني: أنه نكرة لأنه وضف به النكرة في ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ﴾، وقال بعضهم: هو معرفة لأنه لا يدخله الألف واللام.

ب. قيل ﴿وَثُلَاثَ﴾ بالواو، ولم يقل: بـ ﴿أَوْ﴾، لأنه على البدل كأنه قيل: وثلاث بدلاً من مثنى، ورباع بدلاً من ثلاث، ولو قيل: أو لجاز، ولأن مثنى وثلاث في معنى اثنين وثلاث، ولا يصح ذلك على الجمع كما لا يصح لو أمروا أن يدخلوا الدار على تلك الصفة.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/520.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الإقساط: العدل والإنصاف، والقسط: الجور، ويقال: ثناء، ومثنى، وثلاث، ومثلث، ورباع، ومربع، ولم يسمع فيما زاد عليه مثل خماس، ومخمس، إلا عشار في بيت الكميت، وهو قوله:

çولم يستريثوك حتى رميت...فوق الرجال خصالا عشاراé

وقال صخر الغي:

çولقد قتلتكم ثناء، وموحدا،...وتركت مرة مثل أمس الدابرé

ب. عال الرجل، يعول، عولا، وعيالة: أي مال وجار، ومنه عول الفرائض، لان سهامها إذا زادت دخلها النقص، قال أبو طالب: (بميزان قسط وزنه غير عائل)، وعال، يعيل، عيلة، إذا احتاج، قال الشاعر:

çفما يدري الفقير متى غناه...وما يدري الغني متى يعيلé

أي يفتقر، فمن قال معنى قوله ﴿أَلَّا تَعُولُوا﴾ ألا تفتقروا، فقد أخطأ، لأنه من باب الياء كما ترى، ومن قال: إن معناه: لا تكثر عيالكم فقد أخطأ أيضا، لأن ذلك يكون من الإعالة، يقال: أعال الرجل، يعيل، فهو معيل: إذا كثر عياله، وعال العيال إذا مانهم من المؤونة، ومنه قوله: ابدأ بمن تعول، وقد حكى الكسائي: عال الرجل، يعول: إذا كثر عياله.

اختلف في سبب نزوله وكيفية نظم محصوله، واتصال فصوله على أقوال:

أ. أحدها: إنها نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها، فيرغب في مالها وجمالها، ويريد أن ينكحها بدون صداق مثلها، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن تقسطوا لهن في إكمال مهور أمثالهن، وأمروا أن ينكحوا ما سواهن من النساء إلى أربع، عن عائشة، وروي ذلك في تفسير أصحابنا وقالوا: إنها متصلة بقوله: ﴿ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا﴾ الآية، وبه قال الحسن، والجبائي، والمبرد.. قال القاضي أبو عاصم: وهو أولى وأقرب إلى نظم الآية، ولفظها.

ب. ثانيها: إنها نزلت في الرجل منهم كان يتزوج الأربع، والخمس، والست، والعشر، ويقول: ما يمنعني أن أتزوج كما يتزوج فلان، فإذا فني ماله، مال على مال اليتيم الذي في حجره، فأنفقه، فنهاهم الله عن أن يتجاوزوا الأربع، لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم، وإن خافوا ذلك مع الأربع أيضا، اقتصروا على واحدة، عن ابن عباس، وعكرمة.

ج. ثالثها: إنهم كانوا يشددون في أموال اليتامى، ولا يشددون في النساء، ينكح أحدهم النسوة، فلا يعدل بينهن، فقال تعالى: كما تخافون ألا تعدلوا في اليتامى، فخافوا في النساء، فانكحوا واحدة إلى أربع، عن سعيد بن جبير، والسدي، وقتادة، والربيع، والضحاك، وفي إحدى الروايتين، عن ابن عباس.

د. رابعها: إنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى، وأكل أموالهم، إيمانا وتصديقا، فقال سبحانه: إن تحرجتم من ذلك، فكذلك تحرجوا من الزنا، وانكحوا النكاح المباح، من واحدة إلى أربع، عن مجاهد.

هـ. خامسها: ما قالها الحسن: إن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمة المرباة في حجركم، فانكحوا ما طاب لكم من النساء، مما أحل لكم من يتامى قرباتكم، مثنى وثلاث ورباع، وبه قال الجبائي، وقال: الخطاب متوجه إلى ولي اليتيمة إذا أراد أن يتزوجها.

و. سادسها: ما قاله الفراء: إن كنتم تتحرجون عن مواكلة اليتامى، فتحرجوا من الجمع بين النساء، وأن لا تعدلوا بين النساء، ولا تتزوجوا منهن إلا من تأمنون معه الجور.

2. ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا﴾: أي لا تنصفوا ولا تعدلوا يا معاشر أولياء اليتامى، ﴿فِي الْيَتَامَى﴾: وذكرنا معناه والاختلاف فيه في النزول، ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾: أي ما حل لكم، ولم يقل من طاب لكم، لأن معناه فانكحوا الطيب.

3. ﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾: أي الحلال منهن، أي من اللاتي يحل نكاحهن دون المحرمات اللاتي ذكرن في قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ الآية، ويكون تقديره على القول الأول: إن خفتم أن لا تعدلوا في نكاح اليتامى إن نكحتموهن، فانكحوا البوالغ من النساء، وذلك أنه إن وقع حيف في حق البوالغ، أمكن طلب المخلص منهن، بتطييب نفوسهن، والتماس تحليلهن، لأنهن من أهل التحليل وإسقاط الحقوق، بخلاف اليتامى، فإنه إن وقع حيف في حقهن، لم يمكن المخلص منه، لأنهن لسن من أهل التحليل، ولا من أهل اسقاط الحقوق.

4. ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾: معناها اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، فلا يقال إن هذا يؤدي إلى جواز نكاح التسع، فإن اثنتين وثلاثة وأربعة، تسعة لما ذكرناه، فإن من قال دخل القوم البلد مثنى، وثلاث، ورباع، لا يقتضي اجتماع الأعداد في الدخول، ولأن لهذا العدد لفظا موضوعا، وهو تسع، فالعدول عنه إلى مثنى وثلاث ورباع، نوع من العي، جل كلامه عن ذلك وتقدس، وقال الصادق عليه السلام: (لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر)

5. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ بين الأربع، أو الثلاث، في القسم، أو النفقة، وسائر وجوه التسوية، ﴿فَوَاحِدَةً﴾: أي فتزوجوا واحدة، ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾: أي واقتصروا على الإماء، حتى لا تحتاجوا إلى القسم بينهن، لأنهن لا حق لهن في القسم.

6. ﴿ذَلِكَ﴾: إشارة إلى العقد على الواحدة، مع الخوف من الجور، فيما زاد عليها، ﴿أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾: أي أقرب أن لا تميلوا وتجوروا عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومن قال معناه: أدنى أن لا تكثر عيالكم، فإنه مع ضعفه في اللغة، ففي الآية ما يبطله، وهو قوله ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ ومعلوم أن ما يحتاج إليه من النفقة عند كثرة الحرائر من النساء، مثل ما يحتاج إليه عند كثرة الإماء،وقيل: كان الرجل قبل نزول هذه الآية يتزوج بما شاء من النساء.

7. قرأ أبو جعفر: فواحدة بالرفع، والباقون بالنصب،الحجة: القراءة بالنصب على أنه مفعول به، وتقديره: فانكحوا واحدة، ومن رفع فعلى أنه فواحدة كافية، أو فواحدة مجزية، كقوله ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾

8. مسائل لغوية ونحوية:

أ. قوله ما طاب: ﴿مَا﴾ ههنا مصدرية عن الفراء، أي فانكحوا الحلال، ويروى عن مجاهد أيضا فانكحوا النساء نكاحا طيبا، قال المبرد: ﴿مَا﴾ ههنا للجنس، كقولك ما عندك؟ فالجواب رجل أو امرأة، وقيل: لما كان المكان مكان إبهام، جاءت ﴿مَا﴾ لما فيها من الإبهام، كقول العرب: خذ من عندي ما شئت.

ب. ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ بدل مما طاب، وموضعه النصب، وتقديره اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، إلا أنه لا ينصرف لعلتين: العدل والصفة، قال الزجاج: إنه لا ينصرف لجهتين، ولا أعلم أحدا من النحويين ذكرهما غير ما أنه معدول عن اثنتين اثنتين، وثلاث ثلاث، وأنه عدل عن تأنيث، وخطأه أبو علي الفارسي في ذلك، وأورد عليه كلاما كثيرا يطول بذكره الكتاب، ثم قال: لو جاز أن يقول قائل: إن مثنى، وبابه معدول عن مؤنث، لما جرى على النساء، وواحدتهن مؤنثة، لجاز لآخر أن يقول: إن مثنى وبابه معدول عن مذكر، لأنه أجري صفة على أجنحة وواحدها مذكر، وإنما جرى على النساء من حيث كان تأنيثها، وتأنيث الجمع، وهذا الضرب من التأنيث ليس بحقيقي، وإنما هو من أجل اللفظ، فهو مثل النار، والدار، وما أشبه ذلك، وقد جرت هذه الأسماء على المذكر الحقيقي، قال صخر الغي:

çمنيت بأن تلاقيني المنايا...أحاد أحاد في شهر حلال

ولكنما أهلي بواد أنيسه...ذئاب تبغى الناس مثنى وموحدé

جرى فيه مثنى وموحد على ذئاب، وهو جمع مذكر، وقال تميم بن أبي مقبل:

çترى النعرات الزرق تحت لبانه...أحاد ومثنى أصعقتها صواهلهé

فأحاد ومثنى هنا حال من النعرات، وقال أبو علي في القصريات: إن مثنى وثلاث ورباع حال من قوله ما طاب لكم من النساء، فهو كقولك: جئتك ماشيا، وراكبا، ومنحدرا، وصاعدا، تريد أنك جئته في كل حال من هذه الأحوال، ولست تريد أنك جئته وهذه الأحوال لك في وقت واحد، ومن قدرها على البدل من ما، قال: إنما جاءت الواو هنا، ولم تأت أو لأنه على طريق البدل، كأنه قال: وثلاث، بدلا من مثنى، ورباع بدلا من ثلاث، ولو جاء بأو، لكان لا يجوز لصاحب المثنى ثلاث، ولا لصاحب الثلاث رباع.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/9.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ اختلفوا في تنزيلها وتأويلها على ستة أقوال:

أ. أحدها: أنّ القوم كانوا يتزوّجون عددا كثيرا من النّساء في الجاهليّة، ولا يتحرّجون من ترك العدل بينهنّ، وكانوا يتحرّجون في شأن اليتامى، فقيل لهم بهذه الآية: احذروا من ترك العدل بين النّساء، كما تحذرون من تركه في اليتامى، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير والضّحّاك، وقتادة، والسّدّيّ ومقاتل.

ب. الثاني: أنّ أولياء اليتامى كانوا يتزوّجون النّساء بأموال اليتامى، فلمّا كثر النّساء، مالوا على أموال اليتامى، فقصروا على الأربع حفظا لأموال اليتامى، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس أيضا، وعكرمة.

ج. الثالث: أنّ معناها: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في صدقات اليتامى إذا نكحتموهنّ، فانكحوا سواهنّ من الغرائب اللواتي أحلّ الله لكم، وهذا المعنى مرويّ عن عائشة.

د. الرابع: أنّ معناها: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في نكاحهنّ، وحذرتم سوء الصّحبة لهنّ، وقلّة الرّغبة فيهنّ، فانكحوا غيرهنّ، وهذا المعنى مرويّ عن عائشة أيضا، والحسن.

هـ. الخامس: أنهم كانوا يتحرّجون من ولاية اليتامى، فأمروا بالتّحرّج من الزّنى أيضا، وندبوا إلى النّكاح الحلال، وهذا المعنى مرويّ عن مجاهد.

و. السادس: أنّهم تحرّجوا من نكاح اليتامى، كما تحرّجوا من أموالهم، فرخّص الله لهم بهذه الآية، وقصرهم على عدد يمكن العدل فيه، فكأنّه قال وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهنّ، فانكحوهنّ، ولا تزيدوا على أربع لتعدلوا، فإن خفتم أن لا تعدلوا فيهنّ، فواحدة، وهذا المعنى مرويّ عن الحسن‏.

2. ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ قال ابن قتيبة: ومعنى قوله: وإن خفتم، أي: فإن علمتم أنّكم لا تعدلون بين اليتامى، يقال: أقسط الرّجل: إذا عدل، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: المقسطون في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة، ويقال قسط الرجل: إذا جار، ومنه قول الله‏ ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾

3. في معنى العدل في اليتامى قولان:

أ. أحدهما: في نكاح اليتامى.

ب. الثاني: في أموالهم.

4. ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ أي: ما حلّ لكم، قال ابن جرير: وأراد بقوله تعالى: ﴿مَا طَابَ لَكُمْ﴾، الفعل دون أعيان النّساء، ولذلك قال: (ما) ولم يقل: (من) واختلفوا: هل النّكاح من اليتامى، أو من غيرهنّ؟ على قولين قد سبقا.

5. ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾:

أ. قال الزجّاج: هو بدل من ﴿مَا طَابَ لَكُمْ﴾ ومعناه: اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، وإنّما خاطب الله العرب بأفصح اللغات، وليس من شأن البليغ أن يعبّر في العدد عن التّسعة باثنتين، وثلاث، وأربع، لأنّ التسعة قد وضعت لهذا العدد، فيكون عيّا في الكلام.

ب. وقال ابن الأنباريّ: هذه الواو معناها التّفرّق، وليست جامعة، فالمعنى: فانكحوا ما طاب لكم من النّساء مثنى، وانكحوا ثلاث في غير الحال الأولى، وانكحوا رباع في غير الحالين.

ج. وقال القاضي أبو يعلى: الواو هاهنا لإباحة أيّ الأعداد شاء، لا للجمع.

6. وهذا العدد إنّما هو للأحرار، لا للعبيد، وهو قول أبي حنيفة والشّافعيّ، وقال مالك: هم كالأحرار، ويدلّ على قولنا: أنّه قال فانكحوا، فهذا منصرف إلى من يملك النّكاح، والعبد لا يملك ذلك بنفسه، وقال في سياقها ﴿فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، والعبد لا ملك له، فلا يباح له الجمع إلا بين اثنتين.

7. في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: علمتم.

ب. الثاني: خشيتم.

8. ﴿أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ قال القاضي أبو يعلى: أراد العدل في القسم بينهنّ، ﴿فَوَاحِدَةً﴾ أي: فانكحوا واحدة، وقرأ الحسن، والأعمش، وحميد: (فواحدة) بالرّفع، المعنى، فواحدة تقنع.

9. ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ يعني: السّراريّ، قال ابن قتيبة: معنى الآية: فكما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى إذا كفلتموهم، فخافوا أيضا أن لا تعدلوا بين النّساء إذا نكحتموهنّ، فقصرهم على أربع، ليقدروا على العدل، ثم قال: فإن خفتم أن لا تعدلوا بين هؤلاء الأربع، فانكحوا واحدة، واقتصروا على ملك اليمين.

10. ﴿ذَلِكَ أَدْنَى﴾ أي: أقرب، وفي معنى‏ قوله تعالى: ﴿تَعُولُوا﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: تميلوا، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، وإبراهيم، وقتادة، والسّدّيّ، ومقاتل، والفرّاء، وأبو مالك، وأبو عبيدة، تجوروا، قال ابن قتيبة، والزجّاج: تجوروا وتميلوا بمعنى واحد، واحتكم رجلان من العرب إلى رجل، فحكم لأحدهما، فقال المحكوم عليه: إنّك والله تعول عليّ، أي تميل وتجور.

ب. الثاني: تضلّوا، قاله مجاهد.

ج. الثالث: تكثر عيالكم، قال ابن زيد، ورواه أبو سليمان الدّمشقيّ في (تفسيره) عن الشّافعيّ، وردّه الزجّاج، فقال: أهل اللغة يقولون: هذا القول خطأ، لأنّ الواحدة يعولها، وإباحة ملك اليمين أزيد في العيال من أربع.

__________

(1) زاد المسير: 1/369.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا من النوع الثاني من الأحكام التي ذكرها في هذه السورة وهو حكم الأنكحة، قال الواحدي: الاقساط العدل، يقال أقسط الرجل إذا عدل، قال الله تعالى: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9] والقسط العدل والنصفة، قال تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ [النساء: 135]، قال الزجاج: وأصل قسط وأقسط جميعا من القسط وهو النصيب، فإذا قالوا: قسط بمعنى جار أرادوا أنه ظلم صاحبه في قسطه الذي يصيبه، ألا ترى أنهم قالوا: قاسطته إذا غلبته على قسطه، فبنى قسط على بناء ظلم وجار وغلب، وإذا قالوا أقسط فالمراد أنه صار ذا قسط عدل، فبنى على بناء أنصف إذا أتى بالنصف والعدل في قوله وفعله وقسمه.

2. قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا﴾ شرط، وقوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ جزاء، ولا بد من بيان أنه كيف يتعلق هذا الجزاء بهذا الشرط، وللمفسرين فيه وجوه:

أ. الأول: روي عن عروة أنه قال قلت لعائشة: ما معنى قول الله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ فقالت: يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها، إلا أنه يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها، ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يذب عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها، فقال تعالى: وإن خفتم أن تظلموا اليتامى عند نكاحهن فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء، قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ قالت: وقوله تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ قالت: وقوله تعالى: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ [النساء: 127] المراد منه هذه الآية وهي قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا﴾

ب. الثاني: في تأويل الآية: انه لما نزلت الآية المتقدمة في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير، خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الاقساط في حقوق اليتامى، فتحرجوا من ولايتهم، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج وأكثر، فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن، فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها، فكونوا خائفين من ترك العدل من النساء، فقالوا عدد المنكوحات، لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب لمثله فكأنه غير متحرج.

ج. الثالث: في التأويل: أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل: إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا، فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات.

د. الرابع: في التأويل: ما روي عن عكرمة أنه قال كان الرجل عنده النسوة ويكون عنده الأيتام، فإذا أنفق مال نفسه على النسوة ولم يبق له مال وصار محتاجا، أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن فقال تعالى: وإن خفتم ألّا تقسطوا في أموال اليتامى عند كثرة الزوجات فقد حظرت عليكم أن لا تنكحوا أكثر من أربع‏ كي يزول هذا الخوف، فان خفتم في الأربع أيضاً فواحدة، فذكر الطرف الزائد وهو الأربع، والناقص وهو الواحدة، ونبه بذلك على ما بينهما، فكأنه تعالى قال فان خفتم من الأربع فثلاث، فان خفتم فاثنتان، فان خفتم فواحدة، وهذا القول أقرب، فكأنه تعالى خوف من الإكثار من النكاح بما عساه يقع من الولي من التعدي في مال اليتيم للحاجة الى الانفاق الكثير عند التزوج بالعدد الكثير.

3. ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾، قال أصحاب الظاهر: النكاح واجب وتمسكوا بهذه الآية، وذلك لأن قوله‏: ﴿فَانْكِحُوا﴾ أمر، وظاهر الأمر للوجوب، وتمسك الشافعي في بيان انه ليس بواجب بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: 25] إلى قوله: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ فحكم تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خير من فعله، وذلك يدل على أنه ليس بمندوب، فضلا عن أن يقال إنه واجب.

4. إنما قال: ﴿مَا طَابَ﴾ ولم يقل: (من طاب) لوجوه:

أ. أحدها: أنه أراد به الجنس تقول: ما عندك؟ فيقول رجل أو امرأة، والمعنى ما ذلك الشيء الذي عندك، وما تلك الحقيقة التي عندك.

ب. ثانيها: أن (ما) مع ما بعده في تقدير المصدر، وتقديره: فانكحوا الطيب من النساء.

ج. ثالثها: ان (ما) و(من) ربما يتعاقبان، قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ [الشمس: 5]، وقال: ﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ [الكافرون: 2]، وحكى أبو عمرو بن العلاء: سبحان ما سبح له الرعد، وقال: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ﴾ [النور: 45]

د. رابعها: إنما ذكر (ما) تنزيلا للإناث منزلة غير العقلاء، ومنه: قوله: ﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ [المعارج: 30]

5. ﴿مَا طَابَ لَكُمْ﴾ قال الواحدي والزمخشري: أي ما حل لكم من النساء لأن منهن من يحرم نكاحها، وهي الأنواع المذكورة في قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ﴾ [النساء: 23] وهذا عندي فيه نظر، وذلك لأنا بينا أن قوله: ﴿فَانْكِحُوا﴾ أمر إباحة، فلو كان المراد بقوله: ﴿مَا طَابَ لَكُمْ﴾ أي ما حل لكم لنزلت الآية منزلة ما يقال: أبحنا لكم نكاح من يكون نكاحها مباحا لكم، وذلك يخرج الآية عن الفائدة، وأيضاً فبتقدير أن تحمل الآية على ما ذكروه تصير الآية مجملة، لأن أسباب الحل والاباحة لما لم تكن مذكورة في هذه الآية صارت الآية مجملة لا محالة، أما إذا حملنا الطيب على استطابة النفس وميل القلب، كانت الآية عاما دخله التخصيص، وقد ثبت في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين الإجمال والتخصيص كان رفع الإجمال أولى، لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص، والمجمل لا يكون حجة أصلا.

6. ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ معناه: اثنين اثنين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، وهو غير منصرف وفيه وجهان:

أ. الأول: أنه اجتمع فيها أمران: العدل والوصف، أما العدل فلأن العدل عبارة عن أنك تذكر كلمة وتريد بها كلمة أخرى، كما تقول: عمر وزفر وتريد به عامراً وزافرا، فكذا هاهنا تريد بقولك: مثنى: ثنتين ثنتين فكان معدولا، وأما أنه وصف، فدليله قوله تعالى: ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [فاطر: 1] ولا شك أنه وصف.

ب. الثاني: في بيان أن هذه الأسماء غير منصرفة أن فيها عدلين لأنها معدولة عن أصولها كما بيناه، وأيضا انها معدولة عن تكررها فإنك لا تريد بقولك: مثنى ثنتين فقط، بل ثنتين ثنتين، فإذا قلت: جاءني اثنان أو ثلاثة كان غرضك الاخبار عن مجيء هذا العدد فقط، أما إذا قلت: جاءني القوم مثنى أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين، فثبت أنه حصل في هذه الألفاظ نوعان من العدد فوجب أن يمنع من الصرف، وذلك لأنه إذا اجتمع في الاسم سببان أوجب ذلك منع الصرف، لأنه يصير لأجل ذلك نائبا من جهتين فيصير مشابها للفعل فيمتنع صرفه، وكذا إذا حصل فيه العدل من جهتين فوجب أن يمنع صرفه.

7. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالتعدد المرتبط بالعبيد، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.

8. ذهب قوم سدى إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد، واحتجوا بالقرآن والخبر(2):

أ. أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه:

الأول: أن قوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا.

الثاني: أن قوله: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ لا يصلح تخصيصا لذلك العموم، لأن تخصيص بعض الاعداد بالذكر لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي، بل نقول: ان ذكر هذه الأعداد يدل على رفع الحرج والحجر مطلقا، فان الإنسان إذا قال لولده: افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدينة وإلى البستان، كان تنصيصا في تفويض زمام الخيرة اليه مطلقاً، ورفع الحجر والحرج عنه مطلقاً، ولا يكون ذلك تخصيصاً للاذن بتلك الأشياء المذكورة، بل كان إذنا في المذكور وغيره فكذا هاهنا، وأيضاً فذكر جميع الأعداد متعذر، فإذا ذكر بعض الأعداد بعد قوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ كان ذلك تنبيها على حصول الاذن في جميع الأعداد.

الثالث: أن الواو للجمع المطلق فقوله: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ يفيد حل هذا المجموع، وهو يفيد تسعة، بل الحق أنه يفيد ثمانية عشر، لان قوله: مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط، بل عن اثنين اثنين وكذا القول في البقية.

ب. وأما الخبر فمن وجهين:

الأول: أنه ثبت بالتواتر أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم مات عن تسع، ثم ان الله تعالى أمرنا باتباعه فقال: ﴿فَاتَّبَعُوهُ﴾ وأقل مراتب الأمر الاباحة.

الثاني: أن سنة الرحل طريقته، وكان التزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان ذلك سنة له، ثم‏ انه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: فمن رغب عن سنتي فليس مني) فظاهر هذا الحديث يقتضى توجه اللوم على من ترك التزوج بأكثر من الأربعة، فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز.

9. معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين:

أ. الأول: الخبر، وهو ما روي‏ ان غيلان أسلم وتحته عشر نسوة، فقال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: أمسك أربعا وفارق باقيهن، وروي‏ ان نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أمسك أربعا وفارق واحدة)، وهذا الطريق ضعيف لوجهين:

الأول: أن القرآن لما دل على عدم الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز.

الثاني: وهو أن الخبر واقعة حال، فلعله صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما أمره بإمساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع بين الأربعة وبين البواقي غير جائز، إما بسبب النسب، أو بسبب الرضاع، وبالجملة فلهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله.

ب. الثاني: وهو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد.

10. سؤال وإشكال: الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ، فكيف يقال: الإجماع نسخ هذه الآية، والجواب: الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

11. سؤال وإشكال: أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع، والإجماع مع مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد، والجواب: أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا عبرة بمخالفته.

12. سؤال وإشكال: إذا كان الأمر على ما قلتم فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال: مثنى أو ثلاث أو رباع، فلم جاء بواو العطف دون (أو)؟ والجواب: لو جاء بكلمة (أو) لكان ذلك يقتضي أنه لا يجوز ذلك الا على أحد هذه الأقسام، وأنه لا يجوز لهم أن يجمعوا بين هذه الأقسام، بمعنى أن بعضهم يأتي بالتثنية، والبعض الآخر بالتثليث والفريق الثالث بالتربيع، فلما ذكره بحرف الواو أفاد ذلك أنه يجوز لكل طائفة أن يختاروا قسما من هذه الأقسام، ونظيره أن يقول الرجل للجماعة: اقتسموا هذا المال وهو ألف، درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، والمراد أنه يجوز لبعضهم أن يأخذ درهمين درهمين، ولبعض آخرين أن يأخذوا ثلاثة ثلاثة، ولطائفة ثالثة أن يأخذوا أربعة أربعة، فكذا هاهنا الفائدة في ترك (أو) وذكر الواو ما ذكرناه.

13. ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ محله النصب على الحال مما طاب، تقديره: فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد، ثنتين ثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا.

14. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي فان خفتم أن لا تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها، فاكتفوا بزوجة واحدة أو بالمملوكة، سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر، ولعمري إنهن أقل تبعة وأخف مؤنة من المهائر، لا عليك أكثرت منهن أم أقللت، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل، عزلت عنهن أم لم تعزل.

15. قرئ‏ ﴿فَوَاحِدَةً﴾ بنصب التاء والمعنى: فالتزموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع رأسا، فان الأمر كله يدور مع العدل، فأينما وجدتم العدل فعليكم به، وقرئ‏ ﴿فَوَاحِدَةً﴾ بالرفع والتقدير: فكفت واحدة، أو فحسبكم واحدة أو ما ملكت أيمانكم.

16. للشافعي أن يحتج بهذه الآية في بيان الاشتغال بنوافل العبادات أفضل من النكاح، وذلك لأن الله تعالى خير في هذه الآية بين التزوج بالواحدة وبين التسري، والتخيير بين الشيئين مشعر بالمساواة بينهما في الحكمة المطلوبة، كما إذا قال الطبيب: كل التفاح أو الرمان، فان ذلك يشعر بكون كل واحد منهما قائما مقام الآخر في تمام الغرض، وكما أن الآية دلت على هذه التسوية، فكذلك العقل يدل عليها، لأن المقصود هو السكن والازدواج وتحصين الدين ومصالح البيت، وكل ذلك حاصل بالطريقين، وأيضاً إن فرضنا الكلام فيما إذا كانت المرأة مملوكة ثم أعتقها وتزوج بها، فههنا يظهر جدا حصول الاستواء بين التزوج وبين التسري، وإذا ثبت بهذه الآية ان التزوج والتسري متساويان، فنقول: أجمعنا على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري فوجب أن يكون أفضل من النكاح؛ لان الزائد على أحد المتساويين يكون زائد على المساوي الثاني لا محالة.

17. ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ المراد من الأدنى هاهنا الأقرب، والتقدير: ذلك أقرب من أن لا تعولوا وحسن حذف (من) لدلالة الكلام عليه.

18. في تفسير ﴿أَلَّا تَعُولُوا﴾ وجوه:

أ. الأول: معناه: لا تجوروا ولا تميلوا، وهذا هو المختار عند أكثر المفسرين، وروي ذلك مرفوعا، روت عائشة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ في قوله: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ قال: (لا تجوروا) وفي رواية أخرى‏ (أن لا تميلوا) قال الواحدي: كلا اللفظين مروي، وأصل العول الميل يقال: عال الميزان عولا، إذا مال، وعال الحاكم في حكمه إذا جار، لأنه إذا جار فقد مال، وأنشدوا لأبي طالب.

çبميزان قسط لا يغل شعيرة...ووزان صدق وزنه غير عائل‏é

وروي أن أعرابيا حكم عليه حاكم، فقال له: أتعول علي، ويقال: عالت الفريضة إذا زادت سهامها، وقد أعلتها أنا إذا زدت في سهامها، ومعلوم أنها إذا زادت سهامها فقد مالت عن الاعتدال فدلت هذه الاشتقاقات على أن أصل هذا اللفظ الميل، ثم اختص بحسب العرف بالميل الى الجور والظلم، فهذا هو الكلام في تقرير هذا الوجه الذي ذهب اليه الأكثرون.

أ. الثاني: قال بعضهم: المراد أن لا تفتقروا، يقال: رجل عائل أي فقير، وذلك لأنه إذا قل عياله قلت نفقاته، وإذا قلت نفقاته لم يفتقر.

ب. الثالث: نقل عن الشافعي أنه قال: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ معناه: ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن: وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه لا خلاف بين السلف وكل من روى تفسير هذه الآية: أن معناه: أن لا تميلوا ولا تجوروا.

ثانيها: أنه خطأ في اللغة لأنه لو قيل: ذلك أدنى أن لا تعيلوا لكان ذلك مستقيما، فأما تفسير ﴿تَعُولُوا﴾ بتعيلوا فإنه خطأ في اللغة.

ثالثها: أنه تعالى ذكر الزوجة الواحدة أو ملك اليمين والإماء في العيال، بمنزلة النساء، ولا خلاف أن له أن يجمع من العدد من شاء بملك اليمين، فعلمنا أنه ليس المراد كثرة العيال.

وزاد صاحب النظم في الطعن وجها رابعا، وهو أنه تعالى قال في أول الآية: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ ولم يقل أن تفتقروا، فوجب أن يكون الجواب معطوفا على هذا الشرط، ولا يكون جوابه إلا بضد العدل، وذلك هو الجور لا كثرة العيال.

19. الجواب على ما ذكروه من انتقادات للشافعي في تفسيره ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ بأن معناه: ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم:

أ. أما السؤال الأول: فهو في غاية الركاكة وذلك أنه لم ينقل عن الشافعي أنه طعن في قول المفسرين أن معنى الآية: أن لا تجوروا ولا تميلوا، ولكنه ذكر فيه وجها آخر، وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها، ولولا جواز ذلك وإلا لصارت الدقائق التي استنبطها المتأخرون في تفسير كلام الله مردودة باطلة، ومعلوم أن ذلك لا يقوله إلا مقلد خلف، وأيضا: فمن الذي أخبر الرازي أن هذا الوجه الذي ذكره الشافعي لم يذكره واحد من الصحابة والتابعين، وكيف لا نقول ذلك، ومن المشهور أن طاوسا كان يقرأ: ذلك أدنى أن لا تعيلوا، وإذا ثبت أن المتقدمين كانوا قد جعلوا هذا الوجه قراءة، فبأن يجعلوه تفسيرا كان أولى، فثبت بهذه الوجوه شدة جهل الرازي في هذا الطعن.

ب. أما السؤال الثاني: فنقول: انك نقلت هذه اللفظة في اللغة عن المبرد، لكنك بجهلك وحرصك على الطعن في رؤساء المجتهدين والأعلام، وشدة بلادتك، ما عرفت ان هذا الطعن الذي ذكره المبرد فاسد، وبيان فساده من وجوه:

الأول: أنه يقال: عالت المسألة إذا زادت سهامها وكثرة، وهذا المعنى قريب من الميل لأنه إذا مال فقد كثرت جهات الرغبة وموجبات الارادة وإذا كان كذلك كان معنى الآية: ذلك أدنى أن لا تكثروا، وإذا لم تكثروا لم يقع الإنسان في الجور والظلم لان مطية الجور والظلم هي الكثرة والمخالطة، وبهذا الطريق يرجع هذا التفسير الى قريب من التفسير الأول الذي اختاره الجمهور.

الثاني: ان الإنسان إذا قال فلان طويل النجاد كثير الرماد، فإذا قيل له ما معناه؟ حسن أن يقال: معناه أنه طويل القامة كثير الضيافة، وليس المراد منه أن تفسير طويل النجاد هو أنه طويل القامة، بل المراد أن المقصود من ذلك الكلام هو هذا المعنى، وهذا الكلام تسميه علماء البيان التعبير عن الشيء بالكناية والتعريض، وحاصله يرجع الى حرف واحد وهو الإشارة الى الشيء بذكر لوازمه، فههنا كثرة العيال مستلزمة للميل والجور، والشافعي جعل كثرة العيال كناية عن الميل والجور، لما أن كثرة العيال لا تنفك عن الميل والجور، فجعل هذا تفسيراً له لا على سبيل المطابقة بل على سبيل الكناية والاستلزام، وهذه طريقة مشهورة في كتاب الله، والشافعي لما كان محيطاً بوجوه أساليب الكلام العربي استحسن ذكر هذا الكلام، فأما أبو بكر الرازي لما كان بليد الطبع بعيداً عن أساليب كلام العرب، لا جرم لم يعرف الوجه الحسن فيه.

الثالث: ما ذكره الزمخشري وهو أن هذا التفسير مأخوذ من قولك: عال الرجل عياله‏ يعولهم كقولهم: مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم، لان من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما تصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب، فثبت بهذه الوجوه أن الذي ذكره إمام المسلمين الشافعي في غاية الحسن، وأن الطعن لا يصدر الا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة.

ج. أما السؤال الثالث: وهو قوله: إن كثرة العيال لا تختلف بأن تكون المرأة زوجة أو مملوكة فجوابه من وجهين:

الأول: ما ذكره القفال، وهو أن الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب، وإذا اكتسبن أنفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضا، وحينئذ تقل العيال أما إذا كانت المرأة حرة لم يكن الأمر كذلك فظهر الفرق.

الثاني: ان المرأة إذا كانت مملوكة فإذا عجز المولى عن الانفاق عليها باعها وتخلص منها، أما إذا كانت حرة فلا بد له من الانفاق عليها، والعرف يدل على أن الزوج ما دام يمسك الزوجة فإنها لا تطالبه بالمهر، فإذا حاول طلاقها طالبته بالمهر فيقع الزوج في المحنة.

د. وأما السؤال الرابع: وهو الذي ذكره الجرجاني صاحب النظم، فالجواب عنه من وجهين:

الأول: ما ذكره القاضي وهو أن الوجه الذي ذكره الشافعي أرجح، لأنه لو حمل على الجور لكان تكراراً لأنه فهم ذلك من قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا﴾ أما إذا حملناه على ما ذكره الشافعي لم يلزم التكرار فكان أولى.

الثاني: أن نقول: هب أن الأمر كما ذكرتم لكنا بينا أن التفسير الذي ذكره الشافعي راجع عند التحقيق الى ذكر التفسير الأول، لكن على سبيل الكناية والتعريض، وإذا كان الأمر كذلك فقد زال هذا السؤال.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 9/486.

(2) هذه مسألة افتراضية، لا قائل بها، ولذلك لم يذكر أي قائل من هذا القول، وقد حكى بعد ذلك الإجماع على خلافها

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾ شرط، وجوابه (فانكحوا)، أي إن خفتم ألا تعدلوا في مهورهن وفي النفقة عليهن ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ أي غيرهن:

أ. روى الأئمه واللفظ لمسلم عن عروة بن الزبير عن عائشة في قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ قالت: يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ما له فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن، وذكر الحديث.

ب. قال ابن خويز منداد: ولهذا قلنا إنه يجوز أن يشتري الوصي من مال اليتيم لنفسه، ويبيع من نفسه من غير محاباة، وللموكل النظر فيما اشترى وكيله لنفسه أو باع منها، وللسلطان النظر فيما يفعله الوصي من ذلك، فأما الأب فليس لأحد عليه نظر ما لم تظهر عليه المحاباة فيعترض عليه السلطان حينئذ، وقد مضى في البقرة القول في هذا.

ج. وقال الضحاك والحسن وغير هما: إن الآية ناسخة لما كان في الجاهلية وفي أول الإسلام، من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما شاء، فقصرتهن الآية على أربع.

د. وقال ابن عباس وابن جبير وغيرهما: المعنى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء، لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى ولا يتحرجون في النساء.

2. ﴿خِفْتُمْ﴾ من الأضداد، فإنه يكون المخوف منه معلوم الوقوع، وقد يكون مظنونا، فلذلك اختلف العلماء في تفسير هذا الخوف، فقال أبو عبيدة: ﴿خِفْتُمْ﴾ بمعنى أيقنتم، وقال آخرون: ﴿خِفْتُمْ﴾ ظننتم، قال ابن عطية: وهذا الذي اختاره الحذاق، وأنه على بابه من الظن لا من اليقين، التقدير من غلب على ظنه التقصير في القسط لليتيمة فليعدل عنها.

3. ﴿تُقْسِطُوا﴾ معناه تعدلوا، يقال: أقسط الرجل إذا عدل، وقسط إذا جار وظلم صاحبه، قال الله تعالى: ـ أما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا يعني الجائرون، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المقسطون في الدين على منابر من نور يوم القيامة) يعني العادلين، وقرأ ابن وثاب والنخعي ﴿تُقْسِطُوا﴾ بفتح التاء من قسط على تقدير زيادة لا كأنه قال: وإن خفتم أن تجوروا.

4. سؤال وإشكال: إن قيل: كيف جاءت ﴿مَا﴾ في قوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ للآدميين وإنما أصلها لما لا يعقل، والجواب: عنه أجوبة خمسة:

أ. الأول: أن ﴿مِنَ﴾ و﴿مَا﴾ قد يتعاقبان، قال الله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ أي ومن بناها، وقال: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾، فما هاهنا لمن يعقل وهن النساء، لقوله بعد ذلك ﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾ مبينا لمبهم، وقرأ ابن أبي عبلة من طاب) على ذكر من يعقل،.

ب. الثاني: قال البصريون: ﴿مَا﴾ تقع للنعوت كما تقع لما لا يعقل يقال: ما عندك؟ فيقال: ظريف وكريم، فالمعنى فانكحوا الطيب من النساء، أي الحلال، وما حرمه الله فليس بطيب، وفي التنزيل ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ فأجابه موسى على وفق ما سأل، وسيأتي،.

ج. الثالث: حكى بعض الناس أن ﴿مَا﴾ في هذه الآية ظرفية، أي ما دمتم تستحسنون النكاح قال، ابن عطية: وفي هذا المنزع ضعف.

د. جواب رابع ـ قال الفراء: ﴿مَا﴾ هاهنا مصدر، وقال النحاس: وهذا بعيد جدا، لا يصح فانكحوا الطيبة، قال الجوهري: طاب الشيء يطيب طيبة وتطيابا، قال علقمة: كأن تطيابها في الأنف مشموم.

هـ. جواب خامس ـ وهو أن المراد بما هنا العقد، أي فانكحوا نكاحا طيبا، وقراءة ابن أبي عبلة ترد هذه الأقوال الثلاثة، وحكى أبو عمرو بن العلاء أن أهل مكة إذا سمعوا الرعد قالوا: سبحان ما سبح له الرعد، أي سبحان من سبح له الرعد، ومثله قولهم: سبحان ما سخر كن لنا، أي من سخر كن، واتفق كل من يعاني العلوم على أن قوله تعالى ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ ليس له مفهوم، إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة: اثنتين أو ثلاثا أو أربعا كمن خاف، فدل على أن الآية نزلت جوابا لمن خاف ذلك، وأن حكمها أعم من ذلك.

5. تعلق أبو حنيفة بهذه الآية في تجويزه نكاح اليتيمة قبل البلوغ، وقال: إنما تكون يتيمة قبل البلوغ، وبعد البلوغ هي امرأة مطلقة لا يتيمة، بدليل أنه لو أراد البالغة لما نهى عن حطها عن صداق مثلها، لأنها تختار ذلك فيجوز إجماعا، وذهب مالك والشافعي والجمهور من العلماء إلى أن ذلك لا يجوز حتى تبلغ وتستأمر، لقوله تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾

6. النساء اسم ينطلق على الكبار كالرجال في الذكور، واسم الرجل لا يتناول الصغير، فكذلك اسم النساء، والمرأة لا يتناول الصغيرة، وقد قال: ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ والمراد به هناك اليتامى هنا، كما قالت عائشة، فقد دخلت اليتيمة الكبيرة في الآية فلا تزوج إلا بإذنها، ولا تنكح الصغيرة إذ لا إذن لها، فإذا بلغت جاز نكاحها لكن لا تزوج إلا بإذنها، كما رواه الدارقطني من حديث محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال: زوجني خالي قدامة بن مظعون بنت أخيه عثمان بن مظعون، فدخل المغيرة بن شعبة على أمها، فأرغبها في المال وخطبها إليها، فرفع شأنها إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال قدامة: يا رسول الله ابنة أخي وأنا وصي أبيها ولم أقصر بها، زوجتها من قد علمت فضله وقرابته، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنها يتيمة واليتيمة أولى بأمرها) فنزعت مني وزوجها المغيرة بن شعبة، قال الدارقطني: لم يسمعه محمد بن إسحاق من نافع، وإنما سمعه من عمر بن حسين عنه، ورواه ابن أبي ذئب عن عمر بن حسين عن نافع عن عبد الله بن عمر: أنه تزوج بنت خاله عثمان بن مظعون قال: فذهبت أمها إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالت: إن ابنتي تكره ذلك، فأمره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يفارقها ففارقها، وقال: (ولا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن فإذا سكتن فهو إذنها)، فتزوجها بعد عبد الله المغيرة بن شعبة، فهذا يرد ما يقوله أبو حنيفة من أنها إذا بلغت لم تحتج إلى ولي، بناء على أصله في عدم اشتراط الولي في صحة النكاح، وقد مضى في البقرة ذكره، فلا معنى لقولهم: إن هذا الحديث محمول على غير البالغة لقوله إلا بإذنها) فإنه كان لا يكون لذكر اليتيم معنى والله أعلم.

7. في تفسير عائشة للآية من الفقه ما قال به مالك صداق المثل، والرد إليه فيما فسد من الصداق ووقع الغبن في مقداره، لقولها: بأدنى من سنة صداقها، فوجب أن يكون صداق المثل معروفا لكل صنف من الناس على قدر أحوالهم، وقد قال مالك: للناس مناكح عرفت لهم وعرفوا لها، أي صدقات وأكفاء، وسيل مالك عن رجل زوج ابنته غنية من ابن أخ له فقير فاعترضت أمها فقال: إني لأرى لها في ذلك متكلما، فسوغ لها في ذلك الكلام حتى يظهر هو من نظره ما يسقط اعتراض الأم عليه، وروي ﴿لَا أَرَى﴾ بزيادة الألف الأول أصح، وجائز لغير اليتيمة أن تنكح بأدنى من صداق مثلها، لأن الآية إنما خرجت في اليتامى، هذا مفهومها وغير اليتيمة بخلافها.

8. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بزواج اليتيمة، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.

9. ﴿مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ معناه ما حل لكم، عن الحسن وابن جبير وغيرهما، واكتفى بزمن يجوز نكاحه، لأن المحرمات من النساء كثير، وقرأ ابن إسحاق والجحدري وحمزة ﴿طَابَ﴾ بالإمالة) وفي مصحف أبي طيب) بالياء، فهذا دليل الإمالة، ﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾ دليل على أنه لا يقال نساء إلا لمن بلغ الحلم، وواحد النساء نسوة، ولا واحد لنسوة من لفظه، ولكن يقال امرأة.

10. ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ موضعها من الإعراب نصب على البدل من ﴿مَا﴾ وهي نكرة لا تنصرف، لأنها معدولة وصفة، كذا قال أبو علي، وقال الطبري: هي معارف، لأنها لا يدخلها الألف واللام، وهي بمنزلة عمر في التعريف، قاله الكوفي، وخطأ الزجاج هذا القول، وقيل: لم ينصرف، لأنه معدول عن لفظه ومعناه، فأحاد معدول عن واحد واحد، ومثنى معدولة عن اثنين اثنين، وثلاث معدولة عن ثلاثة ثلاثة، ورباع عن أربعة أربعة، وفي كل واحد منها لغتان: فعال ومفعل، يقال أحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع، وكذلك إلى معشر وعشار، وحكى أبو إسحاق الثعلبي لغة ثالثة: أحد وثنى وثلث وربع مثل عمر وزفر، وكذلك قرأ النخعي في هذه الآية، وحكى المهدوي عن النخعي وابن وثاب ثلاث وربع بغير ألف في ربع فهو مقصور من رباع استخفافا، كما قال:

çأقبل سيل جاء من عند الله...يحرد حرد الجنة المغلهé

قال الثعلبي: ولا يزاد من هذا البناء على الأربع إلا بيت جاء عن الكميت:

çفلم يستريثوك حتى رمي...ت فوق الرجال خصالا عشاراé

يعني طعنت عشرة، وقال ابن الدهان: وبعضهم يقف على المسموع وهو من أحاد إلى رباع ولا يعتبر بالبيت لشذوذه، وقال أبو عمرو بن الحاجب: ويقال أحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع، وهل يقال فيما عداه إلى التسعة أو لا يقال؟ فيه خلاف أصحها أنه لم يثبت، وقد نص البخاري في صحيحه على ذلك، وكونه معدولا عن معناه أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة، تقول جاءني اثنان وثلاثة، ولا يجوز مثنى وثلاث حتى يتقدم قبله جمع، مثل جاءني القوم أحاد وثناء وثلاث ورباع من غير تكرار، وهي في موضع الحال هنا وفي الآية، وتكون صفة، ومثال كون هذه الأعداد صفة يتبين في قوله تعالى: ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ فهي صفة للأجنحة وهي نكرة، وقال ساعدة بن جوية: ولكنما أهلي بواد أنيسه...ذئاب تبغى الناس مثنى وموحد وأنشد الفراء: قتلنا به من بين مثنى وموحد...بأربعة منكم وآخر خامس فوصف ذئابا وهي نكرة بمثنى وموحد، وكذلك بيت الفراء، أي قتلنا به ناسا، فلا تنصرف إذا هذه الأسماء في معرفة ولا نكرة، وأجاز الكسائي والفراء صرفه في العدد على أنه نكرة، وزعم الأخفش أنه إن سمى به صرفه في المعرفة والنكرة، لأنه قد زال عنه العدل.

11. هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدل على إباحة تسع، كما قال من بعد فهمه للكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وزعم أن الواو جامعة، وعضد ذلك بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نكح تسعا، وجمع بينهن في عصمته، والذي صار إلى هذه الجهالة، وقال هذه المقالة الرافضة(2) وبعض أهل الظاهر، فجعلوا مثنى مثل اثنين، وكذلك ثلاث ورباع، وذهب بعض أهل الظاهر أيضا إلى أقبح منها، فقالوا بإباحة الجمع بين ثمان عشرة، تمسكا منه بأن العدل في تلك الصيغ يفيد التكرار والواو للجمع، فجعل مثنى بمعنى اثنين اثنين وكذلك ثلاث ورباع، وهذا كله جهل باللسان والسنة، ومخالفة لإجماع الأمة، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع، وأخرج مالك في موطئه، والنسائي والدارقطني في سننهما أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لغيلان بن أمية الثقفي وقد أسلم وتحته عشر نسوة: (اختر منهن أربعا وفارق سائرهن)، وفي كتاب أبي داوود عن الحارث بن قيس قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: اختر منهن أربعا)، وقال مقاتل: إن قيس بن الحارث كان عنده ثمان نسوة حرائر، فلما نزلت هذه الآية أمره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يطلق أربعا ويمسك أربعا، كذا قال: قيس بن الحارث، والصواب أن ذلك كان حارث ابن قيس الأسدي كما ذكر أبو داوود وكذا روى محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير: أن ذلك كان حارث ابن قيس، وهو المعروف عند الفقهاء، وأما ما أبيح من ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فذلك من خصوصياته.

12. أما قولهم: إن الواو جامعة، فقد قيل ذلك، لكن الله تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات، والعرب لا تدع أن تقول تسعة وتقول اثنين وثلاثة وأربعة، وكذلك تستقبح ممن يقول: أعط فلانا أربعة ستة ثمانية، ولا يقول ثمانية عشر، وإنما الواو في هذا الموضع بدل، أي انكحوا ثلاثا بدلا من مثنى، ورباع بدلا من ثلاث، ولذلك عطف بالواو ولم يعطف بأو، ولو جاء بأو لجاز ألا يكون لصاحب المثنى ثلاث، ولا لصاحب الثلاث رباع، وأما قولهم: إن مثنى تقتضي اثنين، وثلاث ثلاثة، ورباع أربعة، فتحكم بما لا يوافقهم أهل اللسان عليه، وجهالة منهم، وكذلك جهل الآخرين، بأن مثنى تقتضي اثنين اثنين، وثلاث ثلاثة ثلاثة، ورباع أربعة أربعة، ولم يعلموا أن اثنين اثنين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، حصر للعدد، ومثنى وثلاث ورباع بخلافها، ففي العدد المعدول عند العرب زيادة معنى ليست في الأصل، وذلك أنها إذا قالت: جاءت الخيل مثنى، إنما تعني بذلك اثنين اثنين، أي جاءت مزدوجة، قال الجوهري: وكذلك معدول العدد، وقال غيره: إذا قلت جاءني قوم مثنى أو ثلاث أو أحاد أو عشار، فإنما تريد أنهم جاءوك واحدا واحدا، أو اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو عشرة عشرة، وليس هذا المعنى في الأصل، لأنك إذا قلت جاءني قوم ثلاثة ثلاثة، أو قوم عشرة عشرة، فقد حصرت عدة القوم بقولك ثلاثة وعشرة، فإذا قلت جاءوني رباع وثناء فلم تحصر عدتهم، وإنما تريد أنهم جاءوك أربعة أربعة أو اثنين اثنين، وسواء كثر عددهم أو قل في هذا الباب، فقصرهم كل صيغة على أقل ما تقتضيه بزعمه تحكم.

13. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ قال الضحاك وغيره: في الميل والمحبة والجماع والعشرة والقسم بين الزوجات الأربع والثلاث والاثنين، ﴿فَوَاحِدَةً﴾، فمنع من الزيادة التي تؤدي إلى ترك العدل في القسم وحسن العشرة، وذلك دليل على وجوب ذلك، والله أعلم، وقرئت بالرفع، أي فواحدة فيها كفاية أو كافية، وقال الكسائي: فواحدة تقنع، وقرئت بالنصب بإضمار فعل، أي فانكحوا واحدة.

14. ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ يريد الإماء، وهو عطف على ﴿فَوَاحِدَةً﴾ أي إن خاف ألا يعدل في واحدة فما ملكت يمينه، وفي هذا دليل على ألا حق لملك اليمين في الوطي ولا القسم، لا ن المعنى ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ في القسم ﴿فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ فجعل ملك اليمين كله بمنزلة واحدة، فانتفى بذلك أن يكون للإماء حق في الوطي أو في القسم، إلا أن ملك اليمين في العدل قائم بوجوب حسن الملكة والرفق بالرقيق، وأسند تعالى الملك إلى اليمين إذ هي صفة مدح، واليمين مخصوصة بالمحاسن لتمكنها، ألا ترى أنها المنفقة؟ كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) وهي المعاهدة المبايعة، وبها سميت الألية يمينا، وهي المتلقية لرايات المجد، كما قال:

çإذا ما راية رفعت لمجد...تلقاها عرابة باليمينé

15. ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ أي ذلك أقرب إلى ألا تميلوا عن الحق وتجوروا، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، يقال: عال الرجل يعول إذا جار ومال، ومنه قولهم: عال السهم عن الهدف مال عنه، قال ابن عمر: إنه لعائل الكيل والوزن، قال الشاعر:

çقالوا اتبعنا رسول الله واطرحوا...قول الرسول وعالوا في الموازينé

أي جاروا، وقال أبو طالب:

çبميزان صدق لا يغل شعيرة...له شاهد من نفسه غير عائلé

يريد غير مائل، وقال آخر:

çثلاثة أنفس وثلاث ذود...لقد عال الزمان على عياليé

أي جار ومال، وعال الرجل يعيل إذا افتقر فصار عالة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾، ومنه قول الشاعر:

çوما يدري الفقير متى غناه...وما يدري الغني متى يعيلé

وهو عائل وقوم عيلة، والعيلة والعالة الفاقة، وعالني الشيء يعولني إذا غلبني وثقل علي، وعال الأمر اشتد وتفاقم.

16. قال الشافعي: ﴿أَلَّا تَعُولُوا﴾ ألا تكثر عيالكم، قال الثعلبي: وما قال هذا غيره، وإنما يقال: أعال يعيل إذا كثر عياله، وزعم ابن العربي أن (عال على سبعة معان لا ثامن لها، يقال: عال مال، والثاني زاد، والثالث جار، والرابع افتقر، والخامس أثقل، حكاه ابن دريد، قالت الخنساء: ويكفي العشيرة ما عالها، والسادس عال قام بمئونة العيال، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: وابدأ بمن تعول)، والسابع عال غلب، ومنه عيل صبره، أي غلب، ويقال: أعال الرجل كثر عياله، وأما عال بمعنى كثر عياله فلا يصح)، أما قول الثعلبي ما قاله غيره فقد ذكره الدارقطني في سننه عن زيد بن أسلم، وهو قول جابر بن زيد، فهذان إمامان من علماء المسلمين وأئمتهم قد سبقا الشافعي إليه، وأما ما ذكره ابن العربي من الحصر وعدم الصحة فلا يصح، وقد ذكرنا: عال الأمر اشتد وتفاقم، حكاه الجوهري، وقال الهروي في غريبيه: وقال أبو بكر: يقال عال الرجل في الأرض يعيل فيها أي ضرب فيها، وقال الأحمر: يقال عالني الشيء يعيلني عيلا ومعيلا إذا أعجزك، وأما عال كثر عياله فذكره الكسائي وأبو عمر الدوري وابن الأعرابي، قال الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة: العرب تقول عال يعول وأعال يعيل أي كثر عياله، وقال أبو حاتم: كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا، ولعله لغة، قال الثعلبي المفسر: قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب: سألت أبا عمر الدوري عن هذا وكان إماما في اللغة غير مدافع فقال: هي لغة حمير، وأنشد:

çوإن الموت يأخذ كل حي...بلا شك وإن أمشى وعالاé

يعني وإن كثرت ماشيته وعياله، وقال أبو عمرو بن العلاء: لقد كثرت وجوه العرب حتى خشيت أن آخذ عن لاحن لحنا، وقرأ طلحة بن مصرف (ألا تعيلوا) وهي حجة الشافعي، قال ابن عطية: وقدح الزجاج وغيره في تأويل عال من العيال بأن قال: إن الله تعالى قد أباح كثرة السراري وفي ذلك تكثير العيال، فكيف يكون أقرب إلى ألا يكثر العيال، وهذا القدح غير صحيح، لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع، وإنما العيال القادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة، وحكى ابن الأعرابي أن العرب تقول: عال الرجل إذا كثر عياله.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/12.

(2) هذا من الدعاوى الطائفية، وقد رأينا ردود علماء الإمامية على هذا

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا﴾ وجه ارتباط الجزاء بالشرط: أن الرجل كان يكفل اليتيمة لكونه وليا لها ويريد أن يتزوجها فلا يقسط لها في مهرها، أي: يعدل فيه، ويعطيها ما يعطيها غيره من الأزواج، فنهاهم الله أن ينكحوهنّ إلّا أن يقسطوا لهنّ، ويبلغوا بهنّ أعلى ما هو لهنّ من الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهنّ من النّساء سواهنّ، فهذا سبب نزول الآية كما سيأتي، فهو نهي يخص هذه الصورة.

2. قال جماعة من السلف: إن هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية وفي أوّل الإسلام، من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما شاء، فقصرهم بهذه الآية على أربع، فيكون وجه ارتباط الجزاء بالشرط أنهم إذا خافوا ألا يقسطوا في اليتامى فكذلك يخافون ألا يقسطوا في النساء، لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى ولا يتحرجون في النساء، والخوف من الأضداد، فإن المخوف قد يكون معلوما، وقد يكون مظنونا، ولهذا اختلف الأئمة في معناه في الآية، فقال أبو عبيدة ﴿خِفْتُمْ﴾: بمعنى: أيقنتم، وقال آخرون: ﴿خِفْتُمْ﴾: بمعنى: ظننتم، قال ابن عطية: وهو الذي اختاره الحذاق، وأنه على بابه من الظن، لا من اليقين؛ والمعنى: من غلب على ظنه التقصير في العدل لليتيمة فليتركها وينكح غيرها.

3. قرأ النخعي، وابن وثاب: تقسطوا بفتح التاء، من: قسط: إذا جار، فتكون هذه القراءة على تقدير زيادة لا، كأنه قال وإن خفتم أن لا تقسطوا، وحكى الزجاج: أن أقسط، يستعمل استعمال قسط، والمعروف عند أهل اللغة: أن أقسط بمعنى: عدل، وقسط: بمعنى جار.

4. (ما) في قوله: ﴿مَا طَابَ﴾ موصولة، وجاء بها مكان من لأنهما قد يتعاقبان فيقع كل واحد منهما مكان الآخر كما في قوله: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ بَطْنِهِ ومِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ أَرْبَعٍ‏﴾، وقال البصريون: إن (ما) تقع للنعوت كما تقع لما لا يعقل، يقال ما عندك، فيقال: ظريف وكريم، فالمعنى: فانكحوا الطيب من النساء، أي: الحلال، وما حرّمه الله فليس بطيب، وقيل: إن (ما) هنا: مدّية، أي: ما دمتم مستحسنين للنكاح، وضعفه ابن عطية، وقال الفراء: إن (ما) ها هنا: مصدرية، قال النحاس: وهذا بعيد جدا، وقرأ ابن أبي عبلة فانكحوا من طاب.

5. اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له، وأنه يجوز لمن لم يخف أن يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة.

6. (من) في قوله: ﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾ إما: بيانية، أو: تبعيضية، لأن المراد غير اليتائم، قوله: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ في محل نصب على البدل من‏ ﴿مَا﴾ كما قاله أبو علي الفارسي؛ وقيل: على الحال، وهذه الألفاظ لا تنصرف للعدل والوصفية كما هو مبين في علم النحو والأصل: انكحوا ما طاب‏ لكم من النساء اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا.

7. استدلّ بالآية: على تحريم ما زاد على الأربع، وبينوا ذلك: بأنه خطاب لجميع الأمة، وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد، كما يقال للجماعة: اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم، أو: هذا المال الذي في البدرة: درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته أو عين مكانه، أما: لو كان مطلقا، كما يقال: اقتسموا الدراهم، ويراد به: ما كسبوه، فليس المعنى هكذا، والآية من الباب الآخر لا من الباب الأوّل، على أن من قال لقوم يقتسمون مالا معينا كثيرا: اقتسموه مثنى، وثلاث، ورباع، فقسموا بعضه بينهم: درهمين درهمين، وبعضه: ثلاثة ثلاثة، وبعضه: أربعة أربعة كان هذا هو المعنى العربيّ، ومعلوم أنه إذا قال القائل: جاءني القوم مثنى وهم مائة ألف، كان المعنى: أنهم جاءوه اثنين اثنين، وهكذا جاءني القوم ثلاث ورباع، والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد، كما في قوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ ﴿أَقِيمُوا الصَّلاةَ آتُوا الزَّكاةَ﴾ ونحوها؛ فقوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ معناه لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين، وثلاثا وثلاثا، وأربعا أربعا، هذا ما تقتضيه لغة العرب، فالآية تدلّ على خلاف ما استدلوا بها عليه، ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ فإنه وإن كان خطابا للجميع فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد، فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن.

8. أما استدلال من استدلّ بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة، فكأنه قال انكحوا مجموع هذا العدد المذكور، فهذا جهل بالمعنى العربي، ولو قال انكحوا ثنتين وثلاثا وأربعا كان هذا القول له وجه وأما مع المجي‏ء بصيغة العدل فلا، وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون أو: لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلّا أحد الأعداد المذكورة دون غيره، وذلك ليس بمراد من النظم القرآني، وقرأ النخعي، ويحيى بن وثاب: ثلث وربع بغير ألف.

9. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾: فانكحوا واحدة، كما يدل على ذلك قوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ﴾ وقيل: التقدير: فألزموا أو فاختاروا واحدة، الأول أولى؛ والمعنى: فإن خفتم ألّا تعدلوا بين الزوجات في القسم ونحوه فانكحوا واحدة، وفيه المنع من الزيادة على الواحدة لمن خاف ذلك، وقري‏ء: بالرفع، على أنه مبتدأ، والخبر محذوف، قال الكسائي: أي: فواحدة تقنع؛ وقيل: التقدير: فواحدة فيها كفاية، ويجوز أن تكون واحدة على قراءة الرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: فالمقنع واحدة.

10. ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ معطوف على واحدة، أي: فانكحوا واحدة أو انكحوا ما ملكت أيمانكم من السراري؛ وإن كثر عددهنّ كما يفيده الموصول، والمراد: نكاحهن بطريق الملك، لا بطريق النكاح، وفيه دليل، على أنه لا حق للمملوكات في القسم، كما يدل على ذلك جعله قسيما للواحدة في الأمن من عدم العدل، وإسناد الملك إلى اليمين: لكونها المباشرة لقبض الأموال وإقباضها، ولسائر الأمور التي تنسب إلى الشخص في الغالب، ومنه:

çإذا ما راية نصبت لمجد...تلقّاها عرابة باليمين‏é

11. ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ أي: ذلك أقرب إلى ألا تعولوا، أي: تجوروا، من: عال الرجل، يعول: إذا مال وجار، ومنه قولهم: عال السهم عن الهدف: مال عنه، وعال الميزان: إذا مال، ومنه:

çقالوا اتّبعنا رسول الله واطّرحوا...قول الرّسول وعالوا في الموازين‏é

ومنه قول أبي طالب:

çبميزان صدق لا يغلّ شعيرة...له شاهد من نفسه غير عائل‏é

ومنه أيضا:

çفنحن ثلاثة وثلاث ذود...لقد عال الزّمان على عيال‏é

والمعنى: إن خفتم عدم العدل بين الزوجات؛ فهذه التي أمرتم بها أقرب إلى عدم الجور، ويقال: عال الرجل، يعيل: إذا افتقر وصار عالة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾، ومنه قول الشاعر:

çوما يدري الفقير متى غناه‏...وما يدري الغنيّ متى يعيل‏é

12. قال الشافعي: ﴿أَلَّا تَعُولُوا﴾ ألا تكثر عيالكم، قال الثعلبي: وما قال هذا غيره، وإنما يقال: أعال يعيل: إذا كثر عياله، وذكر ابن العربي: أن: عال؛ تأتي لسبعة معان: الأوّل: عال: مال، الثاني: زاد. الثالث: جار، الرابع: افتقر، الخامس: أثقل، السادس: قام بمئونة العيال، ومنه: قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وابدأ بمن تعول)، السابع: عال: غلب، ومنه: عيل صبري، قال ويقال: أعال الرجل: كثر عياله، وأما: عال، بمعنى كثر عياله، فلا يصح، ويجاب عن إنكار الثعلبي لما قاله الشافعي، وكذلك إنكار ابن العربي لذلك: بأنه قد سبق الشافعي إلى القول به زيد بن أسلم، وجابر بن زيد، وهم إمامان من أئمة المسلمين، لا يفسران القرآن هما والإمام الشافعي بما لا وجه له في العربية، وقد أخرج ذلك عنهما الدارقطني في سننه، وقد حكاه القرطبي عن الكسائي، وأبي عمر الدوري، وابن الأعرابي، وقال أبو حاتم: كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا، ولعله لغة، وقال الثعلبي: قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب: سألت أبا عمر الدوري عن هذا وكان إماما في اللغة غير مدافع، فقال: هي لغة حمير، وأنشد:

çوإنّ الموت يأخذ كلّ حيّ‏...بلا شكّ وإن أمشى وعالاé

أي: وإن كثرت ماشيته وعياله، وقرأ طلحة بن مصرف: أن لا تعيلوا قال ابن عطية: وقدح الزجاج في تأويل عال من العيال بأن الله سبحانه قد أباح كثرة السراري، وفي ذلك تكثير العيال، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثروا، وهذا القدح غير صحيح، لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع، وإنما العيال الحرائر ذوات الحقوق الواجبة، وقد حكى ابن الأعرابي: أن العرب تقول: عال الرجل: إذا كثر عياله، وكفى بهذا، وقد ورد عال لمعان غير السبعة التي ذكرها ابن العربي، منها: عال: اشتدّ وتفاقم، حكاه الجوهري، وعال الرجل في الأرض: إذا ضرب فيها، حكاه الهروي، وعال: إذا أعجز، حكاه الأحمر، فهذه ثلاثة معان غير السبعة؛ الرابع: عال: كثر عياله، فجملة معاني عال: أحد عشر معنى.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/483.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لَمَّا نزلت الآية الكريمة السابقة تحرَّجوا عن اليتامى وأموالهم، فنزل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمُ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ أن لا تعدلوا فيهم أو في أموالهم بِأَن تأكلوها، والإقساط: إزالة القسط، أي: الجور، فإنَّ القسط يكون بمعنى الجور كما يكون بمعنى العدل، ومنه ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ﴾ [الجنِّ: 15]، فهمزة (أقسط) للسلب، كأقْرَدَ البعيرَ: أزال قراده.

2. ﴿فَانكِحُواْ﴾ تزوَّجوا ﴿مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ﴾ ما يسهل به لكم العدل معهنَّ، وقد كان تحت بعض منهم عشر نسوة وأكثر، أو ثمان، أو نحو ذلك مِمَّا فوق الأربع، فأمرهم الله أن يخافوا الجور على الأزواج وترك العدل لهنَّ، كما خافوه على اليتامى، إذ لا تنفع التوبة من ذنب مع البقاء على الآخر، وذلك موجب للاقتصار منهنَّ على العدد القليل الذي يتوصَّل معه إلى العدل، أو إن خفتم من تباعات اليتامى وأموالهم فخافوا من الزنى أيضًا فانكحوا ما تكفُّون به أنفسكم عن الزنا، فإنَّه لا ينفعكم الورع عن اليتامى مع عدم تحرُّجكم عن الزنى، أو إن خفتم أن لا تعدلوا في أزواجكم اليتامى فانكحوا من غير النساء اليتامى مِمَّن تدفع عن نفسها سوء الزوج فيها، أو في مالها، وكان الرجل يتزوَّج يتيمة تحت حكمه، فيأكل مالها ويتزوَّجها بأقلَّ من صداقها، وأيضًا لا يُوفي لها ما أصدقها، أو كان الرجل ينفق أموال اليتامى التي عنده على أزواجه الكثيرة، فنهاهم الله تعالى عن تزوُّج الكثير الذي لا يفي به مَالُه، فقال الله تعالى : إنْ خفتم الجور في أموال اليتامى لكثرة مؤونة أزواجكم فلا تنكحوا أكثر من أربع، وإن خفتم في الأربع فتزوجوا ثلاثًا، أو في ثلاث فاثنتين، أو فيهما فواحدة، وعن الحسن: (كانوا يتزوَّجون يتامى تحت حكمهم رغبة في مالهنَّ لا فِيهِنَّ، ويسيئون العشرة، ويتربَّصون موتهنَّ ليرثوهنَّ)

3. استعمل لفظ (مَا) لمن هو عاقل على القِلَّة، أو باعتبار النوع المتَّصف باللذَّة، أو الحلال، أو العدد المبيَّن بعدُ، ونحو ذلك من الأوصاف، وهذه الأمور غير عقلاء، وإنَّما العقلاء الأفراد المتشخِّصة، أو تنزيلاً لهنَّ منزلة غير العاقل لنقص عقلهنَّ، كما يتبادر النقص في الأرقَّاء من قوله تعالى: ﴿مَا مَلَكَتَ اَيْمَانُكُمْ﴾، وإذا اعتبرنا الحلال المذكور وقد تقدَّم نزول ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ إلخ [النساء: 23]، فكأنَّه قيل: انكحوا ما عهد لكم حلُّه وهو ما سوى المحرَّم، وإن تأخَّر نزول ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُم﴾ فالحلال مجملٌ بُـيِّنَ بعدُ، ولا يجوز أن تكون مصدريَّة لبقاء (طَابَ) بلا فاعل، أي: الطيب، أي: ذوات الطيب.

4. ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ عدلت تخفيفًا عمَّا اشتقَّت منه من الألفاظ التي تذكر مرَّتين اختصارا عمَّا لا يحصر، أو يحصر، وأختار جواز ذلك إلى مَعْشر وعُشَار، وأجاز الفرَّاء صرفهنَّ في غير القرآن، وأختار المنع.

5. الخطاب لمن له ولاية على الأيتام ذكورًا وإناثًا، وإذا طابت له امرأة تزوَّجها، وليس العبد كذلك، لقوله تعالى: ﴿لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ﴾ [النحل: 75]، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أيُّما عبد تزوَّج بغير إذن مولاه فنكاحه باطل)، ولا تحلُّ له أربع خلافًا لمالك كما بسطته في الفروع، وَدَلَّ أيضًا على أنَّ الخطاب للأحرار قوله تعالى ﴿فَإنْ خِفْتُمُ أَلَّا تَعْدِلُواْ﴾ بين هذه الأعداد كما تحقَّق وقوع عدم العدل منكم بينهنَّ، وكما خفتم ألَّا تعدلوا في اليتامى ﴿فَوَاحِدَةً﴾ فانكحوا واحدة ﴿اَوْ مَا مَلَكَتَ اَيْمَانُكُمْ﴾ أي: تَسَرَّوْا ما ملكتم، ولو كثرت لعدم وجوب العدل بينهنَّ أو بينهنَّ وبين الحُرَّات، وخفَّة مؤونتهنَّ، ولأنهنَّ مال معرَّضة للبيع مثلاً، ويناسب أنَّه لا يجوز له ما فوق الأربع أنَّ غيلان أسلم وتحته عشر فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أمسك أربعًا وفارق سائرهنَّ)، وأنَّ نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أمسك أربعًا وفارق واحدة)

6. يجوز النظر للخطبة إلى وجه المرأة وكفِّيها، ورخِّص إلى شعرها وذلك برضاها، وقيل ولو بغفلة أو من حيث لا تعلم، وقد أمر صلّى الله عليه وآله وسلّم رجلاً بالنظر.

7. ﴿ذَالِكَ﴾ ما ذكر من نكاح اثنتين، أو ثلاث أو أربع أو واحدة أو التسرِّي، الخطاب عامٌّ عمومًا بدليًّا، فهو مطابق للعموم الشموليِّ في قوله: ﴿أَدْنَى أَلَّا تَعُولُواْ﴾ أقرب إلى انتفاء العول، أي: الجور عليهنَّ، مِن (عَالَ) بمعنى: جار أو مال، فإنَّ ترك الإنصاف لهنَّ ميل عن الحقِّ وهو جور، أو إلى انتفاء كثرة العول، وهو الإنفاق على العيال لقلَّة العيال، كناية بـ (عال يعول) ـ بمعنى: كثر عوله، أي: لازمه من المؤونة ـ عن (عال يعول) بمعنى كثر عياله؛ لأَنَّ كثرتهم تستلزم كثرة العولة، أي: لزومها، ثمَّ إنَّ السُّرِّيـَّات لا يكثر العيال بهنَّ؛ لأَنَّ لهنَّ بيع ما شاء منهنَّ، بلا نفقة في عدَّة إِلَّا الحامل، وله بيعها باستثناء حملها، ولا يكثر العيال بهنَّ من حيث الأولاد؛ لأَنَّ له أن يصبَّ الماء خارج فرج سراريه توصُّلاً إلى أن لا يحملن.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/110.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا﴾ أي أن لا تعدلوا ﴿فِي الْيَتَامَى﴾ أي يتامى النساء، قال الزمخشريّ: ويقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور، وهو جمع يتيمة، على القلب، كما قيل أيامى والأصل أيائم ويتائم.

2. ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ أي من طبن لنفوسكم من جهة الجمال والحسن أو العقل أو الصلاح منهن‏ ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ ومعنى الآية: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن، بإساءة العشرة أو بنقص الصداق، فانكحوا غيرهن من الغريبات فإنهن كثير ولم يضيق الله عليكم، فالآية للتحذير من التورط في الجور والأمر بالاحتياط، وإنّ في غيرهن متسعا إلى الأربع، وروى البخاري‏ عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق (أي نخلة) وكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾، أحسبه قال كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله، ورواه مسلم وأبو داود والنسائيّ، وفي رواية لهم عن عائشة هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه‏ مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سنّتهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن، قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد هذه الآية فأنزل الله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾ [النساء: 127]، قالت عائشة: وقول الله تعالى في آية أخرى: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ [النساء: 127]، رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال، قالت: فنهوا أن ينكحوا عن من رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن، إذا كن قليلات المال والجمال، وفي رواية في قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾ إلى آخر الآية، قالت عائشة: هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله فيرغب عنها أن يتزوجها ويكره أن يزوجها غيره فيدخل عليه في ماله فيحبسها، فنهاهم الله عن ذلك، زاد أبو داود: وقال ربيعة في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾، قال يقول: اتركوهنّ إن خفتم فقد أحللت لكم أربعا.

3. (ما) في قوله تعالى: ما طاب لكم، موصولة، وجاء بـ (ما) مكان (من) لأنهما قد يتعاقبان، فيقع كل واحد منهما مكان الآخر، كما في قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ [الشمس: 5]، وقوله: ﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ [الكافرون: 5] ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾ [النور: 45]، قال بعضهم: وحسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء، وهن ناقصات العقول.

4. في إيثار الأمر بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى، مع أنه المقصود بالذات، مزيد لطف في استنزالهم عن ذلك، فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه، كما أن وصف النساء بالطيب على الوجه الذي أشير إليه، فيه مبالغة في الاستمالة إليهن والترغيب فيهن، وكل ذلك للاعتناء بصرفهم عن نكاح اليتامى، أفاده أبو السعود.

5. اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له، وأنه يجوز لمن لم يخف أن يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة.

6. مثنى وثلاث ورباع معدولة عن أعداد مكررة، ومحلهن النصب على أنها حال من فاعل (طاب) مؤكدة لما أفاده وصف الطيب من الترغيب فيهن، والاستمالة إليهن، بتوسيع دائرة الإذن، أي فانكحوا الطيبات لكم، معدودات هذا العدد، ثنتين ثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، حسبما تريدون، فإن قلت: الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع؟ قلت: الخطاب للجميع، فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له، كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم، درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، ولو أفردت لم يكن له معنى، فإن قلت: فلم جاء العطف بالواو دون (أو)، قلت: كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك، ولو ذهبت تقول: اقتسموا هذا المال درهمين درهمين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة، أعلمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة، وليس لهم أن يجمعوا بينها، فيجعلوا بعض القسم على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع، وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو، وتحريره أن الواو، دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع إن شاؤوا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاؤوا متفقين فيها، محظورا عليهم ما وراء ذلك، أفاده الزمخشري.

7. قال الرازيّ: ذهب قوم سدّى (كحتى، موضع قرب زبيد باليمن) إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد، واحتجوا بالقرآن والخبر(2).

8. قال الشوكانيّ في (وبل الغمام): الذي نقله إلينا أئمة اللغة والإعراب وصار كالمجمع عليه عندهم، أن العدل في الأعداد يفيد أن المعدود لما كان متكثرا يحتاج استيفاؤه إلى أعداد كثيرة كانت صيغة العدل المفرد في قوة تلك الأعداد، فإن كان مجيء القوم مثلا اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة، وكانوا ألوفا مؤلفة، فقلت: جاءني القوم مثنى، أفادت هذه الصيغة أنهم جاؤوا اثنين اثنين، حتى تكاملوا، فإن قلت: مثنى وثلاث ورباع، أفاد ذلك أن القوم جاءوك تارة اثنين اثنين، وتارة ثلاثة ثلاثة، وتارة أربعة أربعة، فهذه الصيغ بينت مقدار عدد دفعات المجي‏ء لا مقدار عدد جميع القوم، فإنه لا يستفاد منها أصلا، بل غاية ما يستفاد منها أن عددهم متكثر تكثرا تشق الإحاطة به، ومثل هذا إذا قلت: نكحت النساء مثنى، فإن معناه نكحتهن اثنتين اثنتين، وليس فيه دليل على أن كل دفعة من هذه الدفعات لم يدخل في نكاحه إلا بعد خروج الأولى، كما أنه لا دليل في قولك: جاءني القوم مثنى، أنه لم يصل الاثنان الآخران إليك إلا وقد فارقك الاثنان الأولان، إذا تقرر هذا فقوله تعالى: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ يستفاد منه جواز نكاح النساء اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا، والمراد جواز تزوج كل دفعة من هذه الدفعات في وقت من الأوقات، وليس في هذا تعرض لمقدار عددهن، بل يستفاد من الصيغ الكثرة من غير تعيين، كما قدمنا في مجيء القوم، وليس فيه أيضا دليل على أن الدفعة الثانية كانت بعد مفارقة الدفعة الأولى، ومن زعم أنه نقل إلينا أئمة اللغة والإعراب ما يخالف هذا، فهذا مقام الاستفادة منه، فليتفضل بها علينا، وابن عباس، إن صح عنه في الآية أنه قصر الرجال على أربع فهو فرد من أفراد الأمة، وأما القعقعة بدعوى الإجماع فما أهونها وأيسر خطبها عند من لم تفزعه هذه الجلبة وكيف‏ يصح إجماع خالفته الظاهرية وابن الصباغ، والعمرانيّ، والقاسم بن إبراهيم، نجم آل الرسول، وجماعة من الشيعة، وثلة من محققي المتأخرين، وخالفه أيضا القرآن الكريم، كما بيناه، وخالفه أيضا فعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما صح ذلك تواترا، من جمعه بين تسع أو أكثر في بعض الأوقات، ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: 7]، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 31] ودعوى الخصوصية مفتقرة إلى دليل، والبراءة الأصلية مستصحبة لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح تنقطع عنده المعاذير، وأما حديث‏ أمره صلّى الله عليه وآله وسلّم لغيلان، لما أسلم وتحته عشر نسوة، بأن يختار منهن أربعا ويفارق سائرهن، كما أخرجه الترمذيّ وابن ماجة وابن حبان، فهو وإن كان له طرق، فقد قال ابن عبد البر: كلها معلولة، وأعله غيره من الحفاظ بعلل أخرى، ومثل هذا لا ينتهض للنقل عن الدليل القرآني والفعل المصطفويّ الذي مات صلّى الله عليه وآله وسلّم عليه والبراءة الأصلية، ومن صحح لنا هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة، أو جاءنا بدليل في معناه، فجزاه الله خيرا، فليس بين أحد وبين الحق عداوة، وعلى العالم أن يوفي الاجتهاد حقه لا سيما في مقامات التحرير والتقرير، كما نفعله في كثير من الأبحاث، وإذا حاك في صدره شيء فليكن تورعه في العمل لا في تقرير الصواب، فإياك أن تحامي التصريح بالحق الذي تبلغ إليه ملكتك، لقيل وقال، ولا سيما في مثل مواطن يجبن عنها كثير من الرجال، فإنك لا تسئل يوم القيامة عن الذي ترتضيه منك العباد بل عن الذي يرتضيه المعبود، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، ومن ورد البحر استقل السواقيا.

9. وقال الشوكانيّ أيضا في (نيل الأوطار): حديث قيس بن الحارث (وفي رواية الحارث بن قيس) في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة، قال أبو القاسم البغويّ: ولا أعلم للحارث بن قيس حديثا غير هذا، وقال أبو عمرو النمري: ليس له إلا حديث واحد ولم يأت به من وجه صحيح، وفي معنى هذا الحديث غيلان الثقفيّ وهو عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال أسلم غيلان الثقفيّ وتحته عشر نسوة، في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره‏ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يختار منهن أربعا، رواه أحمد وابن ماجة والترمذيّ، وحكم أبو حاتم وأبو زرعة بأن المرسل أصح، وحكى الحاكم عن مسلم أن هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة، قال فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة، وقد أخذ ابن حبان والحاكم والبيهقيّ بظاهر الحكم، وأخرجوه من طرق عن معمر من حديث أهل الكوفة وأهل خرسان وأهل اليمامة عنه، قال الحافظ: ولا يفيد ذلك شيئا، فإن هؤلاء كلهم، إنما سمعوا منه بالبصرة، وعلى تقدير أنهم سمعوا منه بغيرها، فحديثه الذي حدث به في غير بلده مضطرب، لأنه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة، وأما إذا رحل فحدث من حفظه بأشياء وهم فيها، اتفق على ذلك أهل العلم، كابن المدينيّ والبخاريّ وابن أبي حاتم ويعقوب بن شيبة وغيرهم، وحكى الأثرم عن أحمد أن هذا الحديث ليس بصحيح، والعمل عليه، وأعله بتفرد معمر في وصله وتحديثه به في غير بلده، وقال ابن عبد البر: طرقه كلها معلولة، وقد أطال الدار قطني في (العلل) تخريج طرقه، ورواه ابن عيينة ومالك عن الزهريّ مرسلا، ورواه عبد الرزاق عن معمر كذلك، وقد وافق معمرا على وصله بحر بن كنيز السقاء عن الزهريّ، ولكنه ضعيف، وكذا وصله يحيى بن سلام عن مالك، ويحيى ضعيف، وفي الباب عن نوفل بن معاوية، عند الشافعي، أنه أسلم وتحته خمس نسوة، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: أمسك أربعا وفارق الأخرى‏، وفي إسناده رجل مجهول، لأن الشافعيّ قال حدثنا بعض أصحابنا عن أبي الزناد عن عبد المجيد بن سهل عن عوف بن الحارث عن نوفل بن معاوية قال أسلمت، فذكره، وفي الباب أيضا عن عروة بن مسعود وصفوان بن أمية عند البيهقيّ، وقوله: اختر منهن أربعا، استدلّ به الجمهور على تحريم الزيادة على أربع، وذهبت الظاهرية إلى أنه يحل للرجل أن يتزوج تسعا، ولعل وجهه قوله تعالى: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾، ومجموع ذلك لا باعتبار ما فيه من العدل، تسع، وحكي ذلك عن ابن الصباغ والعمرانيّ وبعض الشيعة، وحكي أيضا عن القاسم بن إبراهيم، وأنكر الإمام يحيى الحكاية عنه، وحكاه صاحب البحر عن الظاهرية، وقوم مجاهيل، وأجابوا عن حديث قيس بن الحارث المذكور بما فيه من المقال المتقدم، وأجابوا عن حديث غيلان الثقفيّ بما تقدم فيه من المقال، وكذلك أجابوا عن حديث نوفل بن معاوية بما قدمنا من كونه في إسناده مجهول، قالوا: ومثل هذا الأصل العظيم لا يكتفي فيه بمثل ذلك، ولا سيما وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد جمع بين تسع أو إحدى عشرة، وقد قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، وأما دعوى اختصاصه بالزيادة على الأربع فهو محل النزاع، ولم يقم عليه دليل، وأما قوله تعالى: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾، فالواو فيه للجمع لا للتخيير، وأيضا لفظ مثنى معدول به عن اثنين اثنين، وهو يدل على تناول ما كان متصفا من الأعداد بصفته الاثنينية، وإن كان في غاية الكثرة البالغة إلى ما فوق الألوف، فإنك تقول جاءني القوم مثنى أي اثنين اثنين، وهكذا ثلاث ورباع، وهذا معلوم في لغة العرب لا يشك فيه أحد، فالآية المذكورة تدل بأصل الوضع على أنه يجوز للإنسان أن يتزوج من النساء اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا، وليس من شرط ذلك أن لا تأتي الطائفة الأخرى في العدد إلا بعد مفارقته للطائفة التي قبلها، فإنه لا شك أنه يصح، لغة وعرفا، أن يقول الرجل، لألف رجل عنده: جاءني هؤلاء اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة، فحينئذ الآية تدل على إباحة الزواج بعدد من النساء كثير، سواء كانت الواو للجمع أو للتخيير، لأن خطاب الجماعة بحكم من الأحكام بمنزلة الخطاب به لكل واحد منهم، فكأن الله سبحانه وتعالى قال لكل فرد من الناس: انكح ما طاب لك من النساء مثنى وثلاث ورباع، ومع هذا فالبراءة الأصلية مستصحبة، وهي بمجردها كافية في الحل حتى يوجد ناقل صحيح ينقل عنها، وقد يجاب بأن مجموع الأحاديث المذكورة في الباب لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره، فتنتهض بمجموعها للاحتجاج، وإن كان كل واحد لا يخلو عن مقال، ويؤيد ذلك كون الأصل في الفروج الحرمة، كما صرح به الخطابيّ، فلا يجوز الإقدام على شيء منها إلا بدليل، وأيضا هذا الخلاف مسبوق بالإجماع على عدم جواز الزيادة على الأربع، كما صرح بذلك في (البحر)

10. وقال في (الفتح) اتفق العلماء على أن من خصائصه صلّى الله عليه وآله وسلّم الزيادة على أربع نسوة يجمع بينهن، وقد ذكر الحافظ في (الفتح) و(التلخيص) الحكمة في تكثير نسائه صلّى الله عليه وآله وسلّم فليراجع ذلك.

11. وقال في تفسيره (فتح القدير): وقد استدلّ بالآية على تحريم ما زاد على الأربع، وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة، وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد، كما يقال للجماعة: اقتسموا هذا المال، وهو ألف درهم (أو هذا المال الذي في البدرة) درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته، أو عيّن مكانه، أما لو كان مطلقا، كما يقال: اقتسموا الدراهم، ويراد بها ما كسبوه، فليس المعنى هكذا، والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول، على أن من قال لقوم يقتسمون مالا معينا كبيرا: اقتسموه مثنى وثلاث ورباع، فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين، وبعضه ثلاثة ثلاثة، وبعضه أربعة أربعة، كان هذا هو المعنى العربي، ومعلوم أنه إذا قال القائل: جاءني القوم مثنى، وهم مائة ألف، كان المعنى أنهم جاءوه اثنين اثنين، هكذا: جاءني القوم ثلاث ورباع، والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد، كما في قوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾، ﴿أَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ﴾، ونحوها، ومعنى قوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾: لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين وثلاثا وثلاثا وأربعا أربعا، هذا ما تقتضي لغة العرب، فالآية تدل على خلاف ما استدلوا به عليه، ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾، فإنه وإن كان خطابا للجميع فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد، فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن، وأما استدلال من استدلّ بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة وكأنه قال انكحوا مجموع هذا العدد المذكور، فهذا جهل بالمعنى العربيّ، ولو قال انكحوا اثنتين وثلاثا وأربعا كان هذا القول له وجه، وأما مع المجي‏ء بصيغة العدل فلا، وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون (أو) لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره، وذلك ليس بمراد من النظم القرآنيّ.

12. وقال في كتابه (السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار): أما الاستدلال على تحريم الخامسة وعدم جواز زيادة على الأربع بقوله عز وجل: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾، فغير صحيح، كما أوضحته في (شرحي للمنتقى) وقد قدمناه، ولكن الاستدلال على ذلك بحديث قيس بن الحارث وحديث غيلان الثقفيّ وحديث نوفل بن معاوية هو الذي ينبغي الاعتماد عليه، وإن كان في كل واحد منها مقال، لكن الإجماع على ما دلت عليه قد صارت به من المجمع على العمل عليه، وقد حكى الإجماع صاحب (فتح الباري) والمهديّ في (البحر) والنقل عن الظاهرية لم يصح، فإنه قد أنكر ذلك منهم من هو أعرف بمذهبهم.

13. قال الشوكانيّ في (نيل الأوطار) قد تمسك بهذا من قال إنه‏ لا يجوز للعبد أن يتزوج فوق اثنتين، وهو مرويّ عن عليّ‏ وزيد بن عليّ والناصر والحنفية والشافعية، ولا يخفى أن قول الصحابيّ لا يكون حجة على من لم يقل بحجيته، نعم، لو صح إجماع الصحابة على ذلك لكان دليلا عند القائلين بحجية الإجماع، ولكنه قد روي عن أبي الدرداء ومجاهد وربيعة وأبي ثور والقاسم بن محمد وسالم؛ أنه يجوز له أن ينكح أربعا كالحر، حكى ذلك عنهم صاحب (البحر) فالأولى الجزم بدخوله تحت قوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾، والحكم له وعليه بما للأحرار وعليهم، إلا أن يقوم دليل يقتضي المخالفة، كما في المواضع المعروفة، بالتخالف بين حكميهما.

14. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ أي بين هذه الأعداد ﴿فَوَاحِدَةً﴾ أي فاختاروها، وقرئ بالرفع أي فحسبكم واحدة ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي من الإماء، بالغة ما بلغت من مراتب العدد، لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق مثل ما يلزم في الحرائر، ولا قسم لهن.

15. (أو) للتسوية، أي التخيير، والعدد يؤخذ من السياق، ومقابلة الواحدة، قال الزمخشريّ: سوّى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر ولا توقيت عدد، ولعمري إنهن أقل تبعة وأقصر شغبا وأخف مؤنة من المهائر، لا عليك، أكثرت منهن أم أقللت، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل، عزلت عنهن أم لم تعزل.

16. ﴿ذَلِكَ﴾ أي الاقتصار على واحدة أو على التسري‏ ﴿أَدْنَى﴾ أي أقرب‏ ﴿أَلَّا تَعُولُوا﴾ أي من أن لا تميلوا ولا تجوروا، لانتفائه رأسا بانتفاء محله في الأول، وانتفاء خطره في الثاني بخلاف اختيار العدد في المهائر، فإن الميل المحظور متوقع فيه لتحقق المحل والخطر، هذا إن قدر (تعولوا) مضارع عال، بمعنى جار ومال عن الحق، وهو اختيار أكثر المفسرين، ومن الوجوه المحتملة فيه كونه مضارع عال بمعنى كثر عياله، قال في القاموس: وعال فلان عولا وعيالة: كثر عياله، كأعول وأعيل.. وعلى هذا الوجه اقتصر الإمام المهايميّ، قدس سره، في تفسيره حيث قال أي أقرب من أن لا تكثر عيالكم، فيمكن معه القناعة بحيث لا يضطر إلى الجور في أموال اليتامى.. وروي هذا التأويل عن زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشافعيّ، وأما قول ابن كثير في هذا التفسير: هاهنا نظر، فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر كذلك يخشى من تعداد السراري ـ فجوابه (كما قال الرازي) من وجهين:

أ. الأول: ما ذكره القفّال، وهو أن الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب، وإذا اكتسبن أنفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضا، وحينئذ تقل العيال، أما إذا كانت المرأة حرة، لم يكن الأمر كذلك، فظهر الفرق.

ب. الثاني: أن المرأة إذا كانت مملوكة، فإذا عجز المولي عن الإنفاق عليها باعها وتخلص منها، أما إذا كانت حرة فلا بدّ له من الإنفاق عليها، والعرف يدل على أن الزوج ما دام يمسك الزوجة فإنها لا تطالبه بالمهر، فإذا حاول طلاقها طالبته بالمهر فيقع الزوج في المحنة.

17. قال بعض المفسرين: دلت الآية على أنه يجب بالنكاح حقوق، وتدل على أن من خشي الوقوع فيما لا يجوز، قبح منه ما دعا إلى ذلك القبيح، فلا يجوز لمن عرف أنه يخون مال اليتيم إذا تزوج أكثر من واحدة، أن يتزوج أكثر، وكذا إذا عرف أنه يخون الوديعة ولا يحفظها، فإنه لا يجوز له قبول الوديعة، وتدل على أن العدل واجب بين الزوجات، وأن من عرف أنه لا يعدل فإنه لا تحل له الزيادة على واحدة، وتدل على أن زواجه الصغيرة من غير أبيها وجدّها جائز، وللفقهاء مذاهب في ذلك معروفة.

18. في سرّ ما تشير إليه الآية من إصلاح النسل، قال بعض علماء الاجتماع من فلاسفة المسلمين في مقالة عنوانها (الإسلام وإصلاح النسل) ما مثاله: ما زال البشر يسعى منذ ألوف من السنين وراء إصلاح ما يقتنيه من خيل وبقر وغنم ليكثر انتفاعه به، فيختار لإناث هذه الحيوانات أفحلا كريمة، هي على ما يرومه من الصفات، ليحصل منها على نسل أنفع له من أمهاته، وقد زادت رغبة الناس بهذا العصر في إصلاح النوع النافع من الحيوان، فضرّبوه ورقوه باختيار الأفحل المناسبة، حتى حصلوا على صنف من الخيل الجياد تسابق الرياح فتجري مترا في الثانية من الزمن، وعلى صنف من البقر تحلب في اليوم الواحد خمسين أقة، وعلى صنف من المعزى والغنم شعره أو صوفه مثل الحرير نعومة، ولم يقصر إصلاحهم على الحيوان، بل تجاوز إلى النبات، فحصلوا بفضله على أشجار كثيرة الثمر لذيذته، وانتفعوا انتفاعا كبيرا، ما تيسر لأسلافهم، نعم إن البشر افتكروا في إصلاح الحيوان الصامت والنبات، وعلموا ما فيه من الفوائد، فسعوا إليه السعي الذي يرضاه العلم، وجنوا ثمار ذلك السعي، ولكنهم ما افتكروا في إصلاح ما هو أهمّ من كل ذلك: في إصلاح الحيوان الذكيّ، والشرير أكثر من الصالح، والجبان أكثر من الشجاع، والكاذب أكثر من الصادق، والكسلان أكثر من أخي الجد النشيط، ولو أنهم أصلحوا نسلهم لما وجد في الناس من يولد مريضا ويعيش مريضا، فلا ينتفع بوجوده المجتمع، وهو كثير، قام من بين هذا الجيل فيلسوفان: ألمانيّ وانكليزيّ، وأخذا يعلمان بكتاباتهما المبنيّة على البراهين وجوب إصلاح الإنسان لنسل الإنسان، ويعددان فوائد الإصلاح لنوعه، ويبيّنان للملأ أن الرقي المطلوب لا يتم إلا به، وطفقا يلومان الناس على اعتنائهم بإصلاح المواشي وإهمالهم إصلاح أنفسهم، الأمر الذي هو أهم من ذلك كثيرا، وذكرا لذلك طرقا:

أ. (منها) منع أصحاب العاهات والأمراض المزمنة وأولي الجرائم الكبيرة من الزواج لينقطع نسلهم الذي يجيء غالبا على شاكلتهم.

ب. (ومنها) إباحة تعدد الزوجات للنابغين من الرجال ليكثر نسلهم، وقالا: إذا جرى المجتمع على هذا الانتخاب الصناعي قرونا عديدة كان نسل الإنسان الأخير، بحكم ناموس الوراثة، سالما من الأمراض، حسن الطوية، ليس فيه ميل إلى الشر، قويّا، ذكي الفؤاد، نابغا في العلوم، التي يتعلمها، كأنه نوع أرقى من الإنسان الحاضر، وكانت أهم طريقة أبدياها للارتقاء المنتظر للبشر في المستقبل، هي طريقة تعدد الزوجات في الحاضر للنابغين من الناس، فإن منع أصحاب الأمراض المزمنة والجناة من الزواج إنما يفيد في تقوية النسل وجعله ميالا بالفطرة إلى الخير ليس إلا، لا في جعله أذكى من آبائه وأسمى مدارك، وتعدد الزوجات للنابغين من المسلمين.

19. جاء به الإسلام قبل هذين الفيلسوفين بأكثر من ألف وثلاثمائة سنة، فقد أباح لهم تعددهن إلى‏ أربع، ليكثر نسلهم، فيكثر عدد النابغين، الذين بهم وحدهم تتم الأعمال الكبيرة في هذه الدنيا، فهو من مكتشفات هذا الدين الاجتماعية، وقد جعل رضاهن بذلك شرطا له لئلا يكون فيه إجحاف بحقوقهن، والعاقلة من النساء تفضل أن تكون زوجة لنابغة من الرجال ـ وإن كان ذا زوجات أخر ـ على أن تكون زوجة لرجل أحمق، وإن اقتصر عليها، لأنها تعلم أن أولادها من الأول ينجبون أكثر منهم من الثاني، وأما غير النابغين منهم فإن الدين يمنعهم من نكاح أكثر من واحدة، لئلا يكثر نسلهم، قال الله تعالى في كتابه المبين يخاطب المؤمنين: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ الخطاب في هذه الآية لعموم الأمة، فهي تأذن لكل أحد من المسلمين أن يتزوج بأكثر من واحدة من النساء إلى أربع، إذا آنس من نفسه القدرة على العدل بينهن، وإلا وجب عليه الاقتصار على واحدة لئلا يجور عليهن، والقدرة على العدل بين أربع من النساء، متوقف على عقل كبير وسياسة في الإدارة وحكمة بالغة في المعاملة، لا تتأتى إلا لمن كان نابغة بين الرجال، ذا مكانة من العقل ترفعه على أقرانه، والرجل النابغة، إذا تزوج بأكثر من واحدة، كثر نسله فكثر النوابغ، والشعب الذي يكثر نوابغه أقدر على الغلبة في تنازع البقاء من سائر الشعوب، كما يدلنا عليه التاريخ، ثم خاطب الله، في مكان آخر، الخائفين أن لا يعدلوا بين النساء؛ وهم غير النوابغ من المسلمين، بقوله: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾، فأمرهم في هذه الآية، التي هي في المعنى تتمة للأولى، أن لا يقترنوا بأكثر من واحدة لأنهم في درجة من العقل هي دون درجة النابغين، لن يستطيعوا معها إتيان العدل بين النساء، المتوقف على عقل كبير يسهل لصاحبه أن يرضيهن جمعاء، كما يأتيه النابغون والدهاة من الناس، وحرم على هؤلاء، الذين لم يجوزوا المقدرة على العدل، التزوج بأكثر من واحدة، لئلا يقع الظلم من الرجال على النساء، وهو كثير الصدور من الأوساط ومن كان دونهم في سلم الارتقاء، ولئلا يكثر نسل غير النابغين، وهو الأهم، فتبقى الأمة في مكانها من الانحطاط.

20. قد تقدم أن الخطاب في قوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ في الآية الأولى لعموم الأمة، غير أن الشرط بالعدل جعله خاصّا بالعادلين منهم، وهم النابغون الذين يقتدرون على إتيان العدل بين النساء لوفور عقلهم، والغاية من أمر هذا الصنف من المسلمين أن يتزوجوا بأكثر من واحدة إلى أربع، هو تكثير نسلهم ليستفيد من كثرة أمثالهم المجتمع، كما أسلفنا، ولكن النابغة لا يأتي نسله في الغالب نوابغ، بمجرد تعدد الزوجات، فإن الزوجة المتوسطة أو المنحطة يكون‏ أولادها في الغالب أوساطا أو منحطين، وإن كان أبوهم راقيا، فلا تحصل الفائدة المطلوبة من تعدد الزوجات وهي إصلاح النسل، بل يجب للحصول على هذا المطلب الأسنى أن يقترن النابغون بالنابغات، ليكون أولادهم مثلهم نبوغا أو أنبغ منهم، بحكم سنة الوراثة، وذلك إنما يتم إذا أحسن النابغون اختيار الأزواج، فنكحوا ما طاب لهم، والنابغة لا يطيب له أن يقترن إلا بمن جمعت نبوغا مثل نبوغه، إلى حسن رائع، فإن معاشرة الحمقاء ليس مما يطيب للعاقل الراقي، وإن الخير يطلب عند حسان الوجوه، ولذلك قال تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ ولم يقل وانكحوا من النساء، وفي قوله تعالى: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ إشارة إلى مراتب نبوغ الرجل، الثلاث، فكأنه أراد أن لا يتجاوز، الذي قلّ نبوغه، الاقتران باثنتين، وأن لا يتجاوز، الذي نبوغه متوسط، الاقتران بثلاث، وأن يحل، للذي نبوغه أعلى من الأولين، الاقتران بأربع.

21. أما الخائفون أن لا يعدلوا فيجب أن لا يتجاوزوا الاقتران بواحدة، لأنهم أناس لن يستطيعوا، مع كل حرصهم، أن يعدلوا بين النساء، لقصور عقلهم في سياسة المنزل وعدم نبوغهم، وهناك إنسان نبوغه أكبر من كل نبوغ، هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، الذي اختاره الله لوفور حكمته رسولا منه إلى البشر، قد أحل له أن يقترن بأكثر من أربع لقدرته على العدل بينهن.

22. أظنك، بعد قراءة ما أوردت، تعترف، إن كنت من المنصفين، أن الإسلام جاء، قبل أكثر من ألف وثلاثمائة عام، بسنّة للزواج، عليها وحدها يتوقف إصلاح نسل البشر، الذي أخذ في هذا القرن أفراد من فلاسفة الغرب يحضّون عليه، تلك السنة هي تعدد الزوجات بعد أن كان الرأي العام في الغرب يعيبه عليها، هذا هو الإسلام يقرر أكبر قاعدة للترقي، وهو إباحة تعدد الزوجات، اللاتي يطبن لوفور جمالهن وعقلهن، لأفراد نابغين من المسلمين، لا يخافون لوفور عقلهم أن لا يعدلوا بينهن، ولكن المسلمين لم يأتمروا بأمر الله، فأباحوا هذا التعدد لكل أحد من المسلمين، للخائفين أن لا يعدلوا، ولغير الخائفين، ففسد النسل، والذي أعان على فساده هو كون القدرة عليه أصبحت، بحكم الجهل، منحصرة في المال الذي يجمعه الغاصب والسارق والكاسب، فكثر نسل الظالمين وقلّ نسل العادلين من أهل العقل الراجح، انتهى كلامه، وهو استنباط بديع.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/13.

(2) نقل ما ذكره الرازي الذي سبق ذكره.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ هذا حكم من أحكام السورة متعلق بالنساء بمناسبة اليتامى وقيل باليتامى بأنفسهم أصالة وأموالهم تبعا وما قبله متعلق بالاموال خاصة، ففي الصحيحين وسنن النسائى والبيهقى والتفسير عند ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن عروة بن الزبير أنه سأل خالته عائشة أم المؤمنين عن هذه الآية فقالت: (يا ابن أختى هذه اليتيمة تكون في حجر وليها يشركها في مالها ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوحها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهن الا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن)، قال عروة قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله عز وجل‏ ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ قالت: والذى ذكر الله أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الاولى التي قال الله فيها ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ قالت عائشة: وقول الله في الآية الأخرى‏ ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن.

2. وفي رواية أخرى في الصحيح عنها قالت: انزلت في الرجل تكون له اليتيمة وهو وليها ووارثها ولها مال وليس لها أحد يخاصم دونها فلا ينكحها لما لها فيضربها ويسيء صحبتها فقال‏ ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى‏ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ﴾ يقول: خذ ما احللت لكم ودع هذه التي تضربها وفي رواية صحيحة أخرى عنها فيما يحال على هذه الآية في الآية الأخرى وهو قوله‏: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ قالت أنزلت في اليتيمة تكون عند الرجل فتشركه في ماله فيرغب عنها أن يتزوجها ويكره أن يزوجها غيره فيشركه في مالها فيعضلها فلا يتزوجها ولا يزوجها غيره.

3. على هذا تكون الآية مسوقة في الأصل للوصية بحفظ حق يتامى النساء في أموالهن وأنفسهن والمراد باليتامى فيها النساء وبالنساء غير اليتامى أي ان خفتم أن لا تقسطوا أي أن لا تعدلوا في يتامى النساء فتعاملوهن كما تعاملون غيرهن في المهر وغيره أو أحسن فاتركوا التزوج بهن وتزوجوا ما حل لكم أو ما راق لكم وحسن في أعينكم من غيرهن، قال ربيعة: اتركوهن فقد أحللت لكم أربعا، أي وسع عليهم في غيرهن حتى لا يظلموهن، وقال الأستاذ بعد أن أورد قول عائشة بالمعنى مختصرا: كأنه يقول إذا أردتم التزوج باليتيمة وخفتم أن تسهل عليكم الزوجية أن تأكلوا أموالها فاتركوا التزوج بها وانكحوا ما طاب لكم من النساء الرشيدات.

4. الربط بين الشرط والجزاء على هذا القول من أقوال عائشة ظاهر ولا يظهر على رواية العضل وهو منعهن من التزوج إلا أن كانوا يعتذرون عن العضل بارادة التزوج بهن ويمطلون في ذلك، وقال ابن جرير: بعد أن ذكر عن بعضهم تفسير الآية بما أيده بالروايات عن عائشة: وقال آخرون بل معنى ذلك النهى عن نكاح ما فوق الأربع حذرا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم، وذلك أن قريشا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والاكثر والافل، فاذا صار معدما مال على مال يتيمه الذي في حجره فأنفقه أو تزوج به فنهوا عن ذلك وقيل لهم إن خفتم على أموال أيتامكم أن تنفقوها فلا تعدلوا فيها من أجل حاجتكم اليها لما يلزمكم من مؤن نسائكم فلا تجاوزوا فيما تنكحون من عدد النساء على أربع وإن خفتم ايضا من الأربع ان لا تعدلوا في اموالهم فاقتصروا على الواحدة أو على ما ملكت أيمانكم، ثم روى بأسانيده عن عكرمة أنهم كانوا يتزوجون كثيرا ويتغايرون في الكثرة ويغيرون على أموال اليتامى من اجل ذلك، وروى عن ابن عباس ان الرجل كان يتزوج بمال اليتيم ما شاء الله تعالى فنهوا عن ذلك، وعنه انه قال: (قصر الرجال على اربع من اجل اموال اليتامى)‏.. والافضاء بذلك إلى أكل أموال اليتامى قد جعل حجة على تقليل التزوج‏ لظهور قبحه وفي ذلك التعدد من المضرات الآن ما لم يكن يظهر مثله في عهد التتزيل كما يأتي بيانه قريبا.

5. ثم أورد ابن جرير في الآية وجها ثالثا فقال: وقال آخرون بل معنى ذلك أن القوم كان يتحوبون في أموال اليتامى ولا يتحوبون في النساء أن لا يعدلوا فيهن، فقيل لهم كما خفتم ألا تعدلوا في اليتامى فكذلك فخافوا في النساء ألا تعدلوا فيهن ولا تنكحوا منهن إلا من واحدة إلى الاربع ولا تزيدوا عن ذلك، وإن خفتم أيضا أن لا تعدلوا في الزيادة عن الواحدة فلا تنكحوا إلا ما لا تخافون أن تجورا فيهن من واحدة أو ما ملكت أيمانكم، ثم أورد ابن جرير الروايات التي تؤيد ذلك عن سعيد بن جبير والسدى وقتادة، وعن ابن عباس أيضا من طريق عبد الله ابن صالح أنه قال في الآية: كانوا في الجاهلية ينكحون عشرا من النساء الايامى وكانوا يعظمون شأن اليتيم فتفقدوا من دينهم شأن اليتيم وتركوا ما كانوا ينكحرن في الجاهلية (أى لم يتفقدوه في الاسلام ويتأثموا مما فيه من ظلم النساء) فقال:‏ ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ ونهاهم عما كانوا ينكحون في الجاهلية، وروى نحوه عن الضحاك وفيه أنهم كانوا ينكحون عشرا من النساء ونساء آبائهم وأنه وعظهم في اليتامى وفي النساء، وروى نحوه أيضا عن الربيع ومجاهد.

6. قال أبو جعفرابن جرير: أولى الاقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية قول من قال تأويلها وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فكذلك فخافوا في النساء فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون ان تجوروا فيه منهن من واحدة إلى الاربع فان خفتم الجور في الواحدة أيضا فلا تنكحوها ولكن عليكم بما ملكت أيمأنكم فإنه أجرى أن لا نجوروا عليهن‏ قال: وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الآية لان الله جل ثناؤه افتتح الآية التي قبلها بالنهى عن أكل أموال اليتامى بغير حقها وخلطها بغيرها من الأموال فقال تعالى ذكره‏ ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ الآية، ثم أعلمهم أنهم ان اتقوا الله في ذلك فتحرجوا فيه فالواجب عليهم من اتقاء الله والتحرج في أمر النساء مثل الذى‏ عليهم من التحرج في أمر اليتامى وأعلمهم كيف التخلص لهم من الجور فيه كما عرفهم المخلص من الجور في أموال اليتامى، فقال: انكحوا إن أمنتم الجور في النساء على أنفسكم ما أبحت لكم منهن مثنى وثلاث ورباع الخ ما تقدم عنه آنفا ثم قال: ففي الكلام إذا كان المعنى ما ذكرنا متروك استغنى بدلالة ما ظهر من الكلام عن ذكره وذلك أن معنى الكلام: وإن خفتم أن لا تقسطوا في أموال اليتامى فتعدلوا فيها فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء التي أوجبها الله عليكم فلا تتزرجوا منهن إلا ما أمنتم معه الجور الخ، ثم بين أن جواب الشرط في قوله تعالى ﴿فإن خفتم ألا تعدلوا في اليتامى﴾ هو قوله‏: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ مع ضميمة قوله‏: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ فان هذا أفهم أن اللازم المراد من قوله‏: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ هو العدل والاقساط في النساء والتحذير من ضده وهو عدم الاقساط فيهن الذي يجب أن يخاف كما يخاف عدم الاقساط في اليتامى لأن كلا منهما مفسدة في نظام الاجتماع تغضب الله وتوجب سخطه ويؤكده قوله تعالى‏ ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ وقد بيناه بأوضح مما بينه هو به‏

7. على هذا الوجه الذي اختاره ابن جرير يكون الكلام في العدل في النساء تقليل العدد الذي ينكح منهن مع الثقة بالعدل مقصودا لذاته وهو الذي يليق بالمسألة في ذاتها لانها من أهم المسائل الاجتماعية ويناسب أن يكون في أوائل السورة التي سميت سورة النساء، وأما على الوجه الذي قالته عائشة وهو الذي اختاره محمد عبده في الدرس فمسالة تعدد الزوجات جاءت بالتبع لا بالاصالة، وكذلك على الوجه الثالث الذي يقول إن المراد منعهم من التعدد الذي يحتاجون فيه إلى أموال اليتامى لينفقوا على أزواجهم الكثيرات، وهذا أضعف الوجوه وإن قال الرازي إنه اقربها.

8. قد يصح ان يقال إنه يجوز أن يراد بالآية مجموع تلك المعاني من قبيل رأى الشافعية الذين يجوزون استعمال اللفظ المشترك في كل ما يحتمله الكلام من معانيه واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معا: والذى يقرره كاتب هذا الكلام في دروس التفسير دائما هو أن كل ما يتناوله اللفظ من المعاني المتفقة يجوز أن يكون مرادا منه لا فرق في ذلك بين المفرادت والجمل، وعلى هذا تكون الآية مرشدة إلى إبطال كل تلك الضلالات والمظالم التي كانت عليها الجاهلية في أمر اليتامى وأمر النساء من التزوج باليتامى بدون مهر المثل والتزوج بهن طمعا في أموالهن يأكلها الرجل بغير حق، ومن عضلهن ليبقى الولى متمتعا بمالهن لا ينازعه فيه الزوج ومن ظلم النساء بتزوج الكثيرات منهن مع عدم العدل بينهن ـ فمن لم يفهم هذا كله من هذه الآية فهمه من مجموع الآيات هنا.

9. قال محمد عبده: جاء ذكر تعدد الزوجات في سياق الكلام عن اليتامى والنهى عن أكل أموالهن ولو بواسطة الزوجية فقال: إن أحسستم من أنفسكم الخوف من أكل مال الزوجة اليتيمة فعليكم أن لا تتزوجوا بها فان الله تعالى جعل لكم مندوحة عن اليتامى بما أباحه لكم من التزوج بغيرهن إلى أربع نسوة ولكن ان خفتم أن لا تعدلوا بين الزوجات أو الزوجتين فعليكم أن تلتزموا واحدة فقط، والخوف من عدم العدل يصدق بالظن والشك فيه بل يصدق بتوهمه أيضا، ولكن الشرع قد يغتفر الوهم لأنه قلما يخلو منه علم بمثل عذه الامور، فالذى يباح له ان يتزوج ثانية أو أكثر هو الذي يثق من نفسه بالعدل بحيث لا يتردد فيه أو يظن ذلك ويكون التردد فيه ضعيفا، قال: ولما قال‏ ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ علله بقوله‏: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ أى اقرب من عدم الجور والظلم فجعل البعد من الجور سببا في التشريع وهذا مؤكد لاشتراط العدل ووجوب تحريه ومنبه إلى أن العدل عزيز، وقد قال تعالى في آية أخرى من هذه السورة ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ وقد يحمل هذا على العدل في ميل القلب ولولا ذلك لكان مجموع الآيتين منتجا عدم جواز التعدد بوجه ما، ولما كان يظهر وجه قوله بعد ما تقدم من الآية ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ والله يغفر للعبد ما لا يدخل تحت طاقته من ميل قلبه.. فمن تأمل الآيتين علم ان إباحة تعدد الزوجات في الاسلام امر مضيق فيه اشد التضييق كأنه ضرورة من الضرورات التي تباح لمحتاجها بشرط الثقة باقامة العدل والأمن من الجور، واذا تأمل المتأمل مع هذا التضييق ما يترتب على التعدد في هذا الزمان من المفاسد جزم بأنه لا يمكن لاحد ان يربى أمة فشا فيها تعدد الزوجات فان البيت الذي فيه زوجتان لزوج واحد لا تستقيم له حال ولا يقوم فيه نظام، بل يتعاون الرجل مع زوجاته على إفساد البيت كأن كل واحد منهم عدو للآخر ثم يجيء الأولاد بعضهم لبعض عدو، فمفسدة تعدد الزوجات تنتقل من الافراد إلى البيوت ومن البيوت إلى الأمة.

10. قال: كان للتعدد في صدر الاسلام فوائد أهمها صلة النسب والصهر الذي تقوى به العصبية ولم يكن له من الضرر مثل ماله الآن لأن الدين كان متمكنا في نفوس النساء والرجال وكان أذى الضرة لا يتجاوز ضرتها، أما اليوم فان الضرر ينتقل من كل ضرة إلى ولدها إلى والده الى سائر أقاربه فهي تغرى بينهم العداوة والبغضاء: تغرى ولدها بعداوة اخوته وتغرى زوجها بهضم حقوق ولده من غيرها وهو بحماقته يطيع أحب نسائه اليه فيدب الفساد في العائلة كلها ولو شئت تفصيل الرزايا والمصائب المتولدة من تعدد الزوجات لأتيت بما تقشعر منه جلود المؤمنين فمنها السرقة والزنا والكذب والخيانة والجبن والتزوير بل منها القتل حتى قتل الولد والده والوالد ولده والزوجة زوجها والزوج زوجته كل ذلك واقع ثابت في المحاكم ـ وناهيك بتربية المرأة التي لا تعرف قيمة الزوج ولا قيمة الولد وهى جاهلة بنفسها وجاهلة بدينها لا تعرف منه إلا خرافات وضلالات تلقفتها من أمثالها يتبرأ منها كل كتاب منزل وكل نبيّ مرسل، فلو تربى النساء تربية دينية صحيحة يكون بها الدين هو صاحب السلطان الأعلى على قلوبهن بحيث يكون هو الحاكم على الغيرة لما كان هنالك ضرر على الأمة من تعدد الزوجات وإنما كان يكون ضرره قاصرا عليهن في الغالب، أما والامر على ما نرى ونسمع فلا سبيل إلى تربية الأمة مع فشو تعدد الزوجات فيها فيجب على العلماء النظر في هذه المسألة خصوصا الحنفية منهم الذين بيدهم الأمر وعلى مذهبهم‏ الحكم فهم لا ينكرون أن الدين أنزل لمصلحة الناس وخيرهم وأن من أصوله منع الضرر والضرار فاذا ترتب على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيما قبله فلا شك في وجوب تغير الحكم وتطبيقه على الحال الحاضرة: يعنى على قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، قال وبهذا يعلم أن تعدد الزوجات محرم قطعا عند الخوف من عدم العدل‏ هذا ما قاله محمد عبده في الدرس الأول الذي فسر فيه الآية.

11. ثم قال في الدرس الثاني: تقدم أن اباحة تعدد الزوجات مضيقة قد اشترط فيها ما يصعب تحققه فكأنه نهى عن كثرة الأزواج، وتقدم أنه يحرم على من خاف عدم العدل أن يتزوج أكثر من واحدة ولا يقهم منه كما فهم بعض المجاورين أنه لو عقد في هذه الحالة يكون العقد باطلا أو فاسدا فان الحرمة عارضة لا تقتضى بطلان العقد فقد يخاف الظلم ولا يظلم وقد يظلم ثم يتوب فيعدل فيعيش عيشة حلالا قال: أما قوله تعالى:‏ ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ فهو معطوف على قوله (فواحدة) أي فالزموا زوجا واحدة أو أمسكوا زوجا واحدة مع العدل ـ وهذا فيمن كان متزوجا كثيرات ـ أو الزموا ما ملكت أيمانكم واكتفوا بالتسرى بهن بغير شرط.

12. ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ أي أقرب إلى عدم العول وهو الجور فان العدل بين الاماء في الفراش غير واجب إذ لا حق لهن فيه وإنما لهن الحق في الكفاية بالمعروف، وهذا لا يفيد حل ما جرى عليه المسلمون منذ قرون كثيرة من الاسراف في التمتع بالجوارى المملوكات بحق أو بغير حق مهما ترتب على ذلك من المفاسد كما شوهد ولا يزال يشاهد في بعض البلاد إلى الآن.

13. هذا وإن تعدد الزوجات خلاف الأصل الطبيعي في الزوجية فان الاصل أن يكون للرجل امرأة واحدة يكون بها كما تكون به زوجا ولكنه ضرورة تعرض للاجتماع ولا سيما في الأمم الحربية كالامة الاسلامية فهو انما أبيح للضرورة واشترط فيه عدم الجور والظلم، ولهذه المسألة مباحث أخرى كبحث حكمة التعدد والعدد وبحث امكان منع الحكام لمفاسد التعدد بالتضييق فيه إذا عم ضرره كما هي الحال في البلاد المصرية كما يقال فان الذين يتزوجون أكثر من واحدة يكثرون هنا ما لا يكثرون في بلاد الشام وبلاد الترك مع كون الأخلاق في البلاد المصرية أشد فسادا منها هناك في الغالب، ولنا في حكمة التعدد فتوى نشرناها في المجلد السابع من المنار.

14. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالتعدد، وما يرتبط به من حكم وأحكام، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

__________

(1) تفسير المنار: ‏4/345.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ أي وإن أحسستم من أنفسكم الخوف من أكل مال الزوجة اليتيمة فعليكم ألا تتزوجوا بها فان الله جعل لكم مندوحة عن اليتامى بما أباحه لكم من التزوّج بغيرهن واحدة أو ثنتين أو ثلاثا أو أربعا، وتقول العرب في كلامها اقتسموا ألف الدرهم هذا درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة على معنى أن كل واحد يأخذ درهمين فحسب أو ثلاثة أو أربعة ولو أفردت وقلت اقتسموه درهمين وثلاثة وأربعة لم يسغ استعمالا.

2. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ أي ولكن إن خفتم ألا تعدلوا بين الزوجين أو الزوجات فعليكم أن تلزموا واحدة فقط، والخوف من عدم العدل يصدق بالظن والشك في ذلك، فالذى يباح له أن يتزوج ثانية أو أكثر هو من يثق من نفسه بالعدل ثقة لا شك فيها.

3. ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي اقتصروا على واحدة من الحرائر وتمتعوا بمن تشاءون من السراري لعدم وجوب العدل بينهن، ولكن لهن حق الكفاية في نفقات المعيشة بما يتعارفه الناس.

4. ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ أي اختيار الواحدة أو التسرى أقرب من عدم الجور والظلم.

5. الخلاصة ـ إن البعد من الجور سبب في تشريع الحكم، وفي هذا إيماء إلى اشتراط العدل ووجوب تحرّيه، وإلى أنه عزيز المنال كما قال تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾، والعدل إنما يكون فيما يدخل تحت طاقة الإنسان كالتسوية في المسكن والملبس ونحو ذلك، أما ما لا يدخل في وسعه من ميل القلب إلى واحدة دون أخرى فلا يكلف الإنسان بالعدل فيه.

6. استبان لك مما سلف أن إباحة تعدد الزوجات مضيق فيها أشد التضييق، فهي ضرورة تباح لمن يحتاج إليها بشرط الثقة باقامة العدل والأمن من الجور، وإن من يرى الفساد الذي يدب في الأسر التي تتعدد فيها الزوجات ليحكم حكما قاطعا بأن البيت الذي فيه زوجتان أو أكثر لرجل واحد لا تستقيم له حال ولا يستتب فيه نظام، فانك ترى إحدى الضرتين تغرى ولدها بعداوة إخوته، وتغرى زوجها بهضم حقوق ولده من غيرها، وكثيرا ما يطيع أحب نسائه إليه فيدب الفساد في الأسرة كلها، إلى أن ذلك ربما جر إلى السرقة والزنا والكذب والقتل فيقتل الولد والده والوالد ولده والزوجة زوجها، والعكس بالعكس كما دونت ذلك سجلات المحاكم، فيجب على رجال القضاء والفتيا الذين يعلمون أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وأن من أصول الدين منع الضرر والضرار، أن ينظروا إلى علاج لهذه الحال ويضعوا من التشريع ما يكفل منع هذه المفاسد على قدر المستطاع.

7. الأصل في السعادة الزوجية أن يكون للرجل زوج واحدة، وذلك منتهى الكمال الذي ينبغي أن يربى عليه الناس ويقنعوا به، لكن قد يعرض ما يدعو إلى مخالفة ذلك لمصالح هامة تتعلق بحياة الزوجين، أو حاجة الأمة فيكون التعدد ضربة لازب لا غنى عنه، ومن ذلك:

أ. أن يتزوج الرجل امرأة عاقرا وهو يود أن يكون له ولد، فمن مصلحتها أو مصلحتهما معا أن تبقى زوجا له ويتزوج بغيرها، ولا سيما إذا كان ذا جاه وثروة كأن يكون ملكا أو أميرا.

ب. أن تكبر المرأة وتبلغ سن اليأس ويرى الرجل حاجته إلى العقب، وهو قادر على القيام بنفقة غير واحدة وكفاية الأولاد الكثيرين وتعليمهم.

ج. أن يرى الرجل أن امرأة واحدة لا تكفيه لإحصانه لأن مزاجه الخاص يدفعه إلى الحاجة إلى النساء، ومزاجها بعكس هذا، أو يكون زمن حيضها طويلا يأخذ جزءا كبيرا من الشهر فهو حينئذ أمام أحد أمرين: إما التزوج بثانية، وإما الزنا الذي يضيع الدين والمال والصحة، ويكون هذا شرا على الزوجة من ضم واحدة إليها مع العدل بينهما كما هو شرط الإباحة في الإسلام.

د. أن تكثر النساء في الأمة كثرة فاحشة كما يحدث عقب الحروب التي تجتاح البلاد فتذهب بالألوف المؤلفة من الرجال، فلا وسيلة للمرأة في التكسب في هذه الحال إلا ببيع عفافها، ولا يخفى ما بعد هذا من شقاء على المرأة التي تقوم بالإنفاق على نفسها وعلى ولد ليس له والد يكفله، ولا سيما عقب الولادة ومدة الرضاعة.

8. المشاهد أن اختلاط النساء بالرجال في المعامل ومحال التجارة وغيرها من الأماكن العامة قد جر إلى كثير من هتك الأعراض والوقوع في الشقاء والبلاء حتى كتبت غير واحدة من الكاتبات الإنجليزيات، وأبانت أن هذا التدهور الخلقي لا علاج له إلا بتعدد الزوجات، مع أن هذا ضد مصلحة المرأة، وهى تنفر منه بمقتضى شعورها ووجدانها:

أ. وهاك ما قالته إحداهن في بعض جرائدهن بإيجاز وتلخيص: (لقد كثرت الشاردات من بناتنا وقل الباحثون عن أسباب هذا البلاء، وإنى لأنظر إليهن وقلبي ينفطر أسى وحزنا عليهن، وما ذا يفيد بثي وحزنى وإن شاركنى فيه الناس جميعا، لا فائدة إلا العمل على ما يمنع هذه الحال، وهو كما رأى (تومس) إباحة التزوج بأكثر من واحدة وبهذه الوسيلة تصبح بناتنا ربات بيوت، إذ لم يجر إلى هذا البلاء إلا إجبار الأوربى على الاكتفاء بامرأة واحدة، فهو الذي جعل بناتنا شوارد وقذف بهن إلى أعمال الرجال ولا بد أن يتفاقم الشر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة، فأى ظن وحدس يحيط بعدد الرجال‏ المتزوجين الذين لهم أولاد من السفاح وقد أصبحوا عالة وعارا على المجتمع ولو أبيح التعدد لما حاق بأولئك الأولاد وبأمهاتهم ما هم فيه من عذاب ولسلم عرضهن وعرض أولادهن من فداحة الحال التي نراها الآن)

ب. ونشرت كاتبة أخرى (مس إني رود) في جريدة أخرى تقول: لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو شبه خوادم خير لهن وللمجتمع من اشتغالهن في المعامل حيث تلوّث البنت بأدران الرذيلة التي تبقى لاصقة بها مدى حياتها، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة، والخادم والرقيق ينعمان بأرغد عيش ويعاملان كما يعامل أولاد البيت ولا تمس الأعراض بسوء، وإنه لعار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مثلا للرذائل بكثرة مخالطتهن الرجال، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها وتقوم بأعمال البيت وتترك أعمال الرجال للرجال فذلك أضمن لعفافها وهو الكفيل بسعادتها.

9. صفوة القول: إن تعدد الزوجات يخالف المودة والرحمة وسكون النفس إلى المرأة وهى أركان سعادة الحياة الزوجية، فلا ينبغي لمسلم أن يقدم عليه إلا ضرورة مع الثقة بما أوجبه الله من العدل، وليس وراء ذلك إلا ظلم المرء لنفسه وامرأته وولده وأمته.

10. راعى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم النصيحة في اختيار كل زوجة من زوجاته، فجذب إليه كبار القبائل بمصاهرتهم وعلم أتباعه احترام النساء وإكرام كرائمهن والعدل بينهن وترك من بعده تسع أمهات للمؤمنين يعلمن نساءهم الأحكام الخاصة بالنساء مما ينبغي أن يعلمنه منهن لا من الرجال، ولو كان قد ترك واحدة ما كان فيها الغناء كما لو ترك التسع، وقصارى القول إنه عليه السلام ما أراد بتعدد الزوجات ما يريده الملوك والأمراء والمترفون من التمتع بالنساء، إذ لو كان قد أراد ذلك لاختارهن من حسان الأبكار لا من الكهلات الثيبات كما قال لمن اختار ثيبا: (هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك) رواه الشيخان.

__________

(1) تفسير المراغى: 4/181.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. حديث عائشة(2) يصور جانبا من التصورات والتقاليد التي كانت سائدة في الجاهلية، ثم بقيت في المجتمع المسلم، حتى جاء القرآن ينهى عنها ويمحوها، بهذه التوجيهات الرفيعة، ويكل الأمر إلى‏ الضمائر، وهو يقول: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾.. فهي مسألة تحرج وتقوى وخوف من الله إذا توقع الولي ألا يعدل مع اليتيمة في حجره.

2. نص الآية مطلق لا يحدد مواضع العدل، فالمطلوب هو العدل في كل صوره وبكل معانيه في هذه الحالة، سواء فيما يختص بالصداق، أو فيما يتعلق بأي اعتبار آخر، كأن ينكحها رغبة في مالها، لا لأن لها في قلبه مودة، ولا لأنه يرغب رغبة نفسية في عشرتها لذاتها، وكأن ينكحها وهناك فارق كبير من السن لا تستقيم معه الحياة، دون مراعاة لرغبتها هي في إبرام هذا النكاح، هذه الرغبة التي قد لا تفصح عنها حياء أو خوفا من ضياع مالها إذا هي خالفت عن إرادته.. إلى آخر تلك الملابسات التي يخشى ألا يتحقق فيها العدل.

3. والقرآن يقيم الضمير حارسا، والتقوى رقيبا، وقد أسلف في الآية السابقة التي رتب عليها هذه التوجيهات كلها قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾

4. عند ما لا يكون الأولياء واثقين من قدرتهم على القسط مع اليتيمات اللواتي في حجورهم، فهناك النساء غيرهن، وفي المجال متسع للبعد عن الشبهة والمظنة: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾

5. هذه الرخصة في التعدد، مع هذا التحفظ عند خوف العجز عن العدل، والاكتفاء بواحدة في هذه الحالة، أو بما ملكت اليمين، هذه الرخصة ـ مع هذا التحفظ ـ يحسن بيان الحكمة والصلاح فيها، في زمان جعل الناس يتعالمون فيه على ربهم الذي خلقهم، ويدعون لأنفسهم بصرا بحياة الإنسان وفطرته ومصلحته فوق بصر خالقهم سبحانه! ويقولون في هذا الأمر وذاك بالهوى والشهوة، وبالجهالة والعمى، كأن ملابسات وضرورات جدّت اليوم، يدركونها هم ويقدرونها ولم تكن في حساب الله ـ سبحانه ـ ولا في تقديره، يوم شرّع للناس هذه الشرائع! وهي دعوى فيها من الجهالة والعمى، بقدر ما فيها من التبجح وسوء الأدب، بقدر ما فيها من الكفر والضلالة! ولكنها تقال، ولا تجد من يرد الجهال العمي المتبجحين المتوقحين الكفار الضلال عنها! وهم يتبجحون على الله وشريعته، ويتطاولون على الله وجلاله، ويتوقحون على الله ومنهجه، آمنين سالمين غانمين، مأجورين من الجهات التي يهمها أن تكيد لهذا الدين! وهذه المسألة ـ مسألة إباحة تعدد الزوجات بذلك التحفظ الذي قرره الإسلام ـ يحسن أن تؤخذ بيسر ووضوح وحسم؛ وأن تعرف الملابسات الحقيقية والواقعية التي تحيط بها.

6. جاء الإسلام، وتحت الرجال عشر نسوة أو أكثر أو أقل ـ بدون حد ولا قيد ـ فجاء ليقول للرجال: إن هناك حدا لا يتجاوزه المسلم ـ هو أربع ـ وإن هناك قيدا ـ هو إمكان العدل ـ وإلا فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم، جاء الإسلام لا ليطلق، ولكن ليحدد، ولا ليترك الأمر لهوى الرجل، ولكن ليقيد التعدد بالعدل، وإلا امتنعت الرخصة المعطاة! ولكن لماذا أباح هذه الرخصة؟ إن الإسلام نظام للإنسان، نظام واقعي إيجابي، يتوافق مع فطرة الإنسان وتكوينه، ويتوافق مع واقعه وضروراته، ويتوافق مع ملابسات حياته المتغيرة في شتى البقاع وشتى الأزمان، وشتى الأحوال، إنه نظام واقعي إيجابي، يلتقط الإنسان من واقعه الذي هو فيه، ومن موقفه الذي هو عليه، ليرتفع به في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة، في غير إنكار لفطرته أو تنكر؛ وفي غير إغفال لواقعه أو إهمال؛ وفي غير عنف في دفعه أو اعتساف! إنه نظام لا يقوم على الحذلقة الجوفاء؛ ولا على التظرف المائع؛ ولا على (المثالية) الفارغة؛ ولا على الأمنيات الحالمة، التي تصطدم بفطرة الإنسان وواقعه وملابسات حياته، ثم تتبخر في الهواء! وهو نظام يرعى خلق الإنسان، ونظافة المجتمع، فلا يسمح بإنشاء واقع مادي، من شأنه انحلال الخلق، وتلويث المجتمع، تحت مطارق الضرورة التي تصطدم بذلك الواقع، بل يتوخى دائما أن ينشئ واقعا يساعد على صيانة الخلق، ونظافة المجتمع، مع أيسر جهد يبذله الفرد ويبذله المجتمع.

7. إذا استصحبنا معنا هذه الخصائص الأساسية في النظام الإسلامي، ونحن ننظر إلى مسألة تعدد الزوجات، فما ذا نرى؟

أ. نرى.. أولا.. أن هناك حالات واقعية في مجتمعات كثيرة ـ تاريخية وحاضرة ـ تبدو فيها زيادة عدد النساء الصالحات للزواج، على عدد الرجال الصالحين للزواج.. والحد الأعلى لهذا الاختلال الذي يعتري بعض المجتمعات لم يعرف تاريخيا أنه تجاوز نسبة أربع إلى واحد، وهو يدور دائما في حدودها، فكيف نعالج هذا الواقع، الذي يقع ويتكرر وقوعه، بنسب مختلفة، هذا الواقع الذي لا يجدي فيه الإنكار؟ نعالجه بهز الكتفين؟ أو نتركه يعالج نفسه بنفسه؟ حسب الظروف والمصادفات!؟ إن هز الكتفين لا يحل مشكلة! كما أن ترك المجتمع يعالج هذا الواقع حسبما اتفق لا يقول به إنسان جاد، يحترم نفسه، ويحترم الجنس البشري! ولا بد إذن من نظام، ولا بد إذن من إجراء. وعندئذ نجد أنفسنا أمام احتمال من ثلاثة احتمالات:

أن يتزوج كل رجل صالح للزواج امرأة من الصالحات للزواج.. ثم تبقى واحدة أو أكثر ـ حسب درجة الاختلال الواقعة ـ بدون زواج، تقضي حياتها ـ أو حياتهن ـ لا تعرف الرجال!

أن يتزوج كل رجل صالح للزواج واحدة فقط زواجا شرعيا نظيفا، ثم يخادن أو يسافح واحدة أو أكثر، من هؤلاء اللواتي ليس لهن مقابل في المجتمع من الرجال، فيعرفن الرجل خدينا أو خليلا في الحرام والظلام!

أن يتزوج الرجال الصالحون ـ كلهم أو بعضهم ـ أكثر من واحدة، وأن تعرف المرأة الأخرى الرجل زوجة شريفة، في وضح النور لا خدينة ولا خليلة في الحرام والظلام!

● الاحتمال الأول ضد الفطرة، وضد الطاقة، بالقياس إلى المرأة التي لا تعرف في حياتها الرجال، ولا يدفع هذه الحقيقة ما يتشدق به المتشدقون من استغناء المرأة عن الرجل بالعمل والكسب، فالمسألة أعمق بكثير مما يظنه هؤلاء السطحيون المتحذلقون المتظرفون الجهال عن فطرة الإنسان، وألف عمل، وألف كسب لا تغني المرأة عن حاجتها الفطرية إلى الحياة الطبيعية.. سواء في ذلك مطالب الجسد والغريزة، ومطالب الروح والعقل، من السكن والأنس بالعشير.. والرجل يجد العمل ويجد الكسب؛ ولكن هذا لا يكفيه، فيروح يسعى للحصول على العشيرة، والمرأة كالرجل ـ في هذا ـ فهما من نفس واحدة!

● والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام النظيف؛ وضد قاعدة المجتمع الإسلامي العفيف؛ وضد كرامة المرأة الإنسانية، والذين لا يحفلون أن تشيع الفاحشة في المجتمع، هم أنفسهم الذين يتعاملون على الله، ويتطاولون على شريعته، لأنهم لا يجدون من يردعهم عن هذا التطاول، بل يجدون من الكائدين لهذا الدين كل تشجيع وتقدير!

● والاحتمال الثالث هو الذي يختاره الإسلام، يختاره رخصة مقيدة، لمواجهة الواقع الذي لا ينفع فيه هز الكتفين؛ ولا تنفع فيه الحذلقة والادعاء، يختاره متمشيا مع واقعيته الإيجابية، في مواجهة الإنسان كما هو ـ بفطرته وظروف حياته ـ ومع رعايته للخلق النظيف والمجتمع المتطهر، ومع منهجه في التقاط الإنسان من السفح، والرقي به في الدرج الصاعد إلى القمة السامقة، ولكن في يسر ولين وواقعية!

ب. ثم نرى.. ثانيا.. في المجتمعات الإنسانية، قديما وحديثا، وبالأمس واليوم والغد، إلى آخر الزمان، واقعا في حياة الناس، لا سبيل إلى إنكاره كذلك أو تجاهله:

نرى أن فترة الإخصاب في الرجل تمتد إلى سن السبعين أو ما فوقها، بينما هي تقف في المرأة عند سن الخمسين أو حواليها، فهناك في المتوسط عشرون سنة من سني الإخصاب في حياة الرجل لا مقابل لها في حياة المرأة، وما من شك أن من أهداف اختلاف الجنسين ثم التقائهما، امتداد الحياة بالإخصاب والإنسال، وعمران الأرض بالتكاثر والانتشار، فليس مما يتفق مع هذه السنة الفطرية العامة أن نكف الحياة عن الانتفاع بفترة الإخصاب الزائدة في الرجال، ولكن مما يتفق مع هذا الواقع الفطري أن يسن التشريع ـ الموضوع لكافة البيئات في جميع الأزمان والأحوال ـ هذه الرخصة ـ لا على سبيل الإلزام الفردي، ولكن على سبيل إيجاد المجال العام الذي يلبي هذا الواقع الفطري، ويسمح للحياة أن تنتفع به عند الاقتضاء.. وهو توافق بين واقع الفطرة وبين اتجاه التشريع ملحوظ دائما في التشريع الإلهي، لا يتوافر عادة في التشريعات البشرية، لأن الملاحظة البشرية القاصرة لا تنتبه له، ولا تدرك جميع الملابسات القريبة والبعيدة، ولا تنظر من جميع الزوايا، ولا تراعي جميع الاحتمالات.

ومن الحالات الواقعية ـ المرتبطة بالحقيقة السالفة ـ ما نراه أحيانا من رغبة الزوج في أداء الوظيفة الفطرية، مع رغبة الزوجة عنها ـ لعائق من السن أو من المرض ـ مع رغبة الزوجين كليهما في استدامة العشرة الزوجية وكراهية الانفصال ـ فكيف نواجه مثل هذه الحالات؟ نواجهها بهز الكتفين؛ وترك كل من الزوجين يخبط رأسه في الجدار!؟ أو نواجهها بالحذلقة الفارغة والتظرف السخيف؟ إن هز الكتفين ـ كما قلنا ـ لا يحل مشكلة، والحذلقة والتظرف لا يتفقان مع جدية الحياة الإنسانية، ومشكلاتها الحقيقية، وعندئذ نجد أنفسنا ـ مرة أخرى ـ أمام احتمال من ثلاثة احتمالات: أن نكبت الرجل ونصده عن مزاولة نشاطه الفطري بقوة التشريع وقوة السلطان! ونقول له: عيب يا رجل! إن هذا لا يليق، ولا يتفق مع حق المرأة التي عندك ولا مع كرامتها!.. أن نطلق هذا الرجل يخادن ويسافح من يشاء من النساء!.. أن نبيح لهذا الرجل التعدد ـ وفق ضرورات الحال ـ ونتوقى طلاق الزوجة الأولى.

● الاحتمال الأول ضد الفطرة، وفوق الطاقة، وضد احتمال الرجل العصبي والنفسي، وثمرته القريبة ـ إذا نحن أكرهناه بحكم التشريع وقوة السلطان ـ هي كراهية الحياة الزوجية التي تكلفه هذا العنت، ومعاناة جحيم هذه الحياة.. وهذه ما يكرهه الإسلام، الذي يجعل من البيت سكنا، ومن الزوجة أنسا ولباسا.

● والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام الخلقي، وضد منهجه في ترقية الحياة البشرية، ورفعها وتطهيرها وتزكيتها، كي تصبح لائقة بالإنسان الذي كرمه الله على الحيوان!

● والاحتمال الثالث هو وحده الذي يلبي ضرورات الفطرة الواقعية، ويلبي منهج الإسلام الخلقي، ويحتفظ للزوجة الأولى برعاية الزوجية، ويحقق رغبة الزوجين في الإبقاء على عشرتهما وعلى ذكرياتهما، وييسر على الإنسان الخطو الصاعد في رفق ويسر وواقعية. وشيء كهذا يقع في حالة عقم الزوجة، مع رغبة الزوج الفطرية في النسل، حيث يكون أمامه طريقان لا ثالث لهما: أن يطلقها ليستبدل بها زوجة أخرى تلبي رغبة الإنسان الفطرية في النسل.. أو أن يتزوج بأخرى، ويبقي على عشرته مع الزوجة الأولى.

قد يهذر قوم من المتحذلقين ـ ومن المتحذلقات ـ بإيثار الطريق الأول، ولكنّ تسعا وتسعين زوجة ـ على الأقل ـ من كل مائة سيتوجهن باللعنة إلى من يشير على الزوج بهذا الطريق! الطريق الذي يحطم عليهن بيوتهن بلا عوض منظور ـ فقلما تجد العقيم وقد تبين عقمها راغبا في الزواج ـ وكثيرا ما تجد الزوجة العاقر أنسا واسترواحا في الأطفال الصغار، تجي‏ء بهم الزوجة الأخرى من زوجها، فيملئون عليهم الدار حركة وبهجة أيا كان ابتئاسها لحرمانها الخاص، وهكذا حيثما ذهبنا نتأمل الحياة الواقعية بملابساتها العملية، التي لا تصغي للحذلقة، ولا تستجيب للهذر، ولا تستروح للهزل السخيف والتميع المنحل في مواضع الجد الصارم.. وجدنا مظاهر الحكمة العلوية، في سن هذه الرخصة، مقيدة بذلك القيد: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ فالرخصة تلبي واقع الفطرة، وواقع الحياة؛ وتحمي المجتمع من الجنوح ـ تحت ضغط الضرورات الفطرية والواقعية المتنوعة ـ إلى الانحلال أو الملال.. والقيد يحمي الحياة الزوجية من الفوضى والاختلال، ويحمي الزوجة من الجور والظلم؛ ويحمي كرامة المرأة أن تتعرض للمهانة بدون ضرورة ملجئة واحتياط كامل، ويضمن العدل الذي تحتمل معه الضرورة ومقتضياتها المريرة.

8. إن أحدا يدرك روح الإسلام واتجاهه، لا يقول: إن التعدد مطلوب لذاته، مستحب بلا مبرر من ضرورة فطرية أو اجتماعية؛ وبلا دافع إلا التلذذ الحيواني، وإلا التنقل بين الزوجات، كما يتنقل الخليل بين الخليلات، إنما هو ضرورة تواجه ضرورة، وحل يواجه مشكلة، وهو ليس متروكا للهوى، بلا قيد ولا حد في النظام الإسلامي، الذي يواجه كل واقعيات الحياة، فإذا انحرف جيل من الأجيال في استخدام هذه الرخصة، إذا راح رجال يتخذون من هذه الرخصة فرصة لإحالة الحياة الزوجية مسرحا للذة الحيوانية، إذا أمسوا يتنقلون بين الزوجات كما يتنقل الخليل بين الخليلات، إذا أنشئوا (الحريم) في هذه الصورة المريبة.. فليس ذلك شأن الإسلام؛ وليس هؤلاء هم الذين يمثلون الإسلام.. إن هؤلاء إنما انحدروا إلى هذا الدرك لأنهم بعدوا عن الإسلام، ولم يدركوا روحه النظيف الكريم، والسبب أنهم يعيشون في مجتمع لا يحكمه الإسلام، ولا تسيطر فيه شريعته، مجتمع لا تقوم عليه سلطة مسلمة، تدين للإسلام وشريعته؛ وتأخذ الناس بتوجيهات الإسلام وقوانينه، وآدابه وتقاليده.

9. إن المجتمع المعادي للإسلام المتفلت من شريعته وقانونه، هو المسئول الأول عن هذه الفوضى، هو المسئول الأول عن (الحريم) في صورته الهابطة المريبة، هو المسئول الأول عن اتخاذ الحياة الزوجية مسرح لذة بهيمية، فمن شاء أن يصلح هذه الحال فليرد الناس إلى الإسلام، وشريعة الإسلام، ومنهج الإسلام؛ فيردهم إلى النظافة والطهارة والاستقامة والاعتدال.. من شاء الإصلاح فليرد الناس إلى الإسلام لا في هذه الجزئية ولكن في منهج الحياة كلها، فالإسلام نظام متكامل لا يعمل إلا وهو كامل شامل.

10. العدل المطلوب هو العدل في المعاملة والنفقة والمعاشرة والمباشرة، أما العدل في مشاعر القلوب وأحاسيس النفوس، فلا يطالب به أحد من بني الإنسان، لأنه خارج عن إرادة الإنسان.. وهو العدل الذي قال الله عنه في الآية الأخرى في هذه السورة: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾.. هذه الآية التي يحاول بعض الناس أن يتخذوا منها دليلا على تحريم التعدد، والأمر ليس كذلك، وشريعة الله ليست هازلة، حتى تشرع الأمر في آية، وتحرمه في آية، بهذه الصورة التي تعطي باليمين وتسلب بالشمال! فالعدل المطلوب في الآية الأولى؛ والذي يتعين عدم التعدد إذا خيف ألا يتحقق؛ هو العدل في المعاملة والنفقة والمعاشرة والمباشرة، وسائر الأوضاع الظاهرة، بحيث لا ينقص إحدى الزوجات شيء منها؛ وبحيث لا تؤثر واحدة دون الأخرى بشيء منها.. على نحو ما كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو أرفع إنسان عرفته البشرية، يقوم به، في الوقت الذي لم يكن أحد يجهل من حوله ولا من نسائه، أنه يحب عائشة ويؤثرها بعاطفة قلبية خاصة، لا تشاركها فيها غيرها.. فالقلوب ليست ملكا لأصحابها، إنما هي بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.. وقد كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يعرف دينه ويعرف قلبه، فكان يقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)

11. ونعود فنكرر قبل أن نتجاوز هذه النقطة، أن الإسلام لم ينشئ التعدد إنما حدده، ولم يأمر بالتعدد إنما رخص فيه وقيده، وأنه رخص فيه لمواجهة واقعيات الحياة البشرية، وضرورات الفطرة الإنسانية، هذه الضرورات وتلك الواقعيات التي ذكرنا بعض ما تكشف لنا حتى الآن منها، وقد يكون وراءها غيرها تظهره أطوار الحياة في أجيال أخرى، وفي ظروف أخرى كذلك، كما يقع في كل تشريع أو توجيه جاء به هذا المنهج الرباني، وقصر البشر في فترة من فترات التاريخ، عن استيعاب كل ما وراءه من حكمة ومصلحة، فالحكمة والمصلحة مفترضتان وواقعتان في كل تشريع إلهي، سواء أدركهما البشر أم لم يدركوهما، في فترة من فترات التاريخ الإنساني القصير، عن طريق الإدراك البشري المحدود!

12. ثم ننتقل إلى الإجراء الثاني الذي تنص عليه الآية عند الخوف من عدم تحقق العدل: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، أي إنه إن خيف عدم العدل في التزوج بأكثر من واحدة تعين الاقتصار على واحدة! ولم يجز تجاوزها، أو ﴿مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ من الإماء زواجا أو تسريا، فالنص لم يحدد.

13. سبق أن وقفنا في الجزء الثاني من هذه الظلال وقفة قصيرة أمام مسألة الرق إجمالا، فلعله يحسن هنا أن نلم بمسألة الاستمتاع بالإماء خاصة:

أ. إن الزواج من مملوكة فيه رد لاعتبارها وكرامتها الإنسانية، فهو مؤهل من مؤهلات التحرير لها ولنسلها من سيدها ـ حتى ولو لم يعتقها لحظة الزواج ـ فهي منذ اليوم الذي تلد فيه تسمى (أم ولد) ويمتنع على سيدها بيعها؛ وتصبح حرة بعد وفاته، أما ولدها فهو حر منذ مولده، وكذلك عند التسري بها، فإنها إذا ولدت أصبحت (أم ولد) وامتنع بيعها، وصارت حرة بعد وفاة سيدها، وصار ولدها منه كذلك حرا إذا اعترف بنسبه، وهذا ما كان يحدث عادة.

ب. فالزواج والتسري كلاهما طريق من طرق التحرير التي شرعها الإسلام وهي كثيرة.. على أنه قد يحيك في النفس شيء من مسألة التسري هذه، فيحسن أن نتذكر أن قضية الرق كلها قضية ضرورة ـ كما بينا هناك ـ وأن الضرورة التي اقتضت إباحة الاسترقاق في الحرب الشرعية التي يعلنها الإمام المسلم المنفذ لشريعة الله، هي ذاتها التي اقتضت إباحة التسري بالإماء؛ لأن مصير المسلمات الحرائر العفيفات حين يؤسرن كان شرا من هذا المصير! على أنه يحسن ألا ننسى أن هؤلاء الأسيرات المسترقات، لهن مطالب فطرية لا بد أن يحسب حسابها في حياتهن، ولا يمكن إغفالها في نظام واقعي يراعي فطرة الإنسان وواقعه.. فإما أن تتم تلبية هذه المطالب عن طريق الزواج، وإما أن تتم عن طريق تسري السيد، ما دام نظام الاسترقاق قائما، كيلا ينشرن في المجتمع حالة من الانحلال الخلقي، والفوضي الجنسية، لا ضابط لها، حين يلبين حاجتهن الفطرية عن طريق البغاء أو المخادنة، كما كانت الحال في الجاهلية.

ج. أما ما وقع في بعض العصور من الاستكثار من الإماء ـ عن طريق الشراء والخطف والنخاسة وتجميعهن في القصور، واتخاذهن وسيلة للالتذاذ الجنسي البهيمي، وتمضية الليالي الحمراء بين قطعان الإماء، وعربدة السكر والرقص والغناء.. إلى آخر ما نقلته إلينا الأخبار الصادقة والمبالغ فيها على السواء.. أما هذا كله فليس هو الإسلام، وليس من فعل الإسلام، ولا إيحاء الإسلام، ولا يجوز أن يحسب على النظام الإسلامي، ولا أن يضاف إلى واقعه التاريخي، إن الواقع التاريخي (الإسلامي) هو الذي ينشأ وفق أصول الإسلام وتصوراته وشرعته وموازينه، هذا وحده هو الواقع التاريخي (الإسلامي).. أما ما يقع في المجتمع الذي ينتسب إلى الإسلام، خارجا على أصوله وموازينه، فلا يجوز أن يحسب منه، لأنه انحراف عنه.

14. إن للإسلام وجوده المستقل خارج واقع المسلمين في أي جيل، فالمسلمون لم ينشئوا الإسلام، إنما الإسلام هو الذي أنشأ المسلمين، الإسلام هو الأصل، والمسلمون فرع عنه، ونتاج من نتاجه، ومن ثم فإن ما يصنعه الناس أو ما يفهمونه ليس هو الذي يحدد أصل النظام الإسلامي أو مفهوم الإسلام الأساسي، إلا أن يكون مطابقا للأصل الإسلامي الثابت المستقل عن واقع الناس ومفهومهم، والذي يقاس إليه واقع الناس في كل جيل ومفهومهم، ليعلم كم هو مطابق أو منحرف عن الإسلام.

15. إن الأمر ليس كذلك في النظم الأرضية التي تنشأ ابتداء من تصورات البشر، ومن المذاهب التي يضعونها لأنفسهم ـ وذلك حين يرتدون إلى الجاهلية ويكفرون بالله مهما ادعوا أنهم يؤمنون به، فمظهر الإيمان الأول بالله هو استمداد الأنظمة من منهجه وشريعته، ولا إيمان بغير هذه القاعدة الكبيرة ـ ذلك أن المفهومات المتغيرة للناس حينئذ، والأوضاع المتطورة في أنظمتهم، هي التي تحدد مفهوم المذاهب التي وضعوها لأنفسهم، وطبقوها على أنفسهم، فأما في النظام الإسلامي الذي لم يصنعه الناس لأنفسهم، إنما صنعه للناس رب الناس وخالقهم ورازقهم ومالكهم.. فأما في هذا النظام فالناس إما أن يتبعوه ويقيموا أوضاعهم وفقه؛ فواقعهم إذن هو الواقع التاريخي (الإسلامي) وإما أن ينحرفوا عنه أو يجانبوه كلية، فليس هذا واقعا تاريخيا للإسلام، إنما هو انحراف عن الإسلام! ولا بد من الانتباه إلى هذا الاعتبار عند النظر في التاريخ الإسلامي، فعلى هذا الاعتبار تقوم النظرية التاريخية الإسلامية، وهي تختلف تماما مع سائر النظريات التاريخية الأخرى، التي تعتبر واقع الجماعة الفعلي، هو التفسير العملي للنظرية أو المذهب، وتبحث عن (تطور) النظرية أو المذهب في هذا الواقع الفعلي للجماعة التي تعتنقه، وفي المفهومات المتغيرة لهذه النظرية في فكر الجماعة! وتطبيق هذه النظرة على الإسلام ينافي طبيعته المتفردة، ويؤدي إلى أخطار كثيرة، في تحديد المفهوم الإسلامي الحقيقي.

16. وأخيرا تفصح الآية عن حكمة هذه الإجراءات كلها.. إنها اتقاء الجور وتحقيق العدل: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾، ذلك.. البعد عن نكاح اليتيمات ـ إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ـ ونكاح غيرهن من النساء ـ مثنى وثلاث ورباع ـ ونكاح الواحدة فقط ـ إن خفتم ألا تعدلوا ـ أو ما ملكت أيمانكم.. ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾، أي ذلك أقرب ألا تظلموا وألا تجوروا.

17. هكذا يتبين أن البحث عن العدل والقسط، هو رائد هذا المنهج، وهدف كل جزئية من جزئياته، والعدل أجدر أن يراعي في المحضن الذي يضم الأسرة، وهي اللبنة الأولى للبناء الاجتماعي كله، ونقطة الانطلاق إلى الحياة الاجتماعية العامة، وفيه تدرج الأجيال وهي لدنة رخصة قابلة للتكيف، فإن لم يقم على العدل والود والسلام، فلا عدل ولا ود في المجتمع كله ولا سلام‏.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/578.

(2) سبق ذكره مرات

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الذي ينظر في الآية الكريمة نظرة مجرّدة، تقطعها عن سابقها ولاحقها من الآيات، لا ينكشف له وجهها، ولا يستقيم له معناها.. ومن هنا كان اضطراب كثير من المفسّرين حيالها، وتخبطهم في التوفيق بين شرطها وجوابها، فالشرط المشروط هنا وهو الخوف من ظلم اليتامى، أو بمعنى آخر طلب العدل والتماس الإحسان في اليتامى ـ هذا الشرط معلق تحقيقه بنكاح ما طاب للأوصياء من النساء، والأمر في ظاهره، على النقيض من هذا الحكم الذي يجمع بين الشرط والجزاء.. فالعدل في اليتامى لا يقوم أبدا على نكاح ما طاب للأوصياء من النساء مثنى وثلاث ورباع.. إذا أخذ على إطلاقه، بل إن ذلك ربما كان داعية إلى العدوان على اليتيم، والجور على ماله، وفاء لمطالب الزواج الأولاد الكثيرين، الذين يثمرهم هذا الزواج المتعدد، ولكن وصل الآية بما قبلها وما بعدها من آيات، يجعلها بمكانها الصحيح من الصورة العامة التي ترسمها مجموعة الآيات الأولى، من السورة، تلك الصورة التي تدعو إلى تقوى الله في محارمه، وتقواه في ذوى الأرحام عامة، وفي الأيتام منهم خاصة.

2. وقد دعت الآية السابقة على هذه الآية ـ دعت الأوصياء على اليتامى أن يؤتوهم أموالهم، وأن يؤدوها إليهم كاملة، لا تفريط فيها، ولا عدوان عليها، ثم يجيء بعد هذا قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ ـ يجيء قول الله هذا، تأسيسا على ما أمر به في الآية السابقة، وتقريرا له، فقوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا﴾، الآية) هو خطاب لمن استجاب لقوله سبحانه: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ أو لمن ترجى منه الاستجابة لهذا الأمر، أو هو خطاب للمؤمنين جميعا، وإلزام لهم أن‏ يستجيبوا له، إن كانوا مؤمنين حقا، لأنه أصل من أصول الإيمان، ودعامة من دعائمه.

3. وإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان من شأن المؤمنين أن يستجيبوا لهذا الأمر وأن يحققوه، فإن هناك أمرا آخر يلحق بهذا الأمر، إذا هم فعلوه، عظم أجرهم، واستقام على التقوى طريقهم، وهذا الأمر هو العدول عن زواج اليتيمات، إلى زواج غيرهن من النساء.. فذلك أبعد للشّبه، وأقطع لنوازع الطمع في ما لهنّ، وعلى هذا يكون المعنى هكذا، أما وقد خفتم أيها الأوصياء على اليتامى، أن تأكلوا أموالهم بالباطل، تريدون بهذا مرضاة الله، وتبتغون رضوانه ـ فإن من تمام هذا الأمر أن تخافوا ظلم اليتيمات في أنفسهن، بعد أن خفتم ظلمهن في مالهن.. فإن كنتم على خوف من ظلمهن وتريدون أن تجنبوا أنفسكم هذا الموقف، فدعوهن لشأنهن ولا تتزوجوهنّ وهنّ في أيديكم، لا يملكون من أمرهن شيئا، وإن لكم في غيرهن من النساء ما تشاءون.. مثنى وثلاث ورباع، ففي هذه التوسعة لكم في زواج أكثر من واحدة نعمة من نعم الله عليكم، ومن شكر هذه النعمة ألّا تطمح أعينكم إلى اليتيمات، وما في الزواج بهن من حرج.

4. في قوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ ما يشير إلى أن اليتيمات المرغوب عن زواج الأوصياء منهن، هن الصغيرات اللاتي لا يصلحن للزواج، ولهذا كان الأمر الإرشادى بالزواج: من‏ ﴿مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ أي البالغات، الصالحات للزواج، اللائي تشتهين النفس.

5. في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ دعوة إلى العدل بين‏ الزوجات، والتسوية بينهن في الحقوق والواجبات، وفي هذا ضمان لسلامة الأسرة واستقرارها، ورفع كثير من أسباب الخلاف بينها، وإذا كانت التسوية بين الزوجات تسوية مطلقة، والعدل بينهن عدلا كاملا ـ أمرا غير ممكن، وإن أمكن في حال فلن يمكن في جميع الأحوال ـ إذا كان ذلك كذلك، فقد أشار الإسلام إلى الدواء الناجع لسلامة الإنسان في دينه، فلا يظلم، وسلامته في نفسه، فلا يقع بين مهاب العواصف من الشقاق والخلاف ـ هذا الدواء هو الاقتصار على زوجة واحدة والاكتفاء بها: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾

6. في قوله تعالى: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ إشارة إلى دواء آخر يتداوى به من يرغب في التزوج بأكثر من زوجة! فهناك (الإماء) وهن ما ملك المرء من الجواري، فله أن يتمتع بما شاء منهن.

7. في قوله سبحانه: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ بيان للحكمة من الاقتصار على زوجة واحدة، أو التسرى بالإماء، والعول: الميل، يقال عال الميزان عولا، أي مال، والعول: الزيادة، وتحمل الزيادة هنا على الزيادة في الظلم، أو الزيادة في كثرة الأولاد والنفقات، وعلى هذا يمكن أن يحمل العول هنا على هذه المعاني كلها.. الزيادة في الظلم، والزيادة في العيال والنفقة، ثم الحاجة والفقر!

8. سؤال وإشكال: قد يسأل سائل: أليس في التسرى بالإماء كثرة في العيال، وكثرة في النفقة؟ فكيف تكون الدعوى إلى التسرى بهن، ثم يكون التعليل لذلك ما علل به وهو عدم العول؟ والجواب: هو أن التسرّى بما ملكت اليمين، لا يزيد في أعباء الحياة على من تسرّى بما ملكت يمينه منهن، إذ كنّ في كفالته، قبل التسرى وبعده، وقد أجيب عن كثرة العيال، بأن الإنسان لا يحرص على طلب الولد من أمته، ولا يتحرّج في العزل عنها، برضاها أو بغير رضاها.

9. لا بد هنا من كلمة حول تعدد الزوجات، وإباحة الإسلام له، ومقولات الذين يرجمون الإسلام بمفترياتهم عليه، في شأن هذا التعدد.. إن الذين يشغبون على الإسلام، ويشوشون عليه.. يقولون فيما يقولون عن هذا التعدد: لماذا يباح للرجل أن يتزوج بأكثر من امرأة، وأن يجمع بين أكثر من واحدة إلى أربع، ولا يباح للمرأة أن تتزوج أكثر من رجل، وأن تجمع بين أكثر من رجل إلى أربعة؟ أليس هذا هو العدل والمساواة.. إن كان عدل ومساواة؟ ونقول: إنه لكى ننظر إلى هذه المسألة، نظرا صحيحا مستقيما، ينبغي أن ننظر إليها من جانبيها معا.. جانب المرأة وجانب الرجل، كلّ على حدة، ثم كلّ في مقابل الآخر:

أ. ففي جانب المرأة نجد:

أولا: أن الطبيعة قد جعلت مواليدها من الإناث أكثر من الذكور، سواء ذلك في عالم الإنسان، أو الحيوان والطير.. وحتى في النبات، وقد يكون هذا التدبير المتصل بأصل الحياة، لكى تتكاثر المواليد، وتعمر هذه الأرض، إذ كانت الإناث هي الوعاء الحامل للمواليد، وعلى قدر هذه الأوعية وكثرتها يكون النسل وكثرته.

ثانيا: هذه الحروب ـ وهى سنّة من سنن الحياة البشرية ـ تذهب بكثير من الرجال، الأمر الذي إذا أضيف إلى سابقه قلّت به نسبة الرجال إلى النساء، إلى درجة بالغة الخطر، إن لم يكن هناك عامل آخر، يوازن هذا العامل ويقلل من خطره.

● ونسأل: إذ لم يكن هناك عامل معدّل لهذا التفاوت البعيد، في النسبة بين أعداد النساء وأعداد الرجال ـ فأين يذهب هذا العدد العديد من النساء، اللائي لا مقابل لهن من الرجال؟ جواب واحد لا غير لهذا السؤال: هو أن يمتن عانسات إذا تعفّفن ـ وقليل ما هنّ، أو يحيين حياة بهيمية، مباحات لكل رجل، إذا استجبن لغريزتهن ـ وما أكثرهن! أفهذا؟ أو أن تسكن المرأة إلى رجل مع أخرى غيرها أو أخريات، متحصنة في بيت الزوجية، مستظلة تحت جناح رجل يحميها، ويغار عليها، ويخرس قالة السوء فيها؟

● ثم لنسأل: وهل مع هذه الإباحة المطلقة، وجد الرجال فرص الحياة وظروفها، مؤاتية لهم، فسكن الواحد منهم إلى أكثر من واحدة؟ إن الواقع يشهد بأن أفرادا قلة ـ يعدّون في حكم الشاذ ـ هم الذين استعملوا حق الإباحة هذا.. أما الغالبية العظمى من الرجال فقد رغبوا عن هذا المباح، واكتفوا بامرأة واحدة، قطعوا الحياة معها.. بل وما أكثر الذين تتوفى زوجاتهم ثم لا يتزوجون بعدهن، وفيهم بقية شباب وصحة! إن التعدد ـ الذي أباحه الإسلام ـ لم يمكن على سبيل الإلزام، وإنما كان بابا من أبواب الرحمة، تفيد منه المرأة ـ غالبا ـ أكثر مما يستفيد منه الرجل، حين لا تجد المرأة طريقا تسكن فيه إلى رجل، إلّا مع أخرى أو أخريات، يشاركنها الحياة الزوجية معه.. فهي في هذه الحياة ـ على ما بها ـ خير من حياتها بلا رجل!

● ثم نسأل أيضا: أهناك ـ في هذه الإباحة ـ ما يرغم المرأة على أن تشارك غيرها في الزوج، أو يشاركها غيرها فيه؟ إن للمرأة الأولى أن تطلب الطلاق إذا تضررت من المرأة الثانية، كما أن للمرأة التي يراد لها أن تكون ثانية ـ لها أن ترفض الزواج من هذا الزوج، وهكذا في الثالثة والرابعة! ثم إن لأىّ امرأة أن تشترط عند الزواج أن تكون العصمة بيدها، الأمر الذي يفتح لها الطريق إلى الخلاص من الزواج إذا تضررت منه!

ب. وندع المرأة.. وننظر في جانب الرجل، فنجد:

أولا أن الرجل يحتفظ بقوته وحيويته مدة أطول من المرأة، التي تسبقه إلى الوهن والضعف، بما تعانى من الحمل، والولادة، والرضاع، والتربية، وفي هذه الحال، قد يرى بعض الرجال أن يمسكوا بالزوجة ـ على ما بها ـ وأن يحصنوا أنفسهم، ويحفظوا دينهم ومروءتهم بزوجة أخرى.

وثانيا: قد تصاب المرأة بمرض يعجزها عن الوفاء بحاجة الزوج والقيام على شؤون البيت، وهنا تبدو الحاجة إلى امرأة أخرى، تؤدى الوظيفة التي عجزت عنها صاحبتها، وعندئذ يكون من الإعنات والحرج معا أن يحجر على الرجل، فلا يجد سبيلا إلى الخروج من هذا الوضع الأليم! وفي إباحة الزواج للرجل بامرأة أخرى، ما يتيح له في تلك الحال أن يفكر تفكيرا هادئا عاقلا، وأن يتخيّر لنفسه أي الأمرين أصلح له، الزواج بامرأة أخرى أو الصبر على ما هو فيه؟ وكثيرا ما يكون الأمر الأخير هو الرأي الراجح، الذي يميل إليه، ويأخذ به في أغلب الأحوال، رعاية للعشرة الزوجية، ووفاء لحقّ ما بين الزوجين، من ألفة ومودة.. وذلك حين يكون للرجل ـ بسبب هذه الإباحة ـ فضل، يتعزّى به، ويترضّى إنسانيته، بما كان منه من إيثار وتضحية!

● بقي أن ننظر إلى هذا الموقف من جانب آخر، وهو أن يغلق في وجه الرجل باب الخلاص من هذا الضيق، الذي يعيش فيه تحت سلطان الإلزام والقهر، دون أن يكون للاختيار، والشعور بمعاني التضحية والإيثار، مكان هنا، إزاء هذا الإلزام القاهر، الذي يحكم عليه فيه بأن يعيش مع امرأة مريضة، عاجزة، أو عقيم لا تلد! ونسأل: كيف تكون حياة الرجل في هذا السجن الرهيب المخيف؟ بل كيف تكون حياة المرأة نفسها مع هذا الرجل، الذي يراها في تلك الحال حكما أبديا عليه بالشقاء والبلاء؟ إن المرأة في هذه الحال تكون أشقى من الرجل، إذ تجد نفسها أنها لعنة مفروضة على الرجل، وأنه لو كان لها الخيار في إفساح الطريق له لما ترددت في حلّ الرباط الذي يربطها به، ولطالبته بذلك قبل أن يطالبها هو به! ثم انظر ماذا يكون من العواطف الإنسانية، التي يوقظها هذا الشعور الذي يسيطر على الزوجين في ظل التشريع الإسلامى الذي أباح لهما الانفصال، في تلك الحال، كما أباح للرجل أن يتزوج بأخرى، يضمها إلى زوجه الأولى، إن كلّا منهما يجد أنه في سعة من أمره، وأنه يملك وجوده وإرادته، كما أنه‏ يحتفظ بمروءته وشخصيته.. فالرجل إذا احتفظ بامرأته في حالها تلك، ولم يتزوج عليها، أرضى جوانب كثيرة من عواطفه، تعوّضه كثيرا مما يلقى من ضيق وضرر معها.. والمرأة تشعر بأنها غير مفروضة عليه، وأنه أمسك بها بمحض اختياره، وآثر ألا يضارّها بأخرى حسب إرادته وتقديره، وأن الجانب الإنساني فيهما هو الذي يمسك برباط الحياة الزوجية بينهما.

10. إذن، فهذا التعدّد الذي يشنّع به أعداء الإسلام على الإسلام، وينادون به على الملأ أنه من الموروثات البهيمية التي ورثها الإنسان عن الحيوان ـ هذا التعدد هو دواء لأدواء كثيرة، في محيط المرأة خاصة.. في أغلب الأحيان، كما أنه شفاء لبعض العلل التي تصاب بها الحياة الزوجية في بعض الأحيان! وهذا الدواء الذي يقدّمه الإسلام هنا ليس مفروضا فرضا لازما على كل إنسان، وفي كل حال، بل إنه ـ شأنه شأن كل دواء ـ محكوم بحكم الحاجة، وبحسب الحالة، فمن خرج به عن هذا الحكم ـ حكم الدواء عند الحاجة ـ فقد ظلم نفسه، وجاوز حدود الله، وليس على الإسلام، ولا على شريعة الإسلام شيء من عدوانه وظلمه.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/690.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اشتمال هذه الآية على كلمة ﴿الْيَتَامَى﴾ يؤذن بمناسبتها للآية السابقة، بيد أنّ الأمر بنكاح النساء وعددهنّ في جواب شرط الخوف من عدم العدل في اليتامى ممّا خفي وجهه على كثير من علماء سلف الأمة، إذ لا تظهر مناسبة أي ملازمة بين الشرط وجوابه.

2. في الآية إيجاز بديع إذ أطلق فيها لفظ اليتامى في الشرط وقوبل بلفظ النساء في الجزاء فعلم السامع أنّ اليتامى هنا جمع يتيمة وهي صنف من اليتامى في قوله السابق: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 2]، وعلم أنّ بين عدم القسط في يتامى النساء، وبين الأمر بنكاح النساء، ارتباطا لا محالة وإلّا لكان الشرط عبثا، وبيانه ما في (صحيح البخاري): أنّ عروة بن الزبير سأل عائشة عن هذه الآية فقالت: (يا بن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليّها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فلا يعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهنّ إلّا أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهنّ أعلى سنتهنّ في الصداق فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء غيرهنّ، ثم إنّ الناس استفتوا رسول الله بعد هذه الآية فأنزل الله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ [النساء: 127]، فقول الله تعالى: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ [النساء: 127] رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلّا بالقسط من أجل رغبتهم عنهنّ إذا كنّ قليلات المال والجمال:

أ. وعائشة لم تسند هذا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكن سياق كلامها يؤذن بأنّه عن توقيف، ولذلك أخرجه البخاري في باب تفسير سورة النساء بسياق الأحاديث المرفوعة اعتدادا بأنها ما قالت ذلك إلّا عن معاينة حال النزول، وأفهام المسلمين التي أقرّها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا سيما وقد قالت: ثمّ إنّ الناس استفتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ب. وعليه فيكون إيجاز لفظ الآية اعتدادا بما فهمه الناس ممّا يعلمون من أحوالهم، وتكون قد جمعت إلى حكم حفظ حقوق اليتامى في أموالهم الموروثة حفظ حقوقهم في الأموال التي يستحقّها البنات اليتامى من مهور أمثالهنّ، وموعظة الرجال بأنّهم لمّا لم يجعلوا أواصر القرابة شافعة النساء اللاتي لا مرغّب فيهنّ لهم فيرغبون عن نكاحهنّ، فكذلك لا يجعلون القرابة سببا للإجحاف بهنّ في مهورهنّ.

ج. قولها: ثمّ إنّ الناس استفتوا رسول الله، معناه استفتوه طلبا لإيضاح هذه الآية، أو استفتوه في حكم نكاح اليتامى، وله يهتدوا إلى أخذه من هذه الآية، فنزل قوله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾ الآية، وأنّ الإشارة بقوله: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ أي ما يتلى من هذه الآية الأولى، أي كان هذا الاستفتاء في زمن نزول هذه السورة، وكلامها هذا أحسن تفسير لهذه الآية.

3. قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والسدّي، وقتادة: كانت العرب تتحرّج في أموال اليتامى ولا تتحرّج في العدل بين النساء، فكانوا يتزوّجون العشر فأكثر فنزلت هذه الآية في ذلك، وعلى هذا القول فمحلّ الملازمة بين الشرط والجزاء إنّما هو فيما تفرّع عن الجزاء من قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾، فيكون نسج الآية قد حيك على هذا الأسلوب ليدمج في خلاله تحديد النهاية إلى الأربع.

4. وقال عكرمة: نزلت في قريش، كان الرجل يتزوّج العشر فأكثر فإذا ضاق ماله عن إنفاقهنّ أخذ مال يتيمه فتزوّج منه، وعلى هذا الوجه فالملازمة ظاهرة، لأنّ تزوّج ما لا يستطاع القيام به صار ذريعة إلى أكل أموال اليتامى، فتكون الآية دليلا على مشروعية سدّ الذرائع إذا غلبت.

5. وقال مجاهد: الآية تحذير من الزنا، وذلك أنّهم كانوا يتحرّجون من أكل أموال اليتامى ولا يتحرّجون من الزنا، فقيل لهم: إن كنتم تخافون من أموال اليتامى فخافوا الزنا، لأنّ شأن المتنسّك أن يهجر جميع المآثم لا سيما ما كانت مفسدته أشدّ، وعلى هذا الوجه تضعف الملازمة بين الشرط وجوابه ويكون فعل الشرط ماضيا لفظا ومعنى، وقيل في هذا وجوه أخر هي أضعف ممّا ذكرنا.

6. معنى‏ ﴿مَا طَابَ﴾ ما حسن بدليل قوله: ﴿لَكُمْ﴾ ويفهم منه أنّه ممّا حلّ لكم لأن الكلام في سياق التشريع، وما صدق‏ ﴿مَا طَابَ﴾ النساء فكان الشأن أن يؤتى بـ (من) الموصولة لكن جي‏ء بـ (ما) الغالبة في غير العقلاء، لأنّها نحي بها منحى الصفة وهو الطيّب بلا تعيين ذات، ولو قال: من) لتبادر إلى إرادة نسوة طيّبات معروفات بينهم، وكذلك حال (ما) في الاستفهام، كما قال الزمخشري وصاحب (المفتاح)، فإذا قلت: ما تزوجت؟ فأنت تريد ما صفتها أبكرا أم ثيّبا مثلا، وإذا قلت: من تزوجت؟ فأنت تريد تعيين اسمها ونسبها.

7. الآية ليست هي المثبتة لمشروعية النكاح، لأنّ الأمر فيها معلّق على حالة الخوف من الجور في اليتامى، فالظاهر أنّ الأمر فيها للإرشاد، وأنّ النكاح شرع بالتقرير للإباحة الأصلية لما عليه الناس قبل الإسلام مع إبطال ما لا يرضاه الدين كالزيادة على الأربع، وكنكاح المقت، والمحرّمات من الرضاعة، والأمر بأن لا يخلوه عن الصداق، ونحو ذلك.

8. ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ أحوال من‏ ﴿طَابَ﴾ ولا يجوز كونها أحوالا من النساء لأنّ النساء أريد به الجنس كلّه لأن (من) إمّا تبعيضية أو بيانية وكلاهما تقتضي بقاء البيان على عمومه، ليصلح للتبعيض وشبهه، والمعنى: أنّ الله وسّع عليكم فلكم في نكاح غير أولئك اليتامى مندوحة عن نكاحهنّ مع الإضرار بهنّ في الصداق، وفي هذا إدماج لحكم شرعي آخر في خلال حكم القسط لليتامى إلى قوله: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾

9. صيغة مفعل وفعال في أسماء الأعداد من واحد إلى أربعة، وقيل إلى ستة وقيل إلى عشرة، وهو الأصح، وهو مذهب الكوفيّين، وصحّحه المعرّي في (شرح ديوان المتنبيّ) عند قول أبي الطّيب:

çأحاد أم سداس في آحاد...ليبلتنا المنوطة بالتنادي‏é

تدلّ كلّها على معنى تكرير اسم العدد لقصد التوزيع كقوله تعالى: ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [فاطر: 1] أي لطائفة جناحان، ولطائفة ثلاثة، ولطائفة أربعة، والتوزيع هنا باعتبار اختلاف المخاطبين في السعة والطّول، فمنهم فريق يستطيع أن يتزوّجوا اثنتين، فهؤلاء تكون أزواجهم اثنتين اثنتين، وهلمّ جرّا، كقولك لجماعة: اقتسموا هذا المال در همين در همين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، على حسب أكبركم سنّا، وقد دل على ذلك قوله بعد: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾، والظاهر أنّ تحريم الزيادة على الأربع مستفاد من غير هذه الآية لأنّ مجرّد الاقتصار غير كاف في الاستدلال ولكنّه يستأنس به، وأنّ هذه الآية قرّرت ما ثبت من الاقتصار، على أربع زوجات كما دلّ على ذلك‏ الحديث الصحيح: إنّ غيلان بن سلمة أسلم على عشر نسوة فقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أمسك أربعا وفارق سائرهنّ)

10. لعلّ الآية صدرت بذكر العدد المقرّر من قبل نزولها، تمهيدا لشرع العدل بين النساء، فإنّ قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ صريح في اعتبار العدل في التنازل في مراتب العدد ينزل بالمكلّف إلى الواحدة، فلا جرم أن يكون خوفه في كلّ مرتبة من مراتب العدد ينزل به إلى التي دونها.

11. من العجيب ما حكاه ابن العربي في الأحكام عن قوم من الجهّال ـ لم يعيّنهم ـ أنّهم توهّموا أنّ هذه الآية تبيح للرجال تزوّج تسع نساء توهّما بأنّ مثنى وثلاث ورباع مرادفة لاثنين وثلاثا وأربعا، وأنّ الواو للجمع، فحصلت‏ تسعة وهي العدد الذي جمعه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين نسائه، وهذا جهل شنيع في معرفة الكلام العربي، وفي (تفسير القرطبي) نسبة هذا القول إلى الرافضة، وإلى بعض أهل الظاهر، ولم يعيّنه، وليس ذلك قولا لداود الظاهري ولا لأصحابه، ونسبه ابن الفرس في أحكام القرآن إلى قوم لا يعبأ بخلافهم، وقال الفخر: هم قوم سدى، ولم يذكر الجصّاص مخالفا أصلا، ونسب ابن الفرس إلى قوم القول بأنّه لا حصر في عدد الزوجات وجعلوا الاقتصار في الآية بمعنى: إلى ما كان من العدد، وتمسّك هذان الفريقان بأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مات عن تسع نسوة، وهو تمسّك واه، فإنّ تلك خصوصية له، كما دلّ على ذلك الإجماع، وتطلّب الأدلّة القواطع في انتزاع الأحكام من القرآن تطلّب لما يقف بالمجتهدين في استنباطهم موقف الحيرة، فإنّ مبنى كلام العرب على أساس الفطنة، ومسلكه هو مسلك اللمحة الدالّة.

12. ظاهر الخطاب للناس يعم الحرّ والعبد، فللعبد أن يتزوّج أربع نسوة على الصحيح، وهو قول مالك، ويعزى إلى أبي الدرداء، والقاسم بن محمد، وسالم، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومجاهد، وذهب إليه داود الظاهري، وقيل: لا يتزوّج العبد أكثر من اثنتين، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وينسب إلى عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وابن سيرين، والحسن، وليس هذا من مناسب التنصيف للعبيد، لأنّ هذا من مقتضى الطبع الذي لا يختلف في الأحرار والعبيد، ومن ادّعى إجماع الصحابة على أنّه لا يتزوّج أكثر من اثنتين فقد جازف القول.

13. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾، أي فواحدة لكلّ من يخاف عدم العدل، وإنّما لم يقل فأحاد أو فموحد لأنّ وزن مفعل وفعال في العدد لا يأتي إلّا بعد جمع ولم يجر جمع هنا، وقرأ الجمهور: فواحدة ـ بالنصبـ، وانتصب واحدة على أنّه مفعول لمحذوف أي فانكحوا واحدة، وقرأه أبو جعفر ـ بالرفع ـ على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي كفاية، وخوف عدم العدل معناه عدم العدل بين الزوجات، أي عدم التسوية، وذلك في النفقة والكسوة والبشاشة والمعاشرة وترك الضرّ في كلّ ما يدخل تحت قدرة المكلّف وطوقه دون ميل القلب.

14. شرع الله تعدّد النساء للقادر العادل لمصالح جمّة:

أ. منها أنّ في ذلك وسيلة إلى تكثير عدد الأمة بازدياد المواليد فيها.

ب. ومنها أنّ ذلك يعين على كفالة النساء اللائي هنّ‏ أكثر من الرجال في كلّ أمّة لأنّ الأنوثة في المواليد أكثر من الذكورة، ولأنّ الرجال يعرض لهم من أسباب الهلاك في الحروب والشدائد ما لا يعرض للنساء، ولأنّ النساء أطول أعمارا من الرجال غالبا، بما فطرهنّ الله عليه.

ج. ومنها أنّ الشريعة قد حرّمت الزنا وضيّقت في تحريمه لمّا يجرّ إليه من الفساد في الأخلاق والأنساب ونظام العائلات، فناسب أن توسّع على الناس في تعدّد النساء لمن كان من الرجال ميّالا للتعدّد مجبولا عليه.

د. ومنها قصد الابتعاد عن الطلاق إلّا لضرورة.

15. لم يكن في الشرائع السالفة ولا في الجاهلية حدّ للزوجات، ولم يثبت أن جاء عيسى عليه السلام بتحديد للتزوّج، وإن كان ذلك توهّمه بعض علمائنا مثل القرافي، ولا أحسبه صحيحا، والإسلام هو الذي جاء بالتحديد، فأمّا أصل التحديد فحكمته ظاهرة:

أ. من حيث إنّ العدل لا يستطيعه كلّ أحد، وإذا لم يقم تعدّد الزوجات على قاعدة العدل بينهنّ اختلّ نظام العائلة، وحدثت الفتن فيها، ونشأ عقوق الزوجات أزواجهنّ، وعقوق الأبناء آباءهم بأذاهم في زوجاتهم وفي أبنائهم، فلا جرم أن كان الأذى في التعدّد لمصلحة يجب أن تكون مضبوطة غير عائدة على الأصل بالإبطال.

ب. أمّا الانتهاء في التعدّد إلى الأربع فقد حاول كثير من العلماء توجيهه فلم يبلغوا إلى غاية مرضية، وأحسب أنّ حكمته ناظرة إلى نسبة عدد النساء من الرجال في غالب الأحوال، وباعتبار المعدّل في التعدّد فليس كلّ رجل يتزوّج أربعا، فلنفرض المعدّل يكشف عن امرأتين لكلّ رجل، يدلّنا ذلك على أنّ النساء ضعف الرجال، وقد أشار إلى هذا ما جاء في (الصحيح): أنه يكثر النساء في آخر الزمان حتّى يكون لخمسين امرأة القيّم الواحد.

16. ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾:

أ. إن عطف على قوله: ﴿فَوَاحِدَةً﴾، فقد خيّر بينه وبين الواحدة باعتبار التعدّد، أي فواحدة من الأزواج أو عدد ممّا ملكت أيمانكم، وذلك أنّ المملوكات لا يشترط فيهنّ من العدل ما يشترط في الأزواج، ولكن يشترط حسن المعاملة وترك الضرّ.

ب. وإن عطفته على قوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ﴾ كان تخييرا بين التزوّج والتسرّي بحسب أحوال الناس، وكان العدل في الإماء المتّخذات للتسرّي مشروطا قياسا على الزوجات، وكذلك العدد بحسب المقدرة غير أنّه لا يمتنع في التسرّي الزيادة على الأربع لأنّ القيود المذكورة بين الجمل ترجع إلى ما تقدّم منها، وقد منع الإجماع من قياس الإماء على الحرائر في نهاية العدد، وهذا الوجه أدخل في حكمة التشريع وأنظم في‏ معنى قوله: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾

17. الإشارة بقوله‏: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ إلى الحكم المتقدّم، وهو قوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ باعتبار ما اشتمل عليه من التوزيع على حسب العدل، وإفراد اسم الإشارة باعتبار المذكور كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾

18. ﴿أَدْنَى﴾ بمعنى أقرب، وهو قرب مجازي أي أحقّ وأعون على أن لا تعولوا، و(تعولوا) مضارع عال عولا، وهو فعل واوي العين، بمعنى جار ومال، وهو مشهور في كلام العرب، وبه فسّر ابن عباس وجمهور السلف، يقال: عال الميزان عولا إذا مال، وعال فلان في حكمه أي جار، وظاهر أنّ نزول المكلّف إلى العدد الذي لا يخاف معه عدم العدل أقرب إلى عدم الجور، فيكون قوله: ﴿أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ في معنى قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ فيفيد زيادة تأكيد كراهية الجور.

19. يجوز أن تكون الإشارة إلى الحكم المتضمّن له قوله: ﴿فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي ذلك أسلم من الجور، لأنّ التعدّد يعرّض المكلّف إلى الجور وإن بذل جهده في العدل، إذ للنفس رغبات وغفلات، وعلى هذا الوجه لا يكون قوله: ﴿أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ تأكيدا لمضمون‏ ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ ويكون ترغيبا في الاقتصار على المرأة الواحدة أو التعدّد بملك اليمين، إذ هو سدّ ذريعة الجور، وعلى هذا الوجه لا يكون العدل شرطا في ملك اليمين، وهو الذي نحاه جمهور فقهاء الأمصار في ملك اليمين.

20. قيل: معنى ﴿أَلَّا تَعُولُوا﴾ أن لا تكثر عيالكم، مأخوذ من قولهم عال الرجل أهله يعولهم بمعنى مالهم، يعني فاستعمل نفي كثرة العيال على طريق الكناية لأنّ العول يستلزم وجود العيال، والإخبار عن الرجل بأنّه يعول يستلزم كثرة العيال، لأنّه إخبار بشيء لا يخلو عنه أحد فما يخبر المخبر به إلّا إذا رآه تجاوز الحدّ المتعارف، كما تقول فلان يأكل، وفلان ينام، أي يأكل كثيرا وينام كثيرا، ولا يصحّ أن يراد كونه معنى لعال صريحا، لأنّه لا يقال عال بمعنى كثرت عياله، وإنّما يقال أعال، وهذا التفسير مأثور عن زيد بن أسلم، وقاله الشافعي، وقال به ابن الأعرابي من علماء اللغة وهو تفسير بعيد، وكناية خفيّة، لا يلائم إلّا أن تكون الإشارة بقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إلى ما تضمنه قوله: ﴿فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ ويكون في الآية ترغيب في الاقتصار على الواحدة لخصوص الذي لا يستطيع السعة في الإنفاق، لأنّ الاقتصار على الواحدة يقلل النفقة ويقلّل النسل فيبقي عليه ماله، ويدفع عنه الحاجة، إلّا أنّ هذا الوجه لا يلائم قوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، لأنّ تعدّد الإماء يفضي إلى كثرة العيال في النفقة عليهنّ وعلى ما يتناسل منهنّ، ولذلك ردّ جماعة على الشافعي هذا الوجه بين مفرط ومقتصد، وقد أغلظ في الردّ أبو بكر الجصّاص في أحكامه حتّى زعم أنّ هذا غلط في اللغة، اشتبه به عال يعيل بعال يعول، واقتصد ابن العربي في ردّ هذا القول في كتاب الأحكام، وانتصر الزمخشري للشافعي، وأورد عليهم أنّ ذلك لا يلاقي قوله تعالى: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ فإن تعدّد الجواري مثل تعدّد الحرائر فلا مفرّ من الإعالة على هذا التفسير، وأجيب عنه بجواب فيه تكلّف، وحكم هذه الآية ممّا أشار إليه قوله: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النساء: 1]

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/16.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة حق اليتيم من العطف والرعاية ومضار إهماله وعدم إصلاحه والعمل على إذلاله، وفي هذه الآيات يبين حق النساء، والأمر فيهن يتلاقى مع أمر اليتيم؛ لأنهن ضعاف‏، فهن في حاجة إلى رعاية وإصلاح وعطف، ومعاملة عادلة لا شطط فيها ولا جور، ولذا قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [المائدة]

2. معنى الإقساط العدل، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [المائدة] وقوله تعالى: ﴿وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ أي تقيموا العدل بيسر ليصل إليهم من غير مجهود، فمن النقص في العدل ألا يصل العدل إلى صاحبه إلا بمشقة وجهد.

3. معنى‏ ﴿خِفْتُمْ﴾: ظننتم، ومعنى‏ ﴿مَا طَابَ لَكُمْ﴾: ما حل، وقد تفسر بمعنى ما تستحسنونه من النساء لدين وخلق ونسب وجمال أو لواحد من هذا، و(ما) هنا في موضع العاقل، وعبر بـ (ما)، وهى في أصل وضعها لغير العاقل، إما لأنه أريد الصفات؛ لأن طاب تدل على أن الوصف أساس الاختيار، وإما لأن جماعة الإناث تعامل في نسق القول معاملة غير العاقلين كما قرر الزمخشري وإما لأنه عند التعميم يستعمل (ما) في موضع (من)، و(من) في موضع (ما) كقوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ﴾ [النور] وذلك هو الذي نختاره، والنكاح هنا معناه العقد، وكلمة النكاح في القرآن الكريم لم تستعمل إلا في موضع العقد، لا الوطء.

4. هنا شرط وجواب، والشرط هو ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ والجواب هو ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ وقد تكلم‏ العلماء في العلاقة بين الشرط وجزائه، وتساءلوا ما العلاقة بين الإقساط في اليتامى، والزواج مثنى وثلاث ورباع، إلى آخر النص الكريم؟ وقد أجيب عن ذلك بعدة إجابات:

أ. أولها: أن الرجل تكون في ولايته يتيمة، فيخشى ألا يتزوجها خشية ظلمها، أو يخشى أن يطلبها من وليها فيكون منه الظلم لضعفها وعدم وجود حام لها، فقال الله تعالى ما معناه إن رغبتم في الزواج من اليتيمات، وخشيتم من تحقيق هذه الرغبة ألا تعدلوا في اليتامى فلا تحققوا هذه الرغبة، وانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، وتكون إباحة التعدد وتقييده قد جاءت عرضا، لا بالقصد الأصلي في البيان، وقد روى المفسرون ذلك عن عائشة.

ب. ثانيها: أن المعنى: إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فخافوا أيضا ألا تقسطوا في النساء بتزوج أكثر من أربع، أو في دائرة الأربع ولا تعدلوا، أي أنه إذا كان قد تحقق منكم هذا الخوف بالنسبة لليتامى فخافوا بالنسبة للنساء، فلا تتزوجوا أكثر من أربع، وعلى هذا التخريج يكون النص قد سيق لتقدير التعدد لا لإباحته، وقد قال هذا بعض التابعين.

ج. ثالثها: وقد ذكره الزمخشري وهو أن يكون المعنى: إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فخافوا الزنا أيضا، وإذا خفتم الزنا فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، والربط بين الزنا وظلم اليتامى أن كليهما فيه إضعاف للنسل، فالزنا إضعاف له بإخراج مولود ليس له ولىّ أصلا، واليتم فقد الولى، فكلاهما فاقد للنصير، ومن حماية الإنسان من الزنا أن ينكح ما طاب له مثنى وثلاث ورباع، ويكون في هذا التخريج بيان التعدد المباح، وإشارة إلى بعض حكمته.

د. رابعها: وهو ما اختاره ابن جرير الطبري أن المعنى إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فخافوا أيضا ألا تقسطوا في النساء إذا تخلفت العدالة عند التعدد فلا تعددوا، وإذا تخلفت العدالة في الواحدة فمما ملكت أيمانكم، فالآية سيقت للعدالة في التعدد وعدم التعدد، وهو قريب من الثاني، فإن كليهما لمنع ظلم‏ الفساد، بيد أن الثاني تخريجه على أساس تقييد العدد، أما هذا فسياقه المطالبة بالعدالة، وهما متلاقيان في الجملة، وعلى كليهما يكون التعدد والعدالة قد سيق الكلام لهما، ولم يكن عرضا، وإنا نختار ذلك، وسياق القول يدل عليه، وذلك أن الكلام في اليتامى قد اختلط بالكلام في النساء، وذلك لأن كليهما ضعيف، وقد كانت حقوق المرأة ضائعة مأكولة كما كانت حقوق اليتيم ضائعة مأكولة، والمرأة في عهد نزول القرآن كانت أسيرة في بيت أبيها وبيت زوجها فأوصى الله برعايتها كما أوصى برعاية اليتيم، ولذلك قيد التعدد بالعدل، وقيد بالقدرة على الإنفاق كما سنبين، وذلك لكيلا يقع ظلم على المرأة.

5. لفظ (مثنى) معدول به عن اثنين، اثنين، وثلاث معدول به عن ثلاث ثلاث، ورباع معدول به عن أربع أربع، ومعنى جاء الجند مثنى أي جاؤوا اثنين اثنين، وجاؤوا ثلاث أي ثلاثة ثلاثة، ورباع أي أربعة أربعة، ومعنى الآية على هذا أن لجماعة العاقلين أن يتزوجوا معددين جامعين اثنين أو جامعين ثلاثا، أو جامعين أربعا، والخطاب في قوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا﴾ لجماعة المسلمين، أي كونوا أيها المسلمون معددين اثنين أو ثلاثا إلى آخره.

6. العطف على نية تكرار العامل، أي انكحوا جامعين اثنين أو انكحوا جامعين ثلاثا أو انكحوا جامعين أربعا، وبهذا النص يستفاد أن الإباحة مقصورة على أربع، وقد ثبت في السنة أن بعض الذين أسلموا كان معهم في عصمتهم أكثر من أربع فأمرهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقتصروا على أربع، ويطلقوا الزائد عنهن‏، وقد قيد التعدد بقيدين أحدهما القدرة على العدالة، الثاني القدرة على الإنفاق، ولذلك قال سبحانه وتعالى بعد ذلك: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ بالسيطرة عليها، وإذا كانت العدالة مطلوبة في الزواج الواحد، فهي ألزم في تعدد الزوجات، ومعناها يتسع، فتكون العدالة مع كل واحدة بحيث لا يظلمها في ذاتها، ويجب عليه أن يساويها مع غيرها.

7. العدل المطلوب هو العدل الظاهر بالتسوية بينهن في المطعم والملبس والمسكن والبيت، فلا يبيت عند واحدة أكثر من غيرها إلا بإذنها، أما العدل الباطن بمعنى التسوية في المحبة القلبية، فهي غير ممكنة وغير مطلوبة، وقد جاء في أحكام القرآن للجصاص: (أمر الله تعالى بالاقتصار على واحدة إذا خاف الجور ومجانبة العدل، إنها إباحة للاثنتين إذا شاء، وللثلاث إن شاء، وللأربع إن شاء، فإن خاف ألا يعدل اقتصر من الأربع على ثلاث، فإن خاف ألا يعدل اقتصر على اثنتين، فإن خاف ألا يعدل اقتصر على واحدة.. والعدل المطلوب هو العدل الظاهر، وهو القسم بين الزوجين، والمساواة في الإنفاق، والمساواة في المعاملة الظاهرة، وليس هو العدل في المحبة الباطنة فإن ذلك لا يستطيعه أحد، ولا يكلف الله إلا ما يكون في الوسع، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)

8. وقد وفق العلماء بين هذه الآية التي تطالب بالعدل، وبين الآية التي تنفى إمكانه، وهو قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ [النساء] فقالوا إن العدل المطلوب هو العدل الظاهر والمساواة في المعاملة والعدل المنفى المساواة في المحبة القلبية، وإنه واضح أنه إذا لم يستطع العدل الظاهرى وجب الاقتصار على واحدة، وإن لم يستطع العدل معها اكتفى بالدخول بملك اليمين، أي بالدخول بالجارية التي يملكها، وقد زال الرق، فزالت معه تلك الرخصة، فمن لم يستطع العدالة مع زوجه عليه أن يروض نفسه بالصوم، أو يروض نفسه على العدالة.

9. قيد التعدد بقيد ثان، وهو القدرة على الإنفاق على النسوة اللائى يتزوجهن، وعلى من سيرزقهم الله منهن، وقد أشار القرآن إلى وجوب مراعاة ذلك، فقد قال تعالى: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ أي إن هذا التقييد بهذا العدد المحدود، مع قيد العدالة، ومنها القدرة على الإنفاق، أقرب إلى ألا تعولوا، وعال يعول معناها مال، ومنه عال الميزان أي مال، وفسرها بعض العلماء بمعنى ذلك أدنى ألا تجوروا، وروى ذلك التفسير عن عائشة، ولكن فسرها الإمام الشافعي بألا يكثر عيالكم، وهذا التفسير يؤدى إلى معنى جديد، لم يفهم مما سبق، وقد رجح ذلك الزمخشري بقوله: (والذى يحكى عن الشافعي أنه فسر ألّا تعولوا: ألّا تكثر عيالكم فوجهه أن يجعل من قولك عال الرجل عياله يعولهم، كقولهم مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم، لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما يصعب المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب، وكلام مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورؤوس المجتهدين حقيق بالحمل على الصحة والسداد، وألا يظن به تحريف تعيلوا إلى تعولوا، فقد روى عن عمر بن الخطاب أنّه قال: (لا تظن بكلمة خرجت من فىّ أخيك سوءا وأنت تجد له محملا)، وكفى بكتابنا (شافى العى)، من كلام الشافعي شاهدا بأنه أعلى كعبا، وأطول باعا في علم كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا، ولكن للعلماء طرقا وأساليب، فسلك الشافعي في هذه الكلمة طريق الكنايات.

10. مع أن التعدد مقيد بالعدالة والقدرة على الإنفاق، وهى تدخل في العدالة، لا يعتبر العقد فاسدا إذا لم يتوافر هذان الشرطان ولم يحدث أن قاضيا أو حاكما اشترط لصحة العقد أو نفاذه ذلك الشرط، والإجماع على أنه لا أثر لفقد الشرطين في العقد، وكل كلام غير ذلك هو بدعة لم تكن عند السلف، وإنما لم يفسد العقد لأن الفساد يكون بأسباب واقعة، لا بأسباب متوقعة، والعدالة والإنفاق أمران مقدران في المستقبل، فقد يتوب من الظلم، وربما يجعل الله من عسره يسرا، ولأن الظلم أمر نفسي، والفساد والبطلان لا يكونان لأمور نفسية خفية لا يجرى عليها الإثبات، وإذا سوغ بعض الناس للقاضى ألا يأذن إلا إذا تأكدت العدالة والقدرة على الإنفاق، فقد جعل للقاضى ما لا سبيل إلى التأكد منه، ثم إن العدالة والقدرة على الإنفاق لا زمان في الزواج‏ لزومهما في الزواج الثاني والثالث، فلما ذا يسوغان ذلك للقاضى عند التعدد فقط!؟ إن ذلك معاندة لشرع الله تعالى الذي أباح التعدد.

11. التعدد لا بد منه عند استحكام الشهوات؛ لأنه إن لم يعدد اتجه إلى الحرام، والحلال على أية صورة خير من الحرام، واتخاذ الحلائل خير من اتخاذ الخلائل، والتعدد قد يكون علاجا اجتماعيا، عند ما تأكل الحرب شباب أمة من الأمم ويكون عدد النساء الصالحات للزواج أكثر من الشباب بأضعاف مضاعفة، ولا سبيل لإكثار النسل إلا بالتعدد، وهو في هذه الحال منع للمرأة من الابتذال ووقوعها في البغاء، وإن التعدد في هذه الحال خير للمرأة بلا ريب، فليس التعدد شرا على المرأة في مجموع عددها، وقد تكون الزوجة في حال تستوجب أن يتزوج الزوج بأخرى لمرضها أو يطلقها، والخير لها حينئذ في بقاء الزوجية، ذلك شرع الله، وقد منع الأوربيون التعدد الشرعي ففتح الناس باب التعدد الحرام، وفسدت الأسرة هنالك وانحلت، والأسرة الإسلامية ما زالت أقوى الأسر استمساكا، ولا تزال كذلك ما استمرت مستمسكة بدينها، معرضة عن الدعوات التي تريد إبعادها عنه.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1581.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾، ان مبدأ تعدد الزوجات الى أربع مبدأ مقرر في الشريعة بحكم الكتاب والسنة، والإجماع قولا وعملا، بل هذا المبدأ معلوم بضرورة الدين، ولكنه غير مباح اباحة مطلقة، بل مقيد بشرط يبرره بضرورة الدين أيضا.

2. سؤال وإشكال: هنا سؤال يفرض نفسه، وهو إن المعنى الظاهر من هذه الآية ان من خاف منكم ان لا يعدل في اليتامى فليتزوج اثنتين وثلاثا وأربعا، ومتى فعل ذلك لا يبقى ظلم ولا جور.. وليس من شك ان هذا المعنى لو كان مرادا لكان أشبه بالهذيان، إذ لا ربط بين فعل الشرط وجوابه.. حاشا القرآن الكريم الذي فصلت آياته من لدن عليم حكيم!؟، والجواب: واضح وبسيط، ولكن اختلاف أجوبة المفسرين وتضاربها ترك القارئ في حيرة لا يهتدي الى شيء.. ويتلخص الجواب بأن الكلام منذ بدايته موجه الى أوصياء اليتامى، وهم المقصودون بالخطاب في قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾، ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ﴾، ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ﴾، وبعد هذه الخطابات المتعلقة بأموال اليتامى خاطب الله سبحانه الأوصياء بخطاب آخر يتعلق بنكاح اليتيمات، وهو ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ الخ أي في نكاح اليتامى، فحذف لفظ نكاح لدلالة فانكحوا عليه، من باب حذف الأول لدلالة الثاني، على حد تعبير النحاة، ويكون تقدير الكلام هكذا: هذا فيما يعود إلى أموال اليتامى، أما فيما يعود إلى نكاح الإناث منهم فعليكم أيها الأوصياء ان تزوجتم بهن ان لا تقصروا في حقوقهن، وان خفتم التقصير وعدم العدل في معاملتهن بالنظر الى انهن وحيدات لا أحد يدافع عنهن فاتركوهن، وتزوجوا من غيرهن فقد جعل الله لكم مندوحة عن اليتيمات بما أباحه لكم من التزويج بغيرهن واحدة أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا.. ولكن أيضا على أساس العدل، فإن خفتم أن لا تعدلوا مع التعدد فاقتصروا على الواحدة، وبهذا يتم الربط بين فعل الشرط وجوابه، تماما كما تقول لجليسك: إذا كنت لا تأكل من هذا الصنف لأنك تكثر منه، وتخاف من داء التخمة فكل من الأصناف الأخر، ولكن على أساس عدم الإكثار منها، والا وقعت في المحذور نفسه.

3. كل كلمة قدرناها لهذا المعنى الذي ذكرناه فإن السياق يدل عليها، والمألوف من طريقة القرآن انه يوجز الكلام الى أقصى حد، ويحذف منه كل ما يمكن أن يستحضره السامع والقارئ من الاشارة والإيماء، وان دلت حيرة المفسرين على شيء فإنما تدل على ان هذه الآية هي أبلغ آية في الإيجاز.

4. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾، المراد بالعدل التسوية في الملبس والمسكن ونحو ذلك مما يدخل تحت طاقة الإنسان، أما ما لا يدخل في وسعه من ميل القلب الى واحدة دون أخرى فلا يكلف الإنسان بالعدل فيه، وبهذا نجد الفرق بين قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ وبين قوله: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ ـ 128 النساء)، فالمراد بالعدل الأول التسوية في الإنفاق، وبالعدل الثاني ميل القلب.

5. سؤال وإشكال: ان الله سبحانه قد أوجب الاقتصار على الواحدة مع خوف الرجل من الجور إذا عدد.. وبديهة ان الخوف حالة نفسية ذاتية تخطئ أكثر مما تصيب، وقد شاهدنا الكثير من الرجال تطغى عليهم شهواتهم ورغبتهم في تعدد الزوجات، فتعميهم عن تقدير ظروفهم، وتدبر قدرتهم، وعلى هذا لا يكون للشرط مقياس صحيح، وضابط مطرد؟، والجواب: ان هذا الاشكال لا مفر منه، إذا أردنا من الخوف الحالة النفسية، أما إذا أردنا منه ظروف الرجل المادية والصحية، وانها تتحمل أكثر من زوجة واحدة، أما إذا أردنا هذا فالسؤال غير وارد من الأساس، لأن الأشياء المحسوسة يمكن ضبطها بسهولة.. ولا شيء في الشريعة الإسلامية يمنع أن يعهد بتقدير ظروف الرجل الذي يريد التعدد الى هيئة خاصة، كما هي الحال الآن في بعض الأقطار الإسلامية.

6. ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾، أي ان الاقتصار على الواحدة اقرب الى العدل، وأبعد عن الجور والظلم، وفي هذا إيماء الى ان على الرجل أن يكتفي بواحدة، لأن في التعدد مفاسد.. وجاء في تفسير البيضاوي ان البعض فسر لا ﴿تَعُولُوا﴾ بكثرة العيال من عال الرجل إذا كثر عياله، وعلى هذا يكون معنى الآية ان الأفضل ان لا يعدد الرجل زوجاته، كيلا يتحمل من أجلهن وأجل أولادهن المشاق والمتاعب، وقال صاحب المنار: (هذا هو الأرجح).. وقال الإمام علي عليه السلام: قلة العيال احدى اليسارين.

7. شرع الإسلام تعدد الزوجات، على شرط، ما في ذلك ريب.. وليس هذا المبدأ من حيث هو محلا للنظر والاجتهاد، ولكن باب النظر والاجتهاد مفتوح في تفسير الشرط المبرر للتعدد، فللمجتهد أن يقول: ان المراد من الخوف مجرد توقع الرجل أن يجور ولا يعدل بين الزوجات، وعليه ينسد باب التعدد إلا فيما ندر، لأن هذا التوقع قائم بالنسبة إلى الأكثرية الغالبة.. ويؤكده ما نراه من الفساد في أكثر البيوتات التي فيها أكثر من زوجة، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ أي الاقتصار على الواحدة أقرب إلى العدل، وأبعد عن الجور، إذن، فتعليق جواز التعدد على الأمن من الجور والفساد أشبه بالتعليق على المحال بالنسبة إلى الأعم الأغلب.

8. الغريب ان الذين يتوقع منهم العدل بين الزوجات، وتساعدهم الظروف المادية والصحية ـ يحجمون عن التعدد، ويهابونه على الرغم من رغبتهم فيه، وميلهم اليه، أما الذين لا يتوقع العدل منهم بحال، ويفسدون المجتمع بنسلهم وتعدد زوجاتهم، أما هؤلاء فيقدمون على تعدد الزوجات بكل جرأة.. ومن المؤسف ان علماء الدين وقادته يجرون عقود الزواج لهؤلاء، بلا توقف، ودون سؤال وجواب، حتى كأن التعدد مباح اباحة مطلقة دون قيد أو شرط.

9. تعدد الزوجات ليس من الواجبات ولا المستحبات في الشريعة الإسلامية، وإنما شرعه الإسلام ضمن نطاق خاص، ولمصلحة خاصة، ولكن أعداء الدين اتخذوا من عمل الذواقين الذين لم يراعوا الشرط المبرر، اتخذوا منه وسيلة للطعن والتشهير برسالة الإسلام وصاحبها، كما هو شأنهم وديدنهم في الاحتجاج بعمل الأفراد على الدين والعقيدة، ولو أنصفوا لعكسوا، واحتجوا بالدين على الأفراد والأتباع.

10. إذ اشترط الإسلام على الرجل أن لا يتزوج باثنتين إلا مع أمنه من الفساد والجوار فإن بعض النساء في بلاد أوروبا وأمريكا تتصل أحيانا ـ وربما على علم من زوجها ـ بمن تشاء من الرجال ـ دون قيد أو شرط.. ان صح أخذ القيد والشرط في مثل ذلك.. وفوق هذا أقر مجلس العموم البريطاني في العام الماضي شرعية اللواط، ووافقت عليه بعض المراجع الدينية، وعمت البلاد الفرحة لهذه البادرة (الطيبة) والسبق في ميدان الحضارة والانسانية والتشريع الحديث، ومن غرائب نظم الزواج ان في جنوب الهند، وعلى حدوده الشمالية يباح للمرأة أن تتزوج بأكثر من رجل، ولا يزال هذا النظام متبعا حتى اليوم.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/247.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ قد مرت الإشارة فيما مر إلى أن أهل الجاهلية من العرب ـ وكانوا لا يخلون في غالب الأوقات عن الحروب والمقاتل والغيلة والغارة وكان يكثر فيهم حوادث القتل ـ كان يكثر فيهم الأيتام، وكانت الصناديد والأقوياء منهم يأخذون إليهم يتامى النساء وأموالهن فيتزوجون بهن ويأكلون أموالهن إلى أموالهم ثم لا يقسطون فيهن وربما أخرجوهن بعد أكل مالهن فيصرن عاطلات ذوات مسكنة لا مال لهن يرتزقن به ولا راغب فيهن فيتزوج بهن وينفق عليهن، وقد شدد القرآن الكريم النكير على هذا الدأب الخبيث والظلم الفاحش، وأكد النهي عن ظلم اليتامى وأكل أموالهم كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ الآية، فأعقب ذلك أن المسلمين أشفقوا على أنفسهم ـ كما قيل ـ وخافوا خوفا شديدا حتى أخرجوا اليتامى من ديارهم خوفا من الابتلاء بأموالهم والتفريط في حقهم، ومن أمسك يتيما عنده أفرز حظه من الطعام والشراب وكان إذا فضل من غذائهم شيء لم يدنوا منه حتى يبقى ويفسد فأصبحوا متحرجين من ذلك وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك وشكوا إليه فنزل: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، فأجاز لهم أن يأووهم ويمسكوهم إصلاحا لشأنهم وأن يخالطوهم فإنهم إخوانهم فجلى عنهم وفرج همهم.

2. إذا تأملت في ذلك ثم رجعت إلى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا﴾ (إلخ) وهو واقع عقيب قوله: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ الآية اتضح لك أن الآية واقعة موقع الترقي بالنسبة إلى النهي الواقع في الآية السابقة والمعنى ـ والله أعلم ـ: اتقوا أمر اليتامى، ولا تتبدلوا خبيث أموالكم من طيب أموالهم، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم حتى إنكم إن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمات منهم ولم تطب نفوسكم أن تنكحوهن وتتزوجوا بهن فدعوهن وانكحوا نساء غيرهن ما طاب لكم مثنى وثلاث ورباع.

3. فالشرطية أعني قوله: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى‏ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ﴾، في معنى قولنا إن لم تطب لكم اليتامى للخوف من عدم القسط فلا تنكحوهن وانكحوا نساء غيرهن فقوله: فانكحوا ساد مسد الجزاء الحقيقي.

4. وقوله: ﴿مَا طَابَ لَكُمْ﴾، يغني عن ذكر وصف النساء أعني لفظ غيرهن، وقد قيل: ﴿مَا طَابَ لَكُمْ﴾ ولم يقل: من طاب لكم إشارة إلى العدد الذي سيفصله بقوله: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ﴾.. ووضع قوله: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا﴾ موضع عدم طيب النفس من وضع السبب موضع المسبب مع الإشعار بالمسبب في الجزاء بقوله: ﴿مَا طَابَ لَكُمْ﴾

5. قيل في معنى الآية أمور أخر غير ما مر على ما ذكر في مطولات التفاسير وهي كثيرة:

أ. منها: أنه كان الرجل منهم يتزوج بالأربع والخمس وأكثر ويقول: ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان، فإذا فني ماله مال إلى مال اليتيم الذي في حجره فنهاهم الله عن أن يتجاوزوا الأربع لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ظلما.

ب. ومنها: أنهم كانوا يشددون في أمر اليتامى ولا يشددون في أمر النساء فيتزوجون منهن عددا كثيرا ولا يعدلون بينهن، فقال تعالى: إن كنتم تخافون أمر اليتامى فخافوا في النساء فانكحوا منهن واحدة إلى أربع.

ج. ومنها: أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى وأكل أموالهم فقال سبحانه: إن كنتم تحرجتم من ذلك فكذلك تحرجوا من الزنا ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾

د. ومنها: أن المعنى إن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمة المرباة في حجوركم‏ ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ مما أحل لكم من يتامى قرباتكم‏ ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾

هـ. ومنها: أن المعنى إن كنتم تتحرجون عن مؤاكلة اليتامى فتحرجوا من الجمع بين النساء وأن لا تعدلوا بينهن ولا تتزوجوا منهن إلا من تأمنون معه الجور، فهذه وجوه ذكروها لكنك بصير بأن شيئا منها لا ينطبق على لفظ الآية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدمناه.

6. ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ بناء مفعل وفعال في الأعداد تدلان على تكرار المادة فمعنى مثنى وثلاث ورباع اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا، ولما كان الخطاب متوجها إلى أفراد الناس وقد جي‏ء بواو التفصيل بين‏ ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ الدال على التخيير أفاد الكلام أن لكل واحد من المؤمنين أن يتخذ لنفسه زوجتين أو ثلاثا أو أربعا فيصرن بالإضافة إلى الجميع مثنى وثلاث ورباع.

7. وبذلك وبقرينة قوله بعده: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ وكذا آية المحصنات بجميع ذلك يدفع أن يكون المراد بالآية أن تنكح الاثنتان بعقد واحد أو الثلاث بعقد واحد مثلا، أو يكون المراد أن تنكح الاثنتان معا ثم الاثنتان معا وهكذا، وكذا في الثلاث والأربع، أو يكون المراد اشتراك أزيد من رجل واحد في الزوجة الواحدة مثلا فهذه محتملات لا تحتملها الآية، على أن الضرورة قاضية أن الإسلام لا ينفذ الجمع بين أزيد من أربع نسوة أو اشتراك أزيد من رجل في زوجة واحدة، وكذا يدفع بذلك احتمال أن يكون الواو للجمع فيكون في الكلام تجويز الجمع بين تسع نسوة لأن مجموع الاثنتين والثلاث والأربع تسع، وقد ذكر في المجمع: أن الجمع بهذا المعنى غير محتمل البتة فإن من قال دخل القوم البلد مثنى وثلاث ورباع لم يلزم منه اجتماع الأعداد فيكون دخولهم تسعة تسعة، ولأن لهذا العدد لفظا موضوعا وهو تسع فالعدول عنه إلى مثنى وثلاث ورباع نوع من العي ـ جل كلامه عن ذلك وتقدس ـ.

8. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ أي فانكحوا واحدة لا أزيد، وقد علقه تعالى على الخوف من ذلك دون العلم لأن العلم في هذه الأمور ـ ولتسويل النفس فيها أثر بين ـ لا يحصل غالبا فتفوت المصلحة.

9. ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ وهي الإماء فمن خاف ألا يقسط فيهن فعليه أن ينكح واحدة، وإن أحب أن يزيد في العدد فعليه بالإماء إذ لم يشرع القسم في الإماء، ومن هنا يظهر أن ليس المراد التحضيض على الإماء بتجويز الظلم والتعدي عليهن فإن الله لا يحب الظالمين وليس بظلام للعبيد بل لما لم يشرع القسم فيهن فأمر العدل فيهن أسهل، ولهذه النكتة بعينها كان المراد بذكر ملك اليمين الاكتفاء باتخاذهن وإتيانهن بملك اليمين دون نكاحهن بما يبلغ العدد أو يكثر عليه فإن مسألة نكاحهن‏ سيتعرض لها في ما سيجي‏ء من قوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ الآية.

10. ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ العول‏ هو الميل أي هذه الطريقة على ما شرعت أقرب من ألا تميلوا عن العدل ولا تتعدوا عليهن في حقوقهن، وربما قيل: إن العول بمعنى الثقل وهو بعيد لفظا ومعنى، وفي ذكر هذه الجملة التي تتضمن حكمة التشريع دلالة على أن أساس التشريع في أحكام النكاح على القسط ونفي العول والإجحاف في الحقوق.

11. ذكر هنا بعض المباحث المفصلة المرتبطة بالزواج ومقاصده، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

12. أمر الوحدة والتعدد فيما نشاهده من أقسام الحيوان غير واضح ففيما كان بينها اجتماع منزلي تتأحد الإناث وتختص بالذكور لما أن الذكور في شغل شاغل في مشاركتها في تدبير المنزل وحضانة الأفراخ وتربيتها وربما تغير الوضع الجاري بينها بالصناعة والتدبير والكفالة أعني بالتأهيل والتربية كما يشاهد من‏ أمر الديك والدجاج والحمام ونحوها، وأما الإنسان فاتخاذ الزوجات المتعددة كانت سنة جارية في غالب الأمم القديمة كمصر والهند والصين والفرس بل والروم واليونان فإنهم كانوا ربما يضيفون إلى الزوجة الواحدة في البيت خدنا يصاحبونها بل وكان ذلك عند بعض الأمم لا ينتهي إلى عدد يقف عليه كاليهود والعرب فكان الرجل منهم ربما تزوج العشرة والعشرين وأزيد وقد ذكروا أن سليمان الملك تزوج مئات من النساء(2).

13. أغلب ما كان يقع تعدد الزوجات إنما هو في القبائل ومن يحذو حذوهم من سكان القرى والجبال فإن لرب البيت منهم حاجة شديدة إلى الجمع وكثرة الأعضاء فكانوا يقصدون بذلك التكاثر في البنين بكثرة الاستيلاد ليهون لهم أمر الدفاع الذي هو من لوازم عيشتهم وليكون ذلك وسيلة يتوسلون بها إلى الترؤس والسؤدد في قومهم على ما في كثرة الازدواج من تكثر الأقرباء بالمصاهرة.

14. ما ذكره بعض العلماء أن العامل في تعدد الزوجات في القبائل وأهل القرى إنما هو كثرة المشاغل والأعمال فيهم كأعمال الحمل والنقل والرعي والزراعة والسقاية والصيد والطبخ والنسج وغير ذلك فهو وإن كان حقا في الجملة إلا أن التأمل في صفاتهم الروحية يعطي أن هذه الأعمال في الدرجة الثانية من الأهمية عندهم، وما ذكرناه هو الذي يتعلق به قصد الإنسان البدوي أولا وبالذات كما أن شيوع الادعاء والتبني أيضا بينهم سابقا كان من فروع هذا الغرض.

15. على أنه كان في هذه الأمم عامل أساسي آخر لتداول تعدد الزوجات بينهم وهو زيادة عدة النساء على الرجال بما لا يتسامح فيه فإن هذه الأمم السائرة بسيرة القبائل كانت تدوم فيهم الحروب والغزوات وقتل الفتك والغيلة فكان القتل يفني الرجال، ويزيد عدد النساء على الرجال زيادة لا ترتفع حاجة الطبيعة معها إلا بتعدد الزوجات ـ هذا.

16. الإسلام شرع الازدواج بواحدة، وأنفذ التكثير إلى أربع بشرط التمكن من القسط بينهن مع إصلاح جميع المحاذير المتوجهة إلى التعدد على ما سنشير إليها قال الله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾

17. استشكلوا على حكم تعدد الزوجات:

أ. أولا: أنه يضع آثارا سيئة في المجتمع فإنه يقرع قلوب النساء في عواطفهن ويخيب آمالهن ويسكن فورة الحب في قلوبهن فينعكس حس الحب إلى حس الانتقام فيهملن أمر البيت ويتثاقلن في تربية الأولاد ويقابلن الرجال بمثل ما أساؤوا إليهن فيشيع الزنا والسفاح والخيانة في المال والعرض فلا يلبث المجتمع دون أن ينحط في أقرب وقت.

ب. وثانيا: أن التعدد في الزوجات يخالف ما هو المشهود المتراءى من عمل الطبيعة فإن الإحصاء في الأمم والأجيال يفيد أن قبيلي الذكورة والإناث متساويان عددا تقريبا فالذي هيأته الطبيعة هو واحدة لواحد، وخلاف ذلك خلاف غرض الطبيعة.

ج. وثالثا: أن في تشريع تعدد الزوجات ترغيبا للرجال إلى الشره والشهوة، وتقوية لهذه القوة في المجتمع.

د. ورابعا: أن في ذلك حطا لوزن النساء في المجتمع بمعادلة الأربع منهن بواحد من الرجال وهو تقويم جائر حتى بالنظر إلى مذاق الإسلام الذي سوى فيه بين مرأتين ورجل كما في الإرث والشهادة وغيرهما، ولازمه تجويز التزوج باثنتين منهن لا أزيد ففي تجويز الأربع عدول عن العدل على أي حال من غير وجه وهذه الإشكالات مما اعترض بها النصارى على الإسلام أو من يوافقهم من المدنيين المنتصرين لمسألة تساوي حقوق الرجال والنساء في المجتمع.

18. الجواب عن الإشكالات على حكم تعدد الزوجات:

أ. الجواب عن الأول ما تقدم غير مرة في المباحث المتقدمة أن الإسلام وضع بنية المجتمع الإنساني على أساس الحياة التعقلية دون الحياة الإحساسية فالمتبع عنده هو الصلاح العقلي في السنن الاجتماعية دون ما تهواه الإحساسات وتنجذب إليه العواطف:

وليس في ذلك إماتة العواطف والإحساسات الرقيقة وإبطال حكم المواهب الإلهية والغرائز الطبيعية فإن من المسلم في الأبحاث النفسية أن الصفات الروحية والعواطف والإحساسات الباطنة تختلف كما وكيفا باختلاف التربية والعادة، كما أن كثيرا من الآداب والرسوم الممدوحة عند الشرقيين مثلا مذمومة عند الغربيين وبالعكس، وكل أمة تختلف مع غيرها في بعضها، والتربية الدينية في الإسلام تقيم المرأة الإسلامية مقاما لا تتألم بأمثال ذلك عواطفها، نعم المرأة الغربية حيث اعتادت منذ قرون بالوحدة ولقنت بذلك جيلا بعد جيل استحكم في روحها عاطفة نفسانية تضاد التعدد، ومن الدليل على ذلك الاسترسال الفظيع الذي شاعت بين الرجال والنساء في الأمم المتمدنة! اليوم.

أليس رجالهم يقضون أوطار الشهوة من كل من هووها وهوتهم من نسائهم من محارم وغيرها ومن بكر أو ثيب ومن ذات بعل أو غيرها، حتى أن الإنسان لا يقدر أن يقف في كل ألف منهم بواحد قد سلم من الزنا سواء في ذلك الرجال والنساء ولم يقنعوا بذلك حتى وقعوا في الرجال وقوعا قل ما يسلم منه فرد حتى بلغ الأمر مبلغا رفعوا قبيل سنة إلى برلمان بريطانيا العظمى أن يبيح لهم اللواط سنة قانونية وذلك بعد شيوعه بينهم من غير رسمية، وأما النساء وخاصة الأبكار وغير ذوات البعل من الفتيات فالأمر فيهن أغرب وأفظع.

فليت شعري كيف لا تأسف النساء هناك ولا يتحرجن ولا تنكسر قلوبهن ولا تتألم عواطفهن حين يشاهدن كل هذه الفضائح من رجالهن؟ وكيف لا تتألم عواطف الرجل وإحساساته حين يبني بفتاة ثم يجدها ثيبا فقدت بكارتها وافترشت لا للواحد والاثنين من الرجال ثم لا يلبث حتى يباهي بين الأقران أن السيدة ممن توفرت عليها رغبات الرجال وتنافس في القضاء منها العشرات والمئات! وهل هذا إلا أن هذه السيئات تكررت بينهم ونزعة الحرية تمكنت من أنفسهم حتى صارت عادة عريقة مألوفة لا تمتنع منها العواطف والإحساسات ولا تستنكرها النفوس؟ فليس إلا أن السنن الجارية تميل العواطف والإحساسات إلى ما يوافقها ولا يخالفها.

أما ما ذكروه من استلزام ذلك إهمالهن في تدبير البيت وتثاقلهن في تربية الأولاد وشيوع الزنا والخيانة فالذي أفادته التجربة خلاف ذلك فإن هذا الحكم جرى في صدر الإسلام وليس في وسع أحد من أهل الخبرة بالتاريخ أن يدعي حصول وقفة في أمر المجتمع من جهته بل كان الأمر بالعكس. على أن هذه النساء اللاتي يتزوج بهن على الزوجة الأولى في المجتمع الإسلامي وسائر المجتمعات التي ترى ذلك أعني الزوجة الثانية والثالثة والرابعة إنما يتزوج بهن عن رضاء ورغبة منهن وهن من نساء هذه المجتمعات، ولم يسترققهن الرجال من مجتمعات‏ أخرى، ولا جلبوهن للنكاح من غير هذه الدنيا وإنما رغبن في مثل هذا الازدواج لعلل اجتماعية، فطباع جنس المرأة لا يمتنع عن مسألة تعدد الزوجات، ولا قلوبهن تتألم منها بل لو كان شيء من ذلك فهو من لوازم أو عوارض الزوجية الأولى أعني أن المرأة إذا توحدت للرجل لا تحب أن ترد عليها وعلى بيتها أخرى لخوفها أن تميل عنها بعلها أو تترأس عليها غيرها أو يختلف الأولاد ونحو ذلك فعدم الرضاء والتألم فيما كان إنما منشؤه حالة عرضية (التوحد بالبعل) لا غريزة طبيعية.

ب. الجواب عن الثاني أن الاستدلال بتسوية الطبيعة بين الرجال والنساء في العدد مختل من وجوه:

منها أن أمر الازدواج لا يتكئ على هذا الذي ذكروه فحسب بل هناك عوامل وشرائط أخرى لهذا الأمر:

● فأولا الرشد الفكري والتهيؤ لأمر النكاح أسرع إلى النساء منها إلى الرجال فالنساء وخاصة في المناطق الحارة إذا جزن التسع صلحن للنكاح، والرجال لا يتهيئون لذلك غالبا قبل الست عشرة من السنين (وهو الذي اعتبره الإسلام للنكاح)، ومن الدليل على ذلك السنة الجارية في فتيات الأمم المتمدنة فمن الشاذ النادر أن تبقى فتاة على بكارتها إلى سن البلوغ القانوني فليس إلا أن الطبيعة هيأتها للنكاح قبل تهيئتها الرجال لذلك، ولازم هذه الخاصة أن لو اعتبرنا مواليد ست عشرة سنة من قوم (والفرض تساوي عدد الذكور والإناث فيهم) كان الصالح للنكاح في السنة السادسة عشر من الرجال وهي سنة أول الصلوح مواليد سنة واحدة وهم مواليد السنة الأولى المفروضة، والصالحة للنكاح من النساء مواليد سبع سنين وهي مواليد السنة الأولى إلى السابعة، ولو اعتبرنا مواليد خمسة وعشرين سنة وهي سن بلوغ الأشد من الرجال حصل في السنة الخامسة العشرين على الصلوح من الرجال مواليد عشرة سنين ومن النساء مواليد خمس عشرة سنة، وإذا أخذنا بالنسبة الوسطى حصل لكل واحد من الرجال اثنتان من النساء بعمل الطبيعة.

● وثانيا أن الإحصاء كما ذكروه يبين أن النساء أطول عمرا من الرجال ولازمه أن‏ تهيئ سنة الوفاة والموت عددا من النساء ليس بحذائهن رجال‏.

● وثالثا: أن خاصة النسل والتوليد تدوم في الرجال أكثر من النساء فالأغلب على النساء أن يئسن من الحمل في سن الخمسين ويمكث ذلك في الرجال سنين عديدة بعد ذلك، وربما بقي قابلية التوليد في الرجال إلى تمام العمر الطبيعي وهي مائة سنة فيكون عمر صلاحية الرجال للتوليد وهو ثمانون سنة تقريبا ضعفه في المرأة وهو أربعون تقريبا، وإذا ضم هذا الوجه إلى الوجه السابق أنتج أن الطبيعة والخلقة أباح للرجال التعدي من الزوجة الواحدة إلى غيرها فلا معنى لتهيئة قوة التوليد والمنع عن الاستيلاد من محل شأنه ذلك فإن ذلك مما تأباه سنة العلل والأسباب الجارية.

● ورابعا: أن الحوادث المبيدة لأفراد المجتمع من الحروب والمقاتل وغيرهما تحل بالرجال وتفنيهم أكثر منها بالنساء بما لا يقاس كما تقدم أنه كان أقوى العوامل لشيوع تعدد الزوجات في القبائل فهذه الأرامل والنساء العزل لا محيص لهن عن قبول التعدد أو الزنا أو خيبة القوة المودعة في طبائعهن وبطلانها، ومما يتأيد به هذه الحقيقة ما وقع في الألمان الغربي قبل عدة شهور من كتابة هذه الأوراق: أظهرت جمعية النساء العزل تحرجها من فقدان البعولة وسألت الحكومة أن يسمح لهن بسنة تعدد الزوجات الإسلامية حتى يتزوج من شاء من الرجال بأزيد من واحدة ويرتفع بذلك غائلة الحرمان، غير أن الحكومة لم تجبهن في ذلك وامتنعت الكنيسة من قبوله ورضيت بفشو الزنا وشيوعه وفساد النسل به.

ومنها أن الاستدلال بتسوية الطبيعة النوعية بين الرجال والنساء في العدد مع‏ الغض عما تقدم إنما يستقيم فيما لو فرض أن يتزوج كل رجل في المجتمع بأكثر من الواحدة إلى أربع من النساء لكن الطبيعة لا تسمح بإعداد جميع الرجال لذلك ولا يسع ذلك بالطبع إلا لبعضهم دون جميعهم والإسلام لم يشرع تعدد الزوجات بنحو الفرض والوجوب على الرجال بل إنما أباح ذلك لمن استطاع أن يقيم القسط منهم، ومن أوضح الدليل على عدم استلزام هذا التشريع حرجا ولا فسادا أن سير هذه السنة بين المسلمين وكذا بين سائر الأمم الذين يرون ذلك لم يستلزم حرجا من قحط النساء وإعوازهن على الرجال، بل بالعكس من ذلك أعد تحريم التعدد في البلاد التي فيها ذلك ألوفا من النساء حرمن الأزواج والاجتماع المنزلي واكتفين بالزنا.

ومنها أن الاستدلال المذكور مع الإغماض عن ما سبق إنما يستقيم لو لم يصلح هذا الحكم ولم يعدل بتقييده بقيود ترتفع بها المحاذير المتوهمة فقد شرط الإسلام على من يريد من الرجال التعدد أن يقيم العدل في معاشرتهن بالمعروف وفي القسم والفراش وفرض عليهم نفقتهن ثم نفقة أولادهن ولا يتيسر الإنفاق على أربع نسوة مثلا ومن يلدنه من الأولاد مع شريطة العدل في المعاشرة وغير ذلك إلا لبعض أولي الطول والسعة من الناس لا لجميعهم، على أن هناك طرقا دينية شرعية يمكن أن تستريح إليها المرأة فتلزم الزوج على الاقتصار عليها والإغماض عن التكثير.

ج. الجواب عن الثالث:

أنه مبني على عدم التدبر في نحو التربية الإسلامية ومقاصد هذه الشريعة فإن التربية الدينية للنساء في المجتمع الإسلامي الذي يرتضيه الدين بالستر والعفاف والحياء وعدم الخرق تنمي المرأة وشهوة النكاح فيها أقل منها في الرجل (على الرغم مما شاع أن شهوة النكاح فيها أزيد وأكثر واستدل عليه بتولعها المفرط بالزينة والجمال طبعا) وهذا أمر لا يكاد يشك فيه رجال المسلمين ممن تزوج بالنساء الناشئات على التربية الدينية فشهوة النكاح في المتوسط من الرجال تعادل ما في أكثر من امرأة واحدة بل والمرأتين والثلاث.

ومن جهة أخرى من عناية هذا الدين أن يرتفع الحرمان في الواجب من مقتضيات الطبع ومشتهيات النفس فاعتبر أن لا تختزن الشهوة في الرجل ولا يحرم منها فيدعوه ذلك إلى التعدي إلى الفجور والفحشاء والمرأة الواحدة ربما اعتذرت فيما يقرب من ثلث‏ أوقات المعاشرة والمصاحبة كأيام العادة وبعض أيام الحمل والوضع والرضاع ونحو ذلك والإسراع في رفع هذه الحاجة الغريزية هو لازم ما تكرر منا في المباحث السابقة من هذا الكتاب أن الإسلام يبني المجتمع على أساس الحياة التعقلية دون الحياة الإحساسية فبقاء الإنسان على حالة الإحساس الداعية إلى الاسترسال في الأهواء والخواطر السوء كحال التعزب ونحوه من أعظم المخاطر في نظر الإسلام.

ومن جهة أخرى من أهم المقاصد عند شارع الإسلام تكثر نسل المسلمين وعمارة الأرض بيد مجتمع مسلم عمارة صالحة ترفع الشرك والفساد.

فهذه الجهات وأمثالها هي التي اهتم بها الإسلام في تشريع تعدد الزوجات دون ترويج أمر الشهوة وترغيب الناس إلى الانكباب عليها ولو أنصف هؤلاء المستشكلون كان هذه السنن الاجتماعية المعروفة بين هؤلاء البانين للاجتماع على أساس التمتع المادي أولى بالرمي بترويج الفحشاء والترغيب إلى الشره من الإسلام الباني للاجتماع على أساس السعادة الدينية.

على أن في تجويز تعدد الزوجات تسكينا لثورة الحرص التي هي من لوازم الحرمان فكل محروم حريص، ولا هم للممنوع المحبوس إلا أن يهتك حجاب المنع والحبس، فالمسلم وإن كان ذا زوجة واحدة فإنه على سكن وطيب نفس من أنه ليس بممنوع عن التوسع في قضاء شهوته لو تحرجت نفسه يوما إليه، وهذا نوع تسكين لطيش النفس، وإحصان لها عن الميل إلى الفحشاء وهتك الأعراض المحرمة، وقد أنصف بعض الباحثين من الغربيين حيث قال لم يعمل في إشاعة الزنا والفحشاء بين الملل المسيحية عامل أقوى من تحريم الكنيسة تعدد الزوجات‏.

د. الجواب عن الرابع أنه ممنوع فقد بينا في بعض المباحث السابقة عند الكلام في حقوق‏، المرأة في الإسلام: أنه لم يحترم النساء ولم يراع حقوقهن كل المراعاة أي‏ سنة من السنن الدينية أو الدنيوية من قديمها وحديثها بمثل ما احترمهن الإسلام وسنزيد في ذلك وضوحا، وأما تجويز تعدد الزوجات للرجل فليس بمبني على ما ذكر من إبطال الوزن الاجتماعي وإماتة حقوقهن والاستخفاف بموقفهن في الحياة وإنما هو مبني على جهات من المصالح تقدم بيان بعضها، وقد اعترف بحسن هذا التشريع الإسلامي وما في منعه من المفاسد الاجتماعية والمحاذير الحيوية جمع من باحثي الغرب من الرجال والنساء من أراده فليراجع إلى مظانه، وأقوى ما تشبث به مخالفوا سنة التعدد من علماء الغرب وزوقوه في أعين الناظرين ما هو مشهود في بيوت المسلمين تلك البيوت المشتملة على زوجات عديدة: ضرتان أو ضرائر فإن هذه البيوت لا تحتوي على حياة صالحة ولا عيشة هنيئة، لا تلبث الضرتان من أول يوم حلتا البيت دون أن تأخذا في التحاسد حتى أنهم سموا الحسد بداء الضرائر، وعندئذ تنقلب جميع العواطف والإحساسات الرقيقة التي جبلت عليها النساء من الحب ولين الجانب والرقة والرأفة والشفقة والنصح وحفظ الغيب والوفاء والمودة والرحمة والإخلاص بالنسبة إلى الزوج وأولاده من غير الزوجة وبيته وجميع ما يتعلق به إلى أضدادها، فينقلب البيت الذي هو سكن للإنسان يستريح فيه من تعب الحياة اليومي وتألم الروح والجسم من مشاق الأعمال والجهد في المكسب معركة قتال يستباح فيها النفس والعرض والمال والجاه، لا يؤمن فيه من شيء لشيء، ويتكدر فيه صفو العيش وترتحل لذة الحياة، ويحل محلها الضرب والشتم والسب واللعن والسعاية والنميمة والرقابة والمكر والمكيدة، واختلاف الأولاد وتشاجرهم، وربما انجر الأمر إلى هم الزوجة بإهلاك الزوج، وقتل بعض الأولاد بعضا أو أباهم، وتتبدل القرابة بينهم إلى الأوتار التي تسحب في الأعقاب سفك الدماء وهلاك النسل وفساد البيت، أضف إلى ذلك ما يسري من ذلك إلى المجتمع من الشقاء وفساد الأخلاق والقسوة والظلم والبغي والفحشاء وانسلاب الأمن والوثوق وخاصة إذا أضيف إلى ذلك جواز الطلاق فإباحة تعدد الزوجات والطلاق ينشئان في المجتمع رجالا ذواقين مترفين لا هم لهم إلا اتباع الشهوات والحرص والتولع على أخذ هذه وترك تلك، ورفع واحدة ووضع أخرى، وليس فيه إلا تضييع نصف المجتمع وإشقاؤه وهو قبيل النساء، وبذلك‏ يفسد النصف الآخر، هذا محصل ما ذكروه، وهو حق غير أنه:

إنما يرد على المسلمين لا على الإسلام وتعاليمه، ومتى عمل المسلمون بحقيقة ما ألقته إليهم تعاليم الإسلام حتى يؤخذ الإسلام بالمفاسد التي أعقبته أعمالهم؟ وقد فقدوا منذ قرون الحكومة الصالحة التي تربي الناس بالتعاليم الدينية الشريفة بل كان أسبق الناس إلى هتك الأستار التي أسدلها الدين ونقض قوانينه وإبطال حدوده هي طبقة الحكام والولاة على المسلمين، والناس على دين ملوكهم، ولو اشتغلنا بقص بعض السير الجارية في بيوت الملوك والفضائح التي كان يأتي بها ملوك الإسلام وولاته منذ أن تبدلت الحكومة الدينية بالملك والسلطنة المستبدة لجاء بحياله تأليفا مستقلا، وبالجملة لو ورد الإشكال فهو وارد على المسلمين في اختيارهم لبيوتهم نوع اجتماع لا يتضمن سعادة عيشتهم ونحو سياسة لا يقدرون على إنفاذها بحيث لا تنحرف عن مستقيم الصراط، والذنب في ذلك عائد إلى الرجال دون النساء الأولاد وإن كان على كل نفس ما اكتسبت من إثم، وذلك أن سيرة هؤلاء الرجال وتفديتهم سعادة أنفسهم وأهليهم وأولادهم وصفاء جو مجتمعهم في سبيل شرهم وجهالتهم هو الأصل لجميع هذه المفاسد والمنبت لكل هذه الشقوة المبيدة.

وأما الإسلام فلم يشرع تعدد الزوجات على نحو الإيجاب والفرض على كل رجل، وإنما نظر في طبيعة الأفراد وما ربما يعرضهم من العوارض الحادثة، واعتبر الصلاح القاطع في ذلك (كما مر تفصيله) ثم استقصى مفاسد التكثير ومحاذيره وأحصاها فأباح عند ذلك التعدد حفظا لمصلحة المجتمع الإنساني، وقيده بما يرتفع معه جميع هذه المفاسد الشنيعة وهو وثوق الرجل بأنه سيقسط بينهن ويعدل فمن وثق من نفسه بذلك ووفق له فهو الذي أباح له الدين تعدد الزوجات، وأما هؤلاء الذين لا عناية لهم بسعادة أنفسهم وأهليهم وأولادهم ولا كرامة عندهم إلا ترضية بطونهم وفروجهم، ولا مفهوم للمرأة عندهم إلا أنها مخلوقة في سبيل شهوة الرجل ولذته فلا شأن للإسلام فيهم، ولا يجوز لهم إلا الازدواج بواحدة لو جاز لهم ذلك والحال هذه.

على أن في أصل الإشكال خلطا بين جهتين مفرقتين في الإسلام، وهما جهتا التشريع والولاية، توضيح ذلك أن المدار في القضاء بالصلاح والفساد في القوانين الموضوعة والسنن‏ الجارية عند الباحثين اليوم هو الآثار والنتائج المرضية أو غير المرضية الحاصلة من جريانها في الجوامع وقبول الجوامع لها بفعليتها الموجودة وعدم قبولها، وما أظن أنهم على غفلة من أن المجتمع ربما اشتمل على بعض سنن وعادات وعوارض لا تلائم الحكم المبحوث عنه وأنه يجب تجهيز المجتمع بما لا ينافي الحكم أو السنة المذكورة حتى يرى إلى ما يصير أمره؟ وما ذا يبقى من الأثر خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا؟ إلا أنهم يعتبرون في القوانين الموضوعة ما يريده ويستدعيه المجتمع بحاضر إرادته وظاهر فكرته كيفما كان، فما وافق إرادتهم ومستدعياتهم فهو القانون الصالح وما خالف ذلك فهو القانون غير الصالح، ولذلك لما رأوا المسلمين تائهين في أودية الغي فاسدين في معاشهم ومعادهم نسبوا ما يشاهدونه منهم من الكذب والخيانة والخنا وهضم الحقوق وفشو البغي وفساد البيوت واختلال الاجتماع إلى القوانين الدينية الدائرة بينهم زعما منهم أن السنة الإسلامية في جريانها بين الناس وتأثيرها أثرها كسائر السنن الاجتماعية التي تحمل على الناس عن إحساسات متراكمة بينهم، ويستنتجون من ذلك أن الإسلام هو المولد لهذه المفاسد الاجتماعية ومنه ينشأ هذا البغي والفساد (وفيهم أبغى البغي وأخنى الخنا، وكل الصيد في جوف الفراء) ولو كان دينا واقعيا وكانت القوانين الموضوعة فيه جيدة متضمنة لصلاح الناس وسعادتهم لأثرت فيهم الآثار المسعدة الجميلة، ولم ينقلب وبالا عليهم!.

ولكنهم خلطوا بين طبيعة الحكم الصالحة المصلحة، وبين طبيعة الناس الفاسدة المفسدة، والإسلام مجموع معارف أصلية وأخلاقية وقوانين عملية متناسبة الأطراف مرتبطة الأجزاء إذا أفسد بعض أجزائها أوجب ذلك فساد الجميع وانحرافها في التأثير كالأدوية والمعاجين المركبة التي تحتاج في تأثيرها الصحي إلى سلامة أجزائها وإلى محل معد مهيأ لورودها وعملها، ولو أفسد بعض أجزائها أو لم يعتبر في الإنسان المستعمل لها شرائط الاستعمال بطل عنها وصف التأثير، وربما أثرت ما يضاد أثرها المترقب منها.

19. هب أن السنة الإسلامية لم تقو على إصلاح الناس ومحق الذمائم والرذائل العامة لضعف مبانيها التقنينية فما بال السنة الديمقراطية لا تنجع في بلادنا الشرقية أثرها في‏ البلاد الأوربية؟ وما بالنا كلما أمعنا في السير والكدح بالغنا في الرجوع على أعقابنا القهقرى ولا يشك شاك أن الذمائم والرذائل اليوم أشد تصلبا وتعرقا فينا ونحن مدنيون متنورون منها قبل نصف قرن ونحن همجيون، وليس لنا حظ من العدل الاجتماعي وحياة الحقوق البشرية والمعارف العامة العالية وكل سعادة اجتماعية إلا أسماء نسميها وألفاظا نسمعها، فهل يمكن لمعتذر عن ذلك إلا بأن هذه السنن المرضية إنما لم تؤثر أثرها لأنكم لا تعملون بها، ولا تهتمون بإجرائها فما بال هذا العذر يجري فيها وينجع ولا يجري في الإسلام ولا ينجع؟ حكومته ولم يقدر على حفظ حياته في المجتمع الإسلامي فلم يلبث دون أن عاد مهجورا فما بال السنة الديمقراطية وكانت سنة مرضية عالمية ارتحلت بعد الحرب العالمية الكبرى الأولى عن روسيا وانمحت آثارها وخلفتها السنة الشيوعية؟ وما بالها انقلبت إلى السنة الشيوعية بعد الحرب العالمية الكبرى، الثانية في ممالك الصين ولتوني وإستوني وليتواني ورومانيا والمجر ويوغوسلاوي وغيرها، وهي تهدد سائر الممالك وقد نفذت فيها نفوذا؟ وما بال السنة الشيوعية بعد ما عمرت ما يقرب من أربعين سنة، وانبسطت وحكمت فيما يقرب من نصف المجتمع الإنساني ولم يزل دعاتها وأولياؤها يتباهون في فضيلتها أنها المشرعة الصافية الوحيدة التي لا يشوبها تحكم الاستبداد ولا استثمار الديمقراطية وأن البلاد التي تعرقت فيها هي الجنة الموعودة ثم لم يلبث هؤلاء الدعاة الأولياء أنفسهم دون أن انتهضوا قبل سنتين على تقبيح حكومة قائدها الوحيد (ستالين) الذي كان يتولى إمامتها وقيادتها منذ ثلاثين سنة، وأوضحوا أن حكومته كانت حكومة تحكم واستبداد واستعباد في صورة الشيوعية، ولا محالة كان له التأثير العظيم في وضع القوانين الدائرة وإجرائها وسائر ما يتعلق بذلك فلم ينتش شيء من ذلك إلا عن إرادة مستبدة مستعبدة وحكومة فردية تحيي ألوفا وتميت ألوفا وتسعد أقواما وتشقي‏ آخرين، والله يعلم من الذي يأتي بعد هؤلاء ويقضي عليهم بمثل ما قضوا به على من كان قبلهم.

20. والسنن والآداب والرسوم الدائرة في المجتمعات (أعم من الصحيحة والفاسدة) ثم المرتحلة عنها لعوامل متفرقة أقواها خيانة أولياؤها وضعف إرادة الأفراد المستنين بها كثيرة يعثر عليها من راجع كتب التواريخ، فليت شعري ما الفارق بين الإسلام من حيث إنها سنة اجتماعية وبين هذه السنن المتقلبة المتبدلة حيث يقبل العذر فيها ولا يقبل في الإسلام؟ نعم كلمة الحق اليوم واقعة بين قدرة هائلة غربية وجهالة تقليد شرقية فلا سماء تظلها ولا أرض تقلها وعلى أي حال يجب أن يتنبه مما فصلناه أن تأثير سنة من السنن أثرها في الناس وعدمه وكذا بقاؤها بين الناس وارتحالها لا يرتبط كل الارتباط بصحتها وفسادها حتى يستدل عليه بذلك بل لسائر العلل والأسباب تأثير في ذلك فما من سنة من السنن الدائرة بين الناس في جميع الأطوار والعهود إلا وهي تنتج يوما وتعقم آخر وتقيم بين الناس برهة من الزمان وترتحل عنهم في أخرى لعوامل مختلفة تعمل فيها، وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء.

21. بالجملة القوانين الإسلامية والأحكام التي فيها، تخالف بحسب المبنى والمشرب سائر القوانين الاجتماعية الدائرة بين الناس فإن القوانين الاجتماعية التي لهم تختلف باختلاف الأعصار وتتبدل بتبدل المصالح لكن القوانين الإسلامية لا تحتمل الاختلاف والتبدل من واجب أو حرام أو مستحب أو مكروه أو مباح غير أن الأفعال التي للفرد من المجتمع أن يفعلها أو يتركها وكل تصرف له أن يتصرف به أو يدعه فلوالي الأمر أن يأمر الناس بها أو ينهاهم عنها ويتصرف في ذلك كأن المجتمع فرد والوالي نفسه المتفكرة المريدة.

22. فلو كان للإسلام وال أمكنه أن يمنع الناس عن هذه المظالم التي يرتكبونها باسم تعدد الزوجات وغير ذلك من غير أن يتغير الحكم الإلهي بإباحته، وإنما هو عزيمة إجرائية عامة لمصلحة نظير عزم الفرد الواحد على ترك تعدد الزوجات لمصلحة يراها لا لتغيير في الحكم بل لأنه حكم إباحي له أن يعزم على تركه.

23. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة ب تعدد أزواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/167.

(2) وطبعا هذا غير صحيح

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا﴾ في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كُتب لهن ولا ترغبون في نكاحهن بل ترغبون في تركه فاعدلوا عنهن، وانكحوا ﴿مَا طَابَ لَكُمْ﴾ بأن حلَّ ووافق رغبتكم، ولا تنكحوا اليتامى رغبةً في مالهن مع الرغبة في ترك نكاحهن للعشرة، لتسلموا ظلمهن بمنعهن ما لهن أو مهورهن أو ما يحق لهن من النفقة الواجبة على الزوج أو غير ذلك مما وجب لهن.

2. ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى﴾ أي لهذا اثنتان وهذا اثنتان ﴿وَثُلَاثَ﴾ لهذا ثلاث من النساء وهذا ثلاث ﴿وَرُبَاعَ﴾ لواحد أربع ولغيره من الرجال أربع.

3. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ فيهن أو بينهن ﴿فَوَاحِدَةً﴾ أنكحوا واقتصروا عليها أو مملوكة أحدكم يستغني بها عن الزواج حذراً من الحيف وعدم القيام بحق الزوجة، ذلك الإقتصارُ على واحدة أو المملوكة ينكحها مالكها بالملك أدنى وأقربُ لئلا تحيفوا بسبب تعدد المنكوحات، قال الشرفي في (المصابيح): (قال إمامنا المنصور بالله القاسم بن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: دلت هذه الآية على تحريم الجور من الولاة على اليتامى لكثرة الزوجات فقصرهن على أربع، فأباح تزويج ما دون الأربع إلى أن قال سبحانه: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ يريد سبحانه في العدل بين الزوجات، وكذلك في العدل في أموال اليتامى لأجل الزوجات ﴿فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ ودلَّ ذلك على وجوب تجنُّب ما يكون سبباً للجور أو أي قبيح.

4. ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ أي ذلك الذي هو الاقتصار على أربع فما دون إلى الواحدة، أو ما ملكت اليمين أقربُ شيءٍ إلى نفي الميل عن العدل في حق اليتامى وفي حق الزوجات.

5. العولُ هاهنا: هو الميل، من قولهم: عَال الميزان: أي مَالَ، وقولهم: عالَ في مشيته: إذا مال متبختراً، وعلى وجوب إيفاء النساء صدقاتهن وهي مهورهن، وأن المهور نحلة أي هبة، فمن نحل امرأته ما تستحق فيه الشفعة لا يشفع لأنه نحلة وليس عوض مال و[على] إباحة ما طبن به نفساً من المهور)

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/6.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ عن عائشة في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا﴾، الآية قالت: أنزلت هذه في الرجل يكون له اليتيمة وهو وليّها ولها مال وليس لها أحد يخاصم دونها، فلا ينكحها حبّا لمالها ويضر بها ويسي‏ء صحبتها، فقال الله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾، يقول: ما أحللت لك، ودع هذه، وقال سعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدّي: كانوا يتحرجون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء ويتزوجون ما شاؤوا، فربما عدلوا وربما لم يعدلوا، فلما سألوا عن اليتامى فنزلت آية اليتامى‏ ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ الآية، أنزل الله تعالى أيضا ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ الآية، يقول: كما خفتم ألّا تقسطوا في اليتامى، فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن، فلا تتزوجوا أكثر ما يمكنكم القيام بحقهن، لأن النساء كاليتامى في الضعف والعجز، وهذا قول ابن عباس في رواية الوالبي‏.

2. قبل الدخول في الحديث عن الجوانب التشريعية التي تتعرض لها الآية في موضوع (تعدد الزوجات)، لا بد لنا من الوقوف أمام بحث يتصل ببعض الجوانب الشكلية في طريقة تعبير الآية عن الفكرة، فقد أثير في كتب التفسير تساؤل كبير حول طبيعة الارتباط بين أوّل الآية وآخرها، فإن الشرط ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ يتحدث عن حالة خوف الناس من عدم العدل في اليتامى، بينما الجزاء ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ يتحدث عن جواز الزواج بأكثر من واحدة، ولا ارتباط بين هذا وذاك مع أن الجزاء لا بد أن يكون مترتبا على الشرط، بحيث تكون نسبته إليه نسبة المسبب الى السبب أو ما يشبه ذلك، الأمر الذي يفرض أن يكون الموضوع الذي يتعرض له داخلا في نطاق موضوع الشرط، وقد ذكر المفسرون في ذلك وجوها، في ما رووه عن بعض الصحابة وغيرهم مما لا تقوم به حجة ثابتة، لأنه مرتكز على أساس الرأي الشخصي، الذي لا يغلق الباب على آراء أخرى مختلفة عنه ما دامت القضية في جميع وجوهها خاضعة للاجتهاد القائم على الاستظهار من الآية ومناسباتها، وقد جمعها ابن جرير الطبري في تفسيره فقال:

أ. (إن خفتم يا معشر أولياء اليتامى، ألا تقسطوا في صداقهنّ، فتعدلوا فيه وتبلغوا بصداقهنّ صدقات أمثالهنّ، فلا تنكحوهن، ولكن انكحوا غيرهنّ من الغرائب اللواتي أحلّهن الله لكم وطيّبهن، من واحدة إلى أربع؛ وإن خفتم أن تجوروا إذا نكحتم من الغرائب أكثر من واحدة فلا تعدلوا، فانكحوا منهن واحدة أو ما ملكت أيمانكم..)، وقد روي هذا الوجه من التفسير عن عائشة، على أساس اجتهادها الشخصي، من خلال ما لاحظته من وجود بعض الأوضاع العربية التي توحي بمثل هذا الاتجاه، وذلك في ما نقله عنها عروة بن الزبير قال: سألت عائشة، أم المؤمنين، فقلت: يا أم المؤمنين، أرأيت قول الله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾؟ قالت: يا ابن أختي، هي اليتيمة تكون في حجر وليّها، فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنّة صداق نسائها، فنهوا أن ينكحوهن، إلا أن يقسطوا، فيكملوا لهنّ الصداق، ثم أمروا أن ينكحوا ما سواهنّ من النساء إن لم يكملوا لهن الصداق)

ب. (إن أنتم خفتم على أموال أيتامكم أن تنفقوها، فلا تعدلوا فيها من أجل حاجتكم إليها، لما يلزمكم من مؤن نسائكم؛ فلا تجاوزوا في ما تنكحون من عدد النساء على أربع، وإن خفتم أيضا من الأربع ألّا تعدلوا في أموالهم، فاقتصروا على الواحدة)، وذلك أن الرجل من قريش كان يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل؛ فإذا صار معدما، مال على مال يتيمه الذي في حجره، فأنفقه أو تزوّج به، فجاءت الآية للتنديد بهذا الواقع، والنهي عن الإكثار من الزواج في ما فوق الأربع، من أجل الابتعاد عن الوقوع في هذا المأزق.

ج. (إن القوم كانوا يتحوّبون‏ في أموال اليتامى ألا يعدلوا فيها ولا يتحوّبون في النساء ألّا يعدلوا فيهن، فقيل لهم: كما خفتم أن لا تعدلوا في اليتامى، فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن، ولا تنكحوا منهن إلّا من واحدة إلى الأربع، ولا تزيدوا على ذلك؛ وإن خفتم ألا تعدلوا أيضا في الزيادة على الواحدة، فلا تنكحوا إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيهن من واحدة أو ما ملكت أيمانكم)

د. وقالوا: (نزلت في اليتيمة تكون عند الرجل، هو وليّها ليس لها وليّ غيره، وليس أحد ينازعه فيها، ولا ينكحها لمالها، فيضرّ بها ويسي‏ء صحبتها)؛ فوعظ في ذلك، فيكون معنى الآية: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، اللائي أنتم ولاتهنّ، فلا تنكحوهنّ وانكحوا ما أحلّ لكم، لئلا تسيئوا صحبتهن أو تضرّوا بهن.

3. لعل الأولى من هذه المعاني، هو المعنى الثالث: كما ذكره الطبري في تفسيره ـ لأن السورة مسبوقة في بدايتها لحفظ مال اليتيم، وعدم تبديل الطيب منه بالخبيث، وعدم السيطرة عليه بالأكل والتملق، كما مر في الآية السابقة، ولما كان ذلك يوحي بالتحرّج في أمر اليتامى والخوف من عدم العدل، وذلك في ما دعا الله إليه من التقوى، أراد أن يقارن ذلك بحالة مماثلة، وهي سلوك الرجال مع النساء، مما كان السلوك فيه جاريا على التساهل والابتعاد عن خط العدل؛ ويوحي إليهم بأن التقوى التي تدفع إلى الخوف والحذر من التصرف في أمر اليتامى، على أساس واقع الضعف الذي يتمثل في حياتهم، هي نفسها التقوى التي تدفع إلى ذلك في أمر النساء؛ فلا بد للإنسان أن يطلب العدل في علاقته بهنّ؛ وذلك من خلال الضعف الطبيعي الذي يعانينه في واقع الحياة، وفي ضوء ذلك ينبغي للإنسان أن يدرس إمكانية العدل في التعدد حتى الأربع؛ فإذا لم يستطع العدل أو خاف من عدمه، فعليه أن يكتفي بواحدة، وربما كان منشأ هذا الالتباس الذي دعا الى كثرة الوجوه الواردة في الآية، هو أن مقابلة الخوف من عدم العدل في اليتامى لا تتناسب مع الرخصة في النكاح إلى الأربع، ولكن التدقيق فيها يوحي لنا بأن الخوف هو العنصر المقابل في الموردين، إلا أن طريقة التعبير في الفقرة الثانية لم تجعله في أول الفقرة، بل جعلته في آخرها؛ مما يوحي بإرادة التوازن بينهما في العدل هنا وهناك، مع الإيحاء بالحالة النفسية التي تدعو إلى الالتزام، ولعل التأمّل الدقيق في الآية، يكشف للمتأمل وضوح هذا الوجه؛ والله العالم.

4. كيف نواجه تعدد الزوجات في نتائجه النفسية والاجتماعية والاقتصادية، من خلال السلبيات التي يثيرها الآخرون هنا وهناك، لا سيما بعد أن حاول أعداء الإسلام أن يجعلوا من هذا التشريع نقطة ضعف كبيرة ليدلّلوا على تخلّف الإسلام عن خط العدالة والمساواة، في ما يريده للعائلة من ثبات وطمأنينة واستقرار؟

أ. فقالوا: إنه يحوّل المرأة إلى مجرد أداة للمتعة، ويشجّع الاتجاه الشهواني للرجل، عند ما يفتح أمامه باب التعدد والحصول على ما طاب له من النساء، ويؤدي إلى الاستغراق في هذا الجانب، والابتعاد عن الآفاق الروحية التي ترتفع به عن حاجات الجسد، والاقتراب من الطبيعة الحيوانية فيه، وهذا أمرٌ لا يلتقي مع روحيّة الدين الذي يعمل على تهذيب الغرائز الإنسانية وترويضها، والانطلاق بها إلى ما يحقق له حاجته الطبيعية من دون إفراط.

ب. وقالوا: إنه يفقد البيت الزوجي طمأنينته واستقراره، بسبب ما يولّده‏ من عوامل الحقد بين الزوجات، من خلال التنافس الذي يحصل بينهنّ للاستئثار بعاطفة الرجل، فينتهي ذلك الى التنازع والتخاصم، لا سيّما في الحالات التي قد يميل فيها الرجل إلى واحدة دون أخرى، انطلاقا من نزوة أو رغبة أو عاطفة أو مصلحة، فيخلق لإحداهما عقدة نفسية ضد صاحبتها، وقد تتعاظم العقدة فتؤدي إلى ما لا تحمد عقباه من مشاكل عامة وخاصة؛ ولا يقتصر ذلك على الزوجات، بل يتعداه إلى الأولاد الذين قد يتعقدون ضد بعضهم البعض تبعا للعقدة الحاصلة بين الأمهات، وربما تتحول عقدتهم إلى مشاعر سلبية ضد الأب، الذي تدفعه رغبته إلى إهمال أولاده من زوجته غير المفضلة لديه، وهذا أمر لا يلتقي مع طبيعة المودّة والرحمة اللّتين ترتكز عليهما العلاقة الزوجية في الإسلام، ولا ينسجم مع مفهوم السكن، الذي جعله الإسلام طابع هذه العلاقة في القرآن.

ج. وقالوا: إنه يؤدي إلى إرباك الواقع الاقتصادي للعائلة، لأن التعدد يضيف إلى الميزانية أعباء جديدة، تبعا للحاجات المتعددة لكل واحدة من الزوجات، ويساهم في تكثير النسل الذي يربك الجانب الاقتصادي للإنسان وللأمة، ويضعف الجانب التربوي للأولاد؛ فقد لا يستطيع الوالد أن يخطط ـ بطريقة معقولة ـ للسير بتربيتهم في الاتجاه السليم، وهذا أمر لا يلتقي مع المصلحة الحقيقية للإنسان، التي تتمثل في انطلاق الحياة في خط اليسر؛ وذلك لأن العسر المالي قد يوقع الإنسان في قبضة الانحراف عن الحق تحت ضغط الحاجة الى الآخرين، كما عبّر عنه في‏ دعاء (مكارم الأخلاق) في (الصحيفة السجادية): (اللهم صن وجهي باليسار، ولا تبتذل جاهي بالإقتار؛ فأسترزق أهل رزقك، وأستعطي شرار خلقك؛ فأفتتن بحمد من أعطاني وأبتلى بذم من منعني؛ وأنت من دونهم‏ وليّ الإعطاء والمنع..)، أما الجانب التربوي، فإنّه من الجوانب الحيوية في التخطيط الإسلامي لبناء شخصية الطفل، من خلال ما حمّله الله للإنسان من وجوب الاعتناء بأمر ولده، في حسن أدبه وحمايته من النار التي وقودها الناس والحجارة؛ وذلك بالتربية الصالحة التي تركز له إيمانه وأخلاقه، وتسير به على الصراط المستقيم.

5. لقد قالوا ذلك، وقالوا غير ذلك، وأفاضوا الحديث في انعكاس تلك المشاكل على الحياة الاجتماعية العامة، لأن طبيعة العلاقات العائلية تفرض الامتداد إلى كل العلاقات الأخرى المرتبطة بالعائلة من الأقربين أو الأبعدين، وتحدثوا عن الجانب النفسي للمرأة، في ما تعيشه من الشعور بالقهر والاضطهاد تحت تأثير الخلل العاطفي في العلاقة الزوجية بسبب التعدد؛ مما يرهق إنسانية المرأة ويحوّلها إلى إنسان مقهور، وكان للمدنيّة والحضارة الجانب الكبير من حديثهم حول الموضوع، في ما اعتبروه انحرافا عن قيم الحضارة والمدنية، التي تلتقي بالمحافظة على حسّ الإنسانية في حركة التشريع في الحياة.

6. لكننا لا نجد في ذلك كله مصدر خلل في تقييم التشريع الإسلامي في تعدد الزوجات، لأننا نحاول ـ في تقييمنا لأيّ حكم شرعيّ ـ أن ندرس حساب المصالح والمفاسد والمضار والمنافع؛ فإذا غلب جانب المصلحة والمنفعة على جانب المفسدة والمضرّة، كان المفروض فيه أن يكون في خط الإيجاب؛ وإذا غلب جانب المفسدة والمضرّة على جانب المصلحة والمنفعة، كان اللازم أن يكون في خط السلب، لأن الأحكام ـ حسب اعتقادنا ـ تابعة للمصالح والمفاسد الغالبة في مواردها، فلا يكفي في سلبية حكم ما أن يحتوي نقطة ضعف، بل لا بد أن تكون بدرجة غالبة على نقطة القوة فيه، وذلك ما نستوحيه من قوله تعالى: ﴿يسألونك عَنِ الْخَمْرِ والْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ومَنافِعُ لِلنَّاسِ وإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ويَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَكَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ‏﴾ [البقرة: 219] وفي ضوء ذلك، نجد أن وجود السلبيات في موارد الأحكام لا يفرض إلغاء الحكم، بل لا بد من إثبات ارتفاع نسبتها على نسبة الإيجابيات، وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نضع أيدينا على طبيعة هذه المسألة، لنرى كيف تلتقي الإيجابيات بالسلبيات في عملية مقارنة، لننتهي إلى النتيجة المطلوبة، فقد ذكر الباحثون عدة حالات تفرض المصلحة في تشريع التعدد.

7. الأسباب الموجبة لتشريع تعدّد الزوجات‏:

أ. أولا: لأن الوحدة قد تكون مدعاة للانحراف، منها: إن التعدد قد يكون حاجة طبيعية ـ في بعض الحالات ـ عند بعض الأشخاص، مما يجعل الوحدة مدعاة للانحراف؛ كما قد نواجهه عند كثير من الأشخاص الذين يمارسون العلاقات غير الشرعية إلى جانب العلاقات الشرعية بفعل الحاجة الملحة تارة، أو بفعل وضع طارئ طورا، بل ربما نستطيع تقرير أن التعدد يمثل وضعا تاريخيا عاما في نطاق العلاقات الشرعية وغير الشرعية، والأمر الذي يعطينا الفكرة التي تعتبره حالة إنسانية عامة، سواء في ذلك المجتمعات البدائية التي لا زالت تمارسه حتى الآن، أو المجتمعات المتحضرة التي تنكر التعدد قانونا، ولكنها تمارسه بطريقة واقعية:

أما حكاية تشجيع الشهوانية في حركة الغريزة لدى الرجل، والاقتراب به من الحيوانية بعيدا عن الجانب الروحي، فهي حكاية تستلهم المثالية ولا تنطلق من النظرة الواقعية للأشياء؛ فإن الإسلام لم يطلب من الإنسان خنق غريزته واعتبارها شرا وعيبا وانحطاطا، بل اعتبرها حاجة طبيعية، تماما كحاجته إلى الأكل والشرب، وعمل على تنظيمها في حدودها الطبيعية، فلم يرد للإنسان الوقوع في الحرج ليتعقّد أو ينحرف، بل أراد له الاستقامة في وضع طبيعيّ من خلال الممارسة المتوازنة؛ وترك له ـ بعد ذلك ـ حرية الاختيار بين أن يأخذ بالرخصة فيلبي نداء غريزته بشكل منظّم، وبين أن يقتصر على الحد الأدنى مع قدرته على الحد الأقصى بالوسائل الشرعية؛ فإن هناك فرقا بين أن تمارس الضغط على غرائزك من قاعدة الإلزام، وبين أن تمارسها من قاعدة الرخصة، بهدف تجنّب مشاعر الحرج والضيق النفسي.

أمّا حكاية تحويل المرأة إلى مجرد أداة لمتعة الرجال، فهي حكاية لا تثبت أمام النقد، لأن الجنس حاجة ذاتية لكل منهما، في حالة التعدد أو الوحدة، فإذا اعتبرنا هذه الفكرة في هذا الاتجاه، كان لا بد لنا من إلغاء أصل الزواج.

وخلاصة الفكرة، أن الإسلام دين واقعيّ يعمل على حل المشكلة وفق‏ منطق الواقع وليس وفق منطق المثاليات، ليرتكز الحل للمشكلة على سدّ الذرائع على الإنسان في مواجهة الانحراف.

ب. ثانيا: الأخلاق الزوجية قاعدة مواجهة أي مشكل عائلي، أما موضوع تأثير هذا التشريع على الطمأنينة والاستقرار والمودة والرحمة في البيت الزوجي، فذلك أمر لا نجد فيه كبير مشكلة، لأن أية مشكلة طارئة في أيّ موضوع لا بد من بحثها من خلال وضع بديل وما قد يثيره من مشكلة أخرى، لتكون المقارنة هي السبيل لترجيح أحد الموضوعين، وهذا ما نواجهه في هذا المجال؛ فإن التعدد ـ كما قلنا ـ ينشأ غالبا من حاجة ذاتية، فإذا أهملناه، فإن البديل أحد أمرين؛ الاقتصار على الوحدة مع الحالة النفسية المعقّدة إزاء ذلك، أو التعدد في العلاقات غير الشرعية، وفي كلتا الحالتين نلتقي بالقلق والتعقيد وعدم الاستقرار في داخل النفس وفي حركة العلاقة الزوجية كنتيجة لردود الفعل المتنوعة على ذلك، لأنهما ينطلقان من قاعدة غير واقعية وغير مستقرة، بينما يكون التعدد على أساس شرعيّ ـ بمشاكله ـ ضمانا لضبط الحاجة في نطاقها الواقعي، وتحديد المشكلة في مجال محدود، ومحاولة حلّها على أساس الأخلاقيات الإسلامية التي تخفف الكثير من السلبيات من جهة، والاستمرار في التعامل مع الأمر الواقع الذي يعتاد الإنسان معه التعايش مع المشكلة من جهة أخرى، وربما نستطيع أن نعالج المسألة من وجه آخر، فإن أخلاقية الزوجين هي الأساس في مواجهة مشاكل الحياة الزوجية حتى في حالة الوحدة، فقد تتعقد الحياة وترتبك بينهما مع الأخلاق السلبية في نطاق العلاقة الواحدة، وقد تستقيم وتستقر وتتضامن مع الأخلاق الإيجابية في نطاق التعدد، فإن الوحدة والتعدد يعتبران من الحالات الخارجية للعلاقة مما يجعل من موضوع معالجتهما قضية منفتحة على أكثر من حلّ.

ج. ثالثا: ارتباك الوضع العائلي الاقتصادي ليس قاعدة عامة، أما ارتباك الواقع الاقتصادي في نطاق التعدد، فهو أمر لا يحصل مع كل الظروف والأشخاص؛ فقد يعيش بعض الناس حالة من السير تنسجم مع مسئوليات التعدد، وقد يندفع بعض آخر إلى تنمية موارده الاقتصادية بطريقة واقعية لا حرج فيها من خلال ذلك؛ وربما يتحرك التعدد في إنقاذ العائلة من الارتباك الاقتصادي الذي تحدثه المصارف غير المحدودة التي تبذل في العلاقات غير الشرعية التي تكون البديل عن التعدد الشرعي، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الإسلام يدفع الإنسان إليا لاكتفاء بالعلاقة الواحدة في حالة العسر التي تجعل الإنفاق على أكثر من زوجة أمرا حرجا، وتمنعه من العدل في النفقة، فإننا نصل إلى النتيجة الحاسمة التي تضع القضية في إطارها الطبيعي الذي يعيش معه الإنسان في حالة اليسر لا في حالة العسر.

د. رابعا: ليست كثرة النسل قيمة سلبية دائما، أما موضوع كثرة النسل وتأثيره على الواقع الاقتصادي للعائلة وللأمّة، فإنه حديث يلتقي بأكثر من جانب مع حركة الواقع، فقد تحتاج الأمة في بعض ظروفها إلى الكثرة، وقد تفرض عليها ظروفها القلّة، وقد يأتي ظرف آخر ليفرض حالة من التوازن بين الأمرين، فليست الكثرة قيمة سلبية دائما وليست القلة قيمة إيجابية دائما؛ بل هي، ككل القيم التي تستمد عناصرها من خارج الذات، خاضعة للظروف الموضوعية المحيطة بالساحة؛ وهذا ما نواجهه في واقعنا المعاصر الذي نجد فيه بعض الدول ـ حتى المتحضّرة ـ تمنح الامتيازات المادية للعائلة الكبيرة، انطلاقا من حاجتها إلى النمو العددي للأمة، مع وفرة مواردها الاقتصادية، بينما نجد بعض الدول الأخرى، الغارقة في مشاكل اقتصادية كبيرة، تمارس نوعا من الحرب على تكثير النسل لتحفظ اقتصادها من الانهيار، وهناك نقطتان لا بد من إثارتهما في هذا الجانب من الحديث:

الأولى: إن التعدد لا يلتقي أبدا مع كثرة النسل، فقد تستوي الكثرة مع الوحدة في حالات فقدان الضوابط لتنظيم النسل؛ فإذا لاحظنا وجود الوسائل الشرعية المتنوعة لتنظيم الأسرة في هذا المجال، أمكننا السيطرة على الموضوع في حالتي الوحدة والتعدد وإلغاء المشكلة من الأساس.

الثانية: إن هناك في عقيدة المؤمن، جانبا غيبيا يلتقي فيه بالله الذي يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب، فإن الله ينزل المؤونة على قدر المعونة، فلا تخضع المسألة للحسابات المادية فحسب، بل هناك أكثر من جانب غيبي يحرك الواقع إلى أكثر من حلّ في نطاق رحمة الله.

هـ. خامسا: النتائج التربوية تتبع الظروف الذاتية والموضوعية أما موضوع التربية وتركيزها في حالات القلة بخلاف حالة الكثرة، فإنه يختلف في نتائجه الإيجابية والسلبية، تبعا لاختلاف الظروف المحيطة بالشخص وبالواقع، فقد نجد هناك انحرافا تربويا في حالة الولد الواحد يقابله استقامة في التربية في حالة كثرة الأولاد، لأن الإمكانات الذاتية تبعا لما يملكه الإنسان من جهد أو مال أو جاه أو ظرف عام، قد تتيح له التركيز في التربية بما لا يتاح له ذلك في حالات أخرى؛ مما يجعل المسألة تابعة للأوضاع الخارجية المحيطة بالإنسان بحسب ظروف الواقع.

8. قد يثير القائلون بالتعدد مشاكل واقعية كثيرة أمام مبدأ الوحدة في الزواج:

أ. منها: الدعوة القائلة بأن الإحصائيات تثبت بأن عدد النساء يفوق عدد الرجال طبيعيا، مما يجعل قسما من النساء لا يملك فرص الزواج في حالات الوحدة.

ب. ومنها: الحروب التي تفني الرجال بأعداد كبيرة أكثر بكثير مما تفنيه من النساء، لأن الرجال هم الفئة المقاتلة في أغلب الظروف، بينما تعمل النساء ـ حتى في حالات الحربـ في ظروف أكثر أمنا وأقل خطورة؛ الأمر الذي‏ يجعل الحرب مصدرا كبيرا من مصادر المشكلة لمبدأ الوحدة، وقد قيل إن بعض الأشخاص في مجلس النواب الألماني طالب بتشريع التعدد في الزواج، لمواجهة الحالة المفجعة التي أثارتها الحرب العالمية الثانية في قلة عدد الرجال بالنسبة إلى النساء.

ج. ومنها: حالة العقم التي تكون لدى الزوجة في الوقت الذي يعيش فيه الإنسان الشعور بالحاجة إلى الأبوّة، ولا يريد الانفصال عن زوجته لوجود الانسجام بينهما؛ ولا شك أن التعدد هو الحل الطبيعي لمثل هذه الحالة.

9. وهناك أكثر من جانب من الجوانب الواقعية التي تخلق المشاكل أمام مبدأ الوحدة، وتجعل من التعدد حلّا طبيعيا أقرب إلى الطبيعة الإنسانية الخاضعة في ذاتها إلى نوازع وحاجات جسدية وروحيّة لا بد للإنسان من تلبيتها، فيما إذا أراد الانسجام مع حالة التوازن النفسي التي تفرضها الحاجة إلى الاستقرار.

10. سؤال وإشكال: قد تثار هذه القضية من خلال سؤال يفرض نفسه هو، لماذا أباح الإسلام للرجل أن يعدّد في زوجاته، ولم يبح للمرأة أن تعدّد في الأزواج؟ والجواب: في نقطتين:

أ. الأولى: إن نظام الأسرة الأبوي، القائم على أساس شخصية الأب كوجه أصيل للأسرة، هو نظام أساسي في الإسلام، وربما كان أساسيا في الواقع الإنساني كله، وإذا كان التاريخ قد عرف في بعض مراحله نظام الأسرة الأمومي ـ إن صح التعبير ـ أي النظام الذي تحكمه الأم ويكون الأب تابعا في القيام على شؤون الأسرة، فإن ذلك يعتبر حالة شاذة لا عامة، وقد تبنى الإسلام هذا النظام الأبوي، فاعتبر الأب قواما على الأسرة وأساسا للانتماء ومسئولا عن الأمور الحياتية، وليس معنى ذلك إلغاء دور الأم أو نسبها، بل اعتباره ثانويا من هذه الجهات، وفي ضوء ذلك لا يمكن الإقرار بتعدّد الأزواج، لأنه يخلق لنا مشكلة انتماء الأولاد فتضيع الأنساب، وقد جاء في الميزان عن محمد بن سنان أن الإمام الرضا عليه السّلام كتب إليه ـ أي للمأمون ـ في ما كتب من جواب مسائله: (علة تزويج الرجل أربع نسوة وتحريم أن تتزوج المرأة أكثر من واحد، لأن الرجل إذا تزوج أربع نسوة كان الولد منسوبا إليه، والمرأة لو كان لها زوجان أو أكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو، إذ هو مشتركون في نكاحها، وفي ذلك فساد الأنساب والمواريث والمعارف)، أما الجواب عن السؤال التالي، وهو لماذا يحافظ الإسلام على النظام الأبوي للأسرة؟ فقد نتحدث عنه فيما يأتي من حديث، وكنا قد ألمحنا إليه عند الحديث عن بعض جوانب التفسير في سورة البقرة؛ فإن للإسلام مبرراته الإنسانية والاجتماعية المرتكزة على أساس مصلحة الوجود الإنساني في الكون.

ب. الثانية: إن التشريع لا بد من أن ينشأ عن حاجة ملزمة في الحياة، وقد تحدثنا، في ما قدمناه من حديث، عن الأسس التي ارتكز عليها تشريع تعدد الزوجات من خلال الواقع ومن خلال نداء الطبيعة، حتى أننا قررنا الفكرة التي تقول إن تاريخ الإنسان هو تاريخ التعدد في العلاقات الجنسية من طرف الرجل، سواء في ذلك العلاقات الشرعية وغير الشرعية، مما يوحي بأن الوحدة في ذلك لا تعتبر حلا للمشكلة؛ فلا بد من تجاوز هذا العلاج إلى غيره، أما تعدد الأزواج للمرأة فهو حالة شاذّة تاريخيا، حتى لدى القبائل البدائية التي وقف عندها التاريخ، فلا حاجة إلى أن يقف عندها التشريع ليخطط لها القوانين والأحكام، فإذا اقتربنا من مبررات التعدد، فإننا نجد من بينها أوضاع الحروب التي تفني الرجال بنسبة أكبر مما تفني النساء، مما يجعل من كثرة النساء وقلة عدد الرجال حالة طبيعية تفرض التعدد في علاقات الرجل بالمرأة دون العكس، وذلك لحلّ مشكلة المرأة الجنسية والروحية الباحثة عن العلاقة الطبيعية بالرجل.

11. هناك نقطةٌ أخرى جديرة بالبحث والتأمّل، وهي أن غريزة الرجل تدعو إلى التعدد أكثر من غريزة المرأة، لأن عنصر الإثارة لدى الرجل أشد وأسرع من عنصر الإثارة لدى المرأة؛ فان تأثر المرأة بالعوامل التي تثير الغريزة يحتاج إلى إعداد نفسيّ وجسديّ أكثر مما يحتاجه الرجل؛ حتى أن الرجل يبلغ حاجته، في ما يسمى بذروة الشهوة في العلاقة الجنسية، قبل أن تبلغها المرأة بوقت قصير، مما يؤدي إلى مشاكل نفسية وجسدية للمرأة عند ما لا تحس بالاكتفاء في العلاقة بالمستوى الذي يحس به الرجل، وقد نستفيد من ذلك أن عنصر الإثارة لدى المرأة ليس إيجابيا بالمستوى الموجود لدى الرجل، وربما نلمح في خطوات الواقع، أن الرجل هو الذي يلاحق المرأة، ويهيّئ لها أجواء الانحراف على أساس نداء الغريزة، بينما نجد أن إغواء المرأة للرجل يخضع في كثير من الحالات لعوامل اقتصادية أو غير ذلك من العوامل الخارجية، وقد عاشت بعض البلدان الأوروبية والأمريكية ما يشبه تعدد الأزواج والزوجات، في ما يسمى بعملية الزواج الجماعي الذي يلتقي فيه عدة من النساء والرجال على حياة زوجية مشتركة، ولكن الواقع أثبت فشل التجربة، لأنها خلقت لهم أكثر من مشكلة، ولم تستطع منحهم الشعور بالرضا والسعادة النفسية لا سيما بالنسبة إلى المرأة، ذلك من عوامل الإثارة لديها، بينما لا نجد ذلك الشعور نفسه لدى الرجل، وعلى ضوء ذلك كله، نقف أمام الحقيقة الواقعية التي تفرض الحاجة إلى التعدد لدى الرجل من ناحية الغريزة والأوضاع الإنسانية العامة، مما يجعل من ذلك قضية في حجم الظاهرة التي يجب أن يواجهها التشريع بالحل العملي؛ ولا نجد ذلك لدى المرأة، بل كل ما هناك وجود حالات طارئة سريعة لا تفرض الاهتمام الكبير.

12. وهكذا نجد التشريع الإسلامي يواجه الواقع بحلوله للمشاكل المعقّدة من موقع الحاجة الطبيعية للإنسان، لأنه لا يشرّع للملائكة بل يشرّع للبشر، وكان التعدد حلا طبيعيا لمشكلة الرجل والمرأة معا من الناحية الجنسية والاجتماعية، ولمّا كانت القضية تعيش في نطاق الرخصة لا في دائرة الإلزام، كان من الممكن للإنسان أن يمارس حريته من خلال ظروفه، ليصل بذلك إلى حدود التوازن في حياته؛ فقد يجد المصلحة في الوحدة، وقد يجدها في التعدد، وقد يجدها في عدم الزواج، مما يجعل الإنسان يمارس واقعه على أساس شرعي، يبتعد به عن الأوضاع غير الشرعية في أيّ ظرف‏ من ظروفه، ويدفعه إلى مواجهة الواقع بإيجابيات الشريعة، بعيدا عن سلبيات الانحراف.

13. قد يكون من الضروري مواجهة التقييم الفكري والعملي للعلاقات من منطق الأحكام الشرعية، فنحترم الممارسات التي تقوم على هذا الأساس، وتنسجم مع أخلاقيات الشريعة، مهما كانت بعيدة عن التقاليد الاجتماعية المستمدة من قواعد فكرية غير إسلامية، كما نلاحظ في بعض ملامح الواقع الذي نعايشه في العصر الحاضر، تأثّرا بالقيم المسيحية المثالية التي تؤكد على الرهبنة والبعد عن الغرائز كقيمة روحية أساسية، فتعتبر الإنسان الذي يخنق غريزته إنسانا قدسيا، بينما ترى في الإنسان الذي يستجيب لغرائزه بشكل طبيعي إنسانا لا يرقى إلى مستوى القيمة، وعلى هذا الأساس تعتبر موضوع التعدد في العلاقات الجنسية حالة شهوانية لا تليق بالإنسان المؤمن الذي يريد أن يعيش القيم الروحية في حياته، من خلال ما تمثله قيم الزهد والترفّع عن الشهوات والتنكر للحياة المادية وما شابه ذلك من مفاهيم.

14. ولكن الإسلام لا يستجيب لهذا المنطق، ولا يتبنّى هذه المفاهيم، فقد اعتبر الغرائز التي أودعها الله في كيان الإنسان أمورا طبيعية لا بد للإنسان من ممارستها بطريقة متوازنة؛ فلكل غريزة جوع وظمأ، وللإنسان إشباع جوعه، وإطفاء حرارة ظمئه، تماما كما هي الحاجات الطبيعية الجسدية، فلا يكون العمل على أساس ذلك ضد القيمة، ولا تكون الشهوانية المعتدلة شيئا سيئا في حياته، ولا يعتبرها الإسلام شيئا منافيا للروحانية، لأن روحانية الإسلام لا تتمثل في ابتعاد الإنسان عن حاجات الجسد، بل في عدم الارتفاع بها إلى مستوى القيمة الأساسية في الحياة، وفي الوقوف أمامها بإرادة حرة قادرة أن تقول لا، وأن تقول نعم، من دون الخضوع للضغوط الدافعة إلى الانحراف؛ فلا تستعبدها الحاجات، إذا وقفت الحياة لتخيّر الإنسان بين السير مع مبادئه‏ وبين الخضوع لضغط الشهوات، وهذا هو المعنى الحقيقي للزهد، في ما يمثله من مشاعر نفسية يملك فيها الإنسان التحرر من الارتباط بالمادة الذي يشبه حالة الاستعباد؛ وتلك هي الروحانية الداخلية التي تجعلك تواجه الحياة من موقع القدرة على التحكم في حركتها من حولك، فليس الجوع في ذاته قيمة روحية، وليس البعد عن الشهوات في ذاته معنى روحيا، إلا في ما يمثله من حركة الإرادة الواعية في رفض المنكر أو التدرّب على مواجهته، من أجل أن يقرّبك ذلك من الله، من خلال ما يمثله من ممارستك لحريتك بين يديه.

15. وعلى هذا الأساس، نجد أن تعدد الزوجات ليس ضد القيمة، كما أن الوحدة فيها ليست هي القيمة، بل هي حاجة طبيعية يمكن للإنسان أن يعيشها على أساس ظروفه الذاتية، في ما يحيط به من الظروف الداخلية والخارجية؛ فله أن يعدد من موقع الإرادة، وله أن يوحّد من ذلك الموقع، ليكون بذلك قريبا من الله في كلتا الحالتين، لأنه يتحرك على هذى التشريع الذي يرى في الأخذ بالرخصة التزاما إسلاميا، كما يرى في الالتزام بالإلزام التزاما بالخط الإلهي السليم.

16. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ لا بد في كل علاقة إنسانية من الارتكاز على أساس العدل، سواء في ذلك العلاقات الزوجية وغيرها، لأن الله يريد للحياة أن تتحرك في خط العدل؛ ولذلك كان التعدد مشروطا بالعدل في مواجهة الإنسان لمسؤولياته والتزاماته تجاه زوجاته، فليس له إهمالهنّ في ما يجب لهن من حقوق عليه، وقد يكون من الأقرب للتقوى، دراسة الإنسان إمكاناته قبل الدخول في هذه التجربة؛ فإذا رأى في نفسه القدرة على الوفاء بالتزاماته‏ الشرعية، أقدم على ذلك؛ أما إذا لم تتضح له المسألة، وخاف أن لا يقدر على العدل من خلال الظروف الخاصة والعامة، فالأفضل له الاكتفاء بواحدة، لأن ذلك أقرب إلى التقوى وإلى الانسجام مع إمكاناته المادية، فلا يثقل على نفسه بأكثر مما يستطيع.

17. سؤال وإشكال: قد يثأر سؤال، هل العدل ـ أو إمكاناته ـ شرط في صحة العلاقة الزوجية المتعددة، فلا يصح العقد على أكثر من واحدة إذا خاف الإنسان من نفسه عدم العدل؟ أم أنه ليس شرطا في الصحة، ولكنه شرط في الانسجام مع خط التكليف الشرعي، من دون مساس بالجانب القانوني للعقد؟ والجواب: نجيب عن ذلك أن المسألة ربما تبدو، ظاهر الأمر، كما لو كان العدل شرطا قانونيا لصحة العقد ونفوذه، لأن الله لم يرخص في التعدد في حالة الخوف من عدم العدل؛ ولكن العلماء أقروا بصحة العقد في جميع الحالات، ولم يحكموا بفساد العقد في حالة اكتشاف عدم القدرة على النفقة التي يتوقف عليها العدل، وربما كان الوجه في ذلك أن الفقرة الأخيرة في الآية ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ تفيد بأن الاشتراط جار مجرى الإرشاد والنصيحة وليس جاريا مجرى الإلزام الشرعي القانوني، لأن الإقدام على التعدد مع خوف عدم العدل يعرّض الإنسان لمشاكل شرعية في حركة العلاقة، ويدخله في أوضاع اقتصادية ثقلية قلقة؛ والله العالم بحقائق أحكامه.

18. سؤال وإشكال: كيف نوازن بين هذه الآية وبين الآية التي تنفي إمكانية العدل؟ وقد يثار أمامنا سؤال آخر: إن مقارنة هذه الآية بالآية الكريمة ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ [النساء: 129]، تؤدي إلى النتيجة التالية، وهي أن الله ـ سبحانه ـ قد حرّم التعدد لأنه ربطه بشرط العدل الذي أفادت الآية الثانية عدم استطاعة الإنسان الوقوف عند خطه في ذلك، حتى في حالات الحرص التام على القيام به، مما يوحي بأن التشريع مقيّد بقيد لا يمكن أن يتحقق، فيكون بمثابة الأسلوب اللبق في إلغاء الرخصة بطريقة غير مباشرة، والجواب: ونجيب عن ذلك:

أ. أولا: بما ألمحنا إليه آنفا، من أن الشرط وارد في مقام الاحتياط للوضع الشرعي والاقتصادي للإنسان، وليس واردا مورد الإلزام القانوني.

ب. ثانيا: إن العدل، الذي أخذ شرطا في هذه الآية يراد به العدل في النفقة، بينما يراد من العدل في الآية الثانية العدل في المحبة والميل القلبي، وذلك من خلال قوله تعالى: ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ فإنه يمثل النهي عن الانحراف مع الحالة العاطفية، إلى المستوى الذي يصل إلى حدّ الهجران بحيث تصبح المرأة معلّقة، لا مزوّجة ولا مطلّقة؛ بل إن هذا التأكيد على طبيعة المدى، الذي يجب أن تعيش معه العلاقة، يمثل إقرارا بشرعية العلاقة، وقد ورد هذا التفريق في تفسير كلمة العدل في الآيتين، في بعض كلمات أئمة أهل البيت عليه السّلام:

جاء في تفسير العياشي نقلا عن الميزان عن هشام بن سالم عن أبي‏ عبد الله عليه السّلام‏ في قول الله‏ ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ [النساء: 129]، قال في المودة.

وفي الكافي بإسناده عن نوح بن شعيب ومحمد بن الحسن قال‏: سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم، فقال له: أليس الله حكيما؟ قال بلى، وهو أحكم الحاكمين قال فأخبرني عن قوله عزّ وجلّ: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ أليس هذا فرض؟ قال بلى، قال فأخبرني عن قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ [النساء: 129]، أي حكيم يتكلم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب، فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد الله عليه السّلام، فقال: يا هشام في غير وقت حج ولا عمرة؟ قال نعم، جعلت فداك لأمر أهمّني، إن ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء، قال وما هي؟ قال فأخبره بالقصة، فقال له أبو عبد الله عليه السّلام: أما قوله عزّ وجلّ: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ يعني في النفقة، وأما قوله‏: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ [النساء: 129]، يعني في المودة، قال فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب وأخبره، قال والله ما هذا من عندك‏.

وروي أيضا نظير الحديث عن القمي، أنه سأل بعض الزنادقة أبا جعفر الأحول عن المسألة بعينها، فسافر إلى المدينة فسأل أبا عبد الله عليه السّلام عنها، فأجابه بمثل الجواب، فرجع أبو جعفر إلى الرجل فأخبره فقال: هذا حملته من الحجاز.

وفي المجمع‏ في قوله تعالى: ﴿فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ أي تذرون التي لا تميلون إليها كالتي هي لا ذات زوج ولا أيِّم، عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وغيرهم، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهم السّلام‏، ملك اليمين‏

19. ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ لما كانت الحقوق الشرعية الإلزامية للزوجة تختلف عن حقوق ملك اليمين، كان التعدد في العلاقات الزوجية موجبا للخوف من الانحراف عن خط العدل؛ ولذلك فإن بإمكان الإنسان تلبية حاجاته الغريزية مع التعدد في ملك اليمين، ليبتعد عن الانحراف عن القيام بواجباته الشرعية، لأن هذه العلاقة أكثر بساطة من علاقة الزواج.

20. أما الحديث عن شرعية ملك اليمين، ودلالته على تشريع الإسلام للرقّ، فإن هذا كلام سوف نفيض فيه ـ إن شاء الله ـ في ما نستقبله من تفسير الآيات التي تتحدث عن الرقّ للرجال والنساء؛ وسوف نجد أن الإسلام قد جاء إلى واقع يعيش فيه نظام الرق، كوجه من وجوه الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فلم يجد من الحكمة لسلامة التشريع أن يبادر إلى إلغائه دفعة واحدة؛ بل عمل على تجفيف منابع الرق، ولم يبق إلا رق‏ الحرب، لأنّه يمثّل قانون المعاملة بالمثل، مع انفتاح على إمكانات أخرى تجعل لولي الأمر أن يملك الاختيار بين الاسترقاق والفداء، في نطاق المصلحة الإسلامية العليا، وعمل بعد ذلك على فتح باب العتق، باعتباره من أفضل الأعمال التي تقرب الإنسان إلى الله، وبالإيحاء بأنه يمثّل الكفارة عن الذنب في صغائر الأمور وكبائرها؛ وبالتأكيد على بعض الأوضاع القانونية في علاقة الإنسان بالرقيق، وذلك في مثل الاستيلاد للأمة التي تتحرر بذلك من نصيب ولدها، وفي مثل المكاتبة على أساس مبلغ معين يدفعه العبد، وغير ذلك من الموارد التي نجد الكثير منها في حركة الحرية في التشريع.

21. قد نستطيع وضع أيدينا على واقعية التشريع، في وصوله إلى هدفه الأساسي من إلغاء الرق في حياة الناس، وذلك من خلال ملاحظة الواقع الذي عاشه المسلمون، ولا يزالون يعيشونه في العصور المتأخرة والأخيرة، فليست لدينا مشكلة رقّ تستدعي القيام بثورة تحرير للعبيد، لأن التشريع الذي أطلق الممارسات الشرعية للتحرير، في نطاق العمل الفردي للإنسان، كان ثورة هادئة تتحرك في اتجاه الوصول إلى أهدافها بكل هدوء وتركيز وإيمان، من دون أية حاجة إلى القيام بالاستعراضات القانونية والاجتماعية، كما يفعل الآخرون.

22. إن الإسلام يتحرك في مجال تغيير الواقع، من القاعدة الداخلية للإنسان التي تربط حياته بهدف الحصول على رضا الله والرغبة العميقة في القرب منه، وتوجهه نحو تحقيق هذا الهدف في نطاق الخطوات التشريعية الواقعية التي تدخل في مفردات حياته اليومية الخاصة، لتنطلق الفكرة من خلال الممارسة الشرعية في خطة حكيمة هادفة.

23. وربما كان الأساس في ذلك، هو أن قيمة أيّ هدف تشريعيّ، تتمثل‏ الروحية التي تعيش في داخل الذات، من أجل انطلاق التغيير من موقع القناعة في عملية مساهمة ذاتية في الوصول إلى الهدف، بعيدا عن أيّ ضغط خارجي، لأن الضغط وحده قد يحقق حركة التشريع في الواقع بقوة، ولكنه لا يبني العلاقات الروحية والاجتماعية في إطار الحياة الداخلية التي يعيشها الناس، وقد نستكشف ذلك من ملاحظة الروحية التي تعيشها بعض الشعوب المتمدنة كأوروبا وأميركا ضد السود، انطلاقا من الشعور بسيادة اللون الأبيض على اللون الأسود، المنطلقة من تاريخ استعباد البيض للسود، وفقدان القناعة بالواقع القانوني الذي شرّع تحرير العبيد، أمّا الإسلام، فقد أطلق النظرة الإنسانية في المفهوم الإسلامي في قضية الرقّ، فلم يفرّق بين الحر والعبد في الموقع الإنساني، بل كان التفريق في حركة القانون، فإذا فقد القانون ساحته بالانتقال إلى مجال الحرية، كانت العلاقات الإنسانية بين الناس طبيعية، لأنها لم تتحرك من عمق المفهوم الداخلي، بل تحركت من سطح الطبيعة القانونية للعلاقة.

24. ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ ربما كان المراد من العول هو الانحراف عن خط الحق، لأن الإنسان الذي يقف عند حدود قدراته الذاتية، يستطيع أن يستقيم على طريق الله؛ أما الذي يتجاوز قدراته، فإنه سوف يسقط في التجربة الصعبة ويسير في النهاية على أساس خط الانحراف، ولعل هذه الفقرة تعطينا الفكرة التي ألمحنا إليها، وهي أن الاشتراط وارد على أساس الاحتياط، للانسجام مع أوامر الله ونواهيه، وليس جاريا مجرى الإلزام القانوني؛ والله العالم.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/43.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لقد نقل لهذه الآية سبب نزول خاص، فقد كان المتعارف في العهد الجاهلي قبل الإسلام أن يتكفل أغلب الناس في الحجاز أمر اليتيمات، ثمّ يتزوجون بهنّ، ثمّ يمتلكون أموالهنّ، وربما ينكحوهنّ بدون صداق أو بصداق أقل من شأنهنّ، بل وربّما يتركوهنّ لأدنى سبب أو كراهية بكل سهولة، وبالتالي لم يكونوا يعطونهنّ ما يليق بهنّ ـ كزوجات ـ بل وحتى كبقية النساء العاديات ـ من الاحترام والمكانة، فنزلت هذه الآية توصي أولياء اليتيمات إذا أرادوا الزواج بهنّ أن يلاحظوا جانب العدل معهن، وإلّا فليختاروا الأزواج من غيرهنّ‏.

2. يقول سبحانه في هذه الآية: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ وقد جاء هذا الكلام بعد ما جاء في الآية السابقة من الحث على حفظ أموال اليتامى من التلف وعدم التفريط فيها، فجاءت هذه الآية لتنوه بحق آخر من حقوقهم، وهو هذه المرّة يتعلق باليتيمات خاصّة.

3. بملاحظة ما ذكرناه في سبب النزول يتّضح تفسير هذه الآية والمراد منها، كما يتّضح الجواب أيضا على السؤال المطروح هنا، وهو: لماذا تبتدئ الآية بذكر اليتامى، وتنتهي بمسألة الزواج، ويرتفع ما قد يتوهم من المنافاة بين تلك البداية، وهذه النهاية، فالبداية والنهاية كلتاهما تتعلقان بمسألة الزواج، غاية ما في الباب أنّ الآية تقول: إذا لم يمكنكم الزواج باليتيمات ومعاشرتهنّ على أساس من العدل والقسط فالأفضل أن تتركوا الزواج بهنّ، وتتزوجوا بغيرهنّ من النساء تجنبا لظلم اليتيمات والإجحاف بحقوقهنّ، والجور عليهنّ، فالذي يستفاد من ذات الآية ـ وإن اختلفت وجهات نظر المفسرين وكثرت أقوالهم وتعددت في المراد منها ـ هو ما ذكرناه في سبب النزول، وهو أن الخطاب موجه إلى أولياء اليتيمات اللاتي جاء الحثّ في الآية السابقة على حفظ أموالهنّ ضمن اليتامى، فهذه الآية تعليم آخر ووصية أخرى بهم، ولكنّها هذه المرّة تتعلق بمسألة الزواج باليتيمات، وإن على أوليائهنّ أن يعاملوهنّ في مسألة الزواج على أساس من العدل والقسط كما يعاملونهنّ في مسألة المال، فعليهم أن يراعوا في أمر الزواج مصلحة اليتيمة، وإلّا فمن الأحسن أن يدعوا الزواج بهنّ، ويختاروا الأزواج من غيرهنّ من النساء.

4. ممّا يؤيد ويوضح هذا التّفسير ما جاء في الآية من نفس هذه السّورة حيث حثّ سبحانه على التزام العدل في الزواج باليتيمات، وسيأتي‏ تفصيل ذلك في محله، كما أن ثمّة أحاديث نقلت في الكتب المختلفة تشهد بهذا الاتجاه، وتؤيد هذا التّفسير.

5. ما نقل عن الإمام علي عليه السّلام من الأخبار بسقوط أو حذف شيء كثير من القرآن بين مطلع هذه الآية، ونهايتها غير معتبر من حيث السند أصلا، فهذه الأحاديث وما يشابهها من الأحاديث التي تدل على حذف شيء من الآيات القرآنية وإسقاطها أو وقوع التحريف فيه إمّا أنّها من موضوعات أعداء الإسلام وخصومه والمنافقين بغية الحط من اعتبار القرآن وأهميته ومكانته، وإمّا لأنّها ناشئة من عجز البعض عن التوفيق بين صدر الآية وذيلها وفهم الارتباط الطبيعي بينهما، ولهذا توهّموا بأنّ هناك حذفا وإسقاطا وقد تطور هذا الوهم حتى اتّخذ صورة الحديث المروي والخبر المنقول، في حين يتّضح الارتباط الوثيق بين هذه الجمل والعبارات بالتأمل والتدبر والإمعان.

6. (مثنى) و(ثلاث) و(رباع): تعني (مثنى) في اللّغة اثنتين اثنتين، و(ثلاث) ثلاثا ثلاثا، و(رباع) أربعا أربعا، وحيث أنّ الخطاب في هذه الآية موجّه إلى المسلمين كافة، كان المعنى: إن عليكم أن تنصرفوا عن الزواج باليتيمات تجنبا من الجور عليهنّ، وأن تتزوجوا بالنساء اللاتي لا تسمح مكانتهنّ الاجتماعية والعائلية بأن تجوروا عليهنّ، وتظلموهنّ، ويجوز لكم أن تتزوجوا منهنّ باثنتين أو ثلاث أو أربع، غاية ما في الأمر حيث أنّ الخطاب هنا موجّه إلى عامّة المسلمين، وكافتهم عبر بالمثنى، والثلاث، والرّباع إذ لا شك في أن تعدد الزوجات ـ بالشروط الخاصّة ـ لا يشمل أكثر من أربع نساء.

7. لا بدّ من التنبيه إلى أن (الواو) هنا أتت بمعنى (أو)، فليس معنى هذه الجملة هو أنّه يجوز لكم أن تتزوجوا باثنتين وثلاث وأربع ليكون المجموع تسع زوجات، لأن المراد لو كان هذا لوجب أن يذكر ذلك بصراحة فيقول: وانكحوا تسعا لا أن يذكره بهذه الصورة المتقطعة المبهمة، هذا مضافا إلى أنّ حرمة الزّواج بأكثر من أربع نسوة من ضروريات الفقه الإسلامي، وأحكامه القطعية المسلمة.

8. الآية الحاضرة دليل صريح على جواز تعدد الزوجات، طبعا بشروطها التي سنذكرها قريبا.

9. ثمّ إنّه سبحانه عقب على ذلك بقوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ أي التزوج بأكثر من زوجة إنّما يجوز إذا أمكن مراعاة العدالة الكاملة بينهنّ، أمّا إذا خفتم أن لا تعدلوا بينهن، فاكتفوا بالزوجة الواحدة لكي لا تجوروا على أحد.

10. ثمّ يقول: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي يجوز أن تقتصروا على الإماء اللاتي تملكونهنّ بدل الزوجة الثانية لأنهنّ أخف شروطا (وإن كن يجب أن يحظين ويتمتعن بما لهنّ من الحقوق أيضا)

11. ويقول: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ أي أن هذا العمل (وهو الاقتصار على زوجة واحدة أو الاقتصار على الإماء وعدم التزوج بزوجة حرّة ثانية) أحرى بأن يمنع من الظلم والجور، ويحفظكم من العدوان على الآخرين (وسيكون لنا حديث مفصل عن الرّق في الإسلام عند تفسير الآيات المناسبة إن شاء الله)

12. سؤال وإشكال: قبل الخوض في بيان فلسفة تعدد الأزواج في الشريعة الإسلامية يجب أن يتّضح أوّلا المراد من العدل بين الأزواج الذي هو من شروط جواز التعدد، فما هو المقصود من العدل هنا يا ترى؟ أهي العدالة في الجوانب المادية كالمضاجعة وتوفير وسائل العيش وتحقيق الرّفاه والمتطلبات المعيشية؟ أم أنّ المراد أيضا هو العدالة في نطاق القلب والعواطف والأحاسيس الإنسانية؟ وبعبارة صريحة: العدالة في الحبّ والرغبة، مضافا إلى العدالة في الجوانب المادية؟ والجواب: لا شكّ أنّ مراعاة العدالة في الميل القلبي، والحبّ، والرغبة شيء خارج عن نطاق القدرة البشرية، فمن ذا يستطيع أن يضبط حبّه من جميع الجوانب، ويعطيه الحجم الذي يريد، والحال أنّ موجباته وعوامله خارجة عن نطاق قدرته، وإطار إرادته؟ ولهذا لم يوجب سبحانه مراعاة مثل هذه العدالة حيث قال سبحانه في الآية 129 من نفس هذه السّورة ـ النساء: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ أي لا يمكنكم مهما أردتم أن تعدلوا بين الأزواج في الميل القلبي، والحبّ والمودّة، إذن فلا ضير في الحبّ والميل القلبي الذي لا يوجب تفضيل بعض الأزواج في المواقف العملية، وعلى هذا الأساس فإن ما يجب على الرجل مراعاته هو العدالة بين أزواجه في الجوانب العملية الخارجية أي في نوع التعامل العملي خاصّة إذ يستحيل مثل هذه المراعاة في المجال العاطفي.

13. من هذا الكلام يتّضح بجلاء إن الذين أرادوا من ضمّ قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ إلى قوله تعالى في الآية: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ أن يستنتجوا حرمة تعدد الأزواج مطلقا بحجّة استحالة مراعاة العدالة بينهن قد وقعوا في خطأ كبير، لأن العدالة المستحيلة مراعاتها ـ كما أسلفنا ـ هي العدالة في المجال العاطفي، ـ وليس هذا من شرائط جواز التعدد في الأزواج، بل إن من شرائط جوازه هو مراعاة العدالة في المجال العملي، ويشهد بذلك ما جاء في ذيل الآية من نفس هذه السّورة حيث يقول سبحانه: ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ أي أنّكم إذ لا تقدرون على مراعاة المساواة الكاملة في محبّة الزوجات وودّهنّ، فلا أقل أن لا تميلوا في حبّ بعض الأزواج ميلا شديدا يحملكم على أن تذروا التي لا تميلون إليها، فلا هي ذات زوج ولا أيم.

14. خلاصة القول ونتيجته، هي أن الذين أمسكوا بقسم من هذه الآية، ونسوا القسم الآخر وتورطوا في رفض تعدد الزوجات في خطأ يدهش كل محقق، ويستغرب منه كل باحث، أضف إلى ذلك أن مسألة جواز تعدد الأزواج بشرائطها على درجة من الثبوت والوضوح في الفقه الإسلامي ومصادره الشيعية والسنية بحيث لا يبقى مجال للجدل، ولا محل للنقاش، بل هو من ضروريات الفقه الإسلامي ومسلماته، وبديهياته، ولنعطف عنان البحث الآن إلى معرفة فلسفة هذا القانون الإسلامي.

15. أجازت الآية الحاضرة تعدد الزوجات (ولكن بشرائط ثقيلة وفي حدود معينة) وقد أثارت هذه الإباحة جماعة، فانطلقوا يوجهون إليها الاعتراضات والإشكالات، وتعرض هذا القانون الإسلامي لهجمة كبيرة من المعارضين الذين تسرعوا في إصدار الحكم عن هذا القانون الإسلامي متأثرين بالأحاسيس، ودون أن يتناولوه بالدرس والتمحيص، والتأمل والتحقيق، وكان الغربيون أكثر هذه الجماعة معارضة لهذا القانون وهجوما عليه، متسائلين كيف يجوز للإسلام أن يسمح للرجال أن يقيموا لأنفسهم حريما ويتخذوا زوجات متعددة على نحو ما كان شائعا في الجاهلية؟ كلّا، إنّ الإسلام لم يسمح لأحد بأن يقيم حريما بالمعنى الذي تصورتم، ولا أنّه أباح تعدد الزوجات دون قيد أو شرط، ودون حدّ أو قانون.

16. لتوضيح هذه الحقائق نقول: إن دراسة البيئات المختلفة قبل الإسلام تكشف لنا أنّ تعدد الزوجات دونما عدد معين كان أمرا عاديا وشائعا، لدرجة أنّ بعض الوثنيين أسلموا وتحت الرجل منهم عشر زوجات أو أقل، من هنا لم تكن مسألة تعدد الزّوجات ممّا أبدعه الإسلام، نعم إنّ ما فعله الإسلام هو وضع هذا الأمر في إطار الحاجة والضرورة الحيوية الإنسانية، وتقييده بطائفة من القيود والشروط الثقيلة.

17. إنّ قوانين الإسلام وتشريعاته تدور على محور الحاجات الإنسانية، وتقوم على أساس مراعاة الضرورات الحيوية في دنيا البشر، لا الدعاية الظاهرة ولا المشاعر الموجهة توجيها غير صحيح، ومسألة تعدد الزوجات من هذا القبيل أيضا، فقد لوحظت هي الأخرى من هذه الزاوية، لأنّه لا أحد يمكنه أن ينكر أنّ الرجال أكثر تعرضا من النساء لخطر الفناء والموت بسبب كثرة ما يحيط بهم من الحوادث، المختلفة، فالرجال يشكلون القسم الأكبر من ضحايا الحروب، والمعارك، كما أنّه لا يمكن إنكار أنّ أعمار الرجال من الناحية الجنسية أطول من أعمار النساء في هذا المجال، فالنساء يفقدون القدرة الجنسية (والقدرة على الإنجاب) في سن معين من العمر قريب، في حين يبقى الرجال متحفظين بهذه الطاقة والقدرة مدّة أطول بكثير، كما أنّ النساء ـ في فترة العادة الشهرية وشيء من فترة الحمل ـ يعانين من موانع جنسية بصورة عملية في حين لا يعاني الرجل من أي مانع جنسي من هذا النوع، هذا كلّه مضافا إلى أن هناك نساء يفقدون أزواجهنّ لبعض الأسباب، فلا يتيسر لهن أن يجلبن اهتمام نظر الرجال إلى أنفسهن كزوجة أولى، فإذا لم يسمح بتعدد الزوجات، وجب أن تبقى تلك النسوة بلا أزواج، كما نقرأ ذلك في الصحف المختلفة حيث يشكو هذا النوع من النساء الأرامل من صعوبات الحياة ومشكلات العيش بسبب تحديد مسألة تعدد الأزواج أو إلغائها بالمرّة، وحيث يعتبرن المنع من التعدد نوعا من القوانين الظالمة الجائرة والمعادية لهنّ.

18. بالنظر إلى هذه الحقائق، وعند ما يضطرب التوازن بين عدد النساء والرجال نجد أنفسنا مضطرين لأن نختار أحد طرق ثلاث هي:

أ. أن يقنع كل رجل بزوجة واحدة فقط في جميع الحالات والموارد، ويبقى العدد الإضافي من النساء بلا أزواج إلى آخر أعمارهن، ويكبتن حاجاتهنّ الفطرية ويقمعن غرائزهنّ الباطنية الملتهبة.

ب. أن يتزوج الرجل بامرأة واحدة بصورة مشروعة ثمّ يترك حرّا لإقامة علاقات جنسية مع من شاء وأراد من النساء اللائي فقدن أزواجهن لسبب وآخر على غرار اتّخاذ الأخدان والعشيقات.

ج. أن يسمح لمن يقدر أن يتزوج بأكثر من واحدة ولا يقع في أية مشكلة من الناحية (الجسمية) و(المالية) و(الخلقية) من جراء هذا الأمر، كما ويمكنه أن يقيم علاقات عادلة بين الزوجات المتعددة وأولادهن، أن يسمح لهم بأن يتزوجوا بأكثر من واحدة (على أن لا يتجاوز عدد الأزواج أربعا)

19. هذه ثلاث خيارات وطرق لا رابع لها:

أ. إذا أردنا اختيار الطريق الأوّل يلزم أن نعادي الفطرة والغريزة البشرية، ونحارب جميع الحاجات الروحية والجسمية لدى البشر، ونتجاهل مشاعر هذه الطّائفة من هذه النّسوة، هذه الحرب والمعركة التي لن يكون فيها أي انتصار، وحتى لو نجح هذا الطرح وكتب له التوفيق، فإن ما فيها من الجوانب اللاإنسانية أظهر من أن تخفى على أحد، وبعبارة أخرى أن تعدد الزوجات في الموارد الضرورية يجب أن لا ينظر إليه أو يدرس من منظار الزوجة الأولى، بل يجب أن يدرس من منظار الزوجة الثانية أيضا، إنّ الذين يعالجون هذه المسألة وينظرون إلى خصوص مشاكل الزوجة الأولى في صورة تعدد الزوجات هم أشبه بمن يطالع مسألة ذات زوايا ثلاث من زاوية واحدة، لأن مسألة تعدد الزوجات ذات ثلاث زوايا، فهي يجب أن تطالع من ناحية الرجل، ومن ناحية الزوجة الأولى، ومن ناحية الزوجة الثانية أيضا، ويجب أن يكون الحكم بعد ملاحظة كل هذه الزوايا في المسألة، ويتمّ على أساس مراعاة مصلحة المجموع في هذا الصعيد.

ب. إذا اخترنا الطريق الثاني وجب أن نعترف بالفحشاء والبغاء بصورة قانونية، هذا مضافا إلى أن النساء العشيقات اللائي يجعلن أنفسهنّ في متناول هؤلاء الرجال لإرواء حاجتهم الجنسية يفتقدن كل ضمانة وكل مستقبل، ويعني ذلك سحق شخصيتهنّ سحقا كاملا ـ في الحقيقة ـ إذ يصبحن حينئذ مجرد متاع يقتنى عند الحاجة ويترك عند ارتفاعها دون التزام ومسئولية، ولا شك أن هذه الأمور ممّا لا يسمح به أي عاقل مطلقا.

ج. على هذا الأساس لا يبقى إلّا الطريق الثالث، وهو الطريق الذي يلبي الحاجات الفطرية والغريزية للنساء، كما أنه يجنب هذه الطائفة من النساء ويحفظهنّ من عواقب الفحشاء والانزلاق إلى الفساد، وبالتالي ينقذ المجتمع من مستنقع الآثام والذنوب.

20. على أن من الواجب أن نلتفت إلى أنّ السماح بتعدد الزوجات مع أنّه ضرورة اجتماعية في بعض الموارد ومع أنّه من أحكام الإسلام القطعية، إلّا أن توفير شرائطه يختلف اختلافا كبيرا عن الأزمنة الماضية، لأن الحياة كانت في العصور السابقة ذات نمط بسيط ومواصفات سهلة، ولهذا كانت رعاية المساواة والعدالة بين الزوجات المتعددات أمرا ممكنا وميسرا لأكثر الناس، في حين يجب على الذين يريدون الأخذ بهذا القانون الإسلامي في هذا العصر أن يراعوا مسألة العدالة من جميع الجوانب، وأن يقدموا على هذا الأمر إذا كانوا قادرين على الوفاء بجميع شروطه، وبالجملة يجب أن لا يقدم أحد على هذا العمل بدافع الهوى والهوس.

21. هذا والملفت للنظر هنا هو أن الذين يعارضون مبدأ تعدد الزوجات (كالغربيين) قد واجهوا طوال تأريخهم ظروفا ألجأتهم إلى هذا المبدأ بصورة واضحة، ففي الحرب العالمية الثانية برزت حاجة شديدة في البلاد التي تعرضت لويلات الحرب هذه وبالأخص ألمانيا، إلى هذا الموضوع مما دفع بطائفة من المفكرين في سياق البحث عن حلّ لهذه المشكلة إلى إعادة النظر في مسألة المنع عن تعدد الزوجات، إلى درجة أنّهم طلبوا من الجامع (الأزهر) بالقاهرة البرنامج الإسلامي حول تعدد الزوجات للدراسة، ولكنهم اضطروا ـ وتحت ضغوط شديدة من جانب الكنائس ـ إلى التوقف عن المضي في دراسة هذا البرنامج، وكانت النّتيجة هو تفشي الفحشاء والفساد الجنسي الشديدين في جميع البلاد التي تعرضت للحرب وويلاتها.

22. هذا بغض النظر عن أنّه لا يمكن إنكار ما يحس به طائفة من الرجال من الميل إلى اتّخاذ زوجات متعددة، فإن كان هذا الميل والرغبة ناشئين من الهوى والهوس لم يكن جديرا بالنظر، أمّا إذا كانا ناشئين عن عقم الزوجة عن إنجاب الأولاد من جانب، ورغبة الرجل الشديدة في الحصول على أبناء له ـ كما هو الحال في كثير من الموارد ـ من جانب آخر، فهو ميل ورغبة منطقيان وجديران‏ بالاهتمام والرعاية، كما أنّه لو كانت الرغبة في تعدد الزوجات ناشئة من الميل الجنسي الشديد لدى الرجل وعدم قدرة الزوجة الأولى على تلبية هذا الميل كما ينبغي، ولهذا يرى الرجل نفسه مضطرا إلى اتخاذ زوجة ثانية حتى لا يقدم على إشباع هذه الحاجة من طريق غير مشروع لإمكان إشباعه من طريق مشروع، وفي هذه الصورة أيضا لا يمكن إنكار منطقية هذا الميل لدى الرجل، ولهذا تكون إقامة العلاقات مع النساء المتعددات أمرا رائجا عمليا حتى في البلاد التي تحظر تعدد الزوجات، فيعقد الرجل الواحد علاقات غير مشروعة مع نساء عديدات.

23. إن المؤرخ الفرنسي المعروف (غوستاف لوبون) يعتبر قانون تعدد الزوجات الذي يقرّه الإسلام ضمن حدود وشروط خاصّة ـ من مزايا هذا الدين، ويكتب عند المقارنة بينه وبين طريقة العلاقات الجنسية الحرّة غير المشروعة الرائجة في الغرب قائلا: (وفي الغرب حيث الجو والطبيعة لا يساعدان على تعدد الزوجات، وبرغم أنّ القوانين الغربية تمنع التعدد، ولكن الغربيين قلما تقيدوا بهذه القوانين وخرقوها بعلاقاتهم السرّية الآثمة، ولا أرى سببا لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبة من مبدأ تعدد الزوجات السري عند الأوروبيين، بل أرى ما يجعله أسنى منه)

24. طبعا لا يمكننا إنكار أنّ هناك بعض أدعياء الإسلام ممن يستخدمون هذا القانون الإسلامي من دون مراعاة الروح الإسلامية فيه فيتخذون حريما كلّه فساد وفجور ويتعدون على حقوق أزواجهم، بيد أنّ هذا ليس هو عيب في هذا القانون الإسلامي ولا يجوز اعتبار أعمالهم القبيحة وأفعالهم الرخيصة هذه من الإسلام، فهي ليست من أحكام الإسلام في شيء، ترى أي حكم أو قانون جيد من الأحكام والقوانين لم يستغله النفعيون والمصلحيون استغلالا سيئا؟

25. سؤال وإشكال: إنّ هاهنا من يسأل أنّه قد تتوفر الشرائط والكيفيات المذكورة أعلاه بالنسبة إلى امرأة أو نساء، فهل يجوز أن نسمح لها أن تختار لنفسها زوجين كما نسمح للرجال ذلك؟ والجواب: إنّ الجواب على هذا السؤال ليس صعبا كما يمكن أن يتصور، وذلك:

أ. أوّلا: إنّ الرغبة الجنسية لدى الرجال (على خلاف ما هو شائع بين السواد من الناس) أقوى وأشدّ بأضعاف من النساء، وأن المرض النفسي الذي تصرّح به أكثر الكتب النفسية والطبية هو (البرود الجنسي) لدى المرأة في حين أن الأمر في الرجال هو العكس، ولا يقتصر هذا الأمر على البشر، ففي عالم الحيوانات كذلك نجد ذكورها أسبق إلى إظهار الميول الجنسية من إناثها.

ب. ثانيا: إنّ تعدد الزوجات للرجال لا ينطوي على أية مشاكل اجتماعية وحقوقية، في حين أنّ السماح بتعدد الأزواج للنساء (أي لو أنّنا سمحنا لامرأة أن تتزوج برجلين) يسبب مشاكل كثيرة أبسطها هو ضياع النسب، إذ لا يعرف في هذه الصورة إلى من ينتسب الولد، ولا شك أن مثل هذا الولد المجهول الأب لن يحظى باهتمام أي واحد من الرجال، بل ويعتقد بعض العلماء أن الولد المجهول الأب قلّما يحظى حتى بحبّ الأمّ واهتمامها به، وبهذه الصورة يصاب الولد الناشئ من مثل المرأة ذات الزوجين بحرمان مطلق من الناحية العاطفية، كما أنّه يكون ـ بطبيعة الحال ـ مجهول الحال من الناحية الحقوقية أيضا، ولعلّه لا يحتاج إلى التذكير بأن التوسل بوسائل منع الحمل للحيلولة دون انعقاد النطفة، وحصول ولد لا يورث الاطمئنان مطلقا، ولا يكون دليلا قاطعا على عدم حمل الزوجة بولد، لأن ثمّة كثيرا من النساء يستخدمن هذه الوسائل، أو يخطئن في استخدامها فيلدن وينجبن أولادا، ولهذا لا يمكن لأية امرأة أن تسمح لنفسها بأن تتزوج بأكثر من رجل اعتمادا على هذه الوسائل، لهذه الأسباب لا يمكن أن يكون السماح للمرأة بتعدد الأزواج أمرا منطقيا، في حين أنّه بالنسبة للرجال ـ ضمن الشروط المذكورة سابقا ـ أمر منطقي، وعملي أيضا.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/88.

4. الصداق والتبرع به

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈4⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: 4]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه سئل عن رجل تزوج امرأة، ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات، فقال: لها مثل صداق نسائها، لا وكس، ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث فقام معقل بن سنان الأشجعي، فقال: قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في بروع بنت واشق ـ امرأة منا ـ مثل ما قضيت؛ ففرح بها ابن مسعود(1).

__________

(1) أبو داود (2116)، والترمذي (1145).

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إن أحق الشروط أن يوفى به، ما استحللتم به الفروج(1).

2. روي أنّه قال: لا تغالوا بمهور النساء فتكون عداوة(2).

3. روي أنّه قال: إني لاكره أن يكون المهر أقل من عشرة دراهم لئلا يشبه مهر البغي(3).

4. روي أنّ امرأة أتته، ورجل قد تزوجها ودخل بها وسمى لمهرها أجلا، فقال له الإمام علي: لا أجل لك في مهرها إذا دخلت بها فأد إليها حقها(4).

5. روي أنّه قال: إذا اشتكى أحدكم فليسأل امرأته ثلاثة دراهم أو نحوها، فليشتر بها عسلا، وليأخذ من ماء السماء، فيجمع هنيئا مريئا، وشفاء ومباركا(5).

6. روي أنّ رجلا قال له: إني موجع بطني، فقال: ألك زوجة؟ قال نعم، قال استوهب منها شيئا من مالها طيبة به نفسها، ثم اشتر به عسلا ثم اسكب عليه من ماء السماء، ثم اشربه فإني سمعت الله سبحانه يقول في كتابه: ﴿وأنزلنا من السماء ماء مباركا﴾، وقال: ﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾، وقال: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ وإذا اجتمعت البركة والشفاء والهنيء المريء شفيت إن شاء الله تعالى، قال ففعل فشفي(6).

__________

(1) من لا يحضره الفقيه 3/252.

(2) مكارم الاخلاق: 237.

(3) علل الشرائع: 501.

(4) التهذيب 7/358.

(5) الثوري في تفسيره ص ٨٧.

(6) مجمع البيان 2/7..

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿نِحْلَةً﴾ يعني بالنحلة: المهر(1).

2. روي أنّه قال: عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنه سئل عن هذه الآية: ‌‌﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾‌‌، قال: إذا جادت لزوجها بالعطية غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان، ولا يؤاخذكم الله تعالى به في الآخرة(2).

3. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ إذا كان من غير إضرار ولا خديعة فهو هنيء مريء، كما قال الله ـ عز وجل ـ(3).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٨٠.

(2) الواحدي في الوسيط، وأورده الثعلبي ٣/ ٢٥٠.

(3) ابن جرير ٦/ ٣٨٤.

أنس:

روي عن أنس بن مالك (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: والله ما مثلك يا أبا طلحة يرد ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذلك مهري، ولا أسألك غيره، فأسلم وكان ذلك مهرها، قال ثابت: فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرا من أم سليم، الإسلام، فدخل بها فولدت له(1).

2. روي أنّه قال: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تزوج أم سلمة على متاع قيمته عشرة دراهم(2).

__________

(1) النسائي: 6/114.

(2) البزَّار كما في (كشف الأستار) (1426).

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ﴾ هي للأزواج(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٨٣.

النخعي:

روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنه قال له: أكلت من الهنيء المريء؟ قلت: ما ذاك؟ قال امرأتك أعطتك من صداقها(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٨٣.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ‌‌﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾‌‌: هذا الخطاب للأولياء، وذلك أن ولي المرأة كان إذا زوجها؛ فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها قليلا ولا كثيرا، وإن كان زوجها غريبا حملوها إليه على بعير ولم يعطوها من مهرها غير ذلك؛ فنهاهم الله عن ذلك، وأمرهم أن يدفعوا الحق إلى أهله(1).

__________

(1) تفسير البغوي ٢/ ١٦٢.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ﴾ من الصداق(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٨٣.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾ إلى الممات، فلها أن ترجع حتى الموت(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٦٢.

الحضرمي:

روي عن الحضرمي (ت 111 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إن ناسا كانوا يعطي هذا الرجل أخته، ويأخذ أخت الرجل، ولا يأخذون كبير مهر؛ فقال الله: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾(1).

2. روي أنّه قال: إن ناسا كانوا يتأثمون أن يراجع أحدهم في شيء مما ساق إلى امرأته؛ فقال الله: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾(2).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٨١.

(2) ابن جرير ٦/ ٣٨٤.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: الصداق ما تراضيا عليه من قليل أو كثير، فهذا الصداق(1).

2. روي أنّه قال: الصداق كل شيء تراضى عليه الناس، قل أو كثر، في متعة أو تزويج غير متعة(1).

3. روي أنّه قال: الصداق ما تراضيا عليه، قل أو كثر(2).

4. روي أنّه قال: كان صداق فاطمة جرد برد حبرة، ودرع حطمية، وكان فراشها إهاب كبش يلقيانه ويفرشانه وينامان عليه(3).

5. روي أنّه قال: من بركة المرأة قلة مهرها، ومن شؤمها كثرة مهرها(4).

6. روي أنّه سئل عن رجل تزوج امرأة على أن يعلمها سورة من كتاب الله؟ فقال: ما أحب أن يدخل حتى يعلمها السورة ويعطيها شيئا، قيل: أيجوز أن يعطيها تمرا أو زبيبا؟ قال: لا بأس بذلك إذا رضيت به كائنا ما كان(5).

7. روي أنّه سئل عن رجل تزوج امرأة فدخل بها فأولدها ثم مات عنها، فادعت شيئا من صداقها على ورثة زوجها، فجاءت تطلبه منهم وتطلب الميراث، فقال: أما الميراث فلها أن تطلبه، وأما الصداق فإن الذي أخذت من الزوج قبل أن يدخل عليها فهو الذي حل للزوج به فرجها، قليلا كان أو كثيرا، إذا هي قبضته منه وقبلته ودخلت عليه، فلا شيء لها بعد ذلك(6).

__________

(1) الكافي 5/378.

(2) التهذيب 7/353.

(3) الكافي 5/377.

(4) من لا يحضره الفقيه 3/245.

(5) الكافي 5/380.

(6) التهذيب 7/359.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ ما طابت به نفسها في غير كره أو هوان، فقد أحل الله لك ذلك أن تأكله هنيئا مريئا(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٨٤.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ معناه أعطوا وصدقاتهنّ: مهورهنّ.. ونحلة: عن طيب نفس(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 115.

الزهري:

روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه سئل عمن قال لامرأته: هبي لي بعض صداقك أو كله، ثم لم يمكث إلا يسيرا حتى طلقها، فرجعت فيه؟ فقال: يرد إليها إن كان خلبها، وإن كانت أعطته عن طيب نفس ليس في شيء من أمره خديعة جاز؛ قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ﴾(1).

__________

(1) علَّقه البخاري في صحيحه ٢/ ٩١٤.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: عطية وهبة(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/ ٢٤٩.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: من أمهر مهرا ثم لا ينوي قضاءه كان بمنزلة السارق(1).

2. روي أنّه قال: من تزوج المرأة ولا يجعل في نفسه أن يعطيها مهرها فهو زنى(1).

3. روي أنّه قال: إن الامام يقضي عن المؤمنين الديون ما خلا مهور النساء(2).

4. روي أنّه قال: من تزوج امرأة ولم ينو أن يوفيها صداقها فهو عند الله زان(3).

5. روي أنّه روى عن آبائه، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في حديث المناهي ـ قال: من ظلم امرأة مهرها فهو عند الله زان، يقول الله عز وجل له يوم القيامة: عبدي، زوجتك أمتي على عهدي فلم توف بعهدي، وظلمت أمتي، فيؤخذ من حسناته فيدفع إليها بقدر حقها، فإذا لم تبق لم حسنة أمر به إلى النار بنكثه للعهد ﴿إن العهد كان مسؤولا﴾(4).

6. روي أنّه قال: السراق ثلاثة: مانع الزكاة، ومستحل مهور النساء، وكذلك من استدان دينا ولم ينو قضاءه(5).

7. روي أنّه سئل عن المهر، ما هو؟ قال: ما تراضى عليه الناس(6).

8. روي أنّه سئل عن أدنى ما يجزي في المهر؟ قال: تمثال من سكر(2).

9. روي أنّه سئل عن المهر، فقال: ما تراضى عليه الناس، أو اثنتا عشرة أوقية ونش، أو خمسمائة درهم(7).

10. روي أنّه قال: المهر ما تراضى عليه الناس، أو اثنتا عشرة أوقية ونش، أو خمسمائة درهم(6).

11. روي أنّه سئل عن الصداق؟ قال: هو ما تراضى عليه الناس، أو اثنتا عشرة أوقية ونش، أو خمسمائة درهم، وقال: الاوقية أربعون درهما، والنش عشرون درهما(8).

12. روي أنه قيل له: النصراني يتزوج النصرانية على ثلاثين دنّاً خمرا وثلاثين خنزيرا ثم أسلما بعد ذلك، ولم يكن دخل بها؟ قال: ينظر كم قيمة الخنازير، وكم قيمة الخمر، ويرسل به إليها ثم يدخل عليها وهما على نكاحهما الاول(9).

13. روي أنّه قال: ساق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم اثنتي عشرة أوقية ونشا، والاوقية أربعون درهما، والنش نصف الاوقية عشرون درهما وكان ذلك خمسمائة درهم، قيل: بوزننا؟ قال نعم(10).

14. روي أنّه قال: مهر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نساءه اثنتي عشرة أوقيّة ونشّاً، والاوقية أربعون درهما، والنش نصف الاوقية، وهو عشرون درهما(10).

15. روي أنّه قال: قال أبي: ما زوج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئا من بناته ولا تزوج شيئا من نسائه على أكثر من اثنتي عشرة أوقية ونش، والاوقية أربعون، والنش عشرون درهما(10).

16. روي أنّه قال: كانت الدراهم وزن ستة يومئذ(10).

17. روي أنّه سئل عن الصداق، أله وقت؟ قال: لا، ثم قال: كان صداق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اثنتي عشرة أوقية ونشّاً، والنش نصف الاوقية، والاوقية أربعون درهما، فذلك خمسمائة درهم(10).

18. روي عن عمر بن يزيد قال قلت: للإمام الصادق: أخبرني عمن تزوج على أكثر من مهر السنة، أيجوز ذلك؟ قال إذا جاز مهر السنة فليس هذا مهرا إنما هو نحل لان الله يقول: ﴿فإن آتيتم إحديهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا﴾ إنما عني النحل، ولم يعن المهر، ألا ترى أنها إذا أمهرها مهرا ثم اختلعت كان له أن يأخذ المهر كاملا، فما زاد على مهر السنة فإنما هو نحل كما أخبرتك، فمن ثم وجب لها مهر نسائها لعلة من العلل، قلت: كيف يعطي؟ وكم مهر نسائها؟ قال إن مهر المؤمنات خمسمائة وهو مهر السنة، وقد يكون أقلّ من خمسمائة، ولا يكون أكثر من ذلك، ومن كان مهرها ومهر نسائها أقل من خمس مائة أعطي ذلك الشيء، ومن فخر وبذخ المهر فازداد على خمسمائة ثم وجب لها مهر نسائها في علة من العلل لم يزد على مهر السنة خمسمائة درهم(11).

19. روي أنّه قال: زوج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فاطمة على درع حطمية، وكان فراشهما إهاب كبش يجعلان الصوف إذا اضطجعا تحت جنوبهما(12).

20. روي أنّه قال: زوّج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليا فاطمة على درع حطمية تساوي ثلاثين درهما(12).

21. روي أنّه قال: إذا تزوج الرجل المرأة فلا يحل له فرجها حتى يسوق إليها شيئا، درهما فما فوقه، أو هدية من سويق أو غيره(13).

22. روي أنّه سئل عن الرجل يتزوج المرأة فلا يكون عنده ما يعطيها فيدخل بها؟ قال لا بأس، إنما هو دين عليه لها(14).

23. روي أنّه قال في الرجل يتزوج بعاجل وآجل: الآجل إلى موت أو فرقة(15).

24. روي أنّه قال في الرجل يدخل بالمرأة ثم تدعي عليه مهرها: إذا دخل بها فقد هدم العاجل(1).

25. روي أنّه قال: دخول الرجل على المرأة يهدم العاجل(1).

26. روي أنّه قال: إذا دخل الرجل بامرأته ثم ادعت المهر وقال: قد أعطيتك، فعليها البينة وعليه اليمين(16).

27. روي أنّه سئل عن الرجل والمرأة يهلكان جميعا فيأتي ورثة المرأة فيدعون على ورثة الرجل الصداق؟ فقال: وقد هلك وقسم الميراث؟ قيل: نعم، قال ليس لهم شيء، قيل: فإن كانت المرأة حية فجاءت بعد موت زوجها تدعي صداقها؟ قال لا شيء لها وقد أقامت معه مقرة حتى هلك زوجها، قيل: فإن ماتت وهو حي فجاء ورثتها يطالبونه بصداقها؟ قال وقد أقامت حتى ماتت لا تطلبه؟ قيل: نعم، قال لا شيء لهم، قيل: فإن طلقها فجاءت تطلب صداقها؟ قال وقد أقامت لا تطلبه حتى طلقها؟ لا شيء لها، قيل: فمتى حد ذلك الذي اذا طلبته لم يكن لها؟ قال اذا أهديت إليه ودخلت بيته وطلبت بعد ذلك فلا شيء لها، إنه كثير لها أن يستحلف بالله مالها قبله من صداقها قليل ولا كثير، العادة في بعض البلدان كان الحكم ما دلت عليه وإلا فلا، لما مضى ويأتي(17).

28. روي أنه قيل له: أتزوج المرأة وأدخل بها ولا أعطيها شيئا؟ قال: نعم، يكون دينا عليك(13).

29. روي عن المفضل بن عمر قال: دخلت على الإمام الصادق، فقلت له: أخبرني عن مهر المرأة الذي لا يجوز للمؤمنين أن يجوزوه؟ فقال: السنة المحمدية خمسمائة درهم، فمن زاد على ذلك رد إلى السنة، ولا شيء عليه أكثر من الخمسمائة درهم، فإن أعطاها من الخمسمائة درهم، درهما أو أكثر من ذلك ثم دخل بها فلا شيء عليه، قال قلت: فإن طلقها بعدما دخل بها؟ قال لا شيء لها، إنما كان شرطها خمسمائة درهم، فلما أن دخل بها قبل أن تستوفي صداقها هدم الصداق فلا شيء لها، إنما لها ما أخذت من قبل أن يدخل بها، فإذا طلبت بعد ذلك في حياة منه أو بعد موته فلا شيء لها(18).

30. روي أنّه سئل عن رجل تزوج امرأة، أيحل له أن يدخل بها قبل أن يعطيها شيئا؟ قال نعم(19).

31. روي أنّه قال: لما زوج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليا فاطمة دخل عليها وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ فو الله لو كان في أهلي خير منه لما زوجتكه، وما أنا زوجته ولكن الله زوجه، وأصدق عنه الخمس ما دامت السماوات والارض(6).

32. روي أنّه قال: إن فاطمة قالت لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: زوجتني بالمهر الخسيس، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما أنا زوجتك، ولكن الله زوجك من السماء وجعل مهرك خمس الدنيا ما دامت السماوات والارض(6).

33. روي أنّه قال: لا يرجع الرّجل فيما يهب لامرأته ولا المرأة فيما تهب لزوجها، حيز أو لم يحز، أليس الله ـ تبارك وتعالى ـ يقول: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾، وقال: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ وهذا يدخل في الصّداق والهبة(20).

34. روي عن سماعة بن مهران، عن الإمام الصادق وأبي الحسن قال سألته عن قول الله: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾، قال يعني بذلك: أموالهن الّتي في أيديهنّ ممّا ملكن(21).

35. روي أنه قيل له: جعلت فداك، امرأة دفعت إلى زوجها مالا من مالها ليعمل به، وقالت حين دفعت إليه: أنفق منه، فإن حدث بك حدث فما أنفقت منه كان حلالا طيبا، فإن حدث بي حدث فما أنفقت منه فهو حلال طيب؟ فقال: (أعد علي ـ يا سعيد ـ المسألة) فلما ذهبت أعيدها عليه اعترض فيها صاحبها، وكان معي حاضرا، فأعاد عليه مثل ذلك، فلما فرغ أشار بإصبعه إلى صاحب المسألة، فقال: (يا هذا إن كنت تعلم أنها قد أفضت بذلك إليك فيما بينك وبينها وبين الله عز وجل فحلال طيب) ثلاث مرات، ثم قال: يقول الله عز وجل في كتابه: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾(22).

36. روي أنّه قال: لا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته، ولا المرأة فيما تهبلزوجها حيز أو لم يحز أليس الله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ وقال: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ فهذا يدخل في الصداق والهبة(23).

__________

(1) الكافي 5/383.

(2) الكافي 5/382.

(3) من لا يحضره الفقيه 3/252.

(4) من لا يحضره الفقيه 4/7.

(5) الخصال 153.

(6) الكافي 5/378.

(7) الكافي 5/379.

(8) التهذيب 7/354.

(9) التهذيب 7/356.

(10) الكافي 5/376.

(11) تفسير العياشي 1/229.

(12) الكافي 5/377.

(13) التهذيب 7/357.

(14) الكافي 5/414.

(15) الكافي 5/381.

(16) الكافي 5/386.

(17) الكافي 5/385.

(18) التهذيب 7/361.

(19) نوادر أحمد بن محمد بن عيسى: 115.

(20) نفس المصدر 7 / 30، ذيل حديث 3.

(21) تفسير العياشي 1 / 219، ح 16.

(22) الكافي 5/136.

(23) الكافي 7/30.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ﴾ يقول: أعطوا النساء ﴿صَدُقَاتِهِنَّ﴾ يقول: مهورهن(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٦٠.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾، وذلك أن الرجل كان يتزوج بغير مهر، فيقول: أرثك وترثيني، وتقول المرأة: نعم، فأنزل الله ـ عز وجل ـ: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ﴾ يعني: أحللن لكم، يعني: الأزواج ﴿عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ﴾ يعني: المهر ﴿نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا﴾ يعني: حلالا ﴿مَرِيئًا﴾ يعني: طيبا(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/ ٣٥٧.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ فريضة مسماة(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٨٠.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ النحلة في كلام العرب: الواجب، يقول: لا ينكحها إلا بشيء واجب لها صدقة، يسميها لها واجبة، وليس ينبغي لأحد بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبا بغير حق(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٨١.

الكاظم:

روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن مهر السنة، كيف صار خمسمائة؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى أوجب على نفسه أن لا يكبره مؤمن مائة تكبيرة، ويسبحه مائة تسبيحة ويحمده مائة تحميدة، ويهلله مائة تهليلة، ويصلي على محمد وآله مائة مرة، ثم يقول: اللهم زوجني من الحور العين إلا زوجه الله حوراء عيناء، وجعل ذلك مهرها، ثم أوحى الله إلى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن سن مهور المؤمنات خمسمائة درهم، ففعل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

2. روي أنّه سئل عن الرجل يتزوج المرأة على الصداق المعلوم فيدخل بها قبل أن يعطيها؟ فقال: يقدم إليها ما قل أو كثر، إلا أن يكون له وفاء من عرض، إن حدث به حدث أدي عنه، فلا بأس(2).

__________

(1) الكافي 5/376.

(2) الكافي 5/413.

الدنداني:

1. روي أنّه قال: ‌‌﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾‌‌ كان الرجل إذا زوج ابنته عمد إلى صداقها فأخذه، فنزلت هذه الآية في الأولياء: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ كان الرجل إذا زوج ابنته أخذ صداقها؛ فنهوا عن ذلك(2).

3. روي أنّه قال: كان الرجل إذا زوج أيمه أخذ صداقها دونها؛ فنهاهم الله عن ذلك، ونزلت: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾(3).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٨٥.

(2) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٦٢.

(3) سعيد بن منصور (٥٥٩.

الرضا:

روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنّه قال: لو أن رجلا تزوج المرأة وجعل مهرها عشرين ألفا، وجعل لابيها عشرة آلاف كان المهر جائزا، والذي جعله لابيها فاسدا(1).

__________

(1) الكافي 5/384.

الرسّي:

ذكر الإمام القاسم الرسي (ت 246 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ صدقاتهن: مهورهن، ومهورهن: فأجورهن، و﴿نِحْلَةً﴾ فإنما هي: هبة مسلمة لهن؛ فأمرهم الله أن يؤدوا ذلك إليهن، وجعله حقا عليهم لهن، لا يسعهم حبس شيء منه عنهن، إلا بطيب نفس منهن، أو هبة يهبنها للأزواج عن طيب من أنفسهن؛ فقال سبحانه: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/205.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾:

أ. عن ابن عباس: نحلة ـ قال ـ: المهر.

ب. وقيل: النحلة: الفريضة، أي: آتوهن فريضتهن.

ج. وقيل: نحلة؛ أي: عطية، أي: تعطى هي لا وليها؛ وهو من النّحلى.

د. وقيل: نحلة: من نحلة الدّين، أي: من الدين أن تؤتوا النساء صدقاتهن؛ ليس على ما كانوا يفعلون في الجاهلية: يتزوجون النساء بغير مهورهن؛ ففيه أن لأهل الكفر النكاح بغير مهر.

2. ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾، في الآية:

أ. دلالة جواز هبة المرأة من زوجها، وفساد قول من لا يجيز هبة المرأة بمالها حتى تلد أو تبقى في بيته سنة؛ فيجوز أمرها.

ب. وفي الآية ـ أيضا ـ: دليل أن المهر لها؛ حيث أضاف الإحلال والهبة إليهن بقوله: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾

ج. وفيه دليل ـ أيضا ـ: أن هبة الديون والبراءة منها جائزة؛ كما جازت هبة المرأة مهرها وهو دين، وقيل: فيه وجه‏ آخر، وهو أن الآباء في الجاهلية والأولياء كانوا يأخذون مهور نسائهم؛ فأمرهم ـ عزّ وجل ـ ألّا يأخذوا ذلك، وحكم بأن المهر للمرأة دون وليها، إلا أن تهبه لوليها؛ فيحل حينئذ.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً﴾

أ. قيل: ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئًا﴾: لا داء فيه، و﴿مَرِيئًا﴾: لا إثم فيه.

ب. وقيل: الهنى‏ء: هو اللذيذ الشهي‏، الذي يلذ عند تناوله ويسر، والمرى‏ء: الذي عاقبته.

4. الحكمة في ذكر الهنى‏ء والمرى‏ء هنا وجهان:

أ. أحدهما: ما ذكر في الآيات من الوعيد بأخذه منها، يقول ـ عزّ وجل ـ: ﴿فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا﴾ إلى قوله: ﴿بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ [النساء: 20 ـ 21]؛ لئلا يمتنعوا قطع الزوجية فيما بينهما.

ب. وقيل: قوله ـ عزّ وجل ـ: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾، يعنى: بطيبة أنفسكم‏: يقول: لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون، ولكن آتوهن وأنفسكم بها طيبة؛ إذ كان المهور لهن دونكم، وقوله ـ عزّ وجل ـ: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ﴾، أي: ما طابت به أنفسهن من غير كره فهو حلال، وعن علقمة أنه قال لامرأته: أطعميني من الهنى‏ء المرى‏ء، وعن علي قال إذا اشتكى أحدكم شيئا فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها، ثم يشتري بها عسلا، ثم يشربه بماء السماء، فيجمع الله تعالى الهنى‏ء المرى‏ء والشفاء والماء المبارك‏.

5. في قوله ـ أيضا، عزّ وجل ـ: ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ أن النفقة ـ وإن كانت عليه ـ فهي إذا قامت بها في نفسها لا يحرج هو؛ لأن نفقتها عليها ليست بأعظم من نفقته من مالها إذا تطيبت، ووصف بالهنى‏ء المرى‏ء بما ربما يستثقل الطبع عن مالها؛ كراهة الامتنان، أو بما كان عليه كفايتها، أو بما جرى من الوعيد الشديد في منع مهرها، أو بما قد تحتشمه فتبذل له، أو بما يوهم الطمع في مالها، والرغبة في النكاح لذلك؛ فطيبه الله تعالى حتى وصفه بغاية ما يحتمل المال من الطيب.

6. وفيه بيان جواز معروفها، وترغيب في حسن المعاشرة بينهما حتى أبقى ذلك بعد الفراق بقوله ـ عزّ وجل ـ: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾ الآية [البقرة: 237]، وذلك أحد ما يورث المحبة والمودة، أو يديمها؛ إذ جعل الله بينهما بقوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ [الروم: 21]

7. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بزواج وطلاق العبيد، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/14.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ أي أعطوهن مهورهن هبة وعطية.

2. معنى قوله: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ أي فإن طابت أنفسهن عن شيء من الصداق الذي لهن عليكم، فكلوه هنياً مرياً، إذا وهبنه وأحللنه لكم.. ومعنى قوله: ﴿هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ أي طيباً حلالاً ليس فيه عقوبة، ولا يجعل الله فيه وبالاً، والعرب تسمي كل شيء لا أذى فيه ولا غائلة هنياً، قال الشاعر:

çهنياً مرياً غير داء مخامر... لعزة من أعراضنا ما استحلتé

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 234.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ وهذا خطاب توجه إلى الزوج، وأما النحلة فهي العطية على غير بدل ويسمى الدين نحلة لأنه عطية من الله عز وجل وفي تسمية النحلة بذلك لأن الله سبحانه وتعالى نحله عباده والنحلة أراد بها فريضة مسماه.

2. ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾ يعني الزوجات إن طبن نفساً عن شيء من صداقهن لأزواجهن ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ الهني ما أعقب نفعاً وشفاء ومنه هنأ البعير السقاء قال الشاعر:

çمتبذلاً تبدو محاسنه... يضع الهناء مواضع النقبé

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/163.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف فيمن توجّه إليه هذا الخطاب: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ﴾ على قولين:

أ. أحدهما: أنه متوجه إلى الأزواج، وهو قول الأكثرين.

ب. الثاني: أنه متوجه إلى الأولياء، لأنهم كانوا يتملكون في الجاهلية صداق المرأة، فأمر الله بدفع صدقاتهن إليهن، وهو قول أبي صالح.

2. النّحلة هي العطية من غير بدل، وسمي الدين نحلة، لأنه عطية من الله، وفي تسمية النّحل بذلك قولان:

أ. أحدهما: أنه سمي نحلا لما يعطي من العسل.

ب. الثاني: لأن الله تعالى نحله عباده.

3. في المراد بالنّحلة في الصداق أربعة تأويلات:

أ. أحدها: يعني فريضة مسمّاة، وهو قول قتادة، وابن جريج.

ب. الثاني: أنه نحلة من الله عزّ وجل لهن بعد أن كان ملكا للأولياء، وهو قول أبي صالح.

ج. الثالث: أنه نهى لما كانوا عليه من خطبة الشغار، والنكاح بغير صداق، وهو قول سليمان بن جعفر بن أبي المعتمر.

د. الرابع: أنه أراد أن يطيبوا نفسا بدفعه، كما يطيبون نفسا بالنحل والهبة، وهو قول بعض المتأخرين.

4. ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾ يعني الزوجات إن طبن نفسا عن شيء من صداقهن لأزواجهن في قول من جعله خطابا للأزواج، ولأوليائهن في قول من جعله خطابا للأولياء.

5. ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ الهني‏ء ما أعقب نفعا وشفاء، ومنه هنأ البعير للشفاء، قال الشاعر:

çمتبدلا تبدو محاسنه‏...يضع الهناء مواضع النّقب‏$[

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/453.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ فصدقاتهن: جمع صدقة، يقال: هو صداق المرأة، وصدقة المرأة، وصُدقة، المرأة، وصداق المرأة، والفتح أقلها، ومن قال صُدقة المرأة قال صدقاتهن، كما تقول: غرفة وغرفات، ويجوز صدقاتهن، بضم الصاد وفتح الدال، وصدقاتهن، ذكره الزجاج، ولا يقرأ من هذه إلا بما قرئ به صدقاته، لأن القراءة سنة متبعة.

2. ﴿نِحْلَةً﴾ نصب على المصدر، ومعناه، قال بعضهم: فريضة، وقال بعضهم ديانة، كما يقال: فلا ينتحل كذا وكذا، أي يدين به، ذكره الزجاج، وابن خالويه، قال بعضهم: هي نحلة من الله لهن، أن يجعل على الرجل الصداق ولم يجعل على المرأة شيئاً من الغرم، وذلك نحلة من الله تعالى للنساء، ويقال: نحلت الرجل: إذا وهبت له نحلة ونحلا، ونحل جسمه ونحل: إذا دق، وسمي النحل نحلا لأن الله نحل الناس منها العسل الذي يخرج من بطونها، والنحلة عطية عليك على غير جهة المثامنة، والنحلة الديانة، والمنحول من الشعر ما ليس له.

3. اختلفوا في المعني بقوله‏: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ﴾:

أ. فقال ابن عباس، وقتادة، وابن جريج، وابن زيد، واختاره الطبري، والجبائي، والرماني، والزجاج: المراد به الازواج، أمرهم الله تعالى بإعطاء المهر إذا دخل بها كملا، إذا سمى لها، فأما غير المدخول بها إذا طلقت فان لها نصف المسمى، وإن لم يكن سمى‏ فلها المتعة على ما بيناه فيما مضى.. وهو أقوى، لأن الله تعالى ابتدأ ذكر هذه الآية بخطاب الناكحين للنساء، ونهاهم عن ظلمهن والجور عليهن، ولا ينبغي أن يترك الظاهر من غير حجة ولا دلالة.

ب. وقال أبو صالح: هذا خطاب للأولياء، لأن الرجل منهم كان إذا زوج أيمة أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله عن ذلك، وأنزل هذه الآية، وروى هذا أبو الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام.

ج. وذكر المعمر بن سليمان عن أبيه، قال: زعم حضرمي ان اناساً كانوا يعطي هذا الرجل أخته، ويأخذ أخت الرجل، ولا يأخذون كثير مهر، فنهى الله عن ذلك، وأمر بإعطاء صداقهن.

4. اختلفوا فيمن المخاطب بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾:

أ. فقال عكرمة، وابراهيم، وعلقمة، وقتادة، وابن عباس، وابن جريج، وابن زيد: الخطاب متوجه الى الازواج، لأن أناساً كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء مما ساق إلى امرأته، فانزل الله هذه الآية.. وهو الأولى، لأنا بينا أن الخطاب متوجه إلى الازواج الناكحين، فكذلك آخر الآية.

ب. وقال أبو صالح: المعني به الأولياء، لأنه حمل أول الآية أيضاً عليهم، على ما حكيناه عنه.

5. معنى‏ ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾ إن طابت لكم أنفسهن بشيء، ونصبه على التمييز، كما يقولون: ضقت بهذا الأمر ذرعا، وقررت به عيناً، والمعنى ضاق به ذرعي وقرت به عيني، كما قال الشاعر:

çإذ التياز ذو العضلات قلنا...(اليك اليك) ضاق بها ذراعاé

وإنما هو على ذرعا وذراعا، لأن المصدر والاسم يدلان على معني واحد، فنقل صفة الذراع الى رب الذراع، ثم أخرج الذراع مفسرة لموقع الفعل، ولذلك وحد النفس لما كانت مفسرة لموقع الخبر، والنفس المراد به الجنس، يقع على الواحد والجمع، كما قال الشاعر:

çبها جيف الحسري فأما عظامها...فبيض وأما جلدها فصليب‏é

ولم يقل: فجلودها، ولو قال ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ﴾ أنفساً لمجاز، وكذلك ضقت به أذرعا وذراعا، فأما قوله: ﴿بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا﴾ إنما جمع لئلا يوهم أنه عمل يضاف الى الجميع، كما يضاف القتل إلى جماعة إذا رضوا به، ومالئوا عليه، ومثل الآية: أنت حسن وجهاً، فالفعل للوجه، فلما نقل الى صاحب الوجه، نصب الوجه على التمييز.

6. ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ فهنيئاً مأخوذ من هنأت البعير بالقطران، وذلك إذا جرب فعولج به، كما قال الشاعر:

çمتبذلا تبدو محاسنه‏...يضع الهناء مواضع النقب‏é

فالهني شفاء من المرض، كما أن الهناء شفاء من الجرب، ومعنى‏ ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ أي دواء شافياً، يقال منه: هنأني الطعام ومرأتي: إذا صار لي دواء وعلاجاً شافياً، وهنيني ومريني بالكسر، وهي قليلة، ومن قال هناني يقول في المستقبل: يهناني، وميراني، ومن يقول: هنأني، يقول يهنئني، ويمرئني، فإذا أفردوا قالوا: قد أمراني هذا الطعام، ولا يقولون: أهنانى، والمصدر منه هناً، مراً، وقد مرؤ هذا الطعام مراً، ويقال: هنأت القوم إذا علتهم، وهنأت فلاناً المال إذا وهبته له، أهنؤه هناً، ومنه قولهم: انما سميت هانياً لتهنا، أي: لتعطي.

7. معنى قوله: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ﴾ يعني من المهر، و(من) هاهنا ليست للتبعيض وإنما معناه لتبيين الجنس، كما قال‏ ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾، ولو وهبت له المهر كله لجاز، وكان حلالا بلا خلاف.

8. استدل أبو علي بهذه الآية على أن لولي اليتيمة الذي هو غير الأب أن يزوج اليتيمة، أو يتزوجها قبل أن تحيض، أو يكمل عقلها، بأن قال الخطاب في قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ متوجه إلى الأولياء الذين كانوا يتحرجون من العقد على اليتامى اللائي لهم عليهن ولاية، خوفا من الجور، فقال الله لهم: ان خفتم من العقد على أربع فعلى ثلاث، أو اثنتين، أو واحدة، أو ما ملكت أيمانكم من سواهن، ثم أمرهم بإعطائهن المهر، ثم قال: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ﴾ يعني الأزواج الذين هم الأولياء، ﴿عَنْ شَيْءٍ﴾ من ذلك، ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ وهذا الذي قاله ليس بصحيح، لأنه:

أ. لا يسلم له أولا أنه خطاب للأولياء فما الدليل على ذلك.

ب. ثم إن عندنا(2) وعند الشافعي ليس لأحد من الأولياء أن يزوج الصغيرة إلا الأب خاصة فكيف يسلم له ما قاله؟ ومن قال يجوز ذلك، قال يكون العقد موقوفا على بلوغها ورضاها، فان لم ترض كان لها الفسخ، فعلى كل حال لا يصح ما قاله.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/110.

(2) يقصد الإمامية.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الصدقات: المهور، واحدتها صدقة بفتح الصاد، وضم الدال على لفظ الجمع، وهي لغة الحجاز وتميم: تقول: صُدْقة بضم الصاد وسكون الدال وجمعها صُدْقات بضم الصاد وسكون الدال وبضمها أيضًا كظلمة وظلمات، وغرفة وغرفات، ونظيره المَثُلات بفتح الميم وضم الثاء، واحدها مَثُلَة على لفظ الجمع لغة الحجاز، ولغة تميم مُثلُة ومُثُلات.

ب. النِّحْلة: العطية من غير معاوضة، نحله يَنْحَله نَحْلا ونُحْلا، ومنه النحلة الذبابة التي هي عطية من الله تعالى، والنحل: الدَّبْرُ لما يعطي من العسل.

ج. الهِناء أصله من هَنَأالبعير السقاء إذا وضع عليه القطران للجرب، قال الشاعر: يَضَعُ الْهِنَاءَ مَوَاضعَ النُّقْبِ والهناء: شفاء من المرض، وهنأت القوم هناء، وهنَأَنِي الطعام بفتح النون يَهْنِئُني بكسرها.

د. المريء: الذي يستمرئ يقال: مَرَأَني الطعام مَراءة وأَمْرَأني، ويُقال: هَنَأَني الطعام ومَرأَني إذا ساغ.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: كان الولي يتزوج وليته ولا يعطيها مهرها، فنهوا عن ذلك فنزلت الآية عن الكلبي وأبي صالح، وعلي هذا هو خطاب للأولياء.

ب. وقيل: كان الرجل يزوج أخته من الرجل ليزوجه أخته على أن لا مهر بينهما، وهو الشغار فنهوا عن ذلك، ونزلت فيه الآية.

ج. وقيل: نزلت في وجوب المهر.

3. لَمَّا بين الله تعالى إباحة النكاح، وبين عدد المنكوحة، بين الصداق ليعلم أن النكاح لا يخلو من صداق، فقال تعالى: ﴿وَآتُوا﴾ أي أعطوا ﴿النِّسَاءَ﴾:

أ. قيل: بأنه خطاب للأزواج بأن يعطوا مهور نسائهم عن سعيد بن جبير وإبراهيم وعلقمة وقتادة وابن زيد وأبي علي وأبي مسلم.

ب. وقيل: خطاب للأولياء لئلا يمنع وليته ما يأخذ من المهر عن أبي صالح.

4. ﴿صَدُقَاتِهِنَّ﴾ مهورهن، وذلك يكون المسمى أو مهر المثل، وهذا في المدخول بها، فأما غير المدخول فلها نصف الصداق عند التسمية، أو المتعة عند عدم التسمية.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿نِخْلَةً﴾

أ. قيل: عطية تمليك على غير جهة المثامنة.

ب. وقيل: فريضة عن قتادة وابن جريج وابن زيد.

ج. وقيل: فريضة مسماة قال أبو عبيدة: لا يكون نحلة إلا مسماة معلومة.

د. وقيل: فريضة طيبة بها أنفسكم.

هـ. وقيل: عطية من الله لهن.

و. وقيل: عطية من الزوج.

ز. وقيل: ندبنا بأن الإباحة تشرط الابتغاء بالمال عن الزجاج.

ح. وقيل: عن طيب نفس عن أبي عبيدة.

ط. وقيل: إنما سمي نحلة لأن الزوج لا يملك في مقابلتها عوضًا كما في البيع والإجارة، ولكن يستبيح بضعها.

ي. وقيل: إنه في مقابلة الاستباحة.

ك. وقيل: في مقابلة البضع.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ﴾:

أ. قيل: هذا خطاب للأزواج أي فإن طابت نفوس النساء بأن تهب منكم شيئًا من مهرهن.

ب. وقيل: خطاب للأولياء، يعني إن وهبت المرأة لكم شيئًا من مهرها.

7. ﴿فَكُلُوهُ﴾ أي خذوه فاقبلوه، وخص الأكل لأنه معظم الانتفاع ﴿هَنِيئًا مَرِيئًا﴾:

أ. قيل: يعني سائغًا طيبًا لذيذًا.

ب. وقيل: الهنيء: الطيب المساغ الذي لا ينغصه شيء، والمريء المحمود العاقبة التام الهضم، الذي لا يضر ولا يؤذي، يعني ليس عليكم فيها في الدنيا مضرة ومطلبة، ولا في الآخرة تبعة وعقوبة.

ج. وقيل: الهنيء: اللذيذ، والمريء ما عاقبته العافية.

د. وقيل: حلالاً.

8. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿نِحْلَةً﴾ نصب على التفسير، وقيل: على المصدر تقديره نحلهن نحلة.

ب. ﴿مِنَ﴾ قيل: للتبعيض أي من بعض مهرها، وقيل: للجنس.

ج. وَحَّدَ الهناء وهو النفس ههنا، وجمع في قوله: ﴿بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا﴾:

لدلالته على معنى الجمع في ﴿طِبْنَ﴾، من غير احتمال فجرى مجرى عشرين درهمًا، وجَمَعَ أعمالاً؛ لئلا يوهم أنه عمل يضاف إلى الجميع كما يضاف القتل إلى جماعة رضوا به ومالوا إليه.

وقيل: نقل الفعل من النفوس إلى أصحابها فخرجت النفس مفسرة، ولذلك وحده كقوله: ضاق به ذرعًا، وقال بعض نحاة الكوفة: لفظه واحد، ومعناه الجمع، وعن بعض البصريين أنه أراد بالنفس الهوى، والهوى مصدر، والمصادر لا تجمع.

9. تدل الآية الكريمة على:

أ. ثبوت الصداق في النكاح وأنه لا ينفك منه سُمِّي أو لم يسم، ولا خلاف أنه إذا تزوج امرأة ولم يسم لها مهرًا فإنه يجوز النكاح، فإن دخل بها فلها مهر المثل، وإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة، وإن مات عنها فعلى قول أبي حنيفة وأصحابه يجب مهر المثل، وعند الشافعي لا يجب.

ب. أن الصداق من الدَّيْنِ اللازم الذي يجب أداؤه، وهو بمنزلة الثمن في المعاوضات.

ج. أن المهر حق المرأة لذلك أضاف إليهن.

د. أن المهر يسمى نحلة، وقد بينا ما قيل فيه.

هـ. أن لها أن تتصرف في الصداق بالهبة والإبراء.

و. أنه يحل للزوج إذا وهبته منه، فدل على أن المال قد يحل بالتراضي، ووصفه بأنه هنيء مريء مبالغة في كونه حلالاً.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/525.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الصداق، والصداق، والصدقة، والصدقة: المهر.

ب. النحلة: عطية تكون على غير جهة المثامنة، يقال: نحلت الرجل إذا وهبت له نحلة،، ونحلا وسمي النحل نحلا، لأن الله نحل منها الناس العسل الذي في بطونها.

ج. ﴿هَنِيئًا﴾: مأخوذ من هنأت البعير بالقطران فالهنى شفاء من المرض كما أن الهناء الذي هو القطران، شفاء من الجرب قال:

çما إن رأيت ولا سمعت به...كاليوم هاني أينق جرب

متبذلا تبدو محاسنه...يضع الهناء مواضع النقبé

يقال منه هنأني الطعام ومرأني: أي صار لي دواء وعلاجا شافيا، وهناني ومراني بالكسر وهي قليلة، وتقول في المستقبل: يهناني ويمراني، ويهنئني ويمرأني، وإذا أفردوا قالوا: أمراني، ولا يقولون أهناني، وقد مرؤ هذا الطعام مراءة، ويقال: هنأت القوم إذا علتهم، وهنأت فلانا المال إذا وهبته له، أهنأه هنأ، ومنه المثل إنما سميت هانئا لتهنئ: أي لتعطي.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾:

أ. قيل: معناه: وأعطوا النساء مهورهن عطية من الله، وذلك أن الله تعالى جعل الاستمتاع مشتركا بين الزوجين، ثم أوجب لها بإزاء الاستمتاع مهرا على زوجها، فذلك عطية من الله للنساء.

ب. وقيل: أراد بالنحلة: فريضة مسماة، عن قتادة، وابن جريج.

ج. وقيل: أراد بالنحلة الدين، كما يقال فلان ينتحل كذا: أي يدين به، ذكره الزجاج، وابن خالويه.

3. اختلف فيمن خوطب بقوله ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾:

أ. فقيل: هم الأزواج، أمرهم الله بإعطاء المهر للمدخول بها كملا، ولغير المدخول بها على النصف، على ما مر شرحه، من غير مطالبة منهن، ولا مخاصمة، لأن ما يؤخذ بالمحاكمة، لا يقال له نحلة، وهو قول ابن عباس، وقتادة، وابن جريج، واختاره الطبري، والجبائي، والرماني، والزجاج.

ب. وقيل: هم الأولياء، لأن الرجل منهم كان إذا تزوج أيمة، أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله عن ذلك، عن أبي صالح، وهو المروي عن الباقر عليه السلام، رواه أبو الجارود عنه، والأول أشبه بالظاهر.

4. ﴿فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا﴾: خطاب للأزواج معناه فإن طابت نفوسهن بهبة شئ من الصداق، ﴿فَكُلُوهُ﴾: أي كلوا الموهوب لكم.

5. ﴿هَنِيئًا مَرِيئًا﴾: فالهنئ: الطيب المساغ الذي لا ينقصه شئ، والمرئ: المحمود العاقبة، التام الهضم، الذي لا يضر ولا يؤذي، وفي كتاب العياشي مرفوعا إلى أمير المؤمنين عليه السلام، أنه جاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إني يوجع بطني، فقال: ألك زوجة؟ فقال: نعم، قال: (استوهب منها شيئا طيبة به نفسها من مالها، ثم اشتر به عسلا، ثم أسكب عليه من ماء السماء، ثم اشربه، فإني سمعت الله تعالى يقول في كتابه: ﴿وأنزلنا من السماء ماء مباركا﴾، وقال: ﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ وقال: ﴿فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا﴾ فإذا اجتمعت البركة والشفاء والهنئ المرئ شفيت إن شاء الله)، قال: ففعل ذلك فشفي.

6. استدل بعض الناس على وجوب التزويج بقوله: ﴿فَانْكِحُوا﴾ من حيث إن ظاهر الأمر يقتضي الوجوب، وهذا خطأ، لأنه يجوز العدول عن الظاهر بدليل، وقد قام الدليل على أن التزويج غير واجب.

7. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿نِحْلَةً﴾: نصب على المصدر، وقوله ﴿نَفْسًا﴾ نصب على التمييز كما يقال ضقت بهذا الامر ذرعا، وقررت به عينا، والمعنى ضاق به ذرعي، وقرت به عيني، ولذلك وحد النفس لما كانت مفسرة، والنفس المراد به الجنس يقع على الواحد والجمع، كقول الشاعر:

çبها جيف الحسرى فأما عظامها...فبيض وأما جلدها فصليبé

ولم يقل جلودها، ولو قال: فإن طبن لكم أنفسا، لجاز قوله بالأخسرين أعمالا، إنما جمع لئلا يتوهم أنه عمل يضاف إلى الجميع، كما يضاف القتل إلى جماعة، إذا رضوا به.

ب. من في قوله (عن شئ منه) لتبيين الجنس، لا للتبعيض، لأنها لو وهبت المهر كله، لجاز بلا خلاف.

ج. ﴿هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ نصب على الحال.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/13.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلفوا فيمن خوطب بقوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ على قولين:

أ. أحدهما: أنّهم الأزواج، وهو قول الجمهور، واحتجّوا بأن الخطاب للنّاكحين قد تقدّم، وهذا معطوف عليه، وقال مقاتل: كان الرجل يتزوّج بلا مهر، فيقول: أرثك وترثيني، فتقول المرأة: نعم، فنزلت هذه الآية.

ب. الثاني: أنه متوجّه إلى الأولياء.

2. في قوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن الزّوج كان إذا زوج أيّمة حاز صداقها دونها، فنهوا بهذه الآية، هذا قول أبي صالح واختاره الفرّاء، وابن قتيبة.

ب. الثاني: أنّ الرجل كان يعطي الرجل أخته ويأخذ أخته مكانها من غير مهر، فنهوا عن هذا بهذه الآية، رواه أبو سليمان التّيميّ عن بعض أشياخه.

3. الصدقات: قال ابن قتيبة: المهور، واحدها: صدقة.

4. في قوله تعالى: ﴿نِحْلَةً﴾ أربعة أقوال:

أ. أحدها: أنها بمعنى الفريضة، قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد ومقاتل.

ب. الثاني: أنها الهبة والعطية، قاله الفراء، قال ابن الأنباريّ: كانت العرب في الجاهلية لا تعطي النساء شيئا من مهورهنّ، فلما فرض الله لهنّ المهر، كان نحلة من الله، أي: هبة للنساء، فرضا على الرّجال، وقال الزجّاج: هو هبة من الله للنّساء، قال القاضي أبو يعلى: وقيل: إنما سمي المهر: نحلة، لأن الزّوج لا يملك بدله شيئا، لأن البضع بعد النّكاح في ملك المرأة، ألا ترى أنّها لو وطئت بشبهة، كان المهر لها دون الزّوج، وإنما الذي يستحقّه الزوج الاستباحة، لا الملك.

ج. الثالث: أنها العطيّة بطيب نفس، فكأنه قال لا تعطوهنّ مهورهنّ وأنتم كارهون، قاله أبو عبيدة.

د. الرابع: أنّ معنى (النّحلة): الدّيانة، فتقديره: وآتوهنّ صدقاتهنّ ديانة، يقال: فلان ينتحل كذا، أي: يدين به، ذكره الزجّاج عن بعض العلماء.

5. ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ﴾ يعني: النّساء المنكوحات، وفي‏ ﴿لَكُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه يعني الأزواج.

ب. الثاني: الأولياء.

6. (الهاء) في‏ ﴿مِنْهُ﴾ كناية عن الصّداق، قال الزّجّاج: و﴿مِنْهُ﴾ هاهنا للجنس، كقوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ معناه: فاجتنبوا الرّجس الذي هو وثن، فكأنه قال كلوا الشيء الذي هو مهر، فيجوز أن يسأل الرجل المهر كلّه، و﴿نَفْسًا﴾: منصوب على التمييز، فالمعنى: فإن طابت أنفسهنّ لكم بذلك، فكلوه هنيئا مريئا.

7. في الهني‏ء ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه ما تؤمن عاقبته.

ب. الثاني: ما أعقب نفعا وشفاء.

ج. الثالث: أنه الذي لا ينغّصه شيء، وأما (المري‏ء) فيقال: مرئ الطّعام: إذا انهضم، وحمدت عاقبته.

__________

(1) زاد المسير: 1/371.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ﴾ وأنه خطاب لمن، وفيه قولان:

أ. أحدهما: ان هذا خطاب لأولياء النساء، وذلك لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئا، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئا لك النافجة، ومعناه أنك تأخذ مهرها إبلًا فتضمها الى إبلك فتنفج مالك أي تعظمه، وقال ابن الأعرابي: النافجة ما يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته، فنهى الله تعالى عن ذلك، وأمر بدفع الحق إلى أهله، وهذا قول الكلبي وأبي صالح واختيار الفراء وابن قتيبة.

ب. الثاني: ان الخطاب للأزواج أمروا بإيتاء النساء مهورهن، وهذا قول: علقمة والنخعي وقتادة واختيار الزجاج، قال لأنه لا ذكر للأولياء هاهنا، وما قبل هذا خطاب للناكحين وهم الأزواج.

2. ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ﴾: قال القفال: يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة، ويحتمل أن يكون المراد الالتزام، قال تعالى: ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ﴾ [التوبة: 29] والمعنى حتى يضمنوها ويلتزموها:

أ. فعلى هذا الوجه الأول كأن المراد أنهم أمروا بدفع المهور التي قد سموها لهن.

ب. وعلى التقدير الثاني: كان المراد أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلزم سواء سمي ذلك أو لم يسم، إلا ما خص به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في الموهوبة.

ج. ثم قال: ويجوز أن يكون الكلام جامعا للوجهين معا.

3. ﴿صَدُقَاتِهِنَّ﴾: قال الزمخشري: ﴿صَدُقَاتِهِنَّ﴾ مهورهن، وفي حديث شريح: قضى ابن عباس‏ لها بالصدقة وقرأ صدقاتهن بفتح الصاد وسكون الدال على تخفيف صدقاتهن وصدقاتهن بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة، وقرئ صدقتهن بضم الصاد والدال على التوحيد وهو مثقل صدقة كقوله في ظلمة: ظلمة، قال الواحدي: موضوع ص د ق على هذا الترتيب للكمال والصحة، فسمي المهر صداقاً وصدقة لأن عقد النكاح به يتم ويكمل.

4. في تفسير النحلة وجوه:

أ. الأول: قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد: فريضة، وإنما فسروا النحلة بالفريضة، لأن النحلة في اللغة معناها الديانة والملة والشرعة والمذهب، يقال: فلان ينتحل كذا إذا كان يتدين به، ونحلته كذا أي دينه ومذهبه، فقوله: ﴿آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ أي آتوهن مهورهن، فإنها نحلة أي شريعة ودين ومذهب وما هو دين ومذهب فهو فريضة.

ب. الثاني: قال الكلبي: نحلة أي عطية وهبة، يقال: نحلت فلانا شيئاً أنحله نحلة ونحلا، قال القفال: وأصله إضافة الشيء إلى غير من هوله، يقال: هذا شعر منحول، أي مضاف إلى غير قائله، وانتحلت كذا إذا ادعيته وأضفته إلى نفسك، وعلى هذا القول فالمهر عطية ممن؟ فيه احتمالان:

أحدهما: أنه عطية من الزوج، وذلك لأن الزوج لا يملك بدله شيئاً لأن البضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله، فالزوج أعطاها المهر ولم يأخذ منها عوضا يملكه، فكان في معنى النحلة التي ليس بإزائها بدل، وإنما الذي يستحقه الزوج منها بعقد النكاح هو الاستباحة لا الملك.

وقال آخرون إن الله تعالى جعل منافع النكاح من قضاء الشهوة والتوالد مشتركا بين الزوجين، ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزوجة المهر فكان ذلك عطية من الله ابتداء.

ج. الثالث: في تفسير النحلة قال أبو عبيدة: معنى قوله‏: ﴿نِحْلَةً﴾ أي عن طيب نفس، وذلك لأن النحلة في اللغة العطية من غير أخذ عوض، كما ينحل الرجل لولده شيئاً من ماله، وما أعطى من غير طلب عوض لا يكون إلا عن طيب النفس، فأمر الله بإعطاء مهور النساء من غير مطالبة منهن ولا مخاصمة، لأن ما يؤخذ بالمحاكمة لا يقال له نحلة.

5. إن حملنا النحلة على الديانة ففي انتصابها وجهان:

أ. أحدهما: أن يكون مفعولا له، والمعنى آتوهن مهورهن ديانة.

ب. الثاني: أن يكون حالا من الصدقات أي دينا من الله شرعه وفرضه.

6. إن حملنا النحلة على العطية ففي انتصابها أيضاً وجهان:

أ. أحدهما: أنه نصب على المصدر، وذلك لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء، فكأنه قيل: وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم.

ب. الثاني: أنها نصب على الحال، ثم فيه وجهان:

أحدهما: على الحال من المخاطبين أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء.

الثاني: على الحال من الصدقات، أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس.

7. قال أبو حنيفة: الخلوة الصحيحة تقرر المهر، وقال الشافعي: لا تقرره احتج أبو حنيفة على صحة قوله بهذه الآية، وذلك لأن هذا النص يقتضي إيجاب إيتاء المهر بالكلية مطلقا، ترك العمل به فيما إذا لم يحصل المسيس ولا الخلوة، فعند حصولهما وجب البقاء على مقتضى الآية، أجاب أصحابنا(2) بأن هذه عامة وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: 237] يدل على أنه لا يجب فيها إلا نصف المهر، وهذه الآية خاصة ولا شك أن الخاص مقدم على العام.

8. ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾، أي أنه تعالى لما أمرهم بايتائهن صدقاتهن عقبه بذكر جواز قبول إبرائها وهبتها له، لئلا يظن أن عليه إيتاءها مهرها وإن طابت نفسها بتركه.

9. نفسا: نصب على التمييز والمعنى: طابت أنفسهن لكم عن شيء من الصداق بنقل الفعل من الأنفس إليهن، فخرجت النفس مفسرة كما قالوا: أنت حسن وجها، والفعل في الأصل للوجه، فلما حول إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسراً لموقع الفعل، ومثله: قررت به عيناً وضقت به ذرعا.

10. إنما وحد النفس لأن المراد به بيان موقع الفعل، وذلك يحصل بالواحد ومثله عشرون درهما، قال الفراء: لو جمعت كان صوابا كقوله: ﴿بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا﴾ [الكهف: 103]

11. (من) في قوله: ﴿مِنْهُ﴾ ليس للتبعيض، بل للتبيين والمعنى عن شيء من هذا الجنس الذي هو مهر كقوله: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ [الحج: 30] وذلك أن المرأة لو طابت نفسها عن جميع المهر حل للزوج أن يأخذه بالكلية.

12. (منه) أي من الصدقات أو من ذلك وهو كقوله تعالى: ﴿قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ‏﴾ [آل عمران: 15] بعد ذكر الشهوات، وروي أنه لما قال رؤبة:

çفيها خطوط من سواد وبلق‏...كأنه في الجلد توليع البهق‏é

فقيل له: الضمير في قوله (كأنه) ان عاد إلى الخطوط كان يجب أن تقول: كأنها، وان عاد إلى السواد والبلق كان يجب أن تقول: كأنهما، فقال: أردت كأن ذاك، وفيه وجه آخر وهو أن الصدقات في معنى الصداق لأنك لو قلت: وآتوا النساء صداقهن لكان المقصود حاصلا، وفيه وجه ثالث: وهو أن الفائدة في تذكير الضمير أن يعود ذلك إلى بعض الصداق، والغرض منه ترغيبها في أن لا تهب إلا بعض الصداق.

13. معنى الآية: فان وهبن لكم شيئا من الصداق عن طيبة النفس من غير أن يكون السبب فيه شكاسة أخلاقكم معهن، أو سوء معاشرتكم معهن، فكلوه وأنفقوه.

14. في الآية دليل على ضيق المسلك في هذا الباب، ووجوب الاحتياط، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقال: ﴿فَإِنْ طِبْنَ﴾ ولم يقل: فان وهبن أو سمحن، إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة.

15. الهني‏ء والمري‏ء: صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ، إذا كان سائغا لا تنغيص فيه، وقيل: الهني‏ء ما يستلذه الآكل، والمري‏ء ما يحمد عاقبته، وقيل: ما ينساغ في مجراه، وقيل لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة: المري‏ء لمروء الطعام فيه وهو انسياغه، وحكى الواحدي عن بعضهم أن أصل الهني‏ء من الهناء وهو معالجة الجرب بالقطران، فالهني‏ء شفاء من الجرب، قال المفسرون: المعنى انهن إذا وهبن مهورهن من أزواجهن عن طيبة النفس لم يكن على الأزواج في ذلك تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة، وبالجملة فهو عبارة عن التحليل، والمبالغة في الاباحة وإزالة التبعة.

16. ﴿هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ وصف للمصدر، أي أكلا هنيئا مريئا، أو حال من الضمير أي كلوه وهو هني‏ء مري‏ء، وقد يوقف على قوله: ﴿فَكُلُوهُ﴾ ثم يبتدأ بقوله: ﴿هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل: هنأ مرأ.

17. دلت هذه الآية على أمور:

أ. منها: ان المهر لها ولا حق للولي فيه.

ب. ومنها جواز هبتها المهر للزوج، وجواز أن يأخذه الزوج، لأن قوله: ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ يدل على المعنيين.

ج. ومنها جواز هبتها المهر قبل القبض، لأن الله تعالى لم يفرق بين الحالتين.

د. ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ يتناول ما إذا كان المهر عيناً، أما إذا كان دينا فالآية غير متناولة له، فإنه لا يقال لما في الذمة: كله هنيئاً مريئاً.

18. المراد بقوله: ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ ليس نفس الأكل، بل المراد منه حل التصرفات، وإنما خص الأكل بالذكر لأن معظم المقصود من المال إنما هو الأكل، ونظيره قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ [النساء: 10] وقال: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 188]

19. قال بعض العلماء: ان وهبت ثم طلبت بعد الهبة علم أنها لم تطب عنه نفساً، وعن الشعبي: أن امرأة جاءت مع زوجها شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب الرجوع فقال شريح: رد عليها، فقال الرجل أليس قد قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ﴾ فقال: لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه، وروي عنه أيضا: أقيلها فيما وهبت ولا أقيله لأنهن يخدعن، وحكي أن رجلا من آل أبي معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقا كان لها عليه، فلبث شهرا ثم طلقها، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان، فقال الرجل: أعطتني طيبة به نفسها، فقال عبد الملك: فان الآية التي بعدها ﴿فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ اردد عليها، وعن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى قضاته: ان النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 9/492.

(2) يقصد الشافعية

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ﴾ الصدقات جمع، الواحدة صدقة، قال الأخفش: وبنو تميم يقولون صدقة والجمع صدقات، وإن شئت فتحت وإن شئت أسكنت، قال المازني: يقال صداق المرأة [بالكسر]، ولا يقال بالفتح، وحكى يعقوب وأحمد بن يحيى بالفتح عن النحاس.

2. الخطاب في هذه الآية للأزواج، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وابن جريج، أمرهم الله تعالى بأن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لأزواجهم، وقيل: الخطاب للأولياء، قاله أبو صالح، وكان الولي يأخذ مهر المرأة ولا يعطيها شيئا، فنهوا عن ذلك وأمروا أن يدفعوا ذلك إليهن، قال في رواية الكلبي: أن أهل الجاهلية كان الولي إذا زوجها فإن كانت معه في العشرة لم يعطها من مهرها كثيرا ولا قليلا، وإن كانت غريبة حملها على بعير إلى زوجها ولم يعطها شيئا غير ذلك البعير، فنزل: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾، وقال المعتمر بن سليمان عن أبيه: زعم حضرمي أن المراد بالآية المتشاغرون الذين كانوا يتزوجون امرأة بأخرى، فأمروا أن يضربوا المهور، والأول أظهر، فإن الضمائر واحدة وهي بجملتها للأزواج فهم المراد، لأنه قال: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ إلى قوله: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾، وذلك يوجب تناسق الضمائر وأن يكون الأول فيها هو الآخر.

3. هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه إلا ما روي عن بعض أهل العلم من أهل العراق أن السيد إذا زوج عبده من أمته أنه لا يحجب فيه صداق، وليس بشيء، لقوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ فعم، وقال: ﴿فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، وأجمع العلماء أيضا أنه لاحد لكثيره، واختلفوا في قليله على ما يأتي بيانه في قوله: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾

4. ﴿نِحْلَةً﴾ النحلة والنحلة، بكسر النون وضمها لغتان، وأصلها من العطاء، نحلت فلانا شيئا أعطيته، فالصداق عطية من الله تعالى للمرأة، وقيل: ﴿نِحْلَةً﴾ أي عن طيب نفس من الأزواج من غير تنازع، وقال قتادة: معنى ﴿نِحْلَةً﴾ فريضة واجبة، ابن جريج وابن زيد: فريضة مسماة، قال أبو عبيد: ولا تكون النحلة إلا مسماة معلومة، وقال الزجاج: ﴿نِحْلَةً﴾ تدينا، والنحلة الديانة والملة، يقال: هذا نحلته أي دينه، وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء الذين كانوا يأخذونه في الجاهلية، حتى قال بعض النساء في زوجها: لا يأخذ الحلوان من بناتنا تقول: لا يفعل ما يفعله غيره، فانتزعه الله منهم وأمر به للنساء، و﴿نِحْلَةً﴾ منصوبة على أنها حال من الأزواج بإضمار فعل من لفظها تقديره أنحلوهن نحلة، وقيل: هي نصب على التفسير، وقيل: هي مصدر على غير الصدر في موضع الحال.

5. ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾ مخاطبة للأزواج، ويدل بعمومه على أن هبة المرأة صداقها لزوجها بكرا كانت أو ثيبا جائزة، وبه قال جمهور الفقهاء، ومنع مالك من هبة البكر الصداق لزوجها وجعل ذلك للولي مع أن الملك لها، وزعم الفراء أنه مخاطبة للأولياء، لأنهم كانوا يأخذون الصداق ولا يعطون المرأة منه شيئا، فلم يبح لهم منه إلا ما طابت به نفس المرأة، والقول الأول أصح، لأنه لم يتقدم للأولياء ذكر.

6. الضمير في ﴿مِنْهُ﴾ عائد على الصداق، وكذلك قال عكرمة وغيره، وسبب الآية فيما ذكر أن قوما تحرجوا أن يرجع إليهم شي مما دفعوه إلى الزوجات فنزلت ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ﴾

7. اتفق العلماء على أن المرأة المالكة لأمر نفسها إذا وهبت صداقها لزوجها نفذ ذلك عليها، ولا رجوع لها فيه، إلا أن شريحا رأى الرجوع لها فيه، واحتج بقوله: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾ وإذا كانت طالبة له لم تطب به نفسا، قال ابن العربي: وهذا باطل، لأنها قد طابت وقد أكل فلا كلام لها، إذ ليس المراد صورة الأكل، وإنما هو كناية عن الإحلال والاستحلال، وهذا بين.

8. إن شرطت عليه عند عقد النكاح ألا يتزوج عليها، وحطت عنه لذلك شيئا من صداقها، ثم تزوج عليها فلا شي لها عليه في رواية ابن القاسم، لأنها شرطت عليه ما لا يجوز شرطه، كما اشترط أهل بريرة أن تعتقها عائشة والولاء لبايعها، فصحح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم العقد وأبطل الشرط، كذلك هاهنا يصح إسقاط بعض الصداق عنه وتبطل الزيجة، قال ابن عبد الحكم: إن كان بقي من صداقها مثل صداق مثلها أو أكثر لم ترجع عليه بشيء، وإن كانت وضعت عنه شيئا من صداقها فتزوج عليها رجعت عليه بتمام صداق مثلها، لأنه شرط على نفسه شرطا وأخذ عنه عوضا كان لها واجبا أخذه منه، فوجب عليه الوفاء لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المؤمنون عند شروطهم)

9. ﴿نَفْسًا﴾ قيل: هو منصوب على البيان، ولا يجيز سيبويه ولا الكوفيون أن يتقدم ما كان منصوبا على البيان، وأجاز ذلك المازني وأبو العباس المبرد إذا كان العامل فعلا، وأنشد: (وما كان نفسا بالفراق تطيب) وفي التنزيل ﴿خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ﴾ فعلى هذا يجوز (شحما تفقأت، ووجها حسنت)، وقال أصحاب سيبويه: إن ﴿نَفْسًا﴾ منصوبة بإضمار فعل تقديره أعني نفسا، وليست منصوبة على التمييز، وإذا كان هذا فلا حجة فيه، وقال الزجاج الرواية: (وما كان نفسي) … واتفق الجميع على أنه لا يجوز تقديم المميز إذا كان العامل غير متصرف كعشرين درهما.

10. ﴿فَكُلُوهُ﴾ ليس المقصود صورة الأكل، وإنما المراد به الاستباحة بأي طريق كان، وهو المعني بقوله في الآية التي بعدها ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾، وليس المراد نفس الأكل، إلا أن الأكل لما كان أو في أنواع التمتع بالمال عبر عن التصرفات بالأكل، ونظيره قوله تعالى: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ يعلم أن صورة البيع غير مقصودة، وإنما المقصود ما يشغله عن ذكر الله تعالى مثل النكاح وغيره، ولكن ذكر البيع لأنه أهم ما يشتغل به عن ذكر الله تعالى.

11. ﴿هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ منصوب على الحال من الهاء في ﴿فَكُلُوهُ﴾ وقيل: نعت لمصدر محذوف، أي أكلا هنيئا بطيب الأنفس، هنأه الطعام والشراب يهنئه، وما كان هنيئا، ولقد هنؤ، والمصدر الهنء، وكل ما لم يأت بمشقة ولا عناء فهو هنئ، وهني اسم فاعل من هنؤ كظريف من ظرف، وهني يهنأ فهو هنئ على فعل كزمن، وهنأني الطعام ومرأني على الإتباع، فإذا لم يذكر (هنأني) قلت: أمرأني الطعام بالألف، أي انهضم، قال أبو علي: وهذا كما جاء في الحديث (ارجعن مأزورات غير مأجورات)، فقلبوا الواو من (موزورات) ألفا إتباعا للفظ مأجورات، وقال أبو العباس عن ابن الاعرابي: يقال هنئ وهنأني ومرأني وأمرأني ولا يقال مرئني، حكاه الهروي، وحكى القشيري أنه يقال: هنئني ومرئني بالكسر يهنأني ويمرأني، وهو قليل، وقيل: ﴿هَنِيئًا﴾ لا إثم فيه، و﴿مَرِيئًا﴾ لا داء فيه، قال كثير:

çهنيئا مريئا غير داء مخامر...لعزة من أعراضنا ما استحلتé

ودخل رجل على علقمة وهو يأكل شيئا وهبته امرأته من مهرها فقال له: كل من الهني المري، وقيل: الهني الطيب المساغ الذي لا ينغصه شي، والمري المحمود العاقبة، التام الهضم الذي لا يضر ولا يؤذي، يقول: لا تخافون في الدنيا به مطالبة، ولا في الآخرة تبعة، يدل عليه ما روى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه سئل عن هذه الآية ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ﴾ فقال: (إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان، ولا يؤاخذكم الله تعالى به في الآخرة) وروي عن علي ابن أبي طالب قال: (إذا اشتكى أحدكم شيئا فليسأل امرأته درهما من صداقها، ثم ليشتر به عسلا فليشربه بماء السماء، فيجمع الله تعالى له الهني والمري والماء المبارك)

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/24.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ الخطاب للأزواج، وقيل: للأولياء، والصدقات: بضم الدال، جمع صدقة، كثمرة، قال الأخفش: وبنو تميم يقولون: صدقة، والجمع صدقات، وإن شئت فتحت، وإن شئت أسكنت.

2. النّحلة بكسر النون؛ وضمها؛ لغتان، وأصلها: العطاء، نحلت فلانا: أعطيته، وعلى هذا فهي منصوبة على المصدرية، لأن الإيتاء بمعنى الإعطاء؛ وقيل: النحلة: التدين، فمعنى: نحلة: تدينا، قاله الزجاج، وعلى هذا فهي منصوبة على المفعول له، وقال قتادة: النحلة: الفريضة، وعلى هذا فهي منصوبة على الحال؛ وقيل: النحلة: طيبة النفس، قال أبو عبيد: ولا تكون النحلة إلّا عن طيبة نفس.

3. معنى الآية ـ على كون الخطاب للأزواج ـ: أعطوا النساء اللاتي نكحتموهنّ مهورهنّ التي لهن عليكم عطية، أو ديانة منكم، أو فريضة عليكم، أو طيبة من أنفسكم، ومعناها ـ على كون الخطاب للأولياء ـ: أعطوا النساء ـ من قراباتكم التي قبضتم مهورهنّ من أزواجهنّ ـ تلك المهور، وقد كان الولي يأخذ مهر قريبته في الجاهلية ولا يعطيها شيئا، حكى ذلك عن أبي صالح والكلبي، والأوّل أولى، لأن الضمائر من أوّل السياق للأزواج.

4. في الآية دليل: على أن الصداق واجب على الأزواج للنساء، وهو مجمع عليه كما قال القرطبي، قال وأجمع العلماء أنه لا حدّ لكثيرة، واختلفوا في قليله.

5. ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ الضمير في: منه، راجع إلى الصداق الذي هو واحد الصدقات، أو إلى المذكور، وهو الصدقات، أو هو بمنزلة اسم الإشارة، كأنه قال من ذلك، ونفسا: تمييز، وقال أصحاب سيبويه: منصوب بإضمار فعل، لا تمييز، أي: أعني نفسا، والأوّل أولى، وبه قال الجمهور، والمعنى: فإن طبن، أي: النساء لكم أيها الأزواج أو الأولياء عن شيء من المهر ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾

6. في قوله تعالى: ﴿طِبْنَ﴾ دليل: على أن المعتبر في تحليل ذلك منهن لهم إنما هو طيبة النفس، لا مجرد ما يصدر منها من الألفاظ التي لا يتحقق معها طيبة النفس، فإذا ظهر منها ما يدل على عدم طيبة نفسها لم يحلّ للزوج ولا للوليّ، وإن كانت قد تلفظت بالهبة أو النذر أو نحوهما، وما أقوى دلالة هذه الآية على عدم اعتبار ما يصدر من النساء من الألفاظ المفيدة للتمليك بمجردها، لنقصان عقولهنّ، وضعف إدراكهنّ، وسرعة انخذاعهن، وانجذابهنّ إلى ما يراد منهن بأيسر ترغيب أو ترهيب.

7. ﴿هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ منصوبان على أنهما صفتان لمصدر محذوف، أي: أكلا هنيئا مريئا، أو قائمان مقام المصدر، أو على الحال، يقال: هناه الطعام والشراب، يهنئه، ومرأه، وأمرأه، من الهني‏ء والمري‏ء، والفعل: هنأ ومرأ، أي: أتى من غير مشقة ولا غيظ؛ وقيل: هو الطيب الذي لا تنغيص فيه؛ وقيل: المحمود العاقبة، الطيب الهضم؛ وقيل: ما لا إثم فيه، والمقصود هنا: أنه حلال لهم خالص عن الشوائب، وخص الأكل لأنه معظم ما يراد بالمال وإن كان سائر الانتفاعات به جائزة كالأكل.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/486.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَءَاتُواْ﴾ أي: أيُّها الأزواج ﴿النِّسَآءَ﴾ أزواجكم ﴿صَدُقَاتِهِنَّ﴾ مهورهنَّ ﴿نِحْلةً﴾ أي: إيتاء بطيب نفس، بلا تعرُّض لعوض، أو حال كونكم نحلة، أي: ذوي نحلة، أو حال كون صدقاتهنَّ نحلة من الله لهنَّ، بِأَنْ فَرضَها، أو نحلة: ديانة، أي: دائنين بها، أو لأجل الديانة، قال عقبة بن عامر: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (إنَّ أحقَّ الشُّروطِ أَنْ يُوفَّى مَا استَحْلَلتُم به الفروج)، وعن صهيب: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (مَن أَصدَقَ امرَأةً صَدَاقًا وهو مُجْمِع ـ أَي عَازم ـ عَلى أن لا يُوافِيهَا إيَّاه ثمَّ مات ولم يُعْطِها إيَّاهُ لقي الله تعالى زَانيًا)، وقيل: الخطاب للأولياء، كان الأولياء لا يعطون النساء شيئًا من مهورهنَّ، وهو ضعيف، ولو شهر [أنَّه] فعل الجاهليَّة، لأَنَّ الكلام جرى في الأزواج لا في الأولياء، وجريانه أقوى من تلك الشهرة، وجاء منها أنَّه إذا ولد الرجل بنتا قيل له: هنيئًا لك النافجة، أي: المكثرة لمالِك بأخذك صداقها.

2. كان بعض الصحابة يتحرَّجون عن أن يقبلوا ما تطيب به نفوس أزواجهم فنزل: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا﴾ تمييز عن الفاعل، أي: طابت أنفسهنَّ عن شيء مِمَّا ذكر من الصدقات، أو ذلك المذكور من الصدقات، كما قال رؤبة:

çفيها خطوط من سواد وبلق...كأنَّه في الجلد تَولِيعُ البَهَقé

قيل له: إن أردت كأنَّ الخطوط، فلم لم تقل كأنَّها؟ وإن أردت السواد والبلق فلم لم تقل كأنَّهما؟ فقال: أردت كأنَّ ذلك، ويحك! أو عن شيء من الصداق، بـ (ال) الجنسيَّة، الصادق على ما صدق عليه صدقات، كما يراد بالجمع المقرون بـ (ال)، أو المضاف الحقيقةُ الصادقةُ بالفرد، يراد بالمفرد الجمع إذا قرن بـ (ال)، أو أضيف، أو عن شيء من الإيتاء المدلول عليه بِـ (ءَاتُواْ)، وكما يجوز أن تطيب نفسها عن بعض الصداق فيحلُّ له كذلك، يجوز أن تطيب عنه كلّه.

3. ﴿فَكُلُوهُ﴾ خذوه وتصرَّفوا فيه بما شئتم ﴿هَنِيئًا مَّرِيئًا﴾ أكلاً هنيئًا مريئًا أو اِهنَؤُوا به هنيئًا وامرَؤُوا به مريئًا، كسقيا لزيد، أو حال كونه هنيئًا مريئًا، وذلك تشبيه بما لم يتكدَّر من الطعام بسوء والْتُذَّ به، ومرأ في البطن: لاق به وهُضِم وحُمِدت عاقبته.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/113.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَآتُوا﴾ أي أعطوا ﴿النِّسَاءَ﴾ أي اللاتي أمر بنكاحهن‏ ﴿صَدُقَاتِهِنَّ﴾ أي مهورهن (جمع صدقة كسمرة) وهي المهر ﴿نِحْلَةً﴾ أي عطاء غير مستردّ بحيلة تلجئهن إلى الرد، والنحلة (بكسر النون وضمها، على ما رواه ابن دريد) اسم مصدر لـ (نحل)، والمصدر النحل (بالضم) وهو العطاء بلا عوض، والتعبير عن إيتاء المهور بالنحلة، مع كونها واجبة على الأزواج، لإفادة معنى الإيتاء عن كمال الرضا وطيب الخاطر.

2. هذا الخطاب إما للأزواج، كما روي عن علقمة والنخعيّ وقتادة، واختاره الزجاج، فإن ما قبله خطاب للناكحين وهم الأزواج، وإما لأولياء النساء، وذلك لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئا، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئا لك النافجة، ومعناه إنك تأخذ مهرها إبلا فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك أي تعظمه، وقال ابن الأعرابيّ: النافجة ما يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته، فنهى الله تعالى عن ذلك وأمر بدفع الحق إلى أهله، وهذا قول الكلبيّ وأبي صالح، واختيار الفراء وابن قتيبة.

3. قال القفال: يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة، ويحتمل أن يكون المراد الالتزام، قال تعالى: ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ﴾ [التوبة: 29]، والمعنى حتى يضمنوها ويلتزموها، فعلى هذا الوجه الأول، كان المراد أنهم أمروا بدفع المهور التي قد سموها لهن، وعلى التقدير الثاني كان المراد أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلزم، سواء سمي ذلك أو لم يسم، إلا ما خص به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في الموهوبة، ثم قال: ويجوز أن يكون الكلام جامعا للوجهين معا.

4. ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾ الضمير للصدقات، وتذكيره لإجرائه مجرى ذلك، أي فإن أحللن لكم من المهر شيئا بطيبة النفس، جلبا لمودتكم، لا لحياء عرض لهن منكم أو من غيركم، ولا لاضطرارهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم.

5. ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ أي فخذوه وتصرفوا فيه تملكا، وتخصيص الأكل بالذكر لأنه معظم وجوه التصرفات المالية، وهنيئا مريئا: صفتان من (هنؤ الطعام ومرؤ) إذا كان سائغا لا تنغيص فيه، وقيل: الهني‏ء ما أتاك بلا مشقة ولا تبعة، والمري‏ء حميد المغبة، وهما عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة، لأنهن كالرجال في التصرفات والتبرعات.

6. قال بعض المفسرين: للآية ثمرات:

أ. منها أنه لا بد في النكاح من صداق.

ب. ومنها أنه حق واجب للمرأة كسائر الديون.

ج. ومنها أن لها أن تتصرف فيه بما شاءت.

7. لم تفصل الآية بين أن تقبضه أم لا، ولذا قال بعض الفقهاء: لها بيع مهرها قبل قبضه، ولبعضهم: لا تبيعه حتى تقبضه، كالملك بالشراء، ومنها أنه يسقط عن الزوج بإسقاطها مع طيب نفسها، وقد رأى شريح إقالتها إذا رجعت، واحتج بالآية، روى الشعبيّ أن امرأة جاءت مع زوجها شريحا في عطية أعطتها إياه، وهي تطلب الرجوع، فقال شريح: رد عليها، فقال الرجل أليس قد قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ﴾؟ فقال: لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه، وروي عنه أيضا أقيلها فيما وهبت ولا أقيله، لأنهن يخدعن، وعن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى قضاته: أن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها، نقله الرازيّ.. ما رآه شريح وروي عن عمر، هو الفقه الصحيح والاستنباط البديع، إذ الآية دلت على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط، حيث بني الشرط على طيب النفس، ولم يقل: فإن وهبن لكم، إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيّبة، وبرجوعها يظهر عدم طيب نفسها، وذلك بيّن.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/27.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا حكم آخر من أحكام النساء يرجح كون هذه الآية نزلت فيهن لا أن حكم تعددهن في الزوجية جاء عرضا وتبعا لأحكام اليتامى منهن، أي وأعطوا النساء اللواتي تعقدون عليهن مهورهن نحلة، أي عطاء نحلة، أي فريضة لازمة عليكم، وهو المروي عن قتادة، وقال ابن جريح: فريضة مسماة، وقيل: ديانة من النحلة بمعنى الملة، وروى ابن جرير عن ابن عباس أن النحلة: المهر. وتقدم في تفسير المفردات أن النحلة تطلق على ما ينحله الإنسان ويعطيه هبة عن طيب نفس بدون مقابلة عوض، وهو الذي اختاره محمد عبده هنا.

2. قال: الصدقات: جمع صدقة بضم الدال، وفيه لغات، منها الصداق: وهو ما يعطى للمرأة قبل الدخول عن طيب نفس، وينبغي أن يلاحظ في هذا العطاء معنى أعلى من المعنى الذي لاحظه الذين يسمون أنفسهم الفقهاء من أن الصداق والمهر بمعنى العوض عن البضع، والثمن له، كلا إن الصلة بين الزوجين أعلى، وأشرف من الصلة بين الرجل وفرسه، أو جاريته، ولذلك قال: نحلة فالذي ينبغي أن يلاحظ هو أن هذا العطاء آية من آيات المحبة، وصلة القربى، وتوثيق عرى المودة، والرحمة، وأنه واجب حتم لا تخيير فيه كما يتخير المشتري، والمستأجر، وترى عرف الناس جاريا على عدم الاكتفاء بهذا العطاء بل يشفعه الزوج بالهدايا والتحف.

3. الخطاب على هذا الوجه من معنى الجملة للأزواج، وفيها وجه آخر، وهو أن الخطاب للأولياء الذين يزوجون النساء اليتامى، وغير اليتامى، ويأمرهم الله تعالى أن يعطوهن ما يأخذونه من مهورهن من أزواجهن بالنيابة عنهن، وكان ولي المرأة في الجاهلية يزوجها ويأخذ صداقها لنفسه دونها، ومنهم من كان يعطي الرجل أخته على أن يعطيه أخته فلا يصيب الأختين شيء من المهر، ولا مانع من جعل الخطاب للمسلمين جملة، فالزوج يأخذ منه أنه مأمور بأداء المهر وأنه لا هوادة فيه، والولي يأخذ منه أنه ليس له أن يزوج موليته بغير مهر لمنفعة له، ولا أن يأكل من المهر شيئا إذا هو قبضه من الزوج باسمها إلا أن تسمح هي لأحد بشيء برضاها، واختيارها، قال عز وجل: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ أي إن طابت نفوسهن بإعطائكم شيئا من الصداق ولو كله بناء على أن (من) في قوله: (منه) للبيان، وقيل: هي للتبعيض، ولا يجوز هبته كله، ولا أخذه إن هي وهبته، وإليه ذهب الإمام الليث، فأعطينه من غير إكراه، ولا إلجاء بسوء العشرة، ولا إخجال بالخلابة والخدعة. وقال ابن عباس: من غير ضرار ولا خديعة.

4. فكلوه أكلا هنيئا مريئا، أو حال كونه هنيئا مريئا، من هنوء الطعام ومروئه إذا كان سائغا لا غصص فيه، ولا تنغيص. وقال بعضهم: الهنيء ما يستلذه الآكل، والمريء ما تجمل عاقبته كأن يسهل هضمه، وتحسن تغذيته، والمراد بالأكل مطلق التصرف، وبكونه هنيئا مريئا لا تبعة فيه، ولا عقاب عليه.

5. قال محمد عبده: لا يجوز للرجل أن يأكل شيئا من مال امرأته إلا إذا علم أن نفسها طيبة به، فإذا طلب منها شيئا فحملها الخجل أو الخوف على إعطائه ما طلب فلا يحل له. وعلامات الرضا، وطيب النفس لا تخفى على أحد، وإن كان اللابسون لباس الصالحين المتحلون بعقود السبح الذين يحركون شفاههم ويلوكون ألسنتهم بما يسمونه ذكرا يستحلون أكل أموال نسائهم إذا أعطينها، أو أجزن أخذها بالترهيب، أو الخداع، أو الخجل، ويقولون: إنهن أعطيننا، ولنا الظاهر والله يتولى السرائر. وقد قال ـ تعالى ـ في الآية الآتية: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [4: 20] فإذا شدد هذا التشديد في طور المفارقة فكيف يكون الحكم في طور الاجتماع والمعاشرة؟ يعني أن طور المفارقة هو طور مغاضبة، ففي الطبع داعية للمشاحة فيه، وأما طور عقد المصاهرة فهو طور الرغبة، والتحبب، وإظهار الزوج أهليته لما يجب عليه من كفالة المرأة، والنفقة عليها، ولكن غلب حب الدرهم، والدينار في هذا الزمان على كل شيء حتى على العواطف الطبيعية، وحب الشرف والكرامة، فصار كل من الزوجين وأقوامهما يماكسون في المهر كما يماكسون في سلع التجارة وإلى الله المشتكى، أما قولهم: لنا الظاهر والله يتولى السرائر فهو لا يصدق على مثل الحال المذكورة لأن باطن المرأة فيها معلوم غير مجهول، فيدعي الأخذ بما ظهر منها، والله ـ تعالى ـ لم يقل (فإن أعطينكم) حتى يقال حصل العطاء الذي ورد به النص، وإنما ناط الحل بطيب نفوسهن عنه، فلو لم يكن طيب النفس مما يمكن العلم به لما ناط ـ سبحانه ـ الحكم به، فيقال لهؤلاء المحرفين: إذا كنتم تعلمون أن شرط جواز أكل ما تعطيه المرأة هو أن يكون عن طيب نفس منها، وتعلمون أنها إنما أعطت ما أعطت كارهة أو مكرهة لما اتخذتموه من الوسائل، فكيف تخادعون ربكم وتكابرون أنفسكم؟

__________

(1) تفسير المنار: ‏4/376.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ الخطاب للأزواج أي وأعطوا النساء اللواتى تعقدون عليهن المهور عطاء هبة يكون رمزا للمودة التي ينبغي أن تكون بينكما، وآية من آيات المحبة، ودليلا على وثيق الصلة والرابطة التي تجب أن تكنفكما وتحيط بسماء المنزل الذي تحلان فيه، وقد جرى عرف الناس بعدم الاكتفاء بهذا العطاء فتراهم يردفونه بأصناف الهدايا والتحف من مآكل وملابس ومصوغات إلى نحو ذلك، مما يعبر عن حسن تقدير الرجل للمرأة التي يريد أن يجعلها شريكته في الحياة.

2. ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ أي فإن طابت نفوسهن باعطائكم شيئا من الصداق من غير ضرار ولا خديعة فكلوه هنيئا مريئا ولا ذنب عليكم ولا إثم في أخذه، ومن ثم لا يجوز للرجل أن يأكل شيئا من مال امرأته إلا إذا علم أن نفسها طيبة به فاذا طلب منها شيئا وحملها الخوف أو الخجل على إعطاء ما طلب فلا يحل له، ألا ترى أنّ الله تعالى نهى عن أخذ شيء من المرأة في طور المفارقة فقال: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ فالتحذير من أخذه في طور الرغبة والتحبب وإظهار القدرة على ما يجب عليه من أعباء الزوجية من كفالة المرأة والإنفاق عليها يكون أشد وآكد، ولكن حب المل جعل الرجال يماكسون في المهر كما يماكسون في سلع التجارة، وصار حبهم للمحافظة على الشرف والكرامة دون حبهم للدرهم والدينار.

__________

(1) تفسير المراغى: 4/185.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يستطرد السياق في تقرير حقوق النساء ـ وقد أفرد لهن صدر هذه السورة وسماها باسمهن ـ قبل أن يستكمل‏ الكلام عن رعاية اليتامى التي بدأ فيها: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾

2. هذه الآية تنشئ للمرأة حقا صريحا، وحقا شخصيا، في صداقها، وتنبئ بما كان واقعا في المجتمع الجاهلي من هضم هذا الحق في صور شتى، واحدة منها كانت في قبض الولي لهذا الصداق وأخذه لنفسه؛ وكأنما هي صفقة بيع هو صاحبها! وواحدة منها كانت في زواج الشغار، وهو أن يزوج الولي المرأة التي في ولايته، في مقابل أن يزوجه من يأخذها امرأة هي في ولاية هذا الآخر، واحدة بواحدة، صفقة بين الوليين لا حظ فيها للمرأتين، كما تبدل بهيمة ببهيمة! فحرم الإسلام هذا الزواج كلية؛ وجعل الزواج التقاء نفسين عن رغبة واختيار، والصداق حقا للمرأة تأخذه لنفسها ولا يأخذه الولي! وحتم تسمية هذا الصداق وتحديده، لتقبضه المرأة فريضة لها، وواجبا لا تخلف فيه، وأوجب أن يؤديه الزوج (نحلة) ـ أي هبة خالصة لصاحبتها ـ وأن يؤديه عن طيب نفس، وارتياح خاطر، كما يؤدي الهبة والمنحة، فإذا طابت نفس الزوجة بعد ذلك لزوجها عن شيء من صداقها ـ كله أو بعضه ـ فهي صاحبة الشأن في هذا؛ تفعله عن طيب نفس، وراحة خاطر؛ والزوج في حل من أخذ ما طابت نفس الزوجة عنه، وأكله حلالا طيبا هنيئا مريئا، فالعلاقات بين الزوجين ينبغي أن تقوم على الرضى الكامل، والاختيار المطلق، والسماحة النابعة من القلب، والود الذي لا يبقى معه حرج من هنا أو من هناك.

3. بهذا الإجراء استبعد الإسلام ذلك الراسب من رواسب الجاهلية في شأن المرأة وصداقها، وحقها في نفسها وفي مالها، وكرامتها ومنزلتها، وفي الوقت ذاته لم يجفف ما بين المرأة ورجلها من صلات، ولم يقمها على مجرد الصرامة في القانون؛ بل ترك للسماحة والتراضي والمودة أن تأخذ مجراها في هذه الحياة المشتركة، وأن تبلل بنداوتها جو هذه الحياة.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/586.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الصّدقات: جمع صدقة، وهى المهر.. لأنها من مادة الصّدق الذي يلزم به المرء نفسه، وينطق به عن اطمئنان ورضى.. والمهر يقدمه الرجل‏ للمرأة عن رضى وطيب نفس.. ومنها الصّدقة التي يبذلها الإنسان في مجال الإحسان من غير إلزام، والصدقة بضمّ الدال، والصّدقة بفتحها، وفي استعمال الأولى في المهر، والثانية في التصدّق إعجاز من إعجاز القرآن! فالصدقة ـ بالضم ـ أثقل نطقا من الصّدقة بالفتح، وكذلك هما على هذا الشأن، في مجال التطبيق العملي لهما، فالمهر ثقيل في قدره، ومادته، قد يتكلف له المرء كثيرا من الجهد حتى يحصل عليه، وقد يقتطع له قدرا كبيرا من ماله، الذي هو بعض نفسه.. ومن هنا كان ثقله على النفس، ثم كان ثقله على اللسان! وليس كذلك الصّدقة، فإن محملها خفيف، يؤديها الإنسان عن سعة، ويجود بها من فضل ماله، فلا يكاد يحسّ بها.. ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾.. فقد تكون الصدقة بشقّ تمرة، كما في الحديث الشريف: (تصدّقوا ولو بشقّ تمرة) وقد تكون بالكلمة الطيبة، كما في الحديث أيضا: (الكلمة الطيبة صدقة)، والجامعة بين الصدقة (المهر) والصّدقة (الإحسان) أن كلّا منهما من باب البرّ والخير، وأنهما من موارد مرضاة الله ورضا الناس.

2. ﴿نِحْلَةً﴾ أي فرضا وشريعة، ولأن للرجال على النساء درجة، فقد أوجب الله على الرجال أن يقدّموا بين يدى المرأة عند طلب الزواج منها مهرا، تهيئ به نفسها، وتصلح به من شأنها قبل أن تجتمع إليه، وفي هذا ما يشعرها بمكانة الرجل منها، وأنه هو الذي سيحمل الجانب المادىّ عنها، في السعى للرزق والنفقة، وهذا ما يشير إليه‏ قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾

3. المهر حقّ للزوجة، يجب أن يؤديه الرجل إليها، فإن هو صار إلى يدها ثم طابت له نفسها عن شيء منه، فذلك فضل منها، وليس على الرجل من بأس في أن يقبله، ويتصرف فيه كما يتصرف فيما يملك.

4. أقل المهر أيّ مال يدخل الفرحة على المرأة وقد يجزى عن المال العمل، كما زوّج شعيب ابنته من موسى، بالخدمة عنده سنوات معدودات، ولا حدّ لأكثره، حسب يسار الرجل وقدرته.. إنه باب من أبواب الإحسان، ومسلك من مسالك الخير، وليس ثمة حرج في أن يبلغ المهر من الكثرة ما يبلغ، ما دام له في مال الرجل سعة، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾

5. المكروه في المهر أن يكون عن مماكسة ومساومة بين الرجل، وزوجه، أو بينه وبين أهلها أو يكون فيه إرهاق للرجل بما لا يحتمله ماله، ولا يتسع له كسبه، ذلك أن (المهر) ليس إلا مدخلا إلى علاقة إنسانية، وطريقا إلى رابطة نفسية، ومن أجل هذا يجب أن يكون النظر إليه من وراء هذه العلاقة وتلك الرابطة،! وفيما قصّ الله سبحانه وتعالى من تلك الصورة الكريمة التي زوّج بها نبيّ الله (شعيب) نبيّ الله (موسى) ابنتهـ في هذا ما يكشف عن أدب عال، وحكمة رائعة، ينبغي أن تكون فيها الأسوة في هذا المقام.. يقول الله تعالى على لسان (شعيب) مخاطبا (موسى): ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ ويجيبه موسى بقوله: ﴿ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ وهكذا يقضى الأمر بينهما.. فلا مساومة ولا مماكسة!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/698.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ جانبان مستضعفان في الجاهلية: اليتيم، والمرأة، وحقّان مغبون فيهما أصحابهما: مال الأيتام، ومال النساء، فلذلك حرسهما القرآن أشدّ الحراسة فابتدأ بالوصاية بحق مال اليتيم، وثنّى بالوصاية بحقّ المرأة في مال ينجرّ إليها لا محالة، وكان توسّط حكم النكاح بين الوصايتين أحسن مناسبة تهيّئ لعطف هذا الكلام.

2. ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ﴾ عطف على قوله: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 2] والقول في معنى الإيتاء فيه سواء، وزاده اتّصالا بالكلام السابق أنّ ما قبله جرى على وجوب القسط في يتامى النساء، فكان ذلك مناسبة الانتقال، والمخاطب بالأمر في أمثال هذا كلّ من له نصيب في العمل بذلك:

أ. فهو خطاب لعموم الأمّة على معنى تناوله لكلّ من له فيه يد من الأزواج الأولياء ثم ولاة الأمور الذين إليهم المرجع في الضرب على أيدي ظلمة الحقوق أربابها.

ب. والمقصود بالخطاب ابتداء هم الأزواج، لكيلا يتذرّعوا بحياء النساء وضعفهنّ وطلبهنّ مرضاتهم إلى غمص حقوقهنّ في أكل مهورهنّ، أو يجعلوا حاجتهنّ للتزوّج لأجل إيجاد كافل لهنّ ذريعة لإسقاط المهر في النكاح، فهذا ما يمكن في أكل مهورهنّ، وإلّا فلهنّ أولياء يطالبون الأزواج بتعيين المهور، ولكن دون الوصول إلى ولاة الأمور متاعب وكلف قد يملّها صاحب بالحقّ فيترك طلبه، وخاصّة النساء ذوات الأزواج، وإلى كون الخطاب للأزواج ذهب ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وابن جريج، فالآية على هذا قرّرت دفع المهور وجعلته شرعا، فصار المهر ركنا من أركان النكاح في الإسلام، وقد تقرّر في عدّة آيات كقوله: ﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ وغير ذلك [النساء: 24]، والمهر علامة معروفة للتفرقة بين النكاح وبين المخادنة، لكنّهم في الجاهلية كان الزوج يعطي مالا لولي المرأة ويسمّونه حلوانا ـ بضم الحاء ـ ولا تأخذ المرأة شيئا، فأبطل الله ذلك في الإسلام بأن جعل المال للمرأة بقوله: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ﴾

ج. وقال جماعة: الخطاب للأولياء، ونقل ذلك عن أبي صالح قال: لأنّ عادة بعض العرب أن يأكل وليّ المرأة مهرها فرفع الله ذلك بالإسلام، وعن الحضرمي: خاطبت الآية المتشاغرين الذين كانوا يتزوّجون امرأة بأخرى، ولعلّ هذا أخذ بدلالة الإشارة وليس صريح اللفظ، وكل ذلك ممّا يحتمله عموم النساء وعموم الصدقات.

3. الصدقات جمع صدقة ـ بضمّ الدال ـ والصدقة: مهر المرأة، مشتقّة من الصدق لأنّها عطية يسبقها الوعد بها فيصدقه المعطي.

4. النّحلة ـ بكسر النون ـ العطيّة بلا قصد عوض، ويقال: نحل ـ بضم فسكون ـ وانتصب نحلة على الحال من (صدقاتهنّ)، وإنّما صحّ مجيء الحال مفردة وصاحبها جمع لأنّ المراد بهذا المفرد الجنس الصالح للأفراد كلّها، ويجوز أن يكون نحلة منصوبا على المصدرية لآتوا لبيان النوع من الإيتاء أي إعطاء كرامة.

5. سمّيت الصدقات نحلة إبعادا للصدقات عن أنواع الأعواض، وتقريبا بها إلى الهدية، إذ ليس الصداق عوضا عن منافع المرأة عند التحقيق، فإنّ النكاح عقد بين الرجل والمرأة قصد منه المعاشرة، وإيجاد آصرة عظيمة، وتبادل حقوق بين الزوجين، وتلك أغلى من أن يكون لها عوض مالي، ولو جعل لكان عوضها جزيلا ومتجدّدا بتجدّد المنافع، وامتداد أزمانها، شأن الأعواض كلّها، ولكنّ الله جعله هدية واجبة على الأزواج إكراما لزوجاتهم.

6. إنّما أوجبه الله لأنّه تقرّر أنّه الفارق بين النكاح وبين المخادنة والسفاح، إذ كان أصل النكاح في البشر اختصاص الرجل بامرأة تكون له دون غيره، فكان هذا الاختصاص ينال بالقوّة، ثمّ اعتاض الناس عن القوّة بذل الأثمان لأولياء النساء ببيعهم بناتهم ومولياتهم، ثمّ ارتقى التشريع وكمل عقد النكاح، وصارت المرأة حليلة الرجل شريكته في شؤونه وبقيت الصدقات أمارات على ذلك الاختصاص القديم تميّز عقد النكاح عن بقية أنواع المعاشرة المذمومة شرعا وعادة، وكانت المعاشرة على غير وجه النكاح خالية عن بذل المال للأولياء إذ كانت تنشأ عن الحبّ أو الشهوة من الرجل للمرأة على انفراد وخفية من أهلها، فمن ذلك الزنى الموقّت، ومنه المخادنة، فهي زنا مستمرّ، وأشار إليها القرآن في قوله: ﴿مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾ [النساء: 25] ودون ذلك البغاء وهو الزنا بالإماء بأجور معيّنة، وهو الذي ذكر الله النهي عنه بقوله: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [النور: 33] وهنالك معاشرات أخرى، مثل الضماد وهو أن تتّخذ ذات الزوج رجلا خليلا لها في سنة القحط لينفق عليها مع نفقة زوجها، فلأجل ذلك سمّى الله الصداق نحلة، فأبعد الذين فسّروها بلازم معناها فجعلوها كناية عن طيب نفس الأزواج والأولياء بإيتاء الصدقات، والذين فسروها بأنّها عطية من الله للنساء فرضها لهنّ، والذين فسّروها بمعنى الشرع الذي ينتحل أي يتّبع.

7. ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾ الآية أي فإن طابت أنفسهنّ لكم بشيء منه أي المذكور، وأفرد ضمير (منه) لتأويله بالمذكور حملا على اسم الإشارة كما قال رؤبة:

çفيها خطوط من سواد وبلق‏...كأنّه في الجلد توليع البهق‏é

فقال له أبو عبيدة: إمّا أن تقول: كأنّها إن أردت الخطوط، وإما أن تقول: كأنّهما إن أردت السواد والبلق فقال: أردت كأنّ ذلك، ويلك! أي أجرى الضمير كما يجرى اسم الإشارة، وقد تقدّم عند قوله تعالى: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ في سورة البقرة [68]، وسيأتي الكلام على ضمير ﴿مِثْلِهِ﴾ عند قوله تعالى: ﴿وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ﴾ في سورة العقود [36]

8. جي‏ء بلفظ ﴿نَفْسًا﴾ مفردا مع أنّه تمييز نسبة ﴿طِبْنَ﴾ إلى ضمير جماعة النساء لأنّ التمييز اسم جنس نكرة يستوي فيه المفرد والجمع، وأسند الطيب إلى ذوات النساء ابتداء ثم جي‏ء بالتمييز للدلالة على قوّة هذا الطيب على ما هو مقرّر في علم المعاني: من الفرق بين واشتعل الرأس شيبا وبين اشتعل شيب رأسي، ليعلم أنه طيب نفس لا يشوبه شيء من الضغط والإلجاء.

9. حقيقة فعل‏ ﴿طَابَ﴾ اتّصاف الشيء بالملاءمة للنفس، وأصله طيب الرائحة لحسن مشمومها، وطيب الريح موافقتها للسائر في البحر: ﴿وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ [يونس: 22]، ومنه أيضا ما ترضى به النفس كما تقدّم في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ [البقرة: 168] ثم استعير لما يزكو بين جنسه كقوله: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ [النساء: 2] ومنه فعل‏ ﴿طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾ هنا أي رضين‏ بإعطائه دون حرج ولا عسف، فهو استعارة.

10. ﴿فَكُلُوهُ﴾ استعمل الأكل هنا في معنى الانتفاع الذي لا رجوع فيه لصاحب الشيء المنتفع به، أي في معنى تمام التملّك، وأصل الأكل في كلامهم يستعار للاستيلاء على مال الغير استيلاء لا رجوع فيه، لأنّ الأكل أشدّ أنواع الانتفاع حائلا بين الشيء وبين رجوعه إلى مستحقّه، ولكنّه أطلق هنا على الانتفاع لأجل المشاكلة مع قوله السابق: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: 2] فتلك محسّن الاستعارة.

11. ﴿هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ حالان من الضمير المنصوب وهما صفتان مشبّهتان من هنا وهنئ ـ بفتح النون وكسرها ـ بمعنى ساغ ولم يعقب نغصا، والمري‏ء من مرو الطعام ـ مثلث الراء ـ بمعنى هني‏ء، فهو تأكيد يشبه الاتباع، وقيل: الهني‏ء الذي يلذّه الآكل والمري‏ء ما تحمد عاقبته، وهذان الوصفان يجوز كونهما ترشيحا لاستعارة ﴿فَكُلُوهُ﴾ بمعنى خذوه أخذ ملك، ويجوز كونهما مستعملين في انتفاء التبعة عن الأزواج في أخذ ما طابت لهم به نفوس أزواجهم، أي حلالا مباحا، أو حلالا لا غرم فيه.

12. إنّما قال: ﴿عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ﴾ فجي‏ء بحرف التبعيض إشارة إلى أن الشأن أنّ لا يعرى العقد عن الصداق، فلا تسقطه كلّه إلّا؛ أنّ الفقهاء لمّا تأوّلوا ظاهر الآية من التبعيض، وجعلوا هبة جميع الصداق كهبته كلّه أخذا بأصل العطايا، لأنّها لمّا قبضته فقد تقرّر ملكها إيّاه، ولم يأخذ علماء المالكية في هذا بالتهمة لأنّ مبنى النكاح على المكارمة، وإلّا فإنّهم قالوا في مسائل البيع: إنّ الخارج من اليد ثم الراجع إليها يعتبر كأنّه لم يخرج، وهذا عندنا في المالكات أمر أنفسهنّ دون المحجورات تخصيصا للآية بغيرها من أدلّة الحجر فإنّ الصغيرات غير داخلات هنا بالإجماع، فدخل التخصيص للآية، وقال جمهور الفقهاء: ذلك للثيّب والبكر، تمسّكا بالعموم، وهو ضعيف في حمل الأدلّة بعضها على بعض.

13. اختلف الفقهاء في رجوع المرأة في هبتها بعض صداقها: فقال الجمهور: لا رجوع لها، وقال شريح، وعبد الملك بن مروان: لها الرجوع، لأنّها لو طابت نفسها لما رجعت، ورووا أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى قضاته (إنّ النساء يعطين رغبة ورهبة فأيّما امرأة أعطته، ثمّ أرادت أن ترجع فذلك لها) وهذا يظهر إذا كان ما بين العطيّة وبين الرجوع قريبا، وحدث من معاملة الزوج بعد العطيّة خلاف ما يؤذن حسن المعاشرة السابق للعطيّة، وحكم هذه الآية ممّا أشار إليه قوله تعالى: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النساء: 1]

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/22.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ هذا الكلام في بيان العدالة مع النساء في المعاملة، فلا يصح أن يستهان بحقوقهن التي ينشئها الزواج، وأولها المهر، فالصدقة هنا هي المهر، وسمى صدقة لأن تقديمه يدل على صدق النية، والإخلاص في طلب الزوجة، فمن أخلص في طلب يد امرأة قدم لها ما يليق بمثلها تكريما لمعنى الزوجية، وتشريفا لتلك العلاقة، وقال تعالى: ﴿نِحْلَةً﴾ ومعناها عطاء بطيب نفس، وهى (فعلة) من نحله ينحله بمعنى أعطاه هبة صادق النية، وفسرها بعض العلماء بمعنى فريضة واجبة، وقد فسرها بذلك أبو عبيدة، وقال الزجاج في آتوهن صدقاتهن نحلة (تدينا) أي أن الدين أوجب ذلك، والخطاب لجماعة المؤمنين يوجب أداء المهور صادقى النية طيبى النفوس متدينين بهذا العطاء.

2. ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ الحياة الزوجية لا تقوم فقط على التكليف الواجب، بل تقوم على المودة الرابطة والتسامح، وقد يجهد الرجل المهر كله، فيقتضى حسن العشرة أن تترك بعض مهرها طيبة النفس، وليست المهور كسائر الديون، إنما هو دين فيه معنى الهدية، ولذلك فتح الشارع الباب لمثل هذه المعاني ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة] ومعنى طابت نفسها رضيت من غير تورط، ولا تغرير ولا ضغط ولا إرهاق، وطيبة النفس بالعطاء أرق من الرضا به؛ لأن الرضا قد يتصور مع التورط أما طيبة النفس فلا تتصور إلا بالسماح، بل من غير طلب بالتصريح أو بالإشارة، ومعنى هنيئا، أي لا ألم في أخذه، ومعنى مريئا حسن العاقبة، وأكل المال أخذه، فلا يراد بالأكل هنا حقيقته، بل يراد الأخذ الذي يؤدى إليه.

3. وقد كان يحدث أن بعض الناس يرهقون زوجاتهم ليتركوا بعض المهر أو كله، فكان الفقهاء حريصين على أن تتوافر الحرية كاملة في العطاء، ولذا كتب عمر إلى بعض قضاته: (إن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فلها ذلك)، وقال شريح في مثل هذه الحال: لو طابت نفسها ما رجعت، وكان الأوزاعى لا يجيز هبة المهر إلا بعد أن تنجب منه، أو تمضى سنة على زفافها ـ والنص يشير إلى أنه يحسن ألا تترك له كل المهر، ولذا قال تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ﴾ ومن للتبعيض أي عن بعضه، ويظهر أن هذا لتأكيد طيب نفسها، ويجوز الإبراء منه كله.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1588.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾، الصدقات المهور، والمراد بالنحلة هنا العطية التي فرضها الله على الزوج، والمعنى اعطوا النساء مهورهن، لأن الله سبحانه قد فرضها عليكم أيها الأزواج عطية منه للزوجات، لا عوضا عن الاستمتاع، لأنه مشترك بين الزوجين.

2. ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾، تملك الزوجة المهر، وتتسلط عليه تسلط المالك على أملاكه، ولا يجوز معارضتها فيه، زوجا كان أو أجنبيا، ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾، إلا إذا أذنت ورخصت، تماما كغيرها من الملاك.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/251.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ الصدقة بضم الدال وفتحها والصداق هو المهر، والنحلة هي العطية من غير مثامنة، وفي إضافة الصدقات إلى ضمير هن دلالة على أن الحكم بوجوب الإيتاء مبني على المتداول بين الناس في سنن الازدواج من تخصيص شيء من المال أو أي شيء له قيمة مهرا لهن كأنه يقابل به البضع مقابلة الثمن المبيع فإن المتداول بين الناس أن يكون الطالب الداعي للازدواج هو الرجل على ما سيأتي في البحث العلمي التالي، وهو الخطبة كما أن المشتري يذهب بالثمن إلى البائع ليأخذ سلعته، وكيف كان ففي الآية إمضاء هذه العادة الجارية عند الناس.

2. لعل إمكان توهم عدم جواز تصرف الزوج في المهر أصلا حتى برضا من الزوجة هو الموجب للإتيان بالشرط في قوله: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ مع ما في اشتراط الأكل بطيب النفس من تأكيد الجملة السابقة المشتملة على الحكم، والدلالة على أن الحكم وضعي لا تكليفي.

3. الهناء سهولة الهضم وقبول الطبع ويستعمل في الطعام، والمري من‏ الري‏ وهو في الشراب كالهني‏ء في الطعام غير أن الهناء يستعمل في الطعام والشراب معا، فإذا قيل: هنيئا مريئا اختص الهناء بالطعام والري بالشراب.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/170.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَآتُوا﴾ الزوجات مهورَهن حال كونها ﴿نِحْلَةً﴾ أو نُصِب على أنه مفعول مطلق على أن ﴿وَآتُوا﴾ بمعنى انحلوا، وفي (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام): (معناه: اعطوا، و﴿صَدُقَاتِهِنَّ﴾ مهورُهن و﴿نِحْلَةً﴾ عن طيب نفس)، وفي (مفردات الراغب): (والنَّحلة، والنِّحلة: عطية على سبيل التبرع) انتهى المراد، وفي (الصحاح): (والنُّحل ـ بالضم ـ: مصدر قولك: نحلته أنحله نحلاً، والنُّحلى: العطية على فُعْلَى، ونحلت المرأة مهرها عن طيب نفس من غير مطالبة، ويقال: من غير أن يأخذ عوضاً، يقال: أعطاها مهرها نِحْلةً ـ بالكسر ـ)، وفي (لسان العرب): (والنُّحل ـ بالضم ـ إعطاؤك الإنسانَ شيئاً بلا استعاضة، وعَمَّ به بعضُهم جميعَ أنواع العطاء) انتهى المراد، وقال: وفي الحديث: (ما نحل والد ولداً من نحل أفضل من أدبٍ حسنٍ) النُّحل: العطية والهبة ابتداء من غير عوض ولا استحقاق، وفي حديث أبي هريرة: (إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين كان مال الله نُحْلاً) أراد: يصير الفيء عطاءً من غير استحقاق على الإيثار والتخصيص.. وقولهم: من غير استحقاق أرادوا ليس أجرا على عمل إلا هذا القول الأخير، ولا يستقيم في المهر؛ لأنه مستحَق، وقد سماه الله أجراً في قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ وقولِه تعالى: ﴿أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ [الأحزاب: 50] فلا بُد من أن أحدهما مجاز إما نحلة وإما أجورهن، وسواءٌ كانت نحلة حقيقة أم مجازاً فقد أفاد وجوبها على الزوج لا في مقابل خدمتها له، وأن تكون بطيبة نفس لأنها حق من الله، وأن لا يحوجها إلى المطالبة كما هو شأن النحلة أن يكون الباعث عليها الرغبةَ.

2. ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ﴾ مما ءاتيتموهن ﴿نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا﴾ سائغاً لا تنغيص فيه و﴿مَرِيئًا﴾ مثله تأكيد، أو هو بمعنى: نافعاً مغذياً، بأن ينهضم بسهولة، وهو معنى قولهم: ما يحمد عاقبته، واستعمل الأكل في المهر مع أنه قد يكون فضة أو ذهباً أو حرثاً؛ لأن المراد أخذه والانتفاع به سواء كان مأكولاً أو غيره واستعمال الأكل فيه مجاز، و﴿هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ ترشيح.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/8.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآية يتابع القرآن حديثه عن العلاقة الزوجية، في خط العدل، في بعض الالتزامات المالية اللازمة للمرأة على الرجل، ليؤكد الحقيقة الإيمانية التي توجه الإنسان إلى اعتبار هذه العلاقة مسئولية شرعية قانونية، هدفها الحصول على رضا الله؛ لئلا يخيّل للرجل أن موقعه داخل هذه العلاقة يبرّر له التصرف دون تحمل المسؤولية، ليرجع إلى الإحساس بإنسانية العلاقة التي تجعل لأيّ من الطرفين حقا لا يملك الآخر أن يعتدي عليه، سواء كان الحق مالا أو غيره، فإذا تنازل عنه بطيب نفسه، كان للآخر أن يتصرف فيه بما يشاء.

2. عالجت هذه الآية موضوع المهر، فأعطته الصفة التي لا ترهق إنسانية الإنسان في المرآة، فلم تعتبرها ثمنا وعوضا ـ كما يخيل للبعض أن يراه كذلك ـ بل اعتبرته نحلة، وهي العطية التي يمنحها الإنسان للآخر من دون مقابل، لتكون رمزا للمحبة والمودة؛ ولهذا لم يجعل له الإسلام الدور الكبير في التقييم، خلافا للتقاليد الاجتماعية البالية التي تحاول أن تجعل كمية المهر مقياسا لقيمة المرأة، تبعا لما تتصف به من مركز اجتماعيّ، ولم يحاول التدخل في ذلك، بل ترك أمر الإنفاق عليه للزوجين بالاستناد إلى أوضاعهما المالية والاجتماعية والعاطفية، فيمكن أن يكون المهر قنطارا، كما عبرت بعض الآيات، ويمكن أن يكون سورة من القرآن، كما فعل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في تزويجه لبعض أصحابه الفقراء؛ ولكنه لم يترك القضية على إطلاقها، بل تدخّل في المسألة ليثير فيها الجانب الأخلاقي الذي يجد في كثرة المهر عملا لا يتناسب مع كرامة المرأة، وذلك كما ورد به‏ الحديث‏ المأثور: (شؤم المرأة كثرة مهرها)

3. ربما يربط بعضهم مسألة المهر بعدم الاستقلال الاقتصادي للمرأة، فإذا كانت مستقلة فلا يبقى للمهر معنى، ولكن هذه الملاحظة ليست دقيقة، لأن المهر في طبيعته المادية المتحركة، لا يمثل الثروة التي تحصل عليها المرأة لتأمين حياتها المستقبلية، لا سيما إذا كان الغالب فيه أن المرأة تستخدمه في شراء بعض حاجاتها في نطاق الحياة الزوجية في زينتها وأوضاعها الخاصة، ممّا يوحي بأنه مجرد رصيد ماليّ لتلبية حاجاتها التي ربما تدخل في ترتيب البيت الزوجي تماما، كما هو الحال في الهدايا التي يقدمها الزوج إليها قبل أو بعد الزواج كتدليل على محبته لها واهتمامه بحاجاتها، ممّا لا نجد هناك أيّ رفض له على مستوى القيمة السلبية، بل قد نجد مطالبة له بحيث إن امتناعه عنه أو لا مبالاته به يمثل نقصا في المحبة وإهمالا للعلاقة الزوجية.

4. إن الإسلام لم يزد على هذه الحال إلا أنه جعل الهدية ملزمة في عقد الزواج كما جعل للمرأة التي لا تريد المهر، في إيحاءاته النفسية والاجتماعية أن يكون ثمنا لها أو أجرة على استمتاع الزوج بها، الحرية في الاكتفاء بالمهر الرمزي، لأن المسألة تابعة لاختيارها، وقد لاحظنا في الحديث الشريف عن الشؤم في غلاء المهر أن الإسلام يشجّع على تقليل المهر لرفع العب‏ء عن الزوج من جهة ولإبقاء المهر في معناه الرمزي بدلا من المعنى الاجتماعي المتعارف.

5. هناك نقطة أخرى، وهي أن الآثار المترتبة على الزواج بالنسبة للمرأة كالأمومة ومتطلباتها، قد تفرض عليها البحث عن فرصة لتحقيق نوع من التأمين المادي عند ما تفقد إمكانات العمل أو تواجه التعقيدات فيها، كما نلاحظه في كثير من الحالات التي تختلف فيه أوضاع العمل للمرأة عن الرجل، باعتبار أن فرص العمل للرجل قد تكون أكثر من المرأة، لا سيّما إذا تقدمت بها السنّ، ولم تعد تملك المواصفات التي ترى فيها المجتمعات المنحرفة فرصة لاجتذاب الزبائن أو نحو ذلك، فقد جعل الإسلام لها الفرصة الاجتماعية لأن تطلب من زوجها أن يدفع لها تأمينا مستقبليا ـ وهو المهر المؤجل ـ ليتفاهما عليه، لتشعر بالثقة بالمستقبل في الحالات التي تفقد زوجها بالموت أو بالطلاق من دون أن يكون لها مورد اقتصاديّ ثابت أو متحرك في ظروفها الخاصة، مما يمكن أن يهيّئ لها المجال لتبدأ العمل من خلال رأس المال الذي تملكه لرعاية نفسها أو أولادها.

6. إنّ الاستقلال الاقتصادي لا ينفي الحاجة إلى تأمين المستقبل في الحالات الطارئة، وهذا ما نلاحظه في تشريع التأمين على الحياة في القوانين الحديثة على أساس الحاجات لتعزيز الشعور بالثقة في المستقبل الذي قد يحمل بعض التعقيدات المادية الصعبة.

7. لا بد من التوقف عند الملاحظة الحيوية، وهي أن المسألة بالنسبة إليها لا تمثل إلزاما بالمهر الكثير الذي قد يوحي بالمعنى السلبي في معنى إنسانيتها، بل هو خيار ذاتيّ لها، فيكون لها اختياره عند الشعور بالحاجة إليه في مستقبل أمرها، ويمكن لها إهماله أو رفضه إذا لم تجد حاجة إليه، تماما كأية حالة اجتماعية يملك فيها الإنسان ـ أيّ إنسان ـ الحصول من الآخرين على بعض الموارد المالية من خلال رغبتهم به أو حاجتهم في الأوضاع الطبيعية الإنسانية.

8. ربما علل البعض مسألة المهر بأن الطلاق بيد الرجل، فليس للمرأة ضمان في حياتها المشتركة، وهكذا منحت المرأة حقا بمطالبة الرجل بوثيقة مالية مضافا إلى ثقتها الشخصية، فإذا ألغينا حق الرجل بالطلاق وجعلناه خاضعا لإرادة مشتركة فقد المهر فلسفته الوجودية، ولكن هذا التعليل ليس واقعيا، لأن الملحوظ في المهر ـ غالبا ـ أن المرأة تستهلكه في بداية حياتها الزوجية لا في أثنائها من خلال حاجتها الطبيعية إلى الزينة إلى تأمين بعض شؤون بيتها، لذا فهو لا يمثل وثيقة مستقبلية، كما أنه لا يمنع الحاجة إليه بعد الطلاق حتى لو كان الطلاق بيد الزوجة أو بيدهما معا، وقد نجد من الضروري أن يتدخل العاملون للإسلام في الوقوف أمام التقاليد الجديدة التي تحاول رفع المهور كقيمة اجتماعية، في بعض البلدان، لأن ذلك يساهم في تأخير سن الزواج لدى بعض الفئات، التي لا تملك إمكانيات مالية كافية بالمستوى المطلوب، ليؤكدوا على العنصر الديني والأخلاقي الذي أكّد عليه‏ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديثه المشهور: (إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه وإن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير..) فهذا هو الخط الإسلامي في طبيعة العلاقة الزوجية، بعيدا عن كل عنصر ماليّ أو نسبيّ أو اجتماعيّ أو غير ذلك.

9. وقد جاءت الآية لتؤكد للرجل أن يؤتي المرأة صداقها ـ وهو مهرها ـ ولا يستغل مركزه القوي في الأسرة ليمنعها منه، لأن ذلك يمثل عدوانا على مال الآخرين بدون حق؛ فإنه‏ (لا يحلّ لمؤمن مال أخيه إلا من طيب نفس منه)، من دون فرق بين أن يكون استحقاقه لهذا المال ناتجا عن قرض أو معاملة بيع أو شراء، أو كان ناتجا عن التزام عقديّ كعقد الزّواج، فإذا طابت‏ نفس المرأة وبذلت مهرها لزوجها، انطلاقا من وضع عاطفي أو عائلي أو غير ذلك، فللرجل أن يأخذه هنيئا مريئا، لأنه يملك الأساس الشرعي والروحي الذي يبرر له ذلك.

10. ربما كان الأساس في تنبيه الآية إلى هذه النقطة، هو وجود بعض النماذج التي تمارس هذا النوع من الضغط على المرأة لتتنازل عن حقها، أو تعمل على إنكاره انطلاقا من بعض الفرص القانونية المتاحة، وقد ينطلق البعض في هذا الاتجاه لشعوره بفداحة المهر وكثرته، فيحاول التخلص منه ـ بعد الزواج ـ بالطرق غير الشرعية، الأمر الذي يدعونا إلى اعتبار ذلك مشكلة تواجه الأسرة التي ترتكز في تكوين العلاقة على أساس المهر الكثير، ويوحي إلينا بالمبادرة إلى توعية الآباء والأمهات في مواجهة هذه الحالة بكثير من الوعي والواقعية والمسؤولية، ليعرفوا بأنهم ـ في تصرفاتهم غير المسؤولة ـ يخلقون لأولادهم وبناتهم المشاكل الصعبة في المستقبل، فيقودهم ذلك إلى الانحراف.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/69.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الآية الحاضرة التي جاءت بعد البحث المطروح في الآية السابقة حول انتخاب الزّوجة تتضمن إشارة إلى إحدى حقوق النساء المسلّمة، وتؤكّد قائلة: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ أي أعطوا المهر للزوجة كمّلا واهتموا بذلك كما تهتمون بما عليكم من ديون فتؤدونها كاملة دون نقص (وفي هذه الصورة نكون قد أخذنا لفظة النّحلة بمعنى الدّين)، وأمّا إذا أخذنا لفظة النّحلة بمعنى العطية والهبة فيكون تفسير الآية المذكورة بالنحو التالي: (أعطوا النساء كامل مهرهنّ الذي هو عطية من الله لهنّ لأجل أن يكون للنساء حقوق أكثر في المجتمع وينجبر بهذا الأمر ما فيهنّ من ضعف‏ جسمي نسبي)

2. ثمّ بعد أن يأمر الله سبحانه ـ بصراحة ـ في مطلع الآية بأن تعطى للنساء مهورهن كاملة ودون نقصان حفظا لحقوقهنّ، يعمد في ذيل هذه الآية إلى بيان ما من شأنه احترام مشاعر كلا الطرفين، ومن شأنه تقوية أواصر الودّ والمحبّة والعلاقة القلبية، وكسب العواطف إذ يقول: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ أي لو تنازلت الزوجة عن شيء من المهر ووهبته للزوج عن طيب نفسها جاز للزوج أكل الموهوب له، وإنّما أقرّ الإسلام هذا المبدأ لكيلا تكون البيئه العائلية والحياة الزوجية ميدانا لسلسلة من القوانين والمقررات الجافة، بل يكون مسرحا للتلاقي العاطفي الإنساني، وتسود في هذه الحياة المحبّة جنبا إلى جنب مع المقررات والأحكام الحقوقية المذكورة.

3. لمّا كانت المرأة ـ في العصر الجاهلي ـ لم تحظ بأية قيمة أو مكانة كان الرجل إذا تزوج امرأة ترك أمر صداقها ـ الذي هو حقها المسلّم ـ إلى أوليائها، فكان أولياؤها يأخذون صداقها، ويعتبرونه حقّا مسلّما لهم لا لها، وربّما جعلوا التزوج بامرأة صداقا لامرأة أخرى، مثل أن يزوج الرجل أخته بشخص على أن يزوج ذلك الشخص أخته بذلك الرجل، وكان هذا هو صداق الزوجتين، ولقد أبطل الإسلام كل هذه التقاليد والأعراف الظالمة، واعتبر الصداق حقّا مسلّما خاصا بالمرأة، وأوصى الرجال مرّات عديدة وفي آيات الكتاب العزيز برعاية هذا الحق للمرأة، على أنه ليس للصداق حدّ معين في الإسلام، فهو أمر يتبع اتفاق الزوجين، وإن تأكد في روايات كثيرة على التخفيف في المهور، ولكن هذا لا يكون حكما إلزاميا، بل هو أمر مستحب.

4. سؤال وإشكال: إذا كان الرجل والمرأة يستفيدان من الزواج بشكل متساو، وكانت رابطة الزوجية قائمة على أساس مصالح الطرفين فلما ذا يجب على الرجل أن يدفع مبلغا ـ قليلا أو كثيرا ـ إلى المرأة بعنوان الصداق والمهر؟ ثمّ ألا ينطوي هذا الأمر على إساءة إلى شخصية المرأة، ألا يسبغ هذا الأمر صبغة البيع والشراء على مشروع الزواج؟ والجواب: إنّ هذه الأمور هي التي تدفع بالبعض إلى أن يعارضوا بشدّة مبدأ المهر ومسألة الصداق، ويقوى هذا الاتجاه لدى المتغربين خاصّة ما يجدونه من عدم الأخذ بهذا المبدأ في الزيجات الغربية، في حين أن حذف الصداق والمهر من مشروع الزواج ليس من شأنه رفع شخصية المرأة فقط، بل يعرض وضعها للخطر، وتوضيح ذلك هو، أنّه صحيح أنّ المرأة والرجل يستفيدان من مشروع الزواج، وإقامة الحياة الزوجية على قدم المساواة، ولكن لا يمكن إنكار أنّ الأكثر تضررا لدى افتراق الزوج عن زوجته هي المرأة، وذلك:

أ. أوّلا: إنّ الرجل ـ بحكم قابلياته الجسدية الخاصّة ـ يمتلك ـ عادة ـ سلطانا ونفوذا وفرصا أكثر في المجتمع، وهذه هي حقيقة ساطعة مهما حاول البعض إنكارها عند الحديث حول المرأة، ولكن الوضع الاجتماعي وحياة البشر ـ حتى في المجتمعات الغربية والأوروبية التي تحظى فيها النساء بما يسمّى بالحرّية الكاملة ترينا بوضوح ـ وكما هو مشهود للجميع ـ إنّ الفرص وأزمة الأعمال المربحة جدّا هي في الأغلب في أيدي الرجال.

ب. هذا مضافا إلى أنّ أمام الرجال إمكانيات أكثر لاختيار الزوجات، وإقامة حياة عائلية جديدة بينما لا تتوفر مثل هذه الإمكانيات للمرأة، فإن النساء الثيبات ـ خاصّة تلك التي يصبن بهذه الحالة بعد مضي شطر من أعمارهنّ، وفقدان شبابهنّ وجمالهنّ ـ يمتلكن فرصا أقل للحصول على أزواج لهنّ.

5. بملاحظة هذه النقاط يتضح أنّ الإمكانات التي تخسرها المرأة بالزواج أكثر من الإمكانات التي يفقدها الرجل بذلك، ويكون الصداق والمهر ـ في الحقيقة ـ بمثابة التعويض عن الخسارة التي تلحق بالمرأة، ووسيلة لضمان حياتها المستقبلية، هذا مضافا إلى أنّ المهر والصداق خير وسيلة رادعة تردع الرجل عن التفكير في الطلاق والإفتراق.

6. صحيح أنّ المهر ـ في نظر القوانين الإسلامية يتعلق بذمّة الرجل من لحظة انعقاد الرابطة الزوجية وقيامها بين الرجل والمرأة، ويحق للمرأة المطالبة به فورا، ولكن حيث أن الغالب هو أن يتخذ الصداق صفة الدّين المتعلق في الذمّة يكون لذلك بمثابة توفير للمرأة تستفيد منه في مستقبلها، كما يعتبر خير دعامة لحفظ حقوقها، إلى جانب أنه يساعد على حفظ الرابطة الزوجية من التبعثر والتمزق (طبعا هناك استثناءات لهذا الموضوع، ولكن ما ذكرناه صادق في أغلب الموارد)

7. أمّا تفسير البعض لمسألة المهر بنحو خاطئ، واعتبار الصداق أنّه من قبيل ثمن المرأة فلا يرتبط بالقوانين الإسلامية، لأن الإسلام لا يعطي للصداق الذي يقدمه الرجل إلى المرأة صفة الثمن كما لا يعطي المرأة صفة البضاعة القابلة للبيع والشراء، وأفضل دليل على ذلك هو صيغة عقد الزواج الذي يعتبر فيه الرجل والمرأة كركنين أساسيين في الرابطة الزوجية، في حين يقع الصداق والمهر على هامش هذا العقد، ويعتبر أمرا إضافيا، بدليل صحّة العقد إذا لم يرد في صيغة البيع والشراء وغير ذلك من المعاملات المالية إذ بدونه تبطل هذه المعاملات (طبعا لا بدّ من الانتباه إلى أن على الزوج ـ إذا لم يذكر الصداق ضمن عقد الزواج ـ أن يدفع إلى المرأة مهر المثل في صورة الدخول بها)

8. من كلّ ما قيل نستنتج أنّ المهر بمثابة جبران للخسارة اللاحقة بالمرأة، وبمثابة الدعامة القوية التي تساعد على احترام حقوق المرأة، لا أنّه ثمن المرأة، ولعل التعبير بالنّحلة التي هي بمعنى العطية في الآية إشارة إلى هذه النقطة.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/101.

5. التعامل مع السفهاء الأموال

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈5⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [النساء: 5]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ﴾، قال النساء، والصبيان(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٨٩.

الإمام علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: المرأة لا يوصى إليها، لأن الله عز وجل يقول: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾(1).

__________

(1) من لا يحضره الفقيه 4/168.

هريرة:

روي عن أبي هريرة (ت 58 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ﴾، قال الخدم، وهم شياطين الإنس(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٦٣.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في الآية: لا تسلط السفيه من ولدك على مالك، وأمره أن يرزقه منه، ويكسوه، فكان يقول: نزل ذلك في السفهاء، وليس اليتامى من ذلك في شيء(1).

2. روي أنّه قال: ﴿قِيَامًا﴾، يعني: قوامكم من معايشكم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَارْزُقُوهُمْ﴾ كن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ومؤنتهم(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَاكْسُوهُمْ﴾ أمرك أن تكسوه(3).

5. روي أنّه قال في قوله: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ الآية، يقول: لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله لك عيشة، فتعطيه امرأتك أو بنيك؛ ثم تضطر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك، وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم(2).

6. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾، قال المرأة، تقول: أريد مرطا بكذا، أريد شيئا بكذا.. [هي أسفه السفهاء(4).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٩٢ والزيادة له، وابن أبي حاتم ٣/ ٨٦٢.

(2) ابن جرير ٦/ ٣٩٨.

(3) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٦٤.

(4) سفيان الثوري في تفسيره ص ٨٨.

ابن عمر:

روي عن عبد الله بن عمر (ت 73 هـ) أنه مرت به امرأة لها شارة وهيئة، فقال لها: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٩٤.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ﴾، اليتامى، والنساء(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ﴾ هم اليتامى﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ أموالهم، بمنزلة قوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩](2).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٨٨.

(2) ابن المنذر ٢/ ٥٦٣.

إبراهيم النخعي:

روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنّه قال: لا حجر على الحر(1).

__________

(1) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره ص ٧٤.

أبو مالك:

روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ الذي هو قوامك بعد الله(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٩٨.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ عصمة لدينكم، وقياما لكم(1).

2. روي أنّه قال: به يقام الحج، والجهاد، وأعمال البر، وبه فكاك الرقاب من النار(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ ردوا عليهم ردا جميلا(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٦٤.

(2) تفسير الثعلبي ٣/ ٢٥٣.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن السفهاء، فقال: السفهاء من الرجال، والنساء(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ أمروا أن يقولوا لهم قولا معروفا في البر والصلة(2).

3. روي أنّه قال في الآية: نهى الرجال أن يعطوا النساء أموالهم وهن سفهاء، من كن؛ أزواجا أو بنات أو أمهات، وأمروا أن يرزقوهن منه، ويقولوا لهن قولا معروفا(3).

__________

(1) تفسير مجاهد ص ٢٦٦.

(2) ابن جرير ٦/ ٤٠١.

(3) ابن جرير ٦/ ٣٩٣.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ هو مال اليتيم يكون عندك، يقول: لا تؤته إياه، وأنفق عليه حتى يبلغ(1).

__________

(1) ابن المنذر ٢/ ٥٦٣.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ السفهاء: ابنك السفيه، وامرأتك السفيهة، وقد ذكر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: اتقوا الله في الضعيفين: اليتيم، والمرأة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ لا تنحلوا الصغار أموالكم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿قِيَامًا﴾ قيام عيشك(3).

__________

(1) عبد الرزاق في تفسيره ١/ ٤٣٣.

(2) ابن جرير ٦/ ٣٩١.

(3) عبد الرزاق ١/ ١٤٦.

ابن سيرين:

روي عن محمد بن سيرين (ت 110 هـ) أنه كان لا يرى الحجر على الحر شيئا(1).

__________

(1) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره ص ٧٤.

عطاء:

روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) أنّه قال: ﴿قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾، إذا ربحت أعطيتك، وإن غنمت جعلت لك حظا(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/ ٢٥٣.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن هذه الآية: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: 5] فقال: كل من شرب الخمر فهو سفيه(1).

2. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾: إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة، وولده سفيه مفسد، لم ينبغ له أن يسلط واحدا منهما على ماله الذي جعل الله له قياما، يقول: معاشا، قال: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ فالمعروف: العدة(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ فالسفهاء: النساء والولد، إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة، وولده سفيه مفسد، لم ينبغ له أن يسلط واحدا منهما على ماله الذي جعل الله له قياما، يقول: معاشا، قال: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ فالمعروف: العدة(3).

4. روي أنّه قال: إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله، ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال، فقيل له: يا ابن رسول الله، أين هذا من كتاب الله؟ قال: إن الله عز وجل يقول: لا ﴿خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ وقال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ وقال: لا ﴿تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾(4).

5. روي أنّه سئل عن هذه الآية ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ قال: كل من يشرب المسكر فهو سفيه(5).

6. روي أنّه سئل عن قول الله عز وجل ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ قال: لا تؤتوها شراب الخمر، ولا النساء، ثم قال: وأي سفيه أسفه من شراب الخمر؟، قال ابن بابويه: إنما يعني كراهة اختيار المرأة للوصية، فمن أوصى إليها لزمها القيام بالوصية على ما تؤمر به، ويوصى إليها فيه إن شاء الله تعالى(6).

__________

(1) تفسير العياشي 1/ 220/ 22.

(2) تفسير القمّي 1/ 131.

(3) تفسير القمّي 1/131.

(4) الكافي 1/48.

(5) تفسير العياشي 1/220.

(6) من لا يحضره الفقيه 4/168.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ معناه النّساء والصّبيان(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 116.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لا تعط المرأة مالها حتى تتزوج، وإن قرأت التوراة والإنجيل والقرآن، ولا تعط الغلام ماله حتى يحتلم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾، إن المال هو قيام الناس؛ قوام معايشهم، يقول: كن أنت قيم أهلك، [ولا تعط امرأتك وولدك مالك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك(2).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/ ٢٥٢.

(2) ابن جرير ٦/ ٣٩٨.

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ لا يعطون دارا ولا عبدا فيستهلكوه(1).

__________

(1) عبد الله بن وهب في الجامع ـ تفسير القرآن ٢/ ١٦٧.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ يعني: النساء، والأولاد؛ إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة، وأن ابنه سفيه مفسد؛ فلا ينبغي أن يسلط واحدا منهما على ماله فيفسده(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين ١/ ٣٤٧.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: 5] فقال: من لا تثق به(1).

2. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: 5] فقال: هم اليتامى لا تعطوهم أموالهم حتى تعرفوا منهم الرشد، قيل: فكيف يكون أموالهم أموالنا، فقال: إذا كنت أنت الوارث لهم(2).

3. روي عن حريز قال كانت لإسماعيل بن الإمام الصادق دنانير، وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن، فقال إسماعيل: يا أبت إن فلانا يريد الخروج إلى اليمن وعندي كذا وكذا دينار، أفترى أن أدفعها إليه يبتاع لي بها بضاعة من اليمن؟ فقال الإمام الصادق أنّه قال: يا بني أما بلغك أنه يشرب الخمر؟ فقال إسماعيل: هكذا يقول الناس، فقال: يا بني لا تفعل، فعصى إسماعيل أباه ودفع إليه دنانيره، فاستهلكها ولم يأته بشيء منها، فخرج إسماعيل، وقضى أن الإمام الصادق حج وحج إسماعيل تلك السنة، فجعل يطوف بالبيت ويقول: (اللهم أجرني واخلف علي) فلحقه الإمام الصادق فهمزه بيده من خلفه وقال له: مه، يا بني، فلا والله مالك على الله هذا ولا لك أن يأجرك ولا يخلف عليك، قد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنته، فقال إسماعيل: يا أبت إني لم أره يشرب الخمر إنما سمعت الناس يقولون، فقال: يا بني إن الله عزّ وجّل يقول في كتابه: ﴿يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 61] يقول: يصدق لله ويصدق للمؤمنين فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم، ولا تأتمن شارب الخمر إن الله عزّ وجّل يقول في كتابه: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [النساء: 5] فأي سفيه أسفه من شارب الخمر؟ إن شارب الخمر لا يزوج إذا خطب، ولا يشفع إذا شفع، ولا يؤتمن على أمانة، فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على الله أن يأجره ولا يخلف عليه(3).

4. روي أنه قيل له: إن فلانا يريد اليمن أفلا ازوده بمال ليشتري لي به عصب اليمن؟ فقال: لا تفعل، قيل: ولم، فقال: لأنها إن ذهبت لم تؤجر عليها، ولم تخلف عليك، لأن الله عزّ وجّل يقول: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: 5]، فأي سفيه أسفه بعد النساء من شارب الخمر؟ إن أبي حدثني، عن آبائه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال من ائتمن غير أمين فليس له على الله ضمان، لأنه قد نهاه الله عزّ وجّل أن يأتمنه(4).

5. روي عن الوليد بن صبيح، عن الإمام الصادق، قال: صحبته بين مكة والمدينة فجاء سائل فأمر أن يعطى، ثم جاء آخر فأمر أن يعطى، ثم جاء آخر فأمر أن يعطى، ثم جاء الرابع، فقال: يشبعك الله، ثم التفت إلينا، فقال: أما إن عندنا ما نعطيه، ولكن أخشى أن أكون كأحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم دعوة: رجل أعطاه الله مالا فأنفقه في غير حقه ثم قال: اللهم ارزقني، فلا يستجاب له، ورجل يدعو على امرأته أن يريحه منها وقد جعل الله عز وجل أمرها إليه، ورجل يدعو على جاره وقد جعل الله عز وجل له السبيل إلى أن يتحول عن جواره ويبيع داره(5).

6. روي أنّه قال: أربعة لا يستجاب لهم دعوة: الرجل جالس في بيته يقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالطلب!؟ ورجل كانت له امرأة فدعا عليها، فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك!؟ ورجل كان له مال فأفسده فيقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد!؟ ألم آمرك بالاصلاح!؟ ثم قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾، ورجل كان له مال فأدانه بغير بينة، فيقال له: ألم آمرك بالشهادة!؟(5).

7. روي أنّه قال: ثلاثة ترد عليهم دعوتهم: رجل رزقه الله مالا فأنفقه في غير وجهه ثم قال يا رب، ارزقني، فيقال له: ألم أرزقك!؟ ورجل دعا على امرأته وهو لها ظالم، فيقال له: ألم أجعل أمرها بيدك!؟ ورجل جلس في بيته وقال: يا رب، ارزقني، فيقال له: ألم أجعل لك السبيل إلى طلب الرزق!؟(6).

8. روي أنّه قال: إني أردت أن أستبضع بضاعة إلى اليمن، فأتيت الإمام الباقر، فقلت له: إني أريد أن أستبضع فلانا بضاعة، فقال لي: أما علمت أنه يشرب الخمر؟فقلت: قد بلغني من المؤمنين أنهم يقولون ذلك، فقال لي: صدقهم، فإن الله عز وجل يقول: ﴿يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ثم قال إنك إذا استبضعته فهلكت أو ضاعت، فليس لك على الله عز وجل أن يأجرك، ولا يخلف عليك، فاستبضعته فضيعها، فدعوت الله عز وجل أن يأجرني، فقال: يا بني مه، ليس لك على الله أن يأجرك، ولا يخلف عليك، قال قلت له: ولم؟ فقال لي: إن الله عز وجل يقول: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ فهل تعرف سفيها أسفه من شارب الخمر!؟(7).

__________

(1) تفسير العياشي 1/ 220/ 20.

(2) تفسير العياشي 1/ 220/ 23.

(3) الكافي 5/ 299/ 1.

(4) قرب الإسناد: 131.

(5) الكافي 2/370..

(6) الكافي 2/371..

(7) الكافي 6/397 ذيل الحديث 9.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ عدة تعدونهم(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٤٠٢.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾، يعني: العدة الحسنة أني سأفعل، وكنت أنت القائم على مالك(1).

2. روي أنّه قال:: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ﴾ يعني: الجهال بموضع الحق في الأموال، يعني: لا تعطوا نساءكم وأولادكم ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾... فإنهن سفهاء، يعني: جهالا بالحق، نظيرها في البقرة: ﴿سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا﴾، ولا يدري الصغير ما عليه من الحق في ماله(2).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/ ٣٥٨.

(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/ ٣٥٧.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ لا تعط السفيه من مالك شيئا هو لك(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ إن كان ليس من ولدك، ولا ممن يجب عليك أن تنفق عليه؛ فقل له قولا معروفا، قل له: عافانا الله وإياك، وبارك الله فيك(2).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٣٩٦.

(2) ابن جرير ٦/ ٤٠٢.

الرسّي:

ذكر الإمام القاسم الرسي (ت 246 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وسألت عن قول الله سبحانه: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾، فمعنى ﴿تُؤْتُوا﴾ هو: أن تعطوا السفهاء، وإن كانوا لكم أبناء وآباء، يجب عليكم رزقهم وكسوتهم فيها، وأمرهم أن ينفقوا عليهم ويكسوهم منها، ويقولوا لهم من القول معروفه وحسنه، وهو: السهل من القول ولينه، ونهاهم أن يعطوا سفهاءهم أموالهم، التي جعلها الله قياما لهم، والقيم هو: المعاش واللباس، الذي به يبقى ويقوم الناس، فتهبوها لهم أو تأمنوهم فيها، وتجعلوا لهم سبيلا إليها، فيفسدوا معاشهم منها عليهم، إن أعطوهم إياها وسلموها إليهم، وأمرهم ألا يؤتوا أموالهم التي جعلها الله لهم، إلا أن يأنسوا [منهم رشدا]

2. ومعنى ﴿يأنسوا﴾ هو: أن يروا منهم رشدا، فيدفعوها إليهم، ويشهدوا بدفعها عليهم؛ فكيف يجوز أن يؤتي أحد ماله أحدا، إذا كان في أرض الله أو لنفسه مفسدا، وقد نهى الله عن ذلك؛ نظرا من الله للعباد، وحياطة منه برحمته لأرضه وخلقه من الفساد!؟

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/205.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وسألت عن قول الله سبحانه: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾، وهذا أمر من الله سبحانه للمؤمنين: لا يؤتوا أموالهم السفهاء، التي جعلها الله لهم قياما، والقيام فهي: تقيمهم وتحييهم، والسفهاء هاهنا فهم: الأبناء والإخوة الذين أوجب الله على الآباء النفقة عليهم إذا كانوا فقراء؛ فأمرهم الله عز وجل إذا علموا منهم الإفساد لها: ألا يدفعوا إليهم منها ما يفسدون، وبه على معصيته يستعينون، وأن يقوتوهم فيها؛ والسفهاء فهم: سفهاء الرأي، وسفهاء العقول الذين لا تمييز لهم ولا نظر في أمور نفوسهم؛ لقلة عقولهم، وبعد انتباههم، والعرب تسمي من كان كذلك سفيها: سفيه الرأي، وسفيه العقل.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/205.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾:

أ. روى عن الحسن أنه قال في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ [يعني: الكفار.

ب. وقيل: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾]؛ فيكونوا قياما عليكم، ولكن كونوا أنتم قياما عليهم‏.

ج. وقيل: لا تؤتوهم أموالكم؛ فيكونوا أربابا عليكم، وكونوا أربابا بأموالكم عليهم.

2. من صرف التأويل إلى اليتامى جعل معنى قوله ـ عزّ وجل ـ: ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ ـ كقوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29]، وكقوله: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: 61]: يريد من ترونه في البيوت؛ فعلى ذلك إضافة أموال اليتامى إلى الأولياء.

3. ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ الآية [النساء: 5] السفيه ـ في الحقيقة ـ من يعمل عمل الجهال، كان جاهلا في الحقيقة أو لا؛ لما قد يلقب العالم به؛ إذا ضيع الحدود، وتعاطي الأفعال الذميمة؛ وعلى ذلك ما جاء [من‏] الجهل هو السبب الباعث على فعل السفه؛ فقوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ يحتمل ذلك الوجهين، وأي الأمرين كان ففيه التحذير للمعنى الذي بين من قوله: ﴿الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾: فإما إذا كانت قياما للمعاش أو للمعاد أو لهما، وطريق الإنفاق في الوجهين والإمساك لهما التدبر، ومراعاة الشرع، وتعاهد الأسباب، والوجهان جميعا يمنعان الوفاء بما جعلت له الأموال؛ فحذر من أنعم بها عن تضييع ذلك بالتسليم إلى من ذكر، مع ما يكون في ذلك أن اتباع من يستحق أن يكون متبوعا لمن حقه أن يجعل تابعا، وذلك خارج عن حد الحكمة، وما يحمده العقل.

4. ثم قد صرفت الآية إلى النساء بما جعل من إليه التدبير وهو الذي أنشأهن تحت أيدي الرجال في الأمور، مع وصف الرجال أنهم قوامون على النساء، وصرفت ـ أيضا ـ إلى الصغار بما ضمن حفظ أموال مثلهم الكبار، وجعلوا مكفولين عند البالغين؛ فأموال البالغين أحق بذلك، وحقيقة السفه‏ ما ذكرت‏، وجائز أن يكون المقصود بالذكر ـ من ذكر الصغار والنساء بما خاطب من حذر بالدفع إلى من ذكر ـ رزق أولئك وكسوتهم، ولا يجب رزق الجهال والسفهاء في الأفعال على غيرهم؛ فيكون ما ذكروا أولى بمراد الآية، وإن كان للمعنى الذي قصد بالآية التي ذكرتهم ـ قد استحقوا، ولما غلبت تلك الأحوال على هؤلاء جعل من ذكرت قواما عليهم، وقد ذكرت عن الحسن: أنه صرف الآية إلى الكفار؛ فكأنه تأول في القيام ـ القيام بأمر الدين؛ والكفار لا يجوز الاستعانة بهم فيه؛ وله جعل المال عنده مع ما كره العلماء تسليط الكفار العقوبة؛ لجهلهم بحق شرع الإسلام فيها؛ فمثله دفع الأموال إليهم.

5. ﴿الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ عن ابن عباس: ﴿الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾، يعنى: قوام أمركم ومعيشتكم‏، وهو هكذا جعل الله هذه الأموال أغذية للخلق، بها يقوم دينهم وأبدانهم.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾:

أ. يقول: لا تؤتوهم، ولكن ارزقوهم أنتم واكسوهم.

ب. وقيل: يقول: أنفقوا عليهم منها، وأطعموهم‏.

ج. وقيل: لما أضاف الأموال إلى الدافعين لا إلى المدفوعة إليهم؛ دل على وجوب نفقة الولد وكسوته على الرجل.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾:

أ. قيل: عدة حسنة جميلة: سأفعل وسأكسو.

ب. وقيل: مروهم بالمعروف، وانهوا عن المنكر.

ج. وقيل: علموهم الأدب والدين، وقولوا لهم كلام البر واللين واللطف‏.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/19.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾: أي لا تعطوا السفهاء أموالكم التي جعلها الله قواماً لأنفسكم، ورزقكموها لتقيم أرواحكم في أجسامكم، لأنكم متى أعطيتم السفهاء أموالكم، لم تأمنوا لسفه عقولهم وضعفها، أو لسفه أديانهم وقلتها أن يذهبوا بأموالكم، فيكون فقركم سبباً لهلاك أنفسكم وعيالكم، ولكن أطعموهم واكسوهم، وقولوا لهم قولاً حسناً جميلاً، وأنيلوهم فعلاً من كرم أخلاقكم نبيلاً.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 234.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ المراد بالسفهاء الصبيان والأولاد المفسدين وإن كانوا بالغين أي يقسم فيهم المال فيصيروا عيالاً وكلاً عليهم، ويحتمل أن يكون كل سفيه يجب الحجر عليه في ماله وقيل ثلاثة يدعون فلا يستجيب الله لهم رجل كانت له امرأة سيئة فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيهاً وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ ورجل له على رجل دين لم يشهد عليه.. وأصل السفه خفة الحلم فلذلك وصف به الناقص العقل ووصف المفسد بذلك لنقصان تدبيره ووصف الفاسق بذلك لنقصانه عند أهل الدين والعلم.

2. وفي قوله: ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ تأويلان أحدهما:

أ. أموال الأولياء.

ب. الثاني: أموال السفهاء.

3. ﴿الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ يريد أنها قوام معاشكم ومعايش سفهائكم ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ أي أنفقوا أيها الأولياء على السفهاء من أموالهم، ويحتمل أن يكون أيها الناس أنفقوا على سفهائكم من أموالكم ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ أي أن يقال لكم بارك الله فيكم، وتوعدون جميلاً وتلقون ببشر.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/164.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلفوا في المراد بالسفهاء في قوله عزّ وجل‏ ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ على أربعة أقاويل:

أ. أحدها: أنهم الصبيان، وهو قول سعيد بن جبير، والحسن.

ب. الثاني: أنهم النساء، وهو قول ابن عمر.

ج. الثالث: أنه عنى الأولاد المسرفين أن يقسم ماله فيهم فيصير عيالا عليهم، وهو قول ابن عباس، وابن زيد وأبي مالك.

د. الرابع: أنه أراد كل سفيه استحق في المال حجرا، وهو معنى ما رواه الشعبي عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري‏ أنه قال ثلاثة يدعون فلا يستجيب الله لهم: رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى مالا سفيها وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾، ورجل له على رجل دين لم يشهد عليه.

2. أصل السفيه خفة الحلم فلذلك وصف به الناقص العقل، ووصف به المفسد لماله لنقصان تدبيره، ووصف به الفاسق لنقصانه عند أهل الدين، والعلم.

3. في قوله تعالى: ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: يعني أموال الأولياء، وهو قول ابن عباس.

ب. الثاني: أنه عنى به أموال السفهاء، وهو قول سعيد بن جبير.

4. ﴿الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ قرأ نافع وابن عمر قيما ومعناهما واحد، يريد أنها قوام معايشكم ومعايش سفهائكم.

5. في قوله تعالى: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ قولان(2): أحدهما: أي أنفقوا أيها الأولياء على السفهاء من أموالهم.

6. في قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: أنه الوعد بالجميل، وهو قول مجاهد.

ب. الثاني: الدعاء له كقوله بارك الله فيك، وهو قول ابن زيد.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/453.

(2) ذكر قولا واحدا

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف أهل التأويل فيمن المراد بالسفهاء المذكورين في الآية:

أ. فقال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، والسدي، والضحاك، ومجاهد، وقتادة، وأبو مالك: إنهم النساء والصبيان، وهو الذي رواه أبو الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام.

ب. وقال سعيد بن جبير، والحسن‏ وقتادة، وفي رواية أخرى عنهم: أنهم الصبيان الذين لم يبلغوا فحسب، وقال أبو مالك، معناه: لا تعط ولدك السفيه مالك فيفسده الذي هو قيامك وقال ابن عباس في رواية أخرى: إنها نزلت في السفهاء وليس لليتامى في ذلك شيء، وبه قال ابن زيد، وقال ابو موسى الاشعري ثلاثة يدعون فلا يستجيب الله لهم: رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، وقال: اللهم خلصني منها، ورجل أعطى ما لا سفيهاً، وقد قال الله: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾، ورجل له على غيره مال فلم يشهد عليه.

ج. وقد روي عن أبي عبد الله عليه السلام ان السفيه شارب الخمر، ومن جرى مجراه‏.

د. وقال المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال زعم حضرمي أن المراد به النساء خاصة، وروي ذلك عن مجاهد، والضحاك، وابن عمر.

هـ. الأولى حمل الآية على عمومها في المنع من إعطاء المال السفيه، سواء كان رجلا أو امرأة بالغا أو غير بالغ.

2. السفيه هو الذي يستحق الحجر عليه، لتضييعه ماله، ووضعه في غير موضعه، لأن الله تعالى قال عقيب هذه الأوصاف: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ فأمر الأولياء بدفع الأموال إلى اليتامى إذا بلغوا، وأونس منهم رشد، وقد يدخل في اليتامى الذكور والإناث، فوجب حملها على عمومها، أما من حمل الآية على النساء خاصة، فقوله ليس بصحيح، لأن فعلية لا يجمع فعلاء، وإنما يجمع فعايل وفعيلات، كغريبة وغرائب وغريبات، وقد جاء: فقيرة وفقراء، ذكره الرماني، فأما الغرباء فجمع غريب‏.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾:

قال ابن عباس، وأبو موسى الاشعري، والحسن، وقتادة، ومجاهد، وحضرمي، معناه: لا تؤتوا يا أيها الرشد السفهاء من النساء والصبيان ـ على ما ذكرنا من اختلافهم ـ ﴿أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ يعني أموالكم التي تملكونها، فتسلطوهم عليها، فيفسدوها، ويضيعوها، ولكن‏ ﴿ارْزُقُوهُمْ فِيها﴾ إن كانوا ممن يلزمكم نفقته، واكسوهم‏ ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾

أ. وقال السدي: معناه: لا تعط امرأتك وولدك مالك، فيكونوا هم الذين ينفقون ويقومون عليك، وأطعمهم من مالك، واكسهم، وبه قال ابن عباس، وابن زيد.

ب. وقال سعيد ابن جبير: يعني بـ (أموالكم) أموالهم، كما قال ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ قال: واليتامى لا تؤتوهم أموالهم، ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾

ج. والاولى حمل الآية على الامرين، لأن عمومه يقتضى ذلك، فلا يجوز أن يعطى السفيه الذي يفسد المال، ولا اليتيم الذي لم يبلغ، ولا الذي بلغ ولم يؤنس منه الرشد، ولا أن يوصى إلى سفيه، ولا يختص ببعض دون بعض، وإنما يكون اضافة مال اليتيم إلى من له القيام بأمرهم، على ضرب من المجاز، أو لأنه أراد: لا تعطوا الأولياء ما يخصهم لمن هو سفيه‏ ويجري ذلك مجرى قول القائل لواحدٍ: يا فلان أكلتم أموالكم بالباطل، فيخاطب الواحد بخطاب الجميع، ويريد به أنك وأصحابك أو قومك أكلتم، ويكون التقدير في الآية: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ التي بعضها لكم، وبعضها لهم، فيضيعوها.

4. ﴿الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ معناه: ما جعله قوام معايشكم ومعايش سفهائكم، التي بها تقومون قياماً، وقيما، وقواماً، بمعنى واحد، وأصل القيام: القوام، فقلبت الواو ياء للكسرة التي قبلها، كما قالوا: صمت صياماً، وحلت‏ حيالا، ومنه: فلان قوام أهله، وقيام أهله، ومنه: قوام الأمر وملاكه، وهو اسم، والقيام مصدر، وبهذا التأويل قال أبو مالك، والسدي، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن زيد.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾:

أ. فمن قال عنى بقوله: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ يعني أموال أولياء السفهاء، فإنهم قالوا: معناه: وارزقوا أيها الناس سفهاءكم، من نسائكم وأولادكم من أموالكم، طعامهم، وما لا بد لهم منه، ذهب إليه مجاهد، والسدي، وغيرهما ممن تقدم ذكره.

ب. ومن قال إن الخطاب للأولياء، بأن لا يؤتوا السفهاء أموالهم، يعني أموال السفهاء، حمل قوله: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ على أنه من أموال السفهاء، يعني ما لا بد منه من مؤمنهم، وكسوتهم.

ج. وإذا حملنا الآية على عمومها، على ما بيناه، فالتقدير: وارزقوا أيها الرشد من خاص أموالكم من يلزمكم النفقة عليه، مما لا بد منه من مؤنة وكسوة، ولا تسلموا إليه إذا كان سفيهاً، فيفسد المال، ويا أيها الأولياء، أنفقوا على السفهاء من أموالهم، التي لكم الولاية عليها، قدر ما يحتاجون إليه من النفقة والكسوة.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾:

أ. قال مجاهد، وابن جريج: قولوا لهم، يعني للنساء والصبيان، وهم السفهاء، ﴿قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ في البر والصلة، وقال ابن زيد: ان كان السفيه ليس من ولدك، ولا يجب عليك نفقته، فقل له قولا معروفا، مثل: عافانا الله وإياك، بارك الله فيك،

ب. وقال ابن جريج، معناه: يا معاشر ولاة السفهاء، قولوا قولا معروفا للسفهاء، وهو: إن صلحتم ورشدتم، سلمنا إليكم أموالكم، وخلينا بينكم وبينها، فاتقوا الله في أنفسكم وأموالكم، وما أشبه ذلك، مما هو واجب عليكم، ويحثكم على الطاعة، وينهاكم عن المعصية، وقال الزجاج: معناه: علموهم مع إطعامكم إياهم وكسوتكم إياهم، وأمر دينهم.

7. في الآية دلالة على جواز الحجر على اليتيم إذا بلغ، ولم يؤنس منه الرشد، لأن الله تعالى منع من دفع المال إلى السفهاء، وقد بينا أن المراد به أموالهم على بعض الأحوال.

8. في الآية دلالة على وجوب الوصية، إذا كان الورثة سفهاء، لأن ترك الوصية بمنزلة إعطاء المال في حال الحياة إلى من هو سفيه، وإنما سمي الناقص العقل سفيهاً، والعلم فثقل الوزن وخفته، ككبر القدر وصغره.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/113.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. السفه: خفة الحلم، وسمي ناقص العقل سفيهًا لخفة عقله، وسمي الفاسق سفيهًا لخفته عند أهل الدين وأنه لا وزن له.

ب. التي واللاتي واللواتي بمعنى، قال الشاعر:

çمِنَ الَّلوَاتي والتي واللاتي... زَعَمْنَ أني كَبِرَتْ لِدَاتيé

فجمع ثلاث لغات في بيت واحد، قال الفراء: العرب تقول في جمع النساء: اللاتي أكثر مما تقول: التي، وفي جميع الأحوال التي أكثر من اللاتي، وهما جائزان.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. روي أن رجلاً دفع ماله إلى امرأته، فوضعته في غير الحق فأنزل الله تعالى هذه الآية.

ب. وقيل: نزلت في أموال الصبيان والمجانين.

3. لما أمر تعالى فيما تقدم بدفع مال اليتامى إليهم، وكان يجوز أن يظن أنه يدفع إليهم في حال اليتم بين في هذه الآية جماع من لا يدفع إليه المال قال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا﴾ تعطوا ﴿السُّفَهَاءُ﴾:

أ. قيل: النساء والصبيان عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن والسدي والضحاك وقتادة والشعبي.

ب. وقيل: السفيه مِن وَلَدِك عن ابن عباس وابن زيد والزهري.

ج. وقيل: كل من يستحق صفة سفيه في المال مِنْ محجور عليه وغيره.

د. وقيل: النساء عن مجاهد، وقد جاء جمع فَعِيلَة فُعَلاء كفقيرة وفقراء، إلا أن فَعِيلا أكثر وأغلب.

هـ. وقيل: هو مال اليتيم يكون عندك فلا تعطه حتى يبلغ عن عكرمة.

4. ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ وإنما أضاف المال إليه:

أ. لأنه أراد الجنس كقوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾

ب. وقيل: أضافه إليه لأنه المدبر له القيم به، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: اتقوا الله في الضعيفين: اليتيم والمرأة)

ج. وقيل: السفهاء من لا عقل لهم، فنهى أن يدفع إليهم أموالهم؛ لأنه يؤدي إلى التضييع.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾:

أ. قيل: أي قوام عيشكم التي تعيشون به، وملاك أمركم فلا تدفعوه إلى السفهاء.

ب. وقيل: به يقام الحج والجهاد وأعمال البر، وبه تفك الرقاب عن الضحاك.

ج. وقيل: أموالكم التي تقومون بها قيامًا.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَارْزُقُوهُمْ﴾ ﴿وَاكْسُوهُمْ﴾

أ. ﴿وَارْزُقُوهُمْ﴾ قيل: أطعموهم ﴿وَاكْسُوهُمْ﴾ قيل: خطاب للآباء بإنفاق مالهم عليهم وحفظه لهم.

ب. وقيل: خطاب لكل من يلزمه نفقة غيره وحفظ ماله وكسوته لسفهه، ومعناه لا تدفعه إليه فيضيع، ولكن أَمْسِكْ، وكن أنت الذي تنفق عليه وتكسوه ﴿فِيهَا﴾ قيل: معناه منها.

ج. وقيل: معناه جعل لهم فيها رزقا.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾:

أ. قيل: عِدةً جميلة بالبر والصلة عن مجاهد وابن جريج.

ب. وقيل: عدة جميلة إن صلحوا، ترغيبًا في الصلاح، قال عطاء: هو أن يقول: إن ربحت وغنمت جعلت لكم حقًا.

ج. وقيل: ردوا عليه ردًا جميلاً عن الضحاك.

د. وقيل: أن تدعوا له فتقولوا: عافاك الله وبارك فيك عن ابن زيد.

هـ. وقيل: قولاً لينا عن المفضل.

و. وقيل: عِظَةً في ترك الإسراف وإنفاق المال في المعصية.

ز. وقيل: علموهم أمر دينهم ودنياهم مع دفع الطعام ولا تستخفوا بهم وإن كانوا غير عقلاء.

8. تدل الآية الكريمة على:

أ. منع الأولياء من دفع مال السفهاء إليهم، والمراد مالهم وإن أضافه إلينا لما ذكرنا.

ب. أنه لا ينبغي أن يبادر إلى ماله فيدفعه إلى وارثه قبل موته مع كونه سفيهًا؛ لأن فيه بطلان حق الوارث والموروث.

ج. أنه لا ينبغي أن يَكِلَ تدبير ذلك إليهم، وقيل: إن قوله: ﴿قِيَامًا﴾ وقوله: ﴿فَارْزُقُوهُمْ﴾ تدل على أن المراد مال نفسه.

د. أنه إذا منع ولده من ماله، والغالب في مثل هذه الأحوال خوف الفساد أن يعظه ويعده الجميل إن صلح.

هـ. أنه لا يجوز أن يوصى إلى سفيه؛ لأنه إذا حرم دفعه إلى الوارث خوفًا من فساد المال ففي الوصي أولى، وقال بعضهم: تدل الآية على جواز الحجر على السفيه؛ لأنه يلزم الولي من الإقساط في ماله مثل ما يلزمه في مال نفسه، فكما لا يجوز دفعه إليه مع سفهه كذلك جاز أن يحجر عليه، ومن لا يرى الحجر يقول: المراد بالسفيه مَنْ لا عقل له، فلا يدخل فيه المبذر.

9. قرأ نافع وابن عامر ﴿قَيِّمًا﴾ بغيرْ ألف، والباقون ﴿قِيَامًا﴾ بالألف، والمعنى واحد إلا أن الألف أولى؛ لأن أكثر القراء عليه قراءة العامة ﴿الَّتِي جَعَلَ﴾ وعن الحسن والنخعي ﴿اللَّاتِي﴾، وقراءة العامة ﴿قِيَامًا﴾ وعن عيسى بن عمر ﴿قَوَامًا﴾ بضم القاف والواو على الأصل، وعن بعضهم بفتح القاف، والواو كالدوام، وروي نحوه عن ابن عمر، وقيامًا أصله قِوَامًا، فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، مثل صيام ونيام، وقوام وقوام بفتح القاف وكسرها لغتان، قال الكسائي: معناهما واحد، وفرق أبو حاتم بينهما، فقال: القوام بالكسر الملاك، وبالفتح امتداد القامة.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/528.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما أمر تعالى فيما تقدم بدفع مال الأيتام إليهم، عقبه بذكر من لا يجوز الدفع إليه منهم وقال: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ﴾: أي لا تعطوا السفهاء ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾

2. اختلف في المعني بالسفهاء على أقوال:

أ. أحدها: إنهم النساء والصبيان، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، والضحاك، وأبي مالك، وقتادة، ورواه أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام، قال ابن عباس: إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة للمال، وعلم أن ولده سفيه يفسد المال، لم ينبغ له أن يسلطهما على ماله.

ب. ثانيها: إن المراد به النساء خاصة، عن مجاهد، وابن عمر، وروي عن أنس ابن مالك، قال: جاءت امرأة سوداء جرية المنطق، ذات ملح، إلى رسول الله، فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قل فينا خيرا مرة واحدة، فإنه بلغني أنك تقول فينا كل شر! قال: أي شئ قلت لكن؟ قالت: سميتنا السفهاء، قال: الله سماكن السفهاء في كتابه، قالت: وسميتنا النواقص! فقال: وكفى نقصانا أن تدعن من كل شهر خمسة أيام لا تصلين فيها، ثم قال: أما يكفي إحداكن أنها إذا حملت، كان لها كأجر المرابط في سبيل الله، فإذا وضعت كانت كالمتشحط بدمه في سبيل الله، فإذا أرضعت كان لها بكل جرعة كعتق رقبة من ولد إسماعيل، فإذا سهرت كان لها بكل سهرة تسهرها كعتق رقبة من ولد إسماعيل، وذلك للمؤمنات الخاشعات الصابرات، اللاتي لا يكفرن العشير، قال، قالت السوداء: يا له فضلا لولا ما يتبعه من الشرط.

ج. ثالثها: إنها عام في كل سفيه من صبي، أو مجنون، أو محجور عليه، للتبذير، وقريب منه ما روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (إن السفيه شارب الخمر ومن جرى مجراه)، وهذا القول أولى لعمومه.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾:

أ. قيل: أي أموالكم التي جعلها الله قواما لمعاشكم ومعادكم، تقيمكم فتقومون بها قياما.

ب. وقيل: معناه ما تعطي ولدك السفيه من مالك الذي جعله الله قواما لعيشك، فيفسده عليك، وتضطر إليه، فيصير ربا عليك ينفق مالك عليك.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾:

أ. قيل: يريد: لا تؤتوهم أموالكم التي تملكونها، ولكن ارزقوهم منها إن كانوا ممن يلزمكم نفقته، واكسوهم، الآية، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد.

ب. وقيل يريد: لا تعط امرأتك وولدك مالك، فيكونوا هم الذين ينفقون عليك، وأطعمهم من مالك، واكسهم، عن السدي وابن زيد، وهذا أمر بإحراز المال وحسن سياسته، كقوله ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ ويلتفت إليه قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (نعم المال الصالح للرجل الصالح)

ج. وقيل: عنى بقوله أموالكم أموالهم، كما قال ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ أي لا تؤتوا اليتامى أموالهم وارزقوهم منها واكسوهم، عن سعيد بن جبير.

د. الأولى حمل الآية على العموم، فلا يجوز أن تعطي المال السفيه الذي يفسده، ولا اليتيم الذي لا يبلغ، ولا الذي بلغ ولم يؤنس منه الرشد، وإنما تكون إضافة مال اليتيم إلى من له القيام بأمرهم، ضربا من المجاز، أو يكون التقدير: لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي بعضها لكم، وبعضها لهم، فيضيعوها، وقد روي أنه سئل الصادق عليه السلام عن هذا فقيل: كيف يكون أموالهم أموالنا؟ فقال: إذا كنت أنت الوارث له.

5. ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾: أي تلطفوا لهم في القول، ولا تخاشنوهم، وقولوا لهم ما ينبههم على الرشد والصلاح في أمور المعاش والمعاد، حتى إذا بلغوا، وكانوا على بصيرة من ذلك.

6. في هذه الآية دلالة على جواز الحجر على اليتيم إذا بلغ، ولم يؤنس منه الرشد، لأن الله منع من دفع المال إلى السفهاء، وفيها أيضا دلالة على وجوب الوصية، إذا كانت الورثة سفهاء، لأن ترك الوصية والحال هذه، بمنزلة إعطاء المال أهل السفه.

7. إنما سمي الناقص العقل سفيها، لأن السفه خفة الحلم، ولذلك سمي الفاسق أيضا سفيها، لأنه لا وزن له عند أهل الدين.

8. قرأ نافع وابن عامر (قيما) بغير ألف والباقون ﴿قِيَامًا﴾ بالألف.. قال أبو الحسن في ﴿قِيَامٍ﴾، ثلاث لغات: قيام وقيم وقوام، وهو الذي يقيمك، قال لبيد:

أفتلك أم وحشية مسبوعة...خذلت وهادية الصوار قوامها

قال أبو علي: ليس قول من قال إن القيم: جمع قيمة بشئ، إنما القيم بمعنى القيام، وهو مصدر يدل عليه قوله ﴿دِينًا قِيَمًا﴾ فالقيمة التي هي معادلة الشئ ومقاومته لا مذهب له ههنا، إنما المعنى دينا دائما ثابتا لا ينسخ كما نسخت الشرائع التي قبله، فيكون مصدر، وصف الدين به، ولا وجه للجمع ههنا، ولا للصفة، لقلة مجئ هذا البناء في الصفة، ألا ترى أنه إنما جاء في قولهم قوم عدى، ومكان سوى، وفعل في المصادر، كالشبع والرضى ونحوهما، أوسع في الوصف فإذا كان كذلك، حمل على الأكثر.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/14.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. المراد بالسّفهاء خمسة أقوال:

أ. أحدها: أنهم النّساء، قاله ابن عمر.

ب. الثاني: النّساء والصّبيان، قاله سعيد بن جبير، وقتادة، والضّحّاك، ومقاتل، والفرّاء، وابن قتيبة، وعن الحسن ومجاهد كالقولين.

ج. الثالث: الأولاد، قاله أبو مالك، وهذه الأقوال الثلاثة مرويّة عن ابن عباس، وروي عن الحسن، قال هم الأولاد الصّغار.

د. الرابع: اليتامى، قاله عكرمة، وسعيد بن جبير في رواية، قال الزجّاج: ومعنى الآية: ولا تؤتوا السّفهاء أموالهم، بدليل قوله تعالى: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا﴾ وإنّما قال: أموالكم) ذكرا للجنس الذي جعله الله أموالا للنّاس، وقال غيره: أضافها إلى الولاة، لأنهم قوّامها.

هـ. الخامس: أن القول على إطلاقه، والمراد به كلّ سفيه يستحقّ الحجر عليه، ذكره ابن جرير، وأبو سليمان الدّمشقيّ، وغيرهما، وهو ظاهر الآية.

2. في قوله تعالى: ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه أموال اليتامى.

ب. الثاني: أموال السّفهاء.

3. ﴿الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ قال ابن قتيبة: قياما وقواما بمنزلة واحدة، تقول: هذا قوام أمرك وقيامه، أي: ما يقوم به أمرك، وذكر أبو عليّ الفارسيّ أن (قواما) و(قياما) و(قيّما)، بمعنى القوام الذي يقيم الشّأن، قال وليس قول من قال: القيم) هاهنا: جمع (قيمة) بشيء.

4. ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا﴾ أي: منها، وفي (القول المعروف) ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: العدة الحسنة، قاله ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، ومقاتل.

ب. الثاني: الرّدّ الجميل، قاله الضّحّاك.

ج. الثالث: الدّعاء، كقولك: عافاك الله، قاله ابن زيد.

__________

(1) زاد المسير: 1/372.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا هو النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذه السورة، وتعلق هذه الآية بما قبلها هو كأنه تعالى يقول: إني وإن كنت أمرتكم بإيتاء اليتامى أموالهم وبدفع صدقات النساء إليهن، فإنما قلت ذلك إذا كانوا عاقلين بالغين متمكنين من حفظ أموالهم، فأما إذا كانوا غير بالغين، أو غير عقلاء، أو ان كانوا بالغين عقلاء إلا أنهم كانوا سفهاء مسرفين، فلا تدفعوا إليهم أموالهم وأمسكوها لأجلهم إلى أن يزول عنهم السفه، والمقصود من كل ذلك الاحتياط في حفظ أموال الضعفاء والعاجزين.

2. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ قولان:

أ. الأول: أنها خطاب الأولياء، فكأنه تعالى قال: أيها الأولياء لا تؤتوا الذين يكونون تحت ولايتكم وكانوا سفهاء أموالهم، والدليل على أنه خطاب الأولياء قوله: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ وأيضا فعلى هذا القول يحسن تعلق الآية بما قبلها كما قررناه، سؤال وإشكال: فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقال: ولا تؤتوا السفهاء أموالهم، فلم قال أموالكم؟ والجواب: في الجواب وجهان:

الأول: أنه تعالى أضاف المال إليهم لا لأنهم ملكوه، لكن من حيث ملكوا التصرف فيه، ويكفي في حسن الاضافة أدنى سبب.

الثاني: إنما حسنت هذه الاضافة إجراء للوحدة بالنوع مجرى الوحدة بالشخص، ونظيره قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: 128] وقوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: 36] وقوله: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ وقوله: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 85] ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه، ولكن كان بعضهم يقتل بعضا، وكان الكل من نوع واحد، فكذا هاهنا المال شيء ينتفع به نوع الإنسان ويحتاج اليه، فلأجل هذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء الى أوليائهم.

ب. الثاني: أن هذه الآية خطاب الآباء فنهاهم الله تعالى إذا كان أولادهم سفهاء لا يستقلون بحفظ المال وإصلاحه أن يدفعوا أموالهم أو بعضها إليهم، لما كان في ذلك من الإفساد، فعلى هذا الوجه يكون إضافة الأموال إليهم حقيقة، وعلى هذا القول يكون الغرض من الآية الحث على حفظ المال والسعي في أن لا يضيع ولا يهلك، وذلك يدل على أنه ليس له أن يأكل جميع أمواله ويهلكها، وإذا قرب أجله فإنه يجب عليه أن يوصي بماله الى أمين يحفظ ذلك المال على ورثته.

3. ذكرنا أن الآية الكريمة خطاب الأولياء أرجح لوجهين:

أ. مما يدل على هذا الترجيح أن ظاهر النهي للتحريم، وأجمعت الأمة على أنه لا يحرم عليه أن يهب من أولاده الصغار ومن النسوان ما شاء من ماله، وأجمعوا على أنه يحرم على الولي أن يدفع الى السفهاء أموالهم، وإذا كان كذلك وجب حمل الآية على هذا القول.

ب. الثاني: أنه قال في آخر الآية: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ ولا شك أن هذه الوصية بالأيتام أشبه، لان المرء مشفق بطبعه على ولده، فلا يقول له إلا المعروف، وإنما يحتاج الى هذه الوصية مع الأيتام الأجانب.

4. لا يمتنع أيضا حمل الآية على كلا الوجهين، قال القاضي: هذا بعيد لأنه يقتضي حمل قوله: ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ على الحقيقة والمجاز جميعا، ويمكن أن يجاب عنه بأن قوله: ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ يفيد كون تلك الأموال مختصة بهم اختصاصا يمكنه التصرف فيها، ثم إن هذا الاختصاص حاصل في المال الذي يكون مملوكا له، وفي المال الذي يكون مملوكا للصبي، إلا أنه يجب تصرفه، فهذا التفاوت واقع في مفهوم خارج من المفهوم المستفاد من قوله: ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ وإذا كان كذلك لم يبعد حمل اللفظ عليهما من حيث ان اللفظ أفاد معنى واحدا مشتركا بينهما.

5. ذكروا في المراد بالسفهاء أوجها:

أ. الأول: قال مجاهد وجويبر عن الضحاك السفهاء هاهنا النساء سواء كن أزواجا أو أمهات أو بنات، وهذا مذهب ابن عمر، ويدل على هذا ما روى أبو أمامة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (ألا انما خلقت النار للسفهاء يقولها ثلاثا ألا وإن السفهاء النساء الا امرأة أطاعت قيمها)، سؤال وإشكال: لو كان المراد بالسفهاء النساء لقال: السفائه أو السفيهات في جمع السفيهة نحو غرائب وغريبات في جمع الغريبة، والجواب: أجاب الزجاج: بأن السفهاء في جمع السفيهة جائز كما أن الفقراء في جمع الفقيرة جائز.

ب. الثاني: قال الزهري وابن زيد: عنى بالسفهاء هاهنا السفهاء من الأولاد، يقول: لا تعط مالك الذي هو قيامك، ولدك السفيه فيفسده.

ج. الثالث: المراد بالسفهاء هم النساء والصبيان في قول ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد بن جبير، قالوا إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة، وان ولده سفيه مفسد فلا ينبغي له أن يسلط واحدا منهما على ماله فيفسده.

د. الرابع: أن المراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال، ويدخل فيه النساء والصبيان والأيتام وكل من كان موصوفاً بهذه الصدفة، وهذا القول أولى لان التخصيص بغير دليل لا يجوز، وقد ذكرنا في‏ سورة البقرة أن السفه خفة العقل، ولذلك سمي الفاسق سفيها لأنه لا وزن له عند أهل الدين والعلم، ويسمى الناقص العقل سفيها لخفة عقله.

6. ليس السفه في هؤلاء صفة ذم، ولا يفيد معنى العصيان لله تعالى، وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تمييزهم عن القيام بحفظ الأموال.

7. أمر الله تعالى المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال، قال تعالى: ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء: 26، 27]، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ [الفرقان: 67]، وقد رغب الله في حفظ المال في آية المداينة حيث أمر بالكتابة والاشهاد والرهن، والعقل أيضاً يؤيد ذلك، لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال لأن به يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار، فمن أراد الدنيا بهذا الغرض كانت الدنيا في حقه من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرة، أما من أرادها لنفسها ولعينها كانت من أعظم المعوقات عن كسب سعادة الآخرة.

8. ﴿الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ معناه أنه لا يحصل قيامكم ولا معاشكم إلا بهذا المال، فلما كان المال سببا للقيام والاستقلال سماه بالقيام إطلاقا لاسم المسبب على السبب على سبيل المبالغة، يعني كان هذا المال نفس قيامكم وابتغاء معاشكم، وقرأ نافع وابن عامر التي جعل الله لكم قيما وقد يقال: هذا قيم وقيم، كما قال ﴿دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنعام: 161] وقرأ عبد الله بن عمر (قواماً) بالواو، وقوام الشيء ما يقام به كقولك: ملاك الأمر لما يملك به.

9. ثم لما نهى الله تعالى عن إيتاء المال السفيه أمر بعد ذلك بثلاثة أشياء:

أ. أولها: قوله: ﴿وَارْزُقُوهُمْ﴾ ومعناه: وأنفقوا عليهم ومعنى الرزق من العباد هو الإجراء الموظف لوقت معلوم يقال: فلان رزق عياله أي أجرى عليهم، وإنما قال ﴿فِيهَا﴾ ولم يقل: منها لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقا لهم، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول الأموال.

ب. ثانيها: قوله: ﴿وَاكْسُوهُمْ﴾ والمراد ظاهر.

ج. ثالثها: قوله: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾، وإنما أمر بذلك لأن القول الجميل يؤثر في القلب فيزيل السفه، أما خلاف القول المعروف فإنه يزيد السفيه سفهاً ونقصانا، والمفسرون ذكروا في تفسير القول المعروف وجوها:

أحدها: قال ابن جريج ومجاهد: انه العدة الجميلة من البر والصلة، وقال ابن عباس: هو مثل أن يقول: إذا ربحت في سفرتي هذه فعلت بك ما أنت أهله، وان‏ غنمت في غزاتي أعطيتك.

ثانيها: قال ابن زيد: انه الدعاء مثل أن يقول: عافانا الله وإياك بارك الله فيك، وبالجملة كل ما سكنت اليه النفوس وأحبته من قول وعمل فهو معروف وكل ما أنكرته وكرهته ونفرت منه فهو منكر.

ثالثها: قال الزجاج: المعنى علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل.

رابعها: قال القفال القول المعروف هو أنه ان كان المولى عليه صبيا، فالولي يعرفه ان المال ماله وهو خازن له، وأنه إذا زال صباه فإنه يرد المال اليه، ونظيره هذه الآية قوله: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ [الضحى: 9] معناه لا تعاشره بالتسلط عليه كما تعاشر العبيد، وكذا قوله: ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا﴾ [الإسراء: 28] وان كان المولى عليه سفيها وعظه ونصحه وحثه على الصلاة، ورغبه في ترك التبذير والإسراف، وعرفه أن عاقبة التبذير الفقر والاحتياج الى الخلق الى ما يشبه هذا النوع من الكلام، وهذا الوجه أحسن من سائر الوجوه التي حكيناها.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 9/495.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما أمر الله تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم في قوله: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ وإيصال الصدقات إلى الزوجات، بين أن السفيه وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه، فدلت الآية على ثبوت الوصي والولي والكفيل للأيتام، وأجمع أهل العلم على أن الوصية إلى المسلم الحر الثقة العدل جائزة، واختلفوا في الوصية إلى المرأة الحرة، فقال عوام أهل العلم: الوصية لها جائزة، واحتج أحمد بأن عمر أوصى إلى حفصة، وروي عن عطاء بن أبي رباح أنه قال في رجل أوصى إلى امرأته قال: لا تكون المرأة وصيا، فإن فعل حولت إلى رجل من قومه، واختلفوا في الوصية إلى العبد، فمنعه الشافعي وأبو ثور ومحمد ويعقوب، وأجازه مالك والأوزاعي وابن عبد الحكم، وهو قول النخعي إذا أوصى إلى عبده.

2. ﴿السُّفَهَاءُ﴾ قد مضى في البقرة معنى السفه لغة، واختلف العلماء في هؤلاء السفهاء، من هم؟

أ. فروى سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: هم اليتامى لا تؤتوهم أموالكم، قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية.

ب. وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي مالك قال: هم الأولاد الصغار، لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها وتبقوا بلا شي.

ج. وروى سفيان عن حميد الأعرج عن مجاهد قال: هم النساء، قال النحاس وغيره: وهذا القول لا يصح، إنما تقول العرب في النساء سفائه أو سفيهات، لأنه الأكثر في جمع فعيلة.

د. ويقال: لا تدفع مالك مضاربة ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة، وروي عن عمر أنه قال: من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا، فذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ يعني الجهال بالأحكام.

هـ. ويقال: لا تدفع إلى الكفار، ولهذا كره العلماء أن يوكل المسلم ذميا بالشراء والبيع، أو يدفع إليه مضاربة.

و. وقال أبو موسى الأشعري: السفهاء هنا كل من يستحق الحجر، وهذا جامع.

ز. وقال ابن خويز منداد: وأما الحجر على السفيه فالسفيه له أحوال: حال يحجر عليه لصغره، وحالة لعدم عقله بجنون أو غيره، وحالة لسوء نظره لنفسه في ماله، فأما المغمى عليه فاستحسن مالك ألا يحجر عليه لسرعة زوال ما به، والحجر يكون مرة في حق الإنسان ومرة في حق غيره، فأما المحجور عليه في حق نفسه من ذكرنا، والمحجور عليه في حق غيره العبد والمديان والمريض في الثلثين، والمفلس وذات الزوج لحق الزوج، والبكر في حق نفسها، فأما الصغير والمجنون فلا خلاف في الحجر عليهما، وأما الكبير فلأنه لا يحسن النظر لنفسه في ماله، ولا يؤمن منه إتلاف ما له في غير وجه، فأشبه الصبي، وفيه خلاف يأتي، ولا فرق بين أن يتلف ما له في المعاصي أو في القرب والمباحات، واختلف أصحابنا إذا أتلف ما له في القرب، فمنهم من حجر عليه، ومنهم من لم يحجر عليه، والعبد لا خلاف فيه، والمديان ينزع ما بيده لغرمائه، لإجماع الصحابة، وفعل عمر ذلك بأسيفع جهينة، ذكره مالك في الموطأ، والبكر ما دامت في الخدر محجور عليها، لأنها لا تحسن النظر لنفسها، حتى إذ تزوجت ودخل إليها الناس، وخرجت وبرز وجهها عرفت المضار من المنافع، وأما ذات الزوج فلأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لا يجوز لامرأة ملك زوجها عصمتها قضاء في مالها إلا في ثلثها.

ح. وأما الجاهل بالأحكام وإن كان غير محجور عليه لتنميته لماله وعدم تدبيره، فلا يدفع إليه المال، لجهله بفاسد البياعات وصحيحها وما يحل وما يحرم منها، وكذلك الذمي مثله في الجهل بالبياعات ولما يخاف من معاملته بالربا وغيره.

3. واختلفوا في وجه إضافة المال إلى المخاطبين على هذا، وهي للسفهاء:

أ. فقيل: أضافها إليهم لأنها بأيديهم وهم الناظرون فيها فنسبت إليهم اتساعا، كقوله تعالى: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ وقوله ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾، وقيل: أضافها إليهم لأنها من جنس أموالهم، فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد، ومن ملك إلى ملك، أي هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أعراضكم وتصونكم وتعظم أقداركم، وبها قوام أمركم.

ب. وقول ثان قاله أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة: أن المراد أموال المخاطبين حقيقة، قال ابن عباس: لا تدفع مالك الذي هو سبب معيشتك إلى امرأتك وابنك وتبقى فقيرا تنظر إليهم وإلى ما في أيديهم، بل كن أنت الذي تنفق عليهم، فالسفهاء على هذا هم النساء والصبيان، صغار ولد الرجل وامرأته، وهذا يخرج مع قول مجاهد وأبي مالك في السفهاء.

4. دلت الآية على جواز الحجر على السفيه، لأمر الله تعالى بذلك في قوله: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾، وقال: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا﴾، فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضعيف، وكان معنى الضعيف راجعا إلى الصغير، ومعنى السفيه إلى الكبير البالغ، لأن السفه اسم ذم ولا يذم الإنسان على ما لم يكتسبه، والقلم مرفوع عن غير البالغ، فالذم والحرج منفيان عنه، قاله الخطابي.

5. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بفروع المسائل المتعلقة بالسفيه والحجر عليه، ومحلها كتب الفقه، وليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.

6. ﴿الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ أي لمعاشكم وصلاح دينكم، وفي ﴿الَّتِي﴾ ثلاث لغات: التي والت بكسر التاء والت بإسكانها، وفي تثنيتها أيضا ثلاث لغات: اللتان واللتا بحذف النون واللتان بشد النون، وأما الجمع فتأتي لغاته في موضعه من هذه السورة إن شاء الله تعالى.

7. القيام والقوام: ما يقيمك بمعنى، يقال: فلان قيام أهله وقوام بيته، وهو الذي يقيم شأنه، أي يصلحه، ولما انكسرت القاف من قوام أبدلوا الواو ياء، وقراءة أهل المدينة ﴿قَيِّمًا﴾ بغير ألف، قال الكسائي والفراء قيما وقواما بمعنى قياما، وانتصب عندهما على المصدر، أي ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم فيقوموا بها قياما، وقال الأخفش: المعنى قائمة بأموركم، يذهب إلى أنها جمع، وقال البصريون: قيما جمع قيمة، كديمة وديم، أي جعلها الله قيمة للأشياء، وخطأ أبو علي هذا القول وقال: هي مصدر كقيام وقوام وأصلها قوم، ولكن شذت في الرد إلى الياء كما شذ قولهم: جياد في جمع جواد ونحوه، وقوما وقواما وقياما معناها ثباتا في صلاح الحال ودواما في ذلك، وقرأ الحسن والنخعي ﴿اللَّاتِي﴾ جعل على جمع التي، وقراءة العامة ﴿الَّتِي﴾ على لفظ الجماعة، قال الفراء: الأكثر في كلام العرب النساء اللواتي، والأموال التي وكذلك غير الأموال، ذكره النحاس.

8. ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ قيل: معناه اجعلوا لهم فيها أو افرضوا لهم فيها، وهذا فيمن يلزم الرجل نفقته وكسوته من زوجته وبنيه الأصاغر، فكان هذا دليلا على وجوب نفقة الولد على الوالد والزوجة على زوجها، وفي البخاري عن أبي هريرة قال: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أفضل الصدقة ما ترك غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ويقول العبد أطعمني واستعملني ويقول الابن أطعمني إلى من تدعني؟ فقالوا: يا أبا هريرة، سمعت هذا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ قال: لا، هذا من كيس أبي هريرة!، قال المهلب: النفقة على الأهل والعيال واجبة بإجماع، وهذا الحديث حجة في ذلك.

9. قال ابن المنذر: واختلفوا في نفقة من بلغ من الأبناء ولا مال له ولا كسب، فقالت طائفة: على الأب أن ينفق على ولده الذكور حتى يحتلموا، وعلى النساء حتى يتزوجن ويدخل بهن، فإن طلقها بعد البناء أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها، وإن طلقها قبل البناء فهي على نفقتها.

10. ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ أراد تليين الخطاب والوعد الجميل، واختلف في القول المعروف، فقيل: معناه ادعوا لهم: بارك الله فيكم، وحاطكم وصنع لكم، وأنا ناظر لك، وهذا الاحتياط يرجع نفعه إليك، وقيل: معناه وعدوهم وعدا حسنا، أي إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم، ويقول الأب لابنه: مالي إليك مصيره، وأنت إن شاء الله صاحبه إذا ملكت رشدك وعرفت تصرفك.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/28.

المنصور بالله:

ذكر الإمام القاسم بن محمد (ت 1029 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كلمة السفهاء في الآية: تناول العصاة؛ بدليل قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ [البقرة:142].. ومما يخص تحريم تسليم الأموال إليهم قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ الآية [النساء:5]، ووجه الاستدلال بها: أن تفسيرها لا يخلو من أحد معنيين: إما أن يكون المراد بالسفهاء: الذين ينفقون المال في المعاصي، أو الذين يضيعونه؛ فأيهما ثبت فلا يخلو من أحد وجهين أيضا، وذلك: إما أن تكون الآية عامة في كل السفهاء، أو خاصة بمن يجب إنفاقه أو يستحب، أو يباح إن كانت عامة، وكان المراد بالسفهاء: من ينفق المال في المعاصي فواضح؛ لأن الذين يسلمون المال إليهم، وينفقونه في المعاصي قد تناولتهم الآية بصريحها؛ لأنهم ينفقونه في المعاصي، من سفك الدماء، ونهب الأموال، واضطهاد المحقين، وظلم الأيتام والأرامل والمساكين.

2. ويجب أن يكون قوله تعالى: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ [النساء:5] خاص بسد فاقة من لا يحل دمه، وستر عورته، ممن يجب إنفاقه أو يستحب أو يباح من أهل المعاصي، دون الذين يبغون في الأرض بغير الحق، من سلاطين الجور وأعوانهم؛ لقوله تعالى: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي﴾ الآية، وثمرة القتال: إتلافهم بأي ممكن، وسلبهم، وانتهاب ما يجلبون به على المسلمين، ويتقوون به، ومن أطعمهم أو كساهم فقد ناقض في ذلك حكم أحكم الحاكمين، وإن كانت خاصة بمن عدا الباغين من الذين يجب إنفاقهم، أو يستحب، أو يباح، وكان المراد بالسفهاء: من ينفق المال في المعاصي أيضا، فهي تدل على تحريم تسليم الأموال إلى غيرهم من الظالمين بالفحوى؛ لأنه إذا حرم تسليم المال إلى من ينفقه في المعاصي من خواص الإنسان، أو إلى من يستحب له أن ينفقه أو يباح، فب الأولى: أن يحرم تسليمه إلى من ينفقه في المعاصي من غيرهم؛ لأنه لا أصل لجواز تسليم المال إليه، وهو على تلك الحال ألبتة، وإن كان المراد بالسفهاء: من يضيع المال، فإنه يدل على تحريم تسليم المال إلى من ينفقه في المعاصي بالفحوى، سواء كانت الآية عامة أو خاصة بمن تقدم ذكره، [أما حيث كانت الآية عامة فواضح]، وأما حيث كانت خاصة بمن يجب إنفاقه أو يستحب أو يباح ـ فإنه إذا حرم تسليم الأموال إلى من يضيعها منهم، فإن تسليم الأموال إلى من ينفقها في المعاصي ـ أعظم، لا يخفى ذلك، وجميع ذلك مبني على: أن المراد بالأموال: أموال المعطين ـ بكسر الطاء ـ، كما هو ظاهر الآية الكريمة، لا أموال السفهاء، كما ذهب إليه بعض المفسرين؛ فأما على مذهبه هذا إن صح: فاعلم أنه إذا كان حرام أن يسلم إلى الإنسان نفس ما يملكه؛ لأجل أن يضيعه، أو ينفقه في المعاصي ـ فتسليم ما لا يملك العاصي من المال إليه؛ لينفقه في المعاصي ـ أعظم، ودلالة الآية على تحريمه أقوى، وذلك بحمد الله واضح.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/206.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا رجوع إلى بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى، وقد تقدّم الأمر بدفع أموالهم إليهم في قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ فبين سبحانه هاهنا أن السفيه وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه، وقد تقدّم في البقرة: معنى السفيه لغة.

2. اختلف أهل العلم في هؤلاء السفهاء من هم؟ فقال سعيد بن جبير: هم اليتامى، لا تؤتوهم أموالكم، قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية، وقال مالك: هم الأولاد الصغار، لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها، وتبقوا بلا شيء، وقال مجاهد: هم النساء، قال النحاس وغيره: وهذا القول لا يصح، إنما تقول العرب: سفائه أو سفيهات، واختلفوا في وجه إضافة الأموال إلى المخاطبين وهي للسفهاء، فقيل: أضافها إليهم: لأنها بأيديهم وهم الناظرون فيها، كقوله: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾، وقوله: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: ليسلم بعضكم على بعض، وليقتل بعضكم بعضا؛ وقيل: أضافها إليهم: لأنها من جنس أموالهم، فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق في الأصل؛ وقيل: المراد: أموال المخاطبين حقيقة، وبه قال أبو موسى الأشعري، وابن عباس، والحسن، وقتادة، والمراد: النهي عن دفعها إلى من لا يحسن تدبيرها، كالنساء والصبيان، ومن هو ضعيف الإدراك لا يهتدي إلى وجوه النفع التي تصلح المال، ولا يتجنب وجوه الضرر التي تهلكه وتذهب به.

3. ﴿الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ المفعول الأوّل محذوف، والتقدير: التي جعلها الله لكم، و(قيما): قراءة أهل المدينة وأبي عامر، وقرأ غيرهم: (قياما)، وقرأ عبد الله ابن عمر: (قواما) والقيام، والقوام: ما يقيمك، يقال: فلان قيام أهله، وقوام بيته، وهو الذي يقيم شأنه، أي: يصلحه، ولما انكسرت القاف في قوام؛ أبدلوا الواو ياء، قال الكسائي والفراء: قيما، وقواما: بمعنى قياما، وهو منصوب على المصدر، أي: لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم فتقومون بها قياما، وقال الأخفش: المعنى: قائمة بأموركم، فذهب إلى أنها جمع، وقال البصريون: قيما: جمع قيمة، كديمة وديم، أي: جعلها الله قيمة للأشياء، وخطأ أبو علي الفارسي هذا القول وقال: هي مصدر، كقيام وقوام، والمعنى: أنها صلاح للحال وثبات له، فأما على قول من قال إن المراد: أموالهم على ما يقتضيه‏ ظاهر الإضافة، فالمعنى واضح، وأما على قول من قال إنها أموال اليتامى، فالمعنى: أنها من جنس ما تقوم به معايشكم، ويصلح به حالكم من الأموال، وقرأ الحسن والنخعي: (اللاتي جعل) قال الفراء: الأكثر في كلام العرب النساء اللواتي، والأموال التي، وكذلك غير الأموال، ذكره النحاس.

4. ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ أي: اجعلوا لهم فيها رزقا أو افرضوا لهم، وهذا فيمن تلزم نفقته وكسوته من الزوجات الأولاد ونحوهم، وأما على قول من قال إن الأموال هي أموال اليتامى، فالمعنى: اتجروا فيها حتى تربحوا وتنفقوا عليهم من الأرباح، أو اجعلوا لهم من أموالهم رزقا ينفقونه على أنفسهم ويكتسون به، وقد استدلّ بهذه الآية: على جواز الحجر على السفهاء، وبه قال الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يحجر على من بلغ عاقلا، واستدل بها أيضا: على وجوب نفقة القرابة، والخلاف في ذلك معروف في مواطنه.

5. ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ قيل: ادعوا لهم: بارك الله فيكم، وح، وصنع لكم؛ وقيل: معناه: عدوهم وعدا حسنا، قولوا لهم: إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم؛ ويقول الأب لابنه: مالي سيصير إليك، وأنت إن شاء الله صاحبه، ونحو ذلك، والظاهر من الآية من يصدق عليه مسمى القول الجميل، ففيه إرشاد إلى حسن الخلق مع الأهل الأولاد، أو مع الأيتام المكفولين، وقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما صحّ عنه: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/490.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُوتُواْ﴾ الخطاب للأولياء ونحوهم من الأوصياء والأزواج والوكلاء والمحتسبين، ﴿السُّفَهَآءَ﴾ الأطفالَ والمجانين والبلَّه، ومن يُضيِّع ماله، أو ينفقه في المعصية، أو لا يقوم به من الرجال والنساء، فسفههم سوء فعلهم لخفَّة عقلهم ﴿أَمْوَالَكُم﴾ أي: أموالهم، ولكن أضافها للأولياء المخاطَبين لأنَّهم أُمِروا أن تكون تحت أيديهم ويحافظوا عليها كأموالهم، ويخرجوا زكاتها، أي: لا تتركوها تحت أيديهم، إن كانت عندكم فأمسكوها، وإلَّا فخذوها حِفظًا لها، وذلك يناسبه أنَّ الكلام قبلُ وبعدُ في اليتامى فألحق بهم أمثالهم، وقيل: الخطاب لأصحاب الأموال نهوا أن يؤتوها لمن ذكر فيفسدوها، ويكونوا يطالبونهم بما يحتاجون إليه منها كأنَّهم غير مالكين لها، وأمروا بإمساكها وإقامتها، والإنفاق منها بما شاءوا عليهم من العدل، ولا يردُّ على هذا القول بِأَنَّ النهي للتحريم ولا يحرم عليه أن يعطي من ماله لهؤلاء، لأَنَّ صاحب هذا القول يفسر الإيتاء بالتمكين من المال لا بالتمليك، نعم القول المعروف المأمور به في الآية يناسب كون الخطاب للأولياء ونحوهم، ﴿الَّتِي جَعَلَ اللهُ﴾ جعلها الله ﴿لَكُمْ قِيَمًا﴾ أي: من جنس أموالكم التي تقوم بحياتكم، وذلك أَنَّ الخطاب لنحو الأولياء، والمال لنحو اليتامى وهو قيم لهم، وفيه تأكيد الحفظ كما يحفظ الرجل مال نفسه، أو يقدَّر: (جعل الله مثلها لكم قيمًا لا للأولياء)، وكأنَّها قيم لهم مع أنَّها قيم لنحو اليتامى، وإن جعلنا الخطاب لأصحاب الأموال فالمال مالهم، وهو قيم لهم، وسمِّي ما به القيم قِيَمًا مبالغة في السببيَّة، حتَّى كأنَّها نفس القيم، أو هو اسم لِمَا يُقامُ به، والأصل: قِوَمًا، كعِوَضٍ وحِوَلٍ، لكن أُعلَّت حملا على قيام، وقيل: هو قيام حذفت ألفه.

2. ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا﴾ أي: منها، أو اجعلوها مكانًا لرزقهم، أي: اجعلوا لهم فيها رزقًا بالتَّجر فلا تفنى، لكون الرزق من أرباحها، كما جاء عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم الأمر بالتجر بأموال اليتامى، وهذا أولى من الوجه الأوَّل، وهو كون (فِي) بمعنى (مِنْ) الابتدائيَّة أو التبعيضيَّة.

3. ﴿وَاكْسُوهُمْ﴾ منها، أو اجعلوها مكانًا لكسوتهم بالتجر على حدِّ ما مرَّ، ﴿وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا﴾ يُعرف شرعًا بالحسن فيتبعه العقل السليم، وهو ضدُّ المنكر، مثل أن يقول: إن ربحت في سفري أو غنمت في غزوتي، أعطك كذا، أو حظًّا، وإنَّ هذا المال مالك إذا بلغت حُسنَ القيام به أردُّه إليك، ونحو ذلك من الوعد الجميل والقول الحسن، ومنه أمره بالمحافظة على الصلاة وسائر الدين وترك الإسراف، وأنَّ عاقبة المسرف الاحتياج إلى الناس.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/115.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآية وجوه يحتملها النظم الكريم:

أ. الأول: أن يراد بالسفهاء اليتامى، كما روي عن سعيد بن جبير، والخطاب حينئذ للأولياء، نهوا أن يؤتوا اليتامى أموالهم مخافة أن يضيعوها لقلة عقولهم، لأن السفيه هو الخفيف الحلم، وإنما أضيفت للأولياء، وهي لليتامى، تنزيلا لاختصاصها بأصحابها منزلة اختصاصها بالأولياء، فكأن أموالهم عين أموالهم، لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسيّ والنسبيّ، مبالغة في حملهم على المحافظة عليها، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29]، أي لا يقتل بعضكم بعضا، حيث عبر عن بني نوعهم بأنفسهم، مبالغة في زجرهم عن قتلهم، فكأن قتلهم قتل أنفسهم، وقد أيد ذلك حيث عبر عن جعلها مناطا لمعاش أصحابها بجعلها مناطا لمعاش الأولياء، بقوله تعالى: ﴿الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾، أي جعلها الله شيئا تقومون وتنتعشون، فلو ضيعتموها لضعتم، وقوله تعالى: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ أي اجعلوها مكانا لرزقهم وكسوتهم، بأن تتجروا وتتربحوا، حتى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من صلب المال، وقوله سبحانه: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ أي كلاما لينا تطيب به نفوسهم، ومنه أن يعدهم عدة جميلة، بأن يقول وليهم: إذا صلحتم ورشدتم، سلمنا إليكم أموالكم.

ب. الثاني: أن يراد بالسفهاء الناس والصبيان، روي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما، فالخطاب عام والنهي لكل أحد أن يعمد إلى ما خوّله الله تعالى من المال فيعطيه امرأته وأولاده، ثم ينظر إلى أيديهم، وإنما سماهم سفهاء استخفافا بعقلهم واستهجانا لجعلهم قواما على أنفسهم، قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: لا تعمد إلى مالك ما خوّلك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنتك ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤنتهم ورزقهم.

ج. الثالث: أن يراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال، فيدخل فيه النساء والصبيان والأيتام وكل من كان موصوفا بهذه الصفة، قال الرازيّ: وهذا القول أولى، لأن التخصيص بغير دليل لا يجوز، قال السيوطيّ في (الإكليل): في هذه الآية الحجر على السفيه، وأنه لا يمكّن من ماله، وأنه ينفق عليه منه ويكسي، ولا ينفق في التبرعات، وأنه يقال له معروف، كـ (إن رشدت دفعنا إليك مالك، وإنما يحتاط لنفعك)

2. استدل بعموم الآية من قال بالحجر على السفيه البالغ، سواء طرأ عليه أم كان من حين البلوغ، ومن قال بالحجر على من يخدع في البيوع، ومن قال بأن من يتصدق على محجور، وشرط أن يترك في يده، لا يسمع منه في ذلك.

3. في قوله تعالى: ﴿الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ حث على حفظ الأموال وعدم تضييعها، قال الزمخشريّ: كان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن، ولأن أترك مالا يحاسبني الله عليه، خير من أن أحتاج إلى الناس، وعن سفيان، وكانت له بضاعة يقلبها: لولاها لتمندل بي بنو العباس، وعن غيره (وقيل له: إنها تدنيك من الدنيا): لأن أدنتني من الدنيا لقد صانتني عنها، وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا، فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه، وربما رأوا رجلا في جنازة، فقالوا له: اذهب إلى دكانك.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/28.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. (السفهاء) جمع سفيه من السفه والسفاهة، وتقدم في تفسير سورة البقرة أن السفه هو الاضطراب في الرأي والفكر أو الأخلاق، وأصله الاضطراب في المحسوسات وقال الراغب: السفه خفة في البدن، ومنه قيل زمام سفيه: كثير الاضطراب، وثوب سفيه رديء النسج، واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل وفي الأمور الدنيوية والأخروية، ثم جعل السفه في الأمور الدنيوية هو المراد من لفظ السفهاء، ومثل للسفه في الأمور الأخروية بقوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا﴾ [الجن: 4]، فالسفهاء هنا هم المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ويسيئون التصرف بإنمائها وتثميرها.

2. ﴿قِيَامًا﴾ تقوم بها أمور معايشكم فتحول دون وقوعكم في الفقر، وقرأها نافع وابن عامر (قيما) وهو بمعنى قياما كما يأتي، قال الراغب: القيام والقوام اسم لما يقوم به الشيء، أي يثبت كالعماد والسناد لما يعمد ويسند به، وذكر الآية وفسرت في الكشاف بقوله: أي تقومون بها وتنتعشون، ولو ضيعتموه لضعتم قال: وقرئ قيما بمعنى قياما كما جاء عوذا بمعنى عياذا.

3. ﴿وَارْزُقُوهُمْ﴾ من الرزق وهو العطاء من الأشياء الحسية والمعنوية، ويطلق على النصيب من الشيء وقد يخص الطعام، قيل: وهو الظاهر هنا لمقابلته بالكسرة، كما قال في آية المرضعات: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 233] وقد يُقال: إنه أعم في الموضعين.

4. اختلف مفسرو السلف في المراد بالسفهاء هنا، فقيل: هم اليتامى والنساء، وقيل: النساء خاصة، وقيل: الأولاد الصغار للمخاطبين، وقيل: هي عامة في كل سفيه من صغير وكبير وذكر وأنثى، واختاره ابن جرير، وجعل الخطاب لمجموع الأمة ليشمل النهي كل مال يعطى لأي سفيه، وهو أحسن الأقوال، وقال محمد عبده: أمرنا الله تعالى في الآيات السابقة بإيتاء اليتامى أموالهم وبإيتاء النساء صدقاتهن أي مهورهن وأتى في قوله: ﴿ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله قياما﴾ بشرط للإيتاء يعم الأمرين السابقين، أي أعطوا كل يتيم ماله إذا بلغ وكل امرأة صداقها إلا إذا كان أحدهما سفيها لا يحسن التصرف في ماله؛ فحينئذ يمتنع أن تعطوه إياه لئلا يضيعه؛ ويجب أن تحفظوه له أو يرشد.

5. إنما قال ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ ولم يقل أموالهم مع أن الخطاب للأولياء والمال للسفهاء الذين في ولايتهم للتنبيه على أمور:

أ. أحدها: أنه إذا ضاع هذا المال ولم يبق للسفيه من ماله ما ينفق منه عليه وجب على وليه أن ينفق عليه من مال نفسه، فبذلك تكون إضاعة مال السفيه مفضية إلى إضاعة شيء من مال الولي، فكأن ماله عين ماله.

ب. ثانيها: أن هؤلاء السفهاء إذا رشدوا وأموالهم محفوظة لهم وتصرفوا فيها تصرف الراشدين وأنفقوا منها في الوجوه الشرعية من المصالح العامة والخاصة فإنه يصيب هؤلاء الأولياء حظ منها.

ج. ثالثها: التكافل في الأمة واعتبار مصلحة كل فرد من أفرادها عين مصلحة الآخرين، كما قلناه في آيات أخرى.

6. ذهب الجلال إلى أنه أضاف الأموال إليهم لأنها في أيديهم كأنه قال: ولا تؤتوا السفهاء أموالهم التي في أيديكم وهو غير ظاهر، وما قال من قال: إن السفهاء هنا هم أولاد المخاطبين الصغار إلا لحيرته في هذه الكاف في قوله: ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ وعدم ظهور النكتة له في إيثار ضمير الخطاب على ضمير الغيبة وقوله لكم، وأجاب الرازي بجوابين للزمخشري: أحدهما: أنه أضاف المال إليهم لا لأنهم ملكوه، بل أنهم ملكوا التصرف فيه، قال: ويكفي لحسن الإضافة أدنى سبب، وهو الذي جرى عليه الجلال، ثانيهما قوله: إنما حسنت هذه الإضافة إجراء للوحدة بالنوع مجرى الوحدة بالشخص، ونظيره قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: 128] وقوله: ﴿فما ملكت أيمانكم﴾ [النساء: 25] وقوله: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 54] وقوله: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 85] ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه وإنما كان بعضهم يقتل بعضا وكان الكل من نوع واحد، فكذا ههنا المال شيء واحد ينتفع به نوع الإنسان ويحتاج إليه، فلأجل هذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء إلى أوليائهم.

7. وهذا أوسع مما قاله محمد عبده في الأمر الثالث، وهو غير ظاهر في النوع كما هو ظاهر في قوم المخاطبين الذين اتحدت مصالحهم بمصالحهم، وكذلك لا يظهر في النظائر والشواهد التي أوردها، فإن الذين أمروا بقتل أنفسهم أي قتل بعضهم بعضا لم يؤمروا بذلك لاشتراكهم في النوع، وهو كونهم من البشر، وإنما أمروا بذلك لأنهم أمة لها ملة ترتبط بها مصالحهم فخالفوها فاستحقوا العقاب لتكافلهم باشتراكهم في الذنب وعدم التناهي عنه؛ ولو أنهم قتلوا قوما آخرين من نوع البشر لما كانوا ممتثلين للأمر، ولما قيل لهم: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ والراجح في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: 128] أنه خطاب للعرب الذين هم قوم الرسول لله وإن كانت البعثة عامة كما بينا ذلك في موضع آخر: ومن قال إنه خطاب لجميع الناس فوجهه أنهم مشتركون في تكليفهم اتباعه وفي كونه رسولا إليهم، فلا بد في إقامة الوحدة النوعية أو القومية أو الأهلية مقام الوحدة الشخصية من اشتراك أفراد النوع أو القوم أو الأهل في المعنى الذي سيق الكلام لأجله كما بينه محمد عبده في توجيه إسناد ما فعله بنو إسرائيل في زمن موسى عليه السلام إلى أبنائهم الذين كانوا في زمن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لتأثير أعمال السلف في الخلف بالوراثة والقدوة ولو جعلت الوحدة في الآية التي نفسرها بين الأولياء والسفهاء وحدة القرابة والكفالة التي هي أخص من الوحدة الأمية والقومية التي قال بها محمد عبده لكان المعنى أظهر، كما أن ما قاله هو أظهر مما قاله الإمام الرازي، وذلك أن الاشتراك في المصلحة والمنفعة بين الأولياء والسفهاء في الأموال مطرد تظهر فيه الوحدة دائما، ولكن محمد عبده جعلها من قبيل وحدة الأمة وتكافلها إلحاقا لها بنظائرها الكثيرة في القرآن.

8. علم من تفسير المفردات معنى جعل الأموال قياما للناس تقوم وتثبت بها منافعهم ومرافقهم ولا يمكن أن يوجد في الكلام ما يقوم مقام هذه الكلمة ويبلغ ما تصل إليه من البلاغة في الحث على الاقتصاد وبيان فائدته ومنفعته، والتنفير عن الإشراف والتبذير الذي هو شأن السفهاء وبيان غائلته وسوء مغبته، فكأنه قال: إن منافعكم ومرافقكم الخاصة ومصالحكم العامة لا تزال قائمة ثابتة مادامت أموالكم في أيدي الراشدين المقتصدين منكم الذين يحسنون تثميرها وتوفيرها ولا يتجاوزون حدود المصلحة في إنفاق ما ينفقونه منها، فإذا وقعت في أيدي السفهاء المسرفين الذين يتجاوزون الحدود المشروعة والمعقولة يتداعى ما كان من تلك المنافع سالما ويسقط ما كان من تلك المصالح قائما، فهذا الدين هو دين الاقتصاد والاعتدال في الأموال كالأمور كلها، ولذلك وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67] فهذه الآيات شارحة للفظ (قياما) في الآية التي نفسرها.

9. وقد نهانا القرآن عن التبذير حتى في مقام الإنفاق والتصدق المؤكد وجعل المبذر كالشيطان مبالغا في الكفر، وبين سوء عاقبة المتوسع في النفقة إلى حد الإسراف كما في سورة الإسراء، وفي الأحاديث النبوية مثل ذلك، فمنها (ما عال من اقتصد) رواه أحمد عن ابن مسعود، وهو حديث حسن، و(الاقتصاد نصف المعيشة وحسن الخلق نصف الدين) رواه الخطيب عن أنس، والطبراني والبيهقي عن ابن عمر بلفظ: (الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة والتودد إلى الناس نصف العقل وحسن السؤال نصف العلم) وغيرهم بألفاظ أخرى ـ: (من فقه الرجل رفقه في معيشته) رواه أحمد والطبراني عن أبي الدرداء وهو حديث حسن، (ومن اقتصد أغناه الله ومن بذر أفقره الله) الخ رواه البزار عن أبي طلحة وسنده ضعيف، ومن الأحاديث في فضل الغنى حديث سعد المتفق عليه (إنك ان تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) وحديثه عند مسلم (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) وحديث حكيم بن حزام في الصحيحين (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى) الخ وحديث عمرو بن العاص عند أحمد بسند صحيح (نعمّا المال الصالح للمرء الصالح) وحديث أنس عند مسلم والبيهقي (كاد الفقر أن يكون كفرا)

10. فماذا جرى لنا نحن المسلمين بعد هذه الوصايا والحكم حتى صرنا أشد الأمم إسرافا وتبذيرا وإضاعة للأموال وجهلا بطرق الاقتصاد فيها وتثميرها وإقامة مصالح الأمة بها في هذا الزمن الذي لم يسبق له نظير في أزمنة التاريخ من حيث توقف قيام مصالح الأمم ومرافقها وعظمة شأنها على المال حتى أن الأمم الجاهلة بطرق الاقتصاد التي ليس في أيديها مال كثير قد صارت مستذلة ومستعبدة للأمم الغنية بالبراعة في الكسب والإحسان في الاقتصاد؟

11. وماذا جرى لتلك الأمم التي يقول لها كتابها الديني كما في إنجيل متى 19: 23 (إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات وأقول لكم إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات) ويقول كما في 6: 24 منه) لا تقدرون أن تخدموا الله والمال، لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم) الخ وفي 10: 9 منه: (لا تقتنوا ذهبا ولا فضة) ـ ماذا جرى لها في دينها حتى صارت أبرع الخلق في فنون الثروة والاقتصاد وأبعدها عن الإسراف والتبذير وسادت بالغنى والثروة على جميع أمم الأرض؟؟ ألا وهي أمم الإفرنجة.

12. كيف جاز أن يسمى ما نحن عليه مدنية إسلامية مع مخالفتنا للقرآن في هذا الأمر الذي هو قوام المدنية، كما خالفه جماهيرنا في أكثر ما أرشد إليه؟ وكيف جاز أن تسمى مدنيتهم مدنية مسيحية مع بناء تعاليم المسيح على المبالغة في الزهد وبغض المال، كما هو صريح في هذه الأناجيل التي بين أيدي القوم يدعون اتباعها ويدعون إليها غيرهم وهم لها مخالفون، وعنها معرضون!

13. أما السبب فيما نحن عليه من سوء الحال في دنيانا ومخالفة نص كتابنا فهو ظاهر معروف عند الباحثين، وهو أننا أخذنا بالتقليد الذي حرمه الله علينا وتركنا هداية القرآن ونبذناها وراء ظهورنا وأخذنا في الأخلاق والآداب التي هي روح حياة الأمم بأقوال فلان وفلان من الجاهلين، الذين لبسوا علينا بلباس الصالحين، فنفثوا في الأمة سموم المبالغة في التزهيد والحث على إنفاق جميع ما تصل إليه اليد، وإنما كان يريد أكثرهم إنفاق كسب الكاسبين عليهم وهم كسالى لا يكسبون، لزعمهم أنهم بحب الله مشغولون:

çوذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها...أفاويق حتى ما تدر لها ثعلé

حتى صار المعروف المقرر عند جميع شعوب المسلمين إدرار المال والرزق على علماء الدين، وشيوخ الطريق (الصالحين)، فهم يأكلون مال الأمة بدينهم ويرون أن لهم الفضل عليها بقبوله منها، وإن قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث الصحيحين (اليد العليا خير من اليد السفلى)

14. قال محمد عبده: في هذه الجملة من الآية تحريض على حفظ المال وتعريف بقيمته فلا يجوز للمسلم أن يبذر أمواله، وكان السلف من أشد الناس محافظة على ما في أيديهم وأعرف الناس بتحصيل المال من وجوه الحلال، فأين من هذا ما نسمعه من خطباء مساجدنا من تزهيد الناس وغل أيديهم وإغرائهم بالكسل والخمول حتى صار المسلم يعدل عن الكسب الشريف إلى الكسب المرذول من الغش والحيلة والخداع، ذلك أن الإنسان ميال بطبعه إلى الراحة، فعندما يسمع من الخطباء والعلماء والمعروفين بالصلحاء عبارات التزهيد في الدنيا فإنه يرضي بها ميله إلى الراحة ثم إنه لا بد له من الكسب فيختار أقله سعيا وأخفه مؤنة وهو أخسه وأبعده عن الشرف، على أن هذا التزهيد في الدنيا من هؤلاء لم يأت بما يساق لأجله من الترغيب في الآخرة والاستعداد لها بل إن خطباءنا ووعاظنا قد زهدوا الناس في الدنيا وقطعوهم عن الآخرة فخسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، وما ذلك إلا لجهلهم وعدم عملهم بما يعظون به غيرهم والواجب على المسلم العارف بالإسلام أن يبين للناس الجمع بين الدنيا والآخرة.

15. ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ أما من فسروا السفهاء بأولاد المخاطبين ونسائهم معا أو بأحدها وجعلوا إضافة أموال المخاطبين إليهم على حقيقتها، فقالوا في معنى هذه الجملة: إذا امتنع عليكم أيها الناس أن تعطوا أموالكم ولدانكم ونساءكم خشية أن يبذروها ويتلفوها وهي قيامكم وعليها مدار معاشكم، فعليكم أن تتولوا أنتم إصلاحها وتثميرها والإنفاق عليهم منها في طعامهم وكسوتهم، فهي في وجوب إنفاق الرجل على زوجه وأولاده القاصرين الذين لا يحسنون الكسب، وروي نحوه عن ابن عباس، ومن قالوا إن الكلام في السفهاء عامة وفي حفظ الأولياء لأموالهم قالوا: إن معناها يا أيها الأولياء الذين عهد إليكم حفظ أموال السفهاء وتثميرها حتى كأنها ـ بهذا التصرف وبارتباط مصالح أصحابها بمصالحكم وبتكامل الأمة والعشيرة ووحدتها ـ أموالكم يجب عليكم أن تنفقوا على السفهاء فتقدموا لهم كفايتهم من الطعام والثياب وغير ذلك، ومن قالوا إن لفظ السفهاء عام في أولاد المخاطبين ونسائهم واليتامى وغيرهم ولفظ أموالكم عام فيما هو للمخاطبين وهم جميع المكلفين وما هو للسفهاء، وهو الذي اختاره ابن جرير ـ وقلنا إنه أحسن الأقوال ـ جعلوا معناها شاملا للمعنيين السابقين في الإنفاق على من تجب على الرجل نفقته من مال نفسه والإنفاق على من يتولى أمره من السفهاء ممن لا تجب عليه نفقته من ماله أي مال نفسه.

16. إنما قال: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا﴾ ولم يقل منها لأن المراد كما قال في الكشاف اجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا، حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فلا يأكلها الإنفاق، أي إن ما ينفق من أصله وصلبه ينقص رويدا رويدا حتى يهذب كله، وتبع الكشاف فيما قال الإمام الرازي ومحمد عبده، وقال محمد عبده: الرزق يعم وجوه الإنفاق كلها كالأكل والمبيت والزواج والكسوة وإنما قال: ﴿وَاكْسُوهُمْ﴾ فخص الكسوة بالذكر لأن الناس يتساهلون فيها أحيانا وتخصيص الجلال) ـ أي وغيره ممن نقل هو عنهم ـ الرزق بالإطعام لا يصح، وقال الرازي: إن الرزق من العباد هو الإجراء الموظف لوقت معلوم، يقال فلان رزق عياله أي أجرى عليهم اه يعني أن كل النفقات المرتبة في أوقات معينة تسمى رزقا وهو معنى اصطلاحي أخص من المعنى اللغوي، والغرض من هذا وذاك هو جعلهم الرزق هنا شاملا لأنواع النفقات الواجبة بالنص، حتى لا يقول قائل إن الواجب هو الطعام والكسوة دون الإيواء والتربية والتعليم وغير ذلك.

17. فسر بعضهم قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ بتعليمهم ما يجب علمه وما يجب العمل به، نقله الرازي عن الزجاج، وقيل هو الوعد الجميل للسفيه بإعطائه ماله عند الرشد، وقيل بل وعده بزيادة الإدرار عليه والتوسعة عند زيادة ربح المال وغلته، وقيل هو الدعاء، وفصل القفال فقال: إن كان المولى عليه صبيا (أي صغيرا ولو أنثى) فالولي يعرفه أن المال ماله وهو خازن له، وأنه إذا زال صباه فإنه يرد المال عليه وإذا كان المولى عليه سفيها وعظه ونصحه وحثه على الصلاة ورغبه في ترك التبذير والإسراف، وعرفه أن عاقبته الفقر والاحتياج إلى الخلق إلى ما يشبه هذا النوع من الكلام، قال الرازي وهذا الوجه أحسن من سائر الوجوه، وقال محمد عبده: المعروف هنا يشمل تطييب القلوب بإفهام السفيه أن المال ماله لا فضل لأحد في الإنفاق منه عليه ليسهل عليه الحجر، ويشمل النصح والإرشاد وتعليم ما ينبغي أن يعلمه السفيه وما يعده للرشد، فإن السفه كثيرا ما يكون عارضا للشخص لا فطريا، فإذا عولج بالنصح والتأديب حسنت حاله؛ فهذا هو القول المعروف الذي أمر الله أولياء السفهاء به زيادة على حفظ أموالهم وتثميرها والإنفاق عليهم منها.

18. أين مكان هذه الوصايا والأوامر الإلهية من الأولياء والأوصياء الذين نعرفهم في هذا الزمان يأكلون أموال السفهاء ويمدونهم في سفههم ويحولون بينهم وبين أسباب الرشد ليبقوا متمتعين بالتصرف في أموالهم؟

__________

(1) تفسير المنار: ‏4/379.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن أمرنا الله تعالى في الآيات السالفة بإيتاء اليتامى أموالهم، وبإيتاء النساء مهورهن أتى في هذه الآية بشرط للإيتاء يشمل الأمرين معا وهو ألا يكون كل منهما سفيها، مع بيان أنهم يرزقون فيها، ويكسون ما دامت في أيديهم مع قول المعروف لهم حتى تحسن أحوالهم، وأنه لا تسلم إليهم الأموال إلا إذا أونس منهم الرشد، وأنه لا ينبغي الإسراف‏ في أكل أموال اليتامى، فمن كان من الأولياء غنيا فليعف عن الأكل من أموالهم، ومن كان فقيرا فليأكل بما يبيحه الشرع، ويستجيزه أرباب المروءة.

2. ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ هذا خطاب لمجموع الأمة، والنهى شامل لكل مال يعطى لأىّ سفيه، أي أعطوا كل يتيم ماله إذا بلغ، وكل امرأة صداقها إلا إذا كان أحدهما سفيها لا يحسن التصرف في ماله فامنعوه منه لئلا يضيعه، واحفظوه له حتى يرشد.

3. إنما قال ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ ولم يقل أموالهم مع أن الخطاب للأولياء والمال مال السفهاء الذين في ولايتهم، لينبهنا إلى أنه إذا ضاع هذا المال وجب على الولي أن ينفق عليه من مال نفسه، فإضاعته مفضية إلى إضاعة شيء من مال الولي فكأن ماله عين ماله، وإلى أن الأمة متكافلة في المصالح، فمصلحة كل فرد فيها كأنها مصلحة للآخرين.

4. معنى جعل الأموال قياما للناس، أن بها تقوم وتثبت منافعهم ومرافقهم، فمنافعهم الخاصة، ومصالحهم العامة لا تزال قائمة ثابتة ما دامت أموالهم في أيدى الراشدين المقتصدين منهم الذين يحسنون تثميرها وتوفيرها، ولا يتجاوزون حدود المصلحة في الإنفاق، وفي هذا حث عظيم على الاقتصاد بذكر فوائده، وتنفير من الإسراف والتبذير ببيان مغبته، فإن الأموال إذا وقعت في أيدى السفهاء المسرفين فات ما كان من تلك المنافع قائما، ومن ثم وصف الله المؤمنين بقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾، وقد ورد في السنة النبوية حثّ كثير على الاقتصاد، من ذلك ما رواه أحمد عن ابن مسعود: (ما عال من اقتصد)، وما رواه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر: (الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن العقل نصف العلم) وإن من أشد العجب أن يكون حال المسلمين اليوم ما نرى من الإسراف والتبذير، وكتابهم يهديهم إلى ما للاقتصاد من فوائد، وما للتبذير من مضار، إلى ما للمال في هذا الزمن من المنزلة التي لا يقدر قدرها حتى صارت جميع المرافق موقوفة على المال، وأصبحت الأمم الجاهلة بطرق الاقتصاد وليس في أيديها المال مستذلة مستعبدة للأمم الغنية ذات البراعة في الكسب والإحسان في الاقتصاد وجمع المال.

5. لا سبب لهذا إلا أنا نبذنا هدى القرآن وراء ظهورنا، وأخذنا بآراء الجاهلين الذين لبسوا على الناس ونفثوا سمومهم وبالغوا في التزهيد والحث على إنفاق ما تصل إليه الأيدى، مع أن السلف الصالح كانوا من أشد الناس محافظة على ما في أيديهم، وأعرف الناس بتحصيل المال من وجوه الكسب الحلال، وليت هذا التزهيد أتى بالغرض المسوق لأجله من الترغيب في الآخرة والعمل لها، لكنهم زهدوهم في الدنيا وقطعوهم عن الآخرة فخسروهما معا، وما ذاك إلا لجهلهم بهدى الإسلام وهو السعى للدنيا والعمل للآخرة كما ورد في الأثر (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا)

6. ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ الرزق يعم وجوه الإنفاق جميعها كالأكل والمبيت والزواج والكسوة، وإنما خص الكسوة بالذكر، لأن الناس يتساهلون فيها أحيانا، وقال (فيها) ولم يقل منها إشارة إلى أن الأموال تتخذ مكانا للرزق بالتجارة فيها فتكون النفقات من الأرباح لا من صلب المال حتى لا يأكلها الإنفاق، أي أيها الأولياء الذين عهد إليكم حفظ أموال السفهاء وتثميرها حتى كأنها أموالكم، عليكم أن تنفقوا عليهم فتقدموا لهم كفايتهم من الطعام والثياب ونحو ذلك.

7. ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ أي فليقل كل ولى للمولى عليه إذا كان صغيرا: المال مالك وما أنا إلا خازن له وإذا كبرت رد إليك؛ وإذا كان سفيها وعظه ونصحه، ورغبه في ترك التبذير والإسراف، وعرفه أن عاقبة ذلك الفقر والاحتياج إلى الخلق إلى نحو ذلك، كما يعلمه كل ما يوصله إلى الرشد، وبذا قد تحسن حاله، فربما كان السفه عارضا لا فطريا، فبالنصح والإرشاد والتأديب يزول ذلك العارض ويصبح رشيدا.

8. أين هذا مما يفعله الأولياء والأوصياء من أكل أموال السفهاء ومدهم في غيهم وسفههم حتى يحولوا بينهم وبين أسباب الرشد، وما مقصدهم من ذلك إلا بقاء الأموال تحت أيديهم يتمتعون بها، ويتصرفون فيها بحسب أهوائهم وشهواتهم.

__________

(1) تفسير المراغى: 4/186.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. إذا انتهى من هذا الاستطراد ـ الذي دعا إليه الحديث عن الزواج من اليتيمات ومن غيرهن من النساء ـ عاد إلى أموال اليتامى؛ يفصل في أحكام ردها إليهم، بعد أن قرر في الآية الثانية من السورة مبدأ الرد على وجه الإجمال.

2. إن هذا المال، ولو أنه مال اليتامى، إلا أنه ـ قبل هذا ـ مال الجماعة، أعطاها الله إياه لتقوم به؛ وهي متكافلة في الانتفاع بهذا المال على أحسن الوجوه: فالجماعة هي المالكة ابتداء للمال العام، واليتامى أو مورثوهم إنما يملكون هذا المال لاستثماره ـ بإذن من الجماعة ـ ويظلون ينتفعون به وينفعون الجماعة معهم، ما داموا قادرين على تكثيره وتثميره؛ راشدين في تصريفه وتدبيره ـ والملكية الفردية بحقوقها وقيودها قائمة في هذا الإطار ـ

3. أما السفهاء من اليتامى ذوي المال، الذين لا يحسنون تدبير المال وتثميره، فلا يسلم لهم، ولا يحق لهم التصرف فيه والقيام عليه ـ وإن بقيت لهم ملكيتهم الفردية فيه لا تنزع منهم ـ إنما يعود التصرف في مال الجماعة إلى من يحسن التصرف فيه من الجماعة، مع مراعاة درجة القرابة لليتيم، تحقيقا للتكافل العائلي، الذي هو قاعدة التكافل العام بين الأسرة الكبرى!

4. وللسفيه حق الرزق والكسوة في ماله مع حسن معاملته: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/587.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا نهى يتوازن مع الأمر السابق في قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾.. ولكلّ من الأمر والنهى موضعه، وكلاهما يحقق مصلحة عامة، ويؤدى حقّا، ويبطل باطلا.

2. أشرنا من قبل إلى ما يحققه قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾، وهنا ينهى الله سبحانه وتعالى عن أن ندع أموال السفهاء في أيدى السفهاء، إذ كان ذلك مدعاة لإفسادهم أولا، وتضييع مصالحهم ثانيا، ورسم مثل سيئة للعبث بالمال وإهدار المنافع المنوطة به في المجتمع، ثالثا، لذلك ألزم الله سبحانه وتعالى المجتمع أن يتصدّى لهذه الظاهرة، وأن يقف لها في يقظة وحزم، فلا يدع لأيدى السفهاء ما في أيديهم من أموال يفسدونها، ويفسدون بها في الأرض.

3. في قوله تعالى: ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ بإسناد المال إلى غير أهله، وهم أولو الأمر في المجتمع ـ في هذا ما يعطى المال وصفا غير الوصف الذي يكون له وهو في حوزة الأيدى التي تعبث به، وتستخف بشأنه، فالمال ـ في حقيقته ـ أداة من أدوات النفع، الخاص، والعام معا، هو قوة في يد صاحبه، يدفع به عن نفسه قسوة الحاجة، ولذعة الحرمان، ومطية يمتطيها إلى غايات كثيرة، يجنى منها الخير لنفسه، ولأهله، ثم هو ـ أي المال ـ حركة عاملة في المجتمع، تصبّ فيها جهود أصحاب المال، وتتلاقى على طريقها وجوههم التي يقصدون إليها في تثمير المال وتنميته! وفي صيانة هذه القوة من عوامل الوهن والضعف، وفي تنظيم هذه الحركة وإقامتها على طريق مستقيم ـ في هذا صيانة للفرد، وحياطة له من أن تضطرب حياته وتتعثر خطواته، وفي هذا أيضا، صيانة للمجتمع، وحياطة لمواطن القوة منه، والحياة فيه.

4. فالمال في يد من لا يحسن التصرف فيه، ولا يرعى قدره وحرمته، هو في تلك الحال في يد غير أمينة عليه، وغير مستأهلة له.. ومن حق المجتمع أن ينزع هذا الحق منه، ويضعه في يد أمينة، تحافظ عليه وترعاه لحساب السفيه حتى يرشد، أو يموت، فيكون لورثته من بعده.

5. في قوله تعالى: ﴿الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ إشارة إلى ما للمال من شأن في الإسلام، وإلى النظرة التي ينظر بها إليه، وأنه قوام الحياة، وملاك عمرانها، ومبعث سلامة المجتمع وقوته! فالذين يتحدثون باسم الإسلام، مهوّنين من شأن المال، أو مستصغرين خطره، أو مستخفّين به وبأهله، إنما يفترون على الإسلام، وينطقون عنه زورا وبهتانا.

6. قوله تعالى: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ هو دعوة إلى من بيده مال السفيه، أن يرزقه منه، ويقضى مطالبه، من سكن وطعام وكسوة، وغير ذلك مما يضمن له حياة مستقرة، في حدود ما يتسع له ما له، إذ أصبح ولا مال بين يديه.. فالعدل يقضى بأنه إذا حرم التصرف فيما يملك، ألا يحرم الانتفاع مما يملك!

7. في قوله تعالى: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا﴾ ما يشير إلى أن يكون الإنفاق عليهم من صميم مالهم، لا من حواشيه، بمعنى أن ينفق عليهم بالقدر الذي يسمح به ما لهم ويتسع له، فكلمة (فيها) ظرف يحتوى المال كله، ويشتمل عليه.. ومن هذا المال كله يكون الإنفاق على السفيه.. ولهذا عدل القرآن عن التعبير بكلمة (منها) بدل (فيها) التي جاء عليها النظم القرآنى.. إذ أن (من) تفيد التبعيض بخلاف (فى) التي تفيد الإحاطة والشمول.

8. قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ أدب سماوىّ، يوصى به الله سبحانه الأوصياء الذين يقومون على أموال السفهاء، أن يلطفوا بهم، ويوادّوهم، ويلقوهم بالكلمة الطيبة، التي تطيب خواطرهم، وتنزع من صدورهم مرارة الألم الذي وجدوه في انتزاع ما في أيديهم من مال، فالذى أخذ به هؤلاء السفهاء من انتزاع أموالهم من أيديهم، هو عدوان عليهم، اقتضته المصلحة بهم، وبالمجتمع.. وإنه لكى يطبّ الإسلام لهذا الداء، وحتى لا يعالج الداء بالداء، دعا إلى هذا الأدب الرفيع العالي، الذي تطيب به نفوس هؤلاء المرضى، وتسلّ به السخائم من قلوبهم، وذلك طب سماوى تتم به تلك العملية الجراحية في مشاعر الإنسان ووجدانه، دون ألم!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/701.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ عطف على قوله: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ﴾ [النساء: 4] لدفع توهّم إيجاب أن يؤتى كلّ مال لمالكه من أجل تقدّم الأمر بإتيان الأموال مالكيها مرّتين في قوله: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ‏﴾ [النساء: 2، 4]، أو عطف على قوله: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى﴾ وما بينهما اعتراض، والمقصود بيان الحال التي يمنع فيها السفيه من ماله، والحال التي يؤتى فيها ماله.

2. قد يقال كان مقتضى الظاهر على هذا الوجه أن يقدّم هنالك حكم منع تسليم مال اليتامى لأنّه أسبق في الحصول، فيتّجه لمخالفة هذا المقتضى أن نقول قدّم حكم التسليم، لأنّ الناس أحرص على ضدّه، فلو ابتدأ بالنهي عن تسليم الأموال للسفهاء لاتّخذه الظالمون حجّة لهم، وتظاهروا بأنّهم إنّما يمنعون الأيتام أموالهم خشية من استمرار السفه فيهم، كما يفعله الآن كثير من الأوصياء والمقدّمين غير الأتقياء، إذ يتصدّون للمعارضة في بيّنات ثبوت الرشد لمجرّد الشغب وإملال المحاجير من طلب حقوقهم.

3. الخطاب في قوله: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ﴾ كمثل الخطاب في‏ ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى﴾ وآتُوا النِّساءَ﴾ هو لعموم الناس المخاطبين بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ [الحج: 1] ليأخذ كل من يصلح لهذا الحكم حظّه من الامتثال.

4. السفهاء يجوز أن يراد به اليتامى، لأنّ الصغر هو حالة السفه الغالبة، فيكون مقابلا لقوله: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى﴾ لبيان الفرق بين الإيتاء بمعنى الحفظ والإيتاء بمعنى التمكين، ويكون العدول عن التعبير عنهم باليتامى إلى التعبير هنا بالسفهاء لبيان علّة المنع، ويجوز أن يراد به مطلق من ثبت له السفه، سواء كان عن صغر أم عن اختلال تصرّف، فتكون الآية قد تعرّضت للحجر على السفيه الكبير استطرادا للمناسبة، وهذا هو الأظهر لأنّه أوفر معنى وأوسع تشريعا، وتقدّم بيان معاني السفه عند قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ في سورة البقرة [130]

5. المراد بالأموال أموال المحاجير المملوكة لهم، ألا ترى إلى قوله: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا﴾ وأضيفت الأموال إلى ضمير المخاطبين بـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ إشارة بديعة إلى أنّ المال الرائج بين الناس هو حقّ لمالكية المختصّين به في ظاهر الأمر، ولكنّه عند التأمّل تلوح فيه حقوق الأمة جمعاء لأنّ في حصوله منفعة للأمّة كلّها، لأنّ ما في أيدي بعض أفرادها من الثروة يعود إلى الجميع بالصالحة، فمن تلك الأموال ينفق أربابها ويستأجرون ويشترون ويتصدّقون ثم تورث عنهم إذا ماتوا فينتقل المال بذلك من يد إلى غيرها فينتفع العاجز والعامل والتاجر والفقير وذو الكفاف، ومتى قلّت الأموال من أيدي الناس تقاربوا في الحاجة والخصاصة، فأصبحوا في ضنك وبؤس، واحتاجوا إلى قبيلة أو أمّة أخرى وذلك من أسباب ابتزاز عزّهم، وامتلاك بلادهم، وتصيير منافعهم لخدمة غيرهم، فلأجل هاته الحكمة أضاف الله تعالى الأموال إلى جميع المخاطبين ليكون لهم الحقّ في إقامة الأحكام التي تحفظ الأموال والثروة العامة، وهذه إشارة لا أحسب أنّ حكيما من حكماء الاقتصاد سبق القرآن إلى بيانها.

6. وقد أبعد جماعة جعلوا الإضافة لأدنى ملابسة، لأنّ الأموال في يد الأولياء، وجعلوا الخطاب للأولياء خاصّة، وجماعة جعلوا الإضافة للمخاطبين لأنّ الأموال من نوع أموالهم، وإن لم تكن أموالهم حقيقة، وإليه مال الزمخشري، وجماعة جعلوا الإضافة لأنّ السفهاء من نوع المخاطبين فكأنّ أموالهم أموالهم وإليه مال فخر الدين، وقارب ابن العرب إذ قال: لأنّ الأموال مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد وتخرج من ملك إلى ملك) وبما ذكرته من البيان كان لكلمته هذه شأن، وأبعد فريق آخرون فجعلوا الإضافة حقيقية أي لا تؤتوا ـ يا أصحاب الأموال ـ أموالكم لمن يضيعها من أولادكم ونسائكم، وهذا أبعد الوجوه، ولا إخال الحامل على هذا التقدير إلّا الحيرة في وجه الجمع بين كون الممنوعين من الأموال السفهاء، وبين إضافة تلك الأموال إلى ضمير المخاطبين، وإنّما وصفته بالبعد لأنّ قائله جعله هو المقصود من الآية ولو جعله وجها جائزا يقوم من لفظ الآية لكان له وجه وجيه بناء على ما تقرّر في المقدّمة التاسعة.

7. أجرى على الأموال صفة تزيد إضافتها إلى المخاطبين وضوحا وهي قوله: ﴿الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ فجاء في الصفة بموصول إيماء إلى تعليل النهي، وإيضاحا لمعنى الإضافة، فإنّ‏ ﴿قِيَامًا﴾ مصدر على وزن فعل بمعنى فعال: مثل عوذ بمعنى عياذ، وهو من الواوي وقياسه قوم، إلّا أنّه أعلّ بالياء شذوذا كما شذّ جياد في جمع جواد وكما شذّ طيال في لغة ضبّة في جمع طويل، قصدوا قلب الواو ألفا بعد الكسرة كما فعلوه في قيام ونحوه، إلّا أنّ ذلك في وزن فعال مطّرد، وفي غيره شاذّ لكثرة فعال في المصادر، وقلّة فعل فيها، وقيم من غير الغالب، كذا قرأه نافع، وابن عامر: (قيما) بوزن فعل، وقرأه الجمهور (قياما)، والقيام ما به يتقوّم المعاش وهو واوي أيضا وعلى القراءتين فالإخبار عن الأموال به إخبار بالمصدر للمبالغة مثل قول الخنساء: (فإنّما هي إقبال وإدبار) والمعنى أنّها تقويم عظيم لأحوال الناس، وقيل: قيما جمع قيمة أي التي جعلها الله قيما أي أثمانا للأشياء، وليس فيه إيذان بالمعنى الجليل المتقدّم.

8. معنى قوله: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ واقع موقع الاحتراس أي لا تؤتوهم الأموال إيتاء تصرّف مطلق، ولكن آتوهم إيّاها بمقدار انتفاعهم من نفقة وكسوة، ولذلك قال فقهاؤنا: تسلّم للمحجور نفقته وكسوته إذا أمن عليها بحسب حاله وماله، وعدل عن تعدية ﴿ارْزُقُوهُمْ‏﴾ و﴿اكْسُوهُمْ‏﴾ بـ (من) إلى تعديتها بـ (في) الدالّة على الظرفية المجازية، على طريقة الاستعمال في أمثاله، حين لا يقصد التبعيض الموهم للإنقاص من ذات الشيء، بل يراد أنّ في جملة الشيء ما يحصل به الفعل: تارة من عينه، وتارة من ثمنه، وتارة من نتاجه، وأنّ ذلك يحصل مكرّرا مستمرّا، وانظر ذلك في قول سبرة بن عمرو الفقعسي:

çنحابي بها أكفاءنا ونهينها...ونشرب في أثمانها ونقامرé

يريد الإبل التي سيقت إليهم في دية قتيل منهم، أي نشرب بأثمانها ونقامر، فإمّا شربنا بجميعها أو ببعضها أو نسترجع منها في القمار، وهذا معنى بديع في الاستعمال لم يسبق إليه المفسّرون هنا، فأهمل معظمهم التنبيه على وجه العدول إلى (في)، واهتدى إليه الزمخشري بعض الاهتداء فقال: أي اجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتّجروا فيها وتتربّحوا حتّى تكون نفقتهم من الربح لا من صلب المال، فقوله: (لا من صلب المال) مستدرك، ولو كان كما قال لاقتضى نهيا عن الإنفاق من صلب المال.

9. إنّما قال: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ ليسلم إعطاؤهم النفقة والكسوة من الأذى، فإنّ شأن من يخرج المال من يده أن يستثقل سائل المال، وذلك سواء في العطايا التي من مال المعطي، والتي من مال المعطى، ولأنّ جانب السفيه ملموز بالهون، لقلّة تدبيره، فلعلّ ذلك يحمل وليّه على القلق من معاشرة اليتيم فيسمعه ما يكره مع أنّ نقصان عقله خلل في الخلقة، فلا ينبغي أن يشتم عليه، ولأنّ السفيه غالبا يستنكر منع ما يطلبه من واسع المطالب، فقد يظهر عليه، أو يصدر منه كلمات مكروهة لوليّه، فأمر الله لأجل ذلك كلّه الأولياء بأن لا يبتدؤوا محاجيرهم بسيّئ الكلام، ولا يجيبوهم بما يسوء، بل يعظون‏ المحاجير، ويعلّمونهم طرق الرشاد ما استطاعوا، ويذكّرونهم بأنّ المال مالهم، وحفظه حفظ لمصالحهم، فإنّ في ذلك خيرا كثيرا، وهو بقاء الكرامة بين الأولياء ومواليهم، ورجاء انتفاع الموالي بتلك المواعظ في إصلاح حالهم حتّى لا يكونوا كما قال:

çإذا نهي السفيه جرى إليه‏...وخالف والسفيه إلى خلاف‏é

وقد شمل القول المعروف كلّ قول له موقع في حال مقاله، وخرج عنه كلّ قول منكر لا يشهد العقل ولا الخلق بمصادفته المحزّ، فالمعروف قد يكون ممّا يكرهه السفيه إذا كان فيه صلاح نفسه.

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/26.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ السفهاء جمع سفيه، والسفه اضطراب في الرأي والفكر، وأصله من اضطراب المحسوسات، ويقول الراغب الأصفهانى في مفرداته: (السفه صفة في البدن، ومنه قيل زمان سفيه كثير الاضطراب، وثوب سفيه ردى‏ء النسج، واستعمل السفه في صفة النفس لنقصان العقل في الأمور الدنيوية)

2. السفهاء هنا هم الذين لا يحسنون تدبير الأموال إما لصغر سنهم، وإما لنقص عقولهم، وإما لسوء تدبيرهم وتبذيرهم، والقيام هنا هو الولاية المالية والسلطان، وعبر عن الولاية بالقيام، لأن القيام هو العماد والسناد في اللغة، والولاية المالية المقصود منها أن تكون عمادا وسندا للقاصر المولى عليه، وعلى هذا التفسير يكون معنى السفهاء شاملا لكل العاجزين عن تدبير المال أيا كان سبب العجز، ويكون معنى النص الكريم: لا تعطوا المال للّذين لا يحسنون القيام عليه لصغر أو نقص عقل، أو فساد رأى ثابت، والمراد مال هؤلاء، ولكن أضيف المال إلى الأولياء ليحثهم على حفظه وصيانته كأنه مالهم، وقد يكون الخطاب لجميع الأمة بالدعوة إلى المحافظة على أموال العاجزين؛ لأنه من حال الأمة المتضافرة المتعاونة المتكافلة، ورجح الزمخشري أنه خطاب للأولياء، وقال في ذلك: (والخطاب للأولياء وأضاف الأموال إليهم؛ لأنها من جنس ما يقيم به الناس‏ معايشهم، كما قال ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء] والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ وإنه على أن الخطاب لمجموع الأمة المتكافلة يكون من التكافل رزق اليتامى وعدم قهرهم.

3. ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ معنى الرزق الإنفاق المستمر المنظم على الشخص في طعامه وكسوته، فالكسوة بل المسكن داخلان في ارزقوهم وإنما خص الكسوة بالذكر؛ لأنها كثيرا ما تهمل، وللحث على المبالغة في تكريمهم، ومن مظاهر التكريم الكسوة الحسنة، وقال ارزقوهم فيها واكسوهم، ولم يقل ارزقوهم منها للإشارة إلى أن الرزق لا يقتطع منها، بل يتجر فيها ويعمل فيها ليكون الرزق فيها من الكسب لا من أصلها، ولهذا قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اتّجروا في مال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة) وقد قال الزمخشري في تفسير ارزقوهم فيها: (اجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال) وقد أمر الله تعالى بألا يرهق المحجور عليه، ولا يستذلوا ولا يقهروا؛ ولذا قال ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ أي قولا غير منكر وغير مسترذل، وغير قاهر وغير مضعف لنفوسهم، ولا مذل لهم، وذلك لكيلا يذهب الحجر بعزة نفوسهم، وليشعروا أنه في مصلحتهم، ولكيلا تضعف شخصيتهم، ويمردوا مع الذلة صغارا؛ فيعادوا الناس كبارا، والله هو الولى وهو نعم المولى ونعم النصير.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1589.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾، قيل: هذا خطاب موجه لكل من في يده مال، وانه مأمور ان لا يمكّن منه من يصرفه في غير وجهه، ويضعه في غير محله، سواء أكان المبذر ولدا أو زوجة لمن في يده المال، أو داخلا في وصايته، أو أجنبيا عنه، وقيل: بل الخطاب موجه للآباء فقط، وان الله سبحانه نهاهم ان يعمدوا الى ما خوّله لهم من مال، فيملكونه أولادهم العاقين، وعند الشيخوخة ينظرون اليها بحسرة وندامة لحاجتهم اليها، وعقوق أولادهم السفهاء، والصحيح ان الخطاب موجه لخصوص الأولياء، والمعنى: يا أيها الأولياء لا تسلطوا السفهاء الذين تحت ولايتكم على أموالهم.. ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ فإنه خطاب لخصوص الأولياء.. هذا، الى أن الآيات السابقة خطاب لهم خاصة، فيحسن تعلق هذه بتلك.

2. السفيه هو المبذر الذي يسيء التصرف في المال، فيمنع من التصرف فيه الا إذا اذن له الولي، وله تمام الحرية في التصرفات التي لا تتصل بالمال من قريب أو بعيد.

3. سؤال وإشكال: لو كان الخطاب موجها لخصوص الأولياء الناظرين في أموال السفهاء لوجب ان يقول أموالهم، لا أموالكم؟ والجواب: ان الله سبحانه أضاف أموال السفهاء إلى الأولياء بالنظر إلى انها تحت ولايتهم، ومعلوم ان الاضافة تصح لأدنى مناسبة.

4. ﴿أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾، قال الرازي: (معناه انه لا يحصل قيامكم ومعاشكم إلا بالمال، فلما كان المال سببا للقيام والاستقلال سماه الله بالقيام إطلاقا لاسم المسبب على السبب) يريد بالسبب المال، وبالمسبب المعاش.

5. من تتبع الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية يجد ان الإسلام قد أولى المال وتوجيهه لتحسين المعاش عناية كبرى، بل ساوى بينه وبين النفس في العديد من الآيات، منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ ـ 111 التوبة).. فالله سبحانه يبيع جنته بالمال الذي ينفق في سبيله، تماما كالتاجر يبيع سلعته بالمال الذي ينفق لمصلحته، ومنها قوله جل وعلا: ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ ـ 94 النساء)، وفي الحديث: (ان دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم)، ومن هنا قال الفقهاء: الأصل في كل شيء الحل إلا في الدماء والفروج والأموال، فإن الأصل فيها التحريم.

6. أطلق القرآن لفظ الخير على المال في كثير من الآيات، منها: (وانه لحب الخير لشديد) بل قال بعض المفسرين: ان لفظ الخير لم يطلق في القرآن إلا على المال.. ونحن لا نوافق على هذا الرأي، ولكنا نعلم بأن أكثر الآيات التي أمرت بالعمل الصالح، والتعاون على الخير، وإعداد العدة لأعداء الدين والوطن ـ لا يمكن امتثالها والعمل بها إلا بالمال.

7. نهى الإسلام عن كنز المال، وهدد الذين يكنزونه بالعذاب الأليم، كما نهى عن الإسراف والتبذير، واعتبر المبذرين اخوان الشياطين، لأن كلا من التجميد والتبذير يعوق الحياة عن النمو والانتاج الذي ينفع الناس، وأمر بالاقتصاد، والرفق في صرف المال وإنفاقه، قال الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم: إذا أراد الله لأهل بيت خيرا رزقهم الرفق في المعيشة، وحسن الخلق، وقال الإمام علي عليه السلام: لا يذوق المرء حقيقة الايمان، حتى يكون فيه ثلاث خصال: الفقه في الدين، والصبر على المصائب، وحسن التقدير في المعاش.

8. لقد ربط الإمام بين حقيقة الايمان، وحل مشكلة العيش في هذه الأرض، لأن حسن التقدير في المعاش معناه إتقان العمل، وصرف الانتاج في وجهه النافع.. وهذا دليل قاطع على ان الدين لا ينفصل عن الحياة، وانه شرع من أجل حياة لا إشكال فيها ولا تعقيد.. ومن فصل الدين عن الحياة، ونظر اليه على انه مجرد طقوس وشعارات، وزهد ومغيبات فهو اما جاهل أخذ الدين ممن يتكسبون به، واما معاند للحق والبديهة.

9. ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾، الخطاب لأولياء السفهاء، والمراد به أن ينفق الأولياء على السفهاء كل ما يحتاجون اليه من مأكل وملبس ومسكن وتعليم وزواج، وما إلى ذلك.

سؤال وإشكال: لماذا قال فيها، ولم يقل منها؟ والجواب: (في) ظرف، ويكون المعنى ان المال يكون محلا للرزق، وذلك أن يتجر به الولي، ويستثمره، وينفق على السفيه من الناتج، لا من أصل المال.

10. سؤال وإشكال: لماذا خص الكسوة بالذكر، مع العلم بأن رزقهم يشمل الكسوة؟ والجواب: خص الكسوة للاهتمام بها.. فربما توهم الولي ان المهم هو المأكل، أما الملبس فلا بأس بالتساهل فيه، فدفع الله سبحانه هذا الوهم بذكر الكسوة صراحة.

11. الولاية على السفيه تكون للأب والجد له إذا بلغ الصبي سفيها، بحيث يتصل السفه بالصغر، أما إذا بلغ رشيدا، ثم عرض له السفه بعد الرشد تكون الولاية للحاكم الشرعي، دون الأب والجد.

12. ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾، قد يرى بعض الأولياء ان على المولى عليه أن يسمع له ويطيع، تماما كما هو شأن الولد مع والده، فنبه سبحانه بقوله هذا كي يتلطف كل ولي بمن هو في ولايته، ويعامله معاملة يرضاها، وتطيب نفسه لها.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/253.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ السفه‏ خفة العقل، وكان الأصل في معناه مطلق الخفة فيما من شأنه أن لا يخف ومنه الزمام السفيه أي كثير الاضطراب وثوب سفيه أي ردي‏ء النسج ثم غلب في خفة النفس واختلف‏ باختلاف الأغراض والمقاصد فقيل سفيه لخفيف الرأي في الأمور الدنيوية وسفيه للفاسق غير المبالي في أمر دينه وهكذا.

2. ظاهر ما يتراءى من الآية أنه نهي عن الإكثار في الإنفاق على السفهاء وإعطائهم من المال أزيد من حاجاتهم الضرورية في الارتزاق، غير أن وقوع الآية في سياق الكلام في أموال اليتامى التي يتولى أمر إدارتها وإنمائها الأولياء قرينة معينة على كون المراد بالسفهاء هم السفهاء من اليتامى، وأن المراد بقوله: ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾، في الحقيقة أموالهم أضيف إلى الأولياء بنوع من العناية كما يشهد به أيضا قوله بعد: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾، وإن كان ولا بد من دلالة الآية على أمر سائر السفهاء غير اليتامى، فالمراد بالسفهاء ما يعم اليتيم وغير اليتيم لكن الأول أرجح، وكيف كان فلو كان المراد بالسفهاء سفهاء اليتامى، فالمراد بقوله: ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾، أموال اليتامى وإنما أضيفت إلى الأولياء المخاطبين بعناية أن مجموع المال والثروة الموجودة في الدنيا لمجموع أهلها وإنما اختص بعض أفراد المجتمع ببعض منه وآخر بآخر للصلاح العام الذي يبتني عليه أصل الملك والاختصاص فيجب أن يتحقق الناس بهذه الحقيقة ويعلموا أنهم مجتمع واحد والمال كله لمجتمعهم، وعلى كل واحد منهم أن يكلأه ويتحفظ به ولا يدعه يضيع بتبذير نفوس سفيهة، وتدبير كل من لا يحسن التدبير كالصغير والمجنون، وهذا من حيث الإضافة كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ﴾، ومن المعلوم أن المراد بالفتيات ليس الإماء اللاتي يملكها من يريد النكاح.

3. في الآية دلالة على حكم عام موجه إلى المجتمع وهو أن المجتمع ذو شخصية واحدة له كل المال الذي أقام الله به صلبه وجعله له معاشا فيلزم على المجتمع أن يدبره ويصلحه ويعرضه معرض النماء ويرتزق به ارتزاقا معتدلا مقتصدا ويحفظه عن الضيعة والفساد، ومن فروع هذا الأصل أنه يجب على الأولياء أن يتولوا أمر السفهاء فلا يؤتوهم أموالهم فيضيعوها بوضعها في غير ما ينبغي أن توضع فيه بل عليهم أن يحبسوها عنهم ويصلحوا شأنها، وينموها بالكسب والاتجار والاسترباح ويرزقوا أولئك السفهاء من فوائدها ونمائها دون أصلها حتى لا ينفد رويدا رويدا وينتهي إلى مسكنة صاحب المال وشقوته، ومن هنا يظهر أن المراد بقوله: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾، أن يرتزق السفيه في المال بأن يعيش من نمائه ونتاجه وأرباحه لا من المال بأن يشرع في الأكل من أصله على ركود منه من غير جريان ودوران فينفد عن آخره، وهذه هي النكتة في قوله: (فِيها) دون أن يقول: (منها) كما ذكره الزمخشري.

4. لا يبعد أن يستفاد من الآية عموم ولاية المحجور عليهم بمعنى أن الله لا يرضى بإهمال أمر هؤلاء بل على المجتمع الإسلامي تولي أمرهم فإن كان هناك واحد من الأولياء الأقربين كالأب والجد فعليه التولي والمباشرة، وإلا فعلى الحكومة الشرعية أو على المؤمنين أن يقوموا بالأمر على التفصيل المذكور في الفقه.

5. كلام في أن جميع المال لجميع الناس‏:

أ. هذه حقيقة قرآنية هي أصل لأحكام وقوانين هامة في الإسلام أعني ما تفيده هذه الآية: أن المال لله ملكا حقيقيا جعله قياما ومعاشا للمجتمع الإنساني من غير أن يقفه على شخص دون شخص وقفا لا يتغير ولا يتبدل وهبة تنسلب معها قدرة التصرف التشريعي ثم أذن في اختصاصهم بهذا الذي خوله الجميع على طبق نسب مشرعة كالوراثة والحيازة والتجارة وغير ذلك وشرط لتصرفهم أمورا كالعقل والبلوغ ونحو ذلك، والأصل الثابت الذي يراعى حاله ويتقدر به فروعه هو كون الجميع للجميع، فإنما تراعى المصالح الخاصة على تقدير انحفاظ المصلحة العامة التي تعود إلى المجتمع وعدم المزاحمة، وأما مع المزاحمة والمفاوتة فالمقدم هو صلاح المجتمع من غير تردد.

ب. يتفرع على هذا الأصل الأصيل في الإسلام فروع كثيرة هامة كأحكام الإنفاق ومعظم أحكام المعاملات وغير ذلك، وقد أيده الله تعالى في موارد من كتابه كقوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾، وقد أوردنا بعض الكلام المتعلق بهذا المقام في البحث عن آيات الإنفاق من سورة البقرة فليراجع هناك.

6. ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ قد تقدم استيفاء الكلام في معنى الرزق في قوله تعالى: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ وقوله: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾، كقوله: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ فالمراد بالرزق هو الغذاء الذي يغتذي به الإنسان والكسوة ما يلبسه مما يقيه الحر والبرد (غير أن لفظ الرزق والكسوة في عرف القرآن كالكسوة والنفقة في لساننا) كالكناية يكنى بها عن مجموع ما ترتفع به حوائج الإنسان المادية الحيوية فيدخل فيه سائر ما يحتاج إليه الإنسان كالمسكن ونحوه كما أن الأكل ذو معنى خاص بحسب أصله ثم يكنى به عن مطلق التصرفات كقوله: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ الآية.

7. ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ هو كلمة أخلاقية يصلح بها أمر الولاية فإن هؤلاء وإن كانوا سفهاء محجورين عن التصرف في أموالهم غير أنهم ليسوا حيوانا أعجم ولا من الأنعام السائمة بل بشر يجب أن يعامل معهم معاملة الإنسان فيكلموا بما يكلم به الإنسان لا بالمنكر من القول ويعاشروا بما يعاشر به الإنسان، ومن هنا يظهر أن من الممكن أن يكون قوله: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾، كناية عن المعاملة الحسنة والمعاشرة الممدوحة غير المذمومة كما في قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/170.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿السُّفَهَاءُ﴾ جمع سفيه، قال في (الصحاح): (السفه: ضد الحلم)، وفي (مفردات الراغب): (واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل وفي الأمور الدنيوية والأخروية..) إلى قوله: (.. قال في السفه الدنيوي ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾، وقال الشرفي، عن (البرهان) لأبي الفتح الديلمي عليه السلام: (وأصل السفه خفّة الحِلم، فلذلك وصف به الناقص العقل، ووصف المفسد بذلك لنقصان تدبيره، ووصف الفاسق لنقصانه عند أهل الدين والعلم)، وقال في (الكشاف): (السفهاء: المبذرون أموالهم، الذين ينفقونها فيما لا ينبغي، ولا يَدَيْ لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها)، وقوله: لا يدَي: أي لا طاقة، وقال الشوكاني في (فتح القدير) في تفسير: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ [البقرة: 13] في تفسير السفاهة: (وهي رقة الحلوم، وفساد البصائر، وسخافة العقول)، وقال الشرفي في (المصابيح): (وقال المرتضى عليه السلام ـ أي محمد بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليهم السلام ـ: السفهاء ها هنا فهم الأبناء والإخوة الذين أوجب الله على الآباء النفقةَ عليهم إذا كانوا فقراء، فأمر الله ـ عزَّ وجل ـ إذا علموا منهم الإفساد لها أن لا يدفعوا إليهم منها ما يفسدون أو به على معصية الله يستعينون، والسفهاء فهم سفهاء الرأي وسفهاء العقول الذين لا تمييز لهم ولا نظر في أمور نفوسهم)، وظاهره: عموم السفه بالنقص الخُلقي، والسفه في الرأي بإهمال العقل، ويدل على الثاني قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ [البقرة: 13] وقوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ [البقرة: 142] وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: 130]

2. معنى: ﴿جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ أي قواماً لمعيشتكم وصلاحاً، وقياماً لكم بأن تسلموا الضعف الذي يقعدكم عجزاً عن العمل أو تحيراً عن وسيلة ما يسد الخلة، فكأن الإنسان يعتمد في قيامه على ماله، فإذا عدم عجز عن القيام أو لم يجد ما يقوم لأجله، فالمال قوام له.

3. ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا﴾ أي في أموالكم وذلك إذا سلمت التبذير أمكن أن تكون رأس مال ترزقونهم من أرباحه أو يُشتَرى بها مالٌ ترزقونهم من غلوله أو كرائه، فيكون لهم فيها رزق مع بقاء رأس المال، هذا إذا كانت نقداً، فأما إذا كانت حرثاً أو غيره مما له غلول فرزقهم فيها رزقُهم من غلولها مع بقاء رقاب المال، والرزق: هو العطاء الجاري وهو هنا عبارة عن المأكول ونحوه من المتلفات، بقرينة قوله: ﴿وَاكْسُوهُمْ﴾ وهذا فيمن تجب نفقته من القرابة وغيرهم، فأما من لا قرابة بينك وبينه، فالوجوب على قرابته إن أعسر، فأما من لا قرابة له فعلى المسلمين من مال المصالح، فالآية عامة للناس، وتخصيص القرابة بالآيات الأُخَر.

4. ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ قولاً ليّناً رفيقاً، والمجانين داخلون في عموم الآية أو لاحقون بقياس الأولى؛ لأنهم أشد ضعفاً، ويترجح: أن الآية في سفهاء العقول الذين لا يستطيعون التدبير لمصالحهم فأما سفهاء الرأي المهملون لعقولهم مع صحتها فليسوا مظنة أن يقال فيهم: وارزقوهم فيها واكسوهم تبعاً لسفاهتهم، إنما يكون ذلك لمجرد الإعسار.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/9.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يظل عالم الأسرة، في علاقاتها المالية، هو الجو الذي تعيش فيه السورة؛ فقد يبلغ الأيتام سن البلوغ، ولا يملكون الرشد الفكري والعملي الذي يستطيعون من خلاله حفظ أنفسهم وأموالهم من الضياع، ففي هذه الحالة، لا يجوز لنا ـ نحن ولاة أمرهم ـ أن نمكّنهم من هذه الأموال التي جعلها الله لنا ـ كمجتمع ـ من أجل تدبير أمورنا وتركيز حياتنا في الموقع القوي الصحيح، لأن المال يحرّك للإنسان حياته، ويجعلها تقف على قدميها في ما تريد الوصول إليه من قضايا وأهداف.

2. وقد أضاف القرآن المال إلينا، باعتبار أن للأولياء الحق في رعايتها، أو باعتبار أن مال الفرد هو مال المجموع، في ما يريد الله أن يوحيه من وحدة الأمة في جميع أمورها وشؤونها؛ على أساس أن المال لا يمثل امتيازا، بل يمثل وظيفة ومسئولية اجتماعية وأخلاقية، ثم تدعونا الآية إلى القيام بمسؤوليتنا في رعايتها وتنميتها وتدبير أمورها، وأن نقول لهم قولا معروفا، لا ينكرون منه شيئا، لأنه لا يسيء إلى كرامتهم ولا يثقل حياتهم، بل يصل بهم الى الراحة والطمأنينة التي تدخل إلى قناعاتهم من أقرب طريق.

3. ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ﴾ الذين لا يملكون الوعي الفكري الذي يفتح لهم أفاق المعرفة للموارد التي يمكن لهم أن يحركوا فيها أموالهم من أجل حفظها من الضياع وتحقيق الأرباح من خلال ذلك، ولا يتمتعون بالرشد العملي‏ الذي يتيح لهم الممارسة العملية في الواقع التطبيقي لما يعرفون فيتركون للآخرين أن يخدعوهم ويستغلوا سذاجتهم وبساطتهم الاجتماعية من أجل أن يصرفوا أموالهم في غير وجهها الصحيح المنتج أو يضعوها في غير محلها تبذيرا تارة وإسرافا أخرى.

4. والخطاب ـ كما قيل ـ قد يكون واردا لمن في يده المال لكي لا يمكّن منه السفهاء، وقد يكون واردا للآباء الذين قد يملّكون أولادهم أموالهم في حياتهم فيوجهونها في غير مصلحتهم، ثم يحتاجون إليها في زمن الشيخوخة فلا يعطونهم منها شيئا، ولكن ذلك بعيد عن سياق الآية، فهي ـ على الظاهر ـ موجهة للأولياء الذين يتولون أمور القاصرين ويحركون أموالهم، فلا يمكنونهم منه إذا لم يكونوا في مرحلة الرشد.

5. ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ الظاهر أن المراد بها أموال اليتامى لورودها في مورد الحديث عنها على هذا، وتكون المناسبة في نسبتها إلى المخاطبين بلحاظ أن الإسلام يرى في المجتمع وحدة اقتصادية باعتبار الترابط العضوي في حركة المال في الواقع الاجتماعي العام، مما يجعل من الخلل الذي يصيب جزءا منه حالة سلبية تؤثر على الأجزاء الأخرى، الأمر الذي يفرض إيجاد نظام اقتصاديّ في تحريك المال من حيث طبيعته الاقتصادية ومن حيث الأشخاص الذين يديرونه بحكمة وروية، بحيث لا يؤدي ذلك إلى ضياعه أو تحوّله إلى مشكلة معقدة في الواقع الاجتماعي العام، وربما كانت إشارة إلى التعامل مع السفهاء بشكل عام، فلا يسلّمون الأموال التي للأولياء أو لغيرهم، وتكون علاقة الآية بالأيتام باعتبار أن الأولياء أو الناس قد يريدون مساعدتهم في حياتهم بإيكال الأعمال التجارية إليهم ليستفيدوا منها بالأجرة التي يحصلون عليها من خلال العمل أو الأرباح التي يجنونها من خلال المشاركة في المضاربة، فجاءت الآية لتنهى عن ذلك، ولترشد الأولياء بالامتناع عن‏ إعطائهم الأموال إذا كانوا لا يحسنون إدارتها، انطلاقا من الذهنية السفيهة التي تحكم ذهنيتهم كلها، وليساعدوهم في ما يملكون إدارته من الأعمال البسيطة أو بالصرف عليهم ورزقهم وكسوتهم بالمعروف.

6. في ضوء ذلك، يمكن استيحاء الآية في كل الحالات التي توكل فيها الأعمال إلى الأشخاص الذين لا يملكون توجيهها في الوجهة الصحيحة التي تنطلق نحوها، مما يؤدي إلى فساد الأموال وتضييعها وإرباك الواقع العملي المتصل بمصالح الناس الخاصة والعامة؛ الأمر الذي يحتاج إلى دراية دقيقة في قابلية الشخص الذي يراد إيكال الأمر العملي إليه حتى لا يقع الناس في استعمال السفهاء في قضاياهم الحيوية كلها، ولعل ما جاء في بعض أحاديث أهل البيت ما يؤكد هذا الاستيحاء، فقد ورد في حديث الإمام محمد الباقر عليه السّلام‏: (إن الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ فأي سفيه أسفه من شارب الخمر)

7. ويمكن استيحاء ذلك في كل الناس الذين يمارسون المعاصي التي يصرفون أموالهم فيها، باعتبار أن ذلك يؤدي إلى صرف المال في غير حقه وتحريكه في غير موضعه، مما يلتقي به مع السفيه الذي لا يتصرف في أمواله بحكمة، لأن المسألة قد تتصل بالجانب المادي في خصوصية حركة المال في الوسائل المستعملة في تلبية الحاجات الخاصة، وقد تتصل بالجانب السلوكي في استعمال المال في ما يضر صحته أو عقله أو حياته العامة والخاصة، كمن يصرف ماله في القمار أو في الزنى أو في اجتذاب الناس إليه بما لا يحقق له شيئا مما يريد.

8. وفي ضوء ذلك يمكن توسعة معنى السفيه إلى الدائرة التي يتمثل فيها التصرف المالي في نوعيّة التصرف في حاجاته بتحديد حاجاته المشروعة التي قد لا يلتفت الناس إلى سلبيات صرف المال فيها لأنهم لا يرون فيها أية مشكلة اقتصادية في حياته الخاضعة للحاجات الذاتية، بينما يرى الشرع فيها صرفا للمال في الموارد الضارة.

9. وإذا كانت المسألة متصلة بالواقع الخاص في المال الشخصي فقد تمتد إلى المال العام ليكون تسليط السفيه عليه أكثر خطورة لاتصاله بالواقع العام للناس، وتبقى مسألة التحريم والكراهية في ذلك تابعة للبحث الفقهي والله العالم.

10. ﴿قِيَامًا﴾ التي يقوم عليها أمر معاشكم وحياتكم الخاصة والعامة في تلبية حاجاتكم الحيوية، فإن قيمة المال في وظيفته العملية التي يتحرك بها لتدبير أمور الإنسان التي ترتكز عليها حياته كالطعام والمشرب والملبس والمسكن والملذات الحيوية ولأهدافه العامة والخاصة، لا في ذاته، مما يجعله مسئولية للإنسان لا امتيازا له، وهو في الوقت نفسه لا يمثل قيمة سلبية بالمعنى الديني كما يحاول أن يفهمه البعض من قول السيد المسيح عليه السّلام في إنجيل متى الإصحاح 23019: (فقال لتلاميذه: الحق أقول لكم إنه يعسر أن يدخل غنيّ إلى ملكوت السماوات)، فقد فهم منه هؤلاء أن السيد المسيح يرى الغنى حاجزا بين الإنسان الغني وبين دخوله ملكوت الله الذي هو كناية عن القرب إلى الله في مواقع رضوانه، ولكن الظاهر أن هذا الكلام وارد على سبيل الكناية في صعوبة الالتزامات الروحية والأخلاقية في القيم التي يحبها الله مما شرّعه لعباده، لأن ضغط المال على الروح والإرادة من خلال إيحاءاته ونوازعه وامتداده، قد يشكل خطرا كبيرا على واقع الإنسان الفكري والعملي، مما يفرض عليه أن يعيش الحذر لإمكان تأثيره على نفسه وعلاقاته بالناس وبالحياة، فلا يحركه في إفساد حياة الناس، بل يعمل على الإحسان إليهم وإلى حياتهم العامة والخاصة من خلاله.

11. وهذا ما نستوحيه في الواقع الذي يعيشه الأغنياء مما تحدث به القرآن الكريم عن المترفين الذين أترفهم الله في الحياة الدنيا، فاستخدموا ذلك بعيدا عن رضوان الله وعن مصلحة الناس والحياة، وعن قارون الذي قال الله عنه‏ ﴿إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏ فَبَغى‏ عَلَيْهِمْ وآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لتنوء بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ولا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ولا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ عِنْدِي أَولَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَأَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وأَكْثَرُ جَمْعاً﴾ [القصص: 76 ـ 78]، فقد لاحظنا أن هذا الرجل الذي ملك كل هذا المال عاش الإحساس الذاتي المستغرق في عناصر قوته بأنه هو الذي استطاع تحصيله بخبرته دون أن يكون لله دخل في ذلك بحيث ترك المال تأثيره على سلامة تصوره للأشياء، فلم يدرس موقعه الإنساني من ربه وقدرته عليه كقدرته على الذين سبقوه في التاريخ ممن هم أشد منه قوة وأكثر جمعا، في الوقت الذي انطلق النص القرآني بلسان قومه في وظيفة المال في خط التوازن بين الدنيا والآخرة.

12. وقد ذكر صاحب مجمع البيان حديثا عن كلمة (قياما) لا بأس بالإشارة إليها: (قال أبو الحسن: في (قيام) ثلاث لغات: قيام وقيّم وقوام وهو الذي يقيمك، قال لبيد:

çأفتلك أم وحشيّة مستوعة...خذلت وهادية الصّوار قوامهاé

قال أبو علي: (ليس قول من قال إن القيّم جمع قيمة بشيء، إنما القيّم بمعنى القيام، وهو مصدر يدل عليه قوله: ﴿دِينًا قِيَمًا﴾ [الأنعام: 161] فالقيمة التي هي معادلة الشيء ومقاومته لا مذهب له هاهنا، إنما المعنى دينا دائما ثابتا لا ينسخ كما نسخت الشرائع التي قبله، فيكون مصدر وصف الدين به ولا وجه للجمع هاهنا ولا للصفة لقلة مجيء هذا البناء في الصفة، ألا ترى أنه إنما جاء في قولهم: قوم عدى ومكان سوى وفعل في المصادر كالشبع والرضا ونحوهما أوسع في الوصف، فإذا كان كذلك حمل على الأكثر)

13. ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾، واعملوا في تلبية حاجاتهم الحيوية من أموالهم التي هي تحت أيديكم من موقع الولاية عليهم أو من أموالكم التي تملكونها باعتبار مسئوليتكم عنهم، إما من خلال المسؤولية الخاصة إذا كانوا من أولادكم أو ممن تتصل حياتهم بمسؤوليتكم وإمّا من خلال المسؤولية العامة بلحاظ التكافل الاجتماعي الذي يفرضه الله على المجتمع في كفالة الفئات القادرة للفئات المحرومة أو الضعيفة حتى لا تجوع وتظمأ أو تعرى أو تشرّد من دون أن يكون هناك إنسان أو مجتمع يرعى حياته حتى لا تموت.

14. ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾، فإن الله يريد منكم أن تنفتحوا على الآخرين في علاقتكم بهم وفي رعايتكم لهم سواء أكانوا من اليتامى أم من السفهاء، بالمعروف الذي يتمثل بالفكرة الطيبة والأسلوب الحسن واللفتة الرحيمة والجوّ الحميم والحكمة التي ترعى ذهنيتهم وإحساسهم وشعورهم بالطريقة الملائمة التي لا تكسر قلبا ولا ترهق عقلا، ولا تضيع فكرا، ولا تسقط إنسانا، وبالكلمة الناعمة الرقيقة التي تفتح القلب والروح على المحبة والرحمة والخير، لتصلح أمورهم في ما يفكرون ويعملون ولتبني مواقعهم على قاعدة الثقة بالله وبالنفس وبالإنسان كله.

15. وهكذا تمثل هذه الآية الفكرة التي تحمل الكثير من الإيحاءات الفكرية والاجتماعية والنفسية والروحية والعملية في علاقات الراشدين باليتامى والسفهاء بالرغم من اختصارها.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/75.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الآيات الحاضرة تكملة للأبحاث المرتبطة باليتامى، التي مرّت في الآيات السّابقة، يقول الله سبحانه: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ بل انتظروا رشدهم، ونضجهم في المسائل الاقتصادية لكي لا تتعرض أموالكم للتلف والفناء.

2. السّفيه: قال الرّاغب في المفردات: (السّفه خفّة في البدن (يحصل بسببها عدم التعادل في المشي) ومنه قيل زمام سفيه أي كثير الاضطراب، واستعمل في خفّة النفس لنقصان العقل في الأمور الدّنيوية، والأخروية)، لكن من الواضح أنّ المراد من السّفه في الآية الحاضرة هو عدم الرشد اللازم في الأمور الاقتصادية بحيث لا يستطيع الشخص من تدبير شؤونه الاقتصادية وإصلاح ماله على الوجه الصحيح، ولا يتمكن من ضمان منافعه في المبادلات والمعاملات المالية، أي أنّه عرضة للغبن والضرّر، ويدل على هذا المعنى ما جاء في الآية الثانية إذ يقول سبحانه: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾

3. وعلى هذا الأساس فإنّ الآية الحاضرة وإن كانت تبحث حول اليتامى، لكنّها تتضمّن حكما كليا وقانونا عامّا لجميع الموارد، وهو أنّه لا يجوز لأحد مطلقا أن يعطي أموال من يتولى أمره، أو ترتبط به حياته بنوع من الارتباط، إليه إذا كان سفيها غير رشيد، ولا فرق في هذا الحكم بين الأموال الخاصّة والأموال العامّة (وهي أموال الحكومة الإسلامية) ويشهد على هذا الموضوع ـ مضافا إلى سعة مفهوم الآية ـ وخاصّة كلمة (السّفيه) روايات منقولة عن أئمّة الدين في هذا الصدد، ففي رواية عن الإمام الصّادق عليه السّلام‏ نقرأ أنّ شخصا يدعى إبراهيم بن عبد الحميد يقول: سألت أبا عبد الله عن قول الله: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ قال: (كلّ من يشرب المسكر فهو سفيه‏ فلا تعطوهم أموالكم)، وفي رواية أخرى نجد النهي عن اختيار شارب الخمر لجعله أمينا على الأموال.

4. خلاصة القول أنّنا نجد توصيف شارب الخمر بالسفه في أحاديث كثيرة وموارد متعددة، وهذا التعبير إنّما هو لأن شارب الخمر فقد رأس ماله المادي ورأس ماله المعنوي، وأي سفيه أشدّ من أن يعطي الإنسان ماله، وعقله أيضا، ويبتاع الجنون.. ويضحي في هذا السبيل بكل طاقاته البدنية والروحية، ويتسبب في أضرار اجتماعية كثيرة وكبيرة.

5. ثمّ إنّنا نلاحظ أن رواية أخرى تصف كلّ من لا يوثق به بالسفيه، وتنهي من تسليم الأموال الخاصّة والعامّة إليه، فعن يونس بن يعقوب قال سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن قوله: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ قال: (من لا تثق به‏)

6. ومن هذه الرّوايات يتبيّن أنّ للفظة السفيه معنى واسعا، وأن النهي يشمل تسليم الأموال الخاصّة والعامّة إليهم، غاية ما في الأمر أن هذا النهي يكون في بعض الموارد نهي تحريم، وفي بعض الموارد الأخرى التي لا تشتد فيها درجة السفه يكون نهي كراهة.

7. سؤال وإشكال: هنا ينطرح سؤال وهو، إذا كانت هذه الآية في مورد أموال اليتامى فلما ذا قال تعالى: ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ ولم يقل (أموالهم)؟ والجواب: يمكن أن تكون النكتة والسرّ في هذا التعبير هو بيان مسألة اجتماعية واقتصادية مهمّة في المقام وهي أن الإسلام يعتبر الأفراد في المجتمع بمثابة فرد واحد بحيث لا يمكن أن تنفصل مصالح فرد عن مصالح الآخرين، وهكذا تكون خسارة فرد عين خسارة الآخرين، ولهذا السبب أتى القرآن في هذا المقام بضمير المخاطب بدل ضمير الغائب إذ قال: ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ ولم يقل (أموالهم)، يعني أنّ هذه الأموال ـ في الحقيقة ـ ليست مرتبطة باليتامى فقط، بل هي مرتبطة بكم أيضا، فإذا لحق بها ضرّر، يكون ذلك الضرّر قد لحق بكم بصورة غير مباشرة أيضا، ولهذا يجب أن تحرصوا في حفظها كل الحرص، ثمّ إنّ هناك تفسيرا آخر لهذا التعبير وهو أن المقصود من (أموالكم)، هو أموال نفس الأولياء لا أموال اليتامى، فيكون المعنى إذا أردتم مساعدة الأيتام الذين لم يرشدوا ربّما أعطيتهم شيئا من أموالكم ـ تحت تأثير العاطفة والإشفاق‏ ـ إليهم، واخترتموهم لبعض الأعمال التي لا يقدرون عليها فلا تفعلوا ذلك، بل عليكم أن تعملوا شيئا آخر مكان هذا العمل الغير العقلائي، وهو أن تقوموا بالإنفاق على مأكلهم وملبسهم ومسكنهم حتى يبلغوا سن الرشد، فإذا بلغوا هذه المرتبة، وحصلت لديهم البصيرة الكافية أعطوهم ما شئتم، وانتخبوهم لما تريدون من الأعمال.

8. وهذا في الواقع درس اجتماعي كبير يعلمه القرآن لنا حيث ينهانا عن تشغيل من لا يقدر على بعض الأعمال فيها، وذلك بدافع مساعدتهم وتحت تأثير الإشفاق والعاطفة، لأن هذه الأعمال وإن كانت تنطوي على بعض الأرباح القليلة، ولكنّها من الممكن أن تجرّ على المجتمع أضرارا وويلات كبيرة، فلا بدّ إذن من إدارة أمور هذه الطائفة من المجتمع عن طريق تقديم المساعدات الغير المعوضة إليهم أو تشغيلهم في أمور سهلة وصغيرة.

9. من هنا يتّضح أنّ بعض قاصري النظر يختارون الضعفاء والقصر لبعض المسؤوليات التبليغية والدينية إرفاقا بهم وإشفاقا عليهم وهذا لا شك من أضرّ الأعمال، وأكثرها بعدا عن العقل والمنطق الصحيح.

10. ثمّ أنّ القرآن الكريم يصف الأموال المذكورة في مطلع الآية الحاضرة بقوله: ﴿الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ هو تعبير جميل ورائع جدا عن الأموال والثّروات، فهي قوام الحياة الناس والمجتمع، وبدونها لا يمكن للمجتمع الوقوف على قدميه، فلا يصحّ إعطاؤها إلى السفهاء والمسرفين الذين لا يعرفون إصلاحها، بل ربّما أفسدوها وأتلفوها وألحقوا بسبب ذلك أضرارا كبيرة بالمجتمع.

11. ومن هذا التعبير نعرف جيدا ما يوليه الإسلام من الاهتمام بالأمور والشؤون الاقتصادية والمالية، وعلى العكس نقرأ في الإنجيل الحاضر: (فقال يسوع‏ لتلاميذه: الحق أقول لكم أنّه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات) في حين يرى الإسلام أنّ الأمّة الفقيرة لا تستطيع أبدا الوقوف على قدميها، وأنّه لعجيب أن نرى تلك الطائفة بلغت إلى ما بلغت من المراتب في عالمنا الراهن في حقول التقدم الاقتصادي مع ما هم عليه من التعاليم الخاطئة، في حين نعاني من هذا الوضع المأسوي مع ما نملك من التعاليم الحيوية العظيمة. غير أنّه لا داعي للعجب، فهم تركوا تلك الخرافات والأضاليل ـ في الحقيقة ـ فوصلوا إلى ما وصلوا، بينما تركنا نحن هذه التعاليم الراقية فوقعنا في هذه الحيرة، والتخلف.

12. ثمّ إن الله سبحانه يأمر ـ في شأن اليتامى ـ بأمرين مهمين هما:

أ. أوّلا: رزق اليتامى وإكسائهم من أموالهم حتى يبلغوا سن الرشد إذ يقول: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾، والجدير بالنظر هو أنّ الله تعالى عبّر في هذه الآية بلفظة (فيها) أي في أموال اليتامى لا (منها) أي من أموالهم إذ المفهوم من هذا التعبير هو أن تدبير شؤون اليتامى والإنفاق عليهم يجب أن يتمّ من أرباح أموالهم، إذ لو قال سبحانه: وارزقوهم منها لفهم من ذلك أنّ على الولي أن يقتطع من أصل أموالهم شيئا فشيئا، وهذا يعنى أن يفقد اليتامى شيئا كبيرا من أموالهم حينما يبلغون ويصلون إلى سن الرشد، ولكن القرآن الكريم باستبداله لفظة (منها) بلفظة (فيها) يكون قد أوصى أولياء اليتامى بأن يحرصوا كلّ الحرص على أموال اليتامى، ويحاولوا الإنفاق من أرباح رؤوس أموالهم وذلك باسترباح هذه الأموال واستثمارها ولو بقدر نفقات اليتامى كيما تبقى هذه الأموال على حالها حين بلوغهم سن الرشد.

ب. ثانيا: مخاطبة اليتامى والتكلم معهم بقول طيب ورقيق إذ قال سبحانه: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ كيما يزيلوا بمثل هذا القول المعروف ما يشعر به اليتامى من نقصان روحي وعقد نفسية، كما يساعدوا بذلك على ترشيدهم وبلوغهم حدّ الرشد العقلي، حتى يتمتعوا عند البلوغ بالرشد العقلي اللازم، وبهذا الطريق يكون بناء شخصية اليتيم وترشيده عقليا من وظائف الأولياء ومسئولياتهم أيضا.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/106.

6. أموال اليتامى والابتلاء والأكل والدفع

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈6⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا﴾ [النساء: 6]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

عائشة:

روي عن عائشة (ت 57 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّها قالت في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إنها: نزلت في والي اليتيم إذا كان فقيرا، أنه يأكل منه مكان قيامه عليه بمعروف(1).

2. روي أنّه قال: والي اليتيم إذا كان محتاجا يأكل بالمعروف؛ لقيامه بماله(2).

__________

(1) البخاري ٣/ ٧٩.

(2) ابن جرير ٦/ ٤٢٥.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾، يعني: اختبروا اليتامى(1).

2. روي أنّه قال: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ عند الحلم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ﴾ عرفتم منهم(2).

4. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ إذا أدرك اليتيم بحلم، وعقل، وقار؛ دفع إليه ماله(3).

5. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ عرفتم منهم رشدا في حالهم، والإصلاح في أموالهم(4).

6. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا﴾، يعني: يأكل مال اليتيم؛ يبادره قبل أن يبلغ؛ فيحول بينه وبين ماله(5).

7. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ يستعف بماله حتى لا يفضي إلى مال اليتيم(6).

8. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ بغناه من ماله، حتى يستغني عن مال اليتيم، لا يصيب منه شيئا(7).

9. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يأكل من ماله، يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم(7).

10. روي أنّه قال: والي اليتيم إن كان غنيا فليستعفف ولا يأكل، وإن كان فقيرا أخذ من فضل اللبن، وأخذ بالقوت لا يجاوزه، وما يستر عورته من الثياب، فإن أيسر قضاه، وإن أعسر فهو في حل(8).

11. روي أنّه قال: في الآية: إن كان غنيا فلا يحل له أن يأكل من مال اليتيم شيئا، وإن كان فقيرا فليستقرض منه، فإذا وجد ميسرة فليعطه ما استقرض منه، فذلك أكله بالمعروف(9).

12. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إذا احتاج ولي اليتيم وضع يده فأكل من طعامهم، ولا يلبس منه ثوبا ولا عمامة(10).

13. روي أنّه قال: ﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بأطراف أصابعه الثلاث(11).

14. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ هو القرض(12).

15. روي أنّه قال: يأكل الفقير إذا ولي مال اليتيم بقدر قيامه على ماله ومنفعته له، ما لم يسرف أو يبذر(13).

16. روي أنّه جاءه أعرابي، فقال: إن في حجري أيتاما، وإن لهم إبلا، فماذا يحل لي من ألبانها؟ فقال: إن كنت تبغي ضالتها، وتهنأ جرباها، وتلوط حوضها، وتسعى عليها؛ فاشرب غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب(14).

17. روي أنّه جاءه رجل من همدان على فرس أبلق، فقال: إن عمي أوصى إلي بتركته، وإن هذا من تركته، أفأشتريه؟ قال لا، ولا تستقرض من أموالهم شيئا(15).

18. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، قال نسخ الظلم والاعتداء، ونسختها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ الآية(16).

19. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ إذا دفع إلى اليتيم ماله فليدفعه إليه بالشهود كما أمره الله(17).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٤٠٣.

(2) ابن جرير ٦/ ٤٠٤.

(3) ابن المنذر ٢/ ٥٦٨.

(4) ابن جرير ٦/ ٤٠٦.

(5) ابن جرير ٦/ ٤٠٩.

(6) ابن المنذر ٢/ ٥٧٠.

(7) ابن جرير ٦/ ٤١١.

(8) آدم بن أبي إياس كما في تفسير مجاهد، ص ٢٦٧.

(9) ابن جرير ٦/ ٤١٤.

(10) سعيد بن منصور (٥٧٠.

(11) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٦٩.

(12) ابن جرير ٦/ ٤١٢.

(13) ابن المنذر ٢/ ٥٧١.

(14) سفيان الثوري في تفسيره ص ٩١.

(15) عبد الرزاق ١/ ١٤٨.

(16) ابن المنذر ٢/ ٥٧٢.

(17) ابن جرير ٦/ ٤٢٩.

السلماني:

روي عن عبيدة السلماني (ت 72 هـ) أنّه قال: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ إذا أقام الصلاة(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٦٦.

ابن عمرو:

روي عن ابن عمرو بن العاص (ت 77 هـ)، أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: ليس لي مال، ولي يتيم، فقال: (كل من مال يتيمك غير مسرف، ولا مبذر، ولا متأثل(1)، مالا، ومن غير أن تقي مالك بماله(2).

__________

(1) ولا متأثل: أي: غير جامع، النهاية (أثل).

(2) أحمد ١١/ ٣٥٩.

جابر:

روي عن جابر بن عبد الله (ت 78 هـ) أن رجلا قال يا رسول الله، مم أضرب يتيمي؟ قال: مما كنت ضاربا منه ولدك، غير واق مالك بماله، ولا متأثل منه مالا(1).

__________

(1) ابن حبان ١٠/ ٥٤.

أبو الخير:

روي عن أبي الخير (ت 90 هـ)، أنه سأل ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الأنصار عن قول الله ـ عز وجل ـ: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، فقالوا: فينا ـ والله ـ أنزلت، كان الرجل يلي مال اليتيم له النخل، فيقوم عليها، فإذا طابت الثمرة كانت يده مع أيديهم مثل ما كانوا مستأجرين به غيره في القيام عليها(1).

__________

(1) أورده يحيى بن سلام ـ كما في تفسير ابن أبي زمنين ١/ ٣٤٨.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ما أكلت من مال اليتيم فهو دين عليك، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِم﴾(1).

2. روي أنّه قال في والي مال اليتيم: يأكل من رسل الماشية، ومن الثمرة؛ لقيامه عليه، ولا يأكل من المال، وقال: ألا ترى أنه قال: ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾(2).

3. روي أنّه قال في الآية: يقول للأوصياء: إذا دفعتم إلى اليتامى أموالهم إذا بلغوا الحلم ﴿فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ بالدفع إليهم أموالهم(3).

__________

(1) ابن أبي شيبة في مصنفه (ت: محمد عوامة) ١١/ ١٦٣.

(2) ابن جرير ٦/ ٤٢١.

(3) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٧١.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ صلاحا في دينهم، وحفظا لأموالهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾، يعني: ادفعوا إلى اليتامى أموالهم إذا كبروا(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا﴾، يعني: في غير حق(1).

4. روي أنّه قال: ﴿وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ خشية أن يبلغ الحلم فيأخذ ماله(2).

5. روي أنّه قال: يأكل قرضا بالمعروف(3).

6. روي أنّه قال: هو القرض، ما أصاب منه من شيء قضاه إذا أيسر، يعني: قوله: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾(4).

7. روي عن حماد، أنه سأل سعيد بن جبير عن هذه الآية: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، قال إن أخذ من ماله قدر قوته قرضا، فإن أيسر بعد قضاه، وإن حضره الموت ولم يوسر تحلله من اليتيم، وإن كان صغيرا تحلله من وليه(4).

8. روي أنّه قال: إذا احتاج الولي، أو افتقر، فلم يجد شيئا؛ أكل من مال اليتيم، وكتبه، فإن أيسر قضاه، وإن لم يوسر حتى تحضره الوفاة دعا اليتيم فاستحل منه ما أكل(5).

9. روي أنّه قال: ﴿وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا﴾، يعني: شهيدا، يعني: لا شاهد أفضل من الله فيما بينكم وبينهم(6).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٦٦.

(2) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٦٧.

(3) سفيان الثوري في تفسيره ص ٨٩.

(4) ابن جرير ٦/ ٤١٤.

(5) ابن جرير ٦/ ٤١٦.

(6) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٧١.

النخعي:

روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إذا عمل فيه والي اليتيم أكل بالمعروف(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إذا افتقر الوصي، واحتاج، ولم يجد شيئا؛ أكل بالمعروف(2).

3. روي أنّه قال: ﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ما سد الجوع، وارى العورة، أما إنه ليس لبوس الكتان والحلل(3).

4. روي أنّه قال: ﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، في الوصي، لا قضاء عليه(1).

5. روي أنّه كان لا يرى على ولي اليتيم قضاء إذا أكل وهو محتاج(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٤٢٤.

(2) ابن جرير ٦/ ٤٢٦.

(3) سفيان الثوري في تفسيره ص ٨٩.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لا يعطى اليتيم وإن بلغ مائة سنة، حتى يعلم منه إصلاح ماله(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾: يعني: ركوب الدابة، وخدمة الخادم، فإن أخذ من ماله قرضا في غنى فعليه أن يؤديه، وليس له أن يأكل من ماله شيئا(2).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/ ٢٥٤.

(2) ابن جرير ٦/ ٤٢٣.

الشعبي:

روي عن الشعبي (ت 103 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إن الرجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ هو عليه كالميتة، والدم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ لا يأكله إلا أن يضطر إليه، كما يضطر إلى الميتة، فإن أكل منه شيئا قضاه(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إذا كان فقيرا أكل من التمر، وشرب من اللبن، وأصاب من الرسل(4).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٤٠٧.

(2) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٦٨.

(3) ابن جرير ٦/ ٤١٥.

(4) ابن جرير ٦/ ٤٢٢.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ﴾ أحسستم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ العقل(2).

3. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ ألا يخدع عن ماله، ولا يسرف فيه(3).

4. روي أنّه قال: لا تدفع إلى اليتيم ماله وإن شمط ما لم يؤنس منه رشدا(4).

__________

(1) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره ص ٧٤.

(2) ابن أبي شيبة ٨/ ٤٨٨.

(3) الثوري في تفسيره ص ٨٨.

(4) سعيد بن منصور (٥٦٣.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ذكر الله مال اليتامى، فقال: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ومعروف ذلك أن يتقي الله في يتيمه(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٤٢٤.

ابن سيرين:

روي عن محمد بن سيرين (ت 110 هـ) أنّه قال: سألت عبيدة السلماني عن قوله: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، قال: إنما هو قرض، ألا ترى أنه قال: ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾، قال فظننت أنه قالها برأيه(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٤١٢.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ صلاحا في دينه، وحفظا لماله(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا﴾ لا تسرف فيها(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ والي مال اليتيم إن كان غنيا فليستعفف أن يأكل من أموالهم شيئا(3).

4. روي أنّه قال: إنما كانت أموالهم إذ ذاك النخل والماشية، فرخص لهم إذا كان أحدهم محتاجا أن يصيب من الثمار، ويأكل من الرسل(4).

5. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا﴾ وهو يقوم لهم بما يصلحهم، فليأكل من حواشي أموالهم وأطرافه بالمعروف(5).

6. روي أنّه قال: إذا احتاج أكل بالمعروف من المال، طعمة من الله ـ عز وجل ـ(6).

7. روي أنّه قال: يأكل من الصامت وغيره، ولا يقضي(7).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٤٠٥.

(2) عبد الرزاق ١/ ١٤٦.

(3) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٦٨.

(4) ابن جرير ٦/ ٤٢١.

(5) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٦٩.

(6) ابن جرير ٦/ ٤٢٥.

(7) ابن المنذر ٢/ ٥٧٣.

الحكم:

روي عن الحكم بن عتيبة (ت 113 هـ) أنّه قال: ﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ من مال نفسه(1).

__________

(1) ابن المنذر ٢/ ٥٧٦.

عطاء:

روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: يضع يده مع أيديهم، فيأكل معهم؛ كقدر خدمته، وقدر عمله(1).

2. روي أنّه قال: خمس في كتاب الله رخصة، وليست بعزيمة، قوله: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إن شاء أكل، وإن شاء لم يأكل(2).

3. روي أنّه قال في قوله: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، قال إذا احتاج فليأكل بالمعروف، [فإن أيسر بعد ذلك فلا قضاء عليه(3).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٤٢٥.

(2) ابن المنذر ٢/ ٥٧٦.

(3) ابن جرير ٦/ ٤٢٤.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ فقال: هذا رجل يحبس نفسه لليتيم على حرث أو ماشية ويشغل فيها نفسه، فليأكل منه بالمعروف، وليس ذلك له في الدنانير والدراهم التي عنده موضوعة(1).

2. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ فقال: ذلك إذا حبس نفسه في أموالهم فلا يحترث لنفسه، فليأكل بالمعروف من أموالهم(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي 1/222.

مكحول:

روي عن مكحول الشامي (ت 116 هـ) أنّه سئل عن والي اليتيم: ما أكله بالمعروف إذا كان فقيرا؟ قال: يده مع يده، قيل له: فالكسوة؟ قال يلبس من ثيابه، فأما أن يتخذ من ماله مالا لنفسه فلا(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٤١٩.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ صلاحا في عقله، ودينه(1).

2. روي أنّه قال: ذكر لنا: أن عم ثابت بن رفاعة ـ وثابت يومئذ يتيم في حجره ـ من الأنصار أتى نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري، فماذا يحل لي من ماله؟ قال: أن تأكل من ماله بالمعروف من غير أن تقي مالك بماله، ولا تتخذ من ماله وفرا، قال وكان اليتيم يكون له الحائط من النخل، فيقوم وليه على صلاحه وسقيه، فيصيب من ثمره، ويكون له الماشية، فيقوم وليه على صلاحها، ومؤنتها، وعلاجها، فيصيب من جزازها، ورسلها(2).. وعوارضها(3).. فأما رقاب المال فليس لهم أن يأكلوا، ولا يستهلكوه(4).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٤٠٥.

(2) الرِّسْل: الهزيلة قليلة الشحم واللحم واللبن، التاج (رسل).

(3) عوارضها: جمع عارض، وهي الناقة المريضة، أو التي أصابها كسر، النهاية (عرض).

(4) ابن منده في معرفة الصحابة ص ٣٥٠، وأبو نعيم في معرفة الصحابة ١/ ٤٧٧.

القرظي:

روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ عن مال اليتيم، ولا يأكل منه شيئا، وأجره على الله(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يتقرم تقرم البهيمة، وينزل نفسه بمنزلة الأجير فيما لا بد له منه(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي ٣/ ٢٥٩.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ معناه أبصرتم.. فالرّشد العقل.. والرّشد في الدّين، والصّلاح في المال(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا﴾: فالإسراف: الإفراط.. والبدار: المبادرة(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 116.

الزهري:

روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: في أموال اليتامى قال: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، نسخت بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾(1).

__________

(1) الناسخ والمنسوخ للزهري ص ٢٢.

ابن قيس:

روي عن محمد بن قيس (ت 126 هـ) أنّه قال: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ خمس عشرة(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٦٥.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ فجربوا عقولهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ عقولا، وصلاحا(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ فمن كان غنيا من ولي مال اليتيم فليستعفف عن أكله، ومن كان فقيرا من ولي مال اليتيم فليأكل معه بأصابعه؛ لا يسرف في الأكل، ولا يلبس(2).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٤٠٣.

(2) ابن جرير ٦/ ٤١٨.

ربيعة الرأي:

روي عن ربيعة الرأي (ت 136 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه كان يقول في هذه الآية: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ [الأحقاف: ١٥]: الأشد: الحلم، وتلا هذه الآية: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ [الأنعام: ١٥٢]، وقال الله: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾، فكان ربيعة يرى أن الأشد: الحلم، في هاتين الآيتين(1).

2. روي عن نافع بن أبي نعيم القاري: سألت يحيى بن سعيد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله: ﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، قالا: ذلك في اليتيم، إن كان فقيرا أنفق عليه بقدر فقره، ولم يكن للولي منه شيء(2).

__________

(1) عبد الله بن وهب في الجامع ـ تفسير القرآن ٢/ ١١٠.

(2) عبد الله بن وهب في الجامع ـ تفسير القرآن ١/ ٢٤.

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في قول الله: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ بعد الاحتلام يكون الرشد(1).

2. روي أنّه قال في سورة النساء: ﴿وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه﴾، فنسختها آية الميراث، لكل امرئ نصيبه، وقال في أموال اليتامى: ﴿من كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف﴾، ثم قال لمن أكله ظلما: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: ١٠](2).

__________

(1) عبد الله بن وهب في الجامع ـ تفسير القرآن ٢/ ١٦٦.

(2) عبد الله بن وهب في الجامع ـ تفسير القرآن ٣/ ٦٨ ـ ٦٩.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: المعروف ركوب الدابة، وخدمة الخادم، وليس له أن يأكل من ماله شيئا(1).

__________

(1) تفسير البغوي ٢/ ١٦٨.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾، فقال: إيناس الرشد: حفظ المال(1).

2. روي أن نجدة الحروري كتب إليه يسأله عن اليتيم: متى ينقضي يتمه؟ فكتب إليه: أما اليتيم فانقطاع يتمه أشده ـ وهو الاحتلام ـ إلا أن لا يؤنس منه رشد بعد ذلك، فيكون سفيها، أو ضعيفا، فليشد عليه(2).

3. روي أنّه قال: انقطاع يتم اليتيم الاحتلام، وهو أشده، وإن احتلم ولم يؤنس منه رشد، وكان سفيها أو ضعيفا، فليمسك عنه وليه ماله(3).

4. روي أنّه سئل عن اليتمية، متى يدفع إليها مالها؟ قال إذا علمت أنها لا تفسد ولا تضيع، فسئل: إن كانت قد تزوجت؟ فقال: إذا تزوجت فقد انقطع ملك الوصي عنها(4).

5. روي أنّه قال في قول الله ـ عزّ وجلّ ـ: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾: من كان يلي شيئا لليتامى، وهو محتاج، ليس له ما يقيمه، وهو يتقاضى أموالهم ويقوم في ضيعتهم، فليأكل بقدر ولا يسرف، فإن كانت ضيعتهم لا تشغله عمّا يعالج لنفسه فلا يرز أنّ من أموالهم شيئا(5).

6. روي أنّه قال في قول الله عز وجل: ﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾: المعروف هو القوت، وإنما عنى الوصي أو القيم في أموالهم وما يصلحهم(6).

7. روي عن عبد الله بن سنان، قال سئل الإمام الصادق وأنا حاضر، عن القيم لليتامى في الشراء لهم والبيع فيما يصلحهم، أله أن يأكل من أموالهم؟ فقال: لا بأس أن يأكل من أموالهم بالمعروف، كما قال الله تعالى في كتابه: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ هو القوت، وإنما عنى ﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ الوصي لهم، أو القيم في أموالهم وما يصلحهم(7).

8. روي أنّه قال في قوله عز وجل: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾: ذاك رجل يحبس نفسه عن المعيشة، فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم أموالهم، فإن كانت المال قليلا، فلا يأكل منه شيئا(8).

9. روي أنّه سئل عن رجل بيده ماشية لابن أخ يتيم في حجره، أيخلط أمرها بأمر ماشيته؟ فقال: إن كان يليط حياضها، ويقوم على هنائها، ويرد شاردها، فليشرب من ألبانها غير مجتهد للحلاب، ولا مضر بالولد، ثم قال: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾(9).

10. روي أنّه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ قال: إيناس الرشد: حفظ المال(10).

11. روي أنّه قال في تفسير هذه الآية: إذا رأيتموهم وهم يحبون آل محمد فارفعوهم درجة، قال ابن بابويه: الحديث غير مخالف لما تقدمه، وذلك أنه إذا أونس منه الرشد ـ وهو حفظ المال ـ دفع إليه ماله، وكذلك إذا أونس منه الرشد في قبول الحق اختبر به، وقد تنزل الآية في شيء وتجري في غيره(11).

12. روي أنّه قال: انقطاع يتم اليتيم الاحتلام، وهو أشده، وإن احتلم ولم يؤنس منه رشد، وكان سفيها أو ضعيفا، فليمسك عنه وليه ماله(12).

13. روي أنّه سئل عن اليتمية، متى يدفع إليها مالها؟ قال: إذا علمت أنها لا تفسد ولا تضيع، فسئل: إن كانت قد تزوجت؟ فقال: إذا تزوجت فقد انقطع ملك الوصي عنها، قال ابن بابويه: يعني بذلك إذا بلغت تسع سنين(10).

14. روي أنّه قال في قول الله عز وجل: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قال: من كان يلي شيئا لليتامى وهو محتاج ليس له ما يقيمه فهو يتقاضى أموالهم، ويقوم في ضيعتهم، فليأكل بقدر الحاجة ولا يسرف، فإذا كانت ضيعتهم لا تشغله عما يعالج لنفسه فلا يرزأن أموالهم شيئا(13).

15. روي عن عبد الله بن سنان الإمام الصادق، في قول الله عز وجل: ﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قال: المعروف هو القوت، وإنما عنى الوصي أو القيم في أموالهم وما يصلحهم(14).

16. روي أنّه سئل عن القيم لليتامى في الشراء لهم والبيع فيما يصلحهم، أله أن يأكل من أموالهم؟فقال: لا بأس أن يأكل من أموالهم بالمعروف، كما قال الله تعالى في كتابه: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ هو القوت، وإنما عنى ﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ الوصي لهم، أو القيم في أموالهم وما يصلحهم(15).

17. روي أنّه سئل عن قوله عز وجل: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، فقال: فذاك رجل يحبس نفسه عن المعيشة، فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم أموالهم، فإن كانت المال قليلا، فلا يأكل منه شيئا(14).

__________

(1) من لا يحضره الفقيه 4/ 164/ 575.

(2) تفسير العيّاشي 1/ 221/ 25.

(3) من لا يحضره الفقيه 4/ 163/ 569.

(4) من لا يحضره الفقيه 4/ 164/ 572.

(5) الكافي 5 / 129، ح 1.

(6) الكافي 5/ 130/ 3.

(7) التهذيب 9/ 244/ 949.

(8) الكافي 5/ 130/ 5.

(9) تفسير العيّاشي 1/ 221/ 28.

(10) من لا يحضره الفقيه 4/164.

(11) من لا يحضره الفقيه 4/165.

(12) من لا يحضره الفقيه 4/163.

(13) الكافي 5/129.

(14) الكافي 5/130.

(15) التهذيب 9/244.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾، يعني: الأولياء والأوصياء، يقول: اختبروهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ في الدين، والرغبة فيه، وإصلاحا لأموالهم؛ ﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٦٥.

(2) البيهقي في السنن الكبرى ٦/ ٨٨.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ثم رخص للذي معه مال اليتيم، فقال سبحانه: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ عن أموالهم، ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يعني: بالقرض، فإن أيسر رد عليه، وإلا فلا إثم عليه(1).

2. روي أنّه قال: نزلت في ثابت بن رفاعة وعمه، وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه؛ ثابت، فولي ميراثه؛ فنزلت فيه: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾، يقول: واختبروا، يعني به: عم ثابت بن رفاعة، ﴿الْيَتَامَى﴾ يعني: ثابت بن رفاعة، الآية كلها، حتى قال سبحانه: ﴿وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا﴾(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/ ٣٥٨.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ صلاحا، وعلما بما يصلحه(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٤٠٧.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ اختبروه في رأيه وفي عقله كيف هو، إذا عرف أنه قد أونس منه رشد دفع إليه ماله، قال وذلك بعد الاحتلام(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٤٠٣.

أبو يوسف:

روي عن أبي يوسف القاضي (ت 182 هـ) يعقوب بن إبراهيم، صاحب أبي حنيفة أنّه قال: لا أدري، لعل هذه الآية منسوخة بقوله ـ عز وجل ـ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٢٩](1).

__________

(1) النحاس في ناسخه ص ١٤٦.

الرسّي:

ذكر الإمام القاسم الرسي (ت 246 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سألت عن قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، هو: ومن كان لليتيم وليا فليستعفف، معناها: فليعف عن أن يأكل من مال اليتيم شيئا، ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا﴾، يعني: معسرا، ﴿فَلْيَأْكُلْ﴾ من مال اليتيم ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾، يقول: بأمر مقدر موظوف، ليس منه فيه إسراف، ولا بمال يتيمه إجحاف.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/208.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل ﴿وَابْتَلُوا﴾ أي: اختبروا اليتامى، والاختبار هو: النظر إلى أفعالهم، والتمييز لأحوالهم، وما يكون من رشدهم.. ومعنى ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ فالنكاح هو: التزويج، والبلوغ هو: الاحتلام، وقال سبحانه: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ عند بلوغ النكاح، ﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ التي في أيديهم التي على أيديكم، وقال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾، والإسراف هو: الإفراط في ما لا يجوز أكله، والبدار هو: الاستعجال والمسابقة في إفنائها قبل بلوغ اليتامى.

2. ثم قال سبحانه: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾، والاستعفاف هو: الاشتغال بمال نفسه، والاستجزاء به عن مال اليتيم الذي في يده.

3. ثم قال سبحانه: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، والمعروف هو: الوسط من الأمور، وما يعرف بالكفاية والقوت، لا بالإفراط والسرف.

4. ثم قال سبحانه: ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾، يعني: اليتامى، ﴿فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ بدفعها، ﴿وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا﴾

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/209.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي:

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾:

أ. قال بعضهم: قوله ـ عزّ وجل ـ: ﴿حَتَّى إِذَا﴾ حرف، (حتى) صلة؛ وتأويله: وابتلوا اليتامى إذا بلغوا النكاح؛ وهو قول الشافعي، يجعل الابتلاء بعد البلوغ‏... وإن كان المراد بالابتلاء بعد البلوغ والكبر فهو ـ أيضا ـ يحتمل وجهين:

يحتمل العلم بها نفسه.

ويحتمل العمل بها والعلم، ولا يضعوها في غير موضعها.. وقوله: إن حرف‏ ﴿حَتَّى﴾ صلة: إنه لو جاز له أن يجعل هذا صلة، لجاز لغيره أن يجعل الرشد صلة فيه؛ إذ لا فرق بين هذا وبين الأول أن يجعل صلة.

ب. ويحتمل أن يكون المراد بالابتلاء ـ قبل البلوغ؛ لوجهين:

أحدهما: أن يبتلي الأيتام قبل بلوغهم بأنواع العبادات والآداب؛ ليعتادوا بها ويتأدبوا؛ ليعرفوا حقوق الأموال وقدرها، ويحفظوها إذا بلغوا؛ لأنهم إذا ابتلوا بعد البلوغ لم يعرفوا ما عليهم من العبادات والفرائض وقت البلوغ، وكان في ذلك تضييع حقوق الله وفرائضه؛ إذ لا سبيل لهم إلى القيام بها حتى البلوغ، فأمر الأولياء والأوصياء أن يبتلوهم قبل البلوغ، حتى إذا بلغوا، بلغوا عارفين لما عليهم من العبادات والحقوق، حافظين لها؛ ألا ترى إلى ما روي في الخبر أنه أمر الأب أنه يأمر ولده بالصلاة إذا كان ابن سبع، وأمر بالضرب والتأديب‏ إذا كان ابن تسع و، بالتفريق في المضاجع‏، وهو من حقوق الخلق!؟ فهذا ليعتادوا، ويأخذوا الأدب قبل البلوغ، حتى إذا بلغوا عرفوا ما عليهم، وهان القيام بها، وإذا لم يعوّدوا قبل ذلك يشتد عليهم القيام بإقامة العبادات وأداء الحقوق؛ فعلى ذلك الأول.

ووجه آخر: أن يبتلي عقولهم بشيء من أموالهم يتجرون بها، ويتقلبون فيها؛ لينظروا: هل يقدرون على حفظ أموالهم عند حدوث الحوادث والنوائب؟ ففيه دليل جواز الإذن في التجارة في حال الصغر؛ لأنه لا يظهر ذلك إلا بالتجارة.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾:

أ. قال بعضهم: هو أن يصير هو من أهل الشهادة؛ فحينئذ يدفع إليه المال؛ فعلى قوله يجيء أن ينتزع الأموال من أيدي الفساق؛ لأنه لا شهادة لهم؛ ومن قوله: إن اليتيم من أهل الكفر لا يدفع إليه المال إلا بعد استئناس الرشد منه، فلو كان شرط الرشد هو شهادة لكان الكافر لا يدفع إليه عنده؛ لما لا يقبل الشهادة ما لزم الكفر على أحد؛ دل أن‏ الرشد ليس ما ذكر، ولكن ما قيل من العقل والحفظ لماله، والإصلاح فيها.

ب. وروى عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ قال: إذا أدرك بحلم وعقل ووقار، وهو يقول ـ أيضا ـ في قوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ رُشْدًا﴾: إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: اختبروا اليتامى من عند الحلم، فإن عرفتم منهم رشدا في حالهم، والإصلاح في أموالهم ـ: ﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾، وفي حرف ابن مسعود: (فإن أحسستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم)، وفي حرف حفصة: (وابتلوا اليتامى في أموالهم حتى إذا بلغوا النكاح بعد كبرهم)

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا﴾:

أ. قيل: الإسراف: هو كل ما نهي عنه.

ب. وقيل: الإسراف: هو أكل في غير حق‏؛ وكأن الإسراف هو المجاوزة عن الحد، وهو كقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا﴾ [الفرقان: 67]، وكان القتر مذموما، فعلى ذلك الإسراف في النفقة في مال اليتيم.

4. ﴿إِسْرَافًا وَبِدَارًا﴾، قيل: البدار: هو المبادرة، وكلاهما لغتان، كالجدال والمجادلة، وهو أن يبادر بأكل مال اليتيم؛ خشية أن يكبر؛ فيحول بينه وبين ماله، وهو قول ابن عباس، وفي حرف ابن مسعود: (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا خشية أن يكبروا)

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾:

أ. قيل: أطلق الله تعالى لولي اليتيم ـ بظاهر الآية؛ إذا كان فقيرا ـ أن يأكل بالمعروف من غير إسراف، وذلك هو الوسط منها، وكذلك روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّ رجلا سأله، فقال: ليس لي مال، ولي يتيم؟ فقال: (كل مال يتيمك غير مسرف، ولا متأثّل‏ مالك بماله) وفيه دليل أن الغني لا يجوز له أن يأكل مال اليتيم، وأن الفقير إذا أكل منه: أنفق نفقة لا إسراف فيها، وعن عمر قال: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم: إذا استغنيت استعففت، وإذا احتجت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت‏، وروي عن ابن عباس قال الوصي إذا احتاج وضع يده مع أيديهم، ولا يكتسى عمامة، وعن عائشة قالت: في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، قالت‏: يأكل والي اليتيم من مال اليتيم؛ إذا كان يقوم له على ماله، ويصلح إذا كان محتاجا.

ب. وقيل: يأكل قرضا ثم يرد عليه إذا أيسر، وهو قول ابن عباس‏.

ج. وقيل: ﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، أي: من مال نفسه، حتى لا يفضي إلى مال اليتيم‏.

د. وقيل: يأكل إذا كان يعمل له، ويقوم عليه‏.

هـ. وقيل: يأكل قرضا؛ ألا ترى إلى قول الله تعالى: ﴿فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾: أمر بالإشهاد عليهم عند الدفع، ولو كان أمانة في يده لم يحتج إلى الإشهاد في الدفع، ولكن يجوز أن يأمر بالإشهاد لا لمكان الوصي نفسه؛ ولكن لما يجوز أن يحدث بينه وبين ورثة الوصى خصومة فيشهد؛ ليدفع تلك الخصومة عنهم.

و. وقيل: الأكل بالمعروف هو ما يسد به جوعه، ويواري عورته‏.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾:

أ. قيل: شهيدا بما أخذ من ماله وأنفق.

ب. ويحتمل قوله: ﴿حَسِيبًا﴾ يحاسبه في الآخرة؛ إذا لم يحاسبه اليتيم في الدنيا.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ يريد عز وجل بقوله: وابتلوا اليتامى، أي اختبروهم، فإن رأيتم وعلمتم منهم رشداً عند بلوغ النكاح فادفعوا إليهم أموالهم.

2. ومعنى قوله: ﴿رَشَدًا﴾ أي فهماً وعقلاً، وإن كانوا مجانين لا يعقلون لم تدفع إليهم أموالهم.

3. معنى قوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾، فهذا نهي من الله عز وجل لعباده عن أكل أموال اليتامى سرفاً وإفراطاً، ومسابقة ومبادرة وبداراً، والبدار: هو السباق لئلا يكبروا فيجدوها، فنهى عزوجل عن مسابقة الأيتام في هلاك أموالهم قبل بلوغهم وقت النكاح وكبرهم.

4. معنى قوله: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي من كان غنياً ذا مال فيتورع ويتعفف عن أكل أموال اليتيم الذي معه، ومن كان فقيراً فليقم بمال اليتيم ويأكل منه بالمعروف ولا يسرف، ولا ينفق من مال اليتيم نفقة كبيرة ولا يجحف، وإنما أطلق الله للفقير أن يأكل من مال اليتيم لأنه بمنزلة الأجرة، وإذا قام بالمال اشتغل بذلك عن الكسب لنفسه وضاع، إلا أن يقتات بعضه، فأطلق الله ذلك برحمته وعدله.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 234.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ أي الحلم ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ يعني عرفتم، والرشد هو العقل والعلم بما يصلحه والصلاح في المال ﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ يعني التي تحت أيديكم أيها الأولياء عليهم ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ أي لا تأكلوها إسرافاً على غير ما أباح الله لكم، وأصل الإسراف تجاوز الحد المباح أي ما ليس بمباح فربما كان ذلك في الإفراط فيها وربما كان ذلك في التقصير عنه أنه إذا كان في الإفراط فاللغة المستعملة أسرف إسرافاً، وإذا كان في التقصير قيل سرف يسرف.. وبداراً أن يكبروا وهو أن يأكل مال اليتيم مبادرة إليه قبل أن يكبر فيأخذ ماله فيحول بين الولي وبين ماله.

2. ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي يستقرض منه إذا احتاج إليه ثم يرد إذا وجد، ويجوز أن يأكل من بعده ويشرب من رسل ماشيته من غير تعرض لما سوى ذلك من فضة أو ذهب وذلك لقيامه على المال ومراعاته له.. وسأل أعرابي بعض علمائنا فقال له: إن في حجري أيتاماً وإن لهم إبلاً فماذا يحل لي من ألبانها؟ فقال: إن كنت تبغي ضالتها وتهيأ جربانها وتلوط حوضها وتفرط عليها يوم وردها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب، ويجوز أن يأخذ الولي إذا كان محتاجاً أجراً معلوماً لخدمته وعلى قدر عمله.

3. ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ فيكون بينة في دفع أموالهم ﴿وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا﴾ يعني شهيداً والثاني كافياً من الشهود.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/164.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي:

1. ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ أي اختبروهم في عقولهم وتمييزهم وأديانهم، ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ يعني الحلم في قول الجميع.

2. في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ أربع تأويلات:

أ. أحدها: أن الرشد العقل، وهو قول مجاهد، والشعبي.

ب. الثاني: أنه العقل والصلاح في الدين، وهو قول السدي.

ج. الثالث: أنه صلاح في الدين وإصلاح في المال، وهو قول ابن عباس، والحسن، والشافعي.

د. الرابع: أنه الصلاح والعلم بما يصلحه، وهو قول ابن جريج.

3. ﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ يعني التي تحت أيديكم أيها الأولياء عليهم، ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ يعني لا تأخذوها إسرافا على غير ما أباح الله لكم، وأصل الإسراف تجاوز الحد المباح إلى ما ليس بمباح، فربما كان في الإفراط، وربما كان في التقصير، غير أنه إذا كان في الإفراط فاللغة المستعملة فيه أن يقال أسرف إسرافا، وإذا كان في التقصير قيل سرف يسرف.

4. ﴿وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ قال ابن عباس: وهو أن تأكل مال اليتيم تبادر أن يكبر، فيحول بينك وبين ماله، ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ يعني بماله عن مال اليتيم.

5. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أربعة أقاويل:

أ. أحدها: أنه القرض يستقرض إذا احتاج ثم يرده إذا وجد، وهو قول عمر، وابن عباس، وجمهور التابعين.

ب. الثاني: أنه يأكل ما يسد الجوعة، ويلبس ما يواري العورة، ولا قضاء، وهو قول الحسن، وإبراهيم، ومكحول، وقتادة، روى شعبة عن قتادة أن عم ثابت بن رفاعة ـ وثابت يومئذ يتيم في حجره، أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا نبي الله إن ابن أخي يتيم في حجري، فما يحل لي من ماله؟ قال: أن تأكل بالمعروف من غير أن تقي مالك بماله ولا تتّخذ من ماله وقرا)

ج. الثالث: أن يأكل من ثمره، ويشرب من رسل ماشيته من غير تعرض لما سوى ذلك من فضة أو ذهب، وهو قول أبي العالية، والشعبي، روى القاسم بن محمد قال جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال: إن في حجري أيتاما، وإن لهم إبلا، فما ذا يحل لي منها؟ فقال: إن كنت تبغي ضالتها، وتهنأ جرباها، وتلوط حوضها، وتفرط عليها يوم وردها، فاشرب من ألبانها غير مضرّ بنسل، ولا بأهل في الحلب.

د. الرابع: أن يأخذ إذا كان محتاجا أجرة معلومة على قدر خدمته، وهو قول عطاء، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: ليس‏ لي مال ولي يتيم، فقال: (كل من مال يتيمك غير مسرف ولا واق مالك بماله)

6. ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ ليكون بيّنة في دفع أموالهم إليهم.

7. في قوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ قولان:

أ. أحدهما: يعني شهيدا.

ب. الثاني: كافيا من الشهود.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا خطاب لأولياء اليتامى، أمر الله تعالى بأن يختبروا عقول اليتامى في أفهامهم، وصلاحهم في أديانهم، وإصلاحهم أموالهم، وهو قول قتادة، والحسن، والسدي، ومجاهد، وابن عباس، وابن زيد، وقد بينا أن الابتلاء معناه الاختبار فيما مضى.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾:

أ. قيل: معناه: حتى يبلغوا الحد الذي يقدرون على مجامعة النساء وينزل، وليس المراد الاحتلام، لأن في الناس من‏ لا يحتلم، أو يتأخر احتلامه، وهو قول أكثر المفسرين: مجاهد، والسدي، وابن عباس، وابن زيد.

ب. ومنهم من قال إذا كمل عقله، وأونس منه الرشد، سلم إليه ماله، وهو الأقوى.

ج. ومنهم من قال لا يسلم إليه حتى يكمل له خمس عشرة سنة، وإن كان عاقلا، لأن هذا حكم شرعي، وبكمال العقل تلزمه المعارف لا غير.

د. وقال أصحابنا(2): حد البلوغ إما بلوغ النكاح، أو الانبات في العانة، أو كمال خمس عشرة سنة.

3. ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ معناه: فان وجدتم منه رشدا وعرفتموه، وهو قول ابن عباس، تقول: آنست من فلان خيراً إيناساً وأنست به أنساً: إذا ألفته، وفي قراءة عبد الله: فان أحسيتم يعني أحسستم، أي وجدتم، والأصل فيه: أبصرتم، ومنه قول: ﴿آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا﴾ أي أبصر، ومنه أخذ انسان العين، وهو حدقتها التي يبصر بها.

4. اختلفوا في معنى الرشد:

أ. قال ابن عباس: معناه: صلاحاً في الدين، وإصلاحاً للمال.

ب. وقال مجاهد، والشعبي: معناه العقل، قال لا يدفع إلى اليتيم ماله، وإن أخذ بلحيته، وإن كان شيخاً، حتى يؤنس منه رشده: العقل.

ج. وقال ابن جريج: صلاحاً، وعلماً بما يصلحه.

د. والأقوى أن يحمل على‏ أن المراد به العقل، وإصلاح المال، على ما قال ابن عباس، والحسن، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، للإجماع على أن من يكون كذلك لا يجوز عليه الحجر في ماله، وان كان فاجراً في دينه، فإذا كان ذلك اجماعا، فكذلك إذا بلغ، وله مال في يد وصي أبيه أو في يد حاكم قد ولي ماله، وجب عليه أن يسلم إليه ماله، إذا كان عاقلا، مصلحاً لما له، وإن كان فاسقاً في دينه.

5. في الآية دلالة على جواز الحجر على العاقل، إذا كان مفسداً في ماله، من حيث أنه إذا كان عند البلوغ يجوز منعه المال إذا كان مفسداً له، فكذلك في حال كمال العقل إذا صار بحيث يفسد المال، جاز الحج عليه، وهو المشهور في أخبارنا، ومن الناس من قال لا يجوز الحجر على العاقل، ذكرناه في الخلاف.

6. ﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا﴾ فهو خطاب لأولياء اليتيم، أمرهم الله تعالى إذا بلغ اليتيم، وأونس منه الرشد، على ما فسرناه، أن يسلم إليه ماله، ولا يحبسه عنه.

7. ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا﴾ معناه بغير ما أباحه الله لكم، وقال الحسن، والسدي: الإسراف في الاكل، وأصل الإسراف تجاوز الحد المباح إلى ما لم يبح، وربما كان ذلك في الافراط، وربما كان في التقصير، غير أنه إذا كان في الافراط يقال منه: أسرف يسرف إسرافاً، وإذا كان في التقصير يقال: سرف يسرف سرفاً، يقال: مررت بكم فسرفتكم، يريد: فسهوت عنكم، واخطأتكم، كما قال الشاعر:

çاعطوا هنيدة يحدوها ثمانية...ما في عطائهم من ولا سرف‏é

يعني لا خطأ فيه، يريد أنهم يصيبون مواضع العطاء فلا يخطونها.

8. ﴿وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ فالبدار والمبادرة مصدران، فنهى الله تعالى أولياء اليتامى أن يأكلوا أموالهم اسرافاً بغير ما أباح الله لهم أكله، ولا مبادرة منكم بلوغهم، وإيناس الرشد منهم، حذراً أن يبلغوا، فيلزمكم تسليمه إليهم، وبه قال ابن عباس، وقتادة، والحسن، والسدي، وابن زيد، وأصل البدار الامتلاء، ومنه البدر القمر، لامتلائه نوراً، والبدرة: لامتلائها بالمال، والبيدر: لامتلائه بالطعام، وموضع (أن (نصب بالمبادرة، والمعنى: لا تأكلوها مبادرة كبرهم، وقوله: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يعني: من كان غنياً من ولاة أموال اليتامى فليستعفف بماله عن أكلها، وبه قال ابن عباس، وإبراهيم.

9. ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قال عبيدة: معناه القرض، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، ألا ترى أنه قال ﴿فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ (وَمَنْ كانَ فَقِيراً﴾

10. اختلفوا في الوجه الذي يجوز له أكل مال اليتيم به إذا كان فقيراً، وهو المعروف:

أ. فقال سعيد بن جبير، وعبيدة السلماني، وأبو العالية، وأبو وائل، والشعبي، ومجاهد، وعمر بن الخطاب: هو أن يأخذه قرضاً على نفسه فيما لا بد له منه، ثم يقضيه، وبينا أنه المروي عن أبي جعفر عليه السلام.

ب. وقال الحسن، وإبراهيم، ومكحول، وعطاء بن أبي رباح: يأخذ ماسد الجوعة، ووارى العورة، ولا قضاء عليه، ولم يوجبوا أجرة المثل، لأن أجرة المثل ربما كانت أكثر من قدر الحاجة.

ج. الظاهر في أخبارنا أن له أجرة المثل، سواء كان قدر كفايته، أو لم يكن.

د. وسئل ابن عباس عن ولي يتيم له إبل هل له أن يصيب من ألبانها؟ فقال: إن كنت تلوط حوضها، وتهنأ جرباها، فأصبت من رسلها، غير مضر بغسل ولا ناهكه في الحلب، معنى تلوط حوضها: تطينه، وتهنأ جرباها، ومعناه: تطليها بالهناء، وهو الخضخاض، ذكره الازهري، والرسل اللبن، والنهك: المبالغة في الحلب.

11. اختلفوا في هل للفقير من ولي اليتيم أن يأكل من ماله هو وعياله:

أ. فقال عمرو بن عبيد: ليس له ذلك، لقوله: ﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ فخصه بالأكل.

ب. وقال الجبائي: له ذلك لأن قوله: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ يقتضى أن يأكل هو وعياله، على ما جرت به العادة في أمثاله، وقال إن كان المال واسعاً كان له أن يأخذ قدر كفايته، له ولمن يلزمه نفقته من غير إسراف، وإن كان قليلا كان له أجرة المثل‏ لا غير، وإنما لم يجعل له أجرة المثل إذا كان المال كثيراً لأنه ربما كان أجرة المثل أكثر من نفقته بالمعروف، وعلى ما قلناه من أن له أجرة المثل سقط هذا الاعتبار.

12. ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ خطاب لأولياء اليتامى، إذا دفعوا أموال اليتامى إليهم، أن يحتاطوا لأنفسهم بالإشهاد عليهم، لئلا يقع منهم جحود، ويكونوا أبعد من التهمة، وسواء كان ذلك في أيديهم، أو استقرضوه ديناً على نفوسهم، فان الاشهاد يقتضيه الاحتياط، وليس بواجب.

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كَفى‏ بِاللهِ حَسِيباً﴾:

أ. قيل: معناه: كفى الله، والباء زائدة.

ب. وقال السدي: معناه شهيدا هاهنا.

ج. وقيل: معناه: وكفى بالله كافياً من الشهود، ولأن أحسبنى معناه: كفاني، والمعنى: وكفى بالله شهيداً في الثقة بإيصال الحق إلى صاحبه والمحسب من الرجال المرتفع النسب، والمحسب، المكفي.

14. ولي اليتيم المأمور بابتلائه، وهو الذي جعل إليه القيام به، من وصي، أو حاكم، أو أمين، ينصبه الحاكم، وأجاز أصحابنا الاستقراض من مال اليتيم إذا كان ملياً، وفيه خلاف.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/117.

(2) يقصد الإمامية.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الابتلاء: الاختبار، ابتلى يبتلي ابتلاء، والنكاح يعبر به عن العقد وعن الوطء.

ب. الإيناس: الإحساس، وآنست: أبصرت، ومنه ﴿آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا﴾ أو آنست سمعت، وآنست علمت، وأصله الأنس، ومنه الإنس؛ لأنه يؤنس به، والإيناس إحساس ما يؤنس.

ج. الإسراف: مجاوزة الحد، ومنه السرف تجاوز الحد في التقصير، الأول في الإفراط.

د. البدار والمبادرة مصدران وأصله من الامتلاء، ومنه البدر للقمر لامتلائه نورًا، والبَدْرَة لامتلائها بالمال، والبيدر لامتلائه بالطعام، والمبادرة لأنها كإسراع الإمتلاء بفيض الإناء.

هـ. العفة: الكف عما لا يحل، يقال: رجل عف وامرأة عفة، وقد عف عفة وعفافًا.

2. نزلت الآية في ثابت بن رفاعة وفي عمه، وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه وهو صغير، فأتى عمه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال: ابن أخي يتيم في حجري، فما يحل لي من ماله؟ ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾

3. لما منع الله تعالى من دفع المال إلى السفهاء وأمر بدفعه إلى الأيتام بَيَّنَ الحد الفاصل، وبيّن ما يحل من ذلك للولي وما لا يحل، فقال تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾:

أ. خطابًا للقيم بأمر اليتامى من وصي أو حاكم أو أمين من جهته؛ أي اختبروا وجربوا عقولهم وصلاحهم لمالهم عن ابن عباس والسدي، وهو قول أبى حنيفة.

ب. وقيل: اختبروا عقولهم ودينهم عن الحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد؛ لأن خلاعته إن كانت تؤدي إلى إتلاف ماله فإنه لا يدفع إليه.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾:

أ. قيل: الحلم عن ابن عباس ومجاهد والسدي وابن زيد، وتقديره: حتى إذا بلغوا حال النكاح من الاحتلام،

ب. وقيل: حد النكاح والحاجة إليه، وهو أن يبلغ مبلغ الرجال والنساء.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ﴾:

أ. قيل: عرفتم عن ابن عباس.

ب. وقيل: أبصرتم.

6. ﴿مِنْهُمْ﴾ من اليتامى ﴿رَشَدًا﴾ فيه ثلاثة أقوال:

أ. الأول: الصلاح في العقل والدين عن الحسن وقتادة.

ب. الثاني: العقل خاصة عن قتادة.

ج. الثالث: الصلاح في العقل وحفظ المال عن ابن عباس والسدي، قال علي بن عيسى: وهذا أصح للإجماع؛ لأنه لا يجوز الحجر على الفاسق الذي ماله في يده، فكذلك الفاسق الذي ماله في يد وليه، فعلق دفع المال إليه بشيئين: البلوغ والرشد، ولا خلاف فيه، وإنما الخلاف في كيفية البلوغ والرشد على ما نبينه.

7. ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا﴾ خطاب للأولياء، يعني يا معاشر الأولياء لا تأكلوا أموال اليتامى ﴿إِسْرَافًا﴾:

أ. قيل: في حال الإسراف بأن أكلكم مالهم إسراف منكم.

ب. وقيل: كلوا القوت على قدر نفعكم إياهم، ولا تسرفوا في الأكل إسرافًا.

8. ﴿وَبِدَارًا﴾ يعني مبادرة ﴿أَنْ يَكْبَرُوا﴾ وفيه ضمير؛ أي حذر كبرهم، يعني خوفًا من أن يكبروا فيلزمهم تسليم المال إليه.

9. ثم بين الله تعالى ما يحل للولي وما لا يحل فقال تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ قيل: فليستعفف بغناه عن مال اليتامى عن ابن عباس وإبراهيم، ولا يأكل من مال اليتيم.

10. ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي من كان محتاجًا فليأكل:

أ. قيل: فليأكل من مال نفسه بالمعروف دون مال اليتيم عن ابن عباس.

ب. وقيل: فليأكل من مال اليتيم بالمعروف، ثم اختلفوا فقيل: قرضًا يتناول ما لا بُدَّ له منه، ثم يقضيه إذا وجد عن عمر وسعيد بن جبير وعبيدة السلماني وأبي العالية وأبي وائل والشعبي عن مجاهد والأصم.

ج. وقيل: ما يسد الجوعة، ويواري العورة عن الحسن وإبراهيم ومكحول وعطاء بن أبي رباح من غير قضاء.

د. وقيل: بمقدار ما فرض له من ماله لأجرته للقيام بأمره عن عائشة ومحمد بن كعب وواصل وجماعة من المفسرين والفقهاء، وهو الأوجه.

هـ. وقيل: أن يأكل ثمرة شجرته، ويشرب لبن ماشيته، فأما الذهب والفضة فلا يأخذ منهما شيئًا عن الحسن وجماعة.

و. وقيل: الأقل من قدر حاجته وقدر أجرته عن أبي علي.

ز. وقيل: إنه منسوخ بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ فلا يحل للفقير والغني أن يأكل من مال اليتامى.

ح. وقيل: هو ركوب دابته واستخدام خادمه، وليس له أن يأكل من ماله شيئًا عن الضحاك.

11. ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ﴾ يا معاشر الأولياء والقُوَّامِ ﴿إِلَيْهِمْ﴾ يعني إلى اليتامى عند البلوغ وإيناس الرشد ﴿فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾:

أ. قيل: أي على الأيتام باستيفائه منكم ثقة لكم، ونظرًا من الله تعالى لعباده.

ب. وقيل: قطعًا للنزاع.

ج. وقيل: لأنه إذا عدم كون ماله في يده، فإذا رد ليشهد عليه كي لا يجحد فيغرم.

د. وقيل: لأنه أنزه له وأظهر لأمانته.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا﴾:

أ. قيل: شاهدًا وعليمًا بأحواله.

ب. وقيل: محاسبًا على أعمالهم ومجازيًا عليها.

ج. وقيل: كفاك شهادة الله وعلمه فاكتف به تحذيرًا من الخيانات الجلية والخفية.

13. اختلفوا كيف يبتلى؟

أ. فقيل: يدفع إليه بعض ماله، ويؤذن له في التجارة إذا قارب البلوغ.

ب. وقيل: يضم إليه غيره ومعه شيء من ماله، ويجرب في البياعات على ألا ينفرد بشيء من ذلك.

ج. وقيل: يجرب في الأمور وإن لم يكن [له] تصرف في ماله؛ لأن ذلك ممكن.

14. بلوغ النكاح: المراد وقت البلوغ بالإجماع، والبلوغ يقع بخمسة أشياء مختلف فيها، ومتفق عليها، ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء، واثنْان تخص النساء، أما الثلاثة:

أ. الأول: الاحتلام وما في معناه، وهو رؤية المني على أي حال كان، وفيه إجماع، ونطق به الكتاب في قوله: ﴿مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾

ب. الثاني: السن، فعند أبي حنيفة: في الجارية سبع عشرة سنة، وفي الغلام روي سبع عشرة سنة، وروي ـ ثماني عشرة سنة، وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي: فيهما خمس عشرة سنة، وعند مالك وداود الاعتبار بالسن، ثم اختلفا، فقال مالك: بأن تظهر أمارات البلوغ، كغلظ الصوت، وانشقاق الأرنبة ونحوها، وقال داود: لا يبلغ ما لم يحتلم وإن كان بلغ أربعين سنة.

ج. الثالث: الإنبات، وهو ظهور الشعر الخشن حول الفرج، فعند أبي حنيفة لا يتعلق به حكم، وفي أحد قولي الشافعي يظهر به البلوغ، وهو مذهب الزيدية.

د. وأما الثنتان: فالحيض والحبل، وقيل: بأن الحبل لا يكون إلا بعد الاحتلام فيعود إلى معنى واحد.

15. اختلفوا في إيناس الرشد:

أ. قال بعضهم: أن يظهر منه العقل والدين، وهو قول الشافعي واختيار القاضي، ويرى الحجر على الفاسق وإن كان رشيدًا في ماله.

ب. ومنهم من قال: العقل وحفظ المال، وهو قول أبي حنيفة فيعتبر حفظ المال ولا يعتبر الدين، فلا يرى الحجر على الفاسق، ثم إذا بلغ مفسدًا لماله فعند أبي حنيفة لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإذا بلغ ذلك دفع إليه على كل حال، وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: لا يدفع.

16. اختلفوا إذا بلغ مصلحًا، ثم تغير، فعند أبي حنيفة لا يحجر عليه، وعند أبي يوسف يحجر عليه، وعند محمد صار محجورًا بالتبذير، وإذا وجب على الولي حفظ مال اليتيم حتى يؤنس رشده، فيدل على أنه يجب على القاضي حفظ مال الغائب والمفقود؛ لأنه أوكد حالاً.

17. الأكل بالمعروف بينا الخلاف فيه، ومن البعيد أن يقال: إنه يأكل من مال نفسه؛ لأن الذي جرى ذكر مال اليتيم، ولأنه يستوي فيه الغني والفقير، ويبعد أيضًا أن يقال: لا يأكل مع قوله: ﴿فَلْيَأْكُلْ﴾ ويبعد رده؛ لأن الظاهر لا يقتضيه، ويبعد أن يباح الأكل ولا يباح اللبس وغيره مما يحتاج إليه؛ لأن كل موضع يباح أحدهما يباح الآخر كالرزق في بيت المال، ومتى منع أحدهما منع الآخر كالغني، فلم يبق إلا أنه يباح له من ذلك مقدار أجرة عمله، وذكر الأكل قيل: لأنه معظم المنافع، وقيل: لأنه يطلق ويراد به سائر وجوه الإنفاق، ثم في تقدير ذلك يَرْجعُ إلى القاضي أو إلى اجتهاده، سؤال وإشكال: متى قيل: فوجب أن يستوي فيه الغني والفقير كأرزاق الحكام والأئمة، والجواب: أن المتقدمين اختلفوا فيه فروي عن علي وأبي بكر وعمر، أن الإمام يتناول من بيت المال للحاجة، ثم هذا إباحة وليس بتمليك فجاز أن يختلف فيه الغني والفقير كالمضطر واللقطة وإيجاب النفقة لذوي الأرحام.

18. سؤال وإشكال: هلا قلتم: إنه منسوخ بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ والجواب: إن هذا ليس بظلم؛ إذ كان أجرة عمله.

19. سؤال وإشكال: أليس الله تعالى يقول ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ والجواب: أن هذا من الأحسن أن يقوم بحفظ ماله، ويأخذ الأجرة بقدر عمله، فأما الإشهاد فهو مستحب، وقيل: واجب، وقد بينا وجوه الفوائد فيه، ثم اختلف العلماء فمنهم من قال: هو احتياط للولي واليتيم لكي يزول الاستدراك، وهو مذهب مالك والشافعي، ومنهم من قال: إنه يستقرض من ماله فيشهد عند الرد؛ ليُعرفَ أنه وفر الدَّين كما وفر الأمانة، ذكره الأصم، ومنهم من قال: إنه احتياط لولي اليتيم، وهو مذهب أهل العراق.

20. تدل الآية الكريمة على:

أ. وجوب ابتلاء اليتيم لدفع المال إليه.

ب. أنه يبتلى عند قرب البلوغ لإيناس الرشد.

ج. أنه لا يدفع إليه ما لم يؤنس منه الرشد.

د. أنه يدفع إليه المال عند وجود شيئين البلوغ والرشد.

هـ. أن للولي أن يأكل بالمعروف.

و. أنه يُشْهِدُ عند دفع ماله إليه، قال القاضي: وتدل على أنه إذا دفع المال إليه لإيناس الرشد ثم تغيرت حاله إلى فقد الرشد أنه يحجر عليه؛ لأن العلة واحدة، والغرض حفظ ماله، فلا فرق بين الحالين كما في الجنون.

21. قراءة العامة ﴿رَشَدًا﴾ بضم الراء وسكون الشين، وقرأ السلمي بفتحهما، وهما لغتان رُشْدًا وَرَشَدًا، والرشد خلاف الغي، والمراشد مقاصد الطرق، وفلان لِرِشْدَةٍ إذا كان صحيح النسب، وأرشده إرشادًا فهو مرشد.

22. مسائل لغوية ونحوية:

أ. ﴿إِسْرَافًا﴾ نصب على الحال، وقيل: لأنه مفعول، وقيل: نصب على المصدر أي لا تسرفوا إسرافًا، وكذلك بدارًا) نصب على المصدر.

ب. ﴿أَنْ﴾ في محل النصب يعني لا تبادروا كبرهم ورشدهم.

ج. ﴿غَنِيًّا﴾ نصب لأنه خبر كان والاسم مضمر.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/530.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الإيناس: الإبصار، من قوله (آنس من جانب الطور نارا) أخذ من انسان العين، وهو حدقتها، التي تبصر بها، وأنست به أنسا: ألفته، وفي قراءة عبد الله أحستم: أي أحسستم بمعنى وجدتم، فحذف إحدى السينين نحو قوله ﴿فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ﴾

ب. أصل الإسراف تجاوز الحد المباح إلى ما لم يبح، وربما كان ذلك في الإفراط، وربما كان في التقصير، غير أنه إذا كان في الإفراط يقال منه أسرف يسرف إسرافا، وإذا كان في التقصير، يقال سرف يسرف سرفا، ويقال مررت بكم فسرفتكم: يراد به سهوت عنكم وأخطأتكم قال الشاعر:

çأعطوا هنيدة تحذوها ثمانية...ما في عطائهم من ولا سرفé

يريد: إنهم يصيبون مواضع الاعطاء فلا يخطؤونها.

ج. البدار: المبادرة، وأصل ذلك الامتلاء، ومنه البدر: القمر لامتلائه نورا، والبدرة: لامتلائها بالمال،والبيدر: لامتلائه بالطعام، وعين حدرة بدرة مكتنزة.

د. الحسيب: الكافي من قولهم أحسبني الشئ، إذا كفاني، والحسيب من الرجال: المرتفع النسب، وقيل الحسيب: بمعنى المحاسب

2. لما أمر الله بإيتاء الأيتام أموالهم، ومنع من دفع المال إلى السفهاء، بين هنا الحد الفاصل بين ما يحل من ذلك للولي، وما لا يحل فقال: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾: هذا خطاب لأولياء اليتامى، أمرهم الله أن يختبروا عقول اليتامى في أفهامهم، وصلاحهم في أديانهم، واصلاحهم في أموالهم، وهو قول قتادة، والحسن، والسدي، ومجاهد، وابن عباس.

3. ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾: معناه حتى يبلغوا الحد الذي يقدرون على المواقعة، وينزلون، وليس المراد بالبلوغ الاحتلام، لأن في الناس من لا يحتلم، أو يتأخر احتلامه، وهو قول أكثر المفسرين، فمنهم من قال: إذا كمل عقله وأونس منه الرشد سلم إليه ماله، وهو الأولى، ومنهم من قال: لا يسلم إليه ماله وإن كان عاقلا، حتى يبلغ خمس عشرة سنة، قال أصحابنا(2): حد البلوغ إما كمال خمس عشرة سنة، أو بلوغ النكاح، أو الإنبات.

4. ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ قيل: معناه فإن وجدتم منهم رشدا، أو عرفتموه، واختلف في معنى قوله ﴿رَشَدًا﴾:

أ. فقيل: عقلا ودينا وصلاحا، عن قتادة، والسدي.

ب. وقيل: صلاحا في الدين واصلاحا في المال، عن الحسن، وابن عباس.

ج. وقيل: عقلا، عن مجاهد، والشعبي، قالا: لا يدفع إلى اليتيم ماله، وإن أخذ بلحيته، وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشد العقل.

د. الأقوى أن يحمل على أن المراد به العقل، وإصلاح المال على ما قاله ابن عباس، والحسن وهو المروي عن الباقر، للاجماع على أن من يكون كذلك لا يجوز عليه الحجر في ماله، وإن كان فاجرا في دينه، فكذلك إذا بلغ، وهو بهذه الصفة، وجب تسليم ماله إليه.

5. في الآية الكريمة أيضا دلالة على جواز الحجر على العاقل، إذا كان مفسدا لماله، من حيث إنه إذا جاز أن يمنع المال عند البلوغ إذا كان مفسدا له، فكذلك يجوز الحجر عليه إذا كان مفسدا له بعد البلوغ، وهو المشهور في أخبارنا.

6. ﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾: خطاب لأولياء اليتيم، وهو تعليق لجواز الدفع بالشرطين: البلوغ، وإيناس الرشد، فلا يجوز الدفع قبلهما.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا﴾:

أ. قيل: أي بغير ما أباحه الله لكم.. وهو أليق بمذهبنا، فقد روى محمد بن مسلم عن أحدهما قال: سألته عن رجل بيده ماشية لابن أخ له يتيم في حجره، أيخلط أمرها بأمر ماشيته! قال: إن كان يليط حياضها، ويقوم على مهنتها، ويرد نادتها، فليشرب من ألبانها، غير منهك للحلبات ولا مضر بالولد.

ب. وقيل: معناه لا تأكلوا من مال اليتيم فوق ما تحتاجون إليه، فإن لولي اليتيم أن يتناول من ماله قدر القوت إذا كان محتاجا على وجه الأجرة على عمله في مال اليتيم.

ج. وقيل: إن كل شئ من مال اليتيم فهو الأكل على وجه الإسراف.

8. ﴿وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾: أي ومبادرة لكبرهم، معناه لا تبادروا بأكل مالهم كبرهم ورشدهم، حذرا أن يبلغوا فيلزمكم تسليم المال إليهم.

9. ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾: أي من كان غنيا من الأولياء، فليستعفف بماله عن أكل مال اليتيم، ولا يأخذ لنفسه منه لا قليلا ولا كثيرا، يقال استعف عن الشئ، وعف عنه، إذا امتنع منه وتركه.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾:

أ. قيل: معناه من كان فقيرا، فليأخذ من مال اليتيم قدر الحاجة والكفاية على جهة القرض، ثم يرد عليه ما أخذ منه إذا وجد، عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وأبي العالية، والزهري، وعبيدة السلماني، وهو مروي عن الباقر عليه السلام.

ب. وقيل: معناه يأخذ قدر ما يسد به جوعته، ويستر عورته، لا على جهة القرض، عن عطاء بن أبي رباح، وقتادة، وجماعة، ولم يوجبوا أجرة المثل، لأن أجرة المثل ربما كانت أكثر من قدر الحاجة.

ج. الظاهر في روايات أصحابنا أن له أجرة المثل سواء كان قدر كفايته، أو لم يكن، وسئل ابن عباس عن ولي يتيم له إبل، هل له أن يصيب من ألبانها فقال: إن كنت تلوط حوضها، وتهنأ جرباها، أصبت من رسلها، غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب، والرسل: اللبن، والنهك: المبالغة في الحلب.

11. ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾: وهذا خطاب أيضا لأولياء اليتيم، أي إذا دفعتم إلى اليتامى أموالهم بعد البلوغ، فاحتاطوا لأنفسكم بالإشهاد عليهم، كي لا يقع منهم جحود، وتكونوا أبعد من التهمة، فانظر إلى حسن نظر الله لليتامى، وللأوصياء، وكمال لطفه بهم، ورحمته لهم، وإنعامه عليهم، وكذلك نظره ولطفه بجميع عباده في أمور معاشهم ومعادهم.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾:

أ. قيل: أي شاهدا على دفع المال إليهم، وكفى بعلمه وثيقة.

ب. وقيل: محاسبا، فاحذروا محاسبته في الآخرة، كما تحذرون محاسبة اليتيم بعد البلوغ.

13. مسائل لغوية ونحوية:

أ. إسرافا: مصدر وضع موضع الحال، وكذلك قوله بدارا.

ب. موضع أن يكبروا: نصب بالمبادرة: أي لا تأكلوا مسرفين ومبادرين كبرهم.

ج. بالمعروف: الجار والمجرور في موضع نصب على الحال، وكفى بالله: الباء مزيدة، والجار والمجرور هنا في موضع رفع بأنه فاعل كفى.

د. حسيبا: منصوب على الحال أو التمييز، والتقدير: كفى الله في حال الحساب.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/16.

(2) يقصد الإمامية.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سبب نزولها أنّ رجلا، يقال له: رفاعة، مات وترك ولدا صغيرا، يقال له: ثابت، فوليه عمّه، فجاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري، فما يحلّ لي من ماله؟ ومتى أدفع إليه ماله؟ فنزلت هذه الآية، ذكر نحوه مقاتل.

2. الابتلاء: الاختبار، وبما ذا يختبرون؟ فيه ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنهم يختبرون في عقولهم، قاله ابن عباس، والسّدّيّ، وسفيان، ومقاتل.

ب. الثاني: يختبرون في عقولهم ودينهم، قاله الحسن، وقتادة، وعن مجاهد كالقولين.

ج. الثالث: في عقولهم ودينهم، وحفظهم أموالهم، ذكره الثّعلبيّ، قال القاضي أبو يعلى: وهذا الابتلاء قبل البلوغ.

3. ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ قال ابن قتيبة: أي: بلغوا أن ينكحوا النّساء ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ﴾ أي: علمتم، وتبيّنتم، وأصل: آنست: أبصرت، وفي الرّشد أربعة أقوال:

أ. أحدها: الصّلاح في الدّين، وحفظ المال، قاله ابن عباس، والحسن.

ب. الثاني: الصّلاح في العقل، وحفظ المال، روي عن ابن عباس والسّدّيّ.

ج. الثالث: أنه العقل، قاله مجاهد، والنّخعيّ.

د. الرابع: العقل، والصّلاح في الدّين، روي عن السّدّيّ.

4. علّق الله تعالى رفع الحجر عن اليتامى بأمرين: بالبلوغ والرّشد، وأمر الأولياء باختبارهم، فإذا استبانوا رشدهم، وجب عليهم تسليم أموالهم إليهم، والبلوغ يكون بأحد خمسة أشياء، ثلاثة يشترك فيها الرّجال والنّساء: الاحتلام، واستكمال خمس عشرة سنة، والإنبات، وشيئان يختصّان بالنّساء: الحيض والحمل‏.

5. ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا﴾ خطاب للأولياء، قال ابن عباس: لا تأكلوها بغير حقّ، ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا وَبِدَارًا﴾ تبادرون أكل المال قبل بلوغ الصّبيّ‏ ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ بماله عن مال اليتيم.

6. في الأكل بالمعروف أربعة أقوال:

أ. أحدها: أنه الأخذ على وجه القرض، وهذا مروي عن عمر، وابن عباس، وابن جبير، وأبي العالية، وعبيدة، وأبي وائل، ومجاهد، ومقاتل.

ب. الثاني: الأكل بمقدار الحاجة من غير إسراف، وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وعطاء، والنّخعيّ، وقتادة، والسّدّيّ.

ج. الثالث: أنه الأخذ بقدر الأجرة إذا عمل لليتيم عملا، روي عن ابن عباس، وعائشة، وهي رواية أبي طالب، وابن منصور، عن أحمد.

د. الرابع: أنه الأخذ عند الضّرورة، فإن أيسر قضاه، وإن لم يوسر، فهو في حلّ، وهذا قول الشّعبيّ‏.

7. اختلف العلماء هل هذه الآية محكمة أو منسوخة؟ على قولين:

أ. أحدهما: محكمة، وهو قول عمر، وابن عباس، والحسن، والشّعبيّ، وأبي العالية، ومجاهد، وابن جبير، والنّخعيّ، وقتادة في آخرين، وحكمها عندهم أن الغنيّ ليس له أن يأكل من مال اليتيم شيئا، فأما الفقير الذي لا يجد ما يكفيه، وتشغله رعاية مال اليتيم عن تحصيل الكفاية، فله أن يأخذ قدر كفايته بالمعروف من غير إسراف، وهل عليه الضّمان إذا أيسر؟ فيه قولان لهم:

أحدهما: أنه لا ضمان عليه، بل يكون كالأجرة له على عمله، وهو قول الحسن، والشّعبيّ، والنّخعيّ، وقتادة، وأحمد بن حنبل.

الثاني: إذا أيسر وجب عليه القضاء، روي عن عمر وغيره، وعن ابن عباس أيضا كالقولين.

ب. الثاني: أنها منسوخة بقوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ وهذا مروي عن ابن عباس ولا يصح.

8. ﴿فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ قال القاضي أبو يعلى: هذا على طريق الاحتياط لليتيم، والوليّ، وليس بواجب، فأما اليتيم، فإنه إذا كانت عليه بيّنة، كان أبعد من أن يدّعي عدم القبض، وأما الوليّ، فإنه تظهر أمانته، ويسقط عنه اليمين عند إنكار اليتيم للدّفع.

9. في (الحسيب) ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه الشهيد، قاله ابن عباس، والسّدّيّ، ومقاتل.

ب. الثاني: أنه الكافي، من قولك: أحسبني هذا الشيء، أي كفاني، والله حسيبي وحسيبك، أي: وكافينا، أي يكون حكما بيننا كافيا، قال الشاعر:

çونقفي وليد الحي إن كان جائعا...ونحسبه إن كان ليس بجائع‏é

أي: نعطيه ما يكفيه حتى يقول: حسبي، قاله ابن قتيبة والخطّابيّ.

ج. الثالث: أنه المحاسب، فيكون في مذهب جليس، وأكيل، وشريب، حكاه ابن قتيبة والخطّابيّ.

__________

(1) زاد المسير: 1/372.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما أمر الله تعالى من قبل بدفع مال اليتيم اليه بقوله: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 2] بين بهذه الآية متى يؤتيهم أموالهم، فذكر هذه الآية وشرط في دفع أموالهم إليهم شرطين:

أ. أحدهما: بلوغ النكاح.

ب. الثاني: إيناس الرشد، ولا بد من ثبوتهما حتى يجوز دفع مالهم إليهم.

2. اختلفوا في تصرفات الصبي:

أ. قال أبو حنيفة: تصرفات الصبي العاقل المميز باذن الولي صحيحة، واحتج على قوله بهذه الآية، وذلك لأن قوله: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ يقتضي ان هذا الابتلاء انما يحصل قبل البلوغ، والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في أنه هل له تصرف صالح للبيع والشراء، وهذا الاختبار انما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء، وإن لم يكن هذا المعنى نفس الاختبار، فهو داخل في الاختبار بدليل أنه يصح الاستثناء، يقال: وابتلوا اليتامى إلا في البيع والشراء، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل، فثبت أن قوله: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ، وذلك يقتضي صحة تصرفاتهم.

ب. قال الشافعي: غير صحيحة، واحتج لذلك:

بأن قال ليس المراد بقوله: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ الاذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله تعالى بعد ذلك: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ فإنما أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد، وإذا ثبت بموجب هذه الآية أنه لا يجوز دفع المال اليه حال الصغر، وجب أن لا يجوز تصرفه حال الصغر، لأنه لا قائل بالفرق، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على قول الشافعي.

وأما الذي احتجوا به، فجوابه: أن المراد من الابتلاء اختبار عقله واستبراء حاله، في أنه هل له فهم وعقل وقدرة في معرفة المصالح والمفاسد، وذلك إذا باع الولي واشترى بحضور الصبي، ثم يستكشف من الصبي أحوال ذلك البيع والشراء وما فيهما من المصالح والمفاسد ولا شك أن بهذا القدر يحصل الاختبار والابتلاء، وأيضا: هب أنا سلمنا أنه يدفع اليه شيئا ليبيع أو يشتري، فلم قلت إن هذا القدر يدل على صحة ذلك البيع والشراء، بل إذا باع واشترى وحصل به اختبار عقله، فالولي بعد ذلك يتمم البيع وذلك الشراء، وهذا محتمل.

3. المراد من بلوغ النكاح هو الاحتلام المذكور في قوله: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾ [النور: 59] وهو في قول عامة الفقهاء عبارة عن البلوغ مبلغ الرجال الذي عنده يجري على صاحبه القلم ويلزمه الحدود والأحكام، وإنما سمي الاحتلام بلوغ النكاح لأنه إنزال الماء الدافق الذي يكون في الجماع، وللبلوغ علامات خمسة: منها ثلاثة مشتركة بين الذكور والإناث، وهو الاحتلام والسن المخصوص، ونبات الشعر الخشن على العانة، واثنان منها مختصان بالنساء، وهما: الحيض والحبل.

4. إيناس الرشد لا بد فيه من تفسير الإيناس ومن تفسير الرشد:

أ. أما الإيناس فقوله: ﴿آنَسْتُمْ﴾ أي عرفتم وقيل: رأيتم، وأصل الإيناس في اللغة الأبصار، ومنه قوله: ﴿آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا﴾ [القصص: 29]

ب. وأما الرشد فمعلوم أنه ليس المراد الرشد الذي لا تعلق له بصلاح ماله، بل لا بد وأن يكون هذا مراداً، وهو أن يعلم أنه مصلح لما له حتى لا يقع منه إسراف ولا يكون بحيث يقدر الغير على خديعته.

5. اختلفوا في أنه هل يضم إليه الصلاح في الدين، فعند الشافعي لا بد منه، وعند أبي حنيفة هو غير معتبر، والأول أولى، ويدل عليه وجوه:

أ. أحدها: أن أهل اللغة قالوا: الرشد هو إصابة الخير، والمفسد في دينه لا يكون مصيباً للخير.

ب. وثانيها: أن الرشد نقيض الغي قال تعالى: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256] والغني هو الضلال والفساد وقال تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه: 121] فجعل العاصي غويا، وهذا يدل على أن الرشد لا يتحقق إلا مع الصلاح في الدين.

ج. وثالثها: أنه تعالى قال ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ [هود: 97] نفي الرشد عنه لأنه ما كان يراعي مصالح الدين.

6. فائدة هذا الاختلاف أن الشافعي يرى الحجر على الفاسق، وأبو حنيفة لا يراه.

7. اتفقوا على أنه إذا بلغ غير رشيد فإنه لا يدفع اليه ماله، ثم عند أبي حنيفة لا يدفع اليه ماله حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة، فإذا بلغ ذلك دفع اليه ماله على كل حال، وإنما اعتبر هذا السن لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة، فإذا زاد عليه سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير أحوال الإنسان‏ لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (مروهم بالصلاة لسبع)، فعند ذلك تمت المدة التي يمكن فيها حصول تغير الأحوال، فعندها يدفع اليه ماله، أونس منه الرشد أو لم يؤنس وقال الشافعي: لا يدفع إليه أبدا إلا بإيناس الرشد، وهو قول أبي يوسف ومحمد.

8. احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية، فقال: لا شك أن اسم الرشد واقع على العقل في الجملة، والله تعالى شرط رشداً منكرا ولم يشترط سائر ضروب الرشد، فاقتضى ظاهر الآية أنه لما حصل العقل فقد حصل ما هو الشرط المذكور في هذه الآية، فيلزم جواز دفع المال اليه ترك العمل به فيما دون خمس وعشرين سنة، فوجب العمل بمقتضى الآية فيما زاد على خمس وعشرين سنة ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى قال ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ ولا شك أن المراد ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال، ثم قال: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا﴾ ويجب أن يكون المراد: فان آنستم منهم رشدا في حفظ المال وضبط مصالحه، فإنه ان لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض، وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال، وعند هذا سقط استدلال أبي بكر الرازي، بل تنقلب هذه الآية دليلا عليه لأنه جعل رعاية مصالح المال شرطا في جواز دفع المال اليه، فإذا كان هذا الشرط مفقوداً بعد خمس وعشرين‏ سنة، وجب أن لا يجوز دفع المال اليه، والقياس الجلي أيضا يقوي الاستدلال بهذا النص، لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به، فإذا كان هذا المعنى حاصلا في الشباب والشيخ كان في حكم الصبي، فثبت أنه لا وجه لقول من يقول: انه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة دفع اليه ماله وان لم يؤنس منه الرشد.

9. إذا بلغ رشيدا ثم تغير وصار سفيها حجر عليه عند الشافعي ولا يحجر عليه عند أبي حنيفة وقد مرت هذه المسألة عند قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: 5] والقياس الجلي أيضا يدل عليه، لأن هذه الآية دالة على أنه إذا بلغ غير رشيد لم يدفع اليه ماله، وإنما لم يدفع اليه ماله لئلا يصير المال ضائعا فيكون باقيا مرصداً ليوم حاجته، وهذا المعنى قائم في السفه الطارئ، فوجب اعتباره.

10. سؤال وإشكال: ما الفائدة في تنكير الرشد؟ والجواب: قال الزمخشري: الفائدة في تنكير الرشد التنبيه على ان المعتبر هو الرشد في التصرف والتجارة، أو على أن المعتبر هو حصول طرف من الرشد وظهور أثر من آثاره حتى لا ينتظر به تمام الرشد.

11. ثم قال تعالى: ﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ والمراد أن عند حصول الشرطين أعني البلوغ وإيناس الرشد يجب دفع المال إليهم، وإنما لم يذكر تعالى مع هذين الشرطين كمال العقل، لأن إيناس الرشد لا يحصل إلا مع العقل لأنه أمر زائد على العقل.

12. ثم قال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ أي مسرفين ومبادرين كبرهم أو لاسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا، ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنيا وبين أن يكون فقيرا فقال: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ قال الواحدي: استعف عن الشيء وعف إذا امتنع منه وتركه، وقال الزمخشري: استعف أبلغ من عف كأنه طالب زيادة العفة وقال: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾

13. اختلف العلماء في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم؟ وفي هذه المسألة أقوال:

أ. أحدهما: أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج اليه من مال اليتيم وبقدر أجر عمله، واحتج القائلون بهذا القول بوجوه:

الأول: أن قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا﴾ مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة.

ثانيها: أنه قال ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ فقوله: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ ليس المراد منه نهي الوصي الغني عن الانتفاع بمال نفسه، بل المراد منه نهيه عن الانتفاع بمال اليتيم، وإذا كان كذلك لزم أن يكون قوله: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إذنا للوصي في أن ينتفع بمال اليتيم بمقدار الحاجة.

ثالثها: قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ [النساء: 10] وهذا دليل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم، ولو لم يكن ذلك لم يكن لقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ فائدة، وهذا يدل على أن للوصي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف.

رابعها: ما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم‏ أن رجلا قال له: ان تحت حجري يتيما أآكل من ماله؟ قال بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله، قال أفأضربه؟ قال مما كنت ضاربا منه ولدك.

خامسها: ما روي أن عمر بن الخطاب كتب الى عمار وابن مسعود وعثمان بن حنيف: سلام عليكم أما بعد: فاني رزقتكم كل يوم شاة شطرها لعمار، وربعها لعبد الله بن مسعود، وربعها لعثمان، ألا وإني قد أنزلت نفسي وإياكم من مال الله بمنزلة ولي مال اليتيم: ﴿مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ‏﴾، وعن ابن عباس أن ولي يتيم قال له: أفأشرب من لبن إبله؟ قال إن كنت تبغي ضالتها وتلوط حوضها وتهنأ جرباها وتسقيها يوم وردها، فاشرب غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب وعنه أيضا: يضرب بيده مع أيديهم فليأكل بالمعروف ولا يلبس عمامة فما فوقها.

سادسها: أن الوصي لما تكفل بإصلاح مهمات الصبي وجب أن يتمكن من أن يأكل من ماله بقدر عمله قياسا على الساعي في أخذ الصدقات وجمعها، فإنه يضرب له في تلك الصدقات بسهم، فكذا هاهنا، فهذا تقرير هذا القول.

ب. الثاني: أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج اليه من مال اليتيم قرضا، ثم إذا أيسر قضاه، وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية، وأكثر الروايات عن ابن عباس، وبعض أهل العلم خص هذا الاقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها، فأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب، فمباح له إذا كان غير مضر بالمال، وهذا قول أبي العالية وغيره، واحتجوا بأن الله تعالى قال ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ فحكم في الأموال بدفعها إليهم.

ج. الثالث: قال أبو بكر الرازي: الذي نعرفه من مذهب أصحابنا(2) أنه لا يأخذ على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء، سواء كان غنيا أو فقيرا، واحتج عليه بآيات:

منها: قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: 2]

ومنها: قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: 10]

ومنها: قوله: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ [النساء: 127]

ومنها: قوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 188] قال فهذه الآية محكمة حاصرة لمال اليتيم على وصيه في حال الغنى والفقر، وقوله: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ متشابه محتمل فوجب رده لكونه متشابها إلى تلك المحكمات.

14. عندي أن هذه الآيات لا تدل على ما ذهب الرازي اليه:

أ. أما قوله: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ فهو عام وهذه الآية التي نحن فيها خاصة، والخاص مقدم على العام.

ب. وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ فهو إنما يتناول هذه الواقعة لو ثبت أن أكل الوصي من مال الصبي بالمعروف ظلم، وهل النزاع الا فيه، وهو الجواب بعينه عن قوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾

ج. أما قوله: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ فهو إنما يتناول محل النزاع لو ثبت أن هذا الأكل ليس بقسط، والنزاع ليس إلا فيه، فثبت أن كلامه في هذا الموضع ساقط ركيك.

15. ثم قال تعالى: ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾، الأمة مجمعة على أن الوصي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد صيرورته بالغا، فان الأولى والأحوط أن يشهد عليه لوجوه:

أ. أحدها: أن اليتيم إذا كان عليه بينة بقبض المال كان أبعد من أن يدعي ما ليس له.

ب. ثانيها: أن اليتيم إذا أقدم على الدعوى الكاذبة أقام الوصي الشهادة على أنه دفع ماله اليه.

ج. ثالثها: أن تظهر أمانة الوصي وبراءة ساحته، ونظيره‏ أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب) فأمره بالاشهاد لتظهر أمانته وتزول التهمة عنه، فثبت بما ذكرنا من الإجماع والمعقول أن الأحوط هو الاشهاد.

16. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بدفع المال لليتيم وتوقيته، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.

17. ثم قال تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ قال ابن الأنباري والأزهري: يحتمل أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب، وأن يكون بمعنى الكافي، فمن الأول قولهم للرجل للتهديد: حسبه الله ومعناه يحاسبه الله على ما يفعل من الظلم، ونظير قولنا الحسيب بمعنى المحاسب، قولنا الشريب بمعنى المشارب، ومن الثاني قولهم: حسيبك الله أي كافيك الله.

18. هذا وعيد لولي اليتيم وإعلام له أنه تعالى يعلم باطنه كما يعلم ظاهره لئلا ينوي أو يعمل في ماله ما لا يحل، ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل اليه ماله، وهذا المقصود حاصل سواء فسرنا الحسيب بالمحاسب أو بالكافي.

19. الباء في قوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾ ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ﴾ [الإسراء: 65] في جميع القرآن زائدة، هكذا نقله الواحدي عن الزجاج و﴿حَسِيبًا﴾ نصب على الحال أي كفى الله حال كونه محاسبا، وحال كونه كافيا.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 9/498.

(2) يقصد الحنفية

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ الابتلاء الاختبار، وقد تقدم، وهذه الآية خطاب للجميع في بيان كيفية دفع أموالهم، وقيل: إنها نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه، وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه وهو صغير، فأتى عم ثابت إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

2. اختلف العلماء في معنى الاختبار، فقيل: هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه، ويستمع إلى أغراضه، فيحصل له العلم بنجابته، والمعرفة بالسعي في مصالحه وضبط ماله والإهمال لذلك، فإذا توسم الخير قال علماؤنا وغيرهم: لا بأس أن يدفع إليه شيئا من ماله يبيح له التصرف فيه، فإن نماه وحسن النظر فيه فقد وقع الاختبار، ووجب على الوصي تسليم جميع ماله إليه، وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك ماله عنده، وليس في العلماء من يقول: إنه إذا اختبر الصبي فوجده رشيدا ترتفع الولاية عنه، وأنه يجب دفع ماله إليه وإطلاق يده في التصرف، لقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾، وقال جماعة من الفقهاء: الصغير لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون غلاما أو جارية، فإن كان غلاما رد النظر إليه في نفقة الدار شهرا، أو أعطاه شيئا نزرا يتصرف فيه، ليعرف كيف تدبيره وتصرفه، وهو مع ذلك يراعيه لئلا يتلفه، فإن أتلفه فلا ضمان على الوصي، فإذا رآه متوخيا سلم إليه ماله وأشهد عليه، وإن كان جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه، في الاستغزال والاستقصاء على الغزالات في دفع القطن وأجرته، واستيفاء الغزل وجودته، فإن رآها رشيدة سلم أيضا إليها مالها وأشهد عليها، وإلا بقيا تحت الحجر حتى يؤنس رشدهما، وقال الحسن ومجاهد وغيرهما: اختبروهم في عقولهم وأديانهم وتنمية أموالهم.

3. ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ أي الحلم، لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾ أي البلوغ وحال النكاح، والبلوغ يكون بخمسة أشياء: ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء، واثنان يختصان بالنساء وهما الحيض والحبل، فأما الحيض والحبل فلم يختلف العلماء في أنه بلوغ، وأن الفرائض والأحكام تجب بهما، واختلفوا في الثلاث.

4. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بعلامات البلوغ، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.

5. ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ أي أبصرتم ورأيتم، ومنه قوله تعالى: ﴿آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا﴾ أي أبصر ورأى، قال الأزهري: تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحدا، معناه تبصر، قال النابغة: (على مستأنس وحد) أراد ثورا وحشيا يتبصر هل يرى قانصا فيحذره، وقيل: آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحد، ومنه قوله تعالى: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ أي علمتم، والأصل فيه أبصرتم، وقراءة العامة ﴿رَشَدًا﴾ بضم الراء وسكون الشين، وقرأ السلمي وعيسى والثقفي وابن مسعود ﴿رَشَدًا﴾ بفتح الراء والشين، وهما لغتان، وقيل: رشدا مصدر رشد، ورشدا مصدر رشد، وكذلك الرشاد.

6. اختلف العلماء في تأويل ﴿رَشَدًا﴾:

أ. فقال الحسن وقتادة وغيرهما: صلاحا في العقل والدين.

ب. وقال ابن عباس والسدي والثوري: صلاحا في العقل وحفظ المال، قال سعيد بن جبير والشعبي: إن الرجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده، فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده، وهكذا قال الضحاك: لا يعطى اليتيم وإن بلغ مائة سنة حتى يعلم منه إصلاح ماله.

ج. وقال مجاهد: ﴿رَشَدًا﴾ يعني في العقل خاصة.

7. أكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم وإن شاخ لا يزول الحجر عنه، وهو مذهب مالك وغيره، وقال أبو حنيفة: لا يحجر على الحر البالغ إذا بلغ مبلغ الرجال، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا إذا كان عاقلا، وبه قال زفر بن الهذيل، وهو مذهب النخعي، واحتجوا في ذلك بما رواه قتادة عن أنس أن حبان بن منقذ كان يبتاع وفي عقدته ضعف، فقيل: يا رسول الله احجر عليه، فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف، فاستدعاه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: لأتبع، فقال: لا أصبر، فقال له: فإذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا، قالوا: فلما سأله القوم الحجر عليه لما كان في تصرفه من الغبن ولم يفعل صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثبت أن الحجر لا يجوز، وهذا لا حجة لهم فيه، لأنه مخصوص بذلك على ما بيناه في البقرة، فغيره بخلافه، وقال الشافعي: إن كان مفسدا لما له ودينه، أو كان مفسدا لماله دون دينه حجر عليه، وإن كان مفسدا لدينه مصلحا لماله فعلى وجهين: أحدهما يحجر عليه، وهو اختيار أبي العباس بن شريح، الثاني لا حجر عليه، وهو اختيار أبى إسحاق المروزي، والأظهر من مذهب الشافعي، قال الثعلبي: وهذا الذي ذكرناه من الحجر على السفيه قول عثمان وعلي والزبير وعائشة وابن عباس وعبد الله ابن جعفر، ومن التابعين شريح، وبه قال الفقهاء: مالك وأهل المدينة والأوزاعي وأهل الشام وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو ثور، قال الثعلبي: وادعى أصحابنا الإجماع في هذه المسألة.

8. دفع المال يكون بشرطين: إيناس الرشد والبلوغ، فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال، كذلك نص الآية، وهو رواية ابن القاسم وأشهب وابن وهب عن مالك في الآية، وهو قول جماعة الفقهاء إلا أبا حنيفة وزفر والنخعي فإنهم أسقطوا إيناس الرشد ببلوغ خمس وعشرين سنة، قال أبو حنيفة: لكونه جدا، وهذا يدل على ضعف قوله، وضعف ما احتج به أبو بكر الرازي في أحكام القرآن له من استعمال الآيتين حسب ما تقدم، فإن هذا من باب المطلق والمقيد، والمطلق يرد إلى المقيد باتفاق أهل الأصول، وماذا يغني كونه جدا إذا كان غير جد، أي بخت، إلا أن علماءنا شرطوا في الجارية دخول الزوج بها مع البلوغ، وحينئذ يقع الابتلاء في الرشد، ولم يره أبو حنيفة والشافعي، ورأوا الاختبار في الذكر والأنثى على ما تقدم، وفرق علماؤنا بينهما بأن قالوا: الأنثى مخالفة للغلام لكونها محجوبة لا تعاني الأمور ولا تبرز لأجل البكارة فلذلك وقف فيها على وجود النكاح، فبه تفهم المقاصد كلها، والذكر بخلافها، فإنه بتصرفه وملاقاته للناس من أول نشئه إلى بلوغه يحمل له الاختبار، ويكمل عقله بالبلوغ، فيحصل له الغرض، وما قاله الشافعي أصوب، فإن نفس الوطي بإدخال الحشفة لا يزيدها في رشدها إذا كانت عارفة بجميع أمورها ومقاصدها، غير مبذرة لمالها، ثم زاد علماؤنا فقالوا: لا بد بعد دخول زوجها من مضي مدة من الزمان تمارس فيها الأحوال، قال ابن العربي: وذكر علماؤها في تحديدها أقوالا عديدة، منها الخمسة الأعوام والستة والسبعة في ذات الأب، وجعلوا في اليتيمة التي لا أب لها ولا وصي عليها عاما واحدا بعد الدخول، وجعلوا في المولى عليها مؤبدا حتى يثبت رشدها، وليس في هذا كله دليل، وتحديد الأعوام في ذات الأب عسير، وأعسر منه تحديد العام في اليتيمة، وأما تمادي الحجر في المولى عليها حتى يتبين رشدها فيخرجها الوصي عنه، أو يخرجها الحكم منه فهو ظاهر القرآن، والمقصود من هذا كله داخل تحت قوله تعالى: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ فتعين اعتبار الرشد ولكن يختلف إيناسه بحسب اختلاف حال الراشد، فاعرفه وركب عليه واجتنب التحكم الذي لا دليل عليه.

9. اختلفوا فيما فعلته ذات الأب في تلك المدة، فقيل: هو محمول على الرد لبقاء الحجر، وما عملته بعده فهو محمول على الجواز، وقال بعضهم: ما عملته في تلك المدة محمول على الرد إلا أن يتبين فيه السداد، وما عملته بعد ذلك محمول على الإمضاء حتى يتبين فيه السفه.

10. اختلفوا في دفع المال إلى المحجور عليه هل يحتاج إلى السلطان أم لا؟ فقالت فرقة: لا بد من رفعه إلى السلطان، ويثبت عنده رشده ثم يدفع إليه ما له، وقالت فرقة: ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان، قال ابن عطية: والصواب في أوصياء زماننا ألا يستغنى عن رفعه إلى السلطان وثبوت الرشد عنده، لما حفظ من تواطؤ الأوصياء على أن يرشد الصبي، ويبرأ المحجور عليه لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت.

11. إذا سلم المال إليه بوجود الرشد، ثم عاد إلى السفه بظهور تبذير وقلة تدبير عاد إليه الحجر عندنا، وعند الشافعي في أحد قوليه، وقال أبو حنيفة: لا يعود، لأنه بالغ عاقل، بدليل جواز إقراره في الحدود والقصاص، ودليلنا قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ وقال تعالى: فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل ولم يفرق بين أن يكون محجورا سفيها أو يطرأ ذلك عليه بعد الإطلاق.

12. يجوز للوصي أن يصنع في مال اليتيم ما كان للأب أن يصنعه من تجارة وإبضاع وشراء وبيع، وعليه أن يؤدي الزكاة من سائر أمواله: عين وحرث وماشية وفطرة، ويؤدي عنه أروش الجنايات وقيم المتلفات، ونفقة الوالدين وسائر الحقوق اللازمة، ويجوز أن يزوجه ويؤدي عنه الصداق، ويشتري له جارية يتسررها، ويصالح له وعليه على وجه النظر له، وإذا قضى الوصي بعض الغرماء وبقي من المال بقية تفي ما عليه من الدين كان فعل الوصي جائزا، فإن تلف باقي المال فلا شي لباقي الغرماء على الوصي ولا على الذين اقتضوا، وإن اقتضى الغرماء جميع المال ثم أتى غرماء آخرون فإن كان عالما بالدين الباقي أو كان الميت معروفا بالدين الباقي ضمن الوصي لهؤلاء الغرماء ما كان يصيبهم في المحاصة، ورجع على الذين اقتضوا دينهم بذلك، وإن لم يكن عالما [بذلك]، ولا كان الميت معروفا بالدين فلا شي على الوصي، وإذا دفع الوصي دين الميت بغير إشهاد ضمن، وأما إن أشهد وطال الزمان حتى مات الشهود فلا شي عليه.

13. ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ ليس يريد أن أكل مالهم من غير إسراف جائز، فيكون له دليل خطاب، بل المراد ولا تأكلوا أموالهم فإنه إسراف، فنهى الله تعالى الأوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم، على ما يأتي بيانه، والإسراف في اللغة الإفراط ومجاوزة الحد، وقد تقدم في آل عمران والسرف الخطأ في الإنفاق، ومنه قول الشاعر:

çأعطوا هنيدة يحدوها ثمانية...ما في عطائهم من ولا سرفé

أي ليس يخطئون مواضع العطاء، وقال آخر:

çوقال قائلهم والخيل تخبطهم...أسرفتم فأجبنا أننا سرفé

قال النضر بن شميل: السرف التبذير، والسرف الغفلة.

14. ﴿وَبِدَارًا﴾ معناه ومبادرة كبرهم، وهو حال البلوغ، والبدار والمبادرة كالقتال والمقاتلة، وهو معطوف على ﴿إِسْرَافًا﴾، و﴿أَنْ يَكْبَرُوا﴾ في موضع نصب بـ (بدارا)، أي لا تستغنم مال محجورك فتأكله وتقول أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله، عن ابن عباس وغيره.

15. ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ الآية، بين الله تعالى ما يحل لهم من أموالهم، فأمر الغني بالإمساك وأباح للوصي الفقير أن يأكل من مال وليه بالمعروف، يقال: عف الرجل عن الشيء واستعف إذا أمسك، والاستعفاف عن الشيء تركه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا﴾، والعفة: الامتناع عما لا يحل ولا يجب فعله، روى أبو داوود من حديث حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إني فقير ليس لي شي ولي يتيم، قال: فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مباذر ولا متأثل.

16. اختلف العلماء من المخاطب والمراد بهذه الآية؟ ففي صحيح مسلم عن عائشة في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قالت: نزلت في ولي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا جاز أن يأكل منه، في رواية: بقدر ماله بالمعروف، وقال بعضهم: المراد اليتيم إن كان غنيا وسع عليه وأعف عن ماله، وإن كان فقيرا أنفق عليه بقدره، قاله ربيعة ويحيى بن سعيد، والأول قول الجمهور وهو الصحيح، لأن اليتيم لا يخاطب بالتصرف في ماله لصغره ولسفهه.

17. اختلف الجمهور في الا كل بالمعروف ما هو:

أ. فقال قوم: هو القرض إذا احتاج ويقضي إذا أيسر، قاله عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية، وهو قول الأوزاعي، ولا يستسلف أكثر من حاجته، قال عمر: ألا إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت، روى عبد الله بن المبارك عن عاصم عن أبي العالية ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قال: قرضا ـ ثم تلا ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾

ب. وقول ثان ـ روي عن إبراهيم وعطاء والحسن البصري والنخعي وقتادة: لا قضاء على الوصي الفقير فيما يأكل بالمعروف، لأن ذلك حق النظر، وعليه الفقهاء، قال الحسن: هو طعمة من الله له، وذلك أنه يأكل ما يسد جوعته، ويكتسي ما يستر عورته، ولا يلبس الرفيع من الكتان ولا الحلل، والدليل على صحة هذا القول إجماع الأمة على أن الإمام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل بالمعروف، لأن الله تعالى قد فرض سهمه في مال الله، فلا حجة لهم في قول عمر: فإذا أيسرت قضيت ـ أن لو صح، وقد روي عن ابن عباس وأبي العالية والشعبي أن الأكل بالمعروف هو كالانتفاع بألبان المواشي، واستخدام العبيد، وركوب الدواب إذا لم يضر بأصل المال، كما يهنأ الجرباء، وينشد الضالة، ويلوط الحوض، ويجذ التمر، فأما أعيان الأموال وأصولها فليس للوصي أخذها، وهذا كله يخرج مع قول الفقهاء: إنه يأخذ بقدر أجر عمله، وقالت به طائفة وأن ذلك هو المعروف، ولا قضاء عليه، والزيادة على ذلك محرمة.

ج. وفرق الحسن بن صالح بن حي ـ ويقال ابن حيان ـ بين وصي الأب والحاكم، فلوصي الأب أن يأكل بالمعروف، وأما وصي الحاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه، وهو القول الثالث.

د. وقول رابع روي عن مجاهد قال: ليس له أن يأخذ قرضا ولا غيره، وذهب إلى أن الآية منسوخة، نسخها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ وهذا ليس بتجارة، وقال زيد بن أسلم: إن الرخصة في هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ الآية، وحكى بشر بن الوليد عن أبى يوسف قال: لا أدري، لعل هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾

هـ. وقول خامس ـ وهو الفرق بين الحضر والسفر، فيمنع إذا كان مقيما معه في المصر، فإذا احتاج أن يسافر من أجله فله أن يأخذ ما يحتاج إليه، ولا يقتني شيئا، قاله أبو حنيفة وصاحباه أبو يوسف ومحمد.

و. وقول سادس ـ قال أبو قلابة: فليأكل بالمعروف مما يجني من الغلة، فأما المال الناض فليس له أن يأخذ منه شيئا قرضا ولا غيره.

ز. وقول سابع ـ روى عكرمة عن ابن عباس ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قال: إذا احتاج واضطر، وقال الشعبي: كذلك إذا كان منه بمنزلة الدم ولحم الخنزير أخذ منه، فإن وجد أو في، قال النحاس: وهذا لا معنى له لأنه إذا اضطر هذا الاضطرار كان له أخذ ما يقيمه من مال يتيمه أو غيره من قريب أو بعيد، وقال ابن عباس أيضا والنخعي: المراد أن يأكل الوصي بالمعروف من مال نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم، فيستعفف الغني بغناه، والفقير يقتر على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه، قال النحاس: وهذا من أحسن ما روي في تفسير الآية، لأن أموال الناس محظورة لا يطلق شي منها إلا بحجة قاطعة، قلت: وقد اختار هذا القول الكيا الطبري في أحكام القرآن له، فقال: توهم متوهمون من السلف بحكم الآية أن للوصي أن يأكل من مال الصبي قدرا لا ينتهي إلى حد السرف، وذلك خلاف ما أمر الله تعالى به من قوله: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) ولا يتحقق ذلك في مال اليتيم، فقوله: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ يرجع إلى أكل مال نفسه دون مال اليتيم، فمعناه ولا تأكلوا أموال اليتيم مع أموالكم، بل اقتصروا على أكل أموالكم، وقد دل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾، وبان بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ الاقتصار على البلغة، حتى لا يحتاج إلى أكل مال اليتيم.

18. هذا تمام معنى الآية، فقد وجدنا آيات محكمات تمنع أكل مال الغير دون رضاه، سيما في حق اليتيم، وقد وجدنا هذه الآية محتملة للمعاني، فحملها على موجب الآيات المحكمات متعين، فإن قال من ينصر مذهب السلف: إن القضاة يأخذون أرزاقهم لأجل عملهم للمسلمين، فهلا كان الوصي كذلك إذا عمل لليتيم، ولم لا يأخذ الأجرة بقدر عمله؟ قيل له: اعلم أن أحدا من السلف لم يجوز للوصي أن يأخذ من مال الصبي مع غنى الوصي، بخلاف القاضي، فذلك فارق بين المسألتين، وأيضا فالذي يأخذه الفقهاء والقضاة والخلفاء القائمون بأمور الإسلام لا يتعين له مالك، وقد جعل الله ذلك المال الضائع لأصناف بأوصاف، والقضاة من جملتهم، والوصي إنما يأخذ بعمله مال شخص معين من غير رضاه، وعمله مجهول وأجرته مجهولة وذلك بعيد عن الاستحقاق، قلت: وكان شيخنا الإمام أبو العباس يقول: إن كان مال اليتيم كثيرا يحتاج إلى كبير قيام عليه بحيث يشغل الولي عن حاجاته ومهماته فرض له فيه أجر عمله، وإن كان تافها لا يشغله عن حاجاته فلا يأكل منه شيئا، غير أنه يستحب له شرب قليل اللبن وأكل القليل من الطعام والسمن، غير مضر به ولا مستكثر له، بل على ما جرت العادة بالمسامحة فيه، قال شيخنا: وما ذكرته من الأجرة، ونيل اليسير من التمر واللبن كل واحد منهما معروف، فصلح حمل الآية على ذلك، والله أعلم، قلت: والاحتراز عنه أفضل، إن شاء الله، [وأما ما يأخذه قاضي القسمة ويسميه رسما ونهب أتباعه فلا أدري له وجها ولا حلا، وهم داخلون في عموم قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾]

19. ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ أمر الله تعالى بالإشهاد تنبيها على التحصين وزوالا للتهم، وهذا الإشهاد مستحب عند طائفة من العلماء، فإن القول قول الوصي، لأنه أمين، وقالت طائفة: هو فرض، وهو ظاهر الآية، وليس بأمين فيقبل قوله، كالوكيل إذا زعم أنه قد رد ما دفع إليه أو المودع، وإنما هو أمين للأب، ومتى ائتمنه الأب لا يقبل قوله على غير، ألا ترى أن الوكيل لو ادعى أنه قد دفع لزيد ما أمره به بعدالته لم يقبل قوله إلا ببينة، فكذلك الوصي، ورأى عمر بن الخطاب وابن جبير أن هذا الإشهاد إنما هو على دفع الوصي في يسره ما استقرضه من مال يتيمه حالة فقره، قال عبيدة: هذه الآية دليل على وجوب القضاء على من أكل، المعنى: فإذا اقترضتم أو أكلتم فأشهدوا إذا غرمتم، والصحيح أن اللفظ يعم هذا وسواه، والظاهر أن المراد إذا أنفقتم شيئا على المولى عليه فأشهدوا، حتى لو وقع خلاف أمكن إقامة البينة، فإن كل مال قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بالإشهاد على دفعه، لقوله تعالى: ﴿فَأَشْهِدُوا﴾ فإذ دفع لمن دفع إليه بغير إشهاد فلا يحتاج في دفعها لإشهاد إن كان قبضها بغير إشهاد، والله أعلم.

20. كما على الوصي والكفيل حفظ مال يتيمه والتثمير له، كذلك عليه حفظ الصبي في بدنه، فالمال يحفظه بضبطه، والبدن يحفظه بأدبه، وقد مضى هذا المعنى في البقرة، وروي أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن في حجري يتيما أآكل من ماله؟ قال: نعم غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله، قال: يا رسول الله، أفأضربه؟ قال: ما كنت ضاربا منه ولدك، قال ابن العربي: وإن لم يثبت مسندا فليس يجد أحد عنه ملتحدا.

21. ﴿وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا﴾ أي كفى الله حاسبا لأعمالكم ومجازيا بها، ففي هذا وعيد لكل جاحد حق، والباء زائدة، وهو في موضع رفع.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/34.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ الابتلاء: الاختبار، وقد تقدّم تحقيقه، وقد اختلفوا في معنى الاختبار، فقيل: هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه؛ ليعلم بنجابته وحسن تصرفه؛ فيدفع إليه ماله إذا بلغ النكاح وآنس منه الرشد؛ وقيل: معنى الاختبار: أن يدفع إليه شيئا من ماله؛ ويأمره بالتصرف فيه حتى يعلم حقيقة حاله، وقيل: معنى الاختبار: أن يرد النظر إليه في نفقة الدار ليعرف كيف تدبيره، وإن كانت جارية ردّ إليها ما يردّ إلى ربة البيت من تدبير بيتها، والمراد ببلوغ النكاح: بلوغ الحلم، لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾ ومن علامات البلوغ: الإنبات، وبلوغ خمس عشرة سنة، وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: لا يحكم لمن لم يحتلم بالبلوغ إلّا بعد مضي سبع عشرة سنة، وهذه العلامات تعم الذكر والأنثى، وتختص الأنثى: بالحبل والحيض.

2. ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ﴾ أي: أبصرتم ورأيتم، ومنه قوله: ﴿آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا﴾، قال الأزهري: تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحدا، معناه: تبصر؛ وقيل: هو هنا بمعنى: وجد وعلم، أي: فإن وجدتم وعلمتم منهم رشدا، وقراءة الجمهور: (رشدا) بضم الراء وسكون الشين، وقرأ ابن مسعود، والسلمي، وعيسى الثقفي: بفتح الراء والشين، قيل: هما لغتان؛ وقيل: هو بالضم مصدر رشد، وبالفتح مصدر رشد.

3. اختلف أهل العلم في معنى الرشد هاهنا، فقيل: الصلاح في العقل والدين؛ وقيل: في العقل خاصة، قال سعيد بن جبير والشعبي: إنه لا يدفع إلى اليتيم ماله إذا لم يؤنس رشده وإن كان شيخا، قال الضحاك: وإن بلغ مائة سنة، وجمهور العلماء على أن الرشد لا يكون إلّا بعد البلوغ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم لا يزول عنه الحجر، وقال أبو حنيفة: لا يحجر على الحرّ البالغ وإن كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا، وبه قال النخعي، وزفر، وظاهر النظم القرآني: أنه لا تدفع إليهم أموالهم إلّا بعد بلوغ غاية، هي: بلوغ‏ النكاح، مقيدة هذه الغاية بإيناس الرشد، فلا بد من مجموع الأمرين، فلا تدفع إلى اليتامى أموالهم قبل البلوغ، وإن كانوا معروفين بالرشد، ولا بعد البلوغ إلّا بعد إيناس الرشد منهم، والمراد بالرشد: نوعه، وهو المتعلق بحسن التصرف في أمواله، وعدم التبذير بها، ووضعها في مواضعها.

4. ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ الإسراف في اللغة: الإفراط ومجاوزة الحدّ، وقال النضر بن شميل: السرف والتبذير، والبدار: المبادرة و﴿أَنْ يَكْبَرُوا﴾ في موضع نصب بقوله: ﴿بِداراً﴾ أي: لا تأكلوا أموال اليتامى أكل إسراف وأكل مبادرة لكبرهم، أو: لا تأكلوا لأجل السرف، ولأجل المبادرة، أو: لا تأكلوها مسرفين ومبادرين لكبرهم، وتقولوا: ننفق أموال اليتامى فيما نشتهي قبل أن يبلغوا فينتزعوها من أيدينا.

5. ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بين سبحانه ما يحل لهم من أموال اليتامى، فأمر الغنيّ بالاستعفاف وتوفير مال الصبي عليه، وعدم تناوله منه، وسوّغ للفقير أن يأكل بالمعروف.

6. اختلف أهل العلم في الأكل بالمعروف ما هو؟ فقال قوم: هو القرض إذا احتاج إليه ويقضي متى أيسر الله عليه، وبه قال عمر بن الخطاب، وابن عباس، وعبيدة السلماني، وابن جبير، والشعبي، ومجاهد، وأبو العالية، والأوزاعي، وقال النخعي، وعطاء والحسن وقتادة: لا قضاء على الفقير فيما يأكل بالمعروف، وبه قال جمهور الفقهاء، وهذا بالنظم القرآني ألصق فإن إباحة الأكل للفقير مشعرة بجواز ذلك له من غير قرض.

7. المراد بالمعروف: المتعارف به بين الناس، فلا يترفه بأموال اليتامى، ويبالغ في التنعم بالمأكول، والمشروب، والملبوس، ولا يدع نفسه عن سدّ الفاقة وستر العورة، والخطاب في هذه الآية لأولياء الأيتام القائمين بما يصلحهم، كالأب والجدّ ووصيهما، وقال بعض أهل العلم: المراد بالآية: اليتيم إن كان غنيا: وسع عليه وعفّ من ماله، وإن كان فقيرا: كان الإنفاق عليه بقدر ما يحصل له، وهذا القول في غاية السقوط.

8. ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ أي: إذا حصل مقتضى الدفع فدفعتم إليهم أموالهم، فأشهدوا عليهم أنهم قد قبضوها منكم، لتندفع عنكم التهم، وتأمنوا عاقبة الدعاوى الصادرة منهم، وقيل: إن الإشهاد المشروع: هو ما أنفقه عليهم الأولياء قبل رشدهم؛ وقيل: هو على ردّ ما استقرضه إلى أموالهم، وظاهر النظم القرآني: مشروعية الإشهاد على ما دفع إليهم من أموالهم، وهو يعمّ الإنفاق قبل الرشد، والدفع للجميع إليهم بعد الرشد.

9. ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ أي: حاسبا لأعمالكم، شاهدا عليكم في كل شيء تعملونه، ومن جملة ذلك: معاملتكم لليتامى في أموالهم، وفيه وعيد عظيم، والباء: زائدة، أي: كفى الله.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/491.

المتوكل على الله:

ذكر الإمام المتوكل على الله (ت 1295 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، المراد به والله أعلم: أن من كان غنيا عن المخالطة لهم، والأكل معهم، فليستعفف عن المخالطة لهم، والأكل معهم، ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، أي: ومن كان فقيرا إلى ذلك فليخالطهم، وليأكل معهم، ولا يتعمد الظلم لهم، و[لا] النقص لهم في مالهم.. وقد اختلف في هذه الآية، فمن الناس من حملها على ظاهرها، وأجاز للوصي الأكل من مال اليتيم إذا كان الوصي فقيرا، وأن ينفق منه على نفسه ومن تلزمه نفقته.. ومن الناس من قال يتناول منه مثل ما يتناول المضارب من المضارب له على سبيل الأجرة.. وعندنا: أن ذلك لا يجوز؛ لقول الله تعالى: ﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ومن المعروف: أن يخرج الوصي لليتيم من ماله مثل ما يخرج لمثله من أولاده، ثم يخلطه في نفقة أولاده، ويواسيه بأولاده، ولا ينقصه في ماله ولا في نفقته، فهذا هو المعروف، ويؤيد ذلك قول الله تعالى: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ [البقرة:220](1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/209.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وروي أنَّ رفاعة مات وترك ابنه صغيرًا اسمه ثابت، فقال عمُّه: (يا رسول الله، ابن أخي يتيم في حجري ما يحلُّ لي من ماله؟ ومتى أدفع إليه ماله؟) فنزل قوله تعالى: ﴿وَابْتَلُواْ﴾ اختبروا ﴿الْيَتَامَى﴾ قبل البلوغ ببيع ما قلَّ وشراء ما قلَّ، وبيع الطفلة غزلها ونحوه مِمَّا قلَّ وشراء مثل ذلك، أو بقوله: هل تبيع كذا بكذا أو تشتريه بكذا؟ أو يعقد بيعًا أو شراء ويحضر له، فيقول له: هل يصلح هذا؟ فيمضي البيع لأَنَّ الولي أذن له خلافًا للشافعيِّ، فإنَّه يوقفه على إمضاء الوليِّ، ولا يشترط اختباره في دينه خلافًا للشافعيِّ.

2. ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ حدَّ النكاح، وهو البلوغ بإحدى علامات البلوغ، فإن لم تكن فخمس عشرة سنة عندنا وعند الشافعيَّة لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إِذا استَكملَ المَولُودُ خَمسَ عَشرةَ سنة كُتبَ مَا لهُ ومَا عَليه، وأقيمت عَليه الحدود)، أو الطفل أربع عشرة والأنثى ثلاث عشرة، وزعم أبو حنيفة أنَّ مدَّة بلوغ الذكر ثماني عشرة سنة، والأنثى سبع عشرة، وله قول كقولنا تفتي به الحنفيَّة، وتَمَسَّك لِقولِهِ الأوَّل بقوله تعالى: ﴿حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾، إذ قال ابن عبَّاس: (أَشُدَّهُ): ثماني عشرة، و(حَتَّى) للابتداء والتفريع، ولا تخلو عن غاية.

3. ﴿فَإنَ آنَسْتُم﴾ أبصرتم ﴿مِّنْهُمْ رُشْدًا﴾ صلاحًا في المال عندنا، ويدلُّ له قوله: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾، فإنَّه في المال، قال الشافعيُّ: وفي الدين ﴿فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمُ أَمْوَالَهُم﴾ فالاختبار قبل البلوغ، والدفع بعده وبعد الإيناس، وإن بلغوا ولم يؤنس رشدهم لم يُدفع إليهم أموالهم، ولو بلغوا خمسًا وعشرين سنة أو أكثر، وزعم أبو حنيفة أنَّه لا يدفع إليهم أموالهم ولو أونس رشدهم ما لم يبلغوا خمسا وعشرين، وإذا بلغوها دفعت إليهم ولو لم يؤنس رشدهم، لِما روي عن عمر  : (ينتهي لبُّ الرجل إذا بلغ خمسًا وعشرين)، ولا تدفع لهم قبل البلوغ ولو أنس رشدهم، وإن بلغوا ورشدوا وأرادوا أن لا يأخذوها جاز إمساكها، إذا كان باختيارهم لا خوفا ولا مداراة، وزاد [أي أبو حنيفة] سبعًا على مدَّة البلوغ عنده وهي عنده ثمانية عشرة سنة؛ لأنَّ السبع معتبرةٌ في تغيُّر أحوال الإنسان كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (مُرُوهُم بالصلاة لسبع)

4. ﴿وَلَا تَاكُلُوهَآ إِسْرَافًا﴾ أكل إسراف أو مسرفين أو ذوي إسراف أو لأجل إسراف، وكذا في (بِدَارًا)،، وجاز أكلٌ بمعروف في مقابلة عملكم، ولِما يفسد من طعامهم إن لم يؤكل مع تعويض، ﴿وَبِدَارًا﴾ أي: سرعة، وليس (الفعال) على بابه إِلَّا أن يقال: اليتيم يبادر النزع، أو شبَّه الفعل بلا مفاعلة كالفعل بها لِجامع شدَّة الاجتهاد بها، أو شبَّهَ مجيء زمان كبرهم شيئًا فشيئًا بمن يتعاطى أن يكون أسرع منهم، ﴿أَنْ يَّكْبَرُواْ﴾ مفعول به لـ (بِدَارًا)، من إعمال المصدر المنوَّن، أو تقدَّر لام التقوية، أو إلى، أو مخافة أن يكبروا، وكانوا يسارعون في أكل أموال اليتامى قبل أن يبلغوا أو يطلبوها، فنُهُوا عن ذلك، كما روي عن ابن عبَّاس  ، قال رجل: (يا رسول، إنَّ في حجري يتيمًا أفآكل من ماله؟) قال: (كُل بالمعروف غير متأثِّل بماله مالا، ولا واق مالك بماله)، لقوله تعالى: ﴿وَمَن كَانَ غَنِيًّا﴾ من أولياء اليتامى والأوصياء ونحوهم مِمَّن كان مال اليتامى في أيديهم ﴿فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ عن الأكل منها، والاستفعال للمبالغة، أي: فليُطالب نفسه مطالبة شديدة في الامتناع عن الأكل منها.

5. ﴿وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَاكُلْ﴾ منه، ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ قيل: هو أجرة عمله تقدَّر بعدل، وقيل: بأقلَّ من أجرة سعيه، وعندي أنَّ ذلك غير أجرة، وعبارة بعض أنَّ الوليَّ الفقير يأخذ بلا إذن أقلَّ الأمرين من النفقة والأجرة بالمعروف على سعيه؛ لأنَّه تصرَّف في مال من لا تمكن مراجعته كعامل الصدقة، والمراد بالأكل ما يشمل سائر المؤونات، أو ظاهره ويقاس عليه غيره، ولا يأخذها الحاكم إِلَّا بإذن الإمام أو الجماعة، وكذا الإمام بإذن من معه من قُيَّام الإِسلَام، وقيل: الأكل بالمعروف الاستقراض، ويُشهد عليه، وإذا أيسر قضى، وعن عمر  : (إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت أخذت منه بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت)، قلت: بل هذا في القرض منه زيادة ما في الآية من الأكل بالمعروف، وعنه أنَّه كتب إلى عمَّار وعبد الله بن مسعود وعثمان بن ضيف: (سلام عليكم، أمَّا بعد، فإنِّي قد رزقتكم كلَّ يوم شاة شطرها لعمَّار، وربعها لعبد الله بن مسعود، وربعها لعثمان، ألا وإنِّي نزلت نفسي وإيَّاكم من مال الله بمنزلة وليِّ اليتيم، فمن كان غنيًّا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف)، وقيل: القرض من الذهب والفضة، ولهم ذلك التناول من اللبن، واستخدام العبيد، وركوب الدوابِّ بلا مضرَّة للمال، تمسُّكًا بقوله تعالى:

6. ﴿فَإذَا دَفَعْتُمُ إِلَيْهِمُ أَمْوَالَهُمْ﴾ لإيناس الرشد إذا أردتم دفع أموالهم إليهم ﴿فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ﴾ أمناء أو أمينين، أي: أحضروهم، وادفعوا للأيتام أموالهم وأشهدوهم، لئلَّا ينسى اليتامى أو ينكروا، أو اكتبوا ذلك، وإن دفعتم إليهم فليقرُّوا لمن يشهد، والحاصل أنَّه يجب على وليِّ اليتيم أو نحوه أن يعمل في تحصيل براءة ذمَّته من التهمة والضمان، والأمر للإرشاد، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (اتَّقوا مَواضِع التُّهم)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من وجد لقطة فليُشهد ذوي عدل ولا يكتم) فأمره بالإشهاد لتزول تهمته، ولا يصدَّق القيِّم في قوله: إنِّي أوصلت مال اليتيم إليه بلا بيِّنة ولا إقرار اليتيم بعد بلوغه، ويصدَّق في قوله: أنفقت عليه كذا مِمَّا لاق وأمكن ولم يتبيَّن كذبه، ولا يمين عليه، وزعم أبو حنيفة أنَّه يقبل قوله في الدفع بعد البلوغ بلا بيِّنة ولا إقرار يتيم، وإلَّا لم تقبل وصيَّة، وتردُّ الآية قولَه، وإنَّ سائر الدعاوي لَا بُدَّ فيها من بيان، وإن أعطاه قبل البلوغ ضمن ما أفسد الطفل، قيل: وكذلك قبل إيناس الرشد يضمن.

7. ﴿وَكَفَىٰ بِاللهِ حَسِيبًا﴾ محاسِبًا، فلا يغرَّنكم ستر ما خدعتم به في أموال اليتامى في الدُّنيا.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/117.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ أي اختبروا عقولهم ومعرفتهم بالتصرف‏ ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ أي بأن يحتلموا أو يبلغوا خمس عشرة سنة، لما في الصحيحين‏ عن ابن عمر قال إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ثم عرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني‏، قال نافع: فقدمت على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فحدثته هذا الحديث فقال: إن هذا لحدّ بين الصغير والكبير، وكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة، وكذا نبات الشعر الخشن حول العورة.

2. ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ﴾ أي شاهدتم وتبينتم‏ ﴿مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ أي صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم، قاله سعيد بن جبير، وروي عن ابن عباس والحسن وغير واحد من الأئمة ﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ أي من غير تأخير.

3. ظاهر الآية الكريمة أن من بلغ غير رشيد إما بالتبذير أو بالعجز أو بالفسق، لا يسلم إليه ماله لأنها مفسدة للمال‏ ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا﴾ أيها الأولياء ﴿إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ أي مسرفين ومبادرين كبرهم، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم، تفرّطون في إنفاقها وتقولون: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا.

﴿وَمَنْ كَانَ﴾ من الأولياء ﴿غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ أي يتنزه عن أكل مال اليتيم، فإنه عليه كالميتة والدم، وليقنع بما آتاه الله تعالى من الرزق‏ ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا﴾ يمنعه اشتغاله بمال اليتيم عن الكسب، وإهماله يفضي إلى تلفه عليه‏ ﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بقدر حاجته الضرورية وأجرة سعيه وخدمته، كما رواه ابن أبي حاتم عن عائشة حيث قالت: فليأكل بالمعروف بقدر قيامه عليه، ورواه البخاري‏ أيضا.

4. قال ابن كثير: قال الفقهاء: له أن يأكل أقل الأمرين أجرة مثله، وقد حاجته، وهل يردّ إذا أيسر؟ وجهان:

أ. أحدهما لا يرد لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا، وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعيّ، لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل:

وروى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏ أن رجلا سأل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: ليس لي مال ولي يتيم، فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا، ومن غير أن تقي مالك، (أو قال تفدي مالك بماله) ورواه ابن أبي حاتم ولفظه: كل بالمعروف غير مسرف، ورواه أبو داود والنسائيّ وابن ماجة.

وروى ابن حبان في (صحيحه) وابن مردويه في (تفسيره) عن جابر: أن رجلا قال يا رسول الله! مما أضرب يتيمي؟ قال مما كنت ضاربا منه ولدك، غير واق مالك بماله، ولا متأثل منه مالا.

وروى عبد الرزاق عن الثوريّ عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال جاء أعرابيّ إلى ابن عباس فقال: إن في حجري أيتاما، وإن لهم إبلا، ولي إبل وأنا أمنح من إبلي فقراء، فماذا يحل لي من ألبانها؟ فقال: إن كنت تبغي ضالتها، وتهنأ جرباها، وتلوط حوضها، وتسعى عليها، فاشرب غير مضرّ بنسل، ولا ناهك في الحلب، ورواه مالك في موطئه‏.

وبهذا القول، وهو عدم أداء البدل، يقول عطاء بن أبي رباح وعكرمة وإبراهيم النخعيّ وعطية العوفيّ والحسن البصريّ.

ب. وروى سعيد بن منصور في (سننه): حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن البراء قال قال لي عمر: إنما أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم إن احتجت أخذت منه، فإذا أيسرت رددته، وإن استغنيت استعففت، قال ابن كثير: إسناد صحيح، وروى البيهقيّ عن ابن عباس نحو ذلك، وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، في قوله: ﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يعني القرض، قال وروي عن عبيدة وأبي العالية وأبي وائل، وسعيد بن جبير (في إحدى الروايات) ومجاهد والضحاك والشعبيّ والسدّيّ نحو ذلك، قال الفخر الرازيّ: (وبعض أهل العلم خص هذا الإقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها، وأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح له إذا كان غير مضر بالمال، وهذا قول أبي العالية وغيره، واحتجوا بأن الله تعالى قال ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾، فحكم في الأموال بدفعها إليهم)، والكل محتمل، إذ لا نص من الأصلين على واحد منها، ولا يخفى الورع.

5. ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ أي بعد البلوغ والرشد ﴿فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ أي عند الدفع بأنهم قبضوها، فإنه أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة، قال السيوطيّ: فيه الأمر بالإشهاد ندبا، وقيل: وجوبا، ويستفاد منه أن القول في الدفع قول الصبيّ، لا الوليّ، فلا يقبل قوله إلا ببينة.

6. ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ أي كافيا في الشهادة عليكم بالدفع والقبض، أو محاسبا، فلا تخالفوا ما أمركم به، ولا يخفى موقع هذا التذييل هنا، فإن الوصيّ يحاسب على ما في يده، وفيه وعيد لوليّ اليتيم وإعلام له أنه تعالى يعلم باطنه كما يعلم ظاهره، لئلا ينوي أو يعمل في ماله ما لا يحل، ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل إليه ماله، وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمّرنّ على اثنين ولا تولّينّ مال يتيم.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/30.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين سبحانه في هذه الآية الشرط أو الصفة التي يجب بها إيتاء اليتامى أموالهم كما أمر في آية ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 2] قال محمد عبده ما مثاله: إن ما تقدم من الأمر بإيتاء اليتامى أموالهم كان مجملا وفي هذه الآية تفصيل لكيفية الإيتاء ووقته وما يعتبر فيه، وقد اختلف العلماء في ابتلاء اليتيم كيف يكون:

أ. فقال بعضهم يعطي شيئا من المال ليتصرف فيه فيرى تصرفه كيف يكون.

ب. فقال بعضهم يعطي شيئا من المال ليتصرف فيه فيرى تصرفه كيف يكون، فإن أحسن فيه كان راشدا وإلا كان على سفهه.

ج. وقال بعضهم: أن الإعطاء لا يجوز إلا بعد الابتلاء وإيناس الرشد، فمن أعطاه قبل ذلك يكون مخالفا للأمر ومجازفا بالمال.

د. والصواب: أن يحضره الولي المعاملات المالية ويطلعه على كيفية التصرف ويسأله عند كل عمل عن رأيه فيه، فإذا رأى أجوبته سديدة ورأيه صالحا يعلم أنه قد رشد، واعترض هذا أيضا بأن القول لا يغني عن الفعل شيئا، فإن قليلا من النباهة يكفي لإحسان الجواب إن قيل له ما تقول في ثمن هذا؟ وما أشبه ذلك، وإننا نرى كثيرا من الذين نسميهم أذكياء ومتعلمين يتكلم أحدهم في الزراعة عن علم يقول: ينبغي كذا من السماء وكذا من السقي والعذق، فإذا أرسل إلى الأرض وكلف العمل ينام معظم النهار ولا يعمل شيئا أو يعمل فيسيء العمل ولا يحسنه، بل ترى من الناس من يتكلم في الأخلاق وكيفية معاملة الناس فيحسن القول كما ينبغي ولكنه يسيء في المعاملة فيكون عمله مخالفا لقوله، فقائل هذا القول الثاني قد غفل عن القاعدة التي اتفق عليها العقلاء وهي أن بين العلم والتجربة بونا شاسعا، فكم رأينا أناسا من المحسنين في الكلام السفهاء في الأعمال الذين إذا سألتهم عن طرق الاقتصاد في المعاملة وتدبير الثروة أجابوك أحسن جواب مبني على قواعد العلم الحديث المبني على التجارب وإمعان النظر، ثم هم يسفهون في عملهم ويبذرون الأموال تبذيرا يسارعون فيه إلى الفقر؛ أعرف من هؤلاء رجلا ترك له والده ثروة قدرت قيمتها بميلون جنيه (أي بألف ألف جنيه) فأتلفها بإسرافه، وهو الآن يطلب إعانة من الجمعية الخيرية الإسلامية!!

2. قال محمد عبده: الرأي الأول أسد وأصوب، وما اعترض به عليه يجاب عنه بأن الممنوع قبل العلم بالرشد هو إعطاء اليتيم ماله كله ليستقل بالتصرف فيه، وأما إعطاؤه طائفة منه ليتصرف فيها تحت مراقبة الولي ابتلاء واختبارا له فهو غير ممنوع بل هو المأمور به في هذه الآية، قال: و(حتى) ابتدائية أي ابتلوا اليتامى إلى ابتداء البلوغ، وكونها ابتدائية لا ينافي كونها للغاية التي هي معناها الأصلي الذي لا يفارقها، وإنما فرقوا بين التي تدخل على الجملة الكاملة والتي تدخل على المفرد في الأعراب، فسموا الأولى الابتدائية وهي التي لا تجر المفرد، وسموا الثانية الجارة وهي التي تجر المفرد، والغاية في الأولى هي مفهوم الجملة التي بعدها، أي ابتلوهم إلى ابتداء الحد الذي يبلغون فيه سن النكاح فإن آنستم منهم بعد البلوغ رشدا فادفعوا إليهم أموالهم وإلا فاستمروا على الابتلاء إلى أن تأنسوا منهم الرشد وعند أبي حنيفة يعطى ماله إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وإن لم يرشد وجملة ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ﴾ جواب ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا﴾

3. بلوغ النكاح هو الوصول إلى السن التي يكون بها المرء مستعدا للزواج، وهو بلوغ الحلم، ففي هذه السن تطالبه الفطرة بأهم سننها وهي سنة الإنتاج والنسل فتتوجه نفسه إلى أن يكون زوجا وأبا ورب بيت ورئيس عشيرة، وذلك لا يتم له إلا بالمال فوجب حينئذ إيتاؤه ماله إلا إذا بلغ سفيها وخيف أن يضيع ماله فيعجز عما تطالبه به الفطرة ولو بعد حين، وفي هذه السن يكلف الأحكام الشرعية من العبادات والمعاملات وتقام عليه الحدود ويترتب عليه الجزاء الأخروي، فالرشد حسن التصرف وإصابة الخير فيه الذي هو أثر صحة العقل وجودة الرأي، وهو يطلق في كل مقام بحسبه، فقد يراد به أمر الدنيا خاصة وقد يراد أمر الدين خاصة، ولذلك اختلف الفقهاء في الحجر على الفاسق فقال بعضهم يحجر عليه لأنه غير رشيد في دينه وقال بعضهم لا يحجر عليه إذا كان يحسن التصرف في أمور دنياه لأن الرشد في هذا المقام لا يعني به إلا أمر الدنيا، وقد يقال إذا كان فسقه مما يتناول الأمور المالية كمنع الحقوق وإتلاف المال بالإسراف في الخمور والفجور وجب الحجر وإن كان يتعلق بأمر الدين خاصة كالفطر في رمضان مثلا يجب الحجر.

4. نقل ابن جرير الخلاف عن مفسري السلف في تفسير الرشد، كقول مجاهد هو العقل وقول قتادة هو الصلاح في العقل والدين وقول ابن عباس هو حسن الحال والصلاح في الأموال، ثم قال: وأولى هذه الأقوال عندي بمعنى الرشد في هذا الموضع: العقل وإصلاح المال، لإجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك لم يكن ممن يستحق الحجر عليه في ماله وحوز ما في يده عنه وإن كان فاجرا في دينه ـ إلى آخر ما قاله في بيان هذا وإيضاحه، وتنكير الرشد يدل على هذا فهو لبيان نوع من الرشد ينافي الإسراف في المال، وقيل المعنى إن آنستم منهم رشدا ما.

5. ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ أي ولا تأكلوا أموال اليتامى مسرفين في الإنفاق منها ولا مبادرين كبرهم إليها أي مسابقين الكبر في السن الذي يأخذونها به من أيديكم فتكونوا طالبين لا كل هذا المال كما يطلبه كبر سن صاحبه فيكون السابق هو الذي يظفر به، قال محمد عبده: إن النهي عن أكل أموال اليتامى إسرافا وبدارا هو كالأمر قبله تفضيل للآية الناهية عن أكل أموال اليتامى إلى أموال الأولياء، وقد قيد النهي هنا بالإسراف وهو صرف مال اليتيم في غير محله ولو على اليتيم نفسه، وسمي هذا أكلا لأنه إضاعة، والأكل يطلق على إضاعة الشيء ولكن ضم مال اليتيم إلى مال الولي لا يسمى إسرافا، وقيده أيضا بالبدار والمسابقة لكبر اليتيم لأن الولي الضعيف الذمة يستعجل ببعض التصرفات في مال اليتيم التي له منها منفعة لئلا تفوته إذا كبر اليتيم وأخذ ماله ـ فهاتان الحالان: الإسراف وبدار ومسابقة كبر اليتيم ببعض التصرف، هما من مواضع الضعف التي تعرض للإنسان، فنبه الله تعالى عليهما ونهى عنهما ليراقب الولي ربه فيهما إذا عرضتا له.

6. إن من دقق النظر في هاتين الحالين ووقف على تصرف الأولياء فيهما، يرى أنهما مما يعرض فيه التأويل ومخادعة النفس للإنسان لاختلاف الناس في حد الإسراف وخفاء وجه منفعة الولي في المسابقة إلى بعض الأعمال في مال اليتيم، وما كان موضع خلاف وخفاء لا ينكره ولا ينتقده جمهور الناس ومن أنكر يسهل الرد عليه وتأول ما فعله الولي والقول بأنه تصرف وضع في محله وعمل في وقته، ومثل هذا مما قد تغش الولي فيه نفسه حتى يصدق أنه لا حرج فيه، وقد يعلم أنه تصرف غير جائز في الباطن ويكتفي بأنه لا يمكن أن يماري فيه أحد مراء ظاهرا تتضح فيه خيانته، فلأجل هذا وذاك صح الكتاب الحكيم بالنهي عنه ليتدبره أولو الألباب.

7. أما الأكل منها بغير إسراف ولا مبادرة خوف أخذها عند البلوغ والرشد ـ كما هو شأن الخائن ـ فقد ذكر حكمه في قوله: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي فمن كان منكم غنيا غير محتاج إلى مال اليتيم الذي في حجره وتحت ولايته فليعف عن الأكل من ماله أو ليطالب نفسه ويحملها على العف عنه نزاهة وشرف نفس، ومن كان فقيرا لا يستغنى عن الانتفاع بشيء من مال اليتيم الذي يصرف بعض وقته أو كله في تثميره وحفظه فليأكل منه بالمعروف الذي يبيحه الشرع ولا يستنكره أهل المروءة والفضل ولا يعدونه طمعا ولا خيانة.

8. اختلف المفسرون والفقهاء في الآكل بالمعروف الذي أذن الله به للولي الفقير فقيل هو القرض يأخذه بنية الوفاء، وروي هذا عن عمر بن الخطاب وابن عباس وعبارة الأخير في بعض روايات ابن جرير: إن كان غنيا فلا يحل له من مال اليتيم أن يأكل منه شيئا وإن كان فقيرا فليستقرض منه فإن وجد ميسرة فليعطه ما استقرض منه فذلك أكله بالمعروف، وقال مثله سعيد بن جبير وزاد: وإن حضره الموت ولم يوسر يتحلله من اليتيم وإن كان صغيرا يتحلله من وليه، وهو يعني وليه الذي يكون بعده، وعن الشعبي لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة فإن أكل منه شيئا قضاه، واختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف فعن ابن عباس يأكل بأطراف أصابعه، ووضحه السدي فقال يأكل معه بأصابعه لا يسرف في الأكل ولا يلبس، وعن عكرمة إنه قال: يدك مع أيديهم ولا تتخذ منه قلنسوة وقال بعضهم الأكل بالمعروف هو ما سد الجوعة ووارى العورة، أي قدر الضرورة من الطعام والكسوة، وقال آخرون هو أن يأكل من غلة المال كلبن الماشية وصوفها وثمرات الشجر وغلة الزرع ولا يأخذ من رقبة المال شيئا، وقال غيرهم يأخذ قدر كفايته وعن عطاء يضع يده مع أيديهم فيأكل معهم كقدر خدمته وقدر عمله.

9. من هنا قال بعض الفقهاء إن له أجر مثله من مال اليتيم الذي يتولى تدبير أمواله وهذا هو الذي اختاره ابن جرير، فقال إن الأمة مجمعة على أن مال اليتيم ليس مالا للولي فليس له أن يأكل منه شيئا ولكن له أن يستقرض منه عند الحاجة كما يستقرض له وله أن يؤاجر نفسه لليتيم بأجرة معلومة إذا كان اليتيم محتاجا إلى ذلك كما يستأجر له غيره من الإجراء غير مخصوص بها حال غنى ولا حال فقر اه، يعني أن الأكل بالمعروف هو القرض والأجرة ولا يباح أكل شيء منه بلا عوض كسائر أموال الناس قال وكذلك الحكم في أموال المجانين والمعاتيه، ولكن ما ذكر في كيفية الأكل لا يظهر في الاستقراض وقد يظهر في الأجرة.

10. من الحديث المرفوع في المسألة أن ابن عمر سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: ليس لي مال وإني ولي يتيم فقال: (كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك بماله) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، ووجهه أن اليتيم يكون في بيت الولي كولده والخير له في تربيته أن يخالطه الولي هو وأهله في المؤاكلة والمعاشرة فإذا كان الولي غنيا ولا طمع له في ماله كان اليتيم هو الرابح من هذه المخالطة وإن كان يصرف فيها شيء من ماله بقدر حاجته، وإن كان الولي فقيرا فإنه لا يستغنى عن إصابة بعض ما يحتاج إليه من المال اليتيم الغني الذي في حجره فإذا أكل من طعامه وثمره ما جرى به العرف بين الخلطاء غير مصيب من رقبة المال شيئا ولا متأثل لنفسه منه عقارا ولا مالا آخر ولا مستخدما ماله في مصالحه ومرافقه كان في ذلك آكلا بالمعروف، هذا هو المختار عندي وراجع تفسير ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾

11. ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ أي ليعرفهم أمر رشدهم وتصرفهم ولتظهر براءة ذمتكم ولتحسم مادة النزاع بينكم قال ابن عباس إذا دفع إلى اليتيم ماله (أي عند بلوغه ورشده) فليدفعه إليه بالشهود كما أمره الله تعالى، وهذا الإشهاد واجب كما هو ظاهر الأمر وعليه الشافعية والمالكية وقال الحنفية إنه غير واجب بل مندوب وقال محمد عبده: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأمر بالإشهاد أمر إرشاد لا أمر وجوب وهم متفقون على أن الأوامر المارة كلها للإيجاب القطعي والنواهي كلها للتحريم، وظاهر السياق أن هذا الأمر مثل ما سبقه، ولعل السبب فيما قاله الفقهاء هو أن الناس تهاونوا بأمر الإشهاد وأهملوه من زمن بعيد فسهل ذلك على الفقهاء التأويل ورأوه أولى من تأثيم الناس وجعل أكثرهم مخالفين لما فرض عليهم، ولا شك عندي أن الإشهاد حتم، وأن تركه يؤدي إلى النزاع والتخاصم والتقاضي كما هو مشاهد فإذا فرضنا أن الناس كانوا في زمن ما مستمسكين بعروة الدين استمساكا عاما وكان اليتامى يحسنون الظن في الأولياء فلا يتهمونهم وأن الإشهاد لم يكن متحتما عليهم لأجل هذا، أفليس هذا الزمن المعلوم مخالفا لذلك الزمن المجهول مخالفة تقتضي أن يجعل الإشهاد ضربة لازب لقطع عرق الخصام ونزوع النفس إلى النزاع والمشاغبة؟

12. ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ أي وكفى بالله رقيبا عليكم وشهيدا يحاسبكم على ما أظهرتم وما أسررتم، أو كفى بالله كافيا في الشهادة عليكم يوم الحساب، الحسب (بسكون السين) في الأرض الكفاية وفسر الراغب الحسيب بالرقيب، وفسره السدي بالشهيد، فهل هذان معنيان مستقلان أم من لوازم المعنى الأصلي؟ قال محمد عبده: الحسيب هو المراقب المطلع على ما يعمل العامل وإنما جاء بهذا البعد الأمر بالإشهاد القاطع لعرق النزاع ليدلنا على أن الإشهاد وإن حصل وكان يسقط الدعوى عن القاضي بالمال ـ لا يقسط الحق عند الله إذا كان الولي خائنا إذ لا تخفى عليه تعالى ما يخفى على الشهود والحكام، وكأن هؤلاء الأوصياء الخبثاء الذين نعرفهم لم يسمعوا قول الله في ذلك قط فقد كثرت فيهم وفي غيرهم الخيانة وأكل أموال اليتامى والسفهاء والأوقاف بالحيل حتى إنه يمكنني أن أقول إنه لا يوجد في القطر المصري عشرة أشخاص يصلحون للوصاية على اليتيم أو السفيه والوقف، وقد نص الفقهاء على أن النظر على الوقف كالوصاية على اليتيم، فانظروا إلى هذه الدقة في الآية الكريمة من الأمر باختبار اليتيم ودفع ماله إليه عنده بلوغه ورشده، ومن النهي عن أكل شيء منه بطرق الإسراف ومبادرة كبره، ومن الأمر بالإشهاد عليه عند الدفع، ثم التنبيه إلى مراقبة الله تعالى التي تتناول جميع ذلك.

13. من مباحث اللفظ في الآية عنه: أن بعض النحاة يقولون إن الباء الداخلة على لفظ الجلالة في قوله ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾ زائدة والمعنى كفى الله حسيبا وبعضهم يقول إن الفاعل مصدر محذوف والباء حرف جر أصلي متعلق به، وهذا كله من تطبيق القرآن على القواعد التي وضعوها ـ أو قال قعدوها ـ ونحن نقول إن المعنى مع وجود الباء هو غير المعنى مع عدمها، فلها معنى في الكلام كيفما أعربت، وإن (كفى) فعل ليس له فاعل والجار متعلق به ومعناه أن الله عز وجل هو أشد من يراقب ويحاسب، وهذه الجملة من فرائد البلاغة المسموعة التي لا تحتذى ولا يؤتى بمثل لها قد جاءت على هذه الكيفية النادر مثلها في حسنها فلا يمكن تطبيقها على القواعد الموضوعة للكلام المعروف عند جميع العرب الدائر على ألسنة أهل الفصاحة والفهاهة على السواء.

14. يحسن أن نذكر هنا ما قاله محمد عبده عند الكلام على (حتى) الابتدائية وما فيها من معنى الغاية ـ كما تقدم ـ وهو: أن القواعد النحوية (كقواعد البيان) وضعت بعد وضع اللغة لا قبلها فلا يمكن أن تكون عامة شاملة لكل كلام، ولكن النحاة حاولوا إدخال كل كلام في قواعدهم، وكان يجب أن يقولوا كما قال بعض أهل اللغة في بعض الكلام النادر الاستعمال: إنه ورد هكذا على غير القاعدة التي وضعناها فهو نظم سماعي يحفظ في اللغة ولا يقاس عليه.

15. إن ما جاء على خلاف المشهور الشائع الذي وضعت له القواعد قسمان قسم شاذ جرى على ألسنة بعض بلداء الإعراب لا حسن فيه، وقسم كالدر اليتيمة انفرد به بعض البلغاء فكان له أحسن تأثير في الكلام، ويوجد كل من القسمين في كل لغة، وما يوجد منه في كلام الله عز وجل هو أعلاه وأبلغه.

__________

(1) تفسير المنار: ‏4/387.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن أمر سبحانه بإيتاء اليتامى أموالهم وكان هذا مجملا ذكر كيفية ذلك الإيتاء ووقته فقال: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ ابتلاء اليتيم واختباره يكون بإعطائه شيئا من المال يتصرف فيه، فإن أحسن كان راشدا، إذ لا معنى للرشد هنا إلا حسن التصرف وإصابة الخير فيه، وهو نتيجة صحة العقل وجودة الرأي وبلوغ النكاح هو الوصول إلى السن التي يستعد فيها المرء للزواج وهو بلوغ الحلم، وهو في هذه الحال تتوجه نفسه إلى أن يكون زوجا وأبا ورب أسرة، ولا يتم له ذلك إلا بالمال، ومن ثم وجب إيتاؤه إياه إلا إذا بلغ سفيها وخيف أن يضيعه، والمعنى ـ أيها الأولياء ابتلوا اليتامى إلى ابتداء البلوغ وهو الحد الذي يبلغون فيه سن النكاح، فإن آنستم منهم بعد البلوغ رشدا فادفعوا إليهم أموالهم، وإلا فاستمروا على الابتلاء حتى تأنسوه منهم، ويرى أبو حنيفة دفع مال اليتيم إليه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وإن لم يرشد.

2. ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ أي ولا تأكلوا أموال اليتامى مسرفين في الإنفاق منها ولو على اليتيم نفسه، ولا مبادرين كبرهم إليها أي ولا مسابقين الكبر في السن التي بها يأخذونها منكم، فأنتم تطلبون أكل هذا المال كما يطلب كبر السن صاحبه؛ فالسابق منكما هو الذي يظفر به، فبعض الأولياء الخربى الذمة يستعجلون ببعض التصرفات التي لهم فيها منفعة وليس لليتيم فيها ذلك حتى لا تفوتهم إذا كبر اليتيم وأخذ ماله.

3. لما كانت هاتان الحالان ـ الإسراف ومسابقة كبر اليتيم ببعض التصرف ـ من مواطن الضعف التي تعرض للإنسان نهى الله عنهما ونبه‏ الأولياء إلى خطرهما حتى يراقبوا ربهم إذا عرضتا لهم، فقد تخادع الإنسان نفسه في حد الإسراف وخفاء وجه منفعة الولي في المسابقة إلى بعض الأعمال في مال اليتيم، ويغشّها إذا لم يمكن أن يمارى في ذلك مراء ظاهرا تتضح فيه خيانته، أما الأكل من مال اليتيم بلا إسراف ولا مبادرة خوف أخذها عند البلوغ، فقد ذكر الله حكمه بقوله:

4. ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي فمن كان منكم غنيا غير محتاج إلى شيء من مال اليتيم الذي تحت ولايته فليعفّ عن الأكل من ماله، ومن كان فقيرا لا يستغنى عن الانتفاع بشيء من مال اليتيم الذي يشغل بعض وقته في تثميره وحفظه فليأكل منه بالمعروف، وهو ما يبيحه الشرع، ولا يستنكره أرباب المروءة، ولا يعدونه خيانة وطمعا، قال ابن جرير: إن الأمة مجمعة على أن مال اليتيم ليس مالا للولى، فليس له أن يأكل منه شيئا، ولكن له أن يستقرض منه عند الحاجة كما يستقرض له، وله أن يؤاجر نفسه لليتيم بأجرة معلومة إذا كان اليتيم محتاجا إلى ذلك كما يستأجر له غيره من الأجراء غير مخصوص بها حال غنى ولا حال فقر، وهكذا الحكم في أموال المجانين والمعاتيه، وقد روى أحمد عن ابن عمر‏ أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ليس لي مال وإنى ولىّ يتيم فقال: (كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثّل مالا ومن غير أن تقى مالك بماله)، والحكمة في هذا أن اليتيم يكون في بيت الولي كولده، والخير له في تربيته أن يخالط الولىّ وأهله في المؤاكلة والمعاشرة، فإذا كان الولي غنيا ولا طمع له في ماله كانت المخالطة مصلحة لليتيم، وإن كان ينفق فيها شيء من ماله فبقدر حاجته، وإن كان فقيرا فهو لا يستغنى عن إصابة بعض ما يحتاج إليه من مال اليتيم الغنى الذي في حجره، فإن أكل من طعامه ما جرى به العرف بين الخلطاء غير مصيب من صلب‏ المال شيئا ولا متأثل لنفسه منه عقارا ولا مالا آخر ولا منفق ماله في مصالحه ومرافقه كان بعمله هذا آكلا بالمعروف.

5. ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ أي فإذا دفعتم أيها الأولياء والأوصياء إلى اليتامى أموالهم فأشهدوا عليهم بقبضها وبراءة ذممكم منها، كيلا يكون بينكم نزاع، وهذا الإشهاد واجب عند الشافعية والمالكية، إذ أن تركه يؤدى إلى التخاصم والتقاضي كما هو مشاهد، وجعله الحنفية مندوبا لا واجبا.

6. ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ أي وكفى الله رقيبا عليكم يحاسبكم على ما تسرّون وما تعلنون، وقد جاء هذا بعد الأمر بالإشهاد ليرشدنا إلى أن الإشهاد وإن أسقط الدعوى بالمال عند القاضي فهو لا يسقط الحق عند الله إذا كان الولي خائنا، فإن الله لا يخفى عليه ما يخفى على الشهود والحكام.

7. على الجملة فإنك ترى أن الله تعالى حاط أموال اليتامى بضروب من الصيانة والحفظ، فأمر باختبار اليتيم قبل دفع ماله إليه، ونهى عن أكل شيء منه بطرق الإسراف ومبادرة كبره، وأمر بالإشهاد عليه عند الدفع، ونبّه إلى مراقبة الله تعالى في جميع التصرفات الخاصة به.

__________

(1) تفسير المراغى: 4/189.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يتبين السفه والرشد ـ بعد البلوغ ـ وأمر السفه والرشد لا يخفى عادة، ولا يحتاج إلى تحديد مفهومه بالنصوص، فالبيئة تعرف الراشد من السفيه وتأنس رشد هذا وسفه ذاك، وتصرفات كل منهما لا تخفى على الجماعة؛ فالاختبار يكون لمعرفة البلوغ، الذي يعبر عنه النص بكلمة: (النكاح) وهو الوظيفة التي يؤهل لها البلوغ: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾

2. يبدو من خلال النص الدقة في الإجراءات التي يتسلم بها اليتامى أموالهم عند الرشد، كذلك يبدو التشديد في وجوب المسارعة بتسليم أموال اليتامى إليهم، بمجرد تبين الرشد ـ بعد البلوغ ـ وتسليمها لهم كاملة سالمة، والمحافظة عليها في أثناء القيام عليها، وعدم المبادرة إلى أكلها بالإسراف قبل أن يكبر أصحابها فيتسلموها! مع الاستعفاف عن أكل شيء منها مقابل القيام عليها ـ إذا كان الولي غنيا ـ والأكل منها في أضيق الحدود ـ إذا كان الولي محتاجا ـ ومع وجوب الإشهاد في محضر التسليم.. وختام الآية: التذكير بشهادة الله وحسابه: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾

3. كل هذا التشديد، وكل هذا البيان المفصل، وكل هذا التذكير والتحذير.. يشي بما كان سائدا في البيئة من الجور على أموال اليتامى الضعاف في المجتمع، وبما كان يحتاج إليه تغيير هذا العرف السائد من تشديد وتوكيد، ومن بيان وتفصيل، لا يدع مجالا للتلاعب عن أي طريق.

4. هكذا كان المنهج الرباني ينسخ معالم الجاهلية في النفوس والمجتمعات، ويثبت معالم الإسلام؛ ويمحو سمات الجاهلية في وجه المجتمع، ويثبت ملامح الإسلام، وهكذا كان يصوغ المجتمع الجديد ومشاعره وتقاليده، وشرائعه وقوانينه، في ظلال تقوى الله ورقابته، ويجعلها الضمان الأخير لتنفيذ التشريع، ولا ضمان لأي تشريع في الأرض بغير هذه التقوى وبدون هذه الرقابة: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/587.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في آية سابقة حذّر الله سبحانه وتعالى من أكل مال اليتامى، أو التهاون فيه، أو التضييع له، وفي هذه الآية، يدعو سبحانه القومة على اليتامى، من أولياء وأوصياء أن يضعوهم دائما تحت التجربة والاختبار، لسياسة أموالهم، وتدبيرها بأنفسهم، وذلك بأن يشركوهم معهم في بعض التصرفات، ويطلعوهم على طرق الأخذ والعطاء بين الناس، ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ أي العمر الذي يصلحون فيه للزواج، وهو سن النضج والبلوغ، واستبان رشدهم، وصلاحيتهم للاستقلال بالتصرف في أموالهم ـ دفعوها إليهم كاملة، وأشهدوا على ذلك أهل الثقة والأمانة.

2. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ تحذير للأولياء والأوصياء على اليتامى، من أن ينزع بهم الطمع في مال اليتيم إلى استغلاله والمبادرة باجتناء ثمرته لهم، قبل أن يخرج من أيديهم إلى أصحابه اليتامى، عند رشدهم.

3. قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ دعوة للأغنياء من الأوصياء، أن يؤدوا هذا العمل حسبة لله، ليؤجروا عليه، وألا يضيعوا هذا الأجر نظير مال هم في غنى عنه، إذ كان الله قد آتاهم من فضله ما يغنيهم عن غيرهم.

4. ليس هذا الأمر للأغنياء على سبيل الوجوب، بل هو للاستحباب والندب.. ولهذا جاء التعبير عنه بقوله تعالى: ﴿فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ ولو كان للإلزام والوجوب لكان النظم هكذا: (فليعفّ).. لأن في الاستعفاف تردّد ومعاودة للفعل بعد الترك، والترك بعد الفعل.. وهكذا.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/704.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سؤال وإشكال: يجوز أن يكون جملة ﴿وَابْتَلُوا﴾ معطوفة على جملة ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ [النساء: 5] لتنزيلها منها منزلة الغاية للنهي، فإن كان المراد من السفهاء هنالك خصوص اليتامى فيتّجه أن يقال: لماذا عدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر وعن الاسم الظاهر المساوي للأوّل إلى التعبير بآخر أخصّ وهو اليتامى، والجواب: بأنّ العدول عن الإضمار لزيادة الإيضاح والاهتمام بالحكم، وأنّ العدول عن إعادة لفظ السفهاء إيذان بأنّهم في حالة الابتلاء مرجو كمال عقولهم، ومتفائل بزوال السفاهة عنهم، لئلّا يلوح شبه تناقض بين وصفهم بالسفه وإيناس الرشد منهم.

2. سؤال وإشكال: إن كان المراد من السفهاء هنالك أعمّ من اليتامى، وهو الأظهر، فيتّجه أن يقال: ما وجه تخصيص حكم الابتلاء والاستيناس باليتامى دون السفهاء؟ والجواب: بأنّ الإخبار لا يكون إلّا عند الوقت الذي يرجى فيه تغيّر الحال، وهو مراهقة البلوغ، حين يرجى كمال العقل والتنقّل من حال الضعف إلى حال الرشد، أمّا من كان سفهه في حين الكبر فلا يعرف وقت هو مظنّة لانتقال حاله وابتلائه، ويجوز أن تكون جملة ﴿وَابْتَلُوا﴾ معطوفة على جملة ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 2] لبيان كيفية الإيتاء ومقدّماته، وعليه فالإظهار في قوله: ﴿الْيَتَامَى﴾ لبعد ما بين المعاد والضمير، لو عبّر بالضمير.

3. الابتلاء: الاختبار، وحتّى ابتدائية، وهي مفيدة للغاية، لأنّ إفادتها الغاية بالوضع، وكونها ابتدائية أو جارّة استعمالات بحسب مدخولها، كما تقدّم عند قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ في سورة آل عمران [152]، و﴿إِذَا﴾ ظرف مضمّن معنى الشرط، وجمهور النحاة على أنّ‏ ﴿حَتَّى﴾ الداخلة على‏ ﴿إِذَا﴾ ابتدائية لا جارّة، والمعنى: ابتلوا اليتامى حتّى وقت إن بلغوا النكاح فادفعوا إليهم أموالهم وما بعد ذلك ينتهي عنده الابتلاء، وحيث علم أنّ الابتلاء لأجل تسليم المال فقد تقرّر أنّ مفهوم الغاية مراد منه لازمه وأثره، وهو تسليم الأموال، وسيصرّح بذلك في جواب الشرط الثاني.

4. الابتلاء هنا: هو اختبار تصرّف اليتيم في المال باتّفاق العلماء، قال المالكية: يدفع لليتيم شيء من المال يمكنه التصرّف فيه من غير إجحاف، ويردّ النظر إليه في نفقة الدار شهرا كاملا، وإن كانت بنتا يفوّض إليها ما يفوّض لربّه المنزل، وضبط أموره، ومعرفة الجيّد من الردي‏ء، ونحو ذلك، بحسب أحوال الأزمان والبيوت، وزاد بعض العلماء الاختبار في الدين، قاله الحسن، وقتادة، والشافعي، وينبغي أن يكون ذلك غير شرط إذ مقصد الشريعة هنا حفظ المال، وليس هذا الحكم من آثار كليّة حفظ الدين.

5. بلوغ النكاح على حذف مضاف، أي بلوغ وقت النكاح أي التزوّج، وهو كناية عن الخروج من حالة الصبا للذكر والأنثى، وللبلوغ علامات معروفة، عبّر عنها في الآية ببلوغ النكاح بناء على المتعارف عند العرب من التبكير بتزويج البنت عن البلوغ، ومن طلب الرجل الزواج عند بلوغه، وبلوغ صلاحية الزواج تختلف باختلاف البلاد في الحرارة والبرودة، وباختلاف أمزجة أهل البلد الواحد في القوّة والضعف، والمزاج الدموي والمزاج الصفراوي، فلذلك أحاله القرآن على بلوغ أمد النكاح، والغالب في بلوغ البنت أنّه أسبق من بلوغ الذكر، فإن تخلّفت عن وقت مظنّتها فقال الجمهور: يستدلّ بالسنّ الذي لا يتخلّف عنه أقصى البلوغ عادة، فقال مالك، في رواية ابن القاسم عنه: هو ثمان عشرة سنة للذكور والإناث، وروي مثله عن أبي حنيفة في الذكور، وقال: في الجاري سبع عشرة سنة، وروى غير ابن القاسم عن مالك أنّه سبع عشرة سنة، والمشهور عن أبي حنيفة: أنّه تسع عشرة سنة للذكور وسبع عشرة للبنات، وقال الجمهور: خمس عشرة سنة، قاله القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وإسحاق، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وابن الماجشون، وبه قال أصبغ، وابن وهب، من أصحاب مالك، واختاره الأبهري من المالكية، وتمسّكوا بحديث ابن عمر أنّه عرضه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم بدر وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرضه يوم أحد وهو ابن خمس عشرة فأجازه، ولا حجّة فيه إذ ليس يلزم أن يكون بلوغ عبد الله بن عمر هو معيار بلوغ عموم المسلمين، فصادف أن رآه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليه ملامح الرجال، فأجازه، وليس ذكر السنّ في كلام ابن عمر إيماء إلى ضبط الإجازة، وقد غفل عن هذا ابن العربي في أحكام القرآن، فتعجّب من ترك هؤلاء الأئمّة تحديد سنّ البلوغ بخمس عشرة سنة، والعجب منه أشدّ من عجبه منهم، فإنّ قضية ابن عمر قضية عين، وخلاف العلماء في قضايا الأعيان معلوم، واستدلّ الشافعية بما روى أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه، وأقيمت عليه الحدود، وهو حديث ضعيف لا ينبغي الاستدلال به.

6. وقت الابتلاء يكون بعد التمييز لا محالة، وقبل البلوغ: قاله ابن الموّاز عن مالك، ولعلّ وجهه أنّ الابتلاء قبل البلوغ فيه تعريض بالمال للإضاعة لأنّ عقل اليتيم غير كامل، وقال البغداديون من المالكية: الابتلاء قبل البلوغ، وعبّر عن استكمال قوّة النماء الطبيعي ب ﴿بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾، فأسند البلوغ إلى ذواتهم لأنّ ذلك الوقت يدعو الرجل للتزوّج ويدعو أولياء البنت لتزويجها، فهو البلوغ المتعارف الذي لا متأخّر بعده، فلا يشكل بأنّ الناس قد يزوّجون بناتهم قبل سنّ البلوغ، وأبناءهم أيضا في بعض الأحوال، لأنّ ذلك تعجّل من الأولياء لأغراض عارضة، وليس بلوغا من الأبناء أو البنات.

7. ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ شرط ثان مقيّد للشرط الأول المستفاد من‏ ﴿إِذَا بَلَغُوا﴾، وهو وجوابه جواب‏ ﴿إِذَا﴾، ولذلك قرن بالفاء ليكون نصّا في الجواب، وتكون‏ ﴿إِذَا﴾ نصّا في الشرط، فإنّ جواب‏ ﴿إِذَا﴾ مستغن عن الربط بالفاء لولا قصد التنصيص على الشرطية، وجاءت الآية على هذا التركيب لتدلّ على أنّ انتهاء الحجر إلى البلوغ بالأصالة، ولكن بشرط أن يعرف من المحجور الرشد، وكلّ ذلك قطع لمعاذير الأوصياء من أن يمسكوا أموال محاجيرهم عندهم مدّة لزيادة التمتّع بها، ويتحصّل من معنى اجتماع الشرطين في الكلام هنا، إذ كان بدون عطف ظاهر أو مقدّر بالقرينة، أنّ مجموعهما سبب لتسليم المال إلى المحجور، فلا يكفي حصول أحدهما ولا نظر إلى الذي يحصل منهما ابتداء، وهي القاعدة العامّة في كلّ جملة شرط بنيت على جملة شرط آخر، فلا دلالة لهما إلّا على لزوم حصول الأمرين في مشروط واحد، وعلى هذا جرى قول المالكية، وإمام الحرمين، ومن العلماء من زعم أنّ ترتيب‏ الشرطين يفيد كون الثاني منهما في الذكر هو الأوّل في الحصول، ونسبه الزجّاجي في كتاب (الأذكار) إلى ثعلب، واختاره ابن مالك وقال به من الشافعية: البغوي، والغزالي في الوسيط، ومن العلماء من زعم أنّ ترتيب الشرطين في الحصول يكون على نحو ترتيبهما في اللفظ، ونسبه الشافعية إلى القفّال، والقاضي الحسين، والغزالي في (الوجيز)، والإمام الرازي في (النهاية)، وبنوا على ذلك فروعا في تعليق الشرط على الشرط في الإيمان، وتعليق الطلاق والعتاق، وقال إمام الحرمين: لا معنى لاعتبار الترتيب، وهو الحقّ، فإنّ المقصود حصولها بقطع النظر عن التقدّم والتأخّر، ولا يظهر أثر للخلاف في الإخبار وإنشاء الأحكام، كما هنا، وإنّما قد يظهر له أثر في إنشاء التعاليق في الأيمان، وأيمان الطلاق والعتاق، وقد علمت أنّ المالكية لا يرون لذلك تأثيرا، وهو الصواب.

8. هذا إذا قامت القرينة على أنّ المراد جعل الشرطين شرطا في الجواب، وذلك إذا تجرّد عن العطف بالواو ولو تقديرا، فلذلك يتعيّن جعل جملة الشرط الثاني وجوابه جوابا للشرط الأول، سواء ارتبطت بالفاء ـ كما في هذه الآية ـ أم لم ترتبط، كما في قوله: ﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ [هود: 34]، وأمّا إذا كان الشرطان على اعتبار الترتيب فلكلّ منهما جواب مستقلّ نحو قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ﴾ إلى قوله: ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا﴾ [الأحزاب: 50]، فقوله: ﴿إِنْ وَهَبَتْ﴾ شرط في إحلال امرأة مؤمنة له، وقوله: ﴿إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ﴾ شرط في انعقاد النكاح، لئلّا يتوهّم أنّ هبة المرأة نفسها للنبي تعيّن عليه تزوّجها، فتقدير جوابه: إن أراد فله ذلك، وليسا شرطين للإحلال لظهور أنّ إحلال المرأة لا سبب له في هذه الحالة إلّا أنّها وهبت نفسها، وفي كلتا حالتي الشرط الوارد على شرط يجعل جواب أحدهما محذوفا دلّ عليه المذكور، أو جواب أحدهما جوابا للآخر: على الخلاف بين الجمهور والأخفش، إذ ليس ذلك من تعدّد الشروط وإنّما يتأتّى ذلك في نحو قولك: (إن دخلت دار أبي سفيان، وإن دخلت المسجد الحرام، فأنت آمن) وفي نحو قولك: (إن صليت إن صمت أثبت) من كلّ تركيب لا تظهر فيه ملازمة بين الشرطين، حتّى يصير أحدهما شرطا في الآخر.

9. هذا تحقيق هذه المسألة الذي أطال فيه كثير وخصّها تقيّ الدين السبكي برسالة وهي مسألة سأل عنها القاضي ابن خلكان الشيخ ابن الحاجب كما أشار إليه في ترجمته من كتاب (الوفيات)، ولم يفصّلها، وفصّلها، الدماميني في (حاشية مغني اللبيب)

10. إيناس الرشد هنا علمه، وأصل الإيناس رؤية الإنسي أي الإنسان، ثمّ أطلق على أوّل ما يتبادر من العلم، سواء في المبصرات، نحو: ﴿آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا﴾ [القصص: 29] أم في المسموعات، نحو قول الحارث بن حلزة في بقرة وحشية:

çآنست نبأة وأفزعها القن...اص عصرا وقد دنا الإمساءé

وكأنّ اختيار ﴿آنَسْتُمْ﴾ هنا دون علمتم للإشارة إلى أنّه إن حصل أوّل العلم برشدهم يدفع إليهم مالهم دون تراخ ولا مطل.

11. الرشد ـ بضم الراء وسكون الشين، وتفتح الراء فيفتح الشين، وهما مترادفان وهو انتظام تصرّف العقل، وصدور الأفعال عن ذلك بانتظام، وأريد به هنا حفظ المال وحسن التدبير فيه كما تقدّم في‏ ﴿ابْتَلُوا الْيَتامى‏﴾.

12. المخاطب في الآية الأوصياء، فيكون مقتضى الآية أنّ الأوصياء هم الذين يتولّون ذلك، وقد جعله الفقهاء حكما، فقالوا: يتولّى الوصيّ دفع مال محجوره عند ما يأنس منه الرشد، فهو الذي يتولّى ترشيد محجوره بتسليم ماله إليه، وقال اللخمي: من أقامه الأب والقاضي لا يقبل قوله بترشيد المحجور إلّا بعد الكشف لفساد الناس اليوم وعدم أمنهم أن يتواطئوا مع المحاجير ليرشدوهم فيسمحوا لهم بما قبل ذلك، وقال ابن عطية: والصواب في أوصياء زماننا أن لا يستغنى عن رفعهم إلى السلطان وثبوت الرشد عنده لما عرف من تواطؤ الأوصياء على أن يرشّد الوصيّ محجوره ويبرئ المحجور الوصيّ لسفهه وقلّة تحصيله في ذلك الوقت، إلّا أنّ هذا لم يجر عليه عمل، ولكن استحسن الموثّقون الإشهاد بثبوت رشد المحجور الموصى عليه من أبيه للاحتياط، أمّا وصيّ القاضي فاختلفت فيه أقوال الفقهاء، والأصحّ أنّه لا يرشّد محجوره إلّا بعد ثبوت ذلك لدى القاضي، وبه جرى العمل، وعندي أنّ الخطاب في مثله لعموم الأمّة، ويتولّى تنفيذه من إليه تنفيذ ذلك الباب من الولاة، كشأن خطابات القرآن الواردة لجماعة غير معيّنين، ولا شك أنّ الذي إليه تنفيذ أمور المحاجير والأوصياء هو القاضي، ويحصل المطلوب بلا كلفة.

13. الآية ظاهرة في تقدّم الابتلاء والاستيناس على البلوغ لمكان‏ ﴿حَتَّى﴾ المؤذنة بالانتهاء، وهو المعروف من المذهب، وفيه قول أنّه لا يدفع للمحجور شيء من المال للابتلاء إلا بعد البلوغ.

14. الآية أيضا صريحة في أنّه إذا لم يحصل الشرطان معا: البلوغ والرشد، لا يدفع المال للمحجور، واتّفق على ذلك عامّة علماء الإسلام، فمن لم يكن رشيدا بعد بلوغه يستمرّ عليه الحجر، ولم يخالف في ذلك إلّا أبو حنيفة، قال ينتظر سبع سنين بعد البلوغ فإن لم يؤنس منه الرشد أطلق من الحجر، وهذا يخالف مقتضى الشرط من قوله تعالى: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ لأنّ أبا حنيفة لا يعتبر مفهوم الشرط، وهو أيضا يخالف القياس إذ ليس الحجر إلّا لأجل السفه وسوء التصرّف فأي أثر للبلوغ لولا أنّه مظنّة الرشد، وإذا لم يحصل مع البلوغ فما أثر سبع السنين في تمام رشده.

15. دلّت الآية بحكم القياس على أنّ من طرأ عليه السفه وهو بالغ أو اختلّ عقله لأجل مرض في فكره، أو لأجل خرف من شدّة الكبر، أنّه يحجّر عليه إذ علّة التحجير ثابتة، وخالف في ذلك أيضا أبو حنيفة، وقال: لا حجر على بالغ.

16. حكم الآية شامل للذكور والإناث بطريق التغليب: فالأنثى اليتيمة إذا بلغت رشيدة دفع مالها إليها، والتنكير في قوله: ﴿رَشَدًا﴾ تنكير النوعية، ومعناه إرادة نوع الماهية لأنّ المواهي العقلية متّحدة لا أفراد لها، وإنّما أفرادها اعتبارية باعتبار تعدد المحال أو تعدّد المتعلّقات، فرشد زيد غير رشد عمرو، والرشد في المال غير الرشد في سياسة الأمّة، وفي الدعوة إلى الحقّ، قال تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ [هود: 97]، وقال عن قوم شعيب‏ ﴿إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ [هود: 87]، وماهية الرشد هي انتظام الفكر وصدور الأفعال على نحوه بانتظام، وقد علم السامعون أنّ المراد هنا الرشد في التصرّف المالي، فالمراد من النوعية نحو المراد من الجنس، ولذلك ساوى المعرّف بلام الجنس النكرة، فمن العجائب توهّم الجصّاص أنّ في تنكير ﴿رَشَدًا﴾ دليلا لأبي حنيفة في عدم اشتراط حسن التصرّف واكتفائه بالبلوغ، بدعوى أنّ الله شرط رشدا ما وهو صادق بالعقل إذ العقل رشد في الجملة، ولم يشترط الرّشد كلّه، وهذا ضعف في العربية، وكيف يمكن العموم في المواهي العقلية المحضة مع أنّها لا أفراد لها، وقد أضيفت الأموال هنا إلى ضمير اليتامى: لأنّها قوي اختصاصها بهم عند ما صاروا رشداء فصار تصرّفهم فيها لا يخاف منه إضاعة ما للقرابة ولعموم الأمّة من الحقّ في الأموال.

17. ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا﴾ عطف على‏ ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ باعتبار ما اتّصل به من الكلام في قوله: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾.. وهو تأكيد للنهي عن أكل أموال اليتامى‏ الذي تقدّم في قوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: 2] وتفضيح لحيلة كانوا يحتالونها قبل بلوغ اليتامى أشدّهم: وهي أن يتعجّل الأولياء استهلاك أموال اليتامى قبل أن يتهيّئوا لمطالبتهم ومحاسبتهم، فيأكلوها بالإسراف في الإنفاق، وذلك أنّ أكثر أموالهم في وقت النزول كانت أعيانا من أنعام وتمر وحبّ وأصواف فلم يكن شأنها ممّا يكتم ويختزن، ولا ممّا يعسر نقل الملك فيه كالعقار، فكان أكلها هو استهلاكها في منافع الأولياء وأهليهم، فإذا وجد الوليّ مال محجوره جشع إلى أكله بالتوسّع في نفقاته ولباسه ومراكبه وإكرام سمرائه ممّا لم يكن ينفق فيه مال نفسه، وهذا هو المعنى الذي عبّر عنه بالإسراف، فإنّ الإسراف الإفراط في الإنفاق والتوسّع في شؤون اللذات.

18. انتصب‏ ﴿إِسْرَافًا﴾ على الحال: أو على النيابة عن المفعول المطلق، وأيّا ما كان، فليس القصد تقييد النهي عن الأكل بذلك، بل المقصود تشويه حالة الأكل، والبدار مصدر بادره، وهو مفاعلة من البدر، وهو العجلة إلى الشيء، بدره عجله، وبادره عاجله، والمفاعلة هنا قصد منها تمثيل هيئة الأولياء في إسرافهم في أكل أموال محاجيرهم عند مشارفتهم البلوغ، وتوقّع الأولياء سرعة إبّانه، بحال من يبدر غيره إلى غاية والآخر يبدر إليها فهما يتبادرانها، كأنّ المحجور يسرع إلى البلوغ ليأخذ ماله، والوصي يسرع إلى أكله لكيلا يجد اليتيم ما يأخذ منه، فيذهب يدّعي عليه، ويقيم البيّنات حتّى يعجز عن إثبات حقوقه، فقوله: ﴿أَنْ يَكْبَرُوا﴾ في موضع المفعول لمصدر المفاعلة، ويكبر بفتح الموحدة مضارع كبر كعلم إذا زاد في السنّ، وأمّا كبر ـ بضم الموحدة ـ فهو إذا عظم في القدر، ويقال: كبر عليه الأمر ـ بضم الموحدة ـ شقّ.

19. ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، عطف على‏ ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا﴾.. المقرّر به قوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: 2] ليتقرّر النهي عن أكل أموالهم، وهو تخصيص لعموم النهي عن أكل أموال اليتامى في الآيتين السابقتين للترخيص في ضرب من ضروب الأكل، وهو أن يأكل الوصيّ الفقير من مال محجوره بالمعروف، وهو راجع إلى إنفاق بعض مال اليتيم في مصلحته، لأنّه إذا لم يعط وصيّه الفقير بالمعروف ألهاه التدبير لقوته عن تدبير مال محجوره.

20. في لفظ (المعروف) حوالة على ما يناسب حال الوصيّ ويتيمه بحسب الأزمان‏ والأماكن وقد أرشد إلى ذلك‏ حديث أبي داود: أنّ رجلا أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (إني فقير وليس لي شيء) قال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل)، وفي (صحيح مسلم) عن عائشة: نزلت الآية في ولي اليتيم إذا كان محتاجا أن يأكل منه بقدر ماله بالمعروف، ولذلك قال المالكية: يأخذ الوصي بقدر أجرة مثله، وقال عمر بن الخطاب، وابن عباس، وأبو عبيدة، وابن جبير، والشعبي، ومجاهد: إنّ الله أذن في القرض لا غير، قال عمر: (إني نزّلت نفسي من مال الله منزلة الوصيّ من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت وإن احتجت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت) وقال عطاء، وإبراهيم: لا قضاء على الوصيّ إن أيسر، وقال الحسن، والشعبي، وابن عباس، في رواية: إنّ معناه أن يشرب اللبن ويأكل من الثمر ويهنأ الجربي من إبله ويلوط الحوض، وقيل: إنّما ذلك عند الاضطرار كأكل الميتة والخنزير: روي عن عكرمة، وابن عباس، والشعبي، وهو أضعف الأقوال لأنّ الله ناط الحكم بالفقر لا بالاضطرار، وناطه بمال اليتيم، والاضطرار لا يختصّ بالتسليط على مال اليتيم بل على كلّ مال، وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يأخذ إلّا إذا سافر من أجل اليتيم يأخذ قوته في السفر، واختلف في وصيّ الحاكم هل هو مثل وصيّ الأب، فقال الجمهور: هما سواء، وهو الحقّ، وليس في الآية تخصيص.

21. ثم اختلفوا في الوصيّ الغنيّ هل يأخذ أجر مثله على عمله بناء على الخلاف في أنّ الأمر في قوله: ﴿فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ للوجوب أو للندب، فمن قال للوجوب قال لا يأكل الغني شيئا، وهذا قول كلّ من منعه الانتفاع بأكثر من السلف والشيء القليل، وهم جمهور تقدّمت أسماءهم، وقيل: الأمر للندب فإذا أراد أن يأخذ أجر مثله جاز له إذا كان له عمل وخدمة، أمّا إذا كان عمله مجرّد التفقّد لليتيم والإشراف عليه فلا أجر له.

22. وهذا كله بناء على أنّ الآية محكمة، ومن العلماء من قال هي منسوخة بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ [النساء: 10] الآية، وقوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 188] وإليه مال أبو يوسف، وهو قول مجاهد، وزيد بن أسلم.

23. ومن العلماء من سلك بالآية مسلك التأويل فقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: المراد فمن كان غنيا أي من اليتامى، ومن كان فقيرا كذلك، وهي بيان لكيفية الإنفاق على اليتامى فالغنيّ يعطى كفايته، والفقير يعطى بالمعروف، وهو بعيد، فإنّ فعل (استعفف: يدلّ على الاقتصاد والتعفّف عن المسألة.

24. وقال النخعي، وروي عن ابن عباس: من كان من الأوصياء غنيّا فليستعفف بماله ولا يتوسّع بمال محجوره ومن كان فقيرا فإنّه يقتّر على نفسه لئلا يمدّ يده إلى مال يتيمه، واستحسنه النحاس والكيا الطبري‏ في أحكام القرآن.

25. ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾، تفريع عن قوله‏: ﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ وهو أمر بالإشهاد عند الدفع، ليظهر جليّا ما يسلمه الأوصياء لمحاجيرهم، حتى يمكن الرجوع عليهم يوما ما بما يطّلع عليه ممّا تخلّف عند الأوصياء، وفيه براءة للأوصياء أيضا من دعاوي المحاجير من بعد، وحسبك بهذا التشريع قطعا للخصومات.

26. الأمر هنا يحتمل الوجوب ويحتمل الندب، وبكلّ قالت طائفة من العلماء لم يسمّ أصحابها: فإن لوحظ ما فيه من الاحتياط لحقّ الوصيّ كان الإشهاد مندوبا لأنّه حقّه فله أن لا يفعله، وإن لوحظ ما فيه من تحقيق مقصد الشريعة من رفع التهارج وقع الخصومات، كان الإشهاد واجبا نظير ما تقدّم في قوله تعالى: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة: 282] وللشريعة اهتمام بتوثيق الحقوق لأنّ ذلك أقوم لنظام المعاملات، وأياما كان فقد جعل الله الوصيّ غير مصدّق في الدفع إلّا ببينة عند مالك قال ابن الفرس: لولا أنّه يضمن إذا أنكره المحجور لم يكن للأمر بالتوثّق فائدة، ونقل الفخر عن الشافعي موافقة قول مالك، إلّا أنّ الفخر احتجّ بأنّ ظاهر الأمر للوجوب وهو احتجاج واه لأنّه لا أثر لكون الأمر للوجوب أو للندب في ترتّب حكم الضمان، إذ الضمان من آثار خطاب الوضع، وسببه هو انتفاء الإشهاد، وأمّا الوجوب والندب فمن خطاب التكليف وأثرهما العقاب والثواب، وقال أبو حنيفة: هو مصدّق بيمينه لأنّه عدّه أمينا، وقيل: لأنّه رأى الأمر للندب، وقد علمت أنّ محمل الأمر بالإشهاد لا يؤثّر في حكم الضمان، وجاء بقوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ تذييلا لهذه الأحكام كلها، لأنّها وصيّات وتحريضات فوكل‏ الأمر فيها إلى مراقبة الله تعالى، والحسيب: المحاسب، والباء زائدة للتوكيد.

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/29.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الآيات الكريمات من أول السورة في بيان العلاقات الإنسانية، وقد نظم سبحانه وتعالى العلاقات بين بنى الإنسان، وعنى ببيان حقوق الضعفاء، وهم اليتامى والنساء، فقد كانت المرأة في الماضي مظنة أن تؤكل حقوقها وتهضم، واليتيم مقهور إلا إذا منّ الله تعالى بكالئ من البشر يحوطه بعنايته، وفي هذه الآيات التالية يبين سبحانه معاملة اليتيم حتى يبلغ، وحقه في الميراث، وكيف تجب حياطته والعناية به وبماله، ولا يدفع إليه ماله إلا إذا رشد.

2. ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ الابتلاء معناه اختبار حال اليتيم من حيث قدرته على التصرف في ماله، ويمرّن على ذلك قبيل البلوغ، حتى لا يجيء وقت إلا وقد صار في قدرة على إدارتها، وقد قال القرطبي في بيان اختباره: (لا بأس أن يدفع إليه شيئا من ماله يبيح له التصرف فيه، فإن نماه وحسن النظر فيه فقد وقع الاختبار، ووجب على الوصى تسليم جميع ماله إليه (أى بعد بلوغه، وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك المال عنده).. وقال جماعة من الفقهاء: الصغير لا يخلو أن يكون غلاما أو جارية، فإن كان غلاما ردّ النظر إليه في نفقة الدار شهرا، وأعطاه شيئا نزرا ليتصرف فيه، ليعرف كيف تدبيره وتصرفه، وهو مع ذلك يراعيه لئلا يتلفه، فإذا رآه متوخيا سلم إليه ماله عند البلوغ وأشهد عليه، وإن كان جارية رد عليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه في الاستغزال والاستقصاء على الغزالات في دفع القطن وأجرته، واستيفاء الغزل وجودته، فإن رآها رشيدة سلم إليها مالها وأشهد عليها وإلا بقيا تحت الحجر.

3. إن نهاية اليتيم ببلوغ النكاح، أي بوجود المظاهر التي تدل على الرجولة في الغلام، والتى تدل على مبلغ بلوغ النساء في الفتاة، وإن أقصى مدة البلوغ ذلك المبلغ اختلف الفقهاء فيها، فالجمهور على أن البلوغ بالسن وهو أقصى غاية: لظهور أمارات النكاح ببلوغ خمس عشرة، وأبو حنيفة على أنه سبع عشرة بالنسبة للفتاة وثمانى عشرة سنة بالنسبة للصبى.

4. قوله تعالى: ﴿بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ كناية واضحة عن ظهور أمارات الرجولة الكاملة، وأمارات الأنوثة؛ لأن الاستعداد للزواج هو كذلك، و(حتى) هنا للغاية، وهى داخلة على الجملة، فهي تبين نهاية الصغر، والجملة التي دخلت عليها ظرفية في معنى الشرط.

5. لا يدفع المال بمجرد البلوغ، بل لا بد من الرشد، ولذلك قال تعالى: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ آنس معناها أبصر، ولذلك قال تعالى: ﴿آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا﴾ [القصص‏] وقيل آنس معناها أحسّ، وعندى أن معنى الإحساس ثابت في آنس، فهو ليس رؤية فقط، بل هو رؤية، اتصل بها إحساسه ووجدانه، ومعنى الرشد الصلاح في العقل والخلق والمال.

6. نكّر الرشد، فقال‏ ﴿رَشَدًا﴾ للإشارة إلى أنه لا يطلب من الصغير أن يؤتى الرشد الكامل بمجرد البلوغ بل إنه يكتفى بنوع من استئناس الرشد وتوقع الخير منه، ولا يطلب منه الكمال وإلا ما أعطى صغير يبلغ ماله قط؛ لأن الرشد الكامل لا يكون إلا بالممارسة المستمرة، ومعنى هذا الكلام أنه لا بد من فترة بعد البلوغ يستأنس فيها الرشد، بعد الاختبار في الصغر، إلا إذا كان الاختبار في الصغر أثبت رشدا، وإذا بلغ غير رشيد ولم يؤنس منه رشد استمر تحت الولاية عند جمهور الفقهاء مهما تبلغ سنه، وذلك لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء] وقال أبو حنيفة: لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ الخامسة العشرين، فإذا بلغها عاقلا، ولو غير رشيد فليس لأحد عليه سبيل، وعلى هذا الرأي إبراهيم النخعي.

7. وقد نهى الله الأوصياء عن أن يأكلوا مال اليتامى، فقال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ أي لا تأكلوا في مدة وصايتكم أموال اليتامى مسرفين في الأكل، أو مبادرين بالأخذ خشية أن يكبروا، فالإسراف والبدار مصدران وقعا في موقع الحال، وهما في معنى الوصف، وليس المراد أن لهم أن يأكلوا غير مسرفين ولا مبادرين، بل إن ذلك بيان لأشنع الأحوال التي يقع فيها الأوصياء، وهى أن يأكلوا أموال اليتامى بإسراف مبادرين إلى الأكل خشية أن يكبروا فتؤخذ منهم تلك الأموال وتئول إلى أصحابها.

8. وقد بين سبحانه جواز الأكل من مال اليتيم عند الضرورة فقال: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قسمت الآية الأوصياء إلى قسمين:

أ. غنى يقوم برعاية اليتيم من غير أجر حسبة لله تعالى، وقال عنه: ﴿فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ ومعناها ليعفّ نفسه، وقال الزمخشري إن الاستعفاف أبلغ‏ من العفاف؛ لأنه تحرى العفاف وبلوغ أقصى غاياته، ومعنى ذلك أنه لا يأخذ شيئا؛ لأن طلب أي شيء من غير حاجة طمع في مال اليتيم، يتنافى مع العفاف الذي ينبغي أن يتحلى به الأوصياء.

ب. الثاني: فقير أذنه الله تعالى بأن يأكل من مال الصغير بالمعروف أي بالقدر الذي لا يستنكر، فلا يسرف في الأخذ، وقد قال رجل للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إني فقير ليس لي شيء ولى يتيم، فقال له: (كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل) أي جامع مدخر تتجاوز الحاجة، وقد روى أن عمر بن الخطاب شبه الوالى على المسلمين بالوصى على اليتيم، قال: (ألا إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولى من مال اليتيم إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت)

9. نرى من هذا أن الآية تشير إلى أنه لا تفرض أجرة للغنى قط، أما الفقير فيأكل بالمعروف، ولا يكون ذلك أجرة لأنه ممنوع من التأثل والادخار؛ وذلك لأن اليتيم رعايته فرض كفاية على المسلمين ليخرج أليفا مألوفا، ولا يخرج منابذا الجماعة، شرا عليها، وجمهور الفقهاء قد قرروا جواز فرض أجرة حتى للغنى خشية أن يحجم الناس عن ولاية أمر اليتيم، والله سبحانه يتولاه برعايته، ويحفظه بكلاءته.

10. ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ هذا بيان ما يجب القيام به عند انتهاء الوصاية عليه، وهو أن يدفع إليه ماله كاملا، وللاحتياط من الخصومات والمنازعات يشهد على دفعه المال، والشهادة في هذه الحال حجة لازمة ملزمة للمحجور عليه الذي انتهت الوصاية عليه، فهذا إرشاد عظيم من الله سبحانه وتعالى لمنع المشاحة ولإبراء الوصىّ، ولكى يكون اليتيم على بينة من أمره، والكلام يتضمن تقديم حساب عن التصرفات التي تصرفها في مال القاصر، وقد كان على بن أبى طالب وصيا على يتامى، فلما أعطى إليهم أموالهم حاسبهم وحاسبوه، وكان في ضمن الحساب زكوات أموالهم؛ إذ كان يدفعها من هذه الأموال، وإنه في هذا الحساب يكتفى أبو حنيفة بيمينه إذا كان هناك خلاف في شأنها؛ لأنه أمين لم تعرف خيانته، إذ لو عرفت لعزل، والأمين يصدق باليمين إذا خولف، والمالكية والشافعية والحنابلة لا يقبل الحساب عندهم إلا بالإقرار من القاصر، أو البينة الكاملة، وهى رجلان أو رجل وامرأتان.

11. إن حساب الناس قد يغادر الكثير، والأمر في ذلك إلى الضمير الدينى، والقلب المخلص، ولذلك كان وراء حساب الناس حساب الله الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولذا قال سبحانه: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ والحسيب هو المحاسب المراقب المشاهد الدقيق الحساب الذي لا يترك شيئا، وكفى أن يكون هذا الحساب، وكأن المعنى: حاسبوا أنفسكم فقدموا الحساب عن مال اليتيم صادقا؛ فإنكم إن أفلتم من حساب الدنيا فلن تفلتوا أبدا من حساب الله المحيط الدقيق، وإن استطعتم الإخفاء والكتمان والتحايل على الناس، فلن تستطيعوا ذلك عند الله تعالى.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1591.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾، دلت هذه الآية على ان المال لا يعطى للصغير، حتى يحصل له وصفان: البلوغ والرشد، وقد أجمعت المذاهب الإسلامية على ان الاحتلام يدل على البلوغ، سواء أحصل من الذكر، أم الأنثى في أية سن، وفي أية حال حصل في اليقظة، أم في المنام، واستدلوا بهذه الآية ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ وبقوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا﴾.. وثبت عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم انه قال: رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ.. وقال: لا يتم بعد احتلام.

2. أما الرشد فيثبت بإعطاء اليتيم شيئا من ماله، يتصرف فيه، فإن أحسن وأصاب كان راشدا، وسلّم ماله اليه، والا استمر الحجر عليه، حتى ولو بلغ المائة عملا بظاهر الآية، وقال ابو حنيفة: يسلم المال للسفيه بعد بلوغه 25 عاما (وان لم يكن رشيدا)

3. ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا﴾، أي لا تتجاوزوا أيها الأولياء في أكلكم من مال القاصر الحد المباح لكم، لأن الولي يجوز له أن يأكل من مال القاصر، شريطة أن يكون فقيرا.

4. ﴿وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾، قد يبادر الولي، ويستعجل ببعض التصرفات في أموال اليتيم مخافة أن يكبر، وينتزع أمواله من الولي، فنهى الله سبحانه عن مثل هذا التصرف الذي تعود فائدته على الولي، لا على القاصر، ونبه إلى تحريمه وخطره.

5. ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، لا يخلو الولي أن يكون واحدا من اثنين: إما غنيا، وإما فقيرا، فإن كان غنيا فعليه أن ينتزه عن أكل مال اليتيم، ويقنع بما آتاه الله من الغنى والرزق، وان كان فقيرا جاز له أن يتناول منه بقدر حاجته الضرورية على أن لا يتجاوز ما يستحقه من أجر على خدمته، وفي الحديث ان رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن يتيم في حجره: هل يأكل من ماله؟ قال له: كل بالمعروف، وقيل: يأكل على سبيل القرض.. وظاهر الحديث يدحض هذا القول.

6. ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾، قال الإمامية والحنفية: لا يجب على الولي أن يشهد على تسليم المال للقاصر بعد بلوغه ورشده، وحملوا الأمر بالإشهاد في هذه الآية على الاستحباب دون الوجوب نفيا للتهمة، وتجنبا للخصومة، وقال الشافعية والمالكية: بل الأمر هنا للوجوب، لا للاستحباب أخذا بالظاهر.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/257.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿أَمْوَالِهِمْ﴾ الابتلاء الامتحان والمراد من بلوغ النكاح بلوغ أوانه ففيه مجاز عقلي والإيناس المشاهدة وفيه شوب من معنى الألفة فإن مادته الأنس، والرشد خلاف الغي وهو الاهتداء إلى مقاصد الحياة، ودفع مال اليتيم إليه كناية عن إعطائه إياه وإقباضه له كأن الولي يدفعه إليه ويبعده من نفسه فهو على ابتذاله كناية لطيفة.

2. ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾، متعلق بقوله: ﴿وَابْتَلُوا﴾، ففيه دلالة ما على الاستمرار بأن يشرع الولي في ابتلائه من أول ما يأخذ في التمييز ويصلح للابتلاء حتى ينتهي إلى أوان النكاح ويبلغ مبلغ الرجال، ومن طبع هذا الحكم ذلك فإن إيناس الرشد لا يحصل بابتلاء الصبي في واقعة أو واقعتين بل يجب تكراره إلى أن يحصل الإيناس ويتمشى بالطبع في مدة مديدة حتى يبلغ الرهاق ثم النكاح.

3. ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ﴾.. تفريع على قوله: ﴿وَابْتَلُوا﴾ والمعنى: وامتحنوهم فإن آنستم منهم الرشد فادفعوا إليهم أموالهم والكلام يؤذن بأن بلوغ النكاح بمنزلة المقتضي لدفع‏ المال إلى اليتيم واستقلاله بالتصرف في مال نفسه والرشد شرط لنفوذ التصرف.

4. وقد فصل الإسلام النظر في أمر البلوغ من الإنسان فاكتفى في أمر العبادات وأمثال الحدود والديات بمجرد السن الشرعي الذي هو سن النكاح واشترط في نفوذ التصرفات المالية والأقارير ونحوها مما تفصيل بيانه في الفقه مع بلوغ النكاح الرشد، وذلك من لطائف سلوكه في مرحلة التشريع فإن إهمال أمر الرشد وإلغاءه في التصرفات المالية ونحوها مما يختل به نظام الحياة الاجتماعية في قبيل الأيتام ويكون نفوذ تصرفاتهم وأقاريرهم مفضيا إلى غرور الأفراد الفاسدة إياهم وإخراج جميع وسائل الحياة من أيديهم بأدنى وسيلة بالكلمات المزيفة والمواعيد الكاذبة والمعاملات الغررية إلى ذلك فالرشد لا محيص من اشتراطه في هذا النوع من الأمور، وأما أمثال العبادات فعدم الحاجة فيها إلى الاشتراط ظاهر، وكذا أمثال الحدود والديات فإن إدراك قبح هذه الجنايات والمعاصي وفهم وجوب الكف عنها لا يحتاج فيه إلى الرشد بل الإنسان يقوى على تفهم ذلك قبله ولا يختلف حاله في ذلك قبل الرشد وبعده.

5. ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ الإسراف هو التعدي عن الاعتدال في العمل، والبدار هو المبادرة إلى الشيء وقوله وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا في معنى حذر أن يكبروا فلا يدعوكم أن تأكلوا، وحذف النفي أو ما في معناه قبل أن وأن قياسي على ما ذكره النحاة قال تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ أي لئلا تضلوا أو حذر أن تضلوا.

6. التقابل الواقع بين الأكل إسرافا والأكل بدارا أن يكبروا يعطي أن الأكل إسرافا هو التعدي إلى أموالهم من غير حاجة ولا شائبة استحقاق بل إجحافا من غير مبالاة والأكل بدارا أن يأكل الولي منها مثل ما يعد أجرة لعمله فيها عادة غير أن اليتيم لو كبر أمكن أن يمنعه عن مثل هذا الأكل فالجميع ممنوع إلا أن يكون الولي فقيرا لا محيص له من أن يشتغل بالاكتساب لسد جوعة أو يعمل لليتيم ويسد حاجته الضرورية من ماله وهذا بالحقيقة يرجع إلى ما يأخذ العامل للتجارة والبناية ونحوهما وهو الذي ذكره بقوله: ﴿مَنْ كانَ غَنِيًّا﴾ أي لا يحتاج في معاشه إلى الأخذ من مال اليتيم ﴿فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ أي ليطلب طريق العفة وليلزمه فلا يأخذ من أموالهم ﴿وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ منها بِالْمَعْرُوفِ﴾، وذكر بعض المفسرين أن المعنى: ﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ من مال نفسه لا من‏ أموالهم وهو لا يلائم التفصيل بين الغني والفقير.

7. أما قوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ فتشريع للاستشهاد عند الدفع تحكيما للأمر ورفعا لغائلة الخلاف والنزاع فمن الممكن أن يدعي اليتيم بعد الرشد وأخذ المال من الولي عليه.

8. ثم ذيل الجميع بقوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ ربطا للحكم بمنشئه الأصلي الأولي أعني محتد كل حكم من أسمائه وصفاته تعالى فإنه تعالى لما كان حسيبا لم يكن ليخلي أحكام عباده من غير حساب دقيق وهو تشريعه المحكم، وتتميما للتربية الدينية الإسلامية فإن الإسلام يأخذ في تربية الناس على أساس التوحيد إذ الإشهاد وإن كان رافعا غالبا للخلاف والنزاع لكن ربما تخلف عنه لانحراف من الشهود في عدالتهم أو غير ذلك من متفرقات العوامل لكن السبب المعنوي العالي القوي هو تقوى الله الذي كفى به حسيبا فلو جعل الولي والشهود واليتيم الذي دفع إليه المال هذا المعنى نصب أعينهم لم يقع هناك اختلاف ولا نزاع البتة.

9. فانظر إلى الآيتين كيف أبدعتا في البيان فقد بينتا:

أ. أولا رؤوس مسائل الولاية على أموال اليتامى والمحجور عليهم ومهماتها: من كيفية الأخذ والحفظ والإنماء والتصرف والرد ووقت الأخذ والدفع وتحكيم مبناه ببيان وجه المصلحة العامة في ذلك كله وهو أن المال لله جعله قياما للإنسان على ما تقدم بيانه.

ب. وثانيا الأصل الأخلاقي الذي يربي الإنسان على وفق هذه الشرائع وهو الذي ذكره تعالى بقوله: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾

ج. وثالثا ببناء الجميع على أصل التوحيد الحاكم بوحدته في جميع الأحكام العملية والأخلاقية والباقي على حسن تأثيره في جميع الموارد لو فرض ضعف الأحكام العملية والدستورات الأخلاقية من حيث الأثر، وهو الذي ذكره بقوله: وَكَفى‏ بِاللهِ حَسِيباً.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/173.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ لتعرفوا رشدهم إن كانوا رشيدين وسفاهتَهم إن كانوا سفهاء ﴿حَتَّى﴾ غايةٌ للإختبار، والشرطُ الأول هو (إذا) والشرط الثاني وجزاؤه هما جواب الشرط الأول، وهما غاية الإختبار وشرط تسليم أموالهم إليهم، وبلوغ النكاح: بلوغ القوة والحاجة إلى النكاح وقت إنزال المني عند النكاح.

2. ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ﴾ أدركتم وعرفتم، وعبارة الإيناس تفيد: أن الرشد مطلوب كما هو شأن من لا يطمع في مال اليتيم، والرشدُ: صواب الرأي في التصرف في المال، ويكفي من الرشد القليل؛ لقوله تعالى: ﴿رَشَدًا﴾ فمتى دلَّ الإختبار على وجود معرفةٍ للرأي السديد في الإنفاق، وجب بعد بلوغ اليتيم تسليمُ ماله إليه كله.

3. ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ﴿إِسْرَافًا﴾ مجاوزةً للحق الذي حدَّه الشرع، والبِدار: المبادرة والمسابقة إلى أكله قبل أن يكبر اليتيم، أي مبادرة كبر اليتيم ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا﴾ له مال يقيمه ﴿فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ عن الحرام عن أكل مال اليتيم وغيره من الحرام وما يعاب أكله، والإستعفاف: التنزُّه، وفي معلقة عنتره:

çيخبرك من شهد الوقيعة أنني... أغشى الوغى وأعف عند المغنمé

4. ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا﴾ محتاجاً حاجةً ماسَّةً لقُوت أو سترِ عورة أو نحو ذلك من الضروريات له أو لعائلته زوجته وأولاده الصغار، وحاصلها: ما يبعث الخائف على ذمته وعرضه إلى أن يقترض أو يسأل فهو فقير ومفتقر ومحتاج، ولا يقال له في اللغة غني ما دام هكذا، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ﴾ [التوبة: 91 ـ 93] أي يجدون ما ينفقون على أنفسهم في الجهاد راحلةً وزاداً.

5. وقوله تعالى: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ [البقرة: 273] أي يحسب عندهم ما يسد خلتهم لأنهم لم يَسألوا، فهم عند الجاهل أغنياء عن الصدقة، فالفقير له أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف، والمعروف: ضد المنكر، وهو الإقتراض بقدر الضرورة، وأجرة ما عمل وليُّ اليتيم بنية الأجرة بقدر عمله، ولا يبعد أن من المعروف الفضلة التي لا تخزن في العادة ولا تنفق للبيع، مثل: فضلة الحقين من اللبن التي تعطى للجيران حيث لا يباع ولا يشترى لو عرض للبيع، وقلت في الإقتراض: بقدر الضرورة؛ لأن قدر الضرورة لا إشكال فيه، أما الزائد فإنه ينكر على من لا يظن التمكن من القضاء.

6. ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ في وقت ذلك، كما مر ذكره ﴿فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ شهيدين ممن ترضون من الشهداء، يشهدان دفْعَ ما دفعتم إليهم حتى إذا جحد يتيمٌ شهدا عليه؛ لأن الوصي ونحوه إذا قال قد دفعت إليك مالك وجحد اليتيمُ، كان المدعي هو الوصي، والمنكر هو الذي كان يتيماً ـ وهو صاحب المال ـ فالبينة على المدعي، وإذا لم تكن له بينة كانت اليمين على المنكر، فإن حلف بطلت دعوى تسليم ماله إليه وحكم عليه لليتيم بماله، فقد أرشد الله الأوصياء ونحوهم إلى الإشهاد لتبين بالشهادة براءةُ ذمتهم، وظاهر الأمر الوجوب، قال الشرفي في (المصابيح): (قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: دلت الآية الكريمة على وجوب اختبار اليتامى بعد بلوغهم، فإن عرف رشدهم وجب تسليم أموالهم إليهم وإن لم يعرف رشدهم وجب على الولي حفظه، ويجب الإشهاد عليهم حين رد الأموال عليهم، وتجب العفة عن تناول أموالهم على من كان متولياً عليهم، ويباح للولي القريب الوارث حيث يجب الإنفاق عليه من قريبه أن يأكل بالمعروف وهو نفقة مثله من مثله من تجب عليه ممن يرثه)، وقال الشرفي في (المصابيح) أيضاً: (قال الحسين بن القاسم عليهما السلام: إنما أطلق الله للفقير أن يأكل من مال اليتيم إلا بمنزلة الأجير، وإذا قام بالمال اشتغل به عن الكسب لنفسه وضاع، إلا أن يقتات ببعضه فأطلق الله له ذلك برحمته وعدله)

7. ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ يحاسبكم على مال اليتيم؛ لأنه هو العليم بالخفيات الذي لا يضل ولا ينسى، فيوكل إليه تعالى ما خفي من مال اليتيم، وإنما يبين على ما يدفع ويعترف به من مال اليتيم، أما ما ادعى إنفاقه على اليتيم فيكفي فيه يمينه إن اتهمه اليتيم وأمره إلى الله وهذا فيما خفي، فأما لو كان لليتيم بينة على مالٍ جحده الوصي عمل بها، أو ادعى إنفاقه ولليتيم بينة أنه أنفقه لنفسه خيانةً عمل بها.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/11.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كانت الآية السابقة واردة مورد الحديث عن الجانب السلبي في أموال الأيتام الذين لم يبلغوا سن الرشد؛ وجاءت هذه الآية لتتحدث عن الجانب الإيجابي منه، الذي يحدّد لنا الحدود التي يجب علينا الوقوف عندها في ذلك فقوله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ من الذكور والإناث، أي اختبروهم في عقولهم وذلك من خلال التجربة الحية في ممارسة المعاملات المتعلقة بالمال تحت إشرافكم، لتتعرفوا مدى ما يملكونه من القابلية العملية في إدارة المال وملاحظة عناصر الربح والخسارة في حركته في الواقع.

2. ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ أي السنّ الذي يبلغون فيه البلوغ الطبيعي الذي يتحول فيه الإنسان من حالة الصبا إلى حالة النضج الجنسي، بحيث يقدر فيه على النكاح الذي يملك فيه قابلية التناسل، وذلك ـ في ما نستقربه ـ بالاحتلام لدى الذكر والحيض لدى الأنثى، أما السنّ فقد يكون علامة على ذلك ببلوغ الذكر خمس عشرة سنة، والأنثى ببلوغ التسع ـ كما يقولون ـ باعتبار أنها تحيض لتسع، ولكن إذا علم عدم الحيض في تلك السنّ، لم يتحقق بلوغها، والبحث موكول إلى الفقه.

3. ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ وقدرة على إدارة أموالهم بحكمة وروية ودراية بحيث يملكون تنمية الأموال بالطريقة المتعارفة لدى الناس وذلك من خلال التجربة تحت نظارة الولي‏ ﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ ليستقلوا بالتصرف فيه كأيّ إنسان مستقل في حياته لارتفاع الولاية عنه ببلوغه المرحلة الجسدية والعقلية التي يستطيع فيها التحرك المتوازن في شؤونه كلها، ولا بد من إحراز وصوله إلى هذا المستوى من الرشد لدفع ماله إليه.

4. ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا﴾ أي لا تتجاوزوا الحد الطبيعي المألوف في ما تأخذونه لأنفسكم من أموال اليتامى كأجرة على تفرّغكم لإدارة أمورهم ورعاية أوضاعهم، فلا تأخذوا أكثر مما تستحقونه وتحتاجونه، وقد جاء في رواية محمد بن مسلم عن أحد الإمامين (الباقر) و(الصادق) عليهما السّلام قال‏: (سألته عن رجل بيده ماشية لابن أخ له يتيم في حجره ما يخلط، أيخلط أمرها بأمر ماشيته؟ فقال: (إن كان يليط حياضها ويقوم على هنائها ويرد نادّتها، فليشرب من ألبانها غير مجهد للحلاب ولا مضرّ بالولد)

5. ﴿وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ أي مسارعة لكبرهم وبلوغهم ورشدهم حذرا من انقطاع هذه المنفعة عنهم فيستغلون ولايتهم عليهم لأكل مالهم بدون تحفظ، باعتبار ذلك الفرصة التي تفوتهم فتمنعهم من الاستغلال.

6. ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ ويمتنع عن أخذ المال من اليتيم كأجرة وتعويض عن جهده، فذلك ما تفترضه طبيعة المسؤولية الإنسانية في الولاية للأيتام لأنها تتحرك من موقع الرعاية لهم والحفظ لأموالهم، مما يستوجب العفة عنها ما دام في غنى عن ذلك، ليكون طلبه للأجر من الله أكثر من رغبته في الحصول على المال الذي يقابل جهده.

7. ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وذلك بدراسة الأجرة التي يستحقها في مقابل الجهد الذي يبذله في رعاية اليتيم لا سيما إذا كان متفرغا لذلك بحيث يحبس نفسه عليه، فإن له الحق في أخذ أجرة المثل، كما هو الحال في أيّ عامل مماثل في غير هذه الحالة، وقد جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السّلام قال‏: (المعروف هو القوت، وإنما عنى الوصيّ أو القيم في أموالهم وما يصلحهم) وروى زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السّلام قال‏: (قلنا له: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قال إنما ذلك إذا حبس نفسه عليهم في أموالهم فلم يتخذ لنفسه فليأكل بالمعروف من مالهم) وفي رواية أخرى‏ عنه في تفسير الآية فقال: (هذا رجل يحبس نفسه لليتيم على حرث أو ماشية ويشغل فيها نفسه فليأكل منه بالمعروف وليس ذلك له في الدنانير والدراهم التي عنده موضوعة)

8. ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ احتياطا لأنفسكم أيها الأولياء القائمون على شؤون الأيتام وأموالهم، حتى لا تقعوا تحت تأثير الاتهامات الموجهة إليكم منهم أو من غيرهم إذا جحدوا استلامهم لها، وهذا التوجيه الإلهي يتحرك في خطين: خطّ لليتامى لتحصيل الاستيثاق لهم بتسلّم أموالهم في حضور الشهود الموثوقين، بحيث يخضع حقهم للضوابط التوثيقية التي تثبت بها الحقوق لئلا يدعي الأولياء الدفع إليهم ـ زورا وبهتانا ـ بدون شهود، وخطّ للأولياء حتى لا يتهمهم اليتامى ـ بعد بلوغهم ـ بخيانة المال بادعاء أنهم لم يدفعوه إليهم، ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ أي شاهدا ورقيبا، فهو الذي يجسّد الوثيقة الكبرى، أو محاسبا، فاحذروا محاسبته في الآخرة كما تحذرون محاسبة اليتيم بعد البلوغ.

9. جاء في الدر المنثور: (أخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ وابن المنذر عن طريق عطاء عن ابن عباس‏ ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قال: نسختها ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ [النساء: 10]، لكن يرد على هذا الكلام، أن النسخ يفرض التنافي بين الآية الناسخة والآية المنسوخة ليكون النسخ حلّا للتّناهي بلحاظ اختلاف الزمن، وهذا ما لم يتوفر في الآيتين، لأن هذه الآية تؤكد على الأكل بالمعروف في مقابل الجهد الذي يبذله الولي في رعاية شؤون اليتيم وتدبير أموره تماما كأية أجرة على أي عمل يتصل بحياة اليتيم وإصلاح ماله في شؤونه العامة والخاصة، أما الآية الأخرى، فإنها تنهى عن أكل أموال اليتامى ظلما أي بلا حق، وذلك بطريق الغصب والتصرف فيه بطريقة غير مشروعة، فأين التنافي لتكون الثانية ناسخة للأولى؟

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/83.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هاهنا تعليم آخر في شأن اليتامى وأموالهم، إذ يقول سبحانه: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ فإذا بلغوا سن الرشد الذي آنستم فيه قدرتهم على إدارة أموالهم والتصرف فيها بنحو معقول فأعطوهم أموالهم: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾

2. يستفاد من التعبير بـ (حتى) أنّه يجب اختبار اليتامى قبل بلوغ سنّ النكاح، وأن يتمّ هذا الأمر بصورة مستمرة ومتكررة حتى يعرف بلوغهم حدّ النكاح ويتبيّن أنّهم بلغوا الحدّ اللازم من الرشد العقلي اللازم لإدارة الأمور المالية على الوجه الصحيح، كما أنّه يستفاد ـ ضمنا ـ أنّ المراد من الاختبار والابتلاء هو التربية التدريجية والمستمرة لليتامى، وهذا يعني أن لا تتركوا اليتامى وتهملوهم حتى يبلغوا سن الرشد ثمّ تعمدوا إلى إعطائهم أموالهم، بل لا بدّ أن تهيئوهم ـ قبل البلوغ ـ للحياة المستقلة وذلك بالبرامج التربوية العملية، وأمّا أنّه كيف يمكن اختبار اليتيم فطريقه هو أن يعطى مقدارا من المال، فيتّجر به ويشتري ويبيع مع نظارة الولي بنحو لا يسلب اليتيم استقلاله فإذا تبيّن أنّه قادر على الاتجار والتعامل كما ينبغي ومن دون أن يغبن، وجب تسليم أمواله‏ إليه وإلّا فلا بدّ أن تستمر تربيته وإعداده حتى يبلغ تلك الدرجة التي يستطيع فيها أن يستقل بإدارة شؤونه وتدبير معيشته، وأخذ زمام حياته المستقبلية بيده.

3. التعبير بجملة ﴿إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ إشارة إلى أن الرشد المطلوب هو أن يبلغ اليتيم إلى درجة القدرة على الزواج، وواضح أن الذي يقدر على الزواج لا بدّ أنّه يقدر على تشكيل عائلة، ولا شك أنّ الإنسان بدون امتلاكه لرأس مال لا يتوصل إلى أهدافه، ولهذا فإن بداية الحياة العائلية تتزامن مع بداية الحياة الاقتصادية المستقلة، وبعبارة أخرى أنّ الثروة لا تعطى إليهم إلّا عند ما يصلون إلى البلوغ الجسمي، فيحتاجون إلى المال بشدّة ويصلون إلى البلوغ الفكري، ويتمكنون من المحافظة على أموالهم في وقت واحد.

4. التعبير بجملة ﴿آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ إشارة إلى أنّه يجب أن يتأكد من رشدهم، لأنّ الإيناس بمعنى المشاهدة والرؤية وهذه المادة مشتقة من مادة (الإنسان) الذي في معانيه ناظر العين وعدستها التي بها تبصر (والرؤية إنّما تتمّ بالاستعانة من إنسان العين ـ في الحقيقة ـ ولهذا عبر عن المشاهدة بالإيناس)

5. ثمّ إنّه سبحانه قال ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ وهو تأكيد آخر للأولياء بأن لا يسلموا الأموال إلى اليتامى قبل أن يكبروا بأن يحافظوا على أموال اليتامى ولا يتلفوها أبدا.

6. ثمّ إنه تعالى يردف هذا التأكيد بقوله: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وبهذا أذن الله تعالى للأولياء بأن يأخذوا لأنفسهم من أموال اليتامى لقاء ما يتحملون من أتعاب في حفظها، وحراستها، على أن يراعوا جانب العدل والإنصاف فيما يأخذونه بعنوان الأجرة، هذا إذا كان الولي فقيرا، أما إذا كان غنيّا فلا يأخذ من مال اليتيم شيئا أبدا.

7. وردت في هذا الصدد كذلك روايات توضح وتبيّن ما أشير إليه من‏ مضمون الآية، ومن هذه الأحاديث ما روي عن الإمام الصّادق عليه السّلام إذ قال: فذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة، فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم فإن كان المال قليلا (ولا يستغرق ذلك وقتا كبيرا) طبعا فلا يأكل منه شيئا)

8. ثمّ يقول سبحانه: ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ لكي لا يبقى أي مجال للاتهام والتنازع، وهذا هو آخر حكم في شأن الأولياء واليتامى جاء ذكره في هذه الآية.

9. واعلموا أنّ الحسيب الواقعي هو الله تعالى، والأهم من ذلك هو أن حسابكم جميعا عنده لا يخفى عليه شيء أبدا ولا يفوته صغير ولا كبير فإذا بدرت منكم خيانة خفيت على الشهود فإنّه سبحانه سيحصيها عليكم، وسوف يحاسبكم عليها ويؤاخذكم بها: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/111.

7. حقوق الأقارب في الأنصبة

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈7⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النساء: 7]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: ١٨٠]، قال نسختها هذه الآية: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ الآية(1).

__________

(1) ابن المنذر ٢/ ٥٧٦.

ابن يعمر:

روي عن يحيى بن يعمر (ت 90 هـ) أنّه قال: ثلاث آيات مدنيات محكمات ضيعهن كثير من الناس: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾ الآية، وآية الاستئذان: ﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ﴾ [النور: ٥٨]، وقوله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾ الآية [الحجرات: ١٣](1).

__________

(1) سعيد بن منصور (٥٧٨.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ﴾ يعني: من الميراث، ﴿نَصِيبًا﴾ يعني: حظا ﴿مَفْرُوضًا﴾ يعني: معلوما(1).

2. روي أنّه قال: إن أهل الجاهلية كانوا لايورثون النساء ولا الولدان الصغار شيئا، يجعلون الميراث لذي الأسنان من الرجال؛ فنزلت: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ إلى قوله: ﴿مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ﴾(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٧٢.

الزهري:

روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال في قول الله ـ جل ثناؤه ـ: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: ١٨٠]، كان الأمر على هذا ما شاء الله أن يكون، ثم أنزلت فرائض المواريث، ففرض مواريث الوالدين، فنسخت المواريث في السنة الوصية للوالدين، ولكل وارث إلا بإذن الورثة في شيء، فيجوز ما أذنوا به(1).

__________

(1) ابن المنذر ٢/ ٥٨٣.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال في قوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ كان النساء لا يرثن في الجاهلية من الآباء، وكان الكبير يرث، ولا يرث الصغير وإن كان ذكرا؛ فقال الله تبارك وتعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ إلى قوله: ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٤٣١.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ﴾ الآية:

أ. يحتمل أن تكون الآية ـ والله أعلم ـ نزلت بسبب ما لم يكن يورث أهل الجاهلية الإناث والصغار، ويجعلون المواريث لذوي الأسنان من الرجال، الذين يصلحون للحرب، ويحرزون الغنيمة؛ فنزلت الآية بتوريث الرجال والنساء جميعا.

ب. ويقال: إن الآية نزلت في شأن رجل يقال له: أوس بن ثابت‏ الأنصاري، توفي‏ وترك بنات وامرأة، فقام رجلان من بنى عمه ـ وهما وصيان ـ فأخذا ماله، ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا؛ فجاءت امرأة أوس بن ثابت‏ إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فشكت، وأخبرت بالقصة؛ فقال لها: (ارجعى في بيتك حتّى انظر ما يحدث الله في ذلك)، فانصرفت؛ فنزل قوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ﴾ الآية.

ج. وقيل: نزلت الآية في شأن امرأة سعد: أن سعدا استشهد بأحد، وترك ابنتين وامرأة، فاحتوى أخ لسعد على مال سعد، ولم يعط المرأة ولا الابنتين شيئا؛ فاختصمت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأخبرته بالقصة؛ فقال لها: (لم ينزل الله علىّ فيكم شيئا)، ثم نزلت الآية، فأخذ من عمهما ثلثي المال، ورده إليهما، ودفع الثّمن إلى المرأة، وترك البقية للعم‏.. وفي هذا الخبر دليل أن للابنتين‏ الثلثين، كما للثلاث فصاعدا، ليس كما قال بعض الناس: إن لهما النصف؛ لأن الله تعالى إنما جعل الثلثين للثلاثة.

د. والله أعلم أن فيم كان نزولها؟

2. ثم تحتمل الآية وجهين بعد هذا:

أ. تحتمل أن يكون المراد الأولاد خاصة لا غير؛ فيدخل كل ولد: ولد البنات، وولد البنين؛ لأنهم كلهم أولاده.

ب. ويحتمل أن يكون المراد منها الرجال والنساء؛ فيدخل ذوو الأرحام‏ في ذلك، فلما لم يدخل بنات البنات في ذلك ـ وهم أولاد ـ دل أنه أراد النساء والرجال جميعا، لا الأولاد خاصة.

3. وفيه دلالة نسخ الوصية للوارث‏؛ لأنه قال ـ عزّ وجل ـ: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ﴾ إلى قوله: ﴿مَفْرُوضًا﴾ أي: معلوما بما أوجب في كل قبيل.

4. ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾، قيل: ذا يرجع إلى ما بين فرضه، وهو أصحاب الفرائض دون العصبات‏، فيكون على ما أشار إلى حقه من حيث الاسم في القرآن، ويحتمل ما بين، وقد جرى فيه ذكر حقين:

أ. أحدهما: حق العصبة، كما ذكر في الأب والإخوة والأولاد، وحق أصحاب الفرائض، ولو كان على ذلك فقد يتضمن الفرض ما يعلم بالإشارة إليه والدلالة؛ لأن أكثر من‏ يوصي بحق العصبة هو ما لا نص فيه، والذي فيه النص هو في الأولاد والإخوة ـ خاصة ـ والوالد.

ب. وقيل: يتضمن كل الأقرباء على اختلاف الدرجات؛ فيكون منصوصا ـ أيضا ـ ومدلولا عليه، ويؤيد هذا التأويل قوله: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ ثم بيّن: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾ وأولئك هم البعداء الذين لهم أخوة الدين والهجرة، فإذا بقي في الرحم أحد ـ لم يصرف ذلك إلى المؤمنين، وقد قدم حقهم على المؤمنين والمهاجرين بالرحم؛ لذلك هم أولى، مع ما للإمام صرف ذلك بحق الإيمان إليهم؛ فيصير الدفع إليهم بحق الجواز، وإلى غيرهم شك عند قيامهم؛ فالدفع إليهم أولى لوجهين:

أحدهما: عموم الكتاب على تحقيق حق لكل آية منها؛ دون إدخال حكم آية في حق آخرين بلا ضرورة.

والثاني: الإجماع من الوجه الذي ذكرت مع اتفاق أكثر الصحابة والفتوى إلى يومنا هذا.

5. من الناس من رأي نسخ الوصية للوارث بقوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ﴾ الآية [النساء: 7]؛ لأن الآية أوجبت الميراث فيما قل أو كثر، فلو كانت الوصية تجب للوالدين بقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ﴾ الآية [البقرة: 180]، لكان الميراث لا يجب فيما قل منه، وإنما يجب فيما يفضل منه، لكن الآية إذا لم تمنع الوصية للأجنبي وهي تصرف السهم المفروض إلى ما يفضل من الوصية؛ فمثله للوارث، لكن في الآية دلالة على رفع الكتاب؛ إذ في الأولى أنها كتبت، فلما أوجب الحق في كل قليل وكثير لم يبق معه الفرض والوجوب، ولكن يجب الفضل، ثم كان حق الوالدين ومن ذكر بحق اللزوم، وقد سقط ذلك، وبه كان يجوز، فلما سقط الحق جاء في الخبر أن (لا وصيّة للوارث)؛ فسقط الحق بالآية من الوجه الذي ثبت، والتنفل بقوله: (لا وصية..)، فمن هذا الوجه الذي ذكرت يسقط حق الوصية بالقرآن، لكن قد ذكر للمرأة لا بحرف الوجوب بقوله: ﴿مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾ [البقرة: 240] ثم سقط ـ أيضا ـ بالخبر الذي‏ ذكرنا؛ إذ ليس في الآية ذكر المرأة بما ذكر فيها ميراث الأولاد والأقربين، وقد بقى حق المتاع؛ إذ له أن يوصى لغير الورثة، لكن ذكر في ميراث المرأة وصية، كقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً﴾ [البقرة: 240] من الله، والوصية منه مكتوبة على ما للوالدين والأقربين، ثم أشرك الزوجين في ميراث الوالدين والأقربين مما بينه الكتاب‏؛ إذ هو بيان منتهى الحكم من الوقت، وقد جعل الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بحيث البيان مما في القرآن.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/29.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ وسبب نزول هذه الآية أن الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث فنزلت هذه الآية في أم كحلة وابنة كحلة وثعلبة وأوس بن سعيد وسويد وهم من الأنصار وكان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها فقالا: يا رسول الله ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلا.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/165.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ وسبب نزول هذه الآية، في الجاهلية كانوا يورّثون الذكور دون الإناث، فروى ابن جريج عن عكرمة قال نزلت في أم كجّة وبناتها وثعلبة وأوس بن سويد وهم من الأنصار، وكان أحدهما زوجها والآخر عم ولدها، فقالت: يا رسول الله توفي زوجي وتركني وبنيه ولم نورّث، فقال عم ولدها: يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا، ولا يحمل كلّا، ولا ينكأ عدوا يكسب عليها ولا تكسب، فنزلت هذه الآية.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/456.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلفوا في سبب نزول هذه الآية:

أ. فقال قتادة، وابن جريج، وابن زيد: إن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث، فنزلت هذه الآية رداً لقولهم.

ب. وقال الزجاج: كانت العرب لا تورث إلا من طاعن بالرماح، وذاد عن الحريم والمال، فنزلت هذه الآية رداً عليهم، وبين أن للرجال نصيباً مما ترك الولدان والأقربون، ﴿وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ يعني حظاً مفروضاً.

2. ﴿مَفْرُوضًا﴾ قال الزجاج: مفروضاً، نصب على الحال، وقال غيره: هو اسم في موضع المصدر، كقولك قسما واجباً، وفرضاً لازماً، ولو كان اسماً ليس فيه معنى المصدر، لم يجز قولك: عندي حق درهماً، ويجوز: لك عندي درهم هبة مفترضة السفن من النهر وكل ضخم فارض، والفرق بين الفرض والوجوب أن الفرض هو الإيجاب، غير أن الفرض يقتضي فارضاً فرضه، وليس كذلك الواجب لأنه قد يجب الشيء في نفسه من غير إيجاب موجب، ولذلك صح وجوب الثواب والعوض على الله تعالى، ولم يجز فرضه عليه، وأصل الوجوب الوقوع، يقال: وجب الحائط وجوباً فهو واجب، إذا وقع، وسمعت وجبة أي وقعة كالهدة، ومنه‏ ﴿وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ أي وقعت لجنوبها، ووجب الحق وجوبا، إذا وقع سببه، كوجوب رد الوديعة، وقضاء الدين، ووجوب شكر المنعم، ووجوب الأجر، وإنجاز الوعد، ووجب القلب وجيباً إذا خفق من فزع وقعة كالهدة.

3. في الآية دليل على بطلان القول بالعصبة، لأن الله تعالى فرض الميراث للرجال والنساء، فلو جاز أن يقال: النساء لا يرثن في موضع، لجاز لآخرين أن يقولوا: والرجال لا يرثون، والخبر المدعى في العصبة خبر واحد، لا يترك له عموم القرآن، لأنه معلوم، والخبر مظنون، وقد بينا ضعف الخبر في كتاب تهذيب الأحكام، فمن أراده وقف عليه من هناك.

4. في الآية أيضاً دلالة على أن الأنبياء يورثون، لأنه تعالى عم الميراث للرجال والنساء، ولم يخص، نبياً من غيره، وكما لا يجوز أن يقال: النبي لا يرث، لأنه خلاف الآية، فكذلك لا يجوز أن يقال: لا يورث، لأنه خلافها، والخبر الذي يروون أنه قال نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة، خبر واحد، وقد بينا ما فيه، في غير موضع، وتأولناه، بعد تسليمه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/121.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. النصيب: الحظ من الشيء، يقال: هو نصيبي من كذا.

ب. الفرض أصله الثبوت، ومنه الفرض؛ لما أوجبه الله على العبد لثبوته عليه، والفارض: المسنة لثبوتها حين أسنت، والفرق بين الواجب والفرض أن الفرض الإيجاب؛ لأنه مُتَعَد مِنْ فَرَضَهُ فَرْضًا، والواجب قد يجب في نفسه من غير إيجاب موجب؛ فلذلك صح وجوب الثواب على الله، ولم يصح فرضه، وأصل الوجوب الوقوع، ومنه وجب أي وقع.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. روي أن الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث والصغار، فنزلت الآية عن قتادة وابن جريج وابن زيد.

ب. وقيل: كانوا لا يورثون إلا مَنْ طاعَنَ بالرماح ورعى الحريم عن(2).

ج. وروي أنها نزلت في قصة أوس بن ثابت الأنصاري فإنه توفي وترك امرأة يقال لها: أم كجة، وثلاث بنات منها وعمًّا يقال له: ثعلبة، وقيل: ابني عم قيل: قتادة وعرفطة.

د. وقيل: سويد وعرفجة، فأخذوا المال، فجاءت المرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ورفعت القصة، فدعا بابني العم أو العم فقالا: يا رسول الله، ولدها لا يركب فرسًا ولا يحمل كلاً ولا ينكأ في عدو، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأثبت لهن حقًا في الميراث، ولم يبين المقدار، ثم نزل ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ﴾ فدفع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المرأة الثمن، وإلى البنات الثلثين، ودفع الباقي إلى ابني العم.

هـ. وروي أن امرأة سعد بن الربيع جاءت بابنتي سعد إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالت: قتل أبوهما يوم أحد فأخذ عمهما مالهما، ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: يقضي الله في ذلك) فنزلت هذه الآية، ونزلت ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ﴾ فأعطى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المرأة الثمن، والابنتين الثلثين، والباقي إلى العم، وذكر الأصم نحوًا من ذلك، واختلفوا فقيل: نزلت هذه الآية بعد يوصيكم؛ لأن فيه أن لكل واحد منهما نصيبا مفروضا، فوجب أن يكون بيان الفرض متقدمًا.

و. وقيل: إن هذه الآية نزلت ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ﴾ بيانا للأنصباء المفروضة.

3. لما بين تعالى حكم أموال الأحياء ومن يتصرف فيها بَيَّنَ حكمها بعد الموت فقال تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ﴾ يعني الذكور من أولاد الميت وأقربائه ﴿نَصِيبٍ﴾ أي حظ وسهم ﴿مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ من الميراث، وللإناث منهم حصة من الميراث ﴿مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ قيل: معلومًا واجبًا ثابتًا.

4. تدل الآية الكريمة على:

أ. أن حق الإرث واجب في التركة في جميع الأحوال.

ب. أن الوصية لا تستغرق التركة؛ إذ لو كانت كذلك لكان لا يثبت النصيب للوالدين والأقربين.

ج. أن الرجال قد ترث بالفرض والتعصيب، وأن النساء أيضًا يرثن بظاهر الآية؛ لأن نصيبهم يصير معلومًا، فمنه السهام، وهي معلومة وإذا ظهر نصيبهم صارت حصة العصبات معلومة.

د. أن ذوي الأرحام يرثون؛ لأنهم من جملة الرجال والنساء الَّذِينَ مات عنهم الأقربون على ما يقوله أبو حنيفة خلاف ما يقوله الشافعي.

هـ. أن قليل التركة ككثيرها في ثبوت هذا الحق، وفي الآية بيان النصيب وليس فيه قدر النصيب فرجع إلى بيان.

و. أن جميع التركة مقسومة خلاف ما يقوله الإمامية: إن بعض الورثة وهو الابن يأخذ شيئًا نحو ثيابه وسلاحه.

5. نصب قوله: ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ قيل: لأنه اسم في موضع مصدر كقولك: قسمًا، واجبًا وفرضًا لازمًا عن الفراء، وقيل: نصب على الحال عن الزجاج، وقيل: على القطع عن الكسائي.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/536.

(2) الكلام هنا للزجّاج

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الفرق بين الفرض والوجوب: إن الفرض يقتضي فارضا، وليس كذلك الوجوب، لأنه قد يجب الشئ في نفسه من غير إيجاب موجب، ولذلك صح وجوب الثواب والعوض عليه تعالى، ولم يجز أن يقال لذلك فرض ومفروض، وأصل الفرض الثبوت، فالفرض: الحز في سية القوس، حيث يثبت الوتر، والفرض: ما أثبته على نفسك من هبة أو صلة، والفرض: ما أعطيت من غير قرض، لثبوت تمليكه،وأصل الوجوب الوقوع، يقال وجب الحائط وجوبا، إذا وقع وسمعت وجبة: أي وقعة كالهدة، ووجب الحق وجوبا: إذا وقع سببه، ووجب القلب وجيبا: إذا خفق من فزع وقعة

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: كانت العرب في الجاهلية يورثون الذكور دون الإناث، فنزلت الآية ردا لقولهم، عن قتادة، وابن جريج، وابن زيد.

ب. وقيل: كانوا لا يورثون إلا من طاعن بالرماح، وذاد عن الحريم والمال، فقال تعالى مبينا حكم أموال الناس بعد موتهم، بعد أن بين حكمها في حال حياتهم.

3. ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾: أي حظ وسهم، ﴿مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾: أي من تركة الوالدين والأقربين، ﴿وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾: أي وللنساء من قرابة الميت حصة وسهم من تركته ﴿مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ﴾: أي من قليل التركة وكثيرها، ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾: أي حظا، فرض الله تسليمه إلى مستوجبيه ومستحقيه لا محالة.

4. هذه الآية تدل على بطلان القول بالعصبة، لأن الله تعالى فرض الميراث للرجال وللنساء، فلو جاز منع النساء من الميراث في موضع، لجاز أن يجري الرجال مجراهن في المنع من الميراث.

5. تدل أيضا على أن ذوي الأرحام يرثون لأنهم من جملة النساء والرجال الذين مات عنهم الأقربون على ما ذهبنا إليه، وهو مذهب أبي حنيفة أيضا، ويدخل في عموم اللفظ أيضا الأنبياء وغير الأنبياء، فدل على أن الأنبياء يورثون كغيرهم على ما ذهبت إليه الفرقة المحقة(2).

6. نصيبا مفروضا: نصب على الحال، لأن المعنى فرض للرجال نصيب ثم قال نصيبا مفروضا حالا مؤكدا، وقيل: هو اسم في موضع المصدر، كقولك قسما واجبا، وفرضا لازما، ولو كان اسما لا شائبة للمصدرية فيه، لم يجز، نحو قولك: عندي حق درهما، ويجوز لك عندي درهم هبة مقبوضة.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/18.

(2) يقصد الإمامية.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سبب نزولها أنّ أوس بن ثابت الأنصاريّ توفي وترك ثلاث بنات وامرأة، فقام رجلان من بني عمّه، يقال لهما: قتادة، وعرفطة فأخذوا ماله، ولم يعطيا امرأته، ولا بناته شيئا، فجاءت امرأته إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكرت له ذلك، وشكت الفقر، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس، وقال قتادة: كانوا لا يورّثون النساء، فنزلت هذه الآية.

2. المراد بالرجال: الذّكور، وبالنّساء: الإناث، صغارا كانوا أو كبارا، و(النصيب): الحظّ من الشيء، وهو مجمل في هذه الآية، ومقداره معلوم من موضع آخر، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ وقوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾، والمفروض: الذي فرضه الله، وهو آكد من الواجب.

__________

(1) زاد المسير: 1/375.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا هو النوع الرابع من الأحكام المذكورة في هذه السورة وهو ما يتعلق بالمواريث والفرائض، وفي سبب نزول هذه الآية قال ابن عباس: ان أوس بن ثابت الانصاري توفي عن ثلاث بنات وامرأة، فجاء رجلان من بني عمه وهما وصيان له يقال لهما: سويد، وعرفجة وأخذا ماله، فجاءت امرأة أوس إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وذكرت القصة، وذكرت أن الوصيين ما دفعا إلى بناته شيئا من المال، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (ارجعي الى بيتك حتى أنظر ما يحدث الله في أمرك) فنزلت على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هذه الآية، ودلت على أن للرجال نصيبا وللنساء نصيبا، ولكنه تعالى لم يبين المقدار في هذه الآية، فأرسل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الوصيين وقال: (لا تقربا من مال أوس شيئاً) ثم نزل بعد: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء: 11] ونزل فرض الزوج وفرض المرأة، فأمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم الوصيين أن يدفعا إلى المرأة الثمن ويمسكا نصيب البنات، وبعد ذلك أرسل صلّى الله عليه وآله وسلّم إليهما أن ادفعا نصيب بناتها إليها فدفعاه إليها.

2. كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال، ويقولون لا يرث إلا من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة، فبين تعالى أن الإرث غير مختص بالرجال، بل هو أمر مشترك فيه بين الرجال والنساء، فذكر في هذه الآية هذا القدر، ثم ذكر التفصيل بعد ذلك ولا يمتنع إذا كان للقوم عادة في توريث الكبار دون الصغار ودون النساء، أن ينقلهم سبحانه وتعالى عن تلك العادة قليلا قليلًا على التدريج، لأن الانتقال عن العادة شاق ثقيل على الطبع، فإذا كان دفعة عظم وقعه على القلب، وإذا كان على التدريج سهل، فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذا المجمل أولا، ثم أردفه بالتفصيل.

3. اختلفوا في توريث ذوي الأرحام:

أ. احتج أبو بكر الرازي(2) بهذه الآية على توريث ذوي الأرحام قال: لأن العمات والخالات والأخوال وأولاد البنات من الأقربين، فوجب دخولهم تحت قوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ أقصى ما في الباب أن قدر ذلك النصيب غير مذكور في هذه الآية، إلا أنا نثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بهذه الآية، وأما المقدار فنستفيده من سائر الدلائل.

ب. أجاب أصحابنا(3) عنه من وجهين:

أ. أحدهما: انه تعالى قال في آخر الآية ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ أي نصيبا مقدرا، وبالإجماع ليس لذوي الأرحام نصيب مقدر، فثبت أنهم ليسوا داخلين في هذه الآية.

ب. وثانيهما: أن هذه الآية مختصة بالأقربين، فلم قلتم إن ذوي الأرحام من الأقربين؟ وتحقيقه أنه إما أن يكون المراد من الأقربين من كان أقرب من شيء آخر، أو المراد منه من كان أقرب من جميع الأشياء، الأول باطل؛ لأنه يقتضي دخول أكثر الخلق فيه، لأن كل إنسان له نسب مع غيره إما بوجه قريب أو بوجه بعيد، وهو الانتساب إلى آدم عليه السلام، ولا بد وأن يكون هو أقرب إليه من ولده، فيلزم دخول كل الخلق في هذا النص وهو باطل، ولما بطل هذا الاحتمال وجب حمل النص على الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد من الأقربين من كان أقرب الناس إليه، وما ذاك إلا الوالدان الأولاد، فثبت أن هذا النص لا يدخل فيه ذوو الأرحام، لا يقال: لو حملنا الأقربين على الوالدين لزم التكرار، لأنا نقول: الأقرب جنس يندرج تحته نوعان: الوالد والولد، فثبت أنه تعالى ذكر الوالد، ثم ذكر الأقربين، فيكون المعنى أنه ذكر النوع، ثم ذكر الجنس فلم يلزم التكرار.

4. ﴿نَصِيبًا﴾ في نصبه وجوه:

أ. أحدها: أنه نصب على الاختصاص بمعنى أعني نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا،

ب. الثاني: يجوز أن ينتصب انتصاب المصدر، لأن النصيب اسم في معنى المصدر كأنه قيل: قسما واجبا، كقوله: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ [التوبة: 60، النساء: 11] أي قسمة مفروضة.

5. أصل الفرض الحز، ولذلك سمي الحز الذي في سية القوس فرضاً، والحز الذي في القداح يسمى أيضا فرضاً، وهو علامة لها تميز بينها وبين غيرها، والفرضة العلامة في مقسم الماء، يعرف بها كل ذي حق حقه من الشرب، فهذا هو أصل الفرض في اللغة، ثم ان أصحاب أبي حنيفة خصصوا لفظ الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع، واسم الوجوب بما عرف وجوبه بدليل مظنون، قالوا: لأن الفرض عبارة عن الحز والقطع، وأما الوجوب فإنه عبارة عن السقوط، يقال: وجبت الشمس إذا سقطت، ووجب الحائط إذا سقط، وسمعت وجبة يعني سقطة قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ [الحج: 36] يعني سقطت، فثبت أن الفرض عبارة عن الحز والقطع، وأن الوجوب عبارة عن السقوط، ولا شك أن تأثير الحز والقطع أقوى وأكمل من تأثير السقوط، فلهذا السبب خصص أصحاب أبي حنيفة لفظة الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع، ولفظ الوجوب بما عرف وجوبه بدليل مظنون.

6. هذا الذي قرروه يقتضي عليهم بأن الآية ما تناولت ذوي الأرحام لأن توريث ذوي الأرحام ليس من باب ما عرف بدليل قاطع بإجماع الأمة، فلم يكن توريثهم فرضاً، والآية إنما تناولت التوريث المفروض، فلزم القطع بأن هذه الآية ما تناولت ذوي الأرحام.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 9/503.

(2) من الحنفية.

(3) يقصد الشافعية.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى أمر اليتامى وصله بذكر المواريث، ونزلت الآية في أوس ابن ثابت الأنصاري، توفي وترك امرأة يقال لها: أم كحة وثلاث بنات له منها، فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه يقال لهما: سويد وعرفجة، فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته وبناته شيئا، وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا، ويقولون: لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الحيل، وطاعن بالرمح، وضارب بالسيف، وحاز الغنيمة، فذكرت أم كحة ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فدعاهما، فقالا: يا رسول الله، ولدها لا يركب فرسا، ولا يحمل كلا ولا ينكأ عدوا، فقال عليه السلام: (انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن)، فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم، وإبطالا لقولهم وتصرفهم بجهلهم، فإن الورثة الصغار كان ينبغي أن يكونوا أحق بالمال من الكبار، لعدم تصرفهم والنظر في مصالحهم، فعكسوا الحكم، وأبطلوا الحكمة فضلوا بأهوائهم، وأخطئوا في آرائهم وتصرفاتهم.

2. قال علماؤنا: في هذه الآية فوائد ثلاث: إحداها ـ بيان علة الميراث وهي القرابة، والثانية ـ عموم القرابة كيفما تصرفت من قريب أو بعيد، والثالثة ـ إجمال النصيب المفروض، وذلك مبين في آية المواريث، فكان في هذه الآية توطئة للحكم، وإبطال لذلك الرأي الفاسد حتى وقع البيان الشافي.

3. ثبت أن أبا طلحة لما تصدق بماله ـ بئر حاء ـ وذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له: (اجعلها في فقراء أقاربك) فجعلها لحسان وأبي، قال أنس: وكانا أقرب إليه مني، قال أبو داود: بلغني عن محمد بن عبد الله الأنصاري أنه قال أبو طلحة الأنصاري زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام يجتمعان في الأب الثالث وهو حرام، وأبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، قال الأنصاري: بين أبى طلحة وأبي ستة آباء، قال وعمرو بن مالك يجمع حسان وأبي بن كعب‏ وأبا طلحة، قال أبو عمر: في هذا ما يقضي على القرابة أنها ما كانت في هذا القعدد ونحوه، وما كان دونه فهو أحرى أن يلحقه اسم القرابة.

4. ﴿مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ أثبت الله تعالى للبنات نصيبا في الميراث ولم يبين كم هو، فأرسل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى سويد وعرفجة ألا يفرقا من مال أوس شيئا، فإن الله جعل لبناته نصيبا ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل ربنا، فنزلت‏ ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ إلى قوله تعالى‏ ﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ فأرسل إليهما (أن أعطيا أم كحة الثمن مما ترك أوس، ولبناته الثلثين، ولكما بقية المال)

5. استدلّ علماؤنا بهذه الآية في قسمة المتروك على الفرائض إذا كان فيه تغيير عن حاله، كالحمام والبيت وبيدر الزيتون والدار التي تبطل منافعها بإقرار أهل السهام فيها، فقال مالك: يقسم ذلك وإن لم يكن في نصيب أحدهم ما ينتفع به، لقوله تعالى: ﴿مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾، وهو قول ابن كنانة، وبه قال الشافعي، ونحوه قول أبي حنيفة، قال أبو حنيفة: في الدار الصغيرة بين اثنين فطلب أحدهما القسمة وأبى صاحبه قسمت له، وقال ابن أبي ليلى: إن كان فيهم من لا ينتفع بما يقسم له فلا يقسم، وكل قسم يدخل فيه الضرر على أحدهما دون الأخر فإنه لا يقسم، وهو قول أبي ثور، قال ابن المنذر: وهو أصح القولين، ورواه ابن القاسم عن مالك فيما ذكر ابن العربي، قال ابن القاسم: وأنا أرى أن كل ما لا ينقسم من الدور والمنازل والحمامات، وفي قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم، أن يباع ولا شفعة فيه، لقوله عليه السلام: (الشفعة في كل ما لا يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة)، فجعل عليه السلام الشفعة في كل ما يتأتى فيه إيقاع الحدود، وعلق الشفعة فيما لم يقسم مما يمكن إيقاع الحدود فيه، هذا دليل الحديث، قلت: ومن الحجة لهذا القول ما خرجه الدار قطني من حديث ابن جريج أخبرني صديق ابن موسى عن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: لا تعضية على أهل الميراث الا ما حمل القسم، قال أبو عبيد: هو أن يموت الرجل ويدع شيئا إن قسم بين ورثته كان في ذلك ضرر على جميعهم أو على بعضهم، يقول: فلا يقسم، وذلك مثل الجوهرة والحمام والطيلسان وما أشبه ذلك، والتعضية التفريق، يقال: عضيت الشيء إذا فرقته، ومنه قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ فنفى المضارة، وكذلك قال عليه السلام: (لا ضرر ولا ضرار)، وأيضا فإن الآية ليس فيها تعرض للقسمة، وإنما اقتضت الآية وجوب الحظ والنصيب للصغير والكبير قليلا كان أو كثيرا، ردا على الجاهلية فقال: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ﴾ وهذا ظاهر جدا، فأما إبراز ذلك النصيب فإنما يؤخذ من دليل آخر، وذلك بأن يقول الوارث: قد وجب لي نصيب بقول الله عز وجل فمكنوني منه، فيقول له شريكه: أما تمكينك على الاختصاص فلا يمكن، لأنه يؤدي إلى ضرر بيني وبينك من إفساد المال، وتغيير الهيئة، وتنقيص القيمة، فيقع الترجيح، والأظهر سقوط القسمة فيما يبطل المنفعة وينقص المال مع ما ذكرناه من الدليل، قال الفراء: (نصيبا مفروضا) هو كقولك: قسما واجبا، وحقا لازما، فهو اسم في معنى المصدر فلهذا انتصب، الزجاج: أنتصب على الحال، أي لهؤلاء أنصباء في حال الفرض، الأخفش: أي جعل الله ذلك لهم نصيبا، والمفروض: المقدر الواجب.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/46.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر سبحانه حكم أموال اليتامى وصله بأحكام المواريث، وكيفية قسمتها بين الورثة، وأفرد سبحانه ذكر النساء بعد ذكر الرجال، ولم يقل: للرجال والنساء نصيب، للإيذان بأصالتهنّ في هذا الحكم، ودفع ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريث النساء، وفي ذكر القرابة بيان لعلة الميراث، مع التعميم لما يصدق عليه مسمى القرابة من دون تخصيص.

2. ﴿مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ﴾ بدل من قوله: ﴿مِمَّا تَرَكَ﴾ بإعادة الجار، والضمير في قوله: ﴿مِنْهُ﴾ راجع إلى المبدل منه، وقوله: ﴿نَصِيبًا﴾ منتصب على الحال، أو على المصدرية، أو على الاختصاص، وسيأتي ذكر السبب في نزول هذه الآية إن شاء الله، وقد أجمل الله سبحانه في هذه المواضع قدر النصيب المفروض، ثم أنزل قوله: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ فبين ميراث كل فرد.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/494.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلرِّجَالِ﴾ للذكور بلَّغًا أو أطفالاً، أولادًا أو غير أولاد ﴿نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالَاقْرَبُونَ﴾ من المال ﴿وَلِلنِّسَآءِ﴾ الإناث بلَّغًا أو غير بلَّغ، أولاد أو غير أولاد ﴿نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالَاقْرَبُونَ﴾ لم يقل: للرجال والنساء نصيب، بل خصهنَّ بكلام مستقلٍّ لتأكيد أمرهنَّ وأصالتهنَّ في الإرث، وتأكيد إبطال أمر الجاهليَّة في حرمانهنَّ، ولا ذكر للأزواج هنا بل أدخلهم الله في خلال إرث القرابة.

2. ﴿مِمَّا﴾ بدل من (مِمَّا)، ولا يضرُّ اتِّفاقهما للتخالف بما بعدهما، واللفظ متَّفق ولو بدون (من)، ويجوز كونه حالاً من هاء (تركه) المحذوفة، ﴿قَلَّ مِنْهُ﴾ أي: مِمَّا ترك ﴿أَوْ كَثُرَ﴾ منه، لا يختصُّ وارث ببعضٍ، كرمح وآلة فرس لرجل، وكخمار لامرأة، والإماميَّة خصُّوا الابن الكبير بالفرس وآلته والسيف والمصحف والخاتم والثوب البدنيِّ من تركة الميِّت بلا عوض عند أكثرهم، وهو مخالف لكلام الله تعالى، كعدم توريث النساء من العقار، ﴿نَصِيبًا مَّفْرُوضًا﴾ نصبه الله نصيبًا مفروضًا، وهو تأكيد لِمَا قبله على أنَّه مصدر، أو حال كونه نصيبًا مفروضًا، وصاحب الحال (نصيب) الأوَّل، أو حال من ضميره في (مِمَّا)، أو من الضمير في (قَلَّ أو كثر) أو من المستتر في (لِلرِّجَالِ)، أو أعني نصيبًا، أو بمعنى عطاء أو استحقاقًا، أي: أعطوهم عطاء، أو استحقُّوه استحقاقًا، أو أوجب نصيبًا.

3. دلَّت الآية أنَّ التركة داخلة في ملك الوارث بلا قبول، ولو انتفى منها، فإن أراد أخرجها من ملكه لمن يقبلها منه أو لوجه آخر إِلَّا ما أوصى به الميِّت فلمن أوصى له به، ولكن له أيضًا أن يعطيه قيمته إن قال: أعطوه كذا قضاء لكذا درهمًا، أو: أنفِذُوا منه كذا، وإن كانت حرامًا أو شبهة انتفى منها، وهذه الآية مبدأ للإرث إجمالاً، للتدريج عمَّا ألفوه في الجاهليَّة من ميراث على وجه مخالف للحقِّ، ومن المنع لمن يستحقُّ، ولو غَيَّرَ عليهم دفعة لاشتدَّ عليهم الأمر، وكانوا لا يورِّثون النساء والأطفال والضعفاء بمرض أو غيره، وكلُّ من لا يقاتل عن الحوزة، ويجلب الغنيمة، فنزَّلهم عن ذلك تدريجًا بإجمال، كما رأيت: (للرجال نصيب وللنساء نصيب)، ثمَّ تفصيلاً كما تتلوه.

4. كما روي أنَّ أوس بن ثابت أخا حسان أو أوس بن الصامت بن عبادة، والأوَّل أصحُّ، وكلاهما من الأنصار، استشهد بأحد وخلَّف زوجه أم كُحَّة (بضمِّ الكاف وشدِّ الحاء المهملة)، وثلاث بنات، وأمَّا ابن الصامت فمات في خلافة عثمان، فأخذ ابنا عمِّ أوسِ بنِ ثابت سويدُ وعرفطةُ ـ أو هما قتادةُ وعرفجةُ ـ مَالَه كلَّه، فجاءت أمُّ كحَّة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مسجد (الفضيخ) فشكت إليه أنَّهما ما دفعا إليَّ شيئًا، ولا إلى بناته وهنَّ في حجري، وما عندي ما أنفق عليهنَّ، فقال: (ارجعي حتَّى أنظر ما يحدث الله) وقالا: (يا رسول الله، أولادها لا يركبن فرسًا، ولا يحملن كلًّا، ولا ينكينَ عدوًّا)، فنزلت، فبعث إليهما لا تفرقا من مال أوس شيئًا، فإنَّ الله قد جعل للبنات نصيبًا، ولم يُبَيِّن، حتَّى يُبَيِّن، ثمَّ نزل: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ الآية، فأعطى أمَّ كحَّة الثُّمُن والبنات الثلثين والباقي لابني العمِّ.

5. في الآية تأخير البيان عن وقت الخطاب، لكن لم يمض ما يفوت به الأمر، فليس تأخيرًا عن وقت الحاجة، والفرض والواجب مترادفان في المطلوب طلبًا جازمًا، سواءً بقطعيٍّ، مثل قوله تعالى: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ﴾ [ المزَّمِّل: 20]، أو بِظَنِّيٍّ كخبر الآحاد، كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا صلاة إِلَّا بفاتحة الكتاب)، ومفهوم الوجوب الثبوت، ومفهوم الفرض التوقيت والحزُّ والقطع.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/121.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم ذكر تعالى أحكام المواريث بقول سبحانه: ﴿لِلرِّجَالِ﴾ أي الأولاد والأقرباء ﴿نَصِيبٍ﴾ أي حظ ﴿مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ أي المتوفون‏ ﴿وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ﴾ أي المال.

2. ﴿أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ أي مقطوعا واجبا لهم، وإيراد حكم النساء على الاستقلال دون الدرج في تضاعيف أحكام الرجال، بأن يقال للرجال والنساء.. للاعتناء بأمرهن، والإشارة من أول الأمر إلى تفاوت ما بين نصيبي الفريقين، والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية، فإنهم كانوا لا يورّثون النساء والأطفال، ويقولون، لا يرث إلا من طاعن بالرماح، وذاد عن الحوزة، وحاز الغنيمة.

3. وقد استدلّ بالآية على توريث ذوي الأرحام لأنهم من الأقربين، وهو استدلال وجيه، ولا حجة لمن حاول دفعه.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/33.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أخرج أبو الشيخ وابن حبان في كتاب الفرائض من طريق الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار الذكور حتى يدركوا فمات رجل من الانصار يقال له أوس بن ثابت وترك ابنتين وابنا صغيرا، فجاء ابنا عمه خالد وعرطفة ـ وهما عصبته ـ فأخذا ميراثه كله فأتت امرأته رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكرت له ذلك فقال: ما أدرى ما أقول فنزلت: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ ذكره السيوطي في لباب النقول، وطريق الكلبى‏ عن أبى صالح هي أو هي الطرق عن ابن عباس وأضعفها، وأخرج ابن جرير في تفسيره عن ابن جريج عن عكرمة قال نزلت في أم كحلة وابنة كحلة وثعلبة وأوس بن سويد وهم من الانصار كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها، فقالت: يا رسول الله توفى زوجى وتركنى وابنته فلم نورث، فقال عم ولدها يا رسول الله لا تركب فرسا ولا تحمل كلا ولا تنكى عدوا، نكسب عليها ولا تكسب، فنزلت الآية، وروى عن قتادة وابن زيد أنها نزلت في ابطال ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريث النساء، زاد ابن زيد ولا الصغار، لم يذكروا واقعة معينة.

2. قال محمد عبده: جمهور المفسرين على أن هذا الكلام جديد وهو انصراف عن الموضوع قبله ولكن قوله تعالى بعد ثلاث آيات:‏ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ الخ يدل على أن الكلام في شأن اليتامى لا يزال متصلا، فإنه بعد أن بين التفصيل في حرمة أكل أموال اليتامى وأمر باعطائهم أموالهم إذا رشدوا ذكر أن المال الموروث الذي يحفظه الأولياء لليتامى يشترك فيه الرجال والنساء خلافا لما كان في الجاهلية من عدم توريث النساء فهذا تفصيل آخر في المال نفسه بعد ذلك التفصيل في الاعطاء ووقته وشرطه، ومال اليتامى إنما يكون في الاغلب من الوالدين والاقربين، فمعنى الآية: إذا كان لليتامى مال مما تركه لهم الوالدون والأقربون فهم فيه على الفريضة لا فرق في شركة النساء والرجال فيه بين القليل والكثير، ولهذا كرر ﴿مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ وعنى بقوله‏ ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ انه حق معين مقطوع به لا محاباة فيه وليس لأحد أن ينقصهم منه شيئا

3. زيادة في ايضاح رأى محمد عبده: إن الأوامر والنواهي في الآيات السابقة كانت في ابطال ما كانت عليه العرب في الجاهلية من هضم حق الضعيفين اليتيم والمرأة وبيان حقوق اليتامى والزوجات ومنع ظلمهن فمنع فيها أكل أموال اليتامى بضمها إلى أموال الاولياء أو بالاستبدال الذي يؤخذ فيه جيد اليتيم ويعطى رديئا بدله ومنع أكل مهور النساء أو عضلهن للتمتع بأموالهن أو تزويجهن بغير مهر أو الاستكثار منهن لاكل أموالهن وغير ذلك من ظلمهن ـ فكما حرم هذا كله فيما تقدم حرم في هذه الآية منع توريث المرأة والصغير ـ فالكلام لا يزال في حقوق اليتامى والنساء ومنع‏ الظلم الذي كان يصيب كلا منهما، وذكر بلفظ الرجال والنساء لأن الحكم فيه عام‏.

4. من مباحث اللفظ أن قوله‏ ﴿مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ﴾ بدل مما قبله وقوله‏ ﴿نَصِيبًا﴾ منصوب على الاختصاص بمعنى أعنى نصيبا مفروضا أو على المصدر المؤكد كقوله‏ ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ كأنه قال قسمة مفروضة، كذا في الكشاف وجوز غيره انتصابه على الحال.

__________

(1) تفسير المنار: ‏4/395.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السابقة حرمة أكل أموال اليتامى وأمر بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا، ومنع أكل مهور النساء أو تزويجهن بغير مهر، ذكر هنا أن المال الموروث الذي يحفظه الأولياء لليتامى يشترك فيه الرجال والنساء، وقد كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء الأولاد الصغار، ويقولون لا يرث إلا من طاعن بالرماح وحاز الغنيمة، ثم أمر بإحسان القول إلى اليتامى، لأن اليتيم مرهف الحسّ يألم للكلمة تهينه، ولا سيما ذكر أبيه وأمه بسوء، وقلما يوجد يتيم لا يمتهن ولا يقهر بالسوء من القول، ثم طلب الإشفاق عليهم ومعاملتهم بالحسنى، فربما يترك الميت ذرية ضعافا يود أن غيره يعاملهم بمثل هذه المعاملة، وبعدئذ شدد في الوعيد، ونفرّ من أكل أموال اليتامى ظلما وجعل أكله كأكل النار.

2. ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ أي إذا كان لليتامى مال مما تركه لهم الوالدان والأقربون فهم فيه سواء، لا فرق بين الرجال والنساء، ولا فرق بين كونه كثيرا أو قليلا، وأتى بقوله نصيبا مفروضا، لبيان أنه حق معين مقطوع به ليس لأحد أن ينقص منه شيئا ولا أن يحابى فيه.

__________

(1) تفسير المراغى: 4/191.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هنا يجيء ذكر الميراث، وأحكامه، بعد ذكر اليتامى، ومالهم على الأوصياء ـ الذين هم من أقارب المورّث غالبا ـ من حقوق، فاليتم لا يكون إلا بعد موت الوالدين، وخاصة الأب، وكذلك الميراث، لا تقوم أحكامه إلا بعد موت المورّث.

2. في قوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾.. الآية) حكم عام مجمل للميراث، وستجيء الآيات بعد ذلك بأحكامه مفصلة مخصّصة.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/705.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ استئناف ابتدائي، وهو جار مجرى النتيجة لحكم إيتاء أموال اليتامى، ومجرى المقدّمة لأحكام المواريث التي في قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء: 11]

2. مناسبة تعقيب الآي السابقة بها: أنّهم كانوا قد اعتادوا إيثار الأقوياء والأشدّاء بالأموال، وحرمان الضعفاء، وإبقاءهم عالة على أشدّائهم حتّى يكونوا في مقادتهم، فكان الأولياء يمنعون عن محاجيرهم أموالهم، وكان أكبر العائلة يحرم إخوته من الميراث معه فكان أولئك لضعفهم يصبرون على الحرمان، ويقنعون بالعيش في ظلال أقاربهم، لأنّهم إن نازعوهم أطردوهم وحرموهم، فصاروا عالة على الناس، وأخصّ الناس بذلك النساء فإنّهن يجدن ضعفا من أنفسهنّ، ويخشين عار الضيعة، ويتّقين انحراف الأزواج، فيتّخذن رضى أوليائهنّ عدّة لهنّ من حوادث الدهر، فلمّا أمرهم الله أن يؤتوا اليتامى أموالهم، أمر عقبه بأمرهم بأن يجعلوا للرجال والنساء نصيبا ممّا ترك الوالدان والأقربون.

3. إيتاء مال اليتيم تحقيق لإيصال نصيبه ممّا ترك له الوالدان والأقربون، وتوريث القرابة إثبات لنصيبهم ممّا ترك الوالدان والأقربون، وذكر النساء هناك تمهيدا لشرع الميراث، وقد تأيّد ذلك بقوله: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى﴾ [النساء: 8] فإنّ ذلك يناسب الميراث، ولا يناسب إيتاء أموال اليتامى.

4. ولا جرم أنّ من أهمّ شرائع الإسلام شرع الميراث، فقد كان العرب في الجاهلية يجعلون أموالهم بالوصيّة لعظماء القبائل ومن تلحقهم بالانتساب إليهم حسن الأحدوثة، وتجمعهم بهم صلات الحلف أو الاعتزاز والودّ، وكانوا إذا لم يوصوا أو تركوا بعض مالهم بلا وصية يصرف لأبناء الميّت الذكور، فإن لم يكن له ذكور فقد حكي أنّهم يصرفونه إلى عصبته من إخوة وأبناء عمّ، ولا تعطى بناته شيئا، أمّا الزوجات فكنّ موروثات لا وارثات، وكانوا في الجاهلية لا يورثون بالبنوّة إلّا إذا كان الأبناء ذكورا، فلا ميراث للنساء لأنّهم كانوا يقولون إنّما يرث أموالنا من طاعن بالرمح، وضرب بالسيف، فإن لم تكن الأبناء الذكور ورث أقرب العصبة: الأب ثمّ الأخ ثمّ العمّ وهكذا، وكانوا يورثون بالتبنّي وهو أن يتّخذ الرجل ابن غيره ابنا له فتنعقد بين المتبنّي جميع أحكام الأبوّة، ويورثون أيضا بالحلف وهو أن يرغب رجلان في الخلّة بينهما فيتعاقدا على أنّ دمهما واحد ويتوارثا، فلمّا جاء الإسلام لم يقع في مكّة تغيير لأحكام الميراث بين المسلمين لتعذّر تنفيذ ما يخالف أحكام سكّانها، ثمّ لمّا هاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبقي معظم أقارب المهاجرين المشركون بمكّة صار التوريث: بالهجرة، فالمهاجر يرث المهاجر، وبالحلف، وبالمعاقدة، وبالأخوّة التي آخاها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بين المهاجرين والأنصار، ونزل في ذلك قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ [النساء: 33] الآية من هاته السورة.

5. وشرع الله وجوب الوصية للوالدين والأقربين بآية سورة البقرة، ثم توالد المسلمون ولحق بهم آباؤهم وأبناؤهم مؤمنين، فشرع الله الميراث بالقرابة، وجعل للنساء حظوظا في ذلك فأتمّ الكلمة، وأسبغ النعمة، وأومأ إلى أنّ حكمة الميراث صرف المال إلى القرابة بالولادة وما دونها، وقد كان قوله تعالى: ﴿وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ أوّل إعطاء لحقّ الإرث للنساء في العرب.

6. ولكون هذه الآية كالمقدّمة جاءت بإجمال الحقّ والنصيب في الميراث وتلاه تفصيله، لقصد تهيئة النفوس، وحكمة هذا الإجمال حكمة ورود الأحكام المراد نسخها إلى أثقل لتسكن النفوس إليها بالتدريج.

7. النصيب تقدّم عند قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ في سورة آل عمران [23] وقوله: بيان لـ ﴿مِمَّا تَرَكَ﴾ لقصد تعميم ما ترك الوالدان والأقربون وتنصيص على أنّ الحقّ متعلّق بكلّ جزء من المال، حتّى لا يستأثر بعضهم بشيء، وقد كان الرجل في الجاهلية يعطي أبناءه من ماله على قدر ميله كما أوصى نزار بن معدّ بن عدنان لأبنائه: مضر، وربيعة، وإياد، وأنمار، فجعل لمضر الحمراء كلّها، وجعل لربيعة الفرس، وجعل لإياد الخادم، وجعل لأنمار الحمار، ووكلهم في إلحاق بقية ماله بهاته الأصناف الأربعة إلى الأفعى الجرهمي في نجران، فانصرفوا إليه، فقسم بينهم، وهو الذي أرسل المثل: إنّ العصا من العصيّة.

8. ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ حال من‏ ﴿نَصِيبٍ﴾ في قوله: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ‏ ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ‏﴾ وحيث أريد بنصيب الجنس جاء الحال منه مفردا ولم يراع تعدّده، فلم يقل: نصيبين مفروضين، على اعتبار كون المذكور نصيبين، ولا قيل: أنصباء مفروضة، على اعتبار كون المذكور موزّعا للرجال وللنساء، بل روعي الجنس فجي‏ء بالحال مفردا و﴿مَفْرُوضًا﴾ وصف، ومعنى كونه مفروضا أنّه معيّن المقدار لكلّ صنف من الرجال والنساء، كما قال تعالى في الآية الآتية ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ [النساء: 11]، وهذا أوضح دليل على أنّ المقصود بهذه الآية تشريع المواريث.

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/38.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ هذه قاعدة عامة لأصل التوريث في الإسلام، وهى قاعدة أن الرجال لا يختصون بالميراث، بل للنساء معهم حظ مقسوم، ونصيب مفروض، سواء أكان قليلا أم كان كثيرا، وهذا إبطال لما كان يقع في الجاهلية من حرمان النساء من الميراث وقصره على الرجال، وذكر في هذا الموضع عند الكلام في شؤون اليتامى؛ لأن الظلم عليهم كما يقع في أموالهم الثابتة، قد يقع في أموالهم التي تئول إليهم من مورّثيهم، فهذا النص أفاد دفع الظلم عن ضعيفين هما المرأة واليتيم، أفاد دفع الظلم عن المرأة بالنص، وأفاد دفع الظلم عن اليتيم بالإشارة، وسيصرح القرآن‏ الكريم بذلك في قوله سبحانه: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾

2. ولقد روى ابن عباس أنه قال كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار الذكور حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن ثابت وترك ابنتين وابنا صغيرا، فجاء ابنا عمه ـ وهما عصبته ـ فأخذا ميراثه كله، فأتت امرأته رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وذكرت ذلك، فنزل قوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾

3. وقد ذكر سبحانه الحق مرتين، فذكره أولا للرجال فقال: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ ثم ذكره ثانيا للنساء فقال: ﴿وَلِلنِّسَاءِ﴾ وذلك ليؤكد حقهم، وليبين أنه حق مستقل عن حق الرجل، ثبت لها استقلالا بالقرابة، كما ثبت له استقلالا بالقرابة، حتى لا يتوهم أحد أن حقها تابع لحقه بأي نوع من أنواع التبعية.

4. ثم أكد سبحانه الحق بقوله: ﴿مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ هذا تأكيد لحق النساء في التركة، وقد أكده مرتين:

أ. أولاهما: أنه يجب في كل تركة قليلة أو كثيرة فليس حقها تسامحا يعطى، ولكنه حق ثابت، لا يقدّم حق للرجل، ويؤخر حق المرأة، بل يثبتان معا في القليل والكثير، ولا تسامح في القليل.

ب. ثانيهما: قوله: ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ وهى منصوبة على الاختصاص، والاختصاص يفيد العناية أي قدرا عناه الله تعالى وقصده مَفْرُوضاً أي مقطوعا لا سبيل إلى الهوادة فيه، والاكتفاء ببعضه نزرا يسيرا، أو مقدارا كبيرا، فلا بد من إعطائه كاملا غير منقوص.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1595.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾، الوالدان واضحان، والأقربون عام لكل ذي رحم بما فيهم الأبناء وان نزلوا، والآباء وان علوا، والاخوة والأخوات وأولادهم، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات وأولادهم، ذكورا وإناثا، كبارا وصغارا، درهما كان المال أو قنطارا.. ومبدأ الإرث للجميع حتم في الشريعة الإسلامية، لا تجوز مخالفته بحال، بدليل قوله تعالى: ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾، وهو إبطال لما كان عليه أهل الجاهلية من حرمان الإناث والذكور الصغار، لا لشيء إلا لأنهم لا يركبون فرسا، ولا يردون عاديا.. فأثبت الإسلام حق الإرث للإنسان على أساس طبيعته الإنسانية، لا على أساس ضربه بالسيف، وطعنه بالرمح.

2. استدل الشيعة بهذه الآية على بطلان التعصيب الذي أثبته السنة، ونفاه الشيعة ـ وسنتعرض له قريبا ـ ومؤداه توريث الرجال دون النساء في بعض الحالات، منها إذا كان للميت بنت وابن أخ، وبنت أخ فإن السنة يعطون النصف للبنت، والنصف الآخر لابن الأخ، ولا شيء لأخته، مع انها في درجته ومساوية له، ومنها إذا كان له أخت وعم وعمة فإنهم يوزعون التركة بين البنت والعم، ويحرمون العمة.. فالقرآن يورث النساء والرجال، وهم يورثون الرجال، دون النساء، أما الشيعة فإنهم يعطون التركة كلها للبنت في الصورة الأولى الثانية، لأنها أقرب إلى الميت من أخيه وابن أخيه، وبالأولى من عمه.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/258.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شروع في تشريع أحكام الإرث بعد تمهيد ما مهدت من المقدمات، وقد قدم بيان جملي لحكم الإرث من قبيل ضرب القاعدة لإيذان أن لا حرمان في الإرث بعد ثبوت الولادة أو القرابة حرمانا ثابتا لبعض الأرحام والقرابات كتحريم صغار الورثة والنساء، وزيد مع ذلك في التحذير عن تحريم الأيتام من الوراثة فإنه يستلزم أكل سائر الورثة أموالهم ظلما وقد شدد الله في النهي عنه، وقد ذكر مع ذلك مسألة رزق‏ أولي القربى واليتامى والمساكين إذا حضروا قسمة التركة ولم يكونوا ممن يرث تطفلا.

2. ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ الآية، النصيب‏ هو الحظ والسهم، وأصله من النصب بمعنى الإقامة لأن كل سهم عند القسمة ينصب على حدته حتى لا يختلط بغيره، والتركة ما بقي من مال الميت بعده كأنه يتركه ويرتحل فاستعماله الأصلي استعمال استعاري ثم ابتذل، والأقربون‏ هم القرابة الأدنون، واختيار هذا اللفظ على مثل الأقرباء وأولي القربى ونحوهما لا يخلو من دلالة على أن الملاك في الإرث أقربية الميت من الوارث على ما سيجي‏ء البحث عنه في قوله تعالى: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾

3. الفرض‏ قطع الشيء الصلب وإفراز بعضه من بعض، ولذا يستعمل في معنى الوجوب لكون إتيانه وامتثال الأمر به مقطوعا معينا من غير تردد، والنصيب المفروض هو المقطوع المعين.

4. في الآية إعطاء للحكم الكلي وتشريع لسنة حديثة غير مألوفة في أذهان المكلفين، فإن حكم الوراثة على النحو المشروع في الإسلام لم يكن قبل ذلك مسبوقا بالمثل وقد كانت العادات والرسوم على تحريم عدة من الوراث عادت بين الناس كالطبيعة الثانية تثير النفوس وتحرك العواطف الكاذبة لو قرع بخلافها أسماعهم.

5. وقد مهد له في الإسلام أولا بتحكيم الحب في الله والإيثار الديني بين المؤمنين فعقد الإخوة بين المؤمنين ثم جعل التوارث بين الأخوين، وانتسخ بذلك الرسم السابق في التوارث، وانقلع المؤمنون من الأنفة والعصبية القديمة ثم لما اشتد عظم الدين، وقام صلبه شرع التوارث بين أولي الأرحام في حين كان هناك عدة كافية من المؤمنين يلبون لهذا التشريع أحسن التلبية.

6. وبهذه المقدمة يظهر أن المقام مقام التصريح ورفع كل لبس متوهم بضرب القاعدة الكلية بقوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾، فالحكم مطلق غير مقيد بحال أو وصف أو غير ذلك أصلا، كما أن موضوعه أعني الرجال عام غير مخصص بشيء متصل فالصغار ذوو نصيب كالكبار.

7. ثم قال ﴿وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ وهو كسابقه عام من غير شائبة تخصيص فيعم جميع النساء من غير تخصيص أو تقييد، وقد أظهر في قوله‏ ﴿مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ مع أن المقام مقام الإضمار إيفاء لحق التصريح والتنصيص.

8. ثم قال: ﴿مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ﴾ زيادة في التوضيح وأن لا مجال للمسامحة في شيء منه لقلة وحقارة، ثم قال: ﴿نَصِيبًا﴾ إلخ، وهو حال من النصيب لما فيه من المعنى المصدري، وهو بحسب المعنى تأكيد على تأكيد وزيادة في التنصيص على أن السهام مقطوعة معينة لا تقبل الاختلاط والإبهام.

9. استدلّ بالآية على عموم حكم الإرث لتركة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وغيره، وعلى بطلان التعصيب في الفرائض.

10. في المجمع في قوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ﴾ الآية: اختلف الناس في هذه الآية على قولين: أحدهما أنها محكمة غير منسوخة، وهو المروي عن الباقر عليه السلام.. وعن تفسير علي بن إبراهيم أنها منسوخة بقوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ الآية، ولا وجه له، وقد ظهر في البيان السابق أن الآية بيان كلي لحكم المواريث ولا تنافي بينها وبين سائر آيات الإرث المحكمة حتى يقال بانتساخها بها.

11. في الدر المنثور، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة: في الآية قال نزلت في أم كلثوم وابنة أم كحلة أو أم كحلة ـ وثعلبة بن أوس وسويد وهم من الأنصار ـ كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها فقالت: يا رسول اللهـ توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورث من ماله فقال عم ولدها: يا رسول الله لا تركب فرسا ولا تنكي عدوا ـ ويكسب عليها ولا تكتسب، فنزلت: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾ الآية.. وفي بعض الروايات عن ابن عباس أنها نزلت في رجل من الأنصار مات وترك ابنتين فجاء ابنا عمه وهما عصبته فقالت امرأته تزوجا بهما ـ وكان بهما دمامة فأبيا فرفعت الأمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزلت آيات المواريث، الرواية، ولا بأس بتعدد هذه الأسباب كما مر مرارا.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/199.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿الْوَالِدَانِ﴾ الأب والأم، وما تركا ما خلفا بعد موتهما من الميراث ﴿وَالْأَقْرَبُونَ﴾ الأصول والفروع: البنون وبنوهم وبناتهم وبنو بنيهم ما سفلوا من الذكور، وكذلك الأصول: الآباء والأجداد من طريق الآباء والجدات من طريقهم والأمهات وأمهاتهن، فالوالدان قد ذكرا والأجداد والجدات مع عدمهما كما هو مفصل في الفرائض، وكذلك من الأقربين الإخوة لأبوين أو لأب أو لأم وميراثهم في بعض صور الميراث.

2. في هذه السورة تفسير مواريث الوالدين والإخوة الأولاد، فصَّل فيها ما أجمل في هذه الآية المباركة التي أسست ميراث النساء ﴿مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ﴾ وقد كانت الجاهلية لا يورثونهن فيما يقال، وآثارها باقية إلى الآن فعند بعض الجاهلين الظالمين يكون ميراث المرأة اسماً بلا مسمى، وقد جعله الله ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ فرضه الله لهن وأوجبه لهن.

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/14.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآية إجمال لما سيفصله القرآن في هذه السورة من النظام الإسلامي للإرث؛ وقد أكدت على خط الإسلام في إعطاء المرأة نصيبا مفروضا من التركة، كما هو الحال في إعطاء الرجل نصيبا منها ـ قليلا كان أو كثيرا ـ لأنه لا فرق بينهما في الأساس الذي ارتكز عليه هذا النظام، وإن افترقا في بعض التفاصيل في ما سنفصّله من حديث؛ وذلك على خلاف النظام المتبع في الجاهلية من منع المرأة حقها من ذلك لكونها لا تقدّم شيئا للمعركة مما يقدّمه الرجل في الدفاع عن العشيرة، ولا تقدّم شيئا للإنتاج في ما يقدّمه للعائلة من جهده الذاتي؛ فكان الإرث للأبناء، وربما كان للولد الأكبر بالذات، لأنه الذي يقوم مقام الأب في رعاية شؤون العائلة، في المقابل لا تنطلق النظرة الإسلامية من المكاسب التي يحصل عليها الآخرون من خلال الوارث، ليكون ذلك هو الفارق في إعطاء هذا الحق؛ بل ترتكز على أساس المفهوم الإسلامي في العلاقات الإنسانية بين الأرحام، وفي نظريته في توزيع الثروة، مما يجعل دور المرأة والرجل على حدّ سواء من ناحية المبدأ.

2. ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾ أي حصة وسهم من دون فرق بين الكبار والصغار ﴿مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ من المال الذي بقي له من مجموع ما كان عنده فتركه وارتحل، والأقربون هم القرابة الأدنون، ﴿وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ أي جميع النساء ومن غير تخصيص، فلهنّ الحق بالإرث كمورد خاص من التركة، لأن موقع المرأة في الحقوق الإنسانية المرتبطة بعنصر القرابة لا يختلف عن موقع الرجل، وإذا كان للرجل دور مهم في الحياة الاقتصادية، فإنّ لها دورا لا ينقص عنه في الأهمية، فلو لا رعايتها للبيت في كل شؤونه وحضانتها للأولاد وعنايتها بالزوج والأب والولد والأم‏ والأخ، لما استطاع الرجل أن يتفرغ لعمله الإنتاجي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن للمرأة أكثر من فرصة للإنتاج في عملها اليدوي والذهني في مختلف مجالات الواقع الاقتصادي، كما أن لها أكثر من دور في عملية المواجهة للعدوّ، وتحمل أثقال المسؤوليات العامة والخاصة، في الحالات التي تتوفر فيها الظروف المحيطة لتحقيق الشروط اللازمة للقيام بذلك في الحرب والسلم، لأن الواقع الذي كانت تعيش فيه المرأة أبعدها عن ساحة الحركة الفاعلة في القضايا العامة.

3. ﴿مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ﴾ أي من كل ما يتركه الميت من قليل المال وكثيره، لأن القضية ليست في حجم المال بل في المبدأ، ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ أي حطّا لازما في الحدود الشرعية التي فرضها الله للوارثين.

4. أثارت هذه الآية جدلا فقهيا بين المسلمين، فقد استدلّ بها على بطلان القول بالعصبة ـ كما في مجمع البيان ـ لأن الله تعالى فرض الميراث للرجال وللنساء، فلو جاز منع النساء من الميراث في موضع لجاز أن يجري الرجال مجراهنّ في المنع من الميراث‏، فكما أن الطبقة المتأخرة من الرجال لا يشاركون الطبقة المتقدمة، والإخوة لا يشاركون الأولاد، فكذلك الأمر في النساء، فلا مجال لمشاركة إخوة الميت للبنات، أو الأعمام والأخوال للأخوات.

5. واستدل بها على أن ذوي الأرحام يرثون لأنهم من جملة النساء والرجال الذين مات عنهم الأقربون كما استدلّ بها على عموم حكم الإرث للأنبياء ولغيرهم، فلا يختص غير النبي بالإرث ليخرج منه النبي، خلافا لما ذهب إليه البعض من أن الأنبياء لا يورثون أولادهم شيئا.

6. قد يكون من المفيد ـ في هذا المجال ـ أن نقف وقفة تأمل، لنفهم الأسس الإنسانية والاقتصادية التي انطلق منها الإسلام في هذا النظام الاقتصادي من شريعته.

7. إن المفهوم الإسلامي لعلاقات القرابة بين الآباء والأبناء، أو بين ذوي القربى، أو بين الأزواج، هو أنها تمثل خليّة ـ حيّة ـ من ـ خلايا المجتمع تحقق لأفراده نوعا من الترابط الروحي والعاطفي والاقتصادي، سواء كان ذلك في نطاق الحياة التي يعيشون فيها معا، في ما تفرضه عليهم العلاقات من مسئوليات، أو كان ذلك في نطاق الذين تركوا الحياة تجاه الذين لا زالوا يعيشون فيها، ففي الحالة الأولى، هناك تنظيم لعلاقة الأب والأم بولدهما، وبالعكس، في وجوب الإنفاق؛ فيجب على الطرف القادر ماليا أن يعيل غير القادر، من دون اعتبار لعامل السنّ؛ وكذلك الحال في علاقة الزوجة بزوجها، ولكن من طرف الزوج لا من جانب الزوجة، وفي الحالة الثانية هناك تخطيط لتوزيع التركة على الأقرباء أو الأزواج، من أجل إبقاء الامتداد العملي للعلاقة محفوظا بعد الموت.

8. سؤال وإشكال: قد يثأر سؤال في هذا المجال، لماذا كل هذه التعقيدات والمشاكل المتنوعة التي يثيرها نظام الإنفاق في داخل العائلة، أو نظام الإرث في توزيع التركة؟ ولماذا لا تكون التركة كلها للدولة، أو يكون الإنتاج كله لها، لتضع للأمة تخطيطا تفصيليا يضع الحلول للمشاكل في النطاق الطبيعي‏ الذي يدرس الأمور بطريقة واقعية تملك القدرة على تنفيذه، في ما تملكه الدولة من إمكانات التخطيط والتنفيذ، بينما نجد هذا النظام يجعل الأمور في نطاق المسؤوليات الفردية المرتكزة على أساس العلاقات الخاصة، مما يحدث إرباكا في طريقة التوزيع والتنفيذ؟ والجواب:

أ. أن من أهداف التشريع الإسلامي في الأمور المالية والعبادية والاجتماعية، هو تربية الإنسان على القيم التي يريد إثارتها في تكوينه الإنساني؛ الأمر الذي يجعل النتائج التربوية والعملية الحاصلة من قيام الأفراد بمسؤولياتهم تجاه بعضهم البعض بشكل مباشر، لا تحصل للمجتمع من جعل الأمور كلها بيد الدولة، وقد يكون من بين هذه الأهداف تعميق الروابط الروحية والعملية بين أفراد المجتمع ليبني المجتمع على أساس ثابت متين، فإذا أعطينا الدولة كل المسؤوليات، ولم نجعل للأفراد أية مسئولية تجاه الآخرين، فإنّ ذلك يسبب التقاء العلاقات كلها بالدولة، وعدم وجود أساس قويّ لنشوء علاقات متينة بين أفراد المجتمع إلا بشكل جزئي؛ فلا تبقى هناك بين الأب وأولاده أو بين الزوج وزوجته، سوى العلاقات العاطفية التي لا يتاح لها الامتداد والعمق، لفقدان عنصر المسؤولية في ذلك كله؛ وبهذا يتحول الناس إلى أفراد ترعاهم الدولة أو مجتمع تتحكّم سلطتها في علاقاته، فتتمثل فيها الأوضاع الرسمية القانونية بعيدا عن الروحية الحقيقة الخالصة؛ وهذا ما كنا نشاهده في المجتمعات الشيوعية والرأسمالية التي جردت الإنسان من كثير من مسئولياته الفردية تجاه الآخرين، مما خفف روحه وعاطفته وحوّله إلى مجرد شيء من الأشياء، ولم تعد العلاقات الإنسانية بالمستوى الذي يعيش فيه الإنسان الشعور العميق بمسؤوليته تجاه الإنسان الآخر، خارج نطاق المصالح والأطماع الخاصة، وربما كان السر في ذلك، أن العاطفة الطبيعية ـ وحدها ـ لا توحي بحركة المسؤولية في الداخل في مستوى العمق، إذا لم نمنحها الفرصة الكافية للتدرّب على الممارسة والتعبير في أوضاع اجتماعية متنوّعة؛ فإن الابتعاد عن ذلك في أساليب التربية، يبعد الفرد عن الإحساس المتواصل بالآخرين في آلامهم وآمالهم، أمّا إذا عاش المسؤولية في القضايا الصغيرة أو الكبيرة من ناحية إلزامية، من خلال ما تفرضه الواجبات والمحرمات؛ أو من ناحية غير إلزامية؛ من خلال ما تفرضه المستحبات أو المكروهات، فإن القضية تختلف، لأن ذلك يحقق له التنمية الروحية في صلته بالآخرين، في ما يفكر لهم، أو ما يخطط لقضاياهم، أو ما يمارسه معهم، في مواقع العطاء الروحي والمادي.. فإذا التقت المسؤولية بخط الإيمان بالله، وتحركت على أساس الحصول على رضا الله، بما يمثله ذلك من الشعور بالمسؤولية أمامه في رعايته لعباده، كانت النتائج أكثر عمقا وأشد تأثيرا.

ب. وقد نضيف إلى هذا العنصر عنصرا آخر يتعلق بالطرف الآخر الذي تتعلق المسؤولية بحياته؛ فإن وجود شخص معين مسئول عنه، يجعله يشعر بالحماية والرعاية الخاصة، مما يبعده عن مشاعر القلق والضياع والحيرة والارتباك، ويعمّق العلاقة بينهما، وهذا قد لا يتحقق فيما إذا كانت المسؤولية كلها من شؤون الدولة، التي قد تضيع كثيرا من حقوق الإنسان وحاجاته، أو تؤخّرها إلى وقت طويل، ولعل التجربة الإنسانية الطويلة التي عاشها الإنسان في ظل هذا التشريع، تستطيع أن تعطينا الفكرة الواضحة عن نجاح هذا الاتجاه في التشريع، بالرغم من بعض السلبيات الجزئية فيه، وفي الحالة الثانية ـ حالة العلاقة بالذين تركوا هذه الحياة تجاه الذين لا يزالون أحياء من بعدهم ـ يعيش الإنسان الشعور بامتداد العلاقة الإنسانية بينه وبين أولئك الناس، لأنه يجدها في كل هذا الإرث الذي بقي له في ما يأكله أو يلبسه أو يسكن فيه أو يستمتع به، وبهذا يشعر كل جيل ـ في عملية تعاقب الأجيال ـ بقيمة الجيل السابق بالنسبة إليه، سواء في ذلك القيمة العلمية والسياسية من خلال ما يتركه له من علم أو من موقع سياسي؛ أو القيمة المادية من خلال ما يتركه من إرث مادي شخصي أو عام، وقد يدفع هذا الجو الذاتي الإنسان قبل موته إلى مضاعفة جهوده في الإنتاج ليستطيع ضمان مستقبل هؤلاء الناس الذين يعيشون بعده من أولاده أو من غيرهم، الأمر الذي يعطي الحياة معنى أسمى ويعمّق التعاطف الداخلي بينه وبينهم، ليتجاوز حالة الحياة إلى ما بعد الموت، في عملية لتحريك التاريخ الشخصي في عمق الواقع الإنساني المتحرك.

9. إن الإرث يعتبر إحدى الوسائل الإسلامية التي أراد منها الإسلام تفتيت الثروة لئلا تتجمع في يد شخص واحد، خلافا للطريقة المألوفة في الجاهلية عند ما كانت تفرض انتقال الثروة للولد الأكبر، بكل ما فيها من العوامل السلبية، في ما تمثّله من إفساد وظلم واستغلال للآخرين، وإذا اقتضت الصدفة أن تنتقل التركة إلى وارث واحد في مرحلة من المراحل، فإن رحلة الحياة والموت في المراحل الأخرى تتكفل بتوزيعها بين أكثر من شخص، وهكذا حتى تذوب في نهاية المطاف، ولعل هذا الأسلوب يعطي نوعا من الحيوية في الجانب التبادليّ للقضاء أو السيطرة على تجمّع الثروة في يد إنسان واحد، والعمل على أن تتحرك لمصالحة الحياة الفرديّة في المجتمع.

10. إن نظام الإرث ـ في الإسلام ـ نهض على أساس التخطيط للمسؤوليات وللحقوق في المجتمع؛ وفي هذا الاتجاه كانت حصة الرجل أكثر من حصة المرأة، من دون أن يكون في ذلك انتقاص لإنسانية المرأة، بل كل ما هناك أن القضية متعلقة بحيوية نظام الأسرة في المجتمع، في ما يريده الإسلام لها من الارتكاز على الأسس العاطفية والواقعية والروحية، من خلال ما وضعه للرجل من مسئوليات، تلتقي مع حقوق المرأة التي تفرض الأمومة عليها أعباء ووظائف لا تسمح لها بتحمّل المسؤولية في الإنفاق على نفسها وزوجها وأولادها، وهذا ما راعاه الإسلام في توزيع التركة، حيث جعل للرجل حصتين في مقابل حصة واحدة للمرأة، من أجل تغطية مصاريف الرجل التي فرض عليه تقديمها للمرأة، وأضاف المهر الذي تأخذه من الرجل في عقد الزواج؛ مما يوحي بأن حصة المرأة قد تزيد على حصة الرجل في النهاية، لأن عملية الحساب في مثل هذه الأمور، تخضع للتوازن بين الحقوق والواجبات، وعلى هذا الأساس، ينبغي لنا فهم مسألة الإرث في التشريع الإسلامي، لنضعها في مكانها الطبيعي من مصلحة الإنسان في المجتمع، وقد جاء في المعاني بإسناده الى محمد بن سنان: إنّ أبا الحسن الرضا عليه السّلام كتب إليه، في ما كتب، من جواب مسائله علة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث: (لأن المرأة إذا تزوجت أخذت والرجل يعطي، فلذلك وفر على الرجال، وعلة أخرى في إعطاء الذكر مثلي ما تعطى الأنثى لأن الأنثى من عيال الذكر إن احتاجت، وعليه أن يعولها وعليه نفقتها، وليس على المرأة أن تعول الرجل، ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج فوفر على الرجال لذلك، وذلك قول الله عز وجل: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾، وفي الكافي بإسناده عن الأحوال قال: قال لي ابن أبي العوجاء: ما بال المرأة المسكينة الضّعيفة تأخذ سهما واحدا ويأخذ الرّجال سهمين؟ قال فذكر بعض أصحابنا لأبي عبد الله ـ جعفر الصادق ـ عليه السّلام، فقال: (إن المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة وإنّما ذلك على الرّجال، ولذلك جعل للمرأة سهما واحدا، وللرجل سهمين)

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/90.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كانت العرب في الجاهلية تورث الذكور دون الإناث، وكانوا يعتقدون أنّه لا يرث من لا يطاعن بالرماح ولا يقدر على حمل السلاح، ولا يذود عن الحريم والمال، ولهذا كانوا يحرمون النساء والأطفال عن الإرث، ويورثون الرجال الأباعد، ولو كان من الورثة من هو أقرب منهم، حتى إذا مات أنصاري يدعى (أوس بن ثابت) وقد ترك صغارا من بنات وأولاد، فاقتسم أبناء عمومته (خالد) و(عرفجة) أمواله بينهم ولم يورثوا زوجته وأولاده الصغار من تركته أبدا، فشكت زوجته إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يكن في ذلك حكم إلى ذلك الحين، فنزلت هذه الآية فاستدعى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذينك الشخصين، وأمرهما بأن لا يتصرفا في أموال الأنصاري، وأن يتركا تلك الأموال إلى ورثة الميت من الطبقة الأولى وهم زوجته وأولاده، بانتظار أن تنزل آيات أخرى توضح كيفية تقسيمها بين هؤلاء الورثة.

2. هذه الآية ـ في الحقيقة ـ خطوة أخرى على طريق مكافحة العادات والأعراف الخاطئة التي تؤدي إلى حرمان الأطفال والنساء من حقوقهم المسلّمة الطبيعية، وعلى هذا الأساس تكون هذه الآية مكملة للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة، لأن العرب الجاهليين كانوا ـ حسب تقاليدهم وأعرافهم الظالمة ـ يمنعون النساء والصغار من حق الإرث، ولا يسهمون لهم من المواريث، فأبطلت هذه الآية هذا التقليد الخاطئ الظالم إذ قال سبحانه: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ﴾

3. ثمّ قال سبحانه في ختام هذه الآية بغية التأكيد على الموضوع‏ ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ حتى يقطع الطريق على كل تشكيك أو ترديد في هذا المجال.

4. الآية الكريمة ـ كما هو ملاحظ ـ تذكر حكما عامّا، وشاملا لجميع الموارد، ولهذا فإن ما يتصوره البعض من أنّ الأنبياء لا يورثون، أي أنّهم إذا تركوا شيئا من ثروة ومال لم يرثهم أقرباؤهم، خلاف الآية (طبعا المقصود من الأموال التي يتركها النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هي تلك الأموال الخاصّة به، وأمّا الأموال المتعلقة ببيت المال الذي هو من حق المسلمين عامّة، فالحكم الإسلامي فيها هو صرفها في مواردها.

5. كما أنّه يتبيّن من إطلاق الآية الحاضرة والآيات الأخرى التي تأتي في ما بعد حول الإرث أنّ القول بالتعصيب (وهو إعطاء شيء من التركة إلى عصبة الميت وهم من ينتسبون إليه من طرف الأب، وذلك في بعض الموارد كما يذهب إليه علماء السنة) يخالف هو أيضا ما جاء به القرآن الكريم من تعاليم في مجال‏ الإرث، لأن ذلك يستلزم حرمان النساء من الميراث في بعض الموارد، وهذا ضرب من التمييز الجاهلي الذي رفضه الإسلام وأبطله بالآية الحاضرة والآيات المشابهة لها.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/114.

8. حضور أولي القرى واليتامى والمساكين القسمة

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈8⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [النساء: 8]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ‌‌﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ يرضخ لهم، فإن كان في المال تقصير اعتذر إليهم، فهو ﴿قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ‌‌﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم، وأيتامهم، ومساكينهم من الوصية إن كان أوصى لهم، فإن لم يكن لهم وصية وصل إليهم من مواريثهم(2).

3. روي عن ابن أبي مليكة، أن أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر والقاسم بن محمد بن أبي بكر أخبراه: أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن، وعائشة حية، قالا: فلم يدع في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه، وتلا: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾ الآية.. وقال القاسم: فذكرت ذلك لابن عباس، فقال: ما أصاب، ليس ذلك له، إنما ذلك للوصية، وإنما هذه الآية في الوصية، يريد الميت أن يوصي لهم(3).

4. روي أنّه قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار الذكور حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار يقال له: أوس بن ثابت، وترك ابنتين وابنا صغيرا، فجاء ابنا عمه، وهما عصبته، فأخذا ميراثه كله، فقالت امرأته لهما: تزوجا بهما، وكان بهما دمامة، فأبيا، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالت: يا رسول الله، توفي أوس، وترك ابنا صغيرا وابنتين، فجاء ابنا عمه خالد وعرفطة فأخذا ميراثه، فقلت لهما: تزوجا ابنتيه، فأبيا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما أدري ما أقول)، فنزلت: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ الآية، فأرسل إلى خالد وعرفطة، فقال: (لا تحركا من الميراث شيئا؛ فإنه قد أنزل علي فيه شيء أخبرت فيه أن للذكر والأنثى نصيبا)، ثم نزل بعد ذلك: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾ إلى قوله: ﴿عَلِيمًا﴾ [النساء: ١٢٧]، ثم نزل: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ [النساء: ١٢]، فدعا بالميراث، فأعطى المرأة الثمن، وقسم ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين(4)

5. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ﴾ هي محكمة، وليست بمنسوخة(5).

6. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾ الآية، هي قائمة يعمل بها(6).

7. روي أنّه قال: إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾ الآية، ولا والله ما نسخت، ولكنه مما تهاون به الناس، هما واليان: وال يرث، فذاك الذي يرزق ويكسو، وال ليس بوارث، فذاك الذي يقول قولا معروفا، يقول: إنه مال يتيم، وما له فيه شيء(7).

8. روي أنّه قال: في قوله: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾ الآية، قال نسختها: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ الآية(8).

9. روي أنّه قال: في الآية، قال ذلك قبل أن تنزل الفرائض، فأنزل الله بعد ذلك الفرائض، فأعطى كل ذي حق حقه، فجعلت الصدقة فيما سمى المتوفى(9).

10. روي أنّه قال: قوله: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾، قال نسختها آية الميراث، فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك؛ مما قل منه، أو كثر(10).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٤٤٣.

(2) ابن جرير ٦/ ٤٣٩.

(3) عبد الرزاق ١/ ١٤٩.

(4) ابن الأثير في أسد الغابة ٧/ ٤٠٣

(5) ابن أبي شيبة ١١/ ١٩٦.

(6) ابن جرير ٦/ ٤٣٤.

(7) سعيد بن منصور (٥٧٦.

(8) النحاس في ناسخه ص ٣٠٢.

(9) ابن جرير ٦/ ٤٣٦.

(10) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٧٥.

السلماني:

روي عن عبيدة السلماني (ت 72 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ أنه ولي وصية، فأمر بشاة، فذبحت، وصنع طعاما لأهل هذه الآية، وقال: لولا هذه الآية لكان هذا من مالي(1)

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٤٤٤.

المسيب:

روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) أنّه قال في هذه الآية، قال هي منسوخة، كانت قبل الفرائض، كان ما ترك الرجل من مال أعطي منه اليتيم، والفقير، والمسكين، وذوو القربى؛ إذا حضروا القسمة، ثم نسخ بعد ذلك، نسختها المواريث، فألحق الله بكل ذي حق حقه، وصارت الوصية من ماله، يوصي بها لذوي قرابته حيث يشاء(1).

__________

(1) عبد الرزاق ١/ ١٤٩.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى﴾، قال هذه مبينة أمر أهل الميراث أن يرضخوا عند قسمة الميراث لمن لا يرث من أقارب الميت(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٧٣.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في الآية: إن كانوا كبارا يرضخوا، وإن كانوا صغارا اعتذروا إليهم، فذلك قوله: ﴿قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ هو الذي لا يرث، أمر أن يقول لهم قولا معروفا، يقول: إن هذا المال لقوم غيب، أو ليتامى صغار، ولكن فيه حق، ولسنا نملك أن نعطيكم منه شيئا، فهذا القول المعروف(2).

3. روي أنّه قال: ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ هما وليان: فأحدهما يرث، والآخر لا يرث؛ فالذي يرث فهو الذي يكسو ويرزق، وأما الذي لا يرث فهو الذي يقول قولا معروفا، يقول: هذا لقوم آخرين، وما لنا منه شيء(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ كان الرجل ينفق على جاره وقرابته، فإذا مات حضروا، قال وليه: ما نملك منه شيئا، فأمرهم الله أن يقولوا قولا معروفا: يرزقكم الله، يعينكم الله، ويرضخ لهم من الثمار(4).

5. روي أنّه قال: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ عدة حسنة، يقول: إن كان الورثة صغارا فليقل أولياء أولئك الورثة لهؤلاء الذين لا يرثون من قرابة الميت واليتامى والمساكين: إن هؤلاء الورثة صغار، فإذا بلغوا العقل أمرناهم أن يعرفوا حقكم، فيه وصية ربهم، فإن مات قبل ذلك فورثتهم أعطتكم حقكم، فهذا القول المعروف(5).

6. روي أنّه قال: ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ يقول للورثة: أعطوهم من الميراث، وليس بشيء موقوف، فيعطون قبل القسمة، فيقسم الميراث(3).

__________

(1) ابن أبي شيبة ١١/ ١٩٥.

(2) ابن جرير ٦/ ٤٤٦.

(3) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٧٤.

(4) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٧٦.

(5) ابن جرير ٦/ ٤٤٦ بنحوه من طريق أبي بشر، وابن أبي حاتم ٣/ ٨٧٦.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ وقفا معلوما(1).

2. روي أنّه قال: ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ وفيا(2).

3. روي أنّه قال: نسختها المواريث(3).

__________

(1) ابن المنذر ٢/ ٥٧٨.

(2) ابن أبي حاتم ٣/ ٨٧٢.

(3) ابن جرير ٦/ ٤٣٦.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: في الآية: كان الرجل إذا حضر يقال له: أوص لفلان، أوص لفلان، وافعل كذا، وافعل كذا، حتى يضر ذلك بورثته؛ فقال الله: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾، قال لينظروا لورثة هذا كما ينظر أحدكم لورثة نفسه، فليتقوا الله، وليأمروه بالعدل والحق(1).

__________

(1) سعيد بن منصور (٥٨٤.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: هي ثابتة، ولكن الناس بخلوا وشحوا(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٤٣٣ واللفظ له، وتفسير ابن أبي زمنين ١/ ٣٥٠.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾، نسختها آية الفرائض(1).

2. روي أنّه سئل عن قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى﴾، قال: نسختها آية الفرائض(2).

__________

(1) تفسير القمّي 1/131.

(2) تفسير العيّاشي 1/222.

السدي:

روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ﴾ هذه تكون على ثلاثة وجوه: أما وجه: فيوصي له وصية فيحضرون، فيأخذون وصيتهم، وأما الثاني: فإنهم يحضرون فيقتسمون، إذا كانوا رجالا فينبغي لهم أن يعطوهم، وأما الثالث: فيكون الورثة صغارا، فيقوم وليهم إذا قسم فيقول للذين حضروا: حقكم حق، وقرابتكم قريبة، ولو كان لي في الميراث نصيب لأعطيتكم(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٤٤٤.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾ يعني: قسمة المواريث، فيها تقديم، وإذا حضر ﴿أولوا القربى﴾ يعني: قرابة الميت، ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ قسمة المواريث ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ يعني: فأعطوهم من الميراث، وإن قل، وليس بموقت، هذه قبل قسمة المواريث، ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ يقول سبحانه: إن كانت الورثة صغارا فليقل أولياء الورثة لأهل هذه القسمة: إن بلغوا أمرناهم أن يدفعوا حقكم، ويتبعوا وصية ربهم ـ عز وجل ـ، وإن ماتوا وورثناهم أعطيناكم حقكم، فهذا القول المعروف، يعني: العدة الحسنة(1).

__________

(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/ ٣٥٩.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ﴾ القسمة: الوصية، كان الرجل إذا أوصى قالوا: فلان يقسم ماله، فقال: ارزقوهم منه، يقول: أوصوا لهم، يقول للذي يوصي: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ إن لم توصوا لهم فقولوا لهم خيرا(1).

__________

(1) ابن جرير ٦/ ٤٣٧.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله ـ عزّ وجل ـ: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى﴾ قيل فيه بوجهين:

أ. قيل: أراد بالقسمة: قسمة المواريث بين الورثة بعد موت الميت‏.

ب. وقيل: أراد به: قسمة الموصى وهو الإيصاء، يوصى ويبر لمن ذكر من الأقرباء واليتامى والمساكين‏ بشيء؛ فالخطاب للموصى.

2. من قال بقسمة المواريث: فالخطاب للورثة إن كانوا كبارا، يعطون لهؤلاء شيئا، ويبرونهم بشيء؛ وإن كانوا صغارا يقول الوصى: لهم‏ ﴿قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾، أي: يعد لهم عدة حسنة إلى وقت خروج الأنزال، أو إلى وقت البيع إن باعوها.

3. اختلف المتأولون فيها:

أ. قال بعضهم: هي منسوخة.

ب. وقال آخرون: هي محكمة، وهو قول ابن عباس.

4. اختلف في نسخ الآية الكريمة:

أ. من قال هي منسوخة، قال نسختها آية المواريث: قوله ـ عزّ وجل ـ: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ الآية؛ لأنهم كانوا يوصون الأولاد والآباء والأمهات؛ كقوله ـ عزّ وجل ـ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ الآية [البقرة: 180] فنسخت آية المواريث وصية الموصي.

ب. ومن قال هي محكمة متقنة، وهو قول ابن عباس، والحسن ومجاهد وغيرهم؛ لأنه المعروف والبر والإحسان، وذلك مما لا يحتمل النسخ، وقيل: إن عبد الله بن عبد الرحمن‏ قسم ميراث أبيه، وعائشة حية، فلم يدع في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلا قسم له من ميراث أبيه، وتلا هذه الآية: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾ الآية، فذكر ذلك لابن عباس فقال: ما أصاب، ليس ذلك له؛ إنما ذلك في الوصية، يريد الميت أن يوصى لهم‏.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾:

أ. قيل: إذا كان المال كثيرا ـ رضخ وأعطى لهم شيئا، وإذا كان قليلا اعتذر إليهم، وهو قول ابن عباس.

ب. وقيل: أمر من يرث أن يرضخ ويعطي لمن لا يرث شيئا، وهو قول الحسن‏، ويقال لهم: ﴿قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾

6. القول المعروف يحتمل ما ذكرنا: أن يعطى لهم إن كانوا كبارا ـ أعني: الورثة ـ ويعد لهم عدة إن كان المال ضياعا إلى وقت خروج الأنزال والغلات، أو إلى وقت خروج الثمر، أو يعطي الورثة إن كانوا كبارا ويعتذر إليهم الوصي إن كانوا صغارا.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏3/32.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله عز وجل: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ قيل في ذلك: أن الله عز وجل أمر عباده عند قسم الميراث إن حضر هناك أحد من قرابتهم، أو من اليتامى والمساكين أن يتفضلوا عليهم بطرف من ميراثهم، ويقولوا لهم قولاً معروفاً، وهو القول اللين الكريم، الحسن الطاهر المحض الصميم، وإنما أمر الله بالكلام الجميل لما فيه من سرور العباد، والتألف لهم إلى دين الله ذي العزة والأياد، ولأن ذلك يدعوا إلى المودة وللائتلاف، وينفي بعد الضغائن والاختلاف، فلم يرض مولانا عز وجل لأوليائه الكرام، بطبائع الكفرة الفجرة الجفاة اللئام، الذين لا يلفظون بطيب من الكلام، لما هم عليه من الخساسة وسفه الأحلام، والتجبر والتكبر على ضعفة الأنام، والاحتقار والجفاء للمساكين والأيتام، بل الواجب علينا أن نعرف للناس ما نعرف لأنفسنا، ونهوى لهم كالذي نهوى من غيرنا من البِشر والرحمة والبشاشة واللين، والخلاف لطباع هؤلاء الشياطين، الذين شابهوا بسوء أدبهم آداب الحمير، من الغفلة والغلظة والجهل والفجور، فتنزهوا ـ رحمكم الله وهداكم ـ من أفعالهم، وتطهروا بجهدكم من دنسات أعمالهم، وفضائحهم وركاكتهم في كل أحوالهم.

2. وقيل في تفسير هذه الآية بقول آخر ولم نقل غير ما ذكرنا، وهو أحسن ما رأينا في ذلك وسمعنا.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 235.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ وهذه الآية منسوخة بآية التوريث.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/165.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ فيها ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أنها ثابتة الحكم، قال سعيد بن جبير: هما وليان، أحدهما يرث وهو الذي أمر أن يرزقهم أي يعطيهم، والآخر لا يرث وهو الذي أمر أن يقول لهم قولا معروفا، وبإثبات حكمها قال ابن عباس، ومجاهد، والشعبي، والحسن، والزهري، وروي عن عبيدة أنه ولي وصية فأمر بشاة فذبحت، وصنع طعاما لأجل هذه الآية وقال: لولا هذه الآية لكان هذا من مالي.

ب. الثاني: أنها منسوخة بآية المواريث، وهذا قول قتادة، وسعيد بن المسيب، وأبي مالك، والفقهاء.

ج. الثالث: أن المراد بها وصية الميت التي وصّى بها أن تفرق فيمن ذكر وفيمن حضر، وهو قول عائشة، فيكون ثبوت حكمها على غير الوجه الأول.

2. اختلف من قال بثبوت حكمها على الوجه الأول في الوارث إذا كان صغيرا هل يجب على وليّه إخراجها من سهمه على قولين:

أ. أحدهما: يجب، وهو قول ابن عباس، وسعيد، ويقول الولي لهم قولا معروفا.

ب. الثاني: أنه حق واجب في أموال الصغار على الأولياء، وهو قول عبيدة، والحسن.

3. في قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه خطاب للورثة وأوليائهم أن يقولوا لمن حضر من أولي القربى، واليتامى، والمساكين قولا معروفا عند إعطائهم المال، وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير.

ب. الثاني: خطاب للآخرين أن يقولوا للدافعين من الورثة قولا معروفا، وهو الدعاء لهم بالرزق والغنى.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/456.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في نسخ الآية الكريمة:

أ. هذه الآية عندنا(2) محكمة، وليست منسوخة، وهو قول ابن عباس، وسعيد ابن جبير، والحسن، وابراهيم، ومجاهد، والشعبي، والزهري، ويحيى بن يعمر، والسدي، والبلخي، والجبائي، والزجاج، وأكثر المفسرين والفقهاء.

ب. وقال سعيد ابن المسيب، وأبو مالك، والضحاك، هي منسوخة.

2. اختلف في إرزاق من حضر قسمة الميراث من هذه الأصناف:

أ. قيل: ليس بواجب، بل هو مندوب إليه، وهو الذي اختاره الجبائي، والبلخي، والرماني، وجعفر بن مبشر، وأكثر الفقهاء والمفسرين.. وكل من ذهب إلى أنها منسوخة قال إن الرزق ليس بواجب، وكذلك من قال انها في الوصية.

ب. وقال مجاهد: هو واجب، وحق لازم ما طابت به أنفس الورثة.

3. اختلفوا فيمن المخاطب بقوله: ﴿فَارْزُقُوهُمْ﴾:

أ. فقال أكثر المفسرين: إن المخاطب بذلك الورثة، أمروا بأن يرزقوا المذكورين، إذا كانوا لا سهم لهم في الميراث.. وروي عن ابن عباس، وعبد الله بن الزبير، وأبي موسى الاشعري، وابن سيرين، والحسن، وسعيد بن جبير.

ب. وقال آخرون: إنها تتوجه إلى من حضرته الوفاة، وأراد الوصية، فإنه ينبغي له أن يوصي لمن لا يرثه من هؤلاء المذكورين، بشيء من ماله، وروي هذا القول الأخير عن ابن عباس، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وسعيد ابن المسيب، واختار الطبري هذا الوجه.

ج. قال سعيد بن جبير: إن كان الميت أوصى لهم بشيء أنفذت وصيته، وإن‏ كان الورثة كباراً أرضخوا لهم، وإن كانوا صغاراً قال وليهم: إني لست أملك هذا المال، وليس لي، إنما هو للصغار، فذلك قوله: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ وبه قال السدي، وابن عباس.

4. اختلفوا فيمن المأمور بقول]، ويقولوا لهم قولا معروفا، فيصير رداً جميلا، من غير تأفف، ولا تضجر، وكذلك لو قلنا إنها متوجهة إلى الموصي، لكان محمولا على أنه يستحب له أن يوصي لهؤلاء بشيء من ماله، ما لم يزد على الثلث، فان لم يختر ذلك قال لهم قولا جميلا، لا يتألمون منه، ولا يغتمون به.

5. في الآية حجة على المجبرة، لأنه تعالى قال: ﴿فَارْزُقُوهُمْ﴾ وفيه دلالة على أن الإنسان يرزق غيره على معنى التمليك، وأن الله لا يرزق حراماً، لأنه لو رزقه لخرج برزقه إياه من أن يكون حراماً، ومثله قوله: ﴿وَهُوَخَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏3/123.

(2) يقصد الإمامية.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الحضور مصدر حضر حضورًا، وهو ضد غاب غَيْبَةً.

ب. القرب ضد البعد، وذو قرابتك من يقرب منك رحمًا، وأولو القربى ذوو قرابتك.

ج. المساكين جمع مسكين، وهو الفقير الذي لا شيء له.

د. الرزق العطاء الجاري، والقول مصدر قال قولاً.

هـ. المعروف: ما عُرف صحته بالعقل أو الشرع.

2. لما بين تعالى حال من يرث من الأقرباء بين حال من لا يرث فقال تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾:

أ. قيل: يعني قسمة الميراث عن أكثر المفسرين.. وهو أظهر.

ب. وقيل: قسمة الوصية عن ابن زيد قال: كان الرجل إذا أوصى فقالوا: فلانٌ يقسم ماله أمر أن يوصى بثلث ماله لهَؤُلَاءِ الَّذِينَ سموا في الآية،

ج. وقيل: هو في الوصية أمر أن يوصى للقرابة، ويقولوا لغيرهم قولاً معروفًا، روي عن سعيد بن المسيب وعن ابن عباس.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أُوْلُوا الْقُرْبَى﴾:

أ. قيل: يعني أقرباء الميت الَّذِينَ لا يرثون، فتوضح لهم عن أكثر المفسرين.

ب. وقيل: الَّذِينَ يرثون فيعطى ما فرض الله لهم، حكاه القاضي.

4. ﴿وَالْيَتَامَى﴾ من لا أب لهم ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ الفقراء الَّذِينَ اشتدت حاجتهم ولا شيء لهم عن أبي حنيفة، وقيل: فقير له بلغة لا تكفيه عن الشافعي.

5. ﴿فَارْزُقُوهُمْ﴾ أعطوهم رزقًا ﴿مِنْهُ﴾ يعني من التركة ترجع الكناية إلى معلوم ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ أي حسنًا:

أ. قيل: من لم يدفع إليه شيء يصرف بكلام جميل.

ب. وقيل: بل من يدفع إليه حتى لا يبطل الدفع بالامتنان، قاله القاضي.

ج. وقيل: في قسمة الإناث يعطون شيئًا، وفي الصغار قولا معروفًا.

د. وقيل: من يرث يدفع إليه حقه، ومن لا يرث يدفع إليه هدية ويدعى له ويُصرفُ.

6. اختلف الناس على قولين في هذه الآية:

أ. فمنهم من قال: هو منسوخ بآي المواريث، وكان يجب قبل النسخ تفرقة شيء من التركة بين هَؤُلَاءِ، فلما بين تعالى في آية المواريث سهام الورثة بعد الدين والوصية زال ذلك النسخ.. وهو مروي عن سعيد بن المسيب وأبي مالك والضحاك.

ب. ومنهم من قال: إنه ثابت ليس بمنسوخ.. وهو قول ابن عباس وسعيد ابن جبير والحسن وإبراهيم ومجاهد والشعبي والزهري وأبي علي وأبي مسلم.

7. اختلف من قال: إنه ثابت على أقوال:

أ. الأول: منهم من قال: هم أهل الميراث يعطون حقهم.

ب. الثاني: منهم من قال: هو غير الإرث، وعليه الأكثر، ثم اختلف هَؤُلَاءِ:

فمنهم من قال: أمر ندب وترغيب، ندبوا عند قسمة التركة ـ وقد جاءهم الرزق من غير كد وكلفة ـ أن يخرجوا منه قُرْبًا في هَؤُلَاءِ، وهو قول أبي علي وجعفر بن مبشر وأبي مسلم وجماعة، وإنما قدم القربى؛ لأن وضع الصدقة فيهم أعظم في الأجر، ثم اليتامى للضعف والحاجة، وتعذر إزالته عن أنفسهم، ثم المساكين فيدخل فيه كل فقير.

ومنهم من قال: إنه واجب؛ لأنه وصل إليهم من غير كد فغير ممتنع أن يجب فيه حق كالقسمة، وهذا قول مجاهد والحسن وقتادة وإبراهيم والشعبي والزهري قالوا: وهي على ما طابت به نفس الورثة.

8. اختلفوا إذا كان في الورثة صغار:

أ. فقيل: لا يُعطى من مال اليتيم شيئًا بل يقول قولًا معروفًا، بأنه لو كان لنا لأعطيناك، وهذا لهَؤُلَاءِ الصغار الضعفاء، وإذا كبروا يعرفون حقكم فهذا القول المعروف عن ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي والحسن.

ب. وقيل: بل يُرْضَخ لهم عن عبيدة وابن سيرين، وروي أن عبيدة ذبح شاة من مال اليتيم وقسمه بينهم، وروي أنه قسم ميراث عبد الرحمن بن أبي بكر وعائشة حية فلم يترك في الدار مسكينًا ولا ذا قرابة إلا أعطاهم.

ج. وعن بعضهم أنه على ثلاثة أوجه: إن أوصى لهم يعطوا، وإن لم يوص والورثة كبار يرضخ لهم، وإن كانوا صغارًا يُصرَفون بقول حسن، قال الحسن: الآية ثابتة لكن الناس شحوا وبخلوا، وقال سعيد بن جبير: هذه الآية مما يتهاون الناس بها.

9. والقول الثالث: أنه في صفة الوصية، وقد بينا.

10. تدل الآية على أن من مَلَّكَ غيره شيئًا بهبة أو صدقة فقد رزقه؛ لذلك قال: ﴿فَارْزُقُوهُمْ﴾ خلاف ما يقوله الْمُجْبِرَة في الرزق.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/539

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما بين سبحانه فيما تقدم، حال من يرث، بين هنا حال من لا يرث، واختلف الناس في هذه الآية على قولين:

أ. أحدهما: انها محكمة غير منسوخة، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، وإبراهيم، ومجاهد، والشعبي، والزهري، والسدي، وهو المروي عن الباقر، واختاره البلخي، والجبائي، والزجاج، وأكثر المفسرين، والفقهاء.

ب. والآخر: أنها منسوخة بآي المواريث، عن سعيد بن المسيب، وأبي مالك، والضحاك.

2. اختلف من قال إنها محكمة على قولين:

أ. أحدهما: أن الأمر فيها على الوجوب واللزوم، عن مجاهد، وقال: هو ما طابت به نفس الورثة.

ب. وقال الآخرون: إن الأمر فيها على الندب.

3. (وإذا حضر القسمة): معناه إذا شهد قسمة الميراث، (أولوا القربى): أي فقراء قرابة الميت، ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾: أي ويتاماهم ومساكينهم، يرجون أن تعودوا عليهم، ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾: أي أعطوهم من التركة قبل القسمة شيئا.

4. اختلف في المخاطبين بقوله: ﴿فَارْزُقُوهُمْ﴾ على قولين:

أ. أحدهما: أن المخاطب بذلك الورثة، أمروا بأن يرزقوا المذكورين، إذا كانوا لا سهم لهم في الميراث، عن ابن عباس، وابن الزبير، والحسن، وسعيد بن جبير، وأكثر المفسرين.

ب. والآخر: أن المخاطب بذلك من حضرته الوفاة، وأراد الوصية، فقد أمر بأن يوصي لمن لا يرثه من المذكورين بشئ من ماله، عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، واختاره الطبري.

5. ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾: أي حسنا غير خشن، واختلف فيه أيضا:

أ. فقال سعيد بن جبير: أمر الله الولي أن يقول للذي لا يرث من المذكورين قولا معروفا، إذا كانت الورثة صغارا، يقول: إن هذا ليتامى صغار، وليس لكم فيه حق، ولسنا نملك أن نعطيكم منه.

ب. وقيل: المأمور بذلك الرجل الذي يوصي في ماله، والقول المعروف أن يدعو لهم بالرزق، والغنى، وما أشبه ذلك.

ج. وقيل: الآية في الوصية على أن يوصوا للقرابة، ويقولوا لغيرهم قولا معروفا، عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب.

6. دلت الآية على أن الانسان قد يرزق غيره على معنى التمليك، فهو حجة على المجبرة.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏3/19.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى﴾ في هذه القسمة قولان:

أ. أحدهما: قسمة الميراث بعد موت الموروث، فعلى هذا يكون الخطاب للوارثين، وبهذا قال الأكثرون، منهم ابن عباس، والحسن، والزّهريّ.

ب. الثاني: أنها وصيّة الميّت قبل موته، فيكون مأمورا، بأن يعيّن لمن لا يرثه شيئا، روي عن ابن عباس، وابن زيد، قال المفسّرون: والمراد بأولي القربى: الذين لا يرثون.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾:

أ. قيل: أي: أعطوهم منه.

ب. وقيل: أطعموهم.

3. ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾: هذا على الاستحباب عند الأكثرين، وذهب قوم إلى أنه واجب في المال، فإن كان الورثة كبارا، تولّوا إعطاءهم، وإن كانوا صغارا تولّى ذلك عنهم وليّ مالهم، فروي عن عبيدة أنه قسم مال أيتام، فأمر بشاة، فاشتريت من مالهم، وبطعام فصنع، وقال: لولا هذه الآية لأحببت أن يكون من مالي، وكذلك فعل محمّد بن سيرين في أيتام وليهم، وكذلك روي عن مجاهد: أن ما تضمّنته هذه الآية واجب.

4. في ﴿القول المعروف﴾ أربعة أقوال:

أ. أحدها: أن يقول لهم الوليّ حين يعطيهم: خذ بارك الله فيك، رواه سالم الأفطس، عن ابن جبير،

ب. الثاني: أن يقول الوليّ: إنه مال يتامى، وما لي فيه شيء، رواه أبو بشر عن ابن جبير، وفي رواية أخرى عن ابن جبير، قال إن كان الميت أوصى لهم بشيء أنفذت لهم وصيّتهم، وإن كان الورثة كبارا رضخوا لهم، وإن كانوا صغارا، قال وليّهم: إني لست أملك هذا المال، إنّما هو للصّغار، فذلك القول المعروف،

ج. الثالث: أنه العدة الحسنة، وهو أن يقول لهم أولياء الورثة: إنّ هؤلاء الورثة صغار، فإذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقّكم، رواه عطاء بن دينار، عن ابن جبير،

د. الرابع: أنهم يعطون من المال، ويقال لهم عند قسمة الأرضين والرّقيق: بورك فيكم، وهذا القول المعروف، قال الحسن والنّخعي: أدركنا الناس يفعلون هذا.

5. اختلف علماء النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين:

أ. أحدهما: أنها محكمة، وهو قول أبي موسى الأشعريّ، وابن عباس، والحسن، وأبي العالية، والشّعبيّ، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والنّخعيّ، والزّهريّ، وقد ذكرنا أنّ ما تضمّنته من الأمر مستحبّ عند الأكثرين، وواجب عند بعضهم.

ب. الثاني: أنها منسوخة، نسخها قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ رواه مجاهد عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيّب، وعكرمة، والضّحّاك، وقتادة في آخرين‏.

__________

(1) زاد المسير: 1/376.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾ ليس فيه بيان أي قسمة هي، فلهذا المعنى حصل للمفسرين فيه أقوال:

أ. الأول: أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن النساء أسوة الرجال في أن لهن حظاً من الميراث، وعلم تعالى أن في الأقارب من يرث ومن لا يرث، وأن الذين لا يرثون إذا حضروا وقت القسمة، فان تركوا محرومين بالكلية ثقل ذلك عليهم، فلا جرم أمر الله تعالى أن يدفع إليهم شيء عند القسمة حتى يحصل الأدب الجميل وحسن العشرة، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا، فمنهم من قال إن ذلك واجب، ومنهم من قال إنه مندوب:

أما القائلون بالوجوب، فقد اختلفوا في أمور:

● أحدها: أن منهم من قال الوارث إن كان كبيراً وجب عليه أن يرضخ لمن حضر القسمة شيئا من المال بقدر ما تطيب نفسه به، وإن كان صغيراً وجب على الولي إعطاؤهم من ذلك المال، ومنهم من قال إن كان الوارث كبيراً، وجب عليه الإعطاء من ذلك المال، وإن‏ كان صغيراً وجب على الولي أن يعتذر إليهم، ويقول: إني لا أملك هذا المال إنما هو لهؤلاء الضعفاء الذين لا يعقلون ما عليهم من الحق، وان يكبروا فسيعرفون حقكم، فهذا هو القول المعروف.

● ثانيها: قال الحسن والنخعي: هذا الرضخ مختص بقسمة الأعيان، فإذا آل الأمر إلى قسمة الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك، قال لهم قولا معروفا، مثل أن يقول لهم: ارجعوا بارك الله فيكم.

● ثالثها: قالوا: مقدار ما يجب فيه الرضخ شيء قليل، ولا تقدير فيه بالإجماع.

● رابعها: أن على تقدير وجوب هذا الحكم تكون هذه الآية منسوخة، قال ابن عباس في رواية عطاء: وهذه الآية منسوخة بآية المواريث، وهذا قول سعيد بن المسيب والضحاك وقال في رواية عكرمة: الآية محكمة غير منسوخة وهو مذهب أبي موسى الأشعري وإبراهيم النخعي والشعبي والزهري ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير، فهؤلاء كانوا يعطون من حضر شيئا من التركة، روي أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه وعائشة حية، فلم يترك في الدار أحدا إلا أعطاه، وتلا هذه الآية، فهذا كله تفصيل قول من قال بأن هذا الحكم ثبت على سبيل الوجوب.

ومنهم من قال انه ثبت على سبيل الندب والاستحباب، لا على سبيل الفرض والإيجاب، وهذا الندب أيضا إنما يحصل إذا كانت الورثة كباراً، أما إذا كانوا صغارا فليس إلا القول المعروف، وهذا المذهب هو الذي عليه فقهاء الأمصار، واحتجوا بأنه لو كان لهؤلاء حق معين لبين الله تعالى قدر ذلك الحق كما في سائر الحقوق، وحيث لم يبين علمنا أنه غير واجب، ولأن ذلك لو كان واجبا لتوفرت الدواعي على نقله لشدة حرص الفقراء والمساكين على تقديره، ولو كان ذلك لنقل على سبيل التواتر، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه غير واجب.

ب. الثاني: في تفسير الآية: أن المراد بالقسمة الوصية، فإذا حضرها من لا يرث من الأقرباء واليتامى والمساكين أمر الله تعالى أن يجعل لهم نصيبا من تلك الوصية، ويقول لهم مع ذلك: قولا معروفا في الوقت، فيكون ذلك سببا لوصول السرور إليهم في الحال والاستقبال،

ج. الثالث: في تفسير الآية أن قوله: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى﴾ فالمراد من أولي القربى الذين يرثون والمراد من اليتامى والمساكين الذين لا يرثون.

2. القول الأول أولى، لأنه تقدم ذكر الميراث ولم يتقدم ذكر الوصية، ويمكن أن يقال: القول الثاني أولى لأن الآية التي تقدمت في الوصية.

3. ﴿فَارْزُقُوهُمْ﴾ راجع الى القربى الذين يرثون وقوله: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ راجع الى اليتامى والمساكين الذين لا يرثون، وهذا القول محكي عن سعيد بن جبير، قال صاحب الكشاف: الضمير في قوله: ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ عائد إلى ما ترك الوالدان والأقربون، وقال الواحدي: الضمير عائد الى الميراث فتكون الكناية على هذا الوجه عائدة إلى معنى القسمة، لا الى لفظها كقوله: ﴿ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ﴾ [يوسف: 76] والصواع مذكر لا يكنى عنه بالتأنيث، لكن ريد به المشربة فعادت الكناية الى المعنى لا الى اللفظ، وعلى هذا التقدير فالمراد بالقسمة المقسوم، لأنه إنما يكون الرزق من المقسوم لا من نفس القسمة.

4. إنما قدم اليتامى على المساكين لأن ضعف اليتامى أكثر، وحاجتهم أشد، فكان وضع الصدقات فيهم أفضل وأعظم في الأجر.

5. الأشبه هو أن المراد بالقول المعروف أن لا يتبع العطية المن والأذى بالقول أو يكون المراد الوعد بالزيادة والاعتذار لمن لم يعطه شيئا.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 9/504.

ابن حمزة:

ذكر الإمام عبد الله بن حمزة (ت 614 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وسألت عن: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى﴾: هل ذلك واجب أم لا؟، والجواب عن ذلك: أن هذا كان واجبا في بدء الإسلام، ثم نسخ، وصورته: أن المواريث كانت إذا قسمت على الحاضرين بشيء غير مقدر يزيد وينقص ـ رضخ المساكين، وصنع لهم الطعام، فنسخ وجوب ذلك، وبقي استحسانه، كما نقول في صيام يوم عاشوراء؛ فاعلم ذلك.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/210.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله تعالى أن من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا، إن كان المال كثيرا، والاعتذار إليهم إن كان عقارا أو قليلا لا يقبل الرضخ‏، وإن كان عطاء من القليل ففيه أجر عظيم، درهم يسبق مائة واجب على جهة الفرض، تعطي الورثة لهذه الأصناف ما طابت به نفوسهم، كالماعون والثوب الخلق وما خف، حكى هذا القول ابن عطية والقشيري، والصحيح أن هذا على الندب، لأنه لو كان فرضا لكان استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث، لاحد الجهتين معلوم وللآخر مجهول، وذلك مناقض للحكمة، وسبب للتنازع والتقاطع.

2. ذهبت فرقة إلى أن المخاطب والمراد في الآية المحتضرون الذين يقسمون أموالهم بالوصية، لا الورثة، وروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وابن زيد، فإذا أراد المريض أن يفرق ماله بالوصايا وحضره من لا يرث ينبغي له ألا يحرمه، وهذا ـ والله أعلم ـ، يتنزل حيث كانت الوصية واجبة، ولم تنزل آية الميراث، والصحيح الأول وعليه المعول.

3. إذا كان الوارث صغيرا لا يتصرف في ماله، فقالت طائفة يعطى ولى الوارث الصغير من مال محجوره بقدر ما يرى، وقيل: لا يعطى بل يقول لمن حضر القسمة: ليس لي شي من هذا المال إنما هو لليتيم، فإذا بلغ عرفته حقكم، فهذا هو القول المعروف، وهذا إذا لم يوص الميت له بشيء، فإن أوصى يصرف له ما أوصى، وراي عبيدة ومحمد ابن سيرين أن الرزق في هذه الآية أن يصنع لهم طعاما يأكلونه، وفعلا ذلك، ذبحا شاة من التركة، وقال عبيدة: لولا هذه الآية لكان هذا من مالي، وروى قتادة عن يحيى بن يعمر قال ثلاث محكمات تركهن الناس: هذه الآية، وآية الاستئذان‏ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾

4. قوله تعالى: ﴿مِنْهُ﴾ الضمير عائد على معنى القسمة، إذ هي بمعنى المال والميراث، لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ﴾ أي السقاية، لان الصواع مذكر ومنه قوله عليه السلام: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه‏ وبين والله حجاب) فأعاد مذكرا على معنى الدعاء، وكذلك قوله لسويد بن طارق الجعفي حين سأله عن الخمر: (إنه ليس بدواء ولكنه داء)، فأعاد الضمير على معنى الشراب، ومثله كثير، يقال: قاسمه المال وتقاسماه واقتسماه، والاسم القسمة مؤنثة، والقسم مصدر قسمت الشيء فانقسم، والموضع مقسم مثل مجلس، وتقسمهم الدهر فتقسموا، أي فرقهم فتفرقوا، والتقسيم التفريق.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾:

أ. قال سعيد بن جبير: يقال لهم خذوا بورك لكم.

ب. وقيل: قولوا مع الرزق وددت أن لو كان أكثر من هذا.

ج. وقيل: لا حاجة مع الرزق إلى عذر، نعم إن لم يصرف إليهم شي فلا أقل من قول جميل ونوع اعتذار.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏5/49.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى﴾ المراد بالقرابة هنا: غير الوارثين، وكذا اليتامى والمساكين، شرع الله سبحانه: أنهم إذا حضروا قسمة التركة كان لهم رزق، فيرضخ‏ لهم المتقاسمون شيئا منها، وقد ذهب قوم إلى أن الآية محكمة، وأن الأمر للندب، وذهب آخرون إلى أنها منسوخة بقوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾، والأول أرجح، لأن المذكور في الآية للقرابة غير الوارثين، ليس هو من جملة الميراث، حتى يقال: إنها منسوخة بآية المواريث، إلّا أن يقولوا: إن أولي القربى المذكورين هنا هم الوارثون؛ كان للنسخ وجه، وقالت طائفة: إن هذا الرضخ لغير الوارث من القرابة واجب بمقدار ما تطيب به أنفس الورثة، وهو معنى الأمر الحقيقي، فلا يصار إلى الندب إلّا لقرينة.

2. الضمير في قوله: ﴿مِنْهُ﴾ راجع إلى المال المقسوم المدلول عليه بالقسمة، وقيل: راجع إلى ما ترك، والقول المعروف: هو القول الجميل الذي ليس فيه منّ بما صار إليهم من الرضخ، ولا أذى.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/494.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾ قسمة الميراث ﴿أُوْلُواْ الْقُرْبَىٰ﴾ مِمَّن لا يرث، لحجبه بشخص، أو عبوديَّة، أو شرك، أو لكونه من ذوي الأرحام، يتامى أو مساكين أو غيرهما ﴿وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ﴾ الأجانب، والمراد: المحاويج من أولي القربى واليتامى والمساكين، ولا مانع من التعميم في أولي القربى واليتامى للقُربِ واليُتم، ولو أغنياء، إِلَّا أنَّه لا يتبادر مع قوله: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا﴾

2. ﴿فَارْزُقُوهُم﴾ شيئًا قبل القسمة، والخطاب للورثة القاسمين ونُوَابهم ﴿مِنْهُ﴾ مِمَّا ترك الوالدان والأقربون، أو من المقسوم، أو المال المدلول عليه بـ (الْقِسْمَة)، ﴿وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا﴾ مثل أن يقال لهم: رزقكم الله ووسَّع الله عليكم، اعتذارًا على قِلَّة ما أعطوهم، أو ارزقوهم أيُّها الورثة إن كنتم بُلَّغًا عقلاء، وقولوا أيُّها النواب لهم قولاً معروفًا، إن كان الورثة يتامى أو مجانين أو غُيابًا أو مختلطين، وإن كان بعضهم عاقلاً حاضرًا بالغًا وأعطي، ضَمِن لغيره، والأمر برزقهم منه ندب، وهو المختار، وقيل: وجوب منسوخ بآية الإرث، وهو رواية عن ابن عبَّاس، وقيل: وجوب غير منسوخ وتهاون الناس به، ونسب لابن عبَّاس وعائشة.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/123.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾ أي قسمة التركة ﴿أُولُو الْقُرْبَى﴾ ذوو القرابة ممن لا يرث، قدّمهم لأن إعطاءهم صدقة وصلة ﴿وَالْيَتَامَى﴾ الضعفاء بفقد الآباء ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ الضعفاء بفقد ما يكفيهم من المال‏ ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ أي أعطوهم من الميراث شيئا ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ بتلطيف القول لهم والدعاء لهم بمثل: بارك الله عليكم.

2. قال ابن كثير في هذه الآية: المعنى أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون، واليتامى والمساكين، قسمة مال جزيل، فإن أنفسهم تتشوق إلى شيء منه، إذا رأوا هذا يأخذ، وهذا يأخذ، وهم يائسون لا يعطون شيئا، فأمر الله تعالى، وهو الرؤوف الرحيم أن يرضخ لهم شيء من الوسط، يكون برّا بهم وصدقة عليهم وإحسانا إليهم وجبرا لكسرهم كما قال الله تعالى: ﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: 141]، وذم الذين ينقلون المال خفية، خشية أن يطلع عليهم المحاويج وذوو الفاقة، كما أخبر به عن أصحاب الجنة: ﴿إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ﴾ [القلم: 17]، ﴿فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ﴾ [القلم: 23 ـ 24]، ﴿دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ [محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: 10]، فمن جحد حق الله عليه عاقبه في أعز ما يملكه، ولهذا جاء في الحديث: ما خالطت الصدقة مالا إلا أفسدته، أي منعها يكون سبب محق ذلك المال بالكلية.

3. روى البخاري‏ عن ابن عباس، في الآية قال هي محكمة وليست بمنسوخة، وفي لفظ عنه: هي قائمة يعمل بها، وروي عن جماعة من الصحابة والتابعين، في هذه الآية: أنها واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم، وروى عبد الرزاق في (مصنفه) أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن، وعائشة حية، فلم يدع في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه، وتلا: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى﴾ الآية، وأخرج سعيد بن منصور عن يحيى بن يعمر قال ثلاث آيات مدنيات محكمات ضيّعهن كثير من الناس: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾، وآية الاستئذان: ﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ﴾، وقوله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾، الآية، وقد ذكر هاهنا كثير من المفسرين آثارا عن بعض السلف بأن هذه الآية منسوخة بآية، الميراث، وهي من الضعف بمكان، ولقد أبعد القائل بالنسخ عن فهم سر الآية فيما ندبت إليه من هذه المكرمة الجليلة، وهي إسعاف من ذكر من المال الموروث، والنفس الأبية تنفر من أن تأخذ المال الجزل، وذو الرحم حاضر محروم، ولا يسعف ولا يساعد، فالآية بينة بنفسها، واضحة في معناها وضوح الشمس في الظهيرة، لا تنسخ أو تقوم الساعة.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏3/33.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ أي إذا حضر قسمة التركة التي يتركها المورث لورثته أو قسمة أموال اليتامى عند الرشد أو الوصية أحد من ذوى القربى للوارثين أو الموصى لهم ومن اليتامى والمساكين فانفحوهم بشيء من هذا الرزق الذي أصابكم من غير كد ولا كدح وقولوا لهم قولا حسنا تعرفه النفوس الأبية وتستحسنه ولا تنكره الأذواق السليمة ولا تمجه.

2. المراد بذوى القربى الذين يحضرون قسمة الورثة من لا يرث منهم، وقريب الوارث لا يجب أن يكون وارنا فالأخ من الأب من ذوى القربى لأخ الميت الشقيق وهو لا يرث وكذلك العم والخال والعمة والخالة يعدون من ذوى القوبى للوارث الذي لا يرثون معه وقد يسرى إلى نفوسهم الحسد فينبغى التودد اليهم واستمالتهم باعطائهم شيئا من ذلك الموروث بحسب ما يليق بهم ولو بصفة الهبة أو الهدية أو اعداد طعام لهم يوم القسمة، وذلك من صلة الرحم، وشكر النعم، ووجه اعطاء اليتامى والمساكين ظاهر.

3. قال محمد عبده: الخطاب في قوله‏ ﴿فَارْزُقُوهُمْ﴾ لأرباب المال الذين يقسم عليهم وإذا كانت القسمة بين اليتامى الذين رشدوا كان للولى أن يعظهم ويرشدهم إلى ما ينبغي في هذه الحال وليس له أن يعطى شيئا من غير ماله إلا باذن ارباب المال.

4. الأدب الذي يرشد اليه الكتاب في هذا المقام هو اعتبار أن هذا المال رزق ساقه الله إلى الوارثين عفوا بغير كسب منهم ولا سعى فلا ينبغي أن يبخلوا به على المحتاجين من ذوى القربى واليتامى والمساكين من أمتهم ويتركوهم يذهبون منكسرى القلب مضطربى النفس، ومنهم من يكون الحرمان مدعاة حسده للوارث، وأما قول المعروف فهو ما تطيب به نفوس هؤلاء المحتاجين عند ما يأخذون ما يفاض‏ عليهم حتى لا يثقل على عزيز النفس منهم ما يأخذه، ويرضى الطامع في أكثر مما أعطى بما أعطى، فان من الفقراء من يظهر استقلال ما ناله واستكثار ما نال سواه فينبغى أن يلاطف مثل هذا ولا يغلظ له في القول.

5. الحكمة في الأمر بقول المعروف أن من عادة الناس أن يتضايقوا ويتبرموا من حضور ذوى القربى‏وغيرهم مجلسهم في هذه الحالة، أى كما أن ذوى القربى يحبون أن يحضروا ويعرفوا ما نال ذوى قرباهم، ومن كان كارها لشيء تظهر كراهته له في فلتات لسانه، فعلمنا الله تعالى هذا الأدب في الحديث لنهذب به هذه السجية التي تعد من ضعف الانسان المشار إليه في مثل قوله تعالى‏ ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ الآيات.

6. ذهب بعض المفسرين إلى أن الأمر بقوله‏: ﴿فَارْزُقُوهُمْ﴾ للندب وقالوا: انه لو كان واجبا لحدد وقدر كما حددت المواريث، وليس هذا بدليل فقد يجب العطاء ويوكل الأمر في المقدار إلى المعطى، وقال سعيد بن جبير: انه للوجوب وهجره الناس كما هجروا العمل بآية الاستئذان عند دخول البيوت، وهذا هو القول المختار والقول بأنه ندب أو منسوخ من تفسير القرآن بالرأى وهو أن يختار الانسان لنفسه رأيا ومذهبا ويحاول جر القرآن إلى وتحويله إلى موافقته بإخراج الألفاظ عن ظواهر معانيها المتبادرة منها، وان من رحمة الله تعالى بنا أن فوض أمر مقدار ما نعطيه إلينا وجعله مما يتفاضل فيه الاسخياء.

7. الظاهر ما قاله الحسن والنخعى أن ما أمرنا أن نرزقهم منه عند القسمة هو الأعيان المنقولة وأما الارض والرقيق وما أشبه ذلك فلا يجب أن يرضخ منه بشيء بل يكتفى حينئذ بقول المعروف، أو باطعام الطعام كما هو رأى بعض المفسرين في الرزق هنا وسيأتى.

8. أما القول بأن الآية منسوخة فهو مروى عن سعيد بن المسيب والضحاك قالا نسختها آية المواريث كما رواه ابن جرير وكذا عن ابن عباس في أضعف الروايتين والرواية الثانية أنها محكمة وهى التي عليها الجمهور ومنهم ابراهيم النخعي والشعبى ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن والزهري وغيرهم واختارها ابن جرير، وصرح‏ مجاهد بأنها واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم حقا واجبا عليهم، وروى ابن جرى عن قتادة عن يحيى بن يعمر قال: ثلاث آيات محكمات مدنيات تركهن الناس، هذه الآية وآية الاستئذان‏ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ وهذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾

9. خصها بعض من قال إنها محكمة غير منسوخة بقسمة الوصية لأولى قربى الموصى وذلك أن هؤلاء فهموا كما فهم من قال بالنسخ أن أولى القربى هم الوارثون فلا معني للامر برزقهم من التركة، فقال بعضهم بنسخ هذا الأمر بآية المواريث وبعضهم خصه بقسمة الوصية، وقد علمت مما قدمناه أنه يشمل قسمة التركة الموروثة وقسمة أموال اليتامى عند رشدهم وقسمة الوصايا، وهى في التركة أظهر لاتصال الآية بما قبلها، وهو فيما ترك الوالدن والأقربون.

10. قال ابن جرير: ثم اختلف الذين قالوا هذه الآية محكمة وأن القسمة ـ أي الرزق والعطاء ـ لاولى القربى واليتامى والمساكين واجبة على أهل الميراث إن كان بعض أهل الميراث صغيرا وقسم عليه الميراث ولى ماله، فقال بعضهم: ليس لولى ماله أن يقسم من ماله ووصيته شيئا لأنه لا يملك من المال شيئا ولكنه يقول لهم قولا معروفا، قالوا: والذى أمره الله بأن يقول لهم قولا معروفا هو ولى مال اليتيم إذا قسم مال اليتيم بينه وبين شركاء اليتيم إلا أن يكون ولى ماله أحد الورثة فيعطيهم من نصيبه؛ ويعطيهم من يجوز أمره في ماله من أنصبائهم، قالوا: فأما من مال الصغير فالذى يولى عليه ماله لا يجوز لولى ماله أن يعطيهم منه شيئا، اه وساق الروايات في ذلك عن الحسن وسعيد بن جبير والسدى وكذا عن ابن عباس، ثم قال وقال آخرون منهم: ذلك واجب في أموال الصغار والكبار لأولى القربى واليتامى والمساكين، فان كان الورثة كبارا تولوا عند القسمة إعطاءهم ذلك وإن كانوا صغارا تولى ذلك ولى مالهم اه وأورد الروايات في ذلك عن محمد بن عبيدة ومحمد بن سيرين ولكنهما تأولا الرزق باطعام الطعام فكانا عند القسمة يأمران بذبح شاة وصنع طعام لمن حضر القسمة ممن ذكر، وروى عن الحسن انهم كانوا يحضرون فيعطون الشيء والثوب الخلق‏ وجملة القول أن أكثر من روى عنه شيء في الآية من السلف أوجبوا رزق من حضر قسمة الميراث والوصية ممن ذكرتهم الآية عملا بظاهر الأمر وهو يعم كل ما قيل ولكن بعضهم قال انما يرزقون من مال الكبير وبعضهم قال لا فرق بين كبير وصغير.

__________

(1) تفسير المنار: ‏4/397.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ المراد بذوي القربى من لا يرث منهم كالأخ لأب مع الأخ الشقيق والعم مع الأب، أي إذا حضر قسمة التركة أحد من ذوى القربى للوارثين فانفحوهم بشيء من الرزق الذي جاءكم من غير كدّ ولا نصب، فلا ينبغي أن تبخلوا به على المحتاجين من ذوى القربى واليتامى والمساكين وتتركوهم يذهبون منكسرى القلب مضطربى النفس، وقولوا لهم قولا تطيب به نفوسهم عند ما يعطون، حتى لا يثقل على أبىّ النفس منهم ما يأخذ، ويرضى الطامع في أكثر مما أخذ بالتودد والتلطف في القول وعدم التغليظ فيه.

2. السر في إعطائهم شيئا من التركة أنه ربما يسرى الحسد إلى نفوسهم، فينبغى التودّد إليهم واستمالتهم بإعطائهم قدرا من هذا المال هبة أو هدية أو إعداد طعام لهم يوم القسمة، ليكون في هذا صلة للرحم، وشكر للنعمة.

3. قال سعيد بن جبير: هذا الأمر (أمر الإعطاء) للوجوب وقد هجره الناس كما هجروا العمل بالاستئذان عند دخول البيوت، وقال الحسن والنخعي: إنّ ما أمرنا أن نرزقهم منه عند القسمة هو الأعيان المنقولة، وأما الأرضون والرقيق وما أشبه ذلك فلا يجب أن يعطوا منها شيئا بل يكتفى حينئذ بقول المعروف أو بإطعام الطعام.

__________

(1) تفسير المراغى: 4/193.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ هو تدبير حكيم، من لدن عليم خبير، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، فهذا مال ساقه القدر ـ على غير انتظار ـ لجماعة من قرابة المتوفّى، وها هم أولاء يقتسمون هذا الميراث فيما بينهم، ويذهب كل واحد منهم بنصيبه منه..!

2. هذا جانب من الصورة التي تبدو للعين بعد موت المورّث، وعند تقسيم تركته، وهو الجانب البارز الواضح منها، لكن هناك جانب آخر لتلك الصورة، لا تراه إلا البصائر النافذة، ولا تشعر به إلا القلوب المتفتحة! ويضمّ هذا الجانب من الصورة أشتاتا من الناس.. الأقارب الذين لا نصيب لهم في الميراث، واليتامى الفقراء، والمساكين.. وهؤلاء جميعا تحدّق عيونهم في هذا الميراث، وتتلمظ شفاههم به، ويسيل لعابهم إليه.. فإذا انتهى الموقف، وانفضّ الجمع، وذهب كل وارث بنصيبه، دون أن ينال هؤلاء الواقفون على الجانب الآخر شيئا من هذا الميراث، امتلأت نفوسهم غيظا، واحترقت أكبادهم حسدا، وهذا من شأنه أن يثير العداوة والبغضاء في الجماعة، ويوقع الشرّ بينها، والإسلام حريص على أن يسدّ هذه الثغرات، التي تهبّ منها على المجتمع ريح الفتنة، وعواصف الفرقة! وقد جاء هنا بتدبيره الحكيم، فأعطى كل ذي حقّ حقّه، وأقام موازين العدل والإحسان بين الناس، وجمعهم جميعا على المودة والرحمة.

3. من تدبير الإسلام في هذا أن جعل لهؤلاء الذين يحضرون قسمة الميراث من الأقارب غير الورثة، ومن اليتامى الفقراء، والمساكين ـ جعل لهم نصيبا من هذا الميراث.. تطيب به خواطرهم، وتسد به مفاقرهم، دون أن يكون في ذلك ما يضير الورثة، أو يجور على حقهم في مال مورثهم، فهذا المال الذي يبذلونه لمن حضر القسمة من هؤلاء المذكورين في الآية، هو شيء قليل، متروك تقديره للورثة أنفسهم، ولداعى الخير عندهم، خاصة في هذا المشهد الذي يذكرهم بالموت، وما وراء الموت.. الأمر الذي من شأنه أن تلين له القلوب القاسية، وتسخو فيه الأبدي الشحيحة!

4. وانظر إلى تدبير الله، وإلى تقديره في هذا الأمر:

أ. (فأولا) الشرط الذي يستحق به هؤلاء المذكورون في الآية ـ شيئا من التركة، هو أن يكونوا بمحضر من قسمة التركة، سواء أكان هذا الحضور واقعا أو حكما، بمعنى أن يكونوا في مجلس القسمة، أو على علم به، لقربهم منه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾

ب. (وثانيا) القدر المطلوب لهؤلاء المذكورين من مال المتوفّى هو متروك لتقدير الورثة، وما تفيض به مشاعر الخير في نفوسهم.. وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ فهذا الرزق الذي يرزقونه هو من بعض هذا المال ومن حواشيه لا من صميمه، حتى لا يتأذّى الورثة بالعدوان الجائر على نصيبهم، وهذا على خلاف ما جاء في الدعوة إلى الإنفاق على (السفهاء) من مالهم الذي في أيدى الأوصياء، حيث قال تعالى: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾

5. في قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ دعوة إلى الإحسان بالقول، بعد الإحسان بالعمل.. فالكلمة الطيبة هنا تسدّ النقص الذي قد يستشعر به من يصيبهم شيء من هذا المال الذي بما يراه بعضهم قليلا إلى جانب ما ذهب به الورثة من الميراث، وبهذا، وذاك تطيب النفوس، وتنقشع سحب العداوة، ودخان الأحقاد، بين جماعة تربطها روابط القرابة والإخاء!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن: ‏2/705.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ جملة معطوفة على جملة ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾ [النساء: 7] إلى آخرها، وهذا أمر بعطية تعطى من الأموال الموروثة: أمر الورثة أن يسهموا لمن يحضر القسمة من ذوي قرابتهم غير الذين لهم حقّ في الإرث، ممّن شأنهم أن يحضروا مجالس الفصل بين الأقرباء.

2. ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾ [النساء: 7] وقوله: ﴿وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ﴾ [النساء: 7] يقتضيان مقسوما، فالتعريف في قوله: ﴿الْقِسْمَةَ﴾ تعريف العهد الذكري.

3. الأمر في قوله: ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾:

أ. محمول عند جمهور أهل العلم على الندب من أوّل الأمر، إذ ليس في الصدقات الواجبة غير الزكاة، لأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال للأعرابي لمّا قال له: هل عليّ غيرها؟ (لا إلّا أنّ تطوّع) وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وفقهاء الأمصار، وجعلوا المخاطب بقوله: ﴿فَارْزُقُوهُمْ﴾ الورثة المالكين أمر أنفسهم، والآية عند هؤلاء محكمة غير منسوخة.

ب. وذهب فريق من أهل العلم إلى حمل الأمر بقوله: ﴿فَارْزُقُوهُمْ﴾ على الوجوب، فعن ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والزهري، وعطاء، والحسن، والشعبي: أن ذلك حقّ واجب على الورثة المالكين أمر أنفسهم فهم المخاطبون بقوله: ﴿فَارْزُقُوهُمْ﴾

ج. وعن ابن عباس، وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيّب، وأبي صالح: أنّ ذلك كان فرضا قبل نزول آية المواريث، ثم نسخ بآية المواريث، ومآل هذا القول إلى موافقة قول جمهور أهل العلم.

د. عن ابن عباس أيضا، وزيد بن أسلم: أنّ الأمر موجّه إلى صاحب المال في الوصيّة التي كانت مفروضة قبل شرع الميراث واجب عليه أن يجعل في وصيّته شيئا لمن يحضر وصيّته من أولى القربى واليتامى والمساكين غير الذين أوصى لهم، وأنّ ذلك نسخ تبعا لنسخ وجوب الوصية، وهذا يقتضي تأويل قوله: ﴿الْقِسْمَةَ﴾ بمعنى تعيين ما لكل موصى له من مقدار.

هـ. وعن سعيد بن جبير: أنّ الآية في نفس الميراث وأنّ المقصود منها هو قوله: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ قال فقوله: ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ هو الميراث نفسه.

4. ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ أي قولوا لغير الورثة بأن يقال لهم إنّ الله قسم المواريث، وقد علمت أنّ موقع الآية تمهيد لتفصيل الفرائض، وأنّ ما ذهب إليه جمهور أهل العلم هو التأويل الصحيح للآية، وكفاك باضطراب الرواية عن ابن عباس في تأويلها توهينا لتأويلاتهم، والأمر بأن يقولوا لهم قولا معروفا أي قولا حسنا وهو ضدّ المنكر تسلية لبعضهم‏ على ما حرموا منه من مال الميّت كما كانوا في الجاهلية.

__________

(1) التحرير والتنوير: 4/40.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذا النص الكريم ورد في الأقارب الذين لا ميراث لهم كما قال أكثر المفسرين، ولكن القارئ للنص يرى أنه أوسع شمولا؛ لأنه يشمل المساكين واليتامى بإطلاق، وإن لم يكونوا أولى قربى، والمساكين هم الفقراء الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم، وليس المراد من حضورهم أن يكونوا مشاهدين للقسمة؛ لأن قسمة الأموال لا تكون عادة في حضرة هؤلاء الضعفاء، وإنما المراد العلم بهم من مقسمى التركة علم حضور ومعاينة، معنى الرزق إعطاؤهم مالا ينفقون منه، ويسدون منه حاجاتهم بحيث لا يكونون أثرياء.

2. الأمر في قوله تعالى: ﴿فَارْزُقُوهُمْ﴾:

أ. قال بعض التابعين: إنه للندب، فعلى الورثة أن يرضخوا مقدارا من المال ندبا، وحجة هؤلاء في أن الطلب للندب أنه غير مقدر، والفرض الذي يكون لازما من المال لا بد أن يكون مقدرا، وقد كان الصحابة يفعلون ذلك، حتى إنه يروى أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر قسم ميراث أبيه، وأم المؤمنين عائشة على قيد الحياة، فلم يدع في الدار أحدا إلا أعطاه.

ب. وقال بعض التابعين: إن ذلك واجب، وهو للقرابة الفقيرة واليتامى والمساكين في التركات، فهو ثابت كثبوت حق الورثة، لا يزيد أحدهما على الآخر، وعدم التقدير فيه ليس إجمالا، بل ترك الأمر فيه إلى الورثة، وإلى القاضى الذي يقوم على تنفيذ التركات.

ج. وقد ادعى بعض التابعين نسخ الوجوب في الآية فرد قوله سعيد بن جبير، فقال: (إن ناسا يقولون نسخت، والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون به الناس)

3. الذين قرروا أن الأمر للوجوب قصروا العطاء على (النقود) وما يشبهها كالقمح ونحوه دون العقار، وقد روى أن الحسن والنخعى قالا: أدركنا الناس وهم يقسمون على القرابات واليتامى والمساكين من العين (أى الذهب والفضة) فإذا قسم الذهب والفضة وصارت القسمة إلى الأرضين والرقيق ـ قالوا لهم قولا معروفا.

4. قرر من الفقهاء وجوب العطاء ـ الظاهرية، فقالوا يجب إعطاء هؤلاء من التركة مقدارا يتناسب مع حال الورثة وحال هؤلاء ومقدار التركة، ويقدره القضاء.

5. القول المعروف مطلوب: وهو القول الذي لا يخدش الكرامة، وليس فيه منة العطاء، وقد قال فيه الزمخشري: (وأن يلطفوا لهم القول، ويقولوا خذوا بارك الله عليكم، ويعتذروا إليهم، ويستقلّوا ما أعطوهم، ولا يستكثروه ولا يمنوا عليهم)

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏3/1596.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. المراد بأولي القربى أقرباء الميت المحجوبون عن ميراثه بمن هو أقرب اليه منهم، كالأخ مع الابن، والعم مع الأخ.

2. الخطاب في ﴿ارزقوهم﴾ موجه إلى الورثة أو من ينوب عنهم، وبديهة ان الورثة يتصدقون على هؤلاء إذا كانوا فقراء، أما المراد باليتامى والمساكين فغير أولي القربى، والأمر هنا بإعطائهم للندب، لا للوجوب، مثل تصدقوا ولو بشق تمرة، ولكنه ندب مؤكد.

__________

(1) التفسير الكاشف: 2/260.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى﴾ ظاهر الآية أن المراد من حضورهم القسمة أن يشهدوا قسمة التركة حينما يأخذ الورثة في اقتسامها لا ما ذكره بعضهم أن المراد حضورهم عند الميت حينما يوصي ونحو ذلك، وهو ظاهر.

2. وعلى هذا فالمراد من أولي القربى الفقراء منهم، ويشهد بذلك أيضا ذكرهم مع اليتامى والمساكين، ولحن قوله: ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾، الظاهر في الاسترحام والاسترفاق، ويكون الخطاب حينئذ لأولياء الميت والورثة.

3. اختلف في أن الرزق المذكور في الآية على نحو الوجوب أو الندب، وهو بحث فقهي خارج عن وضع هذا الكتاب، كما اختلف في أن الآية هل هي محكمة أو منسوخة بآية المواريث؟ مع أن النسبة بين الآيتين ليست نسبة التناقض لأن آية المواريث تعين فرائض الورثة، وهذه الآية تدل على غيرهم وجوبا أو ندبا في الجملة من غير تعيين سهم فلا موجب للنسخ وخاصة بناء على كون الرزق مندوبا كما أن الآية لا تخلو من ظهور فيه.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏4/201.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أُولُوالْقُرْبَى﴾ الذين بينهم وبين الميت قرابة، والقسمة هي بين الوالدين والأقربين، ويلزم حضورهم لأنهم المتقاسمون فمع المقاسمة بينهم إذا حضر غيرهم من ذوي القرابة ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ من المقسوم والضمير له أو لما ترك.

2. ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ وذلك تأنيس لذوي القربى الذين لا ميراث لهم، ورعاية لقربهم من الميت، وتمييز بينهم وبين الأجانب عنه، وتأنيس لليتامى أو سد خلة، وسد خلة للمساكين، والمروءة والعادات تحدد مقدار ما يرزقون، ولا حرج مع التزام المروءة وصلاح النية والسلامة من الشح، فلا يقال: لو كان واجباً لحدّه الله.

3. الأقرب: أن الأمر للورثة بقوله تعالى: ﴿فَارْزُقُوهُمْ﴾ ﴿وَقُولُوا﴾ فيعطون بعد القسمة ليعطي كل واحد من قسمه مارضي به، أو قبلها إن تراضوا بقدر ما يعطون، والتكليف للبالغين، فأما الصغار فلا شيء عليهم؛ لأنهم غير مكلفين، ولم نعرف أن هذا حق في المال، وإنما هو من واجب المروءة والمواساة، والقولُ المعروف: القول الحسن الذي لا جفاء فيه كالترحيب بهم، قال الشرفي في (المصابيح): (قال الحسين بن القاسم عليهما السلام: وإنما أمر الله بالكلام الجميل لما فيه من سرور العباد والتألّف لهم إلى دين الله ذي العزة والأياد ولأن ذلك يدعو إلى المودة والإئتلاف وينفي ـ كذا ـ بعد الضغاين والإختلاف، فلم يرض عز وجل لأوليائه الكرام بطبائع الجفاة الكفرة اللئام الذين لا يلفظون بطيب من الكلام لما هم عليه من الخساسة وسفه الأحلام والتجبر والكبر على ضعفة الأنام والإحتقار والجفاء للمساكين والأيتام)، قال الشرفي: قال إمامنا المنصور بالله القاسم بن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: (دلت على جواز الصدقة بل على وجوبها لأولي القربى واليتامى والمساكين عند قسمة الميراث، وعلى أن يقال لهم قولاً [كذا] معروفاً)

4. ولا يقال: قد نسخت الزكاةُ كلَّ إنفاق؛ لأن الله تعالى قد أوجب غير الزكاة في قوله: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177] وقد أوجب الله الإنفاق في سبيله، وأوجب الخمس وغيره.

5. ما يروى: (ليس في المال حق سوى الزكاة) إما عام مخصَّص بهذه الأوامر القرآنية وغيرها، وإما ضعيف لمخالفته القرآن، وقد ذكره السيوطي في (الجامع الصغير): عن ابن ماجة، عن فاطمة بنت قيس: أنها سمعته ـ تعني النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول ـ: (ليس في المال حق سوى الزكاة) وقد روى هو وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك) وروي عن أنس حديث الأعرابي وفيه: (لا أدع منهن شيئاً ولا أجاوزهن، ثم وثب) فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن صدق الأعرابي دخل الجنة)، والأولى: أن هذه الروايات منسوخة، وأنها كانت قبل نزول الآيات في وجوب غير الزكاة، وفي (الترمذي) (باب ما جاء أن في المال حقاً سوى الزكاة) فأورد عن أبي حمزة، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس، قالت: سألت أو سئل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الزكاة فقال: (إن في المال لحقاً سوى الزكاة) ثم تلى هذه الآية في (البقرة): ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾ الآية [البقرة: 177] أورده من طريقين: عن شريك، عن أبي حمزة ـ ثم قال الترمذي ـ: هذا حديث إسناده ليس بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعَّف.. هذا السند هو سند حديث: (ليس في المال حق سوى الزكاة) في (سنن ابن ماجه): حدثنا علي بن محمد، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن أبي حمزة، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس: أنها سمعته تعني النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (ليس في المال حق سوى الزكاة) فلا معنى للقدح في روايات (ليس) بأبي حمزة؛ لأنه في ضدها فالأولى تساقط الروايتين لتناقضهما واتحاد راويهما، والعمل بالقرآن لأنه الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولأن أول القضاء ما في كتاب الله، فهو الناسخ كما حققته في (تحرير الأفكار)

__________

(1) التيسير في التفسير: 2/15.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآية توجيه للأولياء أو الورثة في الحالة التي يجلسون فيها لتقسيم التركة، ويحضر معهم الفقراء من أولى القربى واليتامى والمساكين، بأن يمنحوهم من التركة شيئا لما في ذلك من مواجهة لحاجاتهم وتثبيت لقلوبهم، وأن لا يسيئوا إلى كرامتهم بل يقابلوهم بالكلمات الطبيعة والقول المعروف الذي يريد الإسلام للمسلّم أن يفتح به قلب الإنسان المحروم، ويبعث في نفسه الشعور بالثقة والكرامة.

2. وقد اختلف المفسرون في أن الآية محكمة أو منسوخة بآية المواريث، ولكن الرأي الأرجح هو أنها محكمة لاختلاف الموضوع في الآيتين مما لا يدع مجالا لفكرة النسخ، فإن هذه الآية ظاهرة في إعطاء هذه الفئات من التركة من قبل أصحابها الورثة، وليست واردة في منحهم ذلك على أساس أنهم أصحاب حق أصيل، واختلفوا أيضا في أن الأمر على سبيل الوجوب أو الندب، ولكن الظاهر هو الثاني من خلال سياق الفقرة الأخيرة من الآية.

3. ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾ أي قسمة التركة في حالة التوزيع على الورثة ﴿أُولُوا الْقُرْبى﴾‏ ممن لا نصيب لهم في الإرث وهم أقرباؤه الفقراء، بقرينة ذكرهم في سياق اليتامى والمساكين، ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ أي يتاماهم‏ ومساكينهم الذين يأملون في اجتماعهم حول الورثة منحهم شيئا من التركة بنحو الإحسان، ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ أي من المال الموروث.

4. وقد اختلف الرأي في المخاطبين بهذا الأمر، فقيل: إن المخاطبين بذلك هم الورثة الذين يريد الله منهم أن يرزقوا هؤلاء الفقراء من الأقرباء واليتامى والمساكين شيئا من نصيبهم صدقة وإحسانا، وقيل إن المخاطبين الناس الذين تحضرهم الوفاة فيجتمع حولهم هؤلاء ممن لا نصيب لهم في الميراث ليوصوا لهم بشيء من التركة، فأراد الله لهم منهم القيام بالإيصاء إليهم، والظاهر أن الوجه الأول أقرب للسياق لأن الحديث يتركز في حالة حضورهم قسمة التركة، وهذا مما لا يتناسب مع الوجه الثاني لأن حالة الاحتضار ليست حالة القسمة، حتى لو كان الميت يريد الوصية لبعض الناس، فهو لا ينطبق عليه عنوان القسمة الواردة في حالة الشركة الحاصلة بعد الموت من خلال الإرث، وقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً وذلك بالكلمة الطيبة التي لا ترهق كرامتهم ولا تسي‏ء إلى إنسانيتهم لأن الله لا يريد للناس الإساءة إلى هذه الفئات المحرومة بالقول وبالعمل.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏7/101.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. نزلت الآية الكريمة بعد قانون تقسيم الإرث حتما إذ تقول: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾، وعلى هذا الأساس يتضمّن محتوى هذه الآية حكما أخلاقيا استحبابيا في شأن طبقات محجوبة عن الإرث بسبب وجود طبقات أقرب منها إلى المورث، فالآية تقول: إذا حضر مجلس تقسيم الإرث جماعة من الأقرباء من الطبقة الثانية والثالثة، وكذا بعض اليتامى والمساكين فارزقوهم من الإرث، وبهذا تكونون قد منعتم من تحرك شعور الحسد والبغضاء لدى من يمكن أن يثور لديهم ذلك الشعور بسبب حرمانهم من الإرث، ولا شك أنّ هذا العمل من شأنه أن يقوي أواصر القرابة الإنسانية بينكم.

2. إنّ كلمتي (اليتامى) و(المساكين) وإن ذكرتا بنحو مطلق في هذه الآية، غير أن الظاهر هو أنّ المراد منهما هم اليتامى والمساكين من قربى الميت، لأنّ الأقرب‏ يحجب ـ في قانون الإرث ـ الأبعد من الإرث، وعلى هذا فلو حضر أحد من هذه الطبقات قسمة الميراث فإنّه ينبغي أن يعطي الورثة له شيئا من الميراث هدية (يتوقف مقدارها على إرادة الوراث على أن يكون ذلك من مال الورثة الكبار دون الصغار)

3. هذا ويحتمل جماعة من المفسرين أن يكون المراد من اليتامى والمساكين في هذه الآية هو مطلق اليتامى والمساكين سواء كانوا من قرابة الميت أم لا، ولكن هذا الاحتمال يبدو بعيدا في النظر، لأن الأجانب ليس لهم طريق إلى المجالس العائلية غالبا، كما أنّه يعتقد بعض المفسّرين أن الآية تتضمن حكما وجوبيا لا استحبابيا، بيد أن هذا الأمر فيها على نحو الوجوب، وجب تعيين وتحديد ما يلزم إعطاؤه لهاتين الطائفتين، في حين ترك الأمر فيه إلى إرادة الورثة.

4. ثمّ إنّه سبحانه يختم هذه الآية بدستور أخلاقي إذ يقول: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ يعني أنّه مضافا إلى تقديم مساعدة مادية إلى هؤلاء أشفعوا ذلك بموقف أخلاقي واستفيدوا من المعين الإنساني لكسب مودّتهم، وحتى لا يبقى في قلوبهم أي شعور عدائي تجاهكم، وهذا الدستور علامة أخرى ودليل آخر على أن الأمر بإعطاء شيء من الميراث إلى اليتامى والمساكين إنما هو على نحو الندب لا الوجوب.

5. من كل ما ذكرناه اتّضح أنّه لا مبرر أبدا لأن يقال أن الحكم المذكور في هذه الآية منسوخ بالآيات التي تعين السهام في الإرث، لعدم وجود أية منافاة وتعارض بين هذه الآية وتلك الآيات المحددة للأسهم.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏3/116.