...

📥 للتعريف بالكتاب وتحميله

📥 للبحث في الآيات القرآنية وعناوينها

اختر جزءا من الكتاب:

اختر عنوانا من الكتاب:

112. الأرامل والوصية ومتعة الطلاق

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈112⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 240 ـ 242]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: لكل مؤمنة طلقت ـ حرة أو أمة ـ متعة، وقرأ: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾(1).

__________

(1) الدرّ المنثور: ابن المنذر.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في الآية: كان ميراث المرأة من زوجها أن تسكن ـ إن شاءت ـ من يوم يموت زوجها إلى الحول يقول: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾، ثم نسخها ما فرض الله من الميراث(1).

2. روي أنّه قال: إن شاءت اعتدت عند أهله وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت؛ لقول الله ـ تعالى ذكره ـ: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾، جاء الميراث بنسخ السكنى؛ تعتد حيث شاءت، ولا سكنى لها(2).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٠٤.

(2) البخاري: ٤/١٦٤٦.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ الآية كان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة، فنسختها آية المواريث، فجعل لهن الربع والثمن مما ترك الزوج(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ نسخ الله ذلك بآية الميراث؛ بما فرض الله لهن من الربع والثمن، ونسخ أجل الحول بأن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا(2).

3. روي أنّه قام يخطب الناس، فقرأ لهم سورة البقرة، يبين ما فيها، فأتى على هذه الآية: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: ١٨٠]، فقال: نسخت هذه، ثم قرأ حتى أتى على هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾، فقال: وهذه(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته، ينفق عليها من ماله، ثم أنزل الله ـ تعالى ذكره ـ بعد: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤]، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها، إلا أن تكون حاملا، فعدتها أن تضع ما في بطنها، وقال في ميراثها: ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ﴾ [النساء: ١٢]، فبين الله ميراث المرأة، وترك الوصية والنفقة(4).

5. روي أنّه قال: نسخت هذه الآية عدتها عند أهله، تعتد حيث شاءت، وهو قول الله: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾(5).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥١.

(2) أبو داوود: ٢٢٩٨.

(3) سعيد بن منصور: ٤١٦ ـ تفسير.

(4) ابن جرير: ٤/٤٠٠.

(5) البخاري: ٤/١٦٤٧.

جابر:

روي عن جابر بن عبد الله (ت 78 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال:لما طلق حفص بن المغيرة امرأته فاطمة أتت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال لزوجها: (متعها)، قال لا أجد ما أمتعها، قال: (فإنه لا بد من المتاع، متعها ولو نصف صاع من تمر)(1).

2. روي أنّه قال: ليس للمتوفى عنها زوجها نفقة، حسبها الميراث(2).

__________

(1) البيهقي في الكبرى: ٧/٤٢٠.

(2) الشافعي: ٢/١٠٠.

المسيب:

روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: نسختها الآية التي في الأحزاب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾(1).

2. روي أنّه قال: نسخت هذه الآية التي بعدها، قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾، نسخت: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾(2).

__________

(1) علَّقه ابن أبي حاتم: ٢/٤٥٢.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥٤.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ﴾ يقول: عزيز في نقمته إذا انتقم، ﴿حَكِيمٌ﴾ يقول: حكيم في أمره(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ لكل مطلقة متعة، دخل بها أو لم يدخل بها(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥٣.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥٤.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ أنزلت هذه الآية في النساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن يقول: ليس عليهن جناح بعد العدة فيما تزين وتصنعن في طلب الزواج(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ لكل مطلقة متاع بالمعروف حقا على المتقين(2).

3. روي أنّه قال: ﴿كَذَلِكَ﴾، يعني: هكذا يبين الله لكم آياته(3).

روي عن يعلى بن حكيم، قال: قال رجل لسعيد بن جبير: المتعة على كل أحد هي؟ قال: لا، قال: فعلى من هي؟ قال على المتقين(4).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥٣.

(2) ابن جرير: ٤/٢٩٥.

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥٥.

(4) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥٤.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾: الرجل إذا توفي أنفق على امرأته إلى الحول، ولا تزوج حتى يمضي الحول، فأنزل الله ـ تعالى ذكره ـ: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾، [فنسخ الأجل الحول، ونسخ النفقة الميراث؛ الربع والثمن(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٠١

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤] كانت هذه للمعتدة، تعتد عند أهل زوجها، واجبا ذلك عليها، فأنزل الله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ جعل الله لهم تمام السنة، سبعة أشهر وعشرين ليلة، وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله تعالى: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ والعدة كما هي واجبة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ النكاح الحلال الطيب(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ سكنى الحول، ثم نسخ هذه الآية الميراث (3).

__________

(1) البخاري: ٤٥٣١.

(2) عبد الرزاق: ١/٩٧.

(3) ابن جرير: ٤/٤٠٢.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه سئل: أخبرني عن قول الله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ ما أدنى ذلك المتاع، إذا كان معسرا لا يجد؟ قال: خمار، أو شبهه(1).

__________

(1) الكافي: 6/105.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: طلق رجل امرأته عند شريح القاضي، فقال له شريح: متعها، فقالت المرأة: إنه ليست لي عليه متعة، إنما قال الله: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، وللمطلقات متاع بالمعروف،: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: ٢٣٦]، وليس من أولئك(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ الآية قال كانت هذه من قبل الفرائض، فكان الرجل يوصي لامرأته ولمن شاء، [ثم نسخ ذلك بعد، فألحق الله تعالى بأهل المواريث ميراثهم، وجعل للمرأة إن كان له ولد الثمن، وإن لم يكن له ولد فلها الربع، وكان ينفق على المرأة حولا من مال زوجها، ثم تحول من بيته، فنسخته العدة أربعة أشهر وعشرا، ونسخ الربع أو الثمن الوصية لهن، فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون(2).

__________

(1) البيهقي: ٧/٢٥٨.

(2) ابن جرير: ٤/٤٠٣.

الزهري:

روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: متعتان يقضي بإحداهما السلطان، ولا يقضي بالأخرى؛ فالمتعة التي يقضي بها السلطان: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾، والمتعة التي لا يقضي بها السلطان: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢٣٦] (1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٢٩٩.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ إلى: ﴿فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ قال يوم نزلت هذه الآية كان الرجل إذا مات أوصى لامرأته بنفقتها وسكناها سنة، وكانت عدتها أربعة أشهر وعشرا، فإن هي خرجت حين تنقضي أربعة أشهر وعشرا انقطعت عنها النفقة، فذلك قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾، وهذا قبل أن تنزل آية الفرائض، [فنسخه الربع والثمن، فأخذت نصيبها، ولم يكن لها سكنى ولا نفقة(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٠٣.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ الآية: كان هذا من قبل أن تنزل آية الميراث، فكانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا إن شاءت، فنسخ ذلك في سورة النساء، فجعل لها فريضة معلومة، جعل لها الثمن إن كان له ولد، وإن لم يكن له ولد فلها الربع، وجعل عدتها أربعة أشهر وعشرا، فقال: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٠٠.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن الرجل يطلق امرأته، أيمتعها؟ قال: (نعم، أما يحب أن يكون من المحسنين، أما يحب أن يكون من المتقين)(1).

2. روي أنّه قال فيقوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾: (متاعها بعد ما تنقضي عدتها، على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره، وكيف يمتعها وهي في عدتها، ترجوه ويرجوها، ويحدث الله بينهما ما يشاء!؟.. وإذا كان الرجل موسعا عليه، متع امرأته بالعبد والأمة، والمقتر يمتع بالحنطة والزبيب والثوب والدرهم)(2).

3. روي أنّه سئل عن المطلقة مالها من المتعة؟ قال: (على قدر مال زوجها)(3).

4. روي أنّه قال: إن متعة المطلقة فريضة(4).

__________

(1) الكافي: 6/104.

(2) الكافي: 6/105.

(3) تفسير العيّاشي: 1/130.

(4) التهذيب: 8/141.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾: عزيز في ملكه، حكيم فيما حكم من النفقة حولا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ يقول: هكذا يبين الله لكم أمره في المتعة، ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ يعني: لكي: ﴿تَعْقِلُونَ﴾(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ﴾ اللاتي دخل بهن: ﴿مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يعني: على قدر مال الزوج، ولا يجبر الزوج على المتعة؛ لأن لها المهر كامل،: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ أن يمتع الرجل امرأته(2).

4. روي أنّه قال: نزلت في حكيم بن الأشرف، قدم الطائف، ومات بالمدينة وله أبوان وأولاد، فأعطى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الميراث الوالدين، وأعطى الأولاد بالمعروف، ولم يعط امرأته شيئا، غير أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أمر بالنفقة عليها في الطعام والكسوة حولا، فإن كانت المرأة من أهل المدر التمست السكنى فيما بينها وبين الحول، وإن كانت من أهل الوبر نسجت ما تسكن فيه إلى الحول، [فكان هذا قبل أن تنزل آية المواريث (2).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٠١.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٠٢.

الثوري:

روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: وإن طلقها وقد دخل بها، فسمى لها مهرا؛ فعليه المتعة، ولا يجبر على ذلك، ولكن يقال له: متع إن كنت من المتقين، من غير أن يجبر عليه(1).

2. روي أنّه قال: عن بعض الفقهاء أنه كان يقول: كان للمتوفى عنها النفقة والسكنى حولا، [فنسخها: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾، [ونسخها: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾، فإذا كانت حاملا فوضعت حملها انقضت عدتها، وإذا لم تكن حاملا تربصت أربعة أشهر وعشرا(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥٤.

(2) عبد الرزاق في مصنفه: ٧/٤٠ ـ: ٤١.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: لما نزل قوله تعالى: ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: ٢٣٦] رجل: إن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فأنزل الله: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤١١ ـ: ٤١٢.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ قد ذكرنا فيما تقدم أنها تخرج على وجهين:

أ. على النسخ بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: 234]

ب. ويحتمل: على نسخ الوصية خاصة دون نسخ العدة، وأن الأمر بالاعتداد في الآيتين أمر واحد ـ أربعة أشهر وعشرا، ونسخ الوصية بآية الميراث وبقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا وصية لوارث) بمهر مثلهن.

2. قوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ يحتمل وجوها:

أ. تحتمل الآية أن تكون في المطلقات المدخولات بهن وقد فرض لهن أن يأمر الأزواج‏ بالمتعة ندبا، لا وجوبا، على ما روى عن الحسن بن على‏ ـ ما ـ أنه متع بعشرة آلاف، على ما روى عن ابن عباس وابن عمر،، أنهما قالا: إن كنت من المتقين ومن المحسنين فمتعها، فهو أمر ندب، لا أمر إيجاب يجبر على ذلك.

ب. وإن كانت في المطلقة التي لم يدخل بها ولا فرض لها صداقا فهو على ما يقوله ـ وهى واجبة يجبر على ذلك؛ فتخرج هذه الآية والتي قبلها، قوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ على مخرج واحد، غير أن في إحداهما بيان قدر المتعة، وليس في الأخرى سوى ما ذكر.

ج. ويحتمل وجه آخر: وهو أن الأمر بالمتعة أمر بالإنفاق عليها والكسوة لها إذا دخل بها، ما دامت في العدة، أو على الاختيار على ما ذكرنا، لا على الإيجاب؛ إذ لو كان على الوجوب لكان في ذلك إيجاب بدلين ـ الصداق والمتعة ـ ولم يعرف عقد من العقود أوجب بدلين؛ فكذلك هذا، والثاني: أن الطلاق سبب إسقاط، لا سبب إيجاب، فإذا كان كذلك لم يجز أن يوجب السبب الذي هو سبب الإسقاط؛ لذلك لم يجب.

3. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ما سبق ذكره من الأحكام من الأمر بالاعتداد، والإنفاق عليهن، والتمتع وغير ذلك‏ ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أمره ونهيه.

4. في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ أي كما يبين في هذا يبين في جميع ما يعلم لكم إلى بيان ذلك حاجة على قدر ما أراد من البيان ـ من بيان كفاية أو مبالغة ـ ليعلم أن جميع ما إليه بالخلق حاجة داخل تحت البيان، يوصل إلى ذلك بقدر ما تحتمله العقول على ما يكرم الله المجاهدين فيه في طلب مرضاته.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/216.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ هذه الآية نزلت على سبب وهي أن الله عز وجل لما قال ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ وقال رجل: إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل فقال الله عز وجل: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ خص المتقين وإن كان عاماً تشريفاً لهم.

2. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾.. الآية، أما الوصية فقد كانت بدل الميراث ثم نسخت بآية المواريث، وأما الحول فقد كانت عدة المتوفى عنها زوجها ثم نسخت بأربعة أشهر وعشرا على ما تقدم.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/118.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي: (1).

1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ الآية، أما الوصية فقد كانت بدل الميراث، ثم نسخت بآية المواريث، وأما الحول فقد كانت عدّة المتوفى عنها زوجها، ونسخت بأربعة أشهر وعشر.

2. في قوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ثلاثة أقاويل (2).:

أ. أحدها: أنها لكل مطلقة، وهذا قول سعيد بن جبير وأحد قولي الشافعي.

ب. وقيل إن هذه الآية نزلت على سبب وهو أن الله عزّ وجل لمّا قال ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ فقال رجل: إن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فقال الله عزّ وجل: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، وهذا قول ابن زيد، وإنما خص المتقين بالذكر ـ وإن كان عاما ـ تشريفا لهم.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/312.

(2) ذكر قولين فقط.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ نافع، وابن كثير، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم (وصية) بالرفع، الباقون بالنصب.

2. هذه الآية منسوخة الحكم بالآية المتقدمة، وهي قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ بلا خلاف في نسخ العدة إلّا أبا حذيفة، فإنه قال العدة أربعة أشهر وعشراً، وما زاد الى الحول يثبت بالوصية والنفقة، فان أمتع الورثة من ذلك كان لها أن تتصرف في نفسها، فأما حكم الوصية، فعندنا(2). باق لم ينسخ وإن كان على وجه الاستحباب، وحكي عن ابن‏ عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد: أنها منسوخة بآية الميراث، وقد بينا فساد قولهم: لا وصية لوارث، فأما آية الميراث، فلا تنافي الوصية، فلا يجوز أن تكون ناسخة لها، وقد مضى الكلام في خبر الذين‏ في الآية المتقدمة، فلا وجه لإعادته.

3. من نصب ﴿وصية﴾ فإنه يحتمل قوله: ﴿وَصِيَّةٍ﴾ [النساء: 12] أمرين:

أ. أحدهما: فليوصوا وصية لأزواجهم، فينصب على المصدر.

ب. الثاني:كتب الله عليهم وصية لأزواجهم، فينصب على أنه مفعول به.

4. المصدر المنصوب يدل على فعل الأمر المأخوذ منه، أما دلالته على فعله، فلأنه مشتق منه، وأما دلالة نصبه على الأمر منه، فلغلبة الباب في الأمر، فأما دلالته على كتب، فلأن ما أمر الله به، فقد كتبه، والنصب يدل على الأمر به، والرفع يحتمل ثلاثة أوجه:

أ. أحدها: فعليهم وصية لأزواجهم.

ب. الثاني:فلأزواجهم وصية كما تقول: لزيد مال.

ج. الثالث: كتب عليهم وصية لأزواجهم.

5. قال بعضهم: لا يجوز غير الرفع، لأنه، لا يمكن الوصية بعد الوفاة، لأن الفرض كان لهن أوصى أو لم يوص، قال الرماني: وهذا غلط، لأن المعنى والذين يحضرهم الوفاة منكم، فلذلك قال ﴿يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ على لفظ الحاضر الذي يتطاول على نحو قولك: الذين يصلون، فليعرضوا عن الذكر فيما يشغلهم، فأما قوله: الفرض كان لهم، فان لم يوصوا فقال قتادة والسدي: إنما كان لهن بالوصية على أنه لو كان على ما زعم، لم ينكر أن يوجبه الله على الورثة إن فرط الزوج في الوصية.

6. ﴿مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾ نصب، والعامل فيه أحد أمرين:

أ. أحدهما: جعل الله لهن ذلك متاعا، لأن ما قبله دل عليه.

ب. الثاني:متعوهن متاعاً.

7. ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ [البقرة: 240] نصب بأحد الشيئين:

أ. أحدهما: بأن يكون صفة لمتاع.

ب. الثاني:أن يكون مصدراً كأنه قيل: لا إخراجاً، قال‏ الفراء: هو كقولك: جئتك عن رغبة اليك فكأنه قال: متعوهن مقاماً في مساكنهن، فيكون مصدراً وقع موقع الحال، ويجوز أن يكون بمعنى الاقامة في مساكنهن، وقال الحسن، والسدي: قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ دليل على سقوط النفقة، والسكنى بالخروج، لأنه إنما جعل لهن ذلك بالإقامة الى الحول، فان خرجن قبله بطل الحق الذي وجب بالإقامة، وإنما يحتاج الى هذا التخريج من يوجب النفقة للمعتدة عن الوفاة، فأما من قال لا نفقة لها، ولا سكنى، فلا يحتاج الى ذلك، وهو مذهبنا، لأن المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها، وإذا قلنا القرآن لا ينسخ بالسنة، قلنا: النفقة هاهنا على وجه الاستحباب أو أنها تثبت بالوصية، لأنا بينا أن الوصية غير منسوخة.

8. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾:

أ. قال سعيد بن المسيب: الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾

ب. وعندنا (2). أنها مخصوصة بتلك إن نزلا معاً، وإن كانت تلك متأخرة فالأمر على ما قال سعيد ابن المسيب: إنها منسوخة، لأن عندنا لا تجب المتعة إلا للتي لم يدخل بها ولم يسم لها مهر، وإن سمي لها مهر، فلها ما سمي وإن لم يدخل بها فان فرض لها مهراً كان لها نصف مهرها، ولا متعة لها في الحالين، فلا بد من تخصيص هذه الآية.

ج. وقال سعيد ابن جبير وأبو العالية والزهري: المتعة واجبة لكل مطلقة، وبه قال أبو حنيفة.

د. وقال الحسن: هي للمطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها صداق مثل ما قلناه، وقال عطا، ومجاهد: هي للمدخول بها، وحكى أبو علي: للمطلقة البائنة.

9. إنما كرر ذكر المتعة هاهنا وقد تقدم ذكرها قبل هذه الآية، لأنه ذكر في غيرها خاصاً وذكر فيها عاماً فدخل فيه الأمة، وغيرها، والمتعة في الموضع الذي يجب‏ على قدر الرجل بظاهر الآية، لأنه قال: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ﴾: مثلها وإن كان فوق قدره حكاه البلخي.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ [لقمان: 17]:

أ. قيل: معناه بالمعروف صحته، لأنه عدل بين الافراط، والتقصير.

ب. وقال الضحاك: على قدر الميسرة.

11. إنما خص المتاع بالمتقين وإن كان واجباً على الفاسقين:

أ. قيل: تشريفاً لهم بالذكر اختصاصاً، وجعل غيرهم على وجه التبع، كما قال ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾

ب. وقيل: لأنه أخرج الكلام مخرج من لا يعتد بغيرهم لاحتقارهم، وجلالة المتقين بالتقوى، ولأنه إذا وجب على المتقين، فهو واجب على جميع المتعبدين، لأن التقوى واجب على المكلفين، وهذا إنما يدل على أنه واجب بشريطة التقوي، فأما إذا وجب على التقي والفاجر، فالجواب هو الأول.

12. ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ نصب على المصدر، وقع موقع الحال، والعامل فيه (بالمعروف) كأنه قيل: عرف حقاً، ويجوز أن يكون العامل فيه الظرف، ويجوز أن يعمل فيه معنى الجملة، كأنه قيل: أحق ذلك حقاً وكان يجوز أن يرفع على أنه صفة لمتاع.

13. المتاع: النفقة مقدار ما تقيم في العدة على قول الجبائي: وعلى ما قلناه قدر ما يوصي به لها بالمعروف الذي لا يضرّ بباقي الورثة.

14. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ التشبيه بقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ﴾ وقع على البيان الذي تقدم في الأحكام والحجاج والمواعظ والآداب وغير ذلك مما يحتاج الناس الى عمله، والعمل عليه في‏ أمر دينهم ودنياهم شبه البيان الذي يأتي بالبيان الماضي، والبيان: هو الأدلة التي يفرق بها بين الحق، والباطل، وعبر عنه بأنه فعل يظهر به أمر على طريقة حسنة، وليس كلما يظهر به غيره ما لا يأتيه، وقد يكون ذلك بكلام فاسد يفهم به المراد، فلا يستحق صفة بيان، والآية هي العلامة فيما كان من الأمور العظيمة، لأن في الآية تفخيما ليس في العلامة.

15. ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ معناه: لكي تعقلوا آيات الله بالبيان عنها، والعقل مجموع علوم ضرورية يميز بها بين القبيح، والحسن، ويمكن معها الاستدلال بالشاهد على الغائب.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/279.

(2) يقصد الإمامية.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. المتاع: ما يستمتع به أي ينتفع، والحول والعام والسنة نظائر، وأصله من حال يحول سمي به؛ لأنه يتحول.

ب. البيان: هو الدليل الذي يُعْلِم به المبين، وأصله الكشف يقال: بينه إذا أظهره وكشفه، مأخوذ من القطع، ومنه: ما أُبِينَ من الحي فهو ميت.

ج. العقل العلم سمي به لمنعه صاحبَه من الفساد، ومنه العقال.

2. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَالله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، عن ابن عباس وجماعة أن الآية كانت نزلت في رجل من أهل الطائف يقال له: حكيم ابن الحارث، هاجر إلى المدينة وله أولاد ومعه أبواه وامرأته فمات، فرفع ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأعطى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والديه وأولاده من ميراثه، ولم يعط امرأته شيئًا غير أنه أمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً، وكانت المرأة تعتد في بيت زوجها، ثم تخرج وكانت نفقتها وسكناها من مال الزوج، ولم يكن لها الميراث، فإن خرجت فلا نفقة لها.

3. لما تقدمت الآية في العدة وبين تعالى حال كل عدة، وكانت العدة قبل ذلك بالحول، فنسخ ووضع المنسوخ في هذا الموضع، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ يعني يموتون منكم يا معشر الرجال: ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ أي يتركون زوجات: ﴿وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾، واختلفوا:

أ. قيل: أي فليوصوا وصية لهن.

ب. وقيل: معناه وصية من الله لأزواجهم، عن الأصم.

ج. وقيل: وصية، من الأزواج، وعليه المفسّرون.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾:

أ. قيل: يعني ما ينتفعون بها حولا من نفقتها وكسوتها وسكناها.

ب. وقيل: هو مثل المتعة في المطلقات وكان واجبًا في المتوفى عنها زوجها بالوصية من مال الزوج: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ أي لا يخرجن من بيوت الأزواج، ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ يعني بأنفسهن قبل الحول من غير إخراج الورثة.

ج. وقيل: إذا خرجن بعد مضي الحول، وقد مضت العدة.

5. ﴿إِنْ﴾ بمعنى: ﴿إِذَا﴾ عن القاضي وغيره، وهو الصحيح.

6. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي لا حرج ولا إثم عليكم يا معشر أولياء الميت وورثته ﴿فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ اختلفوا في رفع الجناح:

أ. فقيل: لا جناح في قطع النفقة والسكنى عن الحسن، والسدي قال: ذلك واجب يسقط بالخروج.

ب. وقيل: لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج، لأن مقامها سنة في بيت زوجها غير واجب، ولكن خيرها الله تعالى في ذلك، عن أبي علي.

ج. وقيل: لا جناح عليكم إن تزوجت بعد انقضاء العدة، وهذا هو الأوجه، وتقدير الآية: فإذا خرجن من العدة لتمام السنة فلا حرج إن تزوجن.

د. وقيل: من معروف يعني طلب النكاح والتزين: ﴿وَالله عَزِيزٌ﴾ قادر لا يغلبه شيء، ومع ذلك: ﴿حَكِيمٌ﴾ لا يفعل إلا الحسن الذي تقتضيه الحكمة.

7. اتفق العلماء أن هذه الآية ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ منسوخة، ثم اختلفوا:

أ. فقيل: بآية الميراث وآية عدة الوفاة، عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد.

ب. وقيل: العدة بالآية والوصية بالنفقة بالسُّنةِ، وهو قوله: (لا وصية لوارث )

8. أنكر أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني نسخ الآية وشدد فيه، واستبعد خلاف من خالفه، وزعم أن معنى الآية: أن من يتوفى منكم ويذرون أزواجًا وقد أوصوا وصية لأزواجهم بمتاع يعطيها على ألا يخرجن إلى الحول، فإن خرجن قبل ذلك، وخالفن الوصية بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى لهن، فلا حرج عليهن فيما فعلن في أنفسهن من معروف أو نكاح صحيح؛ لأن إقامتهن بهذه الوصية حولاً غيرُ لازم، فكأنه بين تعالى أن تلك العدة غير لازمة بالوصية، وأن اللازم أربعة أشهر وعشر، وأطال القول فيه.

9. سؤال وإشكال: كيف كانت منسوخة، وهو متأخر عن الناسخ؟، والجواب: هذه وإن تأخرت في الترتيب والتلاوة، فهي متقدمة في النزول، وتلك متأخرة، قال الحسن: كانت العادة فيما ينزله الله تعالى من الآيات أن يأمر جبريل أن يضع الآية في موضع كذا على حسب المصلحة، فإذا كانت المصلحة فيما ينزله الله تعالى آخرًا أن يوضع أولاً جاز، ومثل هذا كثير في السور والآيات، ولا خلاف أن الاعتداد بالحول منسوخ، والنفقة في عدة الوفاة منسوخة.

10. اختلفوا في السكنى:

فمنهم من قال: لا تجب، وقد نسخ، وهو قول أصحاب أبي حنيفة.

ومنهم من قال: إنه ثابت، وهو أحد أقوال الشافعي، وذكر ذلك علي بن موسى القمي.

11. في الآية أربعة أحكام: اثنان منسوخان، واثنان ثابتان:

أ. فالمنسوخ: الاعتداد حولاً، والوصية لهن.

ب. والثاني: بيان السكنى في العدة وإباحة الخروج بعد العدة، ومن يجعل السكنى منسوخًا يقول: الثابت من الأحكام حكم واحد.

12. قيل: لما نزل قوله تعالى: ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ إلى قوله: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ قال بعضهم: إن أحببت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، عن ابن زيد.

13. لما تقدم بيان حال المعتدات بَيَّنَ ما يجب لهن من المتعة، فقال: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ﴾، وفيه قولان:

أ. الأول: قيل: هي المتعة الواجبة بقوله: ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ ثم اختلفوا لمن تجب:

فقيل: لكل مطلقة، عن سعيد بن جبير وأبي العالية والزهري.

وقيل: بل للمطلقة قبل الفرض والمسيس، عن الحسن وأهل العراق.

وقيل: بل للمدخول بها، عن عطاء ومجاهد.

وقيل: بل للمطلقة التي تملك الرجعة، حكاه أبو علي.

وقيل: لكل مطلقة إلا المطلقة قبل المسيس وقد فِرُضَ لها مهر، عن الشافعي، وإنما كرر ذكر المتعة لزيادة البيان.

ب. الثاني: أن المراد به النفقة لا المتعة، وهو قول أبي علي وجماعة؛ لأنه عام في كل المطلقات، فإذا حمل على النفقة أمكن أن يوفى العموم حقه، والنفقة تسمى متاعًا قال تعالى: ﴿مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾، ولأنه لا يؤدي إلى التكرار.

14. ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ يعني على قدر اليسار والإعسار من دون إسراف ولا تقتير: ﴿حَقًّا﴾ أي أمَرًا واجبًا: ﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ من اتقى مخالفة أمر الله تعالى وعذابه وخصهم بالذكر:

أ. قيل: تشريفًا كأن غيرهم لا يعتد بهم، وإن أوجب ذلك عليهم.

ب. وقيل: إذا وجب ذلك على المتقين فَغَيْرُهُمْ أولى.

15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله﴾:

أ. قيل: يعني كما بَيَّنَ الأحكام والآيات التي مضت مما تحتاجون إلى معرفتها في أمر دينكم بَيَّنَ هذه الأحكام.

ب. وقيل: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله﴾ يعني كما بين لمن قبلكم، عن الأصم.

16. ﴿آيَاتِهِ﴾ يعني دلائله وأحكامه: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾:

أ. قيل: لتعلموا الآيات والبيان.

ب. وقيل: ذكرهم بصفة العقلاء مدحًا لهم.

17. تدل الآيات الكريمة على:

أ. وجوب الوصية بالمتاع حولا، وذكر الحول تقديرًا للمتاع الواجب بالوصية من النفقة والسكنى، ثم اختلفوا في هذا المتاع على ما بينا أن منهم من قال: هو النفقة، ومنهم من قال: المتعة.

ب. يدل قوله تعالى: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ على وجوب السكنى حولاً فصارت الآية دالة على وجوب وصية، ووجوب نفقة وسكنى، وعلى الاعتداد حولاً.

ج. وجوب النفقة للمطلقات.

د. أن المبتوتة لها النفقة والسكنى، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واختيار أبي علي، خلاف ما يقوله الشافعي؛ ولهذا قال عمر: (لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لعلها وهمت)، يعني فاطمة بنت قيس لما روت أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لم يجعل لها نفقة ولا سكنى.

هـ. يدل قوله تعالى: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ على أنه ليس فيه إسراف ولا تقتير؛ لأن ذلك لا يكون من المعروف.

و. أن الله تعالى يبين الآيات والغرض أن يعلم المكلف؛ لأن قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ لكي تعلموا، وقد روى سعيد بن المسيب أن الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾، وعلى ما حملنا لا نسخ في الآية.

18. قرأ ابن كثير وأبو جعفر ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم: ﴿وَصِيَّةٍ﴾ بالرفع والباقون بالنصب، وفي النصب قولان: قيل: فليوصوا وصيةً، فينصب على المصدر، الثاني: كتب الله عليكم وصية، فينصب؛ لأنه مفعول، وفي الرفع ثلاثة أوجه: الأول: فعليهم وصية، الثاني: فلأزواجهم وصية، كما تقول: لزيد مال، الثالث: كُتبت عليهم وصية.

19. مسائل نحوية:

أ. في نصب ﴿مَتَاعًا﴾ أقوال:

الأول: فعل الله لهم ذلك متاعًا؛ لأن ما قبله دل عليه.

الثاني: متعوهن متاعا.

الثالث: نصب بـ ﴿وَصِيَّةٍ﴾

الرابع: نصب على الحال.

ب. في نصب ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ وجوه:

الأول: أنه صفة لـ: ﴿مَتَاعُ﴾

الثاني: على المصدر كأنه قيل: لا إخراجًا.

الثالث: بنزع الخافض كأنه قيل: من غير إخراج.

ج. نصب ﴿حَقًّا﴾ على مصدر وقع موقع الحال، والعامل فيه: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾، كأنه قيل: عرف ذلك حقًّا على المتقين، ويجوز أن يكون العامل فيه الظرف، ويجوز أن يكون بمعنى الجملة كأنه قيل: أحق ذلك حقًّا، ويجوز في العربية الرفع صفةً لـ: ﴿مَتَاعُ﴾

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/34.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ أي: الذين يقاربون منكم الوفاة، لأن المتوفى لا يؤمر ولا ينهى، ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ أي: فليوصوا وصية لهن، ومن رفع فمعناه: وصية من الله لأزواجهم، أو عليهم وصية لهن.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾:

أ. قيل: يعني: ما ينتفعن به حولا من النفقة والكسوة والسكنى.

ب. وقيل: وهو مثل المتعة في المطلقات، وكان واجبا في المتوفى عنها زوجها بالوصية من مال الزوج.

3. ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ أي: لا يخرجن من بيوت الأزواج، ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾:

أ. قيل: بأنفسهن قبل الحول، من غير أن يخرجهن الورثة.

ب. وقيل: إن المراد إذا خرجن بعد مضي الحول، وقد مضت العدة فإن بمعنى إذا، عن القاضي وغيره.

4. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ يا معشر أولياء الميت ﴿فيما فعلن في أنفسهن من معروف﴾ اختلفوا في رفع الجناح:

أ. قيل: لا جناح في قطع النفقة والسكنى عنهن، عن الحسن والسدي قالا: وهذا دليل على سقوط النفقة بالخروج، وأن ذلك كان واجبا لهن بالإقامة إلى الحول، فإن خرجن قبله بطل الحق الذي وجب لهن بالإقامة.

ب. وقيل: لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج، لأن مقامها سنة في البيت غير واجب، ولكن قد خيرها الله في ذلك، عن الجبائي.

ج. وقيل: لا جناح عليكم ان تزوجن بعد انقضاء العدة، وهذا أوجه وتقديره: إذا خرجن من العدة بانقضاء السنة، فلا جناح ان تزوجن.

5. ﴿مِنْ مَعْرُوفٍ﴾: يعني طلب النكاح والتزين، ﴿وَالله عَزِيزٌ﴾ قادر لا شيء يعجزه، ﴿حَكِيمٌ﴾ لا يصدر منه إلا ما تقتضيه الحكمة.

6. اتفق العلماء على أن هذه الآية منسوخة، وقال أبو عبد الله: ثم كان الرجل إذا مات أنفق على امرأته من صلب المال حولا، ثم أخرجت بلا ميراث.. ثم نسختها آية الربع والثمن، فالمرأة ينفق عليها من نصيبها، وعنه قال: نسختها: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ ونسختها آية المواريث.

7. قيل: لما نزلت: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ قال بعضهم: إن أحببت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فأنزل الله هذه الآية ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

8. لما قدم سبحانه بيان أحوال المعتدات، عقبه ببيان ما يجب لهن من المتعة فقال: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ﴾ اختلف فيه:

أ. فقال سعيد بن جبير وأبو العالية والزهري: إن المراد بهذا المتاع المتعة، وأن المتعة واجبة لكل مطلقة.

ب. وقال أبو علي الجبائي: المراد به النفقة، وهو المتاع المذكور في قوله تعالى: ﴿مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾

ج. وقال سعيد بن المسيب: الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾

د. وعندنا (2). إنها مخصومة بتلك الآية ان نزلتا معا، وإن كانت تلك متأخرة فمنسوخة، لأن عندنا لا تجب المتعة إلا للمطلقة التي لم يدخل بها، ولم يفرض لها مهر، فأما المدخول بها، فلها مهر مثلها، إن لم يسم لها مهر، وإن سمي لها مهر فما سمي لها، وغير المدخول بها المفروض مهرها، لها نصف المهر، ولا متعة في هذه الأحوال، وبه قال الحسن، فلا بد من تخصيص هذه الآية، وذكرنا الكلام في المتعة عند قوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾

9. ﴿بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ مضى تفسيره، وخص المتقين هنا كما خص المحسنين هناك.

10. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ أي: كما بين الله لكم الأحكام والآداب التي مضت مما تحتاجون إلى معرفتها في دينكم، يبين لكم هذه الأحكام، فشبه البيان الذي يأتي بالبيان الماضي، والبيان هو الأدلة التي يفرق بها الحق والباطل.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾:

أ. قيل: معناه: لكي تعقلوا آيات الله.

ب. وقيل: لعلكم تكمل عقولكم، فإن العقل الغريزي إنما يكمل بالعقل المكتسب، والمراد به استعمال العقل مع العلم به، ومن لم يستعمل العقل فكأنه لا عقل له، وهذا كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ جعلهم جهالا لأنهم آثروا هواهم على ما علموا أنه الحق.

12. قرأ أهل المدينة وابن كثير والكسائي وأبو بكر عن عاصم: ﴿وَصِيَّةٍ﴾ بالرفع، والباقون بالنصب:

أ. قال أبو علي: حجة من قرأ: ﴿وَصِيَّةٍ﴾ بالرفع أن يرتفع من وجهين:

أحدهما: أن يكون مبتدأ والظرف خبره، وحسن الابتداء بالنكرة لأنه موضع تخصيص، كما حسن أن يرتفع سلام عليكم وخير بين يديك ونحو قوله لملتمس المعروف أهل ومرحب لأنها في موضع دعاء، فجاز فيها الابتداء بالنكرة لما كان معناها كمعنى المنصوب.

والآخر: أن تضمر له خبرا فيكون لأزواجهم صفة، وتقدير الخبر المضمر فعليهم وصية لأزواجهم.

ب. ومن نصب ﴿وَصِيَّةٍ﴾ حمله على الفعل أي: ليوصوا وصية ﴿لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ وصفا كما كان في قول من أضمر الخبر كذلك، ومن حجتهم أن الظرف إذا تأخر عن النكرة، كان استعماله صفة أكثر، وإذا كان خبرا تقدم على النكرة إذا لم يكن في معنى المنصوب، كقوله تعالى: ﴿ولهم أعمال من دون ذلك ولدينا مزيد﴾، فإذا تأخرت، فالأكثر فيها أن تكون صفات.

ج. وقال بعضهم: لا يجوز غير الرفع، لأنه لا يمكن الوصية بعد الوفاة، ولأن فرض النفقة كان لهن، أوصى أو لم يوص، قال علي بن عيسى: وهذا غلط لأن المعنى: والذين تحضرهم الوفاة منكم فلذلك قال: ﴿يُتَوَفَّوْنَ﴾ على لفظ الحاضر الذي يتطاول نحو قوله (الذين يصلون فليعرضوا عن الفكر فيما يشغلهم)، فأما قولهم: إن الفرض كان لهن، وإن لم يوصوا، فغير صحيح لأن الزوج إذا فرط في الوصية، فلا ينكر أن يوجبه الله على الورثة، وقال قتادة والسدي: كان يجب على الزوج الوصية لها، كما أوجب الوصية للوالدين والأقربين.

13. مسائل نحوية:

أ. ﴿مَتَاعًا﴾: نصب على وجهين أحدهما أنه على تقدير متعوهن متاعا والثاني: جعل الله لهن ذلك متاعا لأن ما قبله دل عليه.

ب. ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ منصوب على وجهين أحدهما: أن يكون صفة لمتاع والثاني: أن يكون مصدرا وضع موضع الحال، قال الفراء: وهو كقولك: جئتك غير رغبة إليك، فكأنه قال: متعوهن متاعا في مساكنهن، وأقول: إن تقديره غير مخرجات إخراجا، فيكون ذو الحال هن من متعوهن، ويجوز أن يكون تقديره غير مخرجين، فيكون ذو الحال الواو من متعوهن.

ج. الوجه في انتصاب قوله تعالى: ﴿حَقًّا﴾ مثل ما بيناه فيما قبل في قوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ كذلك الكاف يتعلق بيبين أي: مثل هذا البيان يبين لكم.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/602.

(2) يقصد الإمامية.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. روى ابن حيّان أن هذه الآية ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ نزلت في رجل من أهل الطّائف، يقال له: حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة، ومعه أبواه وامرأته، وله أولاد، فمات فرفع ذلك إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فنزلت هذه الآية، فأعطى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أبويه وأولاده من ميراثه، ولم يعط امرأته شيئا، غير أنّه أمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا.

2. ﴿وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ قرأ أبو عمرو، وحمزة، وابن عامر (وصية) بالنصب، وقرأ ابن كثير، ونافع، والكسائيّ (وصية) بالرفع، وعن عاصم كالقراءتين، قال أبو عليّ: من نصب حمله على الفعل، أي: ليوصوا وصية، ومن رفع، فمن وجهين:

أ. أحدهما: أن يجعل الوصيّة مبتدأ، والخبر لأزواجهم .

ب. الثاني: أن يضمر له خبرا، تقديره: فعليهم وصية، والمراد منه من قارب الوفاة، فليوص، لأن المتوفّى لا يؤمر ولا ينهى.

3. ﴿مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾، أي: متّعوهنّ إلى الحول، ولا تخرجوهنّ، والمراد بذلك نفقة السّنة وكسوتها وسكناها ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ أي: من قبل أنفسهنّ‏ ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ يعني: أولياء الميت‏ ﴿فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ يعني التّشوّف للنّكاح.

4. في ماذا رفع الجناح عن الرّجال قولان:

أ. أحدهما: أنه في قطع النّفقة عنهنّ إذا خرجن قبل انقضاء الحول.

ب. الثاني: في ترك منعهنّ من الخروج، لأنه لم يكن مقامها الحول واجبا عليها، بل كانت مخيّرة في ذلك.

5. ذكر علماء التفسير أن أهل الجاهلية كان إذا مات أحدهم، مكثت زوجته في بيته حولا، ينفق عليها من ميراثه، فإذا تمّ الحول، خرجت إلى باب بيتها، ومعها بعرة، فرمت بها كلبا، وخرجت بذلك من عدّتها، وكان معنى رميها بالبعرة أنها تقول: مكثي بعد وفاة زوجي أهون عندي من هذه البعرة، ثم جاء الإسلام، فأقرّهم على ما كانوا عليه من مكث الحول بهذه الآية، ثم نسخ ذلك بالآية المتقدّمة في نظم القرآن على هذه الآية، وهي قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾، ونسخ الأمر بالوصية لها بما فرض لها من ميراثه‏.

6. ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ قد سبق الكلام في المتعة بما فيه كفاية، ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾، أي: كما بين الذي تقدم من الأحكام‏ ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي: يثبت لكم وصف العقلاء باستعمال ما بيّن لكم، وثمرة العقل استعمال الأشياء المستقيمة، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾، وإنما سموا جهّالا لأنهم آثروا أهواءهم على ما علموا أنه الحق.

__________

(1) زاد المسير: 1/218.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم ﴿وَصِيَّةٍ﴾ [النساء: 12] بالرفع، والباقون بالنصب، أما الرفع ففيه أقوال:

الأول: أن قوله: ﴿وَصِيَّةٍ﴾ [النساء: 12] مبتدأ وقوله: ﴿لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ [البقرة: 240] خبر، وحسن الابتداء بالنكرة، لأنها متخصصة بسبب تخصيص الموضع، كما حسن قوله: سلام عليكم، وخير بين يديك .

الثاني: أن يكون قوله: ﴿وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ [البقرة: 240] مبتدأ، ويضمر له خبر، والتقدير فعليهم وصية لأزواجهم، ونظيره قوله: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: 237] [البقرة: 237]، ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ﴾ [النساء: 92] [النساء: 92]، ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾ [المائدة: 89] [المائدة: 89] .

الثالث: تقدير الآية: الأمر وصية، أو المفروض، أو الحكم وصية، وعلى هذا الوجه أضمرنا المبتدأ.

الرابع: تقدير الآية: كتب عليكم وصية.

الخامس: تقديره: ليكون منكم وصية.

السادس: تقدير الآية: ووصية الذين يتوفون منكم وصية إلى الحول.

وكل هذه الوجوه جائزة حسنة.

2. قراءة النصب في قوله تعالى: ﴿وَصِيَّةٍ﴾ [النساء: 12] وجوه:

أ. الأول: تقدير الآية فليوصوا وصية .

ب. الثاني: تقديرها: توصون وصية، كقولك: إنما أنت سير البريد أي تسير سير البريد .

ج. الثالث: تقديرها: ألزم الذين يتوفون وصية.

3. في قوله تعالى: ﴿مَتَاعًا﴾ [عبس: 32] وجوه:

أ. الأول: أن يكون على معنى: متعوهن متاعا، فيكون التقدير: فليوصوا لهن وصية، وليمتعوهن متاعا .

ب. الثاني: أن يكون التقدير: جعل الله لهن ذلك متاعا لأن ما قبل الكلام يدل على هذا .

ج. الثالث: أنه نصب على الحال.

4. في قوله تعالى: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ [البقرة: 240] قولان:

أ. الأول: أنه نصب بوقوعه موقع الحال كأنه قال متعوهن مقيمات غير مخرجات .

ب. الثاني: انتصب بنزع الخافض، أراد من غير إخراج.

5. في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ ثلاثة أقوال:

أ. الأول: وهو اختيار جمهور المفسرين، أنها منسوخة، قالوا: كان الحكم في ابتداء الإسلام أنه إذا مات الرجل لم يكن لامرأته من ميراثه شيء إلا النفقة والسكنى سنة، وكان الحول عزيمة عليها في الصبر عن التزوج، ولكنها كانت مخيرة في أن تعتد إن شاءت في بيت الزوج، وإن شاءت خرجت قبل الحول، لكنها متى خرجت سقطت نفقتها، هذا جملة ما في هذه الآية، لأنا إن قرأنا ﴿وَصِيَّةٍ﴾ [النساء: 12] بالرفع، كان المعنى: فعليهم وصية، وإن قرأناها بالنصب، كان المعنى: فليوصوا وصية، وعلى القراءتين هذه الوصية واجبة، ثم إن هذه الوصية صارت مفسرة بأمرين:

أحدهما: المتاع والنفقة إلى الحول .

الثاني: السكنى إلى الحول، ثم أنزل تعالى أنهن إن خرجن فلا جناح عليكم في ذلك، فثبت أن هذه الآية توجب أمرين .

أحدهما: وجوب النفقة والسكنى من مال الزوج سنة .

الثاني: وجوب الاعتداد سنة، لأن وجوب السكنى والنفقة من مال الميت سنة توجب المنع من التزوج بزوج آخر في هذه السنة.

6. ثم إن الله تعالى نسخ هذين الحكمين، أما الوصية بالنفقة والسكنى فلأن القرآن دل على ثبوت الميراث لها، والسنة دلت على أنه لا وصية لوارث، فصار مجموع القرآن والسنة ناسخا للوصية للزوجة بالنفقة والسكنى في الحول، وأما وجوب العدة في الحول فهو منسوخ بقوله: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: 234] فهذا القول هو الذي اتفق عليه أكثر المتقدمين والمتأخرين من المفسرين.

ب. الثاني: وهو قول مجاهد: أن الله تعالى أنزل في عدة المتوفى عنها زوجها آيتين، أحدهما: ما تقدم وهو قوله: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: 234] والأخرى: هذه الآية، فوجب تنزيل هاتين الآيتين على حالتين فنقول: إنها إن لم تختر السكنى في دار زوجها ولم تأخذ النفقة من مال زوجها، كانت عدتها أربعة أشهر وعشرا على ما في تلك الآية المتقدمة، وأما إن اختارت السكنى في دار زوجها، والأخذ من ماله وتركته، فعدتها هي الحول، وتنزيل الآيتين على هذين التقديرين أولى، حتى يكون كل واحد منهما معمولا به.

ج. الثالث: وهو قول أبي مسلم الأصفهاني: أن معنى الآية: من يتوفى منكم ويذرون أزواجا، وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى لهن فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف أي نكاح صحيح، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة، قال: والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولا كاملا، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول، فبين الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب، وعلى هذا التقدير فالنسخ زائل، واحتج على قوله بوجوه:

أ. أحدها: أن النسخ خلاف الأصل فوجب المصير إلى عدمه بقدر الإمكان .

ب. الثاني: أن يكون الناسخ متأخرا عن المنسوخ في النزول، وإذا كان متأخرا عنه في النزول كان الأحسن أن يكون متأخرا عنه في التلاوة أيضا، لأن هذا الترتيب أحسن، فأما تقدم الناسخ على المنسوخ في التلاوة، فهو وإن كان جائزا في الجملة، إلا أنه يعد من سوء الترتيب وتنزيه كلام الله تعالى عنه واجب بقدر الإمكان ولما كانت هذه الآية متأخرة عن تلك التلاوة، كان الأولى أن لا يحكم بكونها منسوخة بتلك.

ج. الثالث: وهو أنه ثبت في علم أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين النسخ وبين التخصيص، كان التخصيص أولى، وهاهنا إن خصصنا هاتين الآيتين بالحالتين على ما هو قول مجاهد اندفع النسخ فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل، وأما على قول أبي مسلم فالكلام أظهر، لأنكم تقولون تقدير الآية: فعليهم وصية لأزواجهم، أو تقديرها: فليوصوا وصية، فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى، وأبو مسلم يقول: بل تقدير الآية: والذين يتوفون منكم ولهم وصية لأزواجهم، أو تقديرها: وقد أوصوا وصية لأزواجهم، فهو يضيف هذا الكلام إلى الزوج، وإذا كان لا بد من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضماره، ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكرتم يلزم تطرق النسخ إلى الآية، وعند هذا يشهد كل عقل سليم بأن إضمار أبي مسلم أولى من إضماركم، وأن التزام هذا النسخ التزام له من غير دليل، مع ما في القول بهذا النسخ من سوء الترتيب الذي يجب تنزيه كلام الله تعالى عنه، وهذا كلام واضح، وإذا عرفت هذا فنقول: هذه الآية من أولها إلى آخرها تكون جملة واحدة شرطية، فالشرط هو قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ فهذا كله شرط، والجزاء هو قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ فهذا تقرير قول أبي مسلم، وهو في غاية الصحة.

7. المعتدة عن فرقة الوفاة لا نفقة لها ولا كسوة، حاملا كانت أو حائلا، وروي عن علي عليه السلام وابن عمر، أن لها النفقة إذا كانت حاملا، وعن جابر وابن عباس م أنهما قالا لا نفقة لها حسبها الميراث، وهل تستحق السكنى فيه قولان:

أ. أحدهما: لا تستحق السكنى‏ وهو قول علي عليه السلام‏ وابن عباس وعائشة، ومذهب أبي حنيفة واختيار المزني .

ب. الثاني: تستحق وهو قول عمر وعثمان وابن مسعود وأم سلمة م وبه قال مالك والثوري وأحمد، وبناء القولين على‏ خبر فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري‏ قتل زوجها قالت: فسألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إني أرجع إلى أهلي فإن زوجي ما تركني في منزل يملكه فقال عليه السلام: نعم فانصرفت حين إذا كنت في المسجد أو في الحجرة دعاني فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله، واختلفوا في تنزيل هذا الحديث:

أ. قيل لم يوجب في الابتداء، ثم أوجب فصار الأول منسوخا.

ب. وقيل: أمرها بالمكث في بيتها أمرا على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب.

8. احتج المزني على أنه لا سكنى لها، فقال: أجمعنا على أنه لا نفقة لها، لأن الملك انقطع بالموت، فكذلك السكنى، بدليل أنهم أجمعوا على أن من وجب له نفقة وسكنى من والد وولد على رجل فمات انقطعت نفقتهم وسكناهم، لأن ماله صار ميراثا للورثة، فكذا هاهنا، أجاب الأصحاب (2). فقالوا: لا يمكن قياس السكنى على النفقة لأن المطلقة الثلاث تستحق السكنى بكل حال ولا تستحق النفقة لنفسها عند المزني ولأن النفقة وجبت في مقابلة التمكين من الاستمتاع ولا يمكن هاهنا، وأما السكنى فوجبت لتحصين النساء وهو موجود هاهنا فافترقا.

9. القائلون بأن هذه الآية منسوخة لا بد وأن يختلف قولهم بسبب هذه المسألة، وذلك لأن هذه الآية توجب النفقة والسكنى، أما وجوب النفقة فقد صار منسوخا، وأما وجوب السكنى فهل صار منسوخا أم لا؟ والكلام فيه ما ذكرناه.

10. سؤال وإشكال: القائلون بأن هذه الوصية كانت واجبة أوردوا على أنفسهم سؤالا فقالوا: الله تعالى ذكر الوفاة، ثم أمر بالوصية، فكيف يوصي المتوفى؟ وأجابوا عنه بأن المعنى: والذين يقاربون الوفاة ينبغي أن يفعلوا هذا فالوفاة عبارة عن الإشراف عليها، وجواب آخر وهو أن هذه الوصية يجوز أن تكون مضافة إلى الله تعالى بمعنى أمره وتكليفه، كأنه قيل: وصية من الله لأزواجهم، كقوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء: 11] وإنما يحسن هذا المعنى على قراءة من قرأ بالرفع.

11. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ المعنى: لا جناح عليكم يا أولياء الميت فيما فعلن في أنفسهن من التزين، ومن الإقدام على النكاح، وفي رفع الجناح وجهان:

أ. أحدهما: لا جناح في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول .

ب. الثاني: لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج، لأن مقامها حولا في بيت زوجها ليس بواجب عليها.

12. يروى أن قوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ إنما نزل، لأن الله تعالى لما أنزل قوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 236] قال رجل من المسلمين: إن أردت فعلت، وإن لم أرد لم أفعل، فقال تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ يعني على كل من كان متقيا عن الكفر.

13. في المراد من المتاع هاهنا قولان:

أ. أحدهما: أنه هو المتعة، فظاهر هذه الآية يقتضي وجوب هذه المتعة لكل المطلقات، فمن الناس من تمسك بظاهر هذه الآية وأوجب المتعة لجميع المطلقات، وهو قول سعيد بن جبير وأبي العالية والزهري قال الشافعي: لكل مطلقة إلا المطلقة التي فرض لها مهر ولم يوجد في حقها المسيس.

ب. الثاني: أن المراد بهذه المتعة النفقة، والنفقة قد تسمى متاعا وإذا حملنا هذا المتاع على النفقة اندفع التكرار فكان ذلك أولى، وهاهنا آخر الآيات الدالة على الأحكام والله أعلم.

14. سؤال وإشكال: لم أعيد هاهنا ذكر المتعة مع أن ذكرها قد تقدم في قوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾، والجواب: هناك ذكر حكما خاصا، وهاهنا ذكر حكما عاما.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/492.

(2) يقصد الشافعية.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ ذهب جماعة من المفسرين في تأويل هذه الآية أن المتوفى عنها زوجها كانت تجلس في بيت المتوفى عنها حولا، وينفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل، فإن خرجت لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة عنها، ثم نسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر، ونسخت النفقة بالربع والثمن في سورة النساء قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد والربيع.

2. في السكنى خلاف للعلماء:

أ. روى البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان هذه الآية التي في البقرة: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ [البقرة: 240] ـ إلى قوله ـ ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ [البقرة: 240] قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها؟ قال: يا بن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه.

ب. وقال الطبري عن مجاهد: إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها، والعدة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرا، ثم جعل الله لهن وصية منه سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله تعالى: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾

ج. قال ابن عطية: وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلا ما قوله الطبري مجاهدا، وفي ذلك نظر على الطبري.

د. وقال القاضي عياض: والإجماع منعقد على أن الحول منسوخ وأن عدتها أربعة أشهر وعشر.

هـ. قال غيره: معنى قوله ﴿وَصِيَّةٍ﴾ أي من الله تعالى تجب على النساء بعد وفاة الزوج بلزوم البيوت سنة ثم نسخ.

3. ما ذكره الطبري عن مجاهد صحيح ثابت، خرج البخاري قال: حدثنا إسحاق قال حدثنا روح قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ قال: كانت هذه العدة تعتد عند أهل زوجها واجبة فأنزل الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ [البقرة: 240] ـ إلى قوله ـ ﴿مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: 240] قال: جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت، وهو قول الله تعالى: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ إلا أن القول الأول أظهر لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة عند رأس الحول ) الحديث، وهذا إخبار منه صلّى الله عليه وآله وسلم عن حالة المتوفى عنهن أزواجهن قبل ورود الشرع، فلما جاء الإسلام أمرهن الله تعالى بملازمة البيوت حولا ثم نسخ بالأربعة الأشهر والعشر، هذا ـ مع وضوحه في السنة الثابتة المنقولة بأخبار الآحاد ـ إجماع من علماء المسلمين لا خلاف فيه، قال أبو عمر، قال: وكذلك سائر الآية، فقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ منسوخ كله عند جمهور العلماء، ثم نسخ الوصية بالسكنى للزوجات في الحول، إلا رواية شاذة مهجورة جاءت عن ابن أبي نجيح عن مجاهد لم يتابع عليها، ولا قال بها فيما زاد على الأربعة الأشهر والعشر أحد من علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فيما علمت، وقد روى ابن جريج عن مجاهد مثل ما عليه الناس، فانعقد الإجماع وارتفع الخلاف، وبالله التوفيق.

4. ﴿وَصِيَّة﴾ قرأ نافع وابن كثير والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر ﴿وَصِيَّة﴾ بالرفع على الابتداء، وخبره ﴿لِأَزْوَاجِهِمْ﴾، ويحتمل أن يكون المعنى عليهم وصية، ويكون قوله ﴿لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ [البقرة: 240] صفة، قال الطبري: قال بعض النحاة: المعنى كتبت عليهم وصية، ويكون قوله ﴿لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ [البقرة: 240] صفة، قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله ابن مسعود، وقرأ أبو عمرو وحمزة وابن عامر ﴿وَصِيَّة﴾ بالنصب، وذلك حمل على الفعل، أي فليوصوا وصية، ثم الميت لا يوصي، ولكنه أراد إذا قربوا من الوفاة، و﴿لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ على هذه القراءة أيضا صفة، وقيل: المعنى أوصى الله وصية، ﴿مَتَاعًا﴾ أي متعوهن متاعا: أو جعل الله لهن ذلك متاعا لدلالة الكلام عليه، ويجوز أن يكون نصبا على الحال أو بالمصدر الذي هو الوصية، كقوله تعالى: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا﴾ والمتاع هاهنا نفقة سنتها.

5. ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ معناه ليس لأولياء الميت ووارثي المنزل إخراجها، و﴿غَيْر﴾ نصب على المصدر عند الأخفش، كأنه قال لا إخراجا، وقيل: نصب لأنه صفة المتاع، وقيل: نصب على الحال من الموصين، أي متعوهن غير مخرجات، وقيل: بنزع الخافض، أي من غير إخراج.

6. ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ الآية، معناه باختيارهن قبل الحول، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي لا حرج على أحد ولي أو حاكم أو غيره، لأنه لا يجب عليها المقام في بيت زوجها حولا، وقيل: أي لا جناح في قطع النفقة عنهن، أو لا جناح عليهن في التشوف إلى الأزواج، إذ قد انقطعت عنهن مراقبتكم أيها الورثة، ثم عليها ألا تتزوج قبل انقضاء العدة بالحول، أو لا جناح في تزويجهن بعد انقضاء العدة، لأنه قال: ﴿مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ وهو ما يوافق الشرع.

7. ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ﴾ صفة تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحد في هذه النازلة، فأخرج المرأة وهي لا تريد الخروج، ﴿حَكِيمٌ﴾ أي محكم لما يريد من أمور عباده.، ‌‌

8. ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 241-242] اختلف الناس في هذه الآية:

أ. فقال أبو ثور: هي محكمة، والمتعة لكل مطلقة، وكذلك قال الزهري، قال الزهري: حتى للأمة يطلقها زوجها، وكذلك قال سعيد بن جبير: لكل مطلقة متعة وهو أحد قولي الشافعي لهذه الآية.

ب. وقال مالك: لكل مطلقه ـ اثنتين أو واحدة بنى بها أم لا، سمى لها صداقا أم لا ـ المتعة، إلا المطلقة قبل البناء وقد سمى لها صداقا فحسبها نصفه، ولو لم يكن سمى لها كان لها المتعة أقل من صداق المثل أو أكثر، وليس لهذه المتعة حد، حكاه عنه ابن القاسم.

ج. وقال ابن القاسم في إرخاء الستور من المدونة: جعل الله تعالى المتعة لكل مطلقة بهذه الآية، ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم يدخل بها فأخرجها من المتعة، وزعم ابن زيد أنها نسختها، قال ابن عطية: ففر ابن القاسم من لفظ النسخ إلى لفظ الاستثناء والاستثناء لا يتجه في هذا الموضع، بل هو نسخ محض كما قال زيد بن أسلم، وإذا التزم ابن القاسم أن قوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ﴾ يعم كل مطلقة لزمه القول بالنسخ ولا بد.

د. وقال عطاء بن أبي رباح وغيره: هذه الآية في الثيبات اللواتي قد جومعن، إذ تقدم في غير هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهن، فهذا قول بأن التي قد فرض لها قبل المسيس لم تدخل قط في العموم، فهذا يجئ على أن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ مخصصة لهذا الصنف من النساء، ومتى قيل: إن هذا العموم يتناولها فذلك نسخ لا تخصيص.

هـ. وقال الشافعي في القول الآخر: إنه لا متعة إلا للتي طلقت قبل الدخول وليس ثم مسيس ولا فرض، لأن من استحقت شيئا من المهر لم تحتج في حقها إلى المتعة، وقول الله تعالى في زوجات النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ﴾ محمول على أنه تطوع من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، لا وجوب له، وقوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ محمول على غير المفروضة أيضا، قال الشافعي: والمفروض لها المهر إذا طلقت قبل المسيس لا متعة لها، لأنها أخذت نصف المهر من غير جريان وطئ، والمدخول بها إذا طلقت فلها المتعة، لأن المهر يقع في مقابلة الوطي والمتعة بسبب الابتذال بالعقد، وأوجب الشافعي المتعة للمختلعة والمبارئة.

و. وقال أصحاب مالك: كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطي، فكيف تأخذ متاعا! لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة أو مفتدية أو مباريه أو مصالحة أو ملاعنة أو معتقة تختار الفراق، دخل بها أم لا، سمى لها صداقا أم لا، وقد مضى هذا مبينا.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/227.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ [البقرة: 240] هذا عود إلى بقية الأحكام المفصلة فيما سلف، وقد اختلف السلف ومن تبعهم من المفسرين في هذه الآية هل محكمة أو منسوخة؟

أ. فذهب الجمهور: إلى أنها منسوخة بالأربعة الأشهر والعشر كما تقدم، وأن الوصية المذكورة فيها منسوخة بما فرض الله لهنّ من الميراث.

ب. وحكى ابن جرير عن مجاهد أن هذه الآية لا نسخ فيها، وأن العدة أربعة أشهر وعشر، ثم جعل الله لهنّ وصية منه: سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت.

ج. وقد حكى ابن عطية، والقاضي عياض: أن الإجماع منعقد على أن الحول منسوخ، وأن عدتها أربعة أشهر وعشر، وقد أخرج عن مجاهد ما أخرجه ابن جرير عنه البخاري‏ في صحيحه.

2. ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ [البقرة: 240] يعني باختيارهنّ قبل الحول ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: 23] أي: لا حرج على الوليّ والحاكم وغيرهما ﴿فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾ [البقرة: 240] من التعرّض للخطاب والتزين لهم.

3. ﴿مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: 240] أي: بما هو معروف في الشرع غير منكر، وفيه دليل: على أن النساء كنّ مخيرات في الحول وليس ذلك بحتم عليهنّ؛ وقيل: المعنى لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهنّ، وهو ضعيف، لأن متعلق الجناح هو مذكور في الآية بقوله: ﴿فِيمَا فَعَلْنَ﴾ [البقرة: 234]

4. ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ﴾ [البقرة: 241] قد اختلف المفسرون في هذه الآية:

أ. فقيل: هي المتعة، وأنها واجبة لكل مطلقة.

ب. وقيل: إن هذه الآية خاصة بالثيبات اللواتي قد جومعن، لأنه قد تقدّم قبل هذه الآية ذكر المتعة للّواتي لم يدخل بهنّ الأزواج، وقد قدّمنا الكلام على هذه المتعة والخلاف في كونها خاصة بمن طلقت قبل البناء والفرض؛ أو عامة للمطلقات.

ج. وقيل: إن هذه الآية شاملة للمتعة الواجبة، وهي متعة المطلقة قبل البناء والفرض، وغير الواجبة وهي متعة سائر المطلقات فإنها مستحبة فقط.

د. وقيل: المراد بالمتعة هنا: النفقة.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/298.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾، أي: يقبضون من رجالكم‏ ﴿وَيَذَرُونَ﴾، أي: يتركون‏ ﴿أَزْوَاجًا﴾ بعد الموت‏ ﴿وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ خبر (الذين) أي: يوصون، أو ليوصوا، أو كتب الله عليهم وصية، وفي قراءة، بالرفع، أي: عليهم وصيّة لأزواجهم في أموالهم‏ ﴿مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾ بدل من وصية، على قراءة من نصبها، وعلى قراءة الرفع فمنصوب بوصية أو بفعله‏ ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ حال من أزواجهم، أي: غير مخرجات، والمعنى: يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل الاحتضار لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولا بالنفقة والسكنى من غير أن يخرجن من مسكن زوجهنّ‏.

2. ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ عن منزل الأزواج من قبل أنفسهن‏ ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ على أولياء الميت‏ ﴿فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ لا ينكره الشرع ـ كالتزيّن والتطيّب وترك الحداد والتعرّض للخطّاب وفيه دلالة على أنّ المحظور إخراجها عند إرادتها القرار، وملازمة مسكن الزوج، والحداد من غير أن يجب عليها ذلك، وأنها مخيّرة بين الملازمة مع أخذ النفقة، وبين الخروج مع تركها.

3. اختيار جمهور المفسرين أنّ هذه الآية منسوخة بالتي قبلها وهو قوله تعالى: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: 234]، قالوا: كان الحكم في ابتداء الإسلام أنه إذا مات الرجل اعتدّت زوجته حولا، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول، وكانت نفقتها وسكناها واجبتين في مال زوجها تلك السنة وليس لها من الميراث شيء، ولكنها تكون مخيرة، فإن شاءت اعتدّت في بيت زوجها ولها النفقة والسكنى، وإن شاءت خرجت قبل تمام الحول وليس لها نفقة ولا سكنى؛ وكان يجب على الرجل أن يوصي بذلك، فدلّت هذه الآية على مجموع أمرين: أحدهما: أنّ لها النفقة والسكنى من مال زوجها سنة، والثاني: أنّ عليها عدّة سنة؛ ثم نسخ هذان الحكمان.. أما الوصية بالنفقة والسكنى فنسخت بآية الميراث، فجعل لها الربع أو الثمن عوضا عن النفقة والسكنى، ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشر.

4. هذا، وقد ذهب مجاهد إلى أنّ هذه الآية محكمة كالأولى، أخرجه عنه البخاريّ‏ قال مجاهد: دلت الآية الأولى وهي: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ على أنّ هذه عدتها المفروضة تعتدّها عند أهل زوجها، ودلت هذه الآية، بزيادة سبعة أشهر وعشرين ليلة على العدّة السابقة تمام الحول، أنّ ذلك من باب الوصية بالزوجات أن يمكّنّ من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولا كاملا، ولا يمنعن من ذلك، لقوله‏ ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ فإذا انقضت عدّتهن بالأربعة أشهر والعشر ـ أو بوضع الحمل ـ واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل، فإنهنّ لا يمنعن من ذلك لقوله‏ ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ إلخ، قال الإمام ابن كثير: وهذا القول له اتجاه، وفي اللفظ مساعدة له؛ وقد اختاره جماعة منهم أبو العباس ابن تيمية، ومنهم أبو مسلم الأصفهانيّ قال معنى الآية: من يتوفى منكم ويذرون أزواجا، وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول، فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى لهنّ فلا حرج‏ ﴿فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾، أي: نكاح صحيح، لأن إقامتهنّ بهذه الوصية غير لازمة، قال: والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولا كاملا، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أنّ ذلك غير واجب، واحتجّ على قوله بوجوه ساقها الفخر الرازيّ عنه ـ إلى أن قال فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل، ثم قال: وإذا عرفت هذا فنقول: هذه الآية من أوّلها إلى آخرها تكون جملة واحدة شرطية؛ فالشرط هو قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ فهذا كلّه شرط، والجزاء هو قوله، ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ إلخ، هذا تقرير قول أبي مسلم، قال الرازيّ: وهو في غاية الصحة.

5. ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، أي: للمطلقات متعة من جهة الزوج بقدر الإمكان، جبرا لوحشة الفراق، وأما المهر فوق حقّ البضع، قال ابن كثير: وقد استدلّ بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكلّ مطلقة، سواء كانت مفوضة، أو مفروضا لها، أو مطلّقة قبل المسيس، أو مدخولا بها، وإليه ذهب سعيد بن جبير وغيره من السلف، واختاره ابن جرير، وقد أخرج ابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال لكلّ مؤمنة طلقت، حرة أو أمة، متعة، وقرأ الآية، وأخرج البيهقيّ عن جابر بن عبد الله قال (لما طلّق حفص بن المغيرة امرأته فاطمة، أتت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال لزوجها: متعها، قال لا أجد ما أمتعها قال فإنه لا بدّ من المتاع، متّعها ولو نصف صاع من التمر)، وأخرج البيهقيّ عن قتادة قال طلق رجل امرأته عند شريح، فقال له شريح: متعها! فقالت المرأة: إنه ليس لي عليه متعة، إنما قال الله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المحسنين)، وليس من أولئك، وأخرج البيهقيّ عن شريح أنّه قال لرجل فارق امرأته: لا تأبى أن تكون من المتقين، لا تأبى أن تكون من المحسنين.

6. ﴿كَذَلِكَ﴾، أي: مثل ذلك البيان الشافي‏ ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ﴾، في جميع‏ المواضع‏ ﴿آيَاتِهِ﴾ الدالة على أحكامه‏ ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ لكي تفهموا ما فيها وتعملوا بموجبها.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/171.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةٌ﴾ عليهم حين الاحتضار، وصيَّةٌ، أي: إيصاء، أو كتب عليهم وصيَّة، أو ذوو وصيَّة، أو حكمهم وصيَّة وإن لم يوصوا، فذلك في مالهم بعد وفاتهم، فالمضاف مقدَّر قبل (الَّذِينَ)، أو قبل (وَصِيَّةٌ) كما رأيت، أو يقدَّر: (كتب عليهم وصيَّة) أو (عليهم وصيَّة).

2. ﴿لأَزْوَاجِهِم﴾ نسائهم ﴿مَّتَاعًا﴾ يعطوهنَّ بالإيصاء، أو يمتِّعها الورثة متاعًا نفقة وكسوة وسكنى، أو ضمّن (وصيَّة) معنى تمتيع، ﴿اِلَى الْحَوْلِ﴾ إلى تمام الحول، ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ غير ذوات إخراج، أو غير مخرجات من مسكنهنَّ، فإن خرجن بلا اختيار منهنَّ لم يبطل حقُّهنَّ من النفقة والكسوة والسكنى، كإخراج الوارث، وككون المحلِّ مَخوف السقوط أو الفسوق، و(غَيْرَ) حال من (أَزْوَاج) لا بدل اشتمال، ولا بعضًا من (مَتَاعًا) لعدم الرابط.

3. ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ باختيارهنَّ، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُم فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ﴾ من قطع النفقة والكسوة والسكنى بالخروج، والتعرُّض للخطَّاب بنحو التزيين باختيارهنَّ الخروج عن منزل الزوج بلا ضرورة، والمراد بالخروج الخروج قبل تمام الحول، والخطاب في (عَلَيْكُمْ) للأزواج أو أولياء الميِّت، أو للأئمَّة، أو للكلِّ، ونُسخت عدَّةُ الحول بأربعة أشهر وعشر لتأخُّره نزولا عن آية الحول، ولو وضعت قبلها، ونُسخت الوصيَّة بالميراث الذي هو ربع أو ثمن إذ (لا وصيَّة لوارث)، فالنسخ بالآية بمعونة الحديث، وإلَّا فشرط النسخ منافاة الناسخ لما ينسخ، وقال الشافعيُّ بثبوت السكنى، ويردُّه أنَّ المال للوارث بعد موت الزوج، وأمَّا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (امكثي في بيتك حتَّى يبلغ الكتاب أجله) فمعناه المكث في أيِّ بيت كانت، وهو مجرَّد زَجرٍ عن الظهور لتُخطَب، وأجاز غيرنا التزيُّن للخُطَّاب إذا خرجن بأنفسهنَّ، فكنَّ مخيَّرات بين ترك التزيين والخروج، فيسكنَّ في منزل الأزواج ويُنفَقن ويُكسَون، وبين الخروج والتزيُّن فلا حقَّ لهنَّ، والمذهب أنَّه لا يجوز لهنَّ التزيُّن والتطيُّب، ولو خرجن وتركن حقَّهنَّ، وخالفنا غيرنا، ونكَّر (مَعْرُوفًا) وعرَّفه فيما مضى لأنَّ هذه الآية متقدِّمة في النزول ولو تأخَّرت في التلاوة، فالتعريف لما مضى لعهد التنكير هنا، ﴿وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ينتقم مِمَّن خالف حدوده بعدل وصواب.

4. ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ﴾ المعهودات الذكر فيما مرَّ، وهنَّ المطلَّقات قبل المسِّ غير مفروض لهنَّ، وأعاد ذكر متعتها دفعًا لتوهُّم من يتوهَّم من قوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ أنَّ المتعة غير واجبة، بل إحسان، إن شئتُ متَّعتها وإن شئت لم أمتِّعها، وهذا بيان وزجر لا نسخ؛ لأنَّ قوله: ﴿عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ لم يرد به الاستحباب فقط، ولو ناسبه لفظ الإحسان، ولفظ (حَقًّا) ظاهر في الوجوب فيعمل به، ولو كان قد يطلق في حقِّ المتبرِّع، ووجه الدفع قوله: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، فمن يمنع فهو غير متَّق، فالتمتيع واجب.

5. ﴿مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بحسب مال الزوج ونظر الحاكم، ويسنُّ أن لا تنقص عن ثلاثين درهمًا، ﴿حَقًّا﴾ حقَّ حقًّا، أي: وجب وجوبًا ذلك التمتيع على المتَّقين، وحمل بعضهم هذه الآية على العموم في كلِّ مطلَّقة ولو مسَّت أو فرض لها، وعليه ابن جبير والشافعيُّ في أحد قوليه، وأبو العالية والزهريُّ، وعكس بعضهم كما مرَّ، فحمل ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ على الوجوب، وهو في التي لم تمسَّ ولم يفرض لها، وحمل ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ على الاستحباب في الممسوسة فإنَّ لها صداقًا إن فرض، وصداق المثل أو العقر إن لم يفرض، فإنَّ إيحاش الفرقة مندفع بالمهر أو العقر فلم تجب المتعة، لكنَّ المناسب لأهل التقوى التبرُّع بها تطييبا لقلبها، وقيل: المتعة هنا نفقة العدَّة.

6. ﴿كَذَالِكَ﴾ كما بيَّن الله لكم أحكام المطلَّقة والمعتدَّة وما اتَّصل بذلك ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ ءَايَاتِهِ﴾ في سائر ما تحتاجون إليه لدينكم ودنياكم ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ تفهمونها بتدبُّر عقولكم.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/88.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآيات تتمة ما في السورة من أحكام الأزواج، وقد جاء الأمر بالمحافظة على الصلوات في أثناء هذه الأحكام ـ والصلاة عماد الدين ـ للعناية بها، فمن حافظ على الصلوات كان جديرا بالوقوف عند حدود الله تعالى والعمل بشريعته؛ ولذلك قال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ وقد بينا وجه ذلك، وقد خطر لي وجه آخر هو الذي يطرد في أسلوب القرآن الخاص في مزج مقاصد القرآن بعضها ببعض، ومن عقائد، وحكم، ومواعظ، وأحكام تعبدية، ومدنية، وغيرها، وهو نفي السآمة عن القارئ، والسامع من طول النوع الواحد منها، وتجديد نشاطهما وفهمهما، واعتبارهما في الصلاة وغيرها.

2. في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ الآية، قولان:

أ. أحدهما: أن عدة الوفاة كانت في أول الإسلام سنة كاملة مجاراة لعادات العرب، ولكن مع تخيير المرأة في الاعتداد في بيت الميت، فإن اعتدت فيه وجبت نفقتها من تركته وحرم على الورثة إخراجها، وإن خرجت هي سقط حقها في النفقة، وقالوا: إنه لم يكن للمرأة من ميراث زوجها إلا هذا المتاع والنفقة، فقوله تعالى: ﴿وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ معناه فليوصوا وصية لأزواجهم، أو فعليهم وصية لأزواجهم؛ إذ قرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص، عن عاصم ﴿وَصِيَّة﴾ بالنصب، وقرأها ابن كثير، ونافع، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم بالرفع، وقوله تعالى: ﴿مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾ معناه: أن يمتعوا متاعا، أو متعوهن متاعا، كأنه قال: فليوصوا لهن وصية وليمتعوهن متاعا إلى آخر الحول، وقيل: إن التقدير جعل الله ذلك لهن متاعا، وقوله تعالى: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ معناه غير مخرجات؛ أي: يجب ذلك لهن مقيمات في دار الميت غير مخرجات، فلا يمنعن السكنى، قال محمد عبده: الأحسن ما قاله بعضهم من أن متاعا مصدر بمعنى تمتيعا، أو معمول للمصدر الذي هو وصية، ومعنى ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ غير مخرجات، وهو حال من الأزواج، والنكتة في العدول عنه هي أن المراد أن يوصي الرجل بعدم إخراج زوجه، وأن ينفذ أولياؤه وصيته فلا يخرجونهن من بيوتهن، ولو قال: (غير مخرجات) لكان تحتيما عليهن بالبقاء في البيوت ولأفاد عدم جواز إخراجهن لأحد، ولو كان وليا كأبيها، وليس هذا بمراد، فعبارة الآية تفيد المعنى المراد، ولا توهم سواه، هذا ما ذهب إليه الجمهور في معنى الآية، فهي عندهم توجب أن تكون عدة الوفاة سنة كاملة وأن ينفق على المعتدة من تركة زوجها مقيمة في داره لا يجوز إخراجها منه إلا أن تخرج باختيارها فتسقط نفقتها، قالوا: ثم نسخت بجعل العدة أربعة أشهر وعشرا كما في تلك الآية التي تقدمت عليها في الذكر، وهي متأخرة عنها في النزول، وبجعلها وارثة للزوج بنص القرآن مع تحريم الوصية للوارث في الحديث، أقول: وعليه يكون الإصلاح لتلك العادات الجاهلية في الاعتداد لوفاة الزوج وما يتبعه من الحداد عليه قد حصل بالتدريج، فأقرت مدة العدة أولا، ولكن منع أن تكون بتلك الحالة الرديئة التي تقدم ذكرها، ثم نسخت بما تقدم، قال محمد عبده: وهناك وجه آخر يتصل بقول الجمهور، وهو أن الآية كانت في فرض الوصية، وطلب مع هذا الفرض من ورثة الميت ألا يخرجوا النساء في مدة الحول، وأن الخروج الذي يبرأ به أولياء الميت من الوصية المفروضة التي هي النفقة هو الخروج الذي بعد العدة التي هي أربعة أشهر، وعشر، قال: وهو قول ضعيف.

ب. والقول الثاني: أن هذه الآية لم يذكر فيها التربص الذي هو الاعتداد كما ذكر في غيرها من آيات العدة السابقة، وإنما ذكر الوصية، والمراد بها أن يستوصي الرجال بالنساء اللواتي يتوفى أزواجهن خيرا بألا يخرجوهن من بيوت أزواجهن بعد ما كان من قوة علاقتهن بها إلى مدة سنة كاملة تمر فيها عليهن الفصول الأربعة التي يتذكرن أزواجهن فيها، وأن يجعل لهن في مدة السنة شيء من المال ينفقنه على أنفسهن، إلا إذا خرجن وتعرضن للزواج، أو تزوجن بعد العدة المفروضة في الآية السابقة، ولكن لم يعمل أحد من الصحابة ولا من بعدهم بهذا؛ ولذلك قال الجمهور: إنه منسوخ، وذهب بعض الصحابة والتابعين إلى أن الأمر بالوصية كان للندب وتهاون الناس به كما تهاونوا في كثير من المندوبات ـ أي كاستئذان الأولاد الذين لم يبلغوا الحلم عند دخول بيوتهم في الأوقات الثلاثة التي هي مظنة التهاون بالستر، قبل صلاة الفجر وحين وضع الثياب من الظهيرة في أيام الحر ومن بعد صلاة العشاء ـ قال: وعلى هذا فلا نسخ لأنهم مجمعون على أنه لا يصار إلى النسخ إذا أمكن الجمع بين النصين.

3. هذا ما جرى عليه محمد عبده في تفسير الآية، وفي كتب التفسير عزيت مخالفة الجمهور إلى كبيرين من قدماء المفسرين وهما مجاهد، وأبو مسلم:

أ. أما مجاهد فقد روى عنه ابن جرير أنه يقول: نزل في عدة المتوفى عنها زوجها آيتان: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ 3 الآية، وقد تقدمت، وهذه الآية، فيجب حمل الآيتين على حالتين، فإن اختارت الإقامة في دار زوجها المتوفى والنفقة من ماله فعدتها سنة، وإلا فعدتها أربعة أشهر وعشر، فيكون للعدة على قوله أجل محتم، وهو الأقل، وأجل مخير فيه، وهو الأكثر.

ب. وأما أبو مسلم فيقول: إن معنى الآية: من يتوفون منكم ويذرون أزواجا وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول، فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الأزواج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى لهن، فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف أي نكاح صحيح؛ لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة، قال: والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولا كاملا، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول؛ فبين الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب على هذا التقدير فالنسخ زائل، أورد الرازي هذا في تفسيره، ثم قال: واحتج على قوله بوجوه(2).

4. أوردنا كلام الرازي بنصه على إسهابه وإطنابه لما فيه من تفنيد قول الجمهور بالحجج البينة التي يقتنع بها أولو الألباب، وليعلم المقلدون أن في أشهر مفسري القرون الوسطى من ضعف ذلك القول ورجح عليه كلا من القولين المخالفين له.

5. ما ذكره من جواز كون الناسخ متأخرا عن المنسوخ في التلاوة هو ما قاله الأصوليون، وإطلاق القول فيه غريب ما حملهم عليه إلا تصحيح فهمهم لمثل هاتين الآيتين أو اغترارهم بتفسير الجمهور لهما، وإذا سهل تسليم قولهم بجواز وجود آيتين في سورتين تنسخ إحداهما الأخرى مع وجود الناسخة في السورة المتأخرة في ترتيب القرآن فلا يسهل القول بأن آيات متناسقة في سورة واحدة يجعل السابق منها ناسخا لما بعده، ويفهم من قوله بوجوب تنزيه كلام الله تعالى عن مثل ذلك أنه لا يجيزه؛ لأن الواجب في التنزيه يدخل في باب العقائد، فهو أبلغ من الواجب في الأحكام العملية، فكيف يسمى تركه جائزا؟ وإذا كان غير جائز فهو البرهان القاطع على بطلان قول الجمهور بالنسخ.

6. بعد هذا كله أقول: إن قول مجاهد في الآية بعيد جدا وإن فضله الرازي على قول الجمهور، ويرجح قول أبي مسلم أمران:

أ. أحدهما في العبارة وهو جعل ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ﴾ [البقرة: 240] فيه على ظاهره، والجمهور يجعلونه بمعنى الذين تحضرهم الوفاة؛ كأن هذه الوصية لا تجب عند القائل بوجوبها إلا على من يشعر بدنو أجله.

ب. وثانيهما ما علم من عادة العرب في إلزام المرأة ببيت زوجها المتوفى سنة كاملة، فلما جعل الإسلام عدتها أربعة أشهر وعشرا كان من مقتضاه أن يخرجها الورثة من البيت بعد مضي العدة، فإذا كانت غير راغبة في الزواج يشق عليها ذلك، فكان من اللائق المتوقع من الزوج الوفي أن يوصي بعدم إخراجها قبل الحول المعتاد جبرا لقلبها، وألا تكلف النفقة على نفسها ما دامت في البيت، وقد بين الله تعالى للناس أنه لا حرج على أولياء الميت وورثته فيما تفعله المرأة إذا هي خرجت من بينهم؛ لأن كفالتهم إياها تسقط حينئذ من غير تقصير منهم في إكرامها، وإنما قيد الفعل بالمعروف؛ لأن منعها عن المنكر واجب عليهم، فإذا قصروا فيه كان عليهم جناح عظيم.

7. هذا الوجه الثاني يتفق مع التفسير المختار عن محمد عبده، وهو أن الوصية للندب لا للوجوب، والوجه الأول يمكن التقصي منه بجعل الوصية من الله تعالى لا من المتوفى، والتقدير على الوجه المختار: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، وصية من الله لأزواجهم، أو فالله يوصي وصية لأزواجهم أن يمتعن متاعا ولا يخرجن من بيوت أزواجهن إلى تمام الحول، فإن خرجن من تلقاء أنفسهن فلا جناح عليكم أيها المخاطبون بالوصية فيهن فيما فعلن من المعروف شرعا وعادة كالتعرض للخطاب بعد العدة والتزوج؛ إذ لا ولاية لكم عليهن فهن حرائر لا يمنعن إلا من المنكر الذي يمنع منه كل مكلف، وجعل الوصية من الله تعالى معهود في القرآن كقوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ وهذا هو المتبادر من النظم الكريم فهو أظهر من قول أبي مسلم، ولا يعارض آية تحديد العدة ولا آية المواريث ولا حديث (لا وصية لوارث) فيتأتى فيه النسخ، سواء كانت هذه الوصية لندب أو للوجوب، وما قلنا إنها للندب إلا لعدم شيوع العمل بها كآية استئذان الولدان في سورة النور، ولا يمكن الجزم بأنه لم يعمل بها أحد ألبتة إذ لم يطلع أحد من الخلق على جميع معاملات الناس في بيوتهم، فتأمل هذا وما قبله أيها المستقل الفهم المعافى من جهالة التقليد، وتذكر قول المثل السائر: (كم ترك الأول للآخر)

8. ختم الله تعالى الآية بقوله: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ للتذكير بأن لله العزة والغلبة فيما يريد من تحويل الأمم عن عادات ضارة إلى سنن نافعة تقتضيها الحكمة، كتحويل العرب عن عاداتهم في العدة والحداد بجعل المرأة أسيرة ذليلة مقهورة مدة سنة كاملة إلى ما هو خير من ذلك، وهو إكرامها ما دامت في بيت زوجها بين أهله، وعدم الحجر على حريتها إذا أرادت الخروج منه ما دامت في حظيرة الشرع وآداب الأمة المعروفة، فهذه الحكمة البالغة توافق مصلحة الأفراد والجماعات في كل زمان ومكان.

9. ثم قال تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ قال الجلال: كرره ليعم الممسوسة أيضا إذ الآية السابقة في غيرها، وقد أنكر عليه محمد عبده ـ كعادته ـ القول بالتكرار، قال: كأن ما تقدم خاص وما هنا عام، والصواب أن كل آية من الآيات التي وردت في المطلقات وردت في نوع منهن، فتقدم حكم من لم تمس وقد فرض لها، وحكم المدخول بها المفروض لها، وبقي حكم غيرهما، وهو الممسوسة سواء فرض لها أم لا، فذكره هنا، ولم يذكر ذلك بالترتيب؛ لأن القرآن ليس كتابا فنيا فيكون لكل مقصد من مقاصده باب خاص به، وإنما هو كتاب هداية ووعظ ينتقل بالإنسان من شأن من شئونه إلى آخر، ويعود إلى مباحث المقصد الواحد المرة بعد المرة، مع التفنن في العبارة، والتنويع في البيان، حتى لا يمل تاليه وسامعه من المواظبة على الاهتداء، يوجز أحيانا بما يعجز كل أحد عن الإتيان بمثله إذا كان المقام يقتضي الإيجاز، ويطنب في مقام آخر حيث ينبغي الإطناب، وهو معجز في إطنابه كإيجازه، لا لغو فيه ولا حشو، ولكل مقام فيه مقال ينطبق على الحكمة، ويعين على التدبر والتذكر.

10. المطلقات أربع:

أ. مطلقة مدخول بها قد فرض لها مهر، فلها كل المفروض، وعدتها ثلاثة قروء، وفيها قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ الآية، وتقدم تفسيرها وفي معناها قوله تعالى في سورة النساء: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾

ب. ومطلقة غير مدخول بها ولا مفروض لها، فيجب لها المتعة بحسب إيسار المطلق ولا مهر لها، وفيها قوله تعالى: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ الآية، وقد سبق تفسيرها، ولا عدة عليها لآية الأحزاب التي ذكرناها في تفسيرها استشهادا.

ج. ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها فلها نصف المهر المفروض، وفيها قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ وتقدم تفسيرها ولا عدة عليها أيضا.

د. ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها، قالوا: ولها مهر مثلها بلا خلاف، وذكر بعضهم أن قوله تعالى في سورة النساء: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ معناه: فأعطوهن مهورهن بالفرض والتقدير إذا كان غير مسمى؛ أي: والعمدة في التقدير مساواتها بأمثالها على الأقل، ولم يأمرنا تعالى بالتمتيع عند ذكر نوع من المطلقات إلا غير الممسوسات مطلقا كما في آية الأحزاب، أو مقيدا بقوله تعالى: ﴿أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ كما تقدم في الآية المشار إليها آنفا.

11. ثم ختم الله تعالى هذه الأحكام المسرودة هنا بقوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ﴾ الآية:

أ. فزعم بعضهم أن المراد المطلقات المعهودات اللواتي سبق الأمر بتمتيعهن، واستدلوا بما رواه ابن جرير، عن ابن زيد قال: لما نزلت ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ قال رجل: إن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل؛ فأنزل الله هذه الآية، وفسروا المتقين بمتقي الكفر، وليست هذه الرواية مما يحتج به، وقد قدمنا أن ذكر المحسنين هناك لا يدل على التخيير،

ب. وقال بعضهم: إن هذا حكم عام فتجب المتعة لكل مطلقة، ولا تكرار على هذا مع الآية الآمرة بتمتيع من لم تمس ولم يفرض لها؛ لأن هذه الآية مسوقة لحكم هذه المتعة من غير تخصيص ولا تقييد بكونها تختلف باختلاف حال الرجل في الإيسار، وتلك سيقت لبيان نفي الجناح عمن طلق من لم يمسها ولم يفرض لها، وجاء في السياق أنه يجب لها تمتيع حسن بحسب وسع المطلق لما تقدم بيانه في تفسيرها، فعلى هذا تكون المتعة مشروعة لكل مطلقة، وروي هذا عن ابن عباس، وابن عمر، وعطاء، وجابر بن زيد، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والحسن البصري، والشافعي في أحد قوليه وأحمد، وإسحاق، واستدلوا بعموم هذه الآية وبقوله تعالى في سورة الأحزاب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ وقد كن مدخولا بهن مفروضا لهن المهر.

12. القائلون بهذا منهم من يقول: إنها واجبة لكل مطلقة، ومنهم من يقول: واجبة لمن لم تمس ولم يفرض لها مندوبة لغيرها، وحجة من قال: إن التمتيع خاص بمن لم تمس ولم يفرض لها هي أنه بدل مما يجب لغيرها من نصف المهر إن فرض لها ولم تمس، أو المهر المسمى، أو مهر المثل إذا كانت ممسوسة، وحسبنا أن الله تعالى جعل تمتيع المطلقات حقا على المتقين، وقد فسروه بالذين يتقون الشرك، أو هو حق على كل مؤمن مطلقا، إلا أن يثبت أن ما تستحقه من المهر يسمى متاعا في عرف القرآن، فحينئذ تكون هذه الآية فذلكة لسائر الآيات، كأنه قال: لكل مطلقة متاع تمتع به، فمنهن من متاعها المهر المسمى أو المقدر، ومنهن من متاعها نصفه، ومنهن من لها متاع غير محدود؛ لأنه على حسب الاستطاعة، وأحوط الأقوال وأوسطها قول من جعل المتعة غير المهر وأوجبها لمن لا تستحق مهرا وندبها لغيرها.

13. ثم ختم الله تعالى هذه الأحكام بقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي: مضت سنته تعالى بأن يبين لكم آياته في أحكام دينه مثل هذا النحو من البيان، وهو أن يذكر الحكم وفائدته ويقرنه بذكر الله والموعظة الحسنة التي تعين على العمل به، ليعدكم بذلك لكمال العقل فتتحروا الاستفادة من كل عمل، فعليكم أن تعقلوا ما تخاطبون به لتكونوا على بصيرة من دينكم، عارفين بانطباق أحكامه على مصالحكم بما فيها من تزكية نفوسكم والتأليف بين قلوبكم، فتكونوا حقيقين بإقامتها والمحافظة عليها، قال محمد عبده: ليس معنى العقل أن يجعل المعنى في حاشية من حواشي الدماغ، غير مستقر في الذهن، ولا مؤثر في النفس، بل معناه أن يتدبر الشيء ويتأمله حتى تذعن نفسه لما أودعت فيه إذعانا يكون له أثر في العمل، فمن لم يعقل الكلام بهذا المعنى فهو ميت وإن كان يزعم أنه حي ـ ميت من عالم العقلاء حي بالحياة الحيوانية ـ وقد فهمنا هذه الأحكام ولكن ما عقلناها، ولو عقلناها لما أهملناها.

14. أين هذه الطريقة المثلى في بيان الأحكام من طريقة الكتب المعروفة عندنا بكتب الفقه، وهي غفل في الغالب من بيان فائدة الأحكام وانطباقها على مصالح البشر في كل زمان ومزجها بالوعظ والتذكير؟ وأين أهل التقليد من هدي القرآن؟ هو يذكر لنا الأحكام بأسلوب يعدنا للعقل، ويجعلنا من أهل البصيرة وينهانا عن التقليد الأعمى، وهم يأمروننا بأن نخر على كلامهم وكلام أمثالهم صما وعميانا، ومن حاول منا الاهتداء بالكتاب العزيز وما بينه من السنة المتبعة أقاموا عليه النكير، ولعله لا يسلم من التبديع والتكفير، يزعمون أنهم بهذا يحافظون على الدين وما أضاع الدين إلا هذا، فإن بقينا على هذه التقاليد لا يبقى على هذا الدين أحد، فإننا نرى الناس يتسللون منه لواذا، وإذا رجعنا إلى العقل الذي هدانا الله تعالى إليه في هذه الآية وأمثالها، رجي لنا أن نحيي ديننا فيكون دين العقل هو مرجع الأمم أجمعين، وهذا ما وعدنا الله تعالى به ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/446.

(2) ذكر هنا كلام الرازي الذي سبق ذكره.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآيات جاءت متممة لأحكام الزواج، وقد توسط بينها الأمر بالمحافظة على الصلاة؛ لأنها عماد الدين، فجدير بالمسلمين أن يعنوا بها أشد العناية، إذ من حافظ عليها جعل نصب عينيه إقامة حدود الدين، والعمل بالشريعة كما قال ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾

2. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ أي والذين يتوفون منكم ويتركون زوجات بعدهم، فليوصوا لهن بوصية وليمتّعوهن متاعا إلى آخر الحول غير مخرجات من بيوتهن، فلا يمنعن السكنى فيها.

3. الخلاصة: إن على الأزواج أن يوصوا لهن بشيء من المال ينفقنه مدة الحول، ولا يخرجن من البيوت مدة سنة كاملة، تمر فيها الفصول الأربعة التي يتذكرن أزواجهن فيها، وهذا الأمر أمر ندب واستحسان لا أمر وجوب وإلزام تهاون فيه الناس كما تهاونوا في كثير من المندوبات.

4. ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ أي فإن خرجن من تلقاء أنفسهن فلا إثم عليكم أيها المخاطبون بالوصية فيما فعلن في أنفسهن من المعروف شرعا وعادة كالتعرض للخطّاب بعد العدة والتزوج، إذ لا ولاية لكم عليهن، فهن حرائر لا يمنعن إلا من المنكر الذي يمنع منه كل مكلف.

5. ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي والله عزيز غالب على أمره يعاقب من خالفه، حكيم يراعى في أحكامه مصالح عباده، ومن عزته وقدرته أن يحوّل الأمم من عادات ضارة، إلى عادات نافعة تقتضيها المصلحة، كتحويل العرب من عادتهم في العدة والحداد، إذ كانوا يجعلون المرأة أسيرة ذليلة مقهورة في عقر دارها سنة كاملة ـ إلى ما هو خير من ذلك وهو إكرامها في بيت زوجها بين أهله، وعدم الحجر على حريتها إذا أرادت الخروج منه ما دامت في حظيرة الشرع وآدابه.

6. ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ أي وشرعت المتعة لكل مطلقة على سبيل الوجوب إذا كانت غير مدخول بها، وعلى سبيل الاستحسان لغيرها، والذي يفعل ذلك من أشرب قلبه تقوى الله والخوف من عقابه، فهو الذي يجود بالمال تطييبا للقلوب وإزالة للضغن.

7. الخلاصة ـ إن المطلقات أصناف أربعة:

أ. مطلقة مدخول بها وقد فرض لها مهر، وهذه لها كل المفروض، وهى التي عناها الله سبحانه بقوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾

ب. مطلقة غير مدخول بها ولا مفروض لها، وهذه يجب لها المتعة بحسب يسار الزوج ولا مهر لها، وهى التي عناها الله بقوله تعالى: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ إلى آخر الآية، ولا عدّة لها.

ج. مطلقة مفروض لها وغير مدخول بها، ولها نصف المهر المفروض، ولا عدة لها، وفيها نزل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾

د. مطلقة مدخول بها غير مفروض لها، ولها مهر مثلها من قريباتها وأسرتها.

8. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ المراد من البيان ذكر الحكم وفائدته، ثم قرنه بالموعظة الحسنة، وقوله تعقلون: أي تتدبرون الأشياء وتذعنون لما أودع فيها من الحكم والمصالح إذعانا يكون له الأثر في الأعمال، والمعنى ـ إن الله جلت قدرته، مضت سنته أن يبين لعباده أحكام دينهم على هذا النحو من البيان الذي تقرن فيه الأحكام بعللها وأسبابها وبيان فوائدها، ليعدّهم بذلك لكمال العقل، حتى يتحرّوا الاستفادة من كل عمل، وليكونوا على بصيرة من دينهم، عالمين بانطباق أحكامه على مصالحهم، فدينهم هو دين العقل، وأحكامه تنطبق على مصالح البشر في كل زمان ومكان.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/205.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تؤدي هذه اللمسة دورها في مجال الحديث عن أحكام الزواج والطلاق؛ وفي تقرير التصور الإسلامي لقاعدة الإسلام الكبرى، وهي العبادة ممثلة في كل طاعة، ثم يعود السياق إلى ختام الأحكام.

2. الآية الأولى تقرر حق المتوفى عنها زوجها في وصية منه تسمح لها بالبقاء في بيته والعيش من ماله، مدة حول كامل، لا تخرج ولا تتزوج إن رأت من مشاعرها أو من الملابسات المحيطة بها ما يدعوها إلى البقاء.. وذلك مع حريتها في أن تخرج بعد أربعة أشهر وعشر ليال كالذي قررته آية سابقة، فالعدة فريضة عليها، والبقاء حولا حق لها.. وبعضهم يرى أن هذه الآية منسوخة بتلك، ولا ضرورة لافتراض النسخ، لاختلاف الجهة كما رأينا، فهذه تقرر حقا لها إن شاءت استعملته، وتلك تقرر حقا عليها لا مفر منه: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾

3. كلمة ﴿عَلَيْكُمْ﴾ توحي بمعنى الجماعة المتضامنة المسئولة عن كل ما يقع فيها، فالجماعة هي التي يناط بها أمر هذه العقيدة وأمر هذه الشريعة وأمر كل فرد وكل فعل في محيطها، وهي التي يكون عليها جناح فيما يفعل أفرادها أو لا يكون.. ولهذا الإيحاء قيمته في إدراك حقيقة الجماعة المسلمة وتبعاتها، وفي ضرورة قيام هذه الجماعة لتقوم على شريعة الله وتحرسها من خروج أي فرد عليها، فهي المسئولة في النهاية عن الأفراد في الصغيرة والكبيرة، والخطاب يوجه إليها بهذه الصفة لتقرير هذه الحقيقة في حسها وفي حس كل فرد فيها.. والتعقيب: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.. للفت القلوب إلى قوة الله، وحكمته فيما يفرض وما يوجه، وفيه معنى التهديد والتحذير.

4. الآية الثانية تقرر حق المتاع للمطلقات عامة، وتعلق الأمر كله بالتقوى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، وبعضهم يرى أنها منسوخة كذلك بالأحكام السابقة.. ولا حاجة لافتراض النسخ، فالمتاع غير النفقة.. ومما يتمشى مع الإيحاءات القرآنية في هذا المجال تقرير المتعة لكل مطلقة، المدخول بها وغير المدخول بها، المفروض لها مهر وغير المفروض لها، لما في المتعة من تندية لجفاف جو الطلاق، وترضية للنفوس الموحشة بالفراق، وفي الآية استجاشة لشعور التقوي، وتعليق الأمر به، وهي الضمان الأكيد والضمان الوحيد.

5. الآية الثالثة تعقيب على الأحكام السابقة جميعا: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.. كذلك.. كهذا البيان الذي سلف في هذه الأحكام.. وهو بيان محكم دقيق موح مؤثر.. كذلك يبين الله لكم آياته عسى أن تقودكم إلى التعقل والتدبر فيها، وفي الحكمة الكامنة وراءها، وفي الرحمة المتمثلة في ثناياها، وفي النعمة التي تتجلى فيها، نعمة التيسير والسماحة، مع الحسم والصرامة، ونعمة السلام الذي يفيض منها على الحياة، ولو تعقل الناس وتدبروا هذا المنهج الإلهي لكان لهم معه شأن.. هو شأن الطاعة والاستسلام والرضى والقبول.. والسلام الفائض في الأرواح والعقول.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/257.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جاء في الآية الكريمة قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ وقد قلنا إن توجيه الخطاب هنا للأزواج المتوفين يحمل دلالة على وثاقة الرابطة بين الزوجين، وقداستها، وأنها لا تنقطع بموت أحدهما، وفى هذه الآية يجيء الخطاب أيضا إلى الأزواج المتوفّين، ليقيم‏ بينهم وبين زوجاتهن صلة ممتدة إلى ما بعد الموت أيضا، ولكنها في هذه المرة محمولة على الرجال، كما حمل الحكم في الآية السابقة على النساء، وهو أن يتربصن أربعة أشهر وعشرة أيام، حدادا على أزواجهن.

2. الحكم المحمول على الرجال هنا هو أن يكون للمرأة المقام في بيت الزوجية مكفولة النفقة عاما كاملا بعد وفاة الزوج، لا يعرض لها أحد بإزعاج من بيت الزوجية، ما دامت راغبة في السكن إليه.

3. فى قوله تعالى: ﴿وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ إشارة إلى أن هذه الوصية مفروضة بأمر الله، سواء أوصى بها الزوج قبل وفاته أم لم يوص، وعلى هذا نصب لفظ الوصية بهذا الأمر، على تقدير: فرضنا ﴿وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ (ومتاعا) بدل من (وصية) و(غير إخراج) صفة لمتاع.

4. للمفسرين رأى في هذه الآية، وأنها منسوخة بآية المواريث، وما فرض للزوجة فيها من فريضة الربع أو الثمن، ونقول: إنه لا نسخ في هذه الآية الكريمة، ولا تعطيل لحكمها، وحكمتها! ونسأل: لماذا هذا النسخ وما حكمته؟ ولما ذا يحمل القرآن الكريم آية كريمة، متلوة، متعبدا بها، وتحمل حكما صريحا مؤكدا موثقا، ثم تجيء آية أخرى بحكم آخر يعطل هذا الحكم، ويبقيه هكذا، يعلن في وجه المرأة سلب حكم كان فيه خيرا لها وبرّا بها؟ أهذا مما تقتضيه حكمة الحكيم العليم، في حال كحال تلك المرأة التي ذهب عنها زوجها، وتركها تعانى الوحدة والوحشة، وربما الفاقة من بعده؟ وإذا كان من تقدير الله ألا يكون للمرأة مثل هذا الحق، أفكان من التدبير الحكيم أن يلوّح لها بهذا البر وتلك المواساة في آية كريمة، ثم تحرمه وتذاد عنه بآية أخرى من آيات الكتاب الكريم؟

5. إذا أقمنا الآية الكريمة على تلك الموازين التي يزن بها علماء التفسير ضوابط الناسخ والمنسوخ، نجد أن أهمّ الاعتبارات التي جاء من أجلها النسخ عندهم هي:

أ. التدرج في الأحكام، رحمة بالناس، وتخفيفا عليهم، وذلك حين يكون الحكم متعلقا بعادة متأصله في النفوس، ثم تقضى الشريعة بتحريمه، فإنها حينئذ لا نفجأ الناس بهذا الحكم مرة واحدة، بل تدخل عليهم به على عدة مراحل، في رفق وأناة، وفى تدرج.. من الخفيف، إلى الثقيل، إلى ما هو أثقل منه، كما حدث ذلك في تحريم الخمر والربا، على ما يقولون في الآيات الناسخة والمنسوخة فيها، وهو ما لا نقول به، كما عرضنا له من قبل.

ب. التخفيف على الناس، مراعاة لتغير الظروف.. كما كان الأمر في قتال المسلم عشرة من المشركين، وذلك في أول الإسلام، فلما كثرت أعداد المسلمين، خفف الله عنهم، هذا فكان على المسلم قتال مشركين اثنين بدلا من عشرة.

ج. تغليظ الحكم لا تخفيفه، وذلك لتغير الظروف أيضا.. فلم يكن على المسلمين قتال في أول الدعوة الإسلامية، ثم لما دخل في الإسلام الأنصار واجتمع إليهم المهاجرون أذن الله لهم في قتال من قاتلهم.. ثم لما قويت شوكة الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا جاء الأمر بقتال المشركين متى طالتهم يد المسلمين.

6. تلك هي أهم الضوابط التي رآها علماء التفسير داعية إلى نسخ ما نسخ من آيات الكتاب الكريم، وإذا أقمنا الآية الكريمة ـ كما قلنا ـ على تلك الضوابط لم نجدها تستقيم عليها، أو تستجيب لها.. فما جاءت الشريعة السمحاء في كتابها الكريم ولا في السنّة المطهرة، بمباح ثم حظرته، ولا حملت إلى الناس خيرا ثم عادت فسلبته، ولا بسطت يدها الكريمة بإحسان ثم قبضتها.. بل العكس هو الصحيح، وهو الواقع.. ولا نسوق الشواهد لهذا.. فأمر الشريعة كله قائم على اليسر والخير والرحمة.. فما كان على غير هذه السبيل فهو مدخول على الشريعة، مفترى عليها.

7. ننظر في الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾ فنرى المرأة الموصى لها ـ بأمر الله ـ بهذه الوصية، قد كانت في ظل زوج كفل لها الاستقرار والسّكن، وأنها قد اطمأنت إلى تلك الحياة، وأنست بها، وقرت فيها.. ثم إذا هي تمسى أو تصبح فتجد الرجل الذي كان يظللها بجناحيه قد طواه الموت، وذهب به بعيدا عنها إلى غير رجعة!

أ. فانظر ماذا يكون حالها وهى تستقبل هذا الوجه الجديد من الحياة؟ ثم ضع في تقديرك أنها ربما تكون قد استهلكت شبابها، وصحتها، وقواها، في هذا البيت الذي دخلته فتاة ملء إهابها الشباب والصحة والقوة.. ثم ضع في تقديرك أيضا أن هذه المرأة ـ مع ذهاب شبابها واستهلاك صحتها ـ قد لا تكون أمّا لولد يؤنس وحشتها، ويحمى حماها، ويرعى شيخوختها.

ب. انظر ماذا يكون من شأن هذه المرأة وقد جاءها من ورثة زوجها، عشيّة موته أو ضحاها ـ جاءها من يمسك بيدها لينتزعها من عشّها الذي عاشت فيه، ويقودها إلى ما بعد الباب، ثم يقول لها: (مع السلامة)! إن رفق وتلطف، أو (بلا رجعة)! إن اشتدّ وعنف!؟ وفاعل هذه الفعلة، وقائل هذا القول لا يتأثّم أو يتحرج، لأنه يستعمل حقّا له، ولم ينتقص المرأة حقّا من حقوقها، لأنه يعلم ـ كما يقول المفسرون ـ أن الآية التي تعطى المرأة حق السكن والمتعة حولا كاملا، هي آية منسوخة، غير عاملة!.

8. كلّا، فإن شريعة الإسلام أبرّ وأرحم من أن تعرّض تلك المرأة الجريحة لمثل هذه التجربة القاسية، وتلقى بها بين متلاطم أمواج الحياة قبل أن تندمل جراحها، وتجفّ دموعها، وتعتاد النظر إلى الحياة في وضعها الجديد!

9. لقد كان من تدبير الشريعة الحكيم أن قدمت للمرأة في هذا الحدث الأليم، جميل العزاء، ووضعت في يدها حق القرار في بيت الزوجية عاما كاملا، وكفلت لها من مال زوجها نفقة هذا العام على نحو ما كانت تعيش فيه مع زوجها، إن كان فيما ترك الزوج ما يسع تلك النفقة، فذلك هو الذي يمسك المرأة في محنتها تلك، وذلك هو البرّ من جهة الورثة بمورثهم، إذ حفظوا أهله، وصانوا عرضه!

10. وأكثر من هذا.. فإنه إذا لم يكن فيما ترك المتوفى ما يقوم بنفقة المرأة خلال هذا العام فإن ورثة الزوج، ورحمهم الماسّة به توجب على الموسر منهم أن يكفل للزوجة حاجتها من ماله.. فكما أنه كان سيرته إذا ترك مالا، فإن عليه أن يؤدى عنه دينا هو في عنقه لزوجته! ذلك ما نراه أقرب إلى شرع الله، وأنسب لدينه الذي ارتضاه.

11. لا بد لنا من قولة في هذا المقام، فلقد أعطى الإسلام المرأة كثيرا، وأضفى عليها حماية ورعاية، وجاءت‏ آيات القرآن الكريم توصى بالنساء في كل دور من أدوار حياتهن، وفى كل موقف من موقفهن في الحياة: أوصت بهن متزوجات، وأمهات، ورعتهن يتيمات، ومطلقات، وأيامى، وأعطتهن من الحقوق مثل ما عليهن من الواجبات كما يقول الله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وكانت آخر وصاة للرسول الكريم، ختم بها رسالته العظيمة الرحيمة قوله: (اتّقوا الله في الضعيفين: المرأة والمملوك)

12. إن الإسلام إنما جاءت رسالته لاستنقاذ المجتمع البشرى من عوامل التصدع والهدم التي كانت عاملة فيه، وهو من أجل هذا قد نفذ إلى الصميم من كيان هذا المجتمع، وهو الفرد الذي يتكون من وحداته المجتمع كله، فأخذ الفرد بآدابه وتعاليمه وأحكامه كي ينقّى جوهره، ويصفّى عناصره من من الشوائب والأدران، حتى إذا أصبح الفرد صالحا ليكون لبنة في بناء المجتمع، كان أول تلاحم له في هذا المجتمع هو وصله بالمرأة، ليكونا معا حجر الزاوية في هذا البناء، وعلى قدر التحامهما وتماسكهما تكون قدرته على الصمود والاحتمال! فكيف يعقل والأمر على ما ترى أن يقيم الإسلام بناء يقوم على دعامتين، هما: الرجل والمرأة، ثم يجعل من إحدى هاتين الدعامتين قوة تتسلط على الأخرى، وتفتّت كيانها، وتغتال وجودها، وتأتى على عناصر التفاعل والالتحام المهيأة لتوليد القوة وبعث النشاط في المجتمع البشرى كله؟ أهذا يكون من تدبير حكيم أو من عمل عاقل؟ يريد البناء فيهدم؟ ويغزل وينسج، ثم ينقض ما غزل ونسج؟ وإذا جاز هذا على أحد المخلوقين فهل يجوز هذا على رب العالمين وأحكم الحاكمين؟ وتعالت حكمة الله عن هذا علوّا كبيرا.

13. فى القرآن الكريم، وفى السنة المطهرة ـ كما قلنا ـ منهاج متكامل حكيم لإقامة هذا البناء، وإحكام هذا النسج المتلاحم بين الرجل والمرأة، إذا استقام المجتمع الإنساني عليه، ونسج على منواله، لكن الذي حدث كان على غير هذا الاتجاه، إذ أنّ تفسير القرآن بدأ في عصر كانت فيه المرأة قد أخذت وضعا جائرا في المجتمع، لكثرة ما ازدحم في عصور الخلفاء والأمراء والوزراء وأصحاب الجاه والثراء ـ من الإماء، اللائي غلبن على الحرائر، واستأثرن بالنصيب الأوفر عند الرجال، وبهذا صرن الوجه البارز للمرأة في هذا العصر، في حين أصبحت المرأة الحرة في بيت الرجل شيئا كماليّا، لا يراد منه غير أن يكون للرجل امرأة، يكون له منها الولد أو الأولاد! وحين أخذ المفسرون ينظرون في كتاب الله، وفى الآيات التي تمسّ المرأة، وتقرر الأحكام التي تربط بينها وبين الرجل، وتحدد ما لها من حقوق وما عليها من واجبات ـ حينئذ كانت نظرة المفسرين إلى المرأة واقعة على هذه الصورة الشائهة لها، المعزولة عن الوضع الصحيح الذي أقامتها الشريعة عليه.. ومن هنا كان تأويل آيات الكتاب الكريم واقعا تحت هذا المفهوم الجديد للمرأة، متأثرا به، مقدورا بقدره! وقد جاء الفقهاء على آثار المفسّرين فنظروا من وراء نظرتهم، وبنوا أحكامهم على أساس تلك النظرة، فبخسوا المرأة حقّها وأزالوها عن تلك المنزلة التي رفعها الإسلام إليها، وأعادوها إلى أنزل من الوضع الذي كانت عليه في الجاهلية.

14. الشيء الذي يلفت النظر في هذا هو أن كلمة المفسّرين الأولى في تأويل كتاب الله؛ كانت طريقا سلكه كل من جاءه بعدهم، فنظر بنظرهم، وأخذ مأخذهم، إذ وجد من الحرج أن يعيد نظره فيما نظر فيه السلف، الذين كانوا أقرب إلى عصر النبوة وإلى تنسّم أنسامها الطيبة.

15. الحقّ أن هذا الشعور قد حجز كثيرا من العقول عن أن تتصل بكتاب الله وبالسنة المطهرة اتصالا مباشرا، غير واقع تحت تأثير هؤلاء السّلف الذين اجتهدوا فأخلصوا الاجتهاد، ولكن لا عليهم أن يجتهد غيرهم، بل لم يكن في تقديرهم أن يقولوا ثم لا يكون لغيرهم مقالا فيما قالوا!

16. السبب في جمود التشريع الإسلامي، يرجع في الواقع إلى هذا الشعور الذي دخل على العلماء والفقهاء من التزام الخطوة الأولى التي خطاها السلف في طريق هذا التشريع، الذي كان من طبيعة الأمور ومن معطيات الأصول التشريعية له ـ أن تتبع هذه الخطوة بخطوات، ممتدة امتداد الزمن، متفتحة على مسالك الحياة، مسايرة لسيرها! وأحسب أنه لو تخففنا من هذا الشعور إلى الحدّ الذي يسمح لنا بحرية الحركة، واستقلال النظرة لوحدنا بين أيدينا التشريع الإسلامي الذي يقيمنا على أوضاع سليمة مستقرة في حياتنا المادية والروحية، وفى نظمنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولكانت صحبتنا للدين صحبة نأنس بها، ونطمئن إليها، ونثق فيها، ولذهب ما بيننا وبين الدين من جفوة، ولتحولت نظرتنا تلك الفاترة الضائعة في اتصالنا به، إلى نظرة حيّة واثقة من أنها إنما تنظر إلى الحياة كلها، وإلى أجمل ما في هذه الحياة، حين تنظر في هذا الدين، وتقيم حياتها عليه! وأكثر من هذا ـ فإننا لو ذهبنا نأخذ شريعتنا من مصدرها الأول ـ الكتاب والسنة ـ لوجدنا أن كثيرا من القضايا الهامة في حياتنا التي جاءت إلينا باسم الدين، وصارت وجها من وجوهه، ومادة من مواد دستوره، لم تكن من الدين، وإنما وقعت من تأويلات، تحكّم فيها يومئذ واقع الحياة، وتحيف فيها المتأولون! إننا لو فعلنا هذا لأخرسنا تلك الألسنة التي ترمى الإسلام بالجمود والتخلف، وتحكم عليه بأنه دين الحياة القبلية، الذي لا يصلح لحياة المجتمع المتحضر، ولا يتفق والزىّ الذي يتزيا به إنسان القرن العشرين!

17. الطلاق مثلا هو عند من يفهمون الإسلام هذا الفهم السقيم ـ لا يعدو أن يكون كلمة يتلفظ بها في جد أو هزل، وفى صحو أو سكر، فإذا هي سيف قاطع يصيب المرأة في مقتلها، وإذا هي جثة هامدة لا حياة فيها! وليس الطلاق هكذا في شريعة الإسلام، ولا هو على تلك الصورة الهزيلة الباردة! الطلاق قضية.. ونعم قضية.. مثيرة.. خطيرة.. لها شأنها ووزنها في حساب الحياة، وفى بناء المجتمع الإنساني وبهذا الاعتبار، وعلى هذا التقدير، فإن أي انحراف يقع في النظر إليها، أو أي سوء فهم يرد على تصورها، لا يصيب المرأة وحدها، وإنما تمتد آثاره السيئة إلى المجتمع كله، ونصيب الصميم من مركز القوة والحياة فيه، بهذا التقدير الحكيم كانت نظرة الإسلام إلى الطلاق.. إنه في نظر الإسلام قضية من أهم قضايا المجتمع البشرى، بل هي عملية جراحية خطيرة يقتطع بها الإنسان بضعة منه، على تكره واضطرار، وقد رأينا فيما نظرنا فيه من آيات الكتاب الكريم في شأن الطلاق كيف كانت نظرة الإسلام إلى الطلاق، وكيف كان تقديره له، في كل مرحلة، وفى كل خطوة يخطوها الرجل نحوه.

18. وقد رأينا كذلك مفهوم قوله تعالى‏ ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ وأشرنا إلى ما تشير إليه لفظة (مرتان) من أن الطلاق ليس مجرد تلفظ بكلمة الطلاق، بل هو عمليّة قاسية، وأنه ليس عملية واحدة، بل هو عمليتان موجعتان.. قلنا هذا أو نحوه وهو شيء قليل مما يمكن أن يقال! ولكن انظر كيف وقع مفهوم هذه الآية الكريمة في العصر الذي أشرنا إليه، عصر تدوين التفسير، والفقه، وما كان لأحداث العصر من أثر في إعطاء الآية الكريمة هذا المفهوم! كان الخلفاء يأخذون البيعة من الناس لأولياء العهد من بعدهم، لمن يختارونه من أبنائهم، وإنهم لكى يسدّوا على المبايعين منافذ التحلل من تلك البيعة، كانوا يوثقونهم بأيمان مغلظة لا يستطيعون الفكاك منها.. ومن هذه الأيمان يمين الطلاق! فكان فيما يحلف به المبايع أنه إن تحلل من هذه البيعة التي بايعها فكل نسائه طالق ثلاثا! على اعتبار أن التلفظ بأعداد الطلاق الثلاث مرة واحدة هو الطلاق الباتّ الذي لا رجوع فيه.. وبهذا تصبح المرأة طالقا بمجرد الحنث في هذا اليمين.. وعلى هذا أصبح الحكم الشرعيّ للطلاق عموما هو أن يحسب الطلاق بالعدد الملفوظ به، طلقة واحدة، أو اثنتين، أو ثلاثة، وبهذا يمكن أن يقع الطلاق البات، وتنفصم عرا الحياة الزوجية في لحظة واحدة بكلمة واحدة!

19. وأغرب ما في هذا المفهوم الخاطئ للطلاق، أنه يحتسب (الطلاق) يمينا يحلف به، مع أنه إجراء أو عملية، يتم بها الانفصال بين الزوجين، كما تم الاتصال بينهما بعملية مماثلة في الزواج، وإن كانت عملية الاتصال بين طرفين، وعملية الانفصال من طرف واحد.. فذلك لا يعدو أن يكون فسخا من جانب واحد لعقدتم بين طرفين، وهذا أمر جائز في بعض العقود، كعقد الهبة، وعقد الوصية.

20. لا شك أن هذا المفهوم للطلاق بعيد غاية البعد عن ملفوظ الآية ومفهومها، مضاد كل التضاد للنظرة التي نظرت بها الشريعة إليه كدواء مر، لا يتجرعه الرجل إلا عندما تعتلّ الحياة الزوجية، ويهدد الداء حياتها، عندئذ يجاء إلى هذا الدواء المر، ولكن لا يؤخذ منه إلا جرعة واحدة، فإن ذهبت بالداء، وإلا فالثانية، فإن لم يكن ثمة أمل فالثالثة.. ولا شيء بعدها! أرأيت إذن كيف كان أثر العصر الذي دوّن فيه تفسير القرآن في تلوين هذا التفسير بلون الحياة الغالبة على الناس يومئذ، وفى تخريجه على نحو يستجيب لمنازع هذه الحياة، ولا يتصادم مع أحداثها!

21. ولك أن تنظر بعد هذا فيما يقال من أن عمر بن الخطاب هو الذي أفتى بهذه الصورة الكريهة التي يقع بها الطلاق مرة واحدة بلفظ واحد، وأنه ألزم المتلفظ بكلمة الطلاق أن يقع طلاقه بائنا بينونة كبرى إذا حملت اللفظة معها ما يدل على عدد الثلاث، كأن يقول: هي طالق ـ طالق، طالق، أو هي طالق ثلاثا.. أو يقع يميني ثلاث طلقات إذا حدث كذا أو كذا ثم لم يحدث هذا أو ذاك! لك أن تنظر في هذا الذي يقال عن عمر بن الخطاب، في أمر هذا الطلاق، وما يقام له من تعليل ينسب إلى عمر أيضا، وهو أن الناس استعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة، فكان ذلك عقابا لهم! يا سبحان الله! أهذا عمر بن الخطاب، وهذا توقيره لدين الله، وحياطته له، وحرصه عليه؟ ومعاذ الله أن يستحلّ ابن الخطاب حرمة من حرمات الله، فيحل حراما أو يحرم حلالا! أفلأن خرج بعض الناس على منهج الدين يلقاهم ابن الخطاب‏ بهذا الدين وقد غير لهم وجهه، وأدار لهم ظهره؟ وما ذا لو رأى ابن الخطاب أن المسلمين قد أكثروا في عهده من التزوج بالكتابيات، ورغبوا فيهن عن المسلمات؟ أكان عليه ـ حسب هذا المنطق ـ أن يجيء إلى المسلمين بفتوى تحرم عليهم التزوج بهن؟ إن هذا من ذاك سواء بسواء! إننا نلغى عقولنا ونبيعها بأبخس ثمن إذا قبلنا مثل هذه الروايات التاريخية المتهافتة، التي تدين الإسلام، وتدين رجلا مثل عمر بن الخطاب.

22. ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: 240]، بعد أن قضى الله سبحانه وتعالى للمرأة المتوفى عنها زوجها بالمقام في بيت الزوجية حولا كاملا، مكفولة النفقة، غير متوجه إليها بكيد يفسد عليها المقام فيه، ويحملها على الخروج منه ـ بعد أن بين الله سبحانه هذا، أباح للمرأة أن تخرج من هذا البيت متى شاءت خلال هذا الحول، حسب تقديرها وتدبيرها لشئون نفسها، فهذا الحق ملك لها تستعمله أو لا تستعمله، كله، أو بعضه، ولا سبيل لأحد عليها، ولا حرج على أهل الزوج إن هي خرجت راغبة غير مكرهة، ولا ضائقة!

23. قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40] تذكير لأهل الزوج وورثته بعزة الله وقوته، حتى لا يعتزوا بعزتهم، أو يغترّوا بقوتهم، إزاء ضعف المرأة واستكانتها في الحال التي هي فيها، فيجوروا على حقها، ويعتدوا على ما وضع الله في يدها.. فما قضى الله به هو حكم الحكيم العليم، وليس لأحد أن يعترض على هذا الحكم أو يقف في سبيل إمضائه، وإلا كان معتديا آثما.

24. في قوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 241] تأكيد لهذا البرّ الإنساني بالمرأة المتوفّى عنها زوجها، إذ جعله الله حقّا للمطلقات عموما، فالمتوفّى عنها زوجها أحق وأولى بهذا البر منهن.

25. إذ جعل الإسلام هذا البرّ حقا واجبا للمرأة المطلقة أو المتوفى عنها زوجها، على الزوج المطلّق، أو على ورثة المتوفى، فإنه لم يكتف بهذا الأمر الملزم، بل استدعى له إنسانية الإنسان كلها، وخاطب فيه جانب المروءة والرجولة، ليكون من ذوى الفضل والإحسان، وذلك ليشد الأمر الديني إلى ضمير الإنسان، وليوقظ له المشاعر الطيبة الرحيمة فيه، حتى يستقبل الأمر الديني، طيب النفس، منشرح الصدر، فيخف عليه أداؤه، والوفاء به على أكمل وجه وأتمه.. فسبحان الحكيم العليم المستولى بحكمته وبعلمه على ما تكن الضمائر وما تخفى الصدور!

26. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 242] أي بمثل هذا البيان المبين، يخاطبكم الله بآياته، ويعلمكم آدابه وأحكامه، حتى تكونوا على هدى وبصيرة، لما التقى بعقولكم من هذا العلم الرّبّاني الوضيء.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/288.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ موقع هذه الآية هنا بعد قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ﴾ [البقرة: 243] إلى آخرها في غاية الإشكال فإن حكمها يخالف في الظاهر حكم نظيرتها التي تقدمت، وعلى قول الجمهور هاته الآية سابقة في النزول على آية ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ﴾ يزداد موقعها غرابة إذ هي سابقة في النزول متأخرة في الوضع.

2. الجمهور على أن هذه الآية شرعت حكم تربص المتوفى عنها حولا في بيت زوجها، وذلك في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بعدة الوفاة وبالميراث، روي هذا عن ابن عباس، وقتادة والربيع وجابر بن زيد، وفي البخاري في كتاب التفسير عن عبد الله بن الزبير قال: (قلت لعثمان هذه الآية، ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها، قال لا أغير شيئا منه عن مكانه بابن أخي)، فاقتضى أن هذا هو موضع هذه الآية، وأن الآية التي قبلها ناسخة لها، وعليه فيكون وضعها هنا بتوقيف من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لقول عثمان: (لا أغير شيئا منه عن مكانه) ويحتمل أن ابن الزبير أراد بالآية الأخرى آية سورة النساء في الميراث، وفي البخاري قال مجاهد: (شرع الله العدة أربعة أشهر وعشرا تعتد عند أهل زوجها واجبا، ثم نزلت‏ ﴿وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ فجعل الله لها تمام السنة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت، ولم يكن لها يومئذ ميراث معين، فكان ذلك حقها في تركة زوجها، ثم نسخ ذلك بالميراث)، فلا تعرض في هذه الآية للعدة ولكنها في بيان حكم آخر وهو إيجاب الوصية لها بالسكنى حولا: إن شاءت أن تحتبس عن التزوج حولا مراعاة لما كانوا عليه، ويكون الحول تكميلا لمدة السكنى لا للعدة، وهذا الذي قاله مجاهد أصرح ما في هذا الباب، وهو المقبول.

3. اعلموا أن العرب في الجاهلية كان من عادتهم المتبعة أن المرأة إذا توفي عنها زوجها تمكث في شر بيت لها حولا، محدة لابسة شر ثيابها متجنبة الزينة والطيب، كما تقدم في حاشية تفسير قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 234] عن (الموطأ)، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك الغلو في سوء الحالة، وشرع عدة الوفاة والإحداد، فلما ثقل ذلك على الناس، في مبدأ أمر تغيير العادة، أمر الأزواج بالوصية لأزواجهم بسكنى الحول بمنزل الزوج والإنفاق عليها من ماله، إن شاءت السكنى بمنزل الزوج، فإن خرجت وأبت السكنى هنالك لم ينفق عليها، فصار الخيار للمرأة في ذلك بعد أن كان حقا عليها لا تستطيع تركه، ثم نسخ الإنفاق والوصية بالميراث، فالله لما أراد نسخ عدة الجاهلية، وراعى لطفه بالناس في قطعهم عن معتادهم، أقر الاعتداد بالحول، وأقر ما معه من المكث في البيت مدة العدة، لكنه أوقفه على وصية الزوج عند وفاته لزوجه بالسكنى، وعلى قبول الزوجة ذلك، فإن لم يوص لها أو لم تقبل، فليس عليها السكنى، ولها الخروج، وتعتد حيث شاءت، ونسخ‏ ﴿وَصِيَّة﴾ السكنى حولا بالمواريث، وبقي لها السكنى في محل زوجها مدة العدة مشروعا بحديث الفريعة.

4. ﴿وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ قرأه نافع وابن كثير والكسائي وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر ويعقوب وخلف: برفع (وصية) على الابتداء، محولا عن المفعول المطلق، وأصله وصية بالنصب بدلا من فعله، فحول إلى الرفع لقصد الدوام كقولهم: حمد وشكر، و﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ [يوسف: 18] كما تقدم في تفسير ﴿الْحَمْدُ لله﴾ [الفاتحة: 18] وقوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 229] ولما كان المصدر في المفعول المطلق، في مثل هذا، دالا على النوعية، جاز عند وقوعه مبتدأ أن يبقى منكرا، إذ ليس المقصود فردا غير معين حتى ينافي الابتداء، بل المقصود النوع، وعليه فقوله تعالى: ﴿لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ خبر، وقرأه أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: ﴿وَصِيَّةٍ﴾ بالنصب فيكون قوله: ﴿لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ متعلقا به على أصل المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله لإفادة الأمر.

5. ظاهر الآية أن الوصية وصية المتوفين، فتكون من الوصية التي أمر بها من تحضره الوفاة مثل الوصية التي في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: 180] فعلى هذا الاعتبار إذا لم يوص المتوفّى‏ لزوجه بالسكنى فلا سكنى لها وقد تقدم أن الزوجة مع الوصية مخيرة بين أن تقبل الوصية، وبين أن تخرج، وقال ابن عطية: قالت فرقة منهم ابن عباس والضحاك وعطاء والربيع: أن قوله‏ ﴿وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ هي وصية من الله تعالى للأزواج بلزوم البيوت حولا، وعلى هذا القول فهو كقوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء: 11] وقوله تعالى: ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ [النساء: 12] فذلك لا يتوقف على إيصاء المتوفين ولا على قبول الزوجات، بل هو حكم من الله يجب تنفيذه، وعليه يتعين أن يكون‏ ﴿لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ متعلقا بوصية، وتعلقه به هو الذي سوغ الابتداء به، والخبر محذوف دل عليه المقام لعدم تأتي ما قرر في الوجه الأول.

6. ﴿مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾: تقدم معنى المتاع في قوله تعالى: ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 236] والمتاع هنا هو السكنى، وهو منصوب على حذف فعله أي ليمتعوهن متاعا، وانتصب متاعا على نزع الخافض، فهو متعلق بوصية والتقدير وصية لأزواجهم بمتاع، و(إلى) مؤذنة بشيء جعلت غايته الحول، وتقديره متاعا بسكنى إلى الحول، كما دل عليه قوله تعالى: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾

7. التعريف في الحول تعريف العهد، وهو الحول المعروف عند العرب من عهد الجاهلية الذي تعتد به المرأة المتوفى عنها، فهو كتعريفه في قول لبيد:

çإلى الحول ثم اسم السلام عليكما...ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذرé

8. ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ حال من‏ ﴿مَتَاعًا﴾ مؤكدة، أو بدل من‏ ﴿مَتَاعًا﴾ بدلا مطابقا، والعرب تؤكد الشيء بنفي ضده، ومنه قول أبي العباس الأعمى يمدح بني أمية:

çخباء على المنابر فرسا...ن عليها وقالة غير خرس‏é

9. ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ هو على قول فرقة معناه: فإن أبين قبول الوصية فخرجن، فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من الخروج وغيره من المعروف عدا الخطبة والتزوج، والتزين في العدة، فذلك ليس من المعروف، وعلى قول الفرقة الأخرى التي جعلت الوصية من الله، يجب أن يكون قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ عطفا على مقدر للإيجاز، مثل: ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ﴾ [الشعراء: 63] أي فإن تم الحول فخرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن أي من تزوج وغيره من المعروف عدا المنكر كالزنا وغيره، والحاصل أن المعروف يفسر بغير ما حرم عليها في الحالة التي وقع فيها الخروج وكل ذلك فعل في نفسها، قال ابن عرفة في (تفسيره) (وتنكير معروف هنا وتعريفه في الآية المتقدمة، لأن هذه الآية نزلت قبل الأخرى، فصار هنالك معهودا)، وأحسب هذا غير مستقيم، وأن التعريف تعريف الجنس، وهو والنكرة سواء، وقد تقدم الكلام عن القراءة المنسوبة إلى علي ـ بفتح ياء ﴿يُتَوَفَّوْنَ﴾ ـ وما فيها من نكتة عربية عند قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ [البقرة: 234] الآية.

10. ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ عطف على جملة: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ [البقرة: 240] جعل استيفاء لأحكام المتعة للمطلقات، بعد أن تقدم حكم متعة المطلقات قبل المسيس وقبل الفرض، فعمم بهذه الآية طلب المتعة للمطلقات كلهن، فاللام في قوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ﴾ لام الاستحقاق.

11. التعريف في المطلقات يفيد الاستغراق، فكانت هذه الآية قد زادت أحكاما على الآية التي سبقتها، وعن جابر بن زيد قال: لما نزل قوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 236] قال رجل: إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فنزل قوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ فجعلها بيانا للآية السابقة، إذ عوض وصف المحسنين بوصف المتقين، والوجه أن اختلاف الوصفين في الآيتين لا يقتضي اختلاف جنس الحكم باختلاف أحوال المطلقات، وأن جميع المتعة من شأن المحسنين والمتقين، وأن دلالة صيغة الطلب في الآيتين سواء إن كان استحبابا أو كان إيجابا:

أ. فالذين حملوا الطلب في الآية السابقة على الاستحباب، حملوه في هذه الآية على الاستحباب بالأولى، ومعولهم في محمل الطلب في كلتا الآيتين ليس إلا على استنباط علة مشروعية المتعة وهي جبر خاطر المطلقة استبقاء للمودة، ولذلك لم يستثن مالك من مشمولات هذه الآية إلا المختلعة؛ لأنها هي التي دعت إلى الفرقة دون المطلق.

ب. والذين حملوا الطلب في الآية المتقدمة على الوجوب، اختلفوا في محمل الطلب في هذه الآية فمنهم من طرد قوله بوجوب المتعة لجميع المطلقات، ومن هؤلاء عطاء وجابر بن زيد وسعيد ابن جبير وابن شهاب والقاسم بن محمد وأبو ثور، ومنهم من حمل الطلب في هذه الآية على الاستحباب وهو قول الشافعي، ومرجعه إلى تأويل ظاهر قوله: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ﴾ بما دل عليه مفهوم قوله في الآية الأخرى‏ ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ [البقرة: 236]

12. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي كهذا البيان الواضح يبين الله آياته، فالآيات هنا دلائل الشريعة، وقد تقدم القول في نظيره في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: 143]

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/450.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. توسطت آيات الصلاة بين الآيات التي تبين ما للمعتدات وما عليهن؛ وذلك ليتوسط التهذيب النفسي التعامل الاجتماعي، وليستبين المؤمن أن التقوى أساس الصلات التي تربط آحاد الأسرة، وأن التقوى لازمة لتكون روح الاتصال، وميزان الاعتدال عند قيام الحياة الزوجية وعند انقطاعها، وقد بينت الآيات السابقة ما للمطلقة من حقوق أوجبها العقد نفسه؛ فنصف المهر أو المتعة عند الطلاق قبل المسيس وقبل تسمية المهر أمران أوجبهما العقد نفسه؛ لأن العقد الصحيح يوجب مهرا على أي صورة كان المهر، وهاتان الآيتان تبينان ما يجب ليكون الانتهاء من غير قطيعة، ولتكون المودة موصولة بعد انتهاء عقدة النكاح؛ والوجوب فيهما لا يشتق من ذات العقد، ولكنه يترتب على انتهاء العقد، وتوجبه الأخلاق الكريمة.

2. الآية الأولى تبين ذلك النوع من الحقوق الذي يجب للمتوفى عنها زوجها، والثانية تبين ما يجب للمطلقة على أنه أثر للطلاق نفسه، لا على أنه من مقتضى عقد الزواج؛ كنصف المهر، أو المتعة السابقة.

3. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ والمعنى الجملي للآية الكريمة ـ فيما يظهر ويبدو بادى الرأي ـ أن الذين‏ يتوفون ويذرون أي يتركون أزواجا، والمراد الزوجات؛ لأن كلمة الزوج تطلق على الذكر والأنثى ـ فرض الله وصية لهؤلاء الزوجات متاعا أي انتفاعا مستمرا إلى نهاية الحول، أي حتى يحول الزمن ويجيء الوقت الذي مات زوجها فيه‏ ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ أي ينتفعن بالإقامة في مسكنهن الذي كن يسكن فيه في حياة أزواجهن من غير إخراج منه؛ ويصح أن يقال غير مخرجات منه، فيكون المصدر على معنى اسم المفعول؛ والمؤدى واحد.

4. هنا بعض مباحث لفظية نشير إليها:

أ. أولها: كلمة ﴿وَصِيَّةٍ﴾ [النساء: 12] فيها قراءتان مشهورتان؛ إحداهما بالفتح، والثانية بالضم؛ وعلى قراءة الفتح يكون تقدير القول: كتب الله وصية متاعا إلى الحول غير إخراج، وعلى قراءة الضم يكون تقدير القول: عليهم وصية لأزواجهم حال كون هذه الوصية متاعا إلى الحول غير إخراج، أو لأجل الانتفاع إلى الحول غير إخراج.

ب. ثانيها: إنه عبر بحول بدل سنة؛ للدلالة على التحول حتى تعود الأيام التي كانت فيها الوفاة، ولو قيل إلى السنة مثلا لاحتمل أن ينته الانتفاع بالسكن بانتهاء السنة التي حصلت فيها الوفاة، ولو لم يحل الحول، فكان التعبير السامي بالحول نصا في أن يمر عام كامل من وقت الوفاة.

ج. ثالثها: قوله ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ [البقرة: 240] فالمعنى: غير مخرجات، أو يبقين في مسكنهن من غير إخراج من ورثة المتوفى لهن؛ والتعبير بالمصدر في هذا المقام هو الأصل، وهو المغزى والمرمى؛ لأن الوصية هي عدم الإخراج؛ فالوصية ألا يخرجن؛ ولذلك كان التعبير بالمصدر هو الأصل؛ وقوله ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ [البقرة: 240] صفة لمتاعا، ومتاعا بدل أو عطف بيان لكلمة ﴿وَصِيَّةٍ﴾ [النساء: 12] على قراءة النصب، وحال على قراءة الرفع، أو تمييز.

د. رابعها: إن الله سبحانه وتعالى عبر عن حق الانتفاع بالسكنى سنة بعد الوفاة بأنه وصية، وبأنه متاع؛ أما التعبير بأنه وصية، فلأنه حق يثبت بعد وفاة الزوج في ماله لا على أنه ميراث، بل على أنه وصية أوجبها الله سبحانه وتعالى بموجب الفرقة بالوفاة؛ فهو يثبت من غير أن يكون له أثر في قدر ميراثها في تركة زوجها؛ وأما التعبير عنه بمتاع، فلأنه في مقابل ما للمطلقات من متاع في الآية الكريمة الآتية ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾

5. ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ بقاء المتوفى عنها زوجها سنة في مسكن الزوجية من غير نظر إلى مقدار ميراثها ومن غير تأثير في مقداره أيا كان ذلك المقدار هو حق للزوجة، وليس بواجب عليها؛ وكان حقا لها من قبيل أنه متصل بحقوق الميت في تركته، فكأن حق الزوجة من المقام في بيت الزوجية من المقام سنة بعد الوفاة هو من قبل حقوق المتوفى في ماله كالديون.

6. لما كان ذلك حقا لها، وهو واجب على الورثة أن يوفروه، فليس واجبا عليها، فلها أن تبقى ولها أن تخرج؛ ولذا قال تعالى: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ أي فإن خرجن مختارات راضيات راغبات غير مخرجات، فلا إثم عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف، أي فيما فعلن من أمور تتعلق بأنفسهن؛ أي أن البقاء في مسكن الزوجية وعدم البقاء أمر يتعلق بأنفسهن وهن أدرى بمصلحة أنفسهن، في ذلك؛ فإن وجدت مصلحتها وراحتها واطمئنانها وقرارها في أن تنتفع بحق البقاء سنة كاملة بعد وفاة زوجها فإنها تبقى، ويجب أن تمكن من ذلك، ولا يخرجها أحد؛ وإن رأت أن مصلحتها في أن تأوي إلى بيت ذويها، أو عرض لها أن تتزوج بعد انتهاء عدتها وهى أربعة أشهر وعشرة أيام، فإن لها ذلك.

7. قيد نفى الإثم عن الجماعة فيما يفعلن في أنفسهن بكلمة ﴿مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: 240]؛ وهو الأمر الذي تقره الشرائع، وتعرفه العقول ولا يستنكر من أحد؛ قيد نفى الإثم بذلك؛ للإشارة إلى أن الجماعة الإسلامية مسئولة عما يقع من آحادها مخالفا للمعروف في الشرع والعقل، فمن يأثم فعلى الجماعة أن تعمل على إصلاحه، ولا ينتفى عنها الإثم حتى تقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وفسر بعض العلماء المعروف بأنه الزواج بعد انتهاء العدة، وهى أربعة أشهر وعشرة أيام؛ والحق أن المعروف أعم من ذلك.

8. ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ذيل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بهذا للإشارة إلى ثلاثة أمور:

أ. أولها: أن هذه الأمور التي شرعها الله في الأسرة إنما هي بحكمته، وفيها صلاح المجتمع، وإذا كان يسوغ أن تجبر المرأة على الخروج من منزل الزوجية بمجرد وفاة الزوج، فإن ذلك قد يؤدى إلى فساد كبير، وتهزيع للأخلاق؛ ولقد أعطاها الله سبحانه وتعالى ذلك الحق درءا لهذا الفساد ومنعا له.

ب. ثانيها: إن الله سبحانه وتعالى غالب على كل شيء، وله سبحانه وتعالى العزة في السموات وفى الأرض، وأن الورثة إن استضعفوا شأن المرأة فمنعوها حقها فالله فوقهم قاهر غالب، وهو مجازيهم بعملهم، وهو ناصر الضعيف.

ج. ثالثها: إشعار النفوس بتذكر الله رب العالمين عندما ينظمون علاقاتهم بعضهم مع بعض، وخصوصا في شئون الأسرة.

9. تبين مما سبق أن موضوع هذه الآية الكريمة لا صلة لها بمدة العدة بالنسبة للمتوفى عنها زوجها؛ لأن هذه الآية الكريمة بألفاظها ومعانيها لا تلزم المرأة بالتربص والامتناع عن الأزواج مدة معينة كقوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، وكقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ إنما تدل هذه الآية على ما للمتوفى عنها زوجها من حق البقاء في بيت الزوجية سنة بعد موت زوجها، وأن لها أن تبقى فيه، وأن تخرج منه على ما تراه مصلحتها ويكون فيه اطمئنانها وقرارها.

10. على ذلك لا تكون ثمة معارضة بأي نوع من أنواع المعارضة بين هذه الآية وقوله تعالى في عدة المتوفى عنها زوجها: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ لأن هذه في بيان العدة، أما الآية التي نتكلم في معناها ففي بيان حق المرأة، لا بيان الواجب عليها.

11. لكن فرض الكثيرون من المفسرين تعارضا بين الآيتين، واعتبروا الآية الأولى ناسخة للآية الثانية، وادعوا أن جمهور السلف على ذلك الرأي واعتمدوا في ذلك على روايات رويت عن عثمان بن عفان، وعبد الله بن عباس وغيرهما، وقد خالف ذلك شيخ المفسرين ابن جرير الطبري فروى عن مجاهد أن هذه الآية ـ وهى التي نتكلم في معناها ـ آية محكمة لا نسخ فيها؛ فقد قال مجاهد: العدة تثبت أربعة أشهر وعشرا، ثم جعل الله لهن وصية سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة؛ فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قوله تعالى: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 240]، ولقد روى البخاري مثل ذلك عن مجاهد أيضا؛ فقد أخرج البخاري عن ابن أبى نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ [البقرة: 240]، قال: (كانت هذه العدة تعتدها عند أهل زوجها واجبا، فأنزل الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: 240] قال جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت.

12. بهذا التخريج وذلك السند الصحيح يثبت أن لا تعارض قط بين الآيتين، وشرط النسخ التعارض ولم يوجد فلا نسخ، ولكن الجمهور من الفقهاء يعتمدون في النسخ على قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إنما هي أربعة أشهر وعشرا وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمى البعرة عند رأس الحول)، ففي هذا الحديث تصريح بأن أربعة أشهر وعشر ليال نسخت وجوب البقاء حولا، وهذا كلام حق، وهو لا يخالف الآية التي نتكلم فيها؛ لأن الجاهلية كانت تجعل العدة سنة فجعلها الإسلام أربعة أشهر وعشرا، وهذه الآية لا توجب عدة الجاهلية، فهي لا تلزم المرأة بالامتناع عن الأزواج سنة كاملة، ولكنها تعطيها حق البقاء سنة كاملة، فهي تبين ما لها من حق، ولا تذكر ما عليها من واجب اكتفاء بما ذكر في آيات العدة التي تعتدها.

13. وعلى هذا نقرر أن حكم هذه الآية باق لم ينسخ، وثابت مقرر بنص القرآن الكريم؛ وقد قال بذلك ابن تيمية، وقد وجه الحكم بعدم النسخ من قبله فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير، فقد جاء فيه ما نصه بعد بيان قول من حكم بالنسخ(2).

14. هذا كلام الفخر الرازي في تفسيره الكبير، وهو يدل على أمرين:

أ. أحدهما: أن رأى أبى مسلم أن الوصية من الأزواج وليست من الشارع، وهذا الرأي لا جديد فيه إلا جواز مثل هذا النوع من الوصايا؛ وأما قول مجاهد فالوصية من الله، وهى ملزمة للورثة، وليست ملزمة للزوجة، وهو الذي نختاره، ويتفق مع السياق.

ب. الثاني: أن فخر الدين الرازي يميل ميلا واضحا إلى منع النسخ، ولذلك نراه يبتدى موجها الأقوال موضحا التوجيه ثم ينته بعبارات واضحة كل الوضوح في أن التزام النسخ التزام له من غير دليل؛ وذلك حق لا ريب فيه.

15. ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 241] بيّنت الآية السابقة حق المتوفى عنها زوجها من متاع أي انتفاع بالسكن بعد وفاته على ألا تخرج من بيت الزوجية، وفى هذه الآية يبين سبحانه وتعالى حق المطلقات.

16. المتاع في أصل معناه ما ينتفع به، وهو المعنى في قوله تعالى: ﴿وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ [البقرة: 240] وقد بيّنا ذلك فيما سبق من قول؛ وقد ذكرنا أيضا من قبل أن المتاع انتفاع ممتد الوقت، وهو على هذا التوجيه قد يراد منه النفقة أمدا طال أو قصر؛ لأن النفقة ـ وهى الإدرار على الحى بما به حياته وبقاؤه انتفاع ممتد في الزمان، وقد يراد المتعة أي إعطاء شيء من نحو الثياب ينتفع به أمدا ممتدا.

17. المتاع في هذه الآية ما المراد به؟ أهو المتعة التي ذكرناها في قوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 236] [البقرة]؟ أم المراد الانتفاع بالنفقة في أثناء العدة؟ ذكر الفخر الرازي أن معنى كلمة متاع للمفسرين فيها قولان هنا:

أ. أحدهما: إن المراد بالمتاع هو المتعة، وهو ما يعطيه المطلق للمطلقة لها من نصف المهر، أو كسوة أو نحو ذلك من كل عطاء غير ممنوع لمطلقته ليكون التسريح بإحسان.

ب. الثاني: المراد به النفقة التي تكون للمطلقة في العدة.

18. القول الأول قد خاض تحت ظله الفقهاء كل يريد أن يخرج الآية على مقتضى مذهبه، ومنهم من أطلق نصها وجعله على عمومه:

أ. فأبو ثور والشافعي في أحد قوليه قد أخذا بعموم الآية الكريمة، وقررا أن لكل مطلقة متعة واجبة، فإنها قد وثّق الوجوب فيها بقوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 241] ولا يوجد تعبير يوثق الوجوب كقوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 241]؛ لأن الوجوب فيه قد تأكد بأنه من موجبات التقوى التي يتقى بها العذاب، وبالتعبير بعلى التي تفيد الإلزام، وبكلمة ﴿حَقًّا﴾ [لقمان: 9] وهى مصدر حذف فعله، وهو يدل على تقرير الأمر وتثبيته، ولقد اتبع هذان الإمامان في ذلك القول الزهري وسعيد بن جبير وغيرهما.

ب. وقال مالك قريبا من ذلك، وهو أن المتعة تكون واجبة لكل مطلقة إلا المطلقة المسمى لها مهر قبل الدخول بها؛ فقد جاء في المدونة في إرخاء الستور: جعل الله المتعة لكل مطلقة بهذه الآية ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم يدخل بها، فأخرجها من المتعة.

ج. وفى قول آخر للشافعي: إن هذه الآية خاصة بغير المدخول بها التي لم يسم لها مهرا، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه في المتعة الواجبة؛ وقد قال الطبري في ذلك إن الآية الأولى، وهى: ومَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة]: فهم بعض الناس منها أن المتعة لمن لم يسم لها مهرا ولم يدخل بها، من الإحسان غير الواجب وليست بواجبة، فجاءت هذه الآية صريحة في الوجوب، وعلى ذلك الرأي تكون هذه الآية عامة في لفظها أريد بها الخصوص في معناها.

19. هذه هي التخريجات الفقهية على تفسير المتاع بأنه المتعة، وقد رأيت اضطراب أقوال الفقهاء بشأنها واختلافهم في معناها؛ وقد ادعى بعضهم أن هذه الآية منسوخة بالآية السابقة: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 236] [البقرة]، أما القول الثاني وهو تفسير المتاع بالنفقة فالذين قالوه أقل عددا، ولكنه أكثر اتساقا، وأبعد عن كل معانى التأويل، وقد قال فيه الفخر الرازي والقول الثاني بالمتاع النفقة، والنفقة قد تسمى متاعا، وإذا حملنا هذا المتاع على النفقة اندفع التكرار فكان ذلك أولى، ونحن نوافق الرازي على أن ذلك التفسير أولى؛ لأنه أولا يندفع به التكرار، وتندفع به ثانيا دعوى التخصيص ودعوى النسخ، ويندفع به الاضطراب الكثير في تحرير معنى الآية الكريمة السامية؛ وأخيرا هو الذي يتسق مع ما كان للمتوفى عنها زوجها من متاع هو السكنى، وهى إحدى شعب النفقة، فوجبت حقا في مال المتوفى، ولم يجب الباقي لعدم وجود من يجب عليه، أما المطلقة فتجب لها النفقة كاملة بشعبها الثلاث السكنى والطعام والكسوة، والله سبحانه هو العليم بمراده، تعالى كلام الله علوّا كبيرا.

20. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ بهذه الجملة الكريمة السامية ختم الله سبحانه وتعالى الآيات المتعلقة بأحكام الأسرة، وقد ابتدأ بيانها بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾، وإن ذلك الختام الكريم فيه تصوير لبيان الله سبحانه وتعالى لأحكام الأسرة وشدة عنايته بأمرها، وتوضيح الأسس الصالحة التي تقوم عليها، والعدالة والمودة والرحمة التي تربط بين آحادها، وكيف فصل سبحانه القول فيها تفصيلا لم يفصله في غيرها من شئون الدين، فلم يبين الصلاة والزكاة والحج كما بين الله سبحانه في كتابه الكريم أحكام الأسرة والروابط التي تربط بين آحادها؛ لأن الأسرة قوام المجتمع الإسلامي الفاضل، فإذا تزلزلت اضطراب ميزان الاجتماع، وتهدمت أركانه.

21. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ أي مثل هذا البيان القوى الواضح العالي الذي يوجه النفوس نحو المودة الرابطة، والرحمة العاطفة، والعدالة المنصفة، يبين الله سبحانه وتعالى آياته المتلوة، وآياته النفسية، وآياته الكونية؛ أي أن الله سبحانه وتعالى يبين دائما آياته المذكورة مثل البيان الذي يبين به أحكام الأسرة؛ فهذا التشبيه لتصوير بيان الله دائما لآياته بهذه الصورة التي يقرؤها القارئ لكتاب الله في آيات النكاح، والطلاق، وما يعقبه من التسريح بإحسان أو التسريح الجميل كما عبر القرآن الكريم.

22. ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ وفى هذه العبارة السامية إشارة إلى الغاية من بيان الله سبحانه وتعالى لحقائق الشرع وتوجيه النظر إلى النفس وإلى الكون، وتلك الغاية هي أن يعقل الناس أي يفكروا بعقولهم، ويبعدوا عنها أرجاس الجاهلية، ويحرروها من ربقة التقاليد القديمة التي كانوا يعبرون عنها بقولهم‏ ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ والتعبير بصيغة الرجاء، وهى‏ ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ هو في معنى التعليل أي لتعقلوا؛ لأن الرجاء من الله سبحانه وتعالى لا يكون على معناه الأصلي أو يقال إن ذلك البيان من شأنه أن يرجى أن يعقلوا ويتفكروا، فالتعبير بلفظ يدل على الرجاء للإشارة إلى هذا المعنى المحكم، هذا وإن أحكام الأسرة كما جاءت في الآيات الكريمة باعثة على التأمل وإحكام النظر، والإيمان بأن هذه الشريعة من عند اللطيف الخبير، والله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/847.

(2) ذكر هنا كلام الفخر الرازي في المسألة والذي سبق ذكره.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كانت العادة عند العرب قبل الإسلام ان الرجل إذا مات لم يكن لامرأته من ميراثه شيء إلا النفقة حولا كاملا، على شريطة أن تعتد في بيت الميت، فان خرجت قبل الحول سقطت نفقتها، وهذه الآية اقرار وإمضاء صريح لما كان عليه العرب في حكم من مات زوجها، وقد حصل هذا الإمضاء في أول الإسلام.

2. اتفق المفسرون والفقهاء قولا واحدا على نسخ هذه الآية بآيتين:

أ. الأولى التي حددت عدة الوفاة بأربعة أشهر وعشرة أيام، وهي قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾

ب. و الثانية التي جعلت للزوجة نصيبا من تركة زوجها، وهي قوله سبحانه: ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ﴾، وعليه، فان المرأة تنفق على نفسها من نصيبها.

3. مع العلم بأن هذه الآية منسوخة قطعا نشرع بتفسيرها كما فعل المفسرون: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾، اي يشرفون على الموت، من باب تسمية الشيء باسم ما يؤول اليه، ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾، كان يجب ـ قبل النسخ ـ على الذين تظهر لهم أمارات الموت أن يوصوا لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولا كاملا بالنفقة والسكنى، ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ [البقرة: 240]، أي انما تجب لهن النفقة حولا إذا أردن الاقامة في دار الميت، أما إذا خرجن من تلقائهن فتسقط النفقة، والى هذا أشار سبحانه بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾، انكم غير مسؤولين عن نفقتهن، ما دمتم لم تخرجوهن قبل الحول.. وبكلمة تجب النفقة لهن بالإقامة الاختيارية الى الحول، فان خرجن قبله سقط الوجوب.

4. ﴿فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾، إذا خرجت المرأة من دار الميت فلها ن تترك الحداد، وتتزين، وتتعرض للخطّاب ضمن الحدود الشرعية.. والمفهوم من هذا ان التي مات زوجها كانت مخيرة بين الاقامة في بيته حولا، وتستحق النفقة بذلك، وبين أن تخرج منه، ولا شيء لها، ولا سبيل لأحد عليها.

5. ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، المراد بالمتاع المنحة يعطيها المطلق لمطلقته، مع مراعاة حاله عسرا ويسرا، كما سبق في الآية 236، ولفظ المطلقات عام يشمل كل مطلقة، وهي على أربعة أقسام:

أ. مطلقة مدخول بها، وقد فرض لها مهر معين في متن العقد، وهذه لها كل المهر المفروض، قال تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾

ب. مطلقة غير مدخول بها، وقد فرض لها مهر معين، ولها نصف المهر المفروض، قال سبحانه: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾

ج. مطلقة مدخول بها، ولم يفرض لها مهر، ولها مهر المثل بإجماع المسلمين كافة.

د. مطلقة غير مدخول بها، ولم يفرض لها شيء في متن العقد، وهذه لا مهر لها، وإنما لها المتعة، قال جل جلاله: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ﴾

6. نستخلص من مجموع الأدلة ان المتعة تجب للمطلقة غير المدخول بها، ولم يفرض لها مهر فحسب، أما غيرها فلا تجب لها المتعة، بل يترك الأمر للمطلق، ان شاء منحها، وان شاء منعها، وقيل: يستحب أن يمنحها.

7. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، أي تعملون، لأن من لا يتعظ ويعمل بآيات الله وأحكامه بمنزلة من لا عقل له.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/371.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾، وصية مفعول مطلق لمقدر، والتقدير ليوصوا وصية ينتفع به أزواجهم ويتمتعن متاعا إلى الحول بعد التوفي.

2. تعريف الحول باللام لا يخلو عن دلالة على كون الآية نازلة قبل تشريع عدة الوفاة، أعني الأربعة أشهر وعشرة أيام فإن عرب الجاهلية كانت نساؤهم يقعدن بعد موت أزواجهن حولا كاملا، فالآية توصي بأن يوصي الأزواج لهن بمال يتمتعن به إلى تمام الحول من غير إخراجهن من بيوتهن، غير أن هذا لما كان حقا لهن والحق يجوز تركه كان لهن أن يطالبن به، وأن يتركنه فإن خرجن فلا جناح للورثة ومن يجري مجراهم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف، وهذا نظير ما أوصى الله به من حضره الموت أن يوصي للوالدين والأقربين بالمعروف، قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، ومما ذكرنا يظهر أن الآية منسوخة بآية عدة الوفاة وآية الميراث بالربع والثمن.

3. ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، الآية في حق مطلق المطلقات، وتعليق ثبوت الحكم بوصف التقوى مشعر بالاستحباب.

4. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، الأصل في معنى‏ العقل‏ العقد والإمساك وبه سمي إدراك الإنسان إدراكا يعقد عليه عقلا، وما أدركه عقلا، والقوة التي يزعم أنها إحدى القوى التي يتصرف بها الإنسان يميز بها بين الخير والشر والحق والباطل عقلا، ويقابله الجنون والسفه والحمق والجهل باعتبارات مختلفة.

5. الألفاظ المستعملة في القرآن الكريم في أنواع الإدراك كثيرة ربما بلغت العشرين، كالظن، والحسبان، والشعور، والذكر، والعرفان، والفهم، والفقه، والدراية، واليقين، والفكر، والرأي، والزعم، والحفظ، والحكمة، والخبرة، والشهادة، والعقل، ويلحق بها مثل القول، والفتوى، والبصيرة ونحو ذلك:

أ. والظن‏ هو التصديق الراجح وإن لم يبلغ حد الجزم والقطع، وكذا الحسبان‏.

ب. غير أن الحسبان كان استعماله في الإدراك الظني استعمال استعاري، كالعد بمعنى الظن وأصله من نحو قولنا: عد زيدا من الأبطال وحسبه منهم أي ألحقه بهم في العد والحساب.

ج. والشعور هو الإدراك الدقيق مأخوذ من الشعر لدقته، ويغلب استعماله في المحسوس دون المعقول، ومنه إطلاق المشاعر للحواس.

د. والذكر هو استحضار الصورة المخزونة في الذهن بعد غيبته عن الإدراك أو حفظه من أن يغيب عن الإدراك.

هـ. والعرفان والمعرفة تطبيق الصورة الحاصلة في المدركة على ما هو مخزون في الذهن ولذا قيل: إنه إدراك بعد علم سابق.

و. والفهم‏: نوع انفعال للذهن عن الخارج عنه بانتقاش الصورة فيه.

ز. والفقه‏: هو التثبت في هذه الصورة المنتقشة فيه والاستقرار في التصديق.

ح. والدراية: هو التوغل في ذلك التثبت والاستقرار حتى يدرك خصوصية المعلوم وخباياه ومزاياه، ولذا يستعمل في مقام تفخيم الأمر وتعظيمه، قال تعالى: ﴿الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ﴾ الحاقة ـ 2 وقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾

ط. واليقين‏: هو اشتداد الإدراك الذهني بحيث لا يقبل الزوال والوهن.

ي. والفكر نحو سير ومرور على المعلومات الموجودة الحاضرة لتحصيل ما يلازمها من المجهولات.

ك. والرأي‏: هو التصديق الحاصل من الفكر والتروي، غير أنه يغلب استعماله في العلوم العملية مما ينبغي فعله وما لا ينبغي دون العلوم النظرية الراجعة إلى الأمور التكوينية، ويقرب منه البصيرة، والإفتاء، والقول، غير أن استعمال القول كأنه استعمال استعاري من قبيل وضع اللازم موضع الملزوم لأن القول في شيء يستلزم الاعتقاد بما يدل عليه.

ل. والزعم: هو التصديق من حيث إنه صورة في الذهن سواء كان تصديقا راجحا أو جازما قاطعا.

م. والعلم‏ كما مر: هو الإدراك المانع من النقيض.

ن. والحفظ ـ: ضبط الصورة المعلومة بحيث لا يتطرق إليه التغيير والزوال.

س. والحكمة: هي الصورة العلمية من حيث إحكامها وإتقانها.

ع. والخبرة: هو ظهور الصورة العلمية بحيث لا يخفى على العالم ترتب أي نتيجة على مقدماتها.

ف. والشهادة: هو نيل نفس الشيء وعينه إما بحس ظاهر كما في المحسوسات أو باطن كما في الوجدانيات نحو العلم والإرادة والحب والبغض وما يضاهي ذلك.

6. الألفاظ السابقة على ما عرفت من معانيها لا تخلو عن ملابسة المادة والحركة والتغير، ولذلك لا تستعمل في مورده تعالى غير الخمسة الأخيرة منها أعني العلم والحفظ والحكمة والخبرة والشهادة، فلا يقال فيه تعالى: إنه يظن أو يحسب أو يزعم أو يفهم أو يفقه أو غير ذلك، وأما الألفاظ الخمسة الأخيرة فلعدم استلزامها للنقص والفقدان تستعمل في مورده تعالى، قال سبحانه‏ ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، وقال: ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾، وقال: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، وقال: ﴿هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾، وقال: ﴿أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾

7. لفظ العقل‏ على ما عرفت يطلق على الإدراك من حيث إن فيه عقد القلب بالتصديق، على ما جبل الله سبحانه الإنسان عليه من إدراك الحق والباطل في النظريات، والخير والشر والمنافع والمضار في العمليات حيث خلقه الله سبحانه خلقة يدرك نفسه في أول وجوده، ثم جهزه بحواس ظاهرة يدرك بها ظواهر الأشياء، وبأخرى باطنه يدرك معاني روحية بها ترتبط نفسه مع الأشياء الخارجة عنها كالإرادة، والحب والبغض، والرجاء، والخوف، ونحو ذلك، ثم يتصرف فيها بالترتيب والتفصيل والتخصيص والتعميم، فيقضي فيها في النظريات والأمور الخارجة عن مرحلة العمل قضاء نظريا، وفي العمليات والأمور المربوطة بالعمل قضاء عمليا، كل ذلك جريا على المجرى الذي تشخصه له فطرته الأصلية، وهذا هو العقل.

8. لكن ربما تسلط بعض القوى على الإنسان بغلبته على سائر القوى كالشهوة والغضب فأبطل حكم الباقي أو ضعفه، فخرج الإنسان بها عن صراط الاعتدال إلى أودية الإفراط والتفريط، فلم يعمل هذا العامل العقلي فيه على سلامته، كالقاضي الذي يقضي بمدارك أو شهادات كاذبة منحرفة محرفة، فإنه يحيد في قضائه عن الحق وإن قضى غير قاصد للباطل، فهو قاض وليس بقاض، كذلك الإنسان يقضي في مواطن المعلومات الباطلة بما يقضي، وأنه وإن سمى عمله ذلك عقلا بنحو من المسامحة، لكنه ليس بعقل حقيقة لخروج الإنسان عند ذلك عن سلامة الفطرة وسنن الصواب.

9. على هذا جرى كلامه تعالى، فإنه يعرف العقل بما ينتفع به الإنسان في دينه ويركب به هداه إلى حقائق المعارف وصالح العمل، وإذا لم يجر على هذا المجرى فلا يسمى عقلا، وإن عمل في الخير والشر الدنيوي فقط، قال تعالى‏ ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾، وقال: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾، فالآيات كما ترى تستعمل العقل في العلم الذي يستقل الإنسان بالقيام عليه بنفسه، والسمع في الإدراك الذي يستعين فيه بغيره مع سلامة الفطرة في جميع ذلك، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾، وقد مر أن الآية بمنزلة عكس النقيض‏ لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: العقل ما عبد به الرحمن‏.. الحديث.

10. تبين من جميع ما ذكرنا: أن المراد بالعقل في كلامه تعالى هو الإدراك الذي يتم للإنسان مع سلامة فطرته، وبه يظهر معنى قوله سبحانه: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، فبالبيان يتم العلم، والعلم مقدمة للعقل ووسيلة إليه كما قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾

11. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بحقوق المرأة في الإسلام مقارنة بغيره من الشرائع والأديان، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/248.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ أي شأنهم وواجبهم وصية عند الموت لأزواجهم ﴿مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾ وهو النفقة والسكنى إلى تمام حولٍ من موته ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ فلا تخرج الزوجة في الحول ولو كان في الخروج متاع لها ما لم تخرج وهي مختارة للخروج.

2. ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ من منافعهن بِالْمَعْرُوفِ غير المستنكر؛ أما المستنكر كالتعرض للأزواج في الحول، والوقوف مواقف التهم، وترك الإحداد حين يعاب تركه فلا يجوز.

3. ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فلا يهمل ولا يرضى الباطل؛ لأنه غالب لا ينال وحكيم ليس في أمره مخالفة للحكمة فلا بد من جزاء من ترك ما أمر به أو فعل ما نهي عنه بما يستحق.

4. ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ والمتاع نفقة العدة للمعتدة، وأما من لا عدة لها فلها المتعة كما مرَّ، وفي الآية دلالة على أن ترك ما فيها مخالف للتقوى ومخرج منها.

5. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ فبين تعالى آياته في القرآن الكريم كما بين هذه الآيات للناس ليعقلوا معناها ويحفظوه ليتبعوا آياته، وفي هذا دلالة على أن القرآن غير غامضِ الدلالة على ما كلفنا الله به من أحكامه، وذلك يبطل قول الباطنية ومن يخص به الشيخ أو الإمام.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/360.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كانت النساء في الجاهلية يقعدن حولا كاملا بعد وفاة أزواجهن، وربما كان هذا هو السر في تعريف الحول، باعتبار أنه من الأمور المعروفة لديهم، فجاءت هذه الآية لتوصي الأزواج بأن يتركوا لهن ـ على سبيل الوصية ـ ما يقوم بشؤونهن من النفقة والسكنى والكسوة وغير ذلك.. من أجل إعانتهن على الاستمرار في العدة من دون جهد ومشقة، فإذا خرجهن بإرادتهن طوعا، فلا حق لهن بعد ذلك‏ ﴿فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ لأن ذلك بمثابة إسقاط لحق.

2. ذكر في مجمع البيان أن العلماء اتفقوا على أن الآية منسوخة بآية الربع والثمن، وبآية تحديد العدة بأربعة أشهر وعشرا، وروي عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السّلام:‏ (كان الرجل إذا مات، أنفق على امرأته من صلب المال حولا، ثم أخرجت بلا ميراث، ثم نسختها آية الربع والثمن، فالمرأة ينفق عليها من نصيبها)

3. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ أي الذين يكونون على مشارف الموت‏، بقرينة توجيه الخطاب إليهم بالتكليف بالوصية ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ من بعدهم، فعليهم أن لا يهملوهن بتركهن بدون مال يستعنّ به على إدارة أمورهن وقضاء حاجاتهن، بل لا بد لهم من التفكير بهن من بعدهم بتخصيص مقدار من المال، ﴿وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾ مما ينتفعن به من النفقة والكسوة والسكنى، حتى يتدبرن أمرهن ريثما يتخففن من ثقل الواقع الاجتماعي الذي يفرضه المجتمع عليهن من الإقامة سنة، بدون زواج، أو في دائرة احترام ذكرى الزوج.

4. ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ فلهن الحق بالبقاء في بيوت أزواجهن، ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ واخترن الحرية في المسكن وغيره، ليمارسن حياتهن بعيدا عن أجواء أهل الميت، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ والظاهر أن الخطاب لأهل الميت، أو هو كناية عن أنه لا حق للميت في بقائها في البيت من بعده، فليس لأحد حق التدخل في قرارهن ولذلك فلا مسئولية على أي إنسان، بقدر ما يتعلق الأمر به، في خروجهن وتصرفهن في أنفسهن ما دمن يتحركن في دائرة المعروف ولا يبتعدن عن خط الشرع.

5. اختلف المفسرون في متعلق رفع الجناح:

أ. فقال بعضهم إنه قطع النفقة والسكنى، وهذا ما ذهب إليه الحسن والذي قال ـ على ما نقله صاحب المجمع ـ وهذا دليل على سقوط النفقة بالخروج، وأن ذلك كان واجبا لهن بالإقامة إلى الحول، فإن خرجن قبله، بطل الحق الذي وجب لهن بالإقامة.

ب. وقال بعضهم: لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج، لأن مقامها سنة في البيت غير واجب، ولكن قد خيّرها الله في ذلك، عن الجبائي.

ج. وقيل: لا جناح عليكم إن تزوجن بعد انقضاء العدة، وهذا ما اختاره الطبرسي، فقال: وهذا أوجه وتقديره إذا خرجن من العدة بانقضاء السنة، فلا جناح إن تزوجن.

6. ﴿مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ يعني طلب النكاح والتزين‏.

7. ذهب بعض المفسرين المتأخرين إلى أن الآية متعرضة لدفع نفقات المعيشة لمدة سنة، باعتبار أنه من حقوق المرأة على ورثة زوجها، فإذا رفضته مختارة، ولم تبق في بيت زوجها المتوفى، فلم تعد هناك مسئولية على أحد، ولها أن تتزوج، ويتابع هذا المفسر فيقول: إن هذا المعنى لا يستوجب نسخا، لأن هذه الآية تقول بأن مدة العدة سنة كاملة بشرط الاستفادة من النفقة والمسكن في تلك المدة، كما أعطيت المرأة الحق إن شاءت أن تبقى في بيت الزوج، وأن تأخذ النفقة حسب وصية الزوج مدة سنة وفاته، أما إذا لم ترغب في ذلك، فلها بعد أربعة أشهر وعشرة أيام أن تخرج من بيت زوجها وتتزوج من جديد، وبخروجها من بيت زوجها المتوفى، تنقطع عنها النفقة، إن فترة الأربعة أشهر وعشرة أيام عدّة إلزامية لا تتأثر برغبة المرأة، ولكن إدامتها حتى نهاية السنة حق من حقوق المرأة، ولها أن تستفيد منه بالبقاء في بيت الزواج والحصول على نفقة أو أن تترك بيت زوجها وتتزوج ثانية.

8. نلاحظ على هذا الرأي أن هذه الآية اقتصرت في حديثها على وصية الزوج لزوجته بالنفقة والسكنى بعد موته لمدة سنة حقا على أولياء الميت وورثته، من خلال ما تركه من مال ومسكن، من دون أن تتحدث عن أي حق لهم في بقائها وخروجها من المنزل، فالأساس في القضية هو أن لا يخرجوها، ولذلك كانت مسألة خروجها أمرا متعلقا بها في أي وقت شاءت، فلها أن تختار الخروج بعد موته مباشرة أو قبل انتهاء الحول بمدة قليلة أو كثيرة، ولذلك تحدثت عن نفي مسئوليتهم عنها في أي شأن من شؤونها، فهم لا يملكون أي وضع خاص أو عام للسيطرة عليها، فمن أين جاءت مسألة اشتراط تحديد العدة بالسنة باختيارها البقاء في البيت، واعتبار الأربعة أشهر وعشرة أيام مشروطة بعدم رغبتها بالبقاء؟ ثم الحديث عن اشتراط خروجها من البيت بمضيّ الأربعة أشهر وعشرة أيام، فإن بقاء المرأة في بيت زوجها في العدة رخصة لا عزيمة، ثم إن الحديث عن عدتين في التشريع مختلفتين في الشرط ـ وجودا وعدما ـ أمر غريب عن الجو الشرعي الفقهي والتفسيري، فلم يعهد من أحد من الفقهاء أو المفسرين أنه التزم بدوران عدة المتوفى عنها زوجها بين مدتين، تبعا لاختيار الزوجة وبقاء هذا الحكم حتى الآن، لأن هذا المفسّر يرى أن هذا المعنى يخرج الآية عن فرضية النسخ، وقد جاءت الرواية عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام عن ابن أبي عمر، عن معاوية بن عمار قال‏ سألته عن قول الله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾؟ قال منسوخة، نسختها آية: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ ونسختها آية الميراث‏.

9. ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ هل يجب إمتاع المطلقات في جميع الحالات، بما في ذلك حالة فرض المهر لهن في العقد، أو يختص ذلك بصورة عدم فرض المهر مع عدم الدخول، بقرينة الآية السابقة التي اشترط فيها ذلك، أو يستحب ذلك في الجميع بقرينة ربط ذلك بالتقوى؟.. وربما قال البعض: إنها منسوخة، ولكن قد يبدو لنا أن المراد بالمتاع هو الحق الثابت لها في ما تستحقه من مهر أو نفقة أو إمتاع، وليس المراد شيئا خاصا في مقابل المهر والنفقة، ولا دلالة للتقوى على الاستحباب بل هي أعم، إلا أن هذا الاحتمال يتنافى مع‏ الأحاديث الواردة عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام‏ في قوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قال: متاعها بعد ما تنقضي عدتها، ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ فأما في عدتها فكيف‏ يمتعها وهي ترجوه وهو يرجوها، ويجري الله بينهما ما شاء.

10. في ضوء ذلك، يكون المتاع المشار إليه في هذه الآية بمثابة هدية الفراق التي يقدمها الزوج للمرأة المطلقة، للتدليل على أن انفصالهما لا يمثل عقدة في ذاته تجاهها، ولا عداوة لها، بل هو أمر فرضته التعقيدات التي أحاطت بها، وربما كان هذا النهج الإسلامي حركة في إبقاء الذكريات المتبادلة ـ بعد الفراق ـ حية بطريقة حميمة بالرغم من سلبياته، وقد اعتبرته الآية: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ الذين عاشوا التقوى في ذواتهم رؤية تنفتح على الله، فتنفتح على الناس بالخير كله، مما يلزمهم أو لا يلزمهم من أفعاله وأوضاعه، لأن من أحب الله أحب الناس، فأحب تقديم كل ما ينفعهم في أمورهم العامة والخاصة، وبذلك المحبة لهم في عمق مشاعرهم العاطفية.

11. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وتختم الآية الفصل بالإشارة إلى أن بيان الله لآياته في تشريعاته يستهدف ربط الحياة بالخطة المعتمدة على التأمل والعقل، الذي هو هدف الرسالات جميعا في ما تدعو إليه من مفاهيم وحلول.

12. ربما نستوحي من ذلك، أن الله يريد للعقل أن يتحرك في عملية استلهام لآيات الله في الكون وفي نظام الإنسان وحركة الحياة، ليتفهم ـ من خلال ذلك ـ القوانين والسنن الكونية والاجتماعية والحياتية التي أودعها الله في هذا النظام الكوني والإنساني، كما يتفهم ـ من خلاله ـ آيات الله التي تنظم‏ للإنسان حياته القانونية في تشريعاته التي أوحى بها إلى رسله، فوضع له القواعد التي يستطيع من خلالها أن يحقق التوازن في شؤون حياته الفردية والاجتماعية، فليس العقل حركة في التجريد الذهني الذي يتأمل في أجواء المطلق، بل هو حركة في كل ما يتصل بالحياة الزوجية والعملية للإنسان، لأن لكل شيء عقله الذي يوازن الأمور على أساس الحسابات الدقيقة في فهم الظاهرة والحركة والقانون.

13. قد نستوحي منها الدعوة إلى مواجهة التشريعات الإلهية بالفكر الذي ينطلق نحوها ليبحث في خلفياتها ومعطياتها وحدودها، ولا يكتفي بالتعبد الجامد الذي يتقبل الأشياء من دون أن يحاول إدراك خصائصها في حياة الإنسان، لأن المكلف الذي يتحرك في امتثال التكليف، يتحرك من موقع الوعي لمضمونها الروحي والعملي في المصالح والمفاسد النوعية.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/366.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي الآية(1):

1. تعود هذه الآيات لتذكر بعض مسائل الزواج والطّلاق والأمور المتعلّقة بها، وفي البداية تتحدّث عن الأزواج الّذين يتوسّدون فراش الاحتضار ولهم زوجات فتقول: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾، أي أنّ الأشخاص من المسلمين إذا حانت ساعة وفاتهم وبقيت زوجاتهم على قيد الحياة فينبغي أن يوصوا بأزواجهم في النفقة والسكن في ذلك البيت لمدّة سنة كاملة، وهذا طبعا في صورة ما إذا بقيت الزوجة في بيت زوجها ولم تخرج خارج البيت، ولهذا تضيف الآية: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ كأن يخترن زوجا جديدا، فلا مانع من ذلك ولا إثم عليكم، ولكن يسقط حقّها في النفقة والسكنى.

2. في ختام الآية تشير إلى أنّه لا ينبغي التخوّف من عاقبة خروج النسوة، فتقول بأنّ الله قادر على فتح أبواب أخرى أمامهنّ بعد وفاة الأزواج فلو حدثت مشكلة في البيت ولحقت بها مصيبة فإنّ ذلك سيكون لحكمة حتما لأنّ الله تعالى عزيز حكيم‏ ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، فلو أغلق بابا بحكمته فسوف يفتح أخرى بلطفه، فلا محلّ للقلق والتخوّف، ويعلم من ذلك أنّ جملة ﴿يُتَوَفَّوْنَ﴾ هنا لا تعني الموت، بل تعني المشرف على الموت بقرينة ذكر الوصيّة.

3. قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ يدلّ على وجوب دفع ورثة الزّوج نفقة الزوجة لمدّة سنة كاملة، وفيما إذا لم ترض هذه المرأة بالبقاء في بيت الزوج والاستفادة من النفقة، فلا مانع من ذلك، ولا مانع كذلك من أن تختار زوجا آخر أيضا، ولكنّ بعض المفسّرين ذكر تفسيرا آخر لهذه العبارة وهو أنّها إذا صبرت في بيت زوجها مدّة سنة كاملة ثمّ خرجت من البيت فتزوّجت فلا مانع من ذلك، وطبقا للتفسير الثاني يجب على المرأة العدّة لمدّة سنة كاملة، ولكن على التفسير الأوّل لا يلزم ذلك، وبعبارة أخرى أنّ دوام العدّة لمدّة سنة كاملة على التفسير الأوّل يعتبر حقّ للمرأة، ولكنّه على التفسير الثاني حكم وإلزام، ولكنّ ظاهر الآية ينسجم أكثر مع التفسير الأوّل، لأنّ ظاهر الجملة الأخيرة هو أنّه استثناء من الحكم السابق.

4. يعتقد الكثير من المفسّرين أنّ هذه الآية قد نسخت بالآية 234 من هذه السورة التي سبق بيانها وفيها ورد أنّ عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيّام، وعلى الرغم من أنّ تلك الآية تأتي قبل هذه الآية من حيث الترتيب ولكننا نعلم أنّ الآيات في السورة لم ترتّب بحسب نزولها، بل قد نجد آيات متأخّرة في النّزول وضعت متقدّمة في الترتيب، وقد جرى ذلك للتّناسب بين الآيات ولأمر من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ويرى هؤلاء المفسّرين أيضا أنّ حقّ النفقة لمدّة سنة كاملة كان قبل نزول آيات الإرث، ولكن بعد أن قرّرت آيات الإرث للزّوجين مقدارا من الإرث زال هذا الحقّ عنها، فعلى هذا فإنّ الآية محل البحث منسوخة من جهتين (من جهة مقدار زمان العدّة ومن جهة النفقة)، وذكر المرحوم (الطبرسي) في (مجمع البيان) أنّ جميع العلماء اتّفقوا أنّ هذه الآية منسوخة، ثمّ يذكر حديثا عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّ الرجل في العصر الجاهلي إذا مات كانت زوجته تتمتّع بالنفقة لمدّة سنة كاملة ثمّ أنّها تخرج من بيت زوجها بدون ميراث، وبعد ذلك نزلت الآيات المتعلّقة بإرث الزّوجة ونسخت هذه الآية بتعيين الربع أو الثمن من الميراث لها، وعلى هذا يجب أن تحسب نفقة المرأة في مدّة العدّة من حصّتها من الإرث، وكذلك ورد عن الإمام الصادق أيضا أنّ الآية التي تقرّر العدّة أربعة أشهر وعشرة أيّام وكذلك آية الإرث قد نسختا هذه الآية.

5. على كلّ حال، يستفاد من كلمات العلماء أنّ عدّة الوفاة كانت في زمان‏ الجاهليّة سنة كاملة تمرّ خلالها الارملة بكثير من التقاليد والعادات الخرافيّة الشّاقة، فجاء الإسلام وألغى تلك العادات وأبقى مدّة العدّة سنة في بداية الأمر، ثمّ جعلها أربعة أشهر وعشرة أيّام، كما منع المرأة فقط من الزّينة خلال هذه المدّة، ويستفاد من كلام (الفخر الرازي) هو أن الآية الكريمة نسخت بآيات الإرث وعدّة أربعة أشهر وعشرة أيّام‏.

6. لكن لولا إجماع العلماء والروايات المتعدّدة في هذا المجال لأمكن القول بعدم وجود التعارض بين هذه الآيات، فإنّ الحكم بأربعة أشهر وعشرة أيّام للعدّة هو حكم إلهي، وأمّا المحافظة على العدّة لمدّة سنة كاملة والبقاء في بيت الزوج والاستفادة من النفقة فإنّه حقّ لها، أي أنّه قد اعطي الحقّ للمرأة أن تبقى في بيت زوجها المتوفّى سنة كاملة إن أرادت ذلك وتستفيد من النفقة طبقا لوصيّة زوجها في جميع هذه المدّة، وإن رفضت ذلك ولم ترغب في البقاء، فيجوز لها الخروج من البيت بعد أربعة أشهر وعشرة أيّام، ويمكنها كذلك اختيار زوج آخر، وحينئذ سوف تقطع عنها بطبيعة الحال النفقة من مال زوجها السابق، لكن مع ملاحظة الروايات المتعدّدة عن أهل البيت عليهم السّلام وشهرة حكم النسخ أو اتفاق العلماء على ذلك، فلا يمكن قبول مثل هذا التفسير رغم أنّه موافق لظواهر الآيات الشريفة.

7. في الآية الثانية يبيّن القرآن الكريم حكما آخر من أحكام الطّلاق ويقول: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ أي أنّ المتقين يجب عليهم تقديم هديّة لائقة للنساء المطلّقات، وبالرّغم من أنّ ظاهر الآية يشمل جميع النساء المطلّقات، ولكن بقرينة الآية 236 السابقة نفهم أنّ هذا الحكم يختص بمورد النسوة التي لم يقرّر لهنّ مهر بعد وقوع الطّلاق قبل الوطء، وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة تأكيد للحكم المذكور كيلا يتعرّض للإهمال، ويحتمل أيضا أنّ الحكم المذكور يشمل جميع النسّاء المطلّقات، غاية الأمر أنّ المورد أعلاه من الموارد الوجوبيّة والموارد الأخرى لها جنبة استحبابيّة.

8. على كلّ حال فإنّ هذا الحكم هو أحد الأحكام الإنسانيّة والأخلاقيّة في الإسلام والتي لها أثر إيجابي على إزالة الرسوبات المتخلّفة من عملية الطّلاق ومنع حالة العداوة والانتقام والكراهيّة الناشئة منه.

9. ذكر البعض أن دفع هدية لائقة للنساء المطلّقات أمر واجب وهو غير المهر، ولكنّ الظاهر بين علماء الشيعة كما يستفاد من عبارة المرحوم الطبرسي في مجمع البيان أنّه لا قائل بهذا القول (ويصرّح المرحوم صاحب الجواهر أيضا أنّ الهديّة المذكورة لا تجب إلّا في ذلك المورد الخاص وأنّ هذه المسألة إجماعيّة)، وقد احتمل البعض أنّ المراد من المتاع هنا النفقة وهو احتمال بعيد جدّا، وعلى كلّ حال أنّ هذه الهديّة وطبق الرّوايات الواردة من الأئمّة المعصومين تعطى إلى المرأة بعد تمام العدّة والافتراق الكامل لا في عدّة الطّلاق الرّجعي، وبعبارة أخرى أنّ هذه الهديّة ليست وسيلة للعودة، بل للوداع النهائي‏.

10. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، من البديهي أنّ المراد من التفكّر والتعقّل هو ما يتعقّبه التحرّك نحو العمل، وإلّا فإنّ التفكّر والتعقّل لوحده في الأحكام والآيات لا يثمر نتيجة، ويتبيّن من دراسة الآيات والأحاديث الإسلاميّة أن لفظة (العقل) تستعمل غالبا عند إيراد التعبير عن امتزاج الإدراك والفهم مع العواطف والأحاسيس ثمّ يستتبع ذلك العمل، فعند ما يتحدّث القرآن في مواضع كثيرة عن معرفة الله مثلا يشير إلى نماذج من نظام هذا الكون العجيب، ثمّ يقول إننا نبين هذه الآيات‏ ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وهذا لا يعني أنّ القصد هو ملء الأدمغة ببعض المعلومات عن نظام الطبيعة، إذ أنّ العلوم الطبيعية إذا لم تبعث في القلب والعواطف حركة نحو معرفة الله وحبّه والانشداد به فلا ارتباط لها بقضايا التوحيد، وهكذا المعارف العلمية لا تكون تعقّلا إلّا إذا اقترنت بالعمل.

11. صاحب تفسير الميزان‏ يؤيّد هذا الاتجاه في فهم معنى التعقّل، ويرى أنّه الذي يدفع الإنسان بعد الفهم والإدراك إلى مرحلة العمل، والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾، وقوله سبحانه‏ ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ فالتعقّل الذي يتحدّث عنه المجرمون يوم القيامة هو ذلك الذي يرافقه العمل، وهكذا التعقّل الناتج عن السير في الأرض والتفكير في خلق الله إنّما هو المعرفة التي تحمل الإنسان على تغيّر مسير حياته والاتجاه إلى الصراط المستقيم.

12. بعبارة أخرى أنّ التفكّر والتعقّل والتدبّر إذا كان متعمّقا ومتجذّرا في روح الإنسان فلا يمكن أن يكون عديم الآثار في دائرة الواقع العملي، فكيف يمكن أن يقطع الإنسان ويعتقد جازما بمسموميّة الغذاء ثمّ يتناوله!؟ أو يعتقد جزما بتأثير الدّواء الفلاني على معالجة أحد الأمراض الخطرة التي يعاني منها ثمّ لا يتناوله!

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/199.

113. الخائفون من الموت وإحياؤهم

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈113⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 243]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: سبعون ألفا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ قال كانوا ثلاثة آلاف، أو أكثر(2).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/٢٠٣.

(2) ابن جرير: ٤/٤١٨.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ عدد كثير خرجوا فرارا من الجهاد في سبيل الله(1).

2. روي أنّه قال: حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا، قال لهم الله: موتوا، فمر عليهم نبي من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه، فأحياهم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ خرجوا فرارا من الطاعون، وقالوا: نأتي أرضا ليس بها موت(2).

4. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا﴾ كانوا من أهل قرية يقال لها: داوردان(3).

5. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ كانوا أربعة آلاف(2).

6. روي أنّه قال: كانوا أربعين ألفا وثمانية آلاف(4).

7. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ عدد كثير خرجوا فرارا من الجهاد في سبيل الله، فأماتهم الله حتى ذاقوا الموت الذي فروا منه، ثم أحياهم، وأمرهم أن يجاهدوا عدوهم، فذلك قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، وهم الذين قالوا لنبيهم: ابعث ملكا نقاتل في سبيل الله(1).

8. روي أنّه قال: كانوا أربعين ألفا وثمانية آلاف، حظر عليهم حظائر، وقد أروحت أجسادهم وأنتنوا، فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح، خرجوا فرارا من الجهاد في سبيل الله، فأماتهم، ثم أحياهم فأمرهم بالجهاد، فذلك قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾(4).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤١٥.

(2) وكيع في تفسيره ـ كما في تفسير ابن كثير: ١/٦٦١ ـ.

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥٥.

(4) ابن جرير: ٤/٤١٨.

أبو مالك:

روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿مِنْ دِيَارِهِمْ﴾، يعني: منازلهم(1).

2. روي أنّه قال: كانت قرية يقال لها: داوردان، قريب من واسط، فوقع فيهم الطاعون، فأقامت طائفة، وهربت طائفة، فوقع الموت في من أقام، وسلم الذين أجلوا، فلما ارتفع الطاعون رجعوا إليهم، فقال الذين بقوا: إخواننا كانوا أحزم منا، لو صنعنا كما صنعوا سلمنا، ولئن بقينا إلى أن يقع الطاعون لنصنعن كما صنعوا، فوقع الطاعون من قابل، فخرجوا جميعا؛ الذين كانوا أجلوا، والذين كانوا أقاموا، وهم بضعة وثلاثون ألفا، فساروا حتى أتوا واديا فيحا، فنزلوا فيه، وهو بين جبلين، فبعث الله إليهم ملكين؛ ملكا بأعلى الوادي، وملكا بأسفله، فناداهم: أن موتوا، فماتوا، فمكثوا ما شاء الله، ثم مر بهم نبي يقال له: حزقيل، فرأى تلك العظام، فوقف متعجبا لكثرة ما يرى منهم، فأوحى الله إليه أن ناد: أيتها العظام، إن الله أمرك أن تجتمعي، فاجتمعت العظام من أعلى الوادي وأدناه، حتى التزق بعضها ببعض، كل عظم من جسد التزق بجسده، فصارت أجسادا من عظام، لا لحم ولا دم، ثم أوحى الله إليه أن ناد: أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي لحما، فاكتست لحما، ثم أوحى الله إليه أن ناد: أيتها الأجساد، إن الله يأمرك أن تقومي، فبعثوا أحياء، فرجعوا إلى بلادهم، فأقاموا لا يلبسون ثوبا إلا كان عليهم كفنا دسما، يعرفهم أهل ذلك الزمان أنهم قد ماتوا، ثم أقاموا حتى أتت عليهم آجالهم بعد ذلك(2).

3. روي أنّه قال: كانت قرية يقال لها: داوردان، قريب من واسط(3).

4. روي أنّه قال: كانوا بضعة وثلاثين ألفا(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥٦.

(2) ابن جرير في تاريخه: ١/٤٥٨ ـ: ٤٥٩.

(3) ابن جرير في تاريخه: ١/٤٥٨.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ﴾، فالألوف: كثرة العدد(1).

2. روي أنّه قال: فأماتهم الله، ثم أحياهم، ثم أمرهم أن يرجعوا إلى الجهاد في سبيل الله، فذلك قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥٩.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: إنهم قالوا حين أحيوا: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لا إله إلا أنت، فرجعوا إلى قومهم، وعاشوا دهرا طويلا وسحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوبا إلا عاد دسما مثل الكفن، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥٨.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: هم قوم فروا من الطاعون، فأماتهم الله قبل آجالهم عقوبة ومقتا، ثم أحياهم ليكملوا بقية آجالهم(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٢٣.

باذام:

روي عن أبي صالح باذام (ت 111 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كانوا تسعة آلاف(1).

2. روي أنّه قال: كانوا أربعة آلاف(2).

3. روي أنّه قال: أصاب ناسا من بني إسرائيل بلاء وشدة من الزمان، فشكوا ما أصابهم، وقالوا: يا ليتنا قد متنا فاسترحنا مما نحن فيه، فأوحى الله إلى حزقيل: أن قومك صاحوا من البلاء، وزعموا أنهم ودوا لو ماتوا واستراحوا، وأي راحة لهم في الموت، أيظنون أني لا أقدر على أن أبعثهم بعد الموت؟ فانطلق إلى جبانة كذا وكذا؛ فإن فيها أربعة آلاف ـ قال وهب: وهم الذين قال الله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ ـ، فقم فناد فيهم، وكانت عظامهم قد تفرقت كما فرقتها الطير والسباع، فنادى حزقيل: أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تجتمعي، فاجتمع عظام كل إنسان منهم معا، ثم قال أيتها العظام، إن الله يأمرك أن ينبت العصب والعقب، فتلازمت، واشتدت بالعصب والعقب، ثم نادى حزقيل، فقال: أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم، فاكتست اللحم، وبعد اللحم جلدا، فكانت أجسادا، ثم نادى حزقيل الثالثة، فقال: أيتها الأرواح، إن الله يأمرك أن تعودي في أجسادك، فقاموا بإذن الله، فكبروا تكبيرة رجل واحد(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥٦.

(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾: إن هؤلاء أهل مدينة من مدائن الشام، وكانوا سبعين ألف بيت، وكان الطاعون يقع فيهم في كل أوان، فكانوا إذا أحسوا به خرج من المدينة الأغنياء لقوتهم، وبقي فيها الفقراء لضعفهم، فكان الموت يكثر في الذين أقاموا، ويقل في الذين خرجوا، فيقول الذين خرجوا: لو كنا أقمنا لكثر فينا الموت، ويقول الذين أقاموا: لو كنا خرجنا لقل فينا الموت، فاجتمع رأيهم جميعا، أنه إذا وقع الطاعون فيهم وأحسوا به خرجوا كلهم من المدينة، فلما أحسوا بالطاعون خرجوا جميعا، وتنحوا عن الطاعون، حذر الموت، فساروا في البلاد ما شاء الله، ثم إنهم مروا بمدينة خربة قد جلا عنها أهلها وأفناهم الطاعون، فنزلوا بها، فلما حطوا رحالهم واطمأنوا بها،قال الله عز وجل: موتوا جميعا، فماتوا من ساعتهم، وصاروا رميما يلوح، وكانوا على طريق المارة، فكنستهم المارة، فنحوهم، وجمعوهم في موضع، فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل، يقال له: حزقيل، فلما رأى تلك العظام بكى واستعبر، وقال: يا رب، لو شئت لأحييتهم الساعة، كما أمتهم، فعمروا بلادك، وولدوا عبادك، وعبدوك مع من يعبدك من خلقك، فأوحى الله تعالى إليه أفتحب ذلك؟ قال نعم ـ يا رب، ـ فأحيهم؛ فأوحى الله عز وجل إليه، أن قل كذا وكذا، فقال الذي أمره الله عز وجل أن يقوله ـ قال الإمام الصادق أنّه قال (وهو الاسم الأعظم ـ فلما قال حزقيل ذلك الكلام، نظر إلى العظام يطير بعضها إلى بعض، فعادوا أحياء ينظر بعضهم إلى بعض، يسبحون الله عز وجل، ويكبرونه، ويهللونه، فقال حزقيل عند ذلك: أشهد أن الله على كل شيء قدير، ففيهم نزلت هذه الآية(1).

2. روي أنه قيل له: حدثنا عن قول الله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ أحياهم حتى نظر الناس إليهم، ثم أماتهم من يومهم، أو ردهم إلى الدنيا حتى سكنوا الدور، وأكلوا الطعام، ونكحوا النساء؟ قال: بل ردهم الله حتى سكنوا الدور، وأكلوا الطعام، ونكحوا النساء، ولبثوا بذلك ما شاء الله، ثم ماتوا بآجالهم(2).

__________

(1) الكافي: 8/198.

(2) تفسير العيّاشي: 1/130.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ مقتهم الله على فرارهم من الموت؛ فأماتهم الله عقوبة، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها، ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ إن المؤمن ليشكر نعم الله عليه وعلى خلقه، وذكر لنا أن أبا أبو الدرداء (ت 32 هـ) كان يقول: يا رب شاكر نعمة غيره ومنعم عليه لا يدري، ويا رب حامل فقه غير فقيه(2).

3. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ أجلاهم الطاعون، فخرج منهم الثلث، وبقي الثلثان، ثم أصابهم أيضا فخرج الثلثان، وبقي الثلث، ثم أصابهم أيضا فخرجوا كلهم، فأماتهم الله عقوبة(3).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٢٢.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥٩.

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥٧.

ابن دينار:

روي عن عمرو بن دينار (ت 126 هـ) أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ وقع الطاعون في قريتهم، فخرج أناس، وبقي أناس، فهلك الذين بقوا في القرية، وبقي الآخرون، ثم وقع الطاعون في قريتهم الثانية، فخرج أناس، وبقي أناس، ومن خرج أكثر ممن بقي، فنجى الله الذين خرجوا، وهلك الذين بقوا، فلما كانت الثالثة خرجوا بأجمعهم إلا قليلا، فأماتهم الله ودوابهم، ثم أحياهم، فرجعوا إلى بلادهم وقد توالدت ذريتهم ومن تركوا، وكثروا بها، حتى يقول بعضهم لبعض: من أنتم؟(1).

__________

(1) آدم بن أبي إياس ـ كما في تفسير مجاهد: ص٢٤٠ ـ.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: حتى إذا هلكوا وبليت أجسادهم مر بهم نبي يقال له: حزقيل، فلما رآهم وقف عليهم، فجعل يتفكر فيهم، ويلوي شدقيه وأصابعه، فأوحى الله إليه: يا حزقيل، أتريد أن أريك فيهم كيف أحييهم؟ قال وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم، فقال: نعم، فقيل له: ناد: أيتها العظام(1).

2. روي أنّه قال: هم بضعة وثلاثون ألفا(2).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤١٦.

(2) ابن جرير: ٤/٤١٨.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إنما فروا من الجهاد، وذلك أن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوهم، فخرجوا فعسكروا، ثم جبنوا وكرهوا الموت واعتلوا، وقالوا لملكهم: إن الأرض التي نأتيها فيها الوباء؛ فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء، فأرسل الله تعالى عليهم الموت، فلما رأوا أن الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، فلما رأى الملك ذلك قال: اللهم رب يعقوب وإله موسى، قد ترى معصية عبادك، فأرهم آية في أنفسهم، حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك، فلما خرجوا قال لهم الله: موتوا، عقوبة لهم، فماتوا جميعا وماتت دوابهم كموت رجل واحد، فأتى عليهم ثمانية أيام حتى انتفخوا، وأروحت أجسادهم، فخرج إليهم الناس، فعجزوا عن دفنهم، فحظروا عليهم حظيرة دون السباع، وتركوهم فيها، وقال الكلبي: هم كانوا قوم حزقيل، أحياهم الله بعد ثمانية أيام، وذلك أنه لما أصابهم ذلك خرج حزقيل في طلبهم، فوجدهم موتى، فبكى، وقال: يا رب، كنت في قوم يحمدونك، ويسبحونك، ويقدسونك، ويكبرونك، ويهللونك، فبقيت وحيدا لا قوم لي، فأوحى الله تعالى إليه: أني جعلت حياتهم إليك، قال حزقيل: احيوا بإذن الله، فعاشوا(1).

2. روي أنّه قال: كانوا ثمانية آلاف(2).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/٢٠٢ ـ: ٢٠٣.

(2) عبد الرزاق: ١/٩٧، وتفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٤٤.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: أحيا الله قوما خرجوا من أوطانهم هاربين من الطاعون، لا يحصى عددهم، فأماتهم الله دهرا طويلا حتى بليت عظامهم، وتقطعت أوصالهم، وصاروا ترابا، فبعث الله ـ في وقت أحب أن يري خلقه قدرته ـ نبيا، يقال له: حزقيل فدعاهم فاجتمعت أبدانهم، ورجعت فيها أرواحهم، وقاموا كهيئة يوم ماتوا، لا يفتقدون من أعدادهم رجلا، فعاشوا بعد ذلك دهرا طويلا)(1).

__________

(1) الاحتجاج: 344.

أبو روق:

روي عن أبي روق عطية بن الحارث الهمداني (ت 150 هـ) أنّه قال: عشرة آلاف(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/٢٠٣.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ رب هذه النعمة حين أحياهم بعد ما أراهم عقوبته، ثم أمرهم تعالى أن يرجعوا إلى عدوهم فيجاهدوا، فذلك قوله تعالى: ﴿مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ أنه أحياهم بعد ما أماتهم، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾، يعني: حذر القتل(1).

3. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ من بني إسرائيل، خرجوا من ديارهم، وهي قرية تسمى: دامردان(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٠٢.

ابن إسحاق:

روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: بلغني: أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارا من بعض الأوباء؛ من الطاعون، أو من سقم كان يصيب الناس، حذرا من الموت(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤١٩.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾، ليست الفرقة أخرجتهم كما يخرج للحرب والقتال، قلوبهم مؤتلفة(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٢٠.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

هؤلاء قوم من بني إسرائيل، هربوا أيام وقع فيهم الطاعون؛ بما كان من فعلهم ومخالفتهم لخالقهم، ففروا عند ذلك من الموت، فظنوا أن الأمر إنما نزل بهم في ذلك البلد، وأنه لا يلحقهم إلى غيره، فلما أمعنوا في الذهاب، وظنوا أنهم قد نجوا ـ أماتهم الله عز وجل مرة واحدة، ثم ذكرهم ما أراهم من قدرته، وأنه لا مفر منه، ولا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، ثم أحياهم ـ تبارك وتعالى ـ من بعد ذلك.

1. سؤال وإشكال: هل يجوز للرجل أن يفر من البلد الذي يقع فيها الطاعون والأمراض؟ والجواب: قد روي في الطاعون رواية عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (لا تدخلوا عليه، ولا تفروا منه)، وأما الأمراض فينبغي للرجل إذا دخل بلدا وبيا ذات دم: أن يتجنبه ويخرج منه، ولا يغرر بنفسه؛ فإن الله عز وجل قد جعل لعباده عقولا يميزون بها ما فيه لهم من الصلاح والسلامة؛ فلا ينبغي لعاقل أن يتلف نفسه بركوب المهالك.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/113.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ حرف تعجب وتنبيه، ليتأمل فيما يلقى إليه مما أريد الإنباء عنه، أو فيما قد كان سبق الإنباء عنه، ليتجدد بالنظر فيه عهدا، وعلى ذلك المعروف من استعمال هذه الكلمة، وكذلك وجه تأويله إلى الخبر مرة وإلى العلم به ثانية، وإلى النظر فيه ثالثا، على اختلاف ما قيل، وفيه كل ذلك.

2. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ (ألم تخبر)، و(ألم تنظر)، ومثل هذا إنما يقال عن أعجوبة، فالقصد فيه ـ والله تعالى أعلم ـ أنه جواب قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ أخبرهم الله عزّ وجل عن قصة هؤلاء: أن جهلهم بآجال أولئك حملهم على هذا القول؛ مثل جهل بنى إسرائيل بآجالهم حملهم على الخروج من ديارهم حذر الموت، ثم لم ينفعهم ذلك بل أميتوا، كذلك هذا.

3. اختلف في هذه القصة:

أ. قال بعضهم‏: أخرجوا فرارا من الجهاد في سبيل الله، فأماتهم الله، ثم أحياهم، وأمرهم أن يخرجوا إلى الجهاد في سبيل الله.

ب. وقال آخرون‏: وقع الطاعون في قريتهم، فخرج أناس وبقى أناس، فمن خرج أكبر ممن بقى، فنجا الخارجون، وهلك الباقون، فلما كانت الثانية خرجوا بأجمعهم إلا قليلا، فأماتهم الله، ثم أحياهم.

4. فلا تدرى كيف كانت القصة:

أ. فإن كانت القصة في الفرار من الجهاد في سبيل الله، وله نظير في الآيات، قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ [آل عمران: 154]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ﴾ [الأحزاب: 16]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ [الجمعة: 8]، وقوله تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ [النساء: 78]، ومثله كثير في القرآن.

ب. وإن كانت القصة في الطاعون، فقد جاء الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال: (إذا كنتم في أرض وفيها وباء فلا تخرجوا فرارا منها)، [وإذا لم تكونوا فيها فلا تدخلوها)، ومعناه والله أعلم: أنهم إذا كانوا فيها يخرجوا مخرج الفرار إن تحولوا،] القضاء، وقد جاء: (أن لا عدوى ولا هامة)

5. سؤال وإشكال: روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أنه كان إذا مر على حائط مائل أسرع المشي، كيف نهى عن الخروج عن أرض فيها وباء وطاعون؟ والجواب: إن كل ما كان مخرجه مخرج آية وفيها إهلاكهم فذلك لا يكون إلا بأمر سبق‏ منهم، فحق مثله الفرار إلى الله، لا إلى غيره، وأما انكسار الحائط فليس لأمر سبق منه، فجائز أن يأخذ منه حذره، هذا هو الفرق بينهما، ويجوز أن يكون فعله صلّى الله عليه وآله وسلم ليعلم أن مثله من الخوف لا يعد نقصانا في الدين؛ وذلك كالعدة تتخذ للحرب والأغذية للبدن، لا على ظن بالله أنه لا يملك الحياة دونها أو قهر العدو، ولكن على التأهب والائتمار؛ إذ قد جعل الذي خيف فيه والذى رجى.

6. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ [غافر: 61] حين أحياهم بعد ما أماتهم، وذلك فضل منه، و﴿لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ [غافر: 61] بكل نعمة أنعمها عليهم، يستحق الشكر من الخلق بذلك.

7. هذه الآية على المعتزلة إذ قالوا: ليس لله أن يفعل بخلقه إلا الأصلح لهم في الدين، ولو فعل غير ذلك كان جائزا، فإذا كان هذا عليه، فأنى يكون الأفضل‏، إذا أعطى ما ليس عليه، وأما من أعطى ما كان عليه لا يقال: إنه (تفضل) أو (من)، كمن يقضى دينا عليه لآخر لا يستوجب الشكر بذلك، لأنه قضى ما كان عليه قضاؤه؛ فكذلك الله تعالى إذا أخبر أنه (ذو فضل) و(ذو من) لم يكن ذلك عليه، فاستوجب الشكر على الخلق بذلك، وبالله التوفيق.

8. الكلام في أن أولئك ماتوا بآجالهم، أو لا بآجالهم، قالت المعتزلة: لم تكن آجالهم، ومن قولهم: أن لكل أحد أجلين: إن قتل فأجله كذا، وإن مات فكذا، قيل: ذلك تأجيل من لا يعلم أنه يقتل أو يموت، فإذا علم الله أنه يموت لم يكتب له أجل القتل، وكذلك ما روى في الخبر: (أن صلة الرحم تزيد في العمر)، إذا كان في علم الله تعالى في الأول‏ أنه‏ يقطع ولا يصل؛ إذ لو حمل ذلك على ما يقولون هم لخرج فعله فعل من يجهل العواقب.

9. سؤال وإشكال: فلم يلام القاتل إذا قتل غيره بغير حق؟ والجواب: لأنه كتب أجل المقتول بقتل هو معصية بما علم الله أنه ينقضي به، وكتاب الآجال هو بيان النهايات والأعمار.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/218.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع: معنى قوله عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ الآية: روي أن هؤلاء قوم من بني إسرائيل خرجوا من بلادهم هاربين من الطاعون، لما أتلف الله به جزؤاً منهم، فلما امعنوا في الهرب وانقطعوا من البلد أماتهم الله عز وجل ثم أحياهم، ليعلموا أنه لا مهرب من أمره، والله عز وجل غالب قاهر لمراده(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 287.

الديلمي:

قال الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ): ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ يعني ألم تعلم ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ في العدد والائتلاف والألوف فما زاد على عشرة آلاف، قيل: إنهم كانوا أربعين ألفاً ثم قال ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ أي فروا من الجهاد ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾ والقول هنا بمعنى الفعل أي فأماتهم الله كما يقال قالت السماء فعلت بيدي أي مطرت وفعلت بيدي ولأن القول مقدمة الفعل فعبر عنه به ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ الله، وكان ذلك معجزة لنبي من أنبيائه(1).

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/119.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ يعني ألم تعلم، ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ فيه قولان:

أ. أحدهما: يعني مؤتلفي القلوب وهو قول ابن زيد.

ب. الثاني: يعني ألوفا في العدد.

2. اختلف قائلو هذا في عددهم على أربعة أقاويل:

أ. أحدها: كانوا أربعة آلاف، رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

ب. الثاني: كانوا ثمانية آلاف.

ج. الثالث: كانوا بضعة وثلاثين ألفا، وهو قول السدي.

د. الرابع: كانوا أربعين ألفا، وهو مروي عن ابن عباس أيضا، والألوف تستعمل فيما زاد على عشرة آلاف.

3. في قوله تعالى: ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنهم فرّوا من الطاعون، وهذا قول الحسن، وروى سعيد بن جبير قال كانوا أربعة آلاف، خرجوا فرارا من الطاعون، وقالوا نأتي أرضا ليس بها موت، فخرجوا، حتّى إذا كانوا بأرض كذا، قال الله لهم: موتوا فماتوا، فمر عليهم نبي، فدعا ربه أن يحييهم، فأحياهم الله.

ب. الثاني: أنهم فروا من الجهاد، وهذا قول عكرمة والضحاك.

4. في قوله تعالى: ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾ قولان:

أ. أحدهما: يعني فأماتهم الله، كما يقال: قالت السماء فمطرت، لأن القول مقدمة الأفعال، فعبر به عنها.

ب. الثاني: أنه تعالى قال قولا سمعته الملائكة.

5. ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ إنما فعل ذلك معجزة لنبي من أنبيائه كان اسمه شمعون من أنبياء بني إسرائيل، وأن مدة موتهم إلى أن أحياهم الله سبعة أيام، قال ابن عباس، وابن جريج: رائحة الموت توجد في ولد ذلك السبط من اليهود إلى يوم القيامة.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/312.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى‏ ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ألم تعلم، لأن الرؤية مشتركة بين العلم وبين رؤية القلب، وقيل في معنى قوله تعالى: ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن معناه: الكثرة، فكأنه: وهم أكثر الناس، ذهب إليه ابن عباس، والضحاك، والحسن.

ب. وقال ابن زيد: معناه هم مؤتلفو القلوب، لم يخرجوا عن تباغض.

2. من قال المراد به العدد الكثير، اختلفوا: فقال ابن عباس: كانوا أربعين الفاً، وقال قوم: أربعة آلاف، وقال آخرون: ثمانية آلاف وقال السدي: بضعة وثلاثون ألفاً، والذي يقضي به الظاهر: أنهم أكثر من عشرة آلاف، لأن بناء (فُعول) للكثير، وهو ما زاد على العشرة، فأما ما نقص، فيقال فيه: آلاف على وزن (أفعال) نحو عشرة آلاف ولا يقال: عشرة ألوف.

3. اختلف في سبب فرارهم:

أ. قال الحسن، وأكثر المفسرين: كانوا فرّوا من الطاعون الذي وقع بأرضهم.

ب. وقال الضحاك: فرّوا من الجهاد.

4. معنى الآية: الحضّ على الجهاد، بأنه لا ينفع ـ من الموت ـ فرار، ومن أمر الله، لأنه يجوز أن يعجله على جهة العقاب، كما عجله لهؤلاء، للاعتبار.

5. في الآية دليل على من أنكر عذاب القبر والرجعة معاً، لأن الأحياء في القبر، وفي الرجعة مثل إحياء هؤلاء الذين أحياهم للعبرة.

6. في قوله تعالى: ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن معناه أماتهم الله، كما يقال: قالت السماء، فهطلت، وقلت برأسي كذا، وقلت بيدي، وذلك لما كان القول في الأكثر استفتاحاً للفعل، كالقول الذي هو تسمية، وما جرى مجراها مما كان يستفتح به الفعل، صار معنى قالت السماء، فهطلت أي استفتحت الهطلان، وصار بمنزلة استفتاح الافعال فلذلك صارت أماتتهم بمنزلة استفتاح الأفعال.

ب. الثاني:أن يكون أحياهم عند قول سمعته الملائكة بضرب من العبرة.

7. يجوز ـ عندنا (2) ـ أن يكونوا أحيوا في غير زمان نبي، وقالت المعتزلة: لا يجوز أن يكون ذلك إلا في زمان نبي، لأن المعجزة لا يجوز ظهورها إلا للدلالة على صدق نبي، تكون له آية، وقد بينا فساد ذلك في غير موضع، وأنه تجوز المعجزات على دين من الصادقين: من الأئمة، و الأولياء وإن لم يكونوا أنبياء، وروي عن ابن عباس: أنه مرّ بهم نبيّ، فدعا الله تعالى، فأحياهم.

8. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ [غافر: 61] إنما ذكر، واتصل بما تقدم، لأنه لما ذكر النعمة عليهم بما آتاهم من الآية العظيمة في أنفسهم ليلزموا سبيل الهدى، ويتجنبوا طرق الردى ذكر عند ذلك ماله على الناس من الانعام مع ما هم من الكفران.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/283.

(2) يقصد الإمامية

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الرؤية: تكون بمعنى العلم، وتكون بمعنى رؤية العين، وهو إدراك المرئي، رأى يرى رؤية.

ب. الألوف: جمع ألف، وهو الكثير، وأما القليل فجمعه آلاف يقال: ثلاثة آلاف إلى عشرة، ثم ما زاد يقال: ألوف، وألف على وزن فَعْلٍ.

2. لما تقدم أنه تعالى بَيَّنَ آياته للناس بَيَّنَ آية من آياته معطوفًا عليه، فقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ألم تعلم يا محمد، أو أيها السامع، ولا يجوز حمله إلا على العلم.

3. ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾ قيل: هم قوم من بني إسرائيل، وقيل: هم قوم حزقيل.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾:

أ. قيل: فروا من طاعون وقع بأرضهم، عن الحسن.

ب. وقيل: فروا من الجهاد، عن الضحاك ومقاتل، واحتجا بقوله تعالى عقيب الآية: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله﴾ وقيل: مروًّيا عن أبي علي.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾:

أ. قيل: كثرة العدد، عن ابن عباس والحسن والضحاك وجماعة.

ب. وقيل: ألوف مؤتلفو القلوب لم يخرجوا عن تباغض، عن ابن زيد.

6. من ذهب إلى أن المراد كثرة العدد اختلفوا في عددهم:

أ. قيل: كانوا ثلاثة آلاف، عن عطاء الخراساني.

ب. وقيل: أربعة آلاف، عن ابن عباس ووهب.

ج. وقيل: ثمانية آلاف، عن مقاتل والكلبي.

د. وقيل: عشرة آلاف، عن أبي روق.

هـ. وقيل: ثلاثون ألفًا، عن أبي مالك.

و. وقيل: بضعة وثلاثين ألفًا، عن السدي.

ز. وقيل: أربعين ألفًا، عن ابن عباس وابن جريج.

ح. وقيل: سبعين ألفًا، عن عطاء ابن أبي رباح.

ط. وقيل: كانوا عددا كثيرًا عن الضحاك.

ي. الوجه فيه ما زاد على العشرة؛ لأن ما نقص يقال فيه: آلاف.

7. ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ أي من خوف الموت ﴿فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُوا﴾، واختلفوا:

أ. قيل: معناه أماتهم كقوله تعالى: ﴿كُونُوا قِرَدَةً﴾ أي جعلهم كذلك؛ لأن هناك مجاورة، كقول الشاعر: (امْتَلأ الحَوْضُ وقَالَ قَطْنِي)

ب. وقيل: أماتهم الله عند قول سمعته الملائكة لضرب من العبرة.

ج. وقيل: خرجوا من ديارهم ونزلوا واديًا، فناداهم ملك من أسفل الوادي أو من أعلاه: موتوا فماتوا، فعلى هذا قال لهم على لسان بعض الملائكة.

د. وقيل: لا يجوز حمله على الحقيقة؛ لأن الموت فعل الله تعالى فلا يؤمر به العبد.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾:

أ. قيل: غضب عليهم لفرارهم فأماتهم، ثم أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم، عن قتادة.

ب. وقيل: مر بهم نبي يقال له: حزقيل، وقال الحسن ومقاتل: هو ذو الكفل، وسمي حزقيل ذا الكفل؛ لأنه تكفل بسبعين نبيًا أنجاهم من القتل فدعا الله فأحياهم.

ج. وقيل: مر بهم وهم موتى فجعل يفكر فيهم متعجبًا، فأوحى الله إليه إن أردت أن أريك آية كيف أحيي الموتى، قال: نعم، فأحياهم، عن السدي وجماعة، واختلفوا في سبب دعائه، فقيل: مر بهم فقال: إن شئت أحييتهم فعمروا بلادك وعبادك فأحياهم.

د. وقيل: هم قوم حزقيل خرج في طلبهم فوجدهم موتى، وبكى ودعا الله فأحياهم.

9. ﴿إِنَّ الله لَذُوفَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ يعني عظيم النعمة بما ينزل لهم من الحجج والآيات التي تدلهم على الحق فيستحقون باتباعها الفوز بنعيم الأبد، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ نعمه ولا يطيعون أمره.

10. تدل الآية الكريمة على:

أ. الفرار منهي عنه، وبَيَّنَّا من ماذا فروا، وهو منهي عنه في شريعتنا كما قال النبي، صلّى الله عليه وآله وسلم: (إذا وقع الطاعون في أرض ولستم بها فلا تدخلوها، وإذا كنتم فيها فلا تخرجوا منها ) فكأنه منعهم من الفرار ففروا، فأماتهم عقوبة أو زجرًا أو تنبيهًا.

ب. الترغيب في الجهاد؛ ولذلك عقبه بقوله: ﴿وَقَاتَلُوا﴾ ونبه أن الموت إذا قدر لا يقع التخليص منه.

ج. استدل أبو الهذيل بالآية على أنه تعالى خلق الأشياء بخلق هو قول، وقد بَيَّنَّا أنه توسع على طريقة العرب، وبَيَّنَّا نظائره.

د. استدل أصحاب المعارف بأن الاضطرار إلى المعرفة لا يمنع التكليف؛ لأنه عند المعاينة يضطر إلى المعرفة، وقلنا: الموت قد يرد بغتة فلا يقتضي الاضطرار؛ فلذلك يصح أن يكلفهم بعد الإحياء، ولا شبهة أن مثل هذا لا يقع إلا في زمان نبي؛ لأنه يجري مجرى المعجزة، وقد بينا ما قيل فيه.

11. ظَاهر القراءة: ﴿تَرَ﴾ بفتح الراء، وعن السلمي بسكون الراء، وهي لغة قوم لما حذفوا الياء جعلوا الراء آخر الكلمة فسكنوها.

12. ﴿حَذَرَ﴾ نصب لوقوع الفعل عليه، وقيل: بنزع الخافضة، أي لحذر الموت، أو من حذر الموت، والأول أوجه.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/41.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الرؤية هنا بمعنى العلم، ومعنى ألم تر: ألم تعلم، وهذه الألف ألف التوقيف، وتر متروكة الهمزة، وأصله ألم ترأ من رأى يرأى مثل نأى ينأى، إلا أنهم على اسقاط الهمز هنا للتخفيف.

2. لما ذكر قوله ﴿يبين آياته للناس﴾ عقبه بذكر آية من آياته، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أي: ألم تعلم يا محمد، أو أيها السامع، أو لم ينته علمك: ﴿إِلَى﴾ خبر هؤلاء ﴿الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾، واختلفوا:

أ. قيل: هم من قوم بني إسرائيل، فروا من طاعون وقع بأرضهم، عن الحسن.

ب. وقيل: فروا من الجهاد، وقد كتب عليهم، عن الضحاك ومقاتل، واحتجا بقوله عقيب الآية: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله﴾

ج. وقيل: هم قوم حزقيل، وهو ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى، وذلك أن القيم بأمر بني إسرائيل بعد موسى، كان يوشع بن نون، ثم كالب بن يوقنا، ثم حزقيل، وقد كان يقال له ابن العجوز، وذلك أن أمه كانت عجوزا، فسألت الله الولد، وقد كبرت وعقمت، فوهبه الله لها، وقال الحسن: هو ذو الكفل، وإنما سمي حزقيل ذا الكفل، لأنه كفل سبعين نبيا، نجاهم من القتل، وقال لهم: اذهبوا فإني إن قتلت كان خيرا من أن تقتلوا جميعا، فلما جاء اليهود وسألوا حزقيل عن الأنبياء السبعين، فقال: إنهم ذهبوا ولا أدري أين هم، ومنع الله ذا الكفل منهم.

3. ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾: أجمع أهل التفسير على أن المراد بألوف هنا كثرة العدد، إلا ابن زيد فإنه قال معناه: خرجوا مؤتلفي القلوب لم يخرجوا عن تباغض، فجعله جمع آلف مثل: قاعد وقعود، وشاهد وشهود.

4. اختلف من قال المراد به العدد الكثير:

أ. فقيل: كانوا ثلاثة آلاف، عن عطاء الخراساني.

ب. وقيل: ثمانية آلاف، عن مقاتل والكلبي.

ج. وقيل: عشرة آلاف، عن ابن روق.

د. وقيل: بضعة وثلاثين ألفا، عن السدي.

هـ. وقيل: أربعين ألفا، عن ابن عباس وابن جريج.

و. وقيل: سبعين ألفا، عن عطا بن أبي رباح.

ز. وقيل: كانوا عددا كثيرا، عن الضحاك.

ح. والذي يقضي به الظاهر أنهم كانوا أكثر من عشرة آلاف، لأن بناء فعول للكثرة، وهو ما زاد على العشرة، وما نقص عنها يقال فيه عشرة آلاف، ولا يقال عشرة ألوف.

5. ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ أي: من خوف الموت ﴿فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ قيل في معناه قولان:

أ. أحدهما: إن معناه أماتهم الله كما يقال قالت السماء فهطلت معناه: فهطلت السماء، وقلت برأسي كذا، وقلت بيدي كذا ومعناه: أشرت برأسي وبيدي، وذلك لما كان القول في الأكثر استفتاحا للفعل، كالقول الذي هو تسمية وما جرى مجراه مما كان يستفتح به الفعل صار معنى قالت السماء فهطلت أي: استفتحت بالهطلان كذلك معناه ها هنا فاستفتح الله بإماتتهم والثاني: إن معناه أماتهم بقول سمعته الملائكة لضرب من العبرة، ثم أحياهم الله بدعاء نبيهم حزقيل، عن ابن عباس.

ب. وقيل: إنه شمعون من أنبياء بني إسرائيل.

6. ﴿إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ لما ذكر النعمة عليهم بما أراهم من الآية العظيمة في أنفسهم، ليلتزموا سبيل الهدى، ويجتنبوا طريق الردى، ذكر بعده ما له عليهم من الانعام والإحسان، مع ما هم عليه من الكفران.

7. هذه الآية حجة على من أنكر عذاب القبر والرجعة معا، لأن إحياء أولئك مثل إحياء هؤلاء الذين أحياهم الله للاعتبار(2).

8. ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾: نصب لأنه مفعول له، وجاز أن يكون نصبه على المصدر، لأن خروجهم يدل على حذروا الموت حذرا.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/605.

(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾، معناه: ألم تعلم، قال ابن قتيبة: وهذا على جهة التعجّب، كما تقول: ألا ترى إلى ما يصنع فلان؟

2. في قوله تعالى: ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن معناه: وهم مؤتلفون، قاله ابن زيد .

ب. الثاني: أنه من العدد، وعليه العلماء.

3. اختلفوا في عددهم على سبعة أقوال:

أ. أحدها: أنهم كانوا أربعة آلاف .

ب. الثاني: أربعين ألفا، والقولان عن ابن عباس.

ج. الثالث: تسعين ألفا، قاله عطاء بن أبي رباح.

د. الرابع: سبعة آلاف، قاله أبو صالح.

هـ. الخامس: ثلاثين ألفا، قاله أبو مالك، و .

و. السادس: بضعة وثلاثين ألفا، قاله السّدّيّ، .

ز. السابع: ثمانية آلاف، قاله مقاتل.

4. في معنى: حذرهم من الموت، قولان:

أ. أحدهما: أنهم فرّوا من الطّاعون، وكان قد نزل بهم، قاله الحسن، والسّدّيّ .

ب. الثاني: أنهم أمروا بالجهاد، ففرّوا منه، قاله عكرمة، والضحّاك، وعن ابن عباس، كالقولين(2).

5. ورد ما يدلّ على بعد المدّة التي مكثوا فيها أمواتا، وفي بعض الأحاديث: أنهم بقوا أمواتا سبعة أيام، وقيل: ثمانية أيام، وفي النبيّ الذي دعا لهم قولان:

أ. أحدهما: أنه حزقيل .

ب. الثاني: أنه شمعون.

6. سؤال وإشكال: كيف أميت هؤلاء مرتين في الدنيا، وقد قال الله تعالى: ﴿إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى﴾ [الدخان: 56]؟ والجواب:

أ. قيل: أن موتهم بالعقوبة لم يفن أعمارهم، فكان كقوله تعالى: ﴿وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ [الزمر: 42]

ب. وقيل: كان إحياؤهم آية من آيات نبيّهم، وآيات الأنبياء نوادر لا يقاس عليها، فيكون تقدير قوله تعالى: ﴿إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى﴾ [الدخان: 56]‏ التي ليست من آيات الأنبياء، ولا لأمر نادر.

7. في هذه القصة احتجاج على اليهود إذ أخبرهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم بأمر لم يشاهدوه، وهم يعلمون صحته واحتجاج على المنكرين للبعث، فدلّهم عليه بإحياء الموتى في الدنيا، ذكر ذلك جميعه ابن الأنباريّ.

8. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ [غافر: 61]، نبّه عزّ وجلّ بذكر فضله على هؤلاء على فضله على سائر خلقه مع قلّة شكرهم.

__________

(1) زاد المسير: 1/220.

(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. من عادته تعالى في القرآن أن يذكر بعد بيان الأحكام القصص ليفيد الاعتبار للسامع، ويحمله ذلك الاعتبار على ترك التمرد والعناد، ومزيد الخضوع والانقياد فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾

2. ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ الرؤية قد تجيء بمعنى رؤية البصيرة والقلب، وذلك راجع إلى العلم، كقوله تعالى: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ [البقرة: 128] معناه: علمنا، وقال: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ [النساء: 105] أي علمك، ثم إن هذا اللفظ قد يستعمل فيما تقدم للمخاطب العلم به، وفيما لا يكون كذلك:

أ. فقد يقول الرجل لغيره يريد تعريفه ابتداء: ألم تر إلى ما جرى على فلان، فيكون هذا ابتداء تعريف، فعلى هذا يجوز أن يكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لم يعرف هذه القصة إلا بهذه الآية.

ب. ويجوز أن نقول: كان العلم بها سابقا على نزول هذه الآية، ثم إن الله تعالى أنزل هذه الآية على وفق ذلك العلم.

3. هذا الكلام ظاهره خطاب مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلا أنه لا يبعد أن يكون المراد هو وأمته، إلا أنه وقع الابتداء بالخطاب معه، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: 1]

4. دخول لفظة (إلى) في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ﴾ يحتمل أن يكون لأجل أن (إلى) عندهم حرف للانتهاء كقولك: من فلان إلى فلان، فمن علم بتعليم معلم، فكأن ذلك المعلم أوصل ذلك المتعلم إلى ذلك المعلوم وأنهاه إليه، فحسن من هذا الوجه دخول حرف (إلى) فيه، ونظيره قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ [الفرقان: 45]

5. في قوله تعالى: ﴿إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ فيه روايات(2) .

6. في قوله تعالى: ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ قولان:

أ. الأول: أن المراد منه بيان العدد، واختلفوا في مبلغ عددهم، قال الواحدي: ولم يكونوا دون ثلاثة آلاف، ولا فوق سبعين ألفا، والوجه من حيث اللفظ أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف لأن الألوف جمع الكثرة، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف.

ب. الثاني: أن الألوف جمع آلاف كقعود وقاعد، وجلوس وجالس، والمعنى أنهم كانوا مؤتلفي القلوب.

7. قال القاضي: كون أن المراد منه بيان العدد أولى، لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمة يفيد مزيد اعتبار بحالهم، لأن موت جمع عظيم دفعة واحدة لا يتفق وقوعه يفيد اعتبارا عظيما، فأما ورود الموت على قوم بينهم ائتلاف ومحبة، كوروده وبينهم اختلاف في أن وجه الاعتبار لا يتغير ولا يختلف، ويمكن أن يجاب عن هذا السؤال بأن المراد كون كل واحد منهم آلفا لحياته، محبا لهذه الدنيا فيرجع حاصله إلى ما قال تعالى في صفتهم: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ [البقرة: 96] ثم إنهم مع غاية حبهم للحياة والفهم بها، أماتهم الله تعالى وأهلكهم، ليعلم أن حرص الإنسان على الحياة لا يعصمه من الموت فهذا القول على هذا الوجه ليس في غاية البعد.

8. ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ منصوب لأنه مفعول له، أي لحذر الموت، ومعلوم أن كل أحد يحذر الموت، فلما خص هذا الموضع بالذكر، علم أن سبب الموت كان في تلك الواقعة أكثر، إما لأجل غلبة الطاعون أو لأجل الأمر بالمقاتلة.

9. في تفسير جار الله في قوله تعالى: ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾ وجهان:

أ. الأول: أنه جار مجرى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: 40] وقد تقدم أنه ليس المراد منه إثبات قول، بل المراد أنه تعالى متى أراد ذلك وقع من غير منع وتأخير، ومثل هذا عرف مشهور في اللغة، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ فإذا صح الإحياء بالقول، فكذا القول في الإماتة.

ب. الثاني: أنه تعالى أمر الرسول أن يقول لهم: موتوا، وأن يقول عند الإحياء ما رويناه عن السدي، ويحتمل أيضا ما رويناه من أن الملك قال ذلك، والقول الأول أقرب إلى التحقيق.

10. ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ دال على أنه تعالى أحياهم بعد أن ماتوا فوجب القطع به، وذلك لأنه في نفسه جائز والصادق أخبر عن وقوعه فوجب القطع بوقوعه:

أ. أما الإمكان فلأن تركب الأجزاء على الشكل المخصوص ممكن، وإلا لما وجد أولا، واحتمال تلك الأجزاء للحياة ممكن وإلا لما وجد أولا، ومتى ثبت هذا فقد ثبت الإمكان.

ب. وأما إن الصادق قد أخبر عنه ففي هذه الآية، ومتى أخبر الصادق عن وقوع ما ثبت في العقل إمكان وقوعه وجب القطع به.

11. قالت المعتزلة، ومن وافقهم: إحياء الميت فعل خارق للعادة، ومثل هذا لا يجوز من الله تعالى إظهاره إلا عندما يكون معجزة لنبي، إذ لو جاز ظهوره لا لأجل أن يكون معجزة لنبي لبطلت دلالته على النبوة، وأما عند أصحابنا (3)، فإنه يجوز إظهار خوارق العادات لكرامة الولي، ولسائر الأغراض، فكأن هذا الحصر باطلا، ثم قالت المعتزلة: وقد روي‏ أن هذا الإحياء إنما وقع في زمان حزقيل النبي عليه السلام ببركة دعائه، وهذا يتحقق ما ذكرناه من أن مثل هذا لا يوجد إلا ليكون معجزة للأنبياء عليهم السلام، وقيل: حزقيل هو ذو الكفل، وإنما سمي بذلك لأنه تكفل بشأن سبعين نبيا وأنجاهم من القتل، وقيل: إنه عليه السلام مر بهم وهم موتى فجعل يفكر فيهم متعجبا، فأوحى الله تعالى إليه: إن أردت أحييتهم وجعلت ذلك الإحياء آية لك، فقال: نعم فأحياهم الله تعالى بدعائه.

12. ثبت بالدلائل أن معارف المكلفين تصير ضرورية عند القرب من الموت، وعند معاينة الأهوال والشدائد، فهؤلاء الذين أماتهم الله ثم أحياهم لا يخلو إما أن يقال إنهم عاينوا الأهوال والأحوال التي معها صارت معارفهم ضرورية، وإما ما شاهدوا شيئا من تلك الأهوال بل الله تعالى أماتهم بغتة، كالنوم الحادث من غير مشاهدة الأهوال ألبتة:

أ. فإن كان الحق هو الأول، فعند ما أحياهم يمتنع أن يقال: إنهم نسوا تلك الأهوال ونسوا ما عرفوا به ربهم بضرورة العقل، لأن الأحوال العظيمة لا يجوز نسيانها مع كمال العقل، فكان يجب أن تبقى تلك المعارف الضرورية معهم بعد الإحياء، وبقاء تلك المعارف الضرورية يمنع من صحة التكليف، كما أنه لا يبقى التكليف في الآخرة.

ب. وإما أن يقال: إنهم بقوا بعد الإحياء غير مكلفين، وليس في الآية ما يمنع منه، أو يقال: إن الله تعالى حين أماتهم ما أراهم شيئا من الآيات العظيمة التي تصير معارفهم عندها ضرورية، وما كان ذلك الموت كموت سائر المكلفين الذين يعاينون الأهوال عند القرب من الموت، والله أعلم بحقائق الأمور.

13. قال قتادة: إنما أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم، وهذا القول فيه كلام كثير وبحث طويل.

14. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ [غافر: 61] وجوه:

أ. أحدها: أنه تفضل على أولئك الأقوام الذين‏ أماتهم بسبب أنه أحياهم، وذلك لأنهم خرجوا من الدنيا على المعصية، فهو تعالى أعادهم إلى الدنيا ومكنهم من التوبة والتلافي .

ب. ثانيها: أن العرب الذين كانوا ينكرون المعاد كانوا متمسكين بقول اليهود في كثير من الأمور، فلما نبه الله تعالى اليهود على هذه الواقعة التي كانت معلومة لهم، وهم يذكرونها للعرب المنكرين للمعاد، فالظاهر أن أولئك المنكرين يرجعون من الدين الباطل الذي هو الإنكار إلى الدين الحق الذي هو الإقرار بالبعث والنشور فيخلصون من العقاب، ويستحقون الثواب، فكان ذكر هذه القصة فضلا من الله تعالى وإحسانا في حق هؤلاء المنكرين .

ج. ثالثها: أن هذه القصة تدل على أن الحذر من الموت لا يفيد، فهذه القصة تشجع الإنسان على الإقدام على طاعة الله تعالى كيف كان، وتزيل عن قلبه الخوف من الموت، فكان ذكر هذه القصة سببا لبعد العبد عن المعصية وقربه من الطاعة التي بها يفوز بالثواب العظيم، فكان ذكر هذه القصة فضلا وإحسانا من الله تعالى على عبده، ثم قال ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ وهو كقوله تعالى: ﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ [الفرقان: 50]

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/496.

(2) ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها

(3) أهل السنة، ومن وافقهم

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ هذه رؤية القلب بمعنى ألم تعلم، والمعنى عند سيبويه تنبه إلى أمر الذين، ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ بجزم الراء، وحذفت الهمزة حذفا من غير إلقاء حركة لأن الأصل ألم ترء، وقصة هؤلاء أنهم قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء، وكانوا بقرية يقال لها داوردان، فخرجوا منها هاربين فنزلوا واديا فأماتهم الله تعالى، قال ابن عباس: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون وقالوا: نأتي أرضا ليس بها موت، فأماتهم الله تعالى، فمر بهم نبي فدعا الله تعالى فأحياهم، وقيل: إنهم ماتوا ثمانية أيام، وقيل: سبعة، والله أعلم، قال الحسن: أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة لهم، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم، وقيل: إنما فعل ذلك بهم معجزة لنبي من أنبيائهم، قيل: كان اسمه شمعون، وحكى النقاش أنهم فروا من الحمى، وقيل: إنهم فروا من الجهاد ولما أمرهم الله به على لسان حزقيل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شي، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، قال الضحاك.

2. قال ابن عطية: وهذا القصص كله لين الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم، ليرواهم وكل من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر، وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم بالجهاد، هذا قول الطبري وهو ظاهر رصف الآية.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾:

أ. قال الجمهور: هي جمع ألف، قال بعضهم: كانوا ستمائة ألف، وقيل: كانوا ثمانين ألفا، ابن عباس: أربعين ألفا، أبو مالك: ثلاثين ألفا، السدي: سبعة وثلاثين ألفا، وقيل: سبعين ألفا، قال عطاء ابن أبي رباح، وعن ابن عباس أيضا أربعين ألفا، وثمانية آلاف، رواه عنه ابن جريج، وعنه أيضا ثمانية آلاف، وعنه أيضا أربعة آلاف، وقيل: ثلاثة آلاف، والصحيح أنهم زادوا على عشرة آلاف لقوله تعالى: ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ وهو جمع الكثرة، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف.

ب. وقال ابن زيد في لفظة ألوف: إنما معناها وهم مؤتلفون، أي لم تخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم إنما كانوا مؤتلفين، فخالفت هذه الفرقة فخرجت فرارا من الموت وابتغاء الحياة بزعمهم، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم، فألوف على هذا جمع آلف، مثل جالس وجلوس.

4. قال ابن العربي: أماتهم الله تعالى مدة عقوبة لهم ثم أحياهم، وميتة العقوبة بعدها حياة، وميتة الأجل لا حياة بعدها(2).

5. ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ أي لحذر الموت، فهو نصب لأنه مفعول له، و﴿مُوتُوا﴾ أمر تكوين، ولا يبعد أن يقال: نودوا وقيل لهم: موتوا، وقد حكي أن ملكين صاحا بهم: موتوا فماتوا، فالمعنى قال لهم الله بواسطة الملكين ﴿مُوتُوا﴾

6. أصح هذه الأقوال وأبينها وأشهرها أنهم خرجوا فرارا من الوباء(2).. وعلى هذا تترتب الأحكام في هذه الآية، فروى الأئمة واللفظ للبخاري من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعدا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ذكر الوجع فقال: (رجز أو عذاب عذب به بعض الأمم ثم بقي منه بقية فيذهب المرة ويأتي الأخرى فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فرارا منه)

7. بمقتضى هذه الأحاديث عمل عمر والصحابة لما رجعوا من سرغ حين أخبرهم عبد الرحمن بن عوف بالحديث، على ما هو مشهور في الموطأ وغيره، وقد كره قوم الفرار من الوباء والأرض السقيمة، روي عن عائشة أنها قالت: الفرار من الوباء كالفرار من الزحف، وقصة عمر في خروجه إلى الشام مع أبي عبيدة معروفة، وفيها: أنه رجع، وقال الطبري: في حديث سعد دلالة على أن على المرء توقي المكاره قبل نزولها، وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها، وأن عليه الصبر وترك الجزع بعد نزولها، وذلك أنه صلّى الله عليه وآله وسلم نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فرارا منه، فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متق من الأمور غوائلها، سبيله في ذلك سبيل الطاعون، وهذا المعنى نظير قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا ).. وهذا هو الصحيح في الباب، وهو مقتضى قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وعليه عمل أصحابه، وقد قال عمر لأبي عبيدة محتجا عليه لما قال له: أفرارا من قدر الله! فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، المعنى: أي لا محيص للإنسان عما قدره الله له وعليه، ولكن أمرنا الله تعالى بالتحرز من المخاوف والمهلكات، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات، ثم قال له: أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله تعالى، فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة.

8. قال الكيا الطبري: (ولا نعلم خلافا أن الكفار أو قطاع الطريق إذا قصدوا بلدة ضعيفة لا طاقة لأهلها بالقاصدين فلهم أن يتنحوا من بين أيديهم، وإن كانت الآجال المقدرة لا تزيد ولا تنقص)

9. قيل: إنما نهي عن الفرار منه لأن الكائن بالموضع الذي الوباء فيه لعله قد أخذ بحظ منه، لاشتراك أهل ذلك الموضع في سبب ذلك المرض العام، فلا فائدة لفراره، بل يضيف إلى ما أصابه من مبادئ الوباء مشقات السفر، فتتضاعف الآلام ويكثر الضرر فيهلكون بكل طريق ويطرحون في كل فجوة ومضيق، ولذلك يقال: ما فر أحد من الوباء فسلم، حكاه ابن المدائني.

10. ويكفي في ذلك موعظة قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾ [البقرة: 243]، ولعله إن فر ونجا يقول: إنما نجوت من أجل خروجي عنه فيسوء اعتقاده، وبالجملة فالفرار منه ممنوع لما ذكرناه، ولما فيه من تخلية البلاد: ولا تخلو من مستضعفين يصعب عليهم الخروج منها، ولا يتأتى لهم ذلك، ويتأذون بحلو البلاد من المياسير الذين كانوا أركانا للبلاد ومعونة للمستضعفين، وإذا كان الوباء بأرض فلا يقدم عليه أحد أخذا بالحزم والحذر والتحرز من مواضع الضرر، ودفعا للأوهام المشوشة لنفس الإنسان، وفي الدخول عليه الهلاك، وذلك لا يجوز في حكم الله تعالى، فإن صيانة النفس عن المكروه واجبة، وقد يخاف عليه من سوء الاعتقاد بأن يقول: لولا دخولي في هذا المكان لما نزل بي مكروه، فهذه فائدة النهي عن دخول أرض بها الطاعون أو الخروج منها.

11. قال ابن مسعود: الطاعون فتنة على المقيم والفار، فأما الفار فيقول: فبفراري نجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت فمت، وإلى نحو هذا أشار مالك حين سئل عن كراهة النظر إلى المجذوم، فقال: ما سمعت فيه بكراهة، وما أرى ما جاء من النهي عن ذلك إلا خيفة أن يفزعه أو يخيفه شي يقع في نفسه، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الوباء: (إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه )، وسئل أيضا عن البلدة يقع فيها الموت وأمراض، فهل يكره الخروج منها؟ فقال: ما أرى بأسا خرج أو أقام.

12. في قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إذا وقع الوباء بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه )، دليل على أنه يجوز الخروج من بلدة الطاعون على غير سبيل الفرار منه، إذا اعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وكذلك حكم الداخل إذا أيقن أن دخولها لا يجلب إليه قدرا لم يكن الله قدره له، فباح له الدخول إليه والخروج منه على هذا الحد الذي ذكرناه.

13. ذكر هنا بعض التفاصيل المرتبطة بالطاغون والفرار منه، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/231.

(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الاستفهام هنا للتقرير، والرؤية المذكورة هي رؤية القلب لا رؤية البصر، والمعنى عند سيبويه: تنبه إلى أمر الذين خرجوا، ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين كذا قيل، وحاصله: أن الرؤية هنا التي بمعنى الإدراك مضمنة معنى التنبيه، ويجوز أن تكون مضمنة معنى الانتهاء، أي: ألم ينته علمك إليهم؛ أو معنى الوصول، أي: ألم يصل علمك إليهم؛ ويجوز أن تكون بمعنى الرؤية البصرية، أي: ألم تنظر إلى الذين خرجوا، جعل الله سبحانه قصة هؤلاء لما كانت بمكان من الشيوع والشهرة يحمل كل أحد على الإقرار بها بمنزلة المعلومة لكل فرد، أو المبصرة لكل مبصر، لأن أهل الكتاب قد أخبروا بها ودوّنوها وأشهروا أمرها.

2. الخطاب هنا لكل من يصلح له، والكلام جار مجرى المثل في مقام التعجيب، ادّعاء لظهوره وجلائه بحيث يستوي في إدراكه الشاهد والغائب.

3. ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ [البقرة: 243] في محل نصب على الحال من ضمير خرجوا، وألوف: من جموع الكثرة، فدل على أنها ألوف كثيرة، وقوله: ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ [البقرة: 243] مفعول له، وقوله: ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾ [البقرة: 243] هو أمر تكوين، عبارة عن تعلق إرادته بموتهم دفعة، أو: تمثيل، لإماتته سبحانه إياهم ميتة نفس واحدة، كأنهم أمروا فأطاعوا، قوله: ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ [البقرة: 243] هو معطوف على مقدّر يقتضيه المقام، أي: قال الله لهم: موتوا فماتوا ثم أحياهم، أو: على قال لما كان عبارة عن الإماتة.

4. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ [غافر: 61] التنكير في قوله: ﴿فَضْلِ﴾ [المزمل: 20]، للتعظيم، أي: لذو فضل عظيم على الناس جميعا، وأما هؤلاء الذين خرجوا؛ فلكونه أحياهم، ليعتبروا، وأما المخاطبون: فلكونه قد أرشدهم إلى الاعتبار والاستبصار بقصة هؤلاء.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/300.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا﴾، أي: ممن تقدمكم من الأمم‏ ﴿مِنْ دِيَارِهِمْ﴾، أي: التي ألفوها لما وقع فيها مما لا طاقة لهم به من الموت، ولفظة ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجيب والتقرير والتذكير ـ كالأحبار وأهل التاريخ ـ وقد تذكر لمن لا يكون كذلك، فتكون لتعريفه وتعجيبه، قال الراغب: (رأيت) يتعدى بنفسه دون الجار، لكن لما استعير (ألم تر) لمعنى (ألم تنظر) عدى تعديته ب (إلى)، وفائدة استعارته: أن النظر قد يتعدى عن الرؤية، فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة للرؤية استعيرت له، وقلما استعمل ذلك في غير التقرير فلا يقال: رأيت إلى كذا.

2. ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾، أي: في العدد جمع ألف، أو وهم مؤتلفون ومجتمعون جمع آلف، بالمدّ ـ كشاهد وشهود ـ أي: إن خروجهم لم يكن عن افتراق كان منهم ولا تباغض ولكن‏ ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ مفعول له ـ أي: فرارا منه.

3. ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾، معناه: فأماتهم، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته، وتلك مشيئة خارجة عن العادة كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالا من غير إباء ولا توقف، كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]

4. ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ عطف، إما على مقدر يستدعيه المقام أي: فماتوا ثم أحياهم ـ وإنما حذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته، وإما على (قال) لما أنه عبارة عن الإماتة.

5. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ [غافر: 61] قاطبة، أما أولئك فقد أحياهم ليعتبروا بما جرى عليهم فيفوزوا بالسعادة، وأما الذين سمعوا قصتهم فقد هداهم إلى مسلك الاعتبار والاستبصار، فقد تفضّل على الجميع ليشكروه‏ ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾، أي: فضله كما ينبغي.

6. روي عن ابن عباس: أنّ الآية عني بها قوم كثير والعدد خرجوا من ديارهم فرارا من الجهاد في سبيل الله فأماتهم الله ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا عدوّهم، فكأنها ذكرت ممهدة للأمر بالقتال بعدها في قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾

7. معلوم أن سورة البقرة مما نزل في المدينة إثر الهجرة قبل فتح مكة، وكان العدوّ في مكة وما حولها في كثرة وقوة ومنعة، فأمر المسلمون المهاجرون ومن آواهم أن يقاتلوا في سبيل الله، وقصّ لهم من الأنباء ما فيه بعث لهم على الجهاد وتبشير لهم بالفوز والعاقبة، وإن يكونوا في قلة وضعف، ما داموا مستمسكين بحبل الوفاق والصبر والمصابرة، وقد ذهب بعض الرواة إلى أن هذه الآية عني بها ما قص في التوراة عن (حزقيل) ـ أحد أنبياء بني إسرائيل ـ أنه أوحى إليه أن يخرج إلى فلاة واسعة قد ملئت عظاما يابسة من موتى بني إسرائيل، وأن يناديها باسمه تعالى، فجعلت تتقارب ثم كسيت لحما، ثم نادى أرواحها فعادت إلى أجسامها واستووا أحياء على أقدامهم بأمره تعالى، وهم جيش كثير جدا، وأوحى إلى (حزقيل) أنهم سيعودون إلى وطنهم بعد أن أجلوا عنه، وهذه القصة مبسوطة في توراتهم في الفصل السابع والثلاثين من نبوة (حزقيل)

8. ممن روي عنه أنه عني بهذه الآية نبأ (حزقيل)، وهب بن منبه وأشعث بن أسلم البصريّ والحجاج بن أرطاة والسدّيّ وهلال بن يساف وغيرهم، أخرجه عنهم ابن جرير، فإن صحت هذه الرواية يكون ذلك من معجزات (حزقيل) في إحياء الموتى له كما أحيى لعيسى عليه السلام، فيرى قومه ما لا ييأسون معه من جهاد عدوّهم ليسترجعوا وطنهم الذي أجلاهم عنه عدوهم، لأن (حزقيل) كان فيمن أجلي إلى بابل، قالوا ونبوته تتضمن القضاء المنزل على بني إسرائيل وبشرى السلام الذي يعقب ذلك القضاء، وقد نقل ابن كثير عن عطاء أنّه قال في هذه الآية: إنها مثل، ولعل مراده أنها مثل في تكوينه تعالى أمة قوية تقهر وتغلب وتسوس غيرها بعد بلوغها غاية الضعف والخمول، فكان حياتها وموتها تمثيلا لحالتيها قبل وبعد، فيكون إشعارا بما ستصير إليه العرب من القوة العظيمة والمدينة الفخيمة، وتنبيها على أن الوصول إلى ذلك إنما يكون بجهاد الظالمين واتفاق المتقين على دحر المتغلبين الباغين.

9. لا خفاء في أن ما قصّ من حوادث الإسرائيليين كان معروفا في الجملة لمخالطة اليهود للعرب في قرون كثيرة، قال وليّ الله الدهلويّ في (الفوز الكبير): واختار سبحانه في تنزيله من أيام الله، يعني الوقائع التي أحدثها الله سبحانه وتعالى، كإنعام المطيعين وتعذيب العصاة، ما قرع سمعهم، وذكر لهم إجمالا مثل قصص قوم نوح وعاد وثمود، وكانت العرب تتلقاها أبا عن جد، ومثل قصص سيدنا إبراهيم وأنبياء بني إسرائيل فإنها كانت مألوفة لأسماعهم لمخالطة اليهود العرب في قرون كثيرة، وانتزع من القصص المشهورة جملا تنفع في تذكيرهم، ولم يسرد القصص بتمامها مع جميع خصوصياتها، والحكمة في ذلك أن العوام إذا سمعوا القصص النادرة غاية الندرة، أو استقصى بين أيديهم ذكر الخصوصيات، يميلون إلى القصص نفسها ويفوتهم التذكر الذي هو الغرض الأصلي فيها، ونظير هذا الكلام ما قاله بعض العارفين: إن الناس لما حفظوا قواعد التجويد شغلوا عن الخشوع في التلاوة.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/174.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ تعجيب من القصَّة، والرؤية علميَّة بمعنى الإدراك، مضمِّنًا معنى الوصول والانتهاء؛ ولذا عدَّاه بـ (إِلَى)، أو بَصَريَّة مجاز عن النظر للحثِّ على الاعتبار؛ لأنَّ النظر اختياريٌّ دون الإدراك؛ وقد تعدَّى هذا أيضًا بنفسه في قوله:

çألم ترياني كلَّما جئت زائرًا...وجدتُ بها طَيْبًا، وإن لم تطيِّبé

وروي (طارقًا)، والخطاب له صلّى الله عليه وآله وسلّم ولو لم يعلمها قبل، أو لمن يصلح للخطاب ولو لم يعلمها، فيكون إيجازًا معنويًّا أفاد الإعلام، كقولك لمن لم يعلم بمجيء زيد وأردت إخباره: ألم تعلم أنَّ زيدًا جاء؟، أو إخبار لمن علم تشبيهًا لمن لم يعلم بها بحال من علم من حيث إنَّه ينبغي أن لا تخفى عليه وأن يتعجَّب، كأنَّها مَثَلٌ ظاهر مضروب مشهور لا يخفى.

2. ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾ إلى قصَّة الذين ﴿خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ﴾ (داوردان)، قِبَل واسط، هاربين من طاعون، أو هم قوم أمرهم السلطان بالجهاد من بني إسرائيل، ففرُّوا حذر الموت ﴿وَهُمُ إُلُوفٌ﴾ سبعون أو أربعون أو ثلاثون أو عشرة كما هو جمع كثرة، أو تسعة أو ثمانية أو أربعة استعمالاً لجمع الكثرة في القلَّة، وذلك من العدد جمع ألف، بفتح الهمزة، وقيل: من الألفة ضدَّ الوحشة، لا من العدد والمفرد إِلف ـ بكسر الهمزة ـ كصِنف وصنوف، أو ءَالِف ـ بهمزةٍ فَأَلِفٍ ـ كشاهد وشهود، أي: وهم متآلفون، وهو ضعيف، لأنَّ المقام للقدرة على إماتة العدد الكثير مرَّة وإحيائهم مرَّة كذلك، لا للتفريق بين المتآلفين بإماتتهم.

3. ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ بالطاعون أو القتال، ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا﴾ فماتوا كما يدلُّ له أمره التكوينيُّ، فإنَّه لا يتخلَّف، وكما يدلُّ له ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمُ﴾ وذلك عبارة عن تعلُّق الإرادة بموتهم دفعة، أو لموتهم بموتة نفس واحدة بلا علَّة، أو قال لهم مَلَكٌ عن الله.

4. وعن السُّدِّيِّ: ناداهم مَلَكان، وذلك إماتة بدون ملك الموت، أو به بإِقدار الله له، أو بأعوان، ففي كلِّ ساعة من أيَّام الدنيا يموت مقدار ذلك أو أقلُّ أو أكثر، من مطلق الحيوان: الجنِّ والإنس والدَّوابِّ وسائر ما فيه روح، ويقال: ناداهم مَلَكٌ ـ جبريل أو إسرافيل أو غيرهما ـ : موتوا، والظاهر أنَّهم ماتوا بلا وجع أو بوجع خفيف، والله قادر أن يموتوا بوجع كالمتطاول في لحظة، وذلك أنَّهم ماتوا موتة يرجعون بعدها إلى الدنيا ويكلَّفون فيها كما قبل الموت، وهو موت عقوبة وخرق عادة، وقيل: ذلك غير موت، بل سلب روح سلبا أعظم من سلب النوم، وسمَّاه موتًا مجازًا، ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُم﴾ بعد ثمانية أيَّام أو بعد ما صاروا عظاما أو عجَّل الله بإبلائهم، فقد ماتوا مرَّتين كما قال: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ والأولى: عقوبة، ولله أن يفعل ما شاء.

5. مرَّ حزقيل ـ بالحاء أو بالهاء وكسرهما ـ ويقال له: ابن العجوز، إِذْ سألت أمُّه الله الولد بعد عقمها بالكبر فوهبه لها، وقيل: مرَّ شمويل، وسمِّي ذا الكفلين، لأنَّه تكفَّل بتنجية سبعين نبيئًا من القتل، وهو خليفة ثالث بعد يوشع، ثمَّ كالب بعد موسى عليهم السلام، وقيل مرَّ يوشع، وقيل: شمعون عليهم وهم موتى متفرِّقو اللُّحوم والعظام وتفكَّر وبكى، وقال: يا ربِّ كنتُ في قوم يحمدونك ويسبِّحونك ويقدِّسونك ويكبِّرونك ويهلِّلونك فبقيت وحدي، فأَوحى الله إليه: نادِهِمْ، فنادى فقاموا يقولون: (سبحانك اللهمَّ وبحمدك لا إله إِلَّا أنت)، ويقال: أمره الله أن يناديَهم: (أيَّتها العظام، إنَّ الله أمرك أن تجتمعي)، فنادى فاجتمعت والتزقت، وأمره أن ينادي: إنَّ الله أمرك أن تكتسي لحما، فنادى فاكتست، وأمره أن ينادي: إنَّ الله أمرك أن تقومي فقاموا أحياء إلى بلادهم.

6. ﴿إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ فيجب عليهم شكره على فضله، كإحياء هؤلاء بعد موتهم ليعتبروا ويفوزوا بالسَّعادة العظمى، وكمن سمع بإِحيائِهم واعتبر، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ بل يكفرون بفسقٍ، وبه وبشركٍ، والمشركون أكثر من الموحِّدين، وقد انضمَّ إليهِم من كفر بالجارحة أيضًا.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/91.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر تعالى من الأحكام ما ذكر في الآيات السابقة، قفى عليه بذكر بعض أخبار الماضين لأجل العظة والاعتبار بما تتضمنه الوقائع والآثار، كما هي سنة القرآن، في تنويع التذكير والبيان، بل الانتقال هنا إنما هو من الأحكام مسرودة مع بيان حكمتها، والتنبيه لفائدتها، إلى حكم سبقته حكمته، وتقدمته فائدته، في ضمن واقعة مضت زيادة في البصيرة ومبالغة في الحمل على الاعتبار، وهو حكم القتال في سبيل الله، ويتلوه حكم بذل المال في سبيله.

2. الأحكام السابقة تتعلق بالأشخاص في أنفسهم وبيوتهم، وهذان الحكمان في أمر عام يتعلق بالأمم من حيث حفظ وجودها، ودوام استقلالها، بمدافعة المعتدين عنها، وبذل الروح والمال في حفظ مصالحها، وتوفير منافعها؛ ولذلك كان الأسلوب أشد تأثيرا، وأعظم تذكيرا؛ لأن الإشارة في سياق التذكير بمنافع الشخص ومصالحه في نفسه وفيمن يتصل به كافية للتذكر والعمل بما يوعظ به لموافقة ذلك لهواه، فلها من النفس عون لا يغيب، ووازع لا يعصى، وأما المصالح العامة فإنه لا يفطن لها ولا يرغب فيها إلا الأقلون، فالعناية بالدعوة إليها يجب أن تكون بمقدار بعد الجماهير عنها، فمن ثم جاءت هذه الآيات ببيان أجلى وأسلوب أفعل وأقوى، كما ستعلم تفسيرها عن محمد عبده، لا عن القصاصين وأصحاب الأوهام.

3. رووا في قصة ﴿الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ روايات من الإسرائيليات التي ولع بها المفسرون وكلفوا بتطبيق كتاب الله تعالى عليها، أشهرها أبعدها عن السياق وهي رواية السدي قال: كانت قرية وقع فيها الطاعون وهرب عامة أهلها والذين بقوا مات أكثرهم، وبقي قوم منهم في المرض والبلاء، ثم بعد ارتفاع المرض والطاعون رجع جميع الذين هربوا سالمين، فقال من بقي من المرضى: هؤلاء أحرص منا، لو صنعنا ما صنعوا لنجونا من الأمراض والآفات، ولئن وقع الطاعون ثانيا لنخرجن كما خرجوا، فوقع وهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفا، فلما خرجوا من ذلك الوادي ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه: أن موتوا، فهلكوا وبليت أجسامهم، فمر بهم نبي يقال له: حزقيل، فلما رآهم وقف عليهم وتفكر فيهم؛ فأوحى الله تعالى إليه (أتريد أريك كيف أحييهم)؟ فقال: نعم، فقيل له ناد: أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي، فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض حتى تمت العظام، ثم أوحى الله تعالى إليه ناد: أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحما ودما، فصارت لحما ودما، ثم ناد: إن الله يأمرك أن تقومي، فقامت، فلما صاروا أحياء قاموا، وكانوا يقولون: سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت، ثم رجعوا إلى قريتهم بعد حياتهم وكانت أمارات أنهم ماتوا في وجوههم، ثم بقوا إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم.

4. على هذه الرواية اقتصر الجلال مع علمه بأن السدي هذا هو محمد بن مروان الكوفي المفسر الكذاب كما قال ابن جرير وغيره ـ وليس هو إسماعيل السدي التابعي الذي وثقه أحمد وضعفه ابن معين ـ

5. ذكر في عددهم أقوالا أقلها أربعة آلاف وأكثرها سبعون ألفا، وأنهم عاشوا دهرا، عليهم أثر الموت، لا يلبسون ثوبا إلا عاد كالكفن، واستمرت في أسباطهم!

6. وهناك رواية أخرى: وهي أن ملكا من ملوك بني إسرائيل استنفر عسكره للقتال فأبوا لأن الأرض التي دعوا إلى قتالها موبوءة، فأماتهم الله ثمانية أيام حتى انتفخوا وعجز بنو إسرائيل عن دفنهم فأحياهم الله تعالى وبقي فيهم شيء من ذلك النتن، وفي بعض القصص أن ذلك انتقل إلى ذريتهم وسيبقى فيهم حتى ينقرضوا! وقلما نجد في العلماء من ينبه الناس لهذه الأكاذيب.

7. الرواية الثالثة: هي أن حزقيل النبي عليه السلام ندب قومه إلى القتال فكرهوا وجبنوا، فأرسل الله عليهم الموت فكثر فيهم فخرجوا من ديارهم فرارا منه، فدعا عليهم نبيهم فأرسل الله الموت على الخارجين، ثم ضاق صدره فدعا الله فأحياهم، ولكن هذا لم يذكر في نبوة حزقيل من كتب العهد العتيق ولا في غيرها.

8. إذا علمت هذا فألق السمع إلى ما نرويه لك عن محمد عبده، وتدبر ما فيه من حقائق علم الاجتماع في القرآن؛ لتعلم أن حقائق هداية كتاب الله يتجلى منها في كل عصر للعارفين بالله ما لم يتجل لسواهم، وأنه الكتاب الذي لا تنتهي هدايته ولا تنفد معارفه، وأن هذه الأمة كالمطر قد يكون في آخره من الخير والبركة ما لم يكن في أوله كما روي في الحديث الصحيح.

9. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ الاستفهام هنا للتعجيب والعبرة، والخطاب لكل من بلغه، والرؤية بمعنى العلم، والعبارة استعملت استعمال المثل، فهي توجه إلى من لم ير ولم يعلم ذلك، والتقدير: ألم ينته علمك أيها المخاطب إلى حال هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾؟ فإن حالهم عجيبة من حقها ألا تجهل، فإنهم في كثرتهم أحقاء بأن يكون لهم من الشجاعة ما يربأ بهم عن الخروج من وطنهم حذرا من الموت.

10. قال محمد عبده في هذا المثل ما مثاله: وفي تفسير ابن كثير، عن ابن جريج، عن عطاء أن هذا مثل؛ أي: لا قصة واقعة، أطلق القرآن القول في هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم ولم يعين عددهم ولا أمتهم ولا بلدهم، ولو علم لنا خيرا في التعيين والتفصيل لتفضل علينا بذلك في كتابه المبين، فنأخذ القرآن على ما هو عليه، لا ندخل فيه شيئا من الروايات الإسرائيلية التي ذكروها، وهي صارفة عن العبرة لا مزيد كمال فيها، والمتبادر من السياق أن أولئك القوم قد خرجوا من ديارهم بسائق الخوف من عدو مهاجم لا من قلتهم، فقد كانوا ألوفا؛ أي: كثيرين، وإنما هو الحذر من الموت الذي يولده الجبن في أنفس الجبناء فيريهم أن الفرار من القتال هو الواقي من الموت، وما هو إلا سبب الموت بما يمكن الأعداء من رقاب أهله، قال أبو الطيب:

çيرى الجبناء أن الجبن حزم ... وتلك خديعة الطبع اللئيمé

11. قال محمد عبده في قول الجلال إن الاستفهام بها استفهام تعجيب وتشويق؛ أي: إن الاستفهام الحقيقي ممتنع من الله تعالى؛ ولذلك كان أكثر استفهام القرآن للإنكار أو للتقرير، ولكن الاستفهام هنا لشيء آخر وهو ما يحدث العجب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم ويوجب الشوق له إلى ما يقص عليه، والمعنى ألم ينته علمك إلى حال هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم إلخ؟ والرؤية بمعنى العلم يمتنع أن تكون بصرية، ولم يقل: ألم تعلم للإشعار بأن الأمر المحكي عنه قد انتهى في الوضوح والتحقق إلى مرتبة المرئي.

12. ولا يشترط أن تكون القصة في مثل هذا التعبير واقعة، بل يصح مثله في القصص التمثيلية، إذ يراد أن من شأن مثلها في وضوحه أن يكون معلوما حتى كأنه مرئي بالعينين.

13. ومنه ما نبهنا عليه من الفرق بين العطف بالفاء وبثم، وقد قالوا: إن العطف في قوله تعالى: ﴿وَقَاتَلُوا﴾ للاستئناف؛ لأن الجملة المبدوءة بالواو هنا جديدة لا تشارك ما قبلها في إعرابه ولا في حكمه الذي يعطيه العطف، قال محمد عبده: وهذا لا يمنع أن يكون بين الجملة المبدوءة بواو الاستئناف وبين ما قبلها تناسب وارتباط في المعنى غير ارتباط العطف والمشاركة في الإعراب كما هو الشأن هنا؛ فإن الآية الأولى مبينة لفائدة القتال في الدفاع عن الحق أو الحقيقة، والثانية آمرة به بعد تقرير حكمته وبيان وجه الحاجة إليه، فالارتباط بينهما شديد الأواخي، لا يعتريه التراخي.

14. خرجوا فارين ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾ أي: أماتهم بإمكان العدو منهم، فالأمر أمر التكوين لا أمر التشريع؛ أي: قضت سنته في خلقه بأن يموتوا بما أتوه من سبب الموت، وهو تمكين العدو المحارب من أقفائهم بالفرار، ففتك بهم وقتل أكثرهم، ولم يصرح بأنهم ماتوا؛ لأن أمر التكوين عبارة عن مشيئته سبحانه فلا يمكن تخلفه، وللاستغناء عن التصريح بقوله بعد ذلك: ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ وإنما يكون الإحياء بعد الموت.

15. الكلام في القوم لا في أفراد لهم خصوصية؛ لأن المراد بيان سنته تعالى في الأمم التي تجبن فلا تدافع العادين عليها، ومعنى حياة الأمم وموتها في عرف الناس جميعهم معروف، فمعنى موت أولئك القوم هو أن العدو نكل بهم فأفنى قوتهم، وأزال استقلال أمتهم، حتى صارت لا تعد أمة، بأن تفرق شملها، وذهبت جامعتها، فكل من بقي من أفرادها خاضعين للغالبين ضائعين فيهم، مدغمين في غمارهم، لا وجود لهم في أنفسهم، وإنما وجودهم تابع لوجود غيرهم، ومعنى حياتهم هو عود الاستقلال إليهم؛ ذلك أن من رحمة الله تعالى في البلاء يصيب الناس، أنه يكون تأديبا لهم، ومطهرا لنفوسهم مما عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة، أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الجبن والخوف والفشل والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها، فجمعوا كلمتهم، ووثقوا رابطتهم، حتى عادت لهم وحدتهم قوية فاعتزوا وكثروا إلى أن خرجوا من ذل العبودية التي كانوا فيها إلى عز الاستقلال، فهذا معنى حياة الأمم وموتها، يموت قوم منهم باحتمال الظلم، ويذل الآخرون حتى كأنهم أموات، إذ لا تصدر عنهم أعمال الأمم الحية، من حفظ سياج الوحدة، وحماية البيضة، بتكافل أفراد الأمة ومنعتهم فيعتبر الباقون فينهضون إلى تدارك ما فات، والاستعداد لما هو آت، ويتعلمون من فعل عدوهم بهم كيف يدفعونه عنهم، قال علي كرم الله وجهه: (إن بقية السيف هي الباقية)؛ أي: التي يحيا بها أولئك الميتون، فالموت والإحياء واقعان على القوم في مجموعهم على ما عهدنا في أسلوب القرآن، إذ خاطب بني إسرائيل في زمن تنزيله بما كان من آبائهم الأولين بمثل قوله: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [البقرة: 49] وقوله: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ وغير ذلك، وقلنا: إن الحكمة في هذا الخطاب تقرير معنى وحدة الأمة وتكافلها، وتأثير سيرة بعضها في بعض حتى كأنها شخص واحد، وكل جماعة منها كعضو منه، فإن انقطع العضو العامل لم يكن ذلك مانعا من مخاطبة الشخص بما عمله قبل قطعه، وهذا الاستعمال معهود في سائر الكلام العربي، يقال: هجمنا على بني فلان حتى أفنيناهم أو أتينا عليهم، ثم أجمعوا أمرهم وكروا علينا ـ مثلا ـ وإنما كر عليهم من بقي منهم.

16. إطلاق الحياة على الحالة المعنوية الشريفة في الأشخاص والأمم، والموت على مقابلها معهود كقوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم﴾، وقوله: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ الآية، وانظر إلى دقة التعبير في عطف الأمر بالموت على الخروج من الديار بالفاء الدالة على اتصال الهلاك بالفرار من العدو، وإلى عطفه الإخبار بإحيائهم بـ ﴿ثُمَّ﴾ الدالة على تراخي ذلك وتأخره؛ ولأن الأمة إذا شعرت بعلة البلاء بعد وقوعه بها وذهابه باستقلالها فإنه لا يتيسر لها تدارك ما فات إلا في زمن طويل.

17. ما قرره محمد عبده هو ما يعطيه النظم البليغ وتؤيده السنن الحكيمة، وأما الموت الطبيعي فهو لا يتكرر كما علم من سنة الله ومن كتابه إذ قال: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى﴾ وقال: ﴿وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ ولذلك أول بعضهم الموت هنا بأنه نوع من السكتة والإغماء الشديد لم تفارق به الأرواح أبدانها، وقد قال بعد ما قرره: هذا هو المتبادر فلا نحمل القرآن ما لا يحمل لنطبقه على بعض قصص بني إسرائيل، والقرآن لم يقل إن أولئك الألوف منهم كما قال في الآيات الآتية وغيرها، ولو فرضنا صحة ما قالوه من أنهم هربوا من الطاعون، وأن الفائدة في إيراد قصتهم بيان أنه لا مفر من الموت؛ لما كان لنا مندوحة عن تفسير إحيائهم بأن الباقين منهم تناسلوا بعد ذلك وكثروا، وكانت الأمة بهم حية عزيزة؛ ليصح أن تكون الآية تمهيدا لما بعدها مرتبطة به، والله تعالى لا يأمرنا بالقتال لأجل أن نقتل ثم يحيينا، بمعنى أنه يبعث من قتل منا بعد موتهم في هذه الحياة الدنيا.

18. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ كافة بما جعل في موتهم من الحياة، إذ جعل المصائب والعظائم محيية للهمم والعزائم كما جعل الهلع والجبن وغيرهما من الأخلاق التي أفسدها الترف والسرف من أسباب ضعف الأمم، وجعل ضعف أمة مغريا لأمة قوية بالوثبان عليها، والاعتداء على استقلالها، وجعل الاعتداء منبها للقوى الكامنة في المعتدى عليه، وملجئا له إلى استعمال مواهب الله فيما وهبت لأجله حتى تحيا الأمم حياة عزيزة، ويظهر فضل الله تعالى فيها.

19. قال محمد عبده: المراد بالفضل هنا الفضل العام، وهو أنه تعالى جعل إماتة الناس بما يسلط على الأمة من الأعداء ينكلون بها بمثابة هدم البناء القديم المتداعي والضرورة قاضية ببنائه، فلا جرم تنبعث الهمة إلى هذا البناء الجديد فيكون حياة جديدة للأمة، تفسد أخلاق الأمم فتسوء الأعمال، فيسلط الله على فاسدي الأخلاق النكبات ليتأدب الباقي منهم فيجتهدوا في إزالة الفساد، وإدالة الصلاح، ويكون ما هلك من الأمة بمثابة العضو الفاسد المصاب (بالغنغرينا) يبتره الطبيب ليسلم الجسد كله، ومن لا يقبل هذا التأديب الإلهي فإن عدل الله في الأرض يمحقه منها ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ فهذه سنة من سنن الاجتماع بينها القرآن وكان الناس في غفلة عنها، ولهذا قال: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ أي: لا يقومون بحقوق هذه النعمة، ولا يستفيدون من بيان هذه السنة؛ أي هذا شأن أكثر الناس في غفلتهم وجهلهم بحكمة ربهم، فلا تكونوا كذلك أيها المؤمنون، بل اعتبروا بما نزل عليكم وتأدبوا به لتستفيدوا من كل حوادث الكون، حتى مما ينزل بكم من البلاء إذا وقع منكم تفريط في بعض الشئون.

20. الجبن عن مدافعة الأعداء، وتسليم الديار بالهزيمة والفرار، هو الموت المحفوف بالخزي والعار، وأن الحياة العزيزة الطيبة هي الحياة الملية المحفوظة من عدوان المعتدين، فلا تقصروا في حماية جامعتكم في الملة والدين.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/455.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن ذكر سبحانه الأحكام الماضية وقرنها بعللها وأسبابها، وفوائدها ومنافعها، ووجّه أنظار المخاطبين عقب كل منها إلى الخوف والخشية من الربّ الخالق لكل شيء العليم بكل شيء ـ قفى هذا بذكر بعض الأخبار عمن سلف من الأمم للعبرة والعظة في سياق واقعة مصت تنويعا في التذكير والبيان.

2. الأحكام السالفة تتعلق بالأفراد في أنفسهم وفي بيوتهم، والحكمان الآتيان يتعلقان بالأمم من ناحية الدفاع عن استقلالها وحفظ كيانها بمدافعة المعتدين عليها، وبذل المال والروح في توفير منافعها، وجلب الخير لها.

3. جرت العادة بأن التذكير بمنافع الشخص ومصالحه كافية في العمل بما يوعظ به، إذ أنها وفق ما يهوى، فلها في النفس عون أيّما عون، أما المصالح العامة فالرغبة فيها قليلة، فتحتاج إلى العناية في الدعوة إليها وتكرار الطلب لها، ومن ثم جاءت هذه الآية على هذا النسق الرائع، والأسلوب الخلاب، لتدعو المخاطبين إلى تلبية الدعوة، والقيام بما يجب من النصرة، فتكون المصلحة العامة صنو المنفعة الخاصة، وما يحفظ بقاء الجماعة عدل ما يحفظ نظام الفرد والأسرة.

4. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ الخطاب في نحو هذا يوجه إلى كل من بلغه وسمعه، والاستفهام للتعجيب والاعتبار، والرؤية بمعنى العلم، وهذا أسلوب جار مجرى المثل يخاطب به من لم يرو من لم يعلم، ويراد معنى ـ ألم ينته علمك إلى كذا، والمقصد هنا ـ ألم يصل إلى علمك حال هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وحالهم بلغت من العجب مبلغا لا ينبغي لمثلها أن تجهل ـ إذ هم قوم بلغوا حدّا من الكثرة التي تدعو إلى الشجاعة واطمئنان النفس والدفاع عن الحمى، لا إلى الهلع والجزع وخور العزيمة والهرب من الوطن خوفا من الموت بمهاجمة الأعداء، وهذا هو الخوف والحذر الذي يولده الجبن في أنفس الجبناء، فيخيل إليهم أن الفرار من القتال هو الواقي من الموت، وما هو إلا وسيلة تدني إليه، فهو يمكّن العدوّ من الرقاب، ويحفزه إلى الفتك بهم، استهانة بأمرهم كما قال المتنبي:

çيرى الجبناء أن الجبن حزم‏...وتلك خديعة الطبع اللئيم‏é

5. الكتاب الكريم لم يبين لنا عدد هؤلاء القوم ولا أمتهم، ولا بلدهم، ولو علم أن في ذلك خيرا لنا لتفضل علينا ببيانه في محكم كتابه فنكتفى بما فيه، ولا ندخل في تفاصيل ذكرت في الإسرائيليات، هي إلى الأوهام والخرافات أقرب منها إلى الحقائق التي تصلح للعبرة، وتكون وسيلة إلى الموعظة.

6. يرى جمع من المفسرين منهم ابن كثير بسنده عن ابن جرير وعطاء ـ أن هذا مثل لا قصة واقعة، ضرب للعظة والتأمل فيما ينطوي عليه، ليكون أفعل في النفس وأدعى إلى الزجر.

7. ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ أي خرجوا هاربين فأماتهم الله، بأن مكن منهم العدوّ ففتك بهم، وقتل أكثرهم وفرّق شملهم، وأصبح من بقي منهم خاضعا للغالب، منضويا تحت لوائه، يصرّف بحسب إرادته ولا وجود له في نفسه، ثم أحياهم بعود الاستقلال إليهم، بعد أن جمعوا كلمتهم، ووثقوا رابطتهم، واعتزوا وكثروا، وخرجوا من ذلّ العبودية إلى رياض الحرية، وكان ما أصابهم من البلاء تأديبا لهم ومطهرا لنفوسهم مما عرض لهم من ذميم الأخلاق ورذيل السجايا.

8. جرت سنة الله في خلقه أن تموت الأمم باحتمالها الظلم، وقبولها الجور والعسف، حتى إذا أفاقت من سباتها وتنبهت من غفلتها، قام بعض أفرادها بتدارك ما فات، والاستعداد لما يرقى شأنها، وتبذل في ذلك كل مرتخص وغال، وتتلمس كل الوسائل التي تحقق لها ما تصبو إليه، ولا يصدها عن ذلك ما يحول دونها من العوائق حتى تفوز ببغيتها وتنال أمنيتها، ومن ثم أثر عن علىّ كرم الله وجهه أنّه قال: (بقية السيف هي الباقية)، أي هي التي يحيا بها أولئك الميتون، وعلى هذا فالموت والحياة واقعان على القوم في مجموعهم على ما عهد في أسلوب القرآن، إذ خاطب بنى إسرائيل في زمن التنزيل بما كان من آبائهم الأولين بمثل قوله: ﴿وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾

9. سر هذا تقرير وحدة الأمة وتكافلها، وتأثير سيرة بعض أفرادها في بعض حتى كأنها شخص واحد، وكل جماعة منها كعضو فيه، وهذا استعمال معهود في كلام العرب يقولون هجمنا على بنى فلان حتى أفنيناهم، ثم أجمعوا أمرهم وكرّوا علينا، ولا شك أن الذي كر إنما هو من بقي منهم.

10. إطلاق الحياة على حال الأمة المعنوية الشريفة في الأشخاص والأمم، والموت على مقابلها، معهود في القرآن كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾

11. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ [غافر: 61] جميعا بما جعل في موتهم من الحياة، فقد جعل المصائب محيية للهمم، كما جعل الجبن والهلع وغيرهما من مفاسد الأخلاق سببا في ضعف الأمم، وجعل ضعفها مغريا للقوى بالاعتداء عليها، وجعل هذا الاعتداء منبها لها إلى اليقظة بعد السّبات العميق، حتى تحيا وتكون أمة عزيزة مرهوبة الجانب، قوية البطش والشوكة.

12. الخلاصة ـ إن إماتة الأمة إنما تكون بتسليط الأعداء عليها، والتنكيل بها، وإحياءها يكون بإحياء نابتة من أبنائها تستردّ ذلك المجد الضائع، والشرف المسلوب، كالبنيان القديم الذي تقضى الضرورة بإزالته، وإقامة بناء جديد تدعو الحاجة إلى عمل مثله، أو كالعضو الفاسد الذي يبتره الطبيب ليسلم الجسد كله.

13. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ أي لا يقومون بحقوق هذه النعم، بل هم في غفلة من حكمة ربهم، فينبغي للمؤمنين أن يعتبروا بما نزل بغيرهم، ويستفيدوا من حوادث الكون، حتى إذا نزل بهم البلاء بما يقع منهم من التفريط، لم يقصروا في حماية أنفسهم، علما منهم بأن الحياة العزيزة لا تكون إلا بدفع المعتدى، ومقاومة عدوانه.

14. هذا خلاصة ما اختاره محمد عبده تفسيرا للآية، واختار غيره أن الآية تشير إلى قوم بأعيانهم خرجوا من ديارهم، ورووا عن ابن عباس أن ملكا من ملوك بنى إسرائيل استنفر عسكره للقتال فأبوا وقالوا: إن الأرض التي سنذهب إليها موبوءة، فدعنا حتى يزول الوباء، فأماتهم الله ثمانية أيام حتى انتفخوا، وعجز بنو إسرائيل عن دفنهم لكثرتهم، فأحياهم الله وقد بقي منهم شيء من ذلك النّتن وقالوا إن هذا الموت لم يكن كالموت الذي يكون وراءه الحياة للبعث والنشور، وإنما هو نوع انقطاع لتعلق الروح بالجسد بحيث لا يلحقه التغيير والفساد، وهو فوق داء السكتة والإغماء الشديد، حتى لا يشك الرائي الحاذق لو رآه بأنه موت حقيقي، وقيل إنه من خوارق العادات، فلا يجرى على سنن الموت الطبيعية.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/207.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ندرك قيمة هذا الدرس، وما يتضمنه من تجارب الجماعات السابقة والأمم الغابرة، حين نستحضر في أنفسنا أن القرآن هو كتاب هذه الأمة الحي؛ ورائدها الناصح؛ وأنه هو مدرستها التي تلقت فيها دروس حياتها، وأن الله ـ سبحانه ـ كان يربي به الجماعة المسلمة الأولى التي قسم لها إقامة منهجه الرباني في الأرض، وناط بها هذا الدور العظيم بعد أن أعدها له بهذا القرآن الكريم، وأنه تعالى أراد بهذا القرآن أن يكون هو الرائد الحي ـ الباقي بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم لقيادة أجيال هذه الأمة، وتربيتها، وإعدادها لدور القيادة الراشدة الذي وعدها به، كلما اهتدت بهديه، واستمسكت بعهدها معه، واستمدت منهج حياتها كله من هذا القرآن، واستعزت به واستعلت على جميع المناهج الأرضية، وهي بصفتها هذه، مناهج الجاهلية! إن هذا القرآن ليس مجرد كلام يتلى.. ولكنه دستور شامل.. دستور للتربية، كما أنه دستور للحياة العملية، ومن ثم فقد تضمن عرض تجارب البشرية بصورة موحية على الجماعة المسلمة التي جاء لينشئها ويربيها؛ وتضمن بصفة خاصة تجارب الدعوة الإيمانية في الأرض من لدن آدم عليه السلام وقدمها زادا للأمة المسلمة في جميع أجيالها، تجاربها في الأنفس، وتجاربها في واقع الحياة، كي تكون الأمة المسلمة على بينة من طريقها، وهي تتزود لها بذلك الزاد الضخم، وذلك الرصيد المتنوع.

2. من ثم جاء القصص في القرآن بهذه الوفرة، وبهذا التنوع، وبهذا الإيحاء.. وقصص بني إسرائيل هو أكثر القصص ورودا في القرآن الكريم، لأسباب عدة.. منها أن الله ـ سبحانه ـ علم أن أجيالا من هذه الأمة المسلمة ستمر بأدوار كالتي مر فيها بنو إسرائيل، وتقف من دينها وعقيدتها مواقف شبيهة بمواقف بني إسرائيل؛ فعرض عليها مزالق الطريق، مصورة في تاريخ بني إسرائيل، لتكون لها عظة وعبرة؛ ولترى صورتها في هذه المرآة المرفوعة لها بيد الله ـ سبحانه ـ قبل الوقوع في تلك المزالق أو اللجاج فيها على مدار الطريق!

3. إن هذا القرآن ينبغي أن يقرأ وأن يتلقى من أجيال الأمة المسلمة بوعي، وينبغي أن يتدبر على أنه توجيهات حية، تتنزل اليوم، لتعالج مسائل اليوم، ولتنير الطريق إلى المستقبل، لا على أنه مجرد كلام جميل يرتل؛ أو على أنه سجل لحقيقة مضت ولن تعود! ولن ننتفع بهذا القرآن حتى نقرأه لنلتمس عنده توجيهات حياتنا الواقعة في يومنا وفي غدنا؛ كما كانت الجماعة المسلمة الأولى تتلقاه لتلتمس عنده التوجيه الحاضر في شئون حياتها الواقعة.. وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي سنجد عنده ما نريد، وسنجد فيه عجائب لا تخطر على البال الساهي! سنجد كلماته وعباراته وتوجيهاته حية تنبض وتتحرك وتشير إلى معالم الطريق؛ وتقول لنا: هذا فافعلوه وهذا لا تفعلوه، وتقول لنا: هذا عدولكم وهذا صديق، وتقول لنا: كذا فاتخذوا من الحيطة وكذا فاتخذوا من العدة، وتقول لنا حديثا طويلا مفصلا دقيقا في كل ما يعرض لنا من الشئون.. وسنجد عندئذ في القرآن متاعا وحياة؛ وسندرك معنى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾.. فهي دعوة للحياة.. للحياة الدائمة المتجددة، لا لحياة تاريخية محدودة في صفحة عابرة من صفحات التاريخ.

4. هذا الدرس يعرض تجربتين من تجارب الأمم؛ يضمهما إلى ذخيرة هذه الأمة من التجارب؛ ويعد بهما الجماعة المسلمة لما هي معرضة له في حياتها من المواقف؛ بسبب قيامها بدورها الكبير، بوصفها وارثة العقيدة الإيمانية، ووارثة التجارب في هذا الحقل الخصيب:

أ. الأولى تجربة لا يذكر القرآن أصحابها؛ ويعرضها في اختصار كامل، ولكنه واف، فهي تجربة جماعة ﴿خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾.. فلم ينفعهم الخروج والفرار والحذر؛ وأدركهم قدر الله الذي خرجوا حذرا منه.. فقال لهم الله: ﴿مُوتُوا﴾.. ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾.. لم ينفعهم الجهد في اتقاء الموت، ولم يبذلوا جهدا في استرجاع الحياة، وإنما هو قدر الله في الحالين، وفي ظل هذه التجربة يتجه إلى الذين آمنوا يحرضهم على القتال، وعلى الإنفاق في سبيل الله، واهب الحياة، وواهب المال، والقادر على قبض الحياة وقبض المال.

ب. الثانية تجربة في حياة بني إسرائيل من بعد موسى.. بعد ما ضاع ملكهم، ونهبت مقدساتهم، وذلوا لأعدائهم، وذاقوا الويل بسبب انحرافهم عن هدي ربهم، وتعاليم نبيهم.. ثم انتفضت نفوسهم انتفاضة جديدة؛ واستيقظت في قلوبهم العقيدة؛ واشتاقوا القتال في سبيل الله، فقالوا: ﴿لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (2)

5. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ [البقرة: 243].. لا أحب أن نذهب في تيه التأويلات، عن هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.. من هم؟ وفي أي أرض كانوا؟ وفي أي زمان خرجوا؟... فلو كان الله يريد بيانا عنهم لبين، كما يجيء القصص‏ المحدد في القرآن، إنما هذه عبرة وعظة يراد مغزاها، ولا تراد أحداثها وأماكنها وأزمانها، وتحديد الأماكن والأزمان لا يزيد هنا شيئا على عبرة القصة ومغزاها.. إنما يراد هنا تصحيح التصور عن الموت والحياة، وأسبابهما الظاهرة، وحقيقتهما المضمرة؛ ورد الأمر فيهما إلى القدرة المدبرة، والاطمئنان إلى قدر الله فيهما، والمضي في حمل التكاليف والواجبات دون هلع ولا جزع، فالمقدر كائن، والموت والحياة بيد الله في نهاية المطاف.

6. يراد أن يقال: إن الحذر من الموت لا يجدي؛ وإن الفزع والهلع لا يزيدان حياة، ولا يمدان أجلا، ولا يردان قضاء؛ وإن الله هو واهب الحياة، وهو آخذ الحياة؛ وإنه متفضل في الحالتين: حين يهب، وحين يسترد؛ والحكمة الإلهية الكبرى كامنة خلف الهبة وخلف الاسترداد، وإن مصلحة الناس متحققة في هذا وذاك؛ وإن فضل الله عليهم متحقق في الأخذ والمنح سواء: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [غافر: 61].

7. إن تجمع هؤلاء القوم‏ ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ وخروجهم من ديارهم‏ ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾.. لا يكون إلا في حالة هلع وجزع، سواء كان هذا الخروج خوفا من عدو مهاجم، أو من وباء حائم.. إن هذا كله لم يغن عنهم من الموت شيئا: ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾.. كيف قال لهم؟ كيف ماتوا؟ هل ماتوا بسبب مما هربوا منه وفزعوا؟ هل ماتوا بسبب آخر من حيث لم يحتسبوا؟ كل ذلك لم يرد عنه تفصيل، لأنه ليس موضع العبرة، إنما موضع العبرة أن الفزع والجزع والخروج والحذر، لم تغير مصيرهم، ولم تدفع عنهم الموت، ولم ترد عنهم قضاء الله، وكان الثبات والصبر والتجمل أولى لو رجعوا لله.

8. ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾.. كيف؟ هل بعثهم من موت ورد عليهم الحياة؛ هل خلف من ذريتهم خلف تتمثل فيه الحياة القوية فلا يجزع ولا يهلع هلع الآباء؟.. ذلك كذلك لم يرد عنه تفصيل، فلا ضرورة لأن نذهب وراءه في التأويل، لئلا نتيه في أساطير لا سند لها كما جاء في بعض التفاسير.. إنما الإيحاء الذي يتلقاه القلب من هذا النص أن الله وهبهم الحياة من غير جهد منهم، في حين أن جهدهم لم يرد الموت عنهم.. إن الهلع لا يرد قضاء؛ وإن الفرع لا يحفظ حياة؛ وإن الحياة بيد الله هبة منه بلا جهد من الأحياء.. إذن فلا نامت أعين الجبناء!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/261.

(2) نقلنا بعض كلامه هنا إلى محله في الفصل الخاص بالقصة الثانية

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تختلف أقوال المفسرين اختلافا كبيرا في هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.. وفى الأمة التي ينتسبون إليها، وفى العصر الذي كانوا فيه، وفى الحدث الذي خرجوا من‏ أجله، وفى المعتقد الذي كانوا يعتقدونه.. إلى غير ذلك من وجوه الأقوال فيهم، والتي لا يجد المرء فيها ـ مجتمعة أو متفرقة ـ شيئا يستريح له، ويقف عنده!

2. وندع هذه الأقوال جميعها، لنأخذ بما يقع في وجداننا، ونحن نتلو الآية الكريمة، وما بعدها من آيات، فنقول إن كلمة (الذين) تجيء أكثر ما تجيء في القرآن الكريم مرادا بها جنسا خاصا من الناس، مثل: الذين آمنوا، والذين كفروا والذين جاهدوا، والذين صبروا:

أ. فهؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف لا بد أن يكونوا على صفة واحدة، اجتمعوا عليها، وعاشوا فيها.

ب. ثم إنهم من جهة أخرى ـ قد شملتهم حال واحدة، أحاطت بهم وعرضتهم للموت، فخرجوا من ديارهم طلبا للنجاة من وجه هذا الخطر الجاثم عليهم: ﴿خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ [البقرة: 243]

ج. ثم إنهم ـ من جهة ثالثة ـ خرجوا بتدبير من عند أنفسهم، وأنهم تركوا ديارهم خفية دون أن يشعر بهم العدو المتربّص بهم، وأنه لو كان هذا الخروج من عمل عدوهم لكان التعبير عن هذا الخروج بلفظ (أخرجوا) لا بلفظ خرجوا كما جاء به الخبر القرآني هذه دلالات ثلاث نجدها في الآية الكريمة.

3. نتفرس في وجوه الأحداث التي كانت تستدعيها الدعوة الإسلامية، وتقيم منها العبرة والعظة للمؤمنين، وفى الجماعة التي كانت مضرب المثل للمؤمنين ـ في الخير والشر ـ فنجد هذه الجماعة هي جماعة بنى إسرائيل‏ والحدث الذي يعطى هذه الدلالات، هو خروجهم من مصر على يد نبيّ الله موسى عليه السلام! فالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف إذن، على هذا التفسير ـ هم بنو إسرائيل.

أ. فهم الذين كانوا جماعة مستقلة بذاتها، متميزة بعاداتها وأوضاعها في المجتمع المصري.

ب. وهم ﴿الَّذِينَ﴾ [الماعون: 6] أخذهم فرعون بالبأساء والضراء، وأنزلهم منازل الهون والذلة: ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾ [القصص: 4]

ج. وهم ﴿الَّذِينَ﴾ [الماعون: 6] خرجوا بليل مستخفين تحت جنح الظلام، دون أن يشعر بهم فرعون وجنوده، إلا بعد أن قطعوا معظم الطريق، جادّين في الهرب: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ﴾ [الدخان: 23]، والآية القرآنية تقول: ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾.. ولا تحتاج الآية بعد هذا إلى شرح أو تأويل! وتقول الآية بعد ذلك: ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ [البقرة: 243]

4. سؤال وإشكال: هل كتب الله سبحانه وتعالى على هؤلاء القوم، الموت، بعد أن خرجوا من ديارهم، وهم ألوف، حذر الموت؟ والجواب: نعم، فإنه بعد أن خرج بنو إسرائيل من مصر، وبعد أن رأوا من آيات الله ما رأوا عادوا فكفروا بآيات الله وعبدوا العجل، واتخذوه إلها من دون الله، فكان أن عاقبهم الله بأن كتب عليهم التيه في الصحراء أربعين سنة، كما قال الله تعالى: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ [المائدة: 26].. وهذا موت أدبى ومادىّ معا.. فقد عزلهم الله بهذا التّيه عن الحياة، وعن المجتمع البشرى كله، لا يدرون أين هم في هذا القبر الكبير الذي أطبق عليهم، وسدّ دونهم منافذ الخروج منه! ثم تقول الآية الكريمة بعد هذا: ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ [البقرة: 243] أي قال لهم الله موتوا، فماتوا.. ثم أحياهم أي أخرجهم من هذا التيه، وبعثهم من هذا القبر المشتمل عليهم، بعد أن قضوا الأربعين سنة المحكوم عليهم بها.

5. تقول الآية في خاتمتها: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [غافر: 61] تنبيها لأولئك الغافلين عن نعم الله وأفضاله، ليقوموا بحق شكرها، بالإخبات لله والحمد له، ولكن أكثر الناس يجحدون بآيات الله ويكفرون بنعمه!

6. فى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [غافر: 61] تشنيع على بنى إسرائيل وإدانة لهم بأنهم استقبلوا نعم الله بالجحد والكفران.. كانوا في قبضة فرعون أمواتا أو كالأموات فأحياهم الله، إذ خلصهم من عدوهم، ولكنهم كفروا النعمة وجحدوا المنّة فأماتهم الله بالتيه في الصحراء أربعين سنة، ثم أحياهم إذ أخرجهم من هذا التّيه، فلم يكن منهم إلا الجحود والكفران.

7. هذا، ومورد الآية الكريمة هنا، أنها تمثل للمسلمين موقفا أشبه بالموقف الذي كانوا يقفونه يومئذ، وأنه إذا كان بنو إسرائيل قد مكروا بآيات الله وجحدوا فضله فليكن المسلمون على حذر من أن يضلوا كما ضل القوم، وأن يقعوا فيما وقعوا فيه!

8. الآية الكريمة نزلت في سورة البقرة التي كانت أول القرآن نزولا بعد الهجرة.. فهي تذكّر الرسول والمسلمين بأن قوما قبلهم قد خرجوا من ديارهم فرارا بأنفسهم من وجه الظلم والقهر والإذلال، كما خرج النبىّ‏ صلّى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون معه من ديارهم فرارا بدينهم، وأن يفتنهم المشركون فيه‏ ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾، وأن الله ـ سبحانه ـ الذي نجّى بنى إسرائيل من عدوهم سينجّى النبي وأصحابه من عدوّهم، وأنه كما أحيا هؤلاء القوم وحفظ عليهم حياتهم سيحيي المسلمين ويحفظ عليهم دينهم! ثم إنه سبحانه ـ وقد جحد بنو إسرائيل نعمته فرماهم في التيه ـ يرصد عقابه لكل من لا يشكر له، ويستقيم على طريقه القويم.. فليأخذ المسلمون العظة من هذا الحدث، وإلا صاروا إلى ما صار إليه هؤلاء القوم من فتنة وضلال!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/300.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ [البقرة: 243] استئناف ابتدائي للتحريض على الجهاد والتذكير بأن الحذر لا يؤخر الأجل، وأن الجبان قد يلقى حتفه في مظنة النجاة، وقد تقدم أن هذه السورة نزلت في مدة صلح الحديبية وأنها تمهيد لفتح مكة، فالقتال من أهم أغراضها، والمقصود من هذا الكلام هو قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الآية، فالكلام رجوع إلى قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216] وفصلت بين الكلامين الآيات النازلة خلالهما المفتتحة بـ ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾

2. موقع‏ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ قبل قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ موقع ذكر الدليل قبل المقصود، وهذا طريق من طرق الخطابة أن يقدم الدليل قبل المستدل عليه لمقاصد كقول علي في بعض خطبه‏ لما بلغه استيلاء جند الشام على أكثر البلاد، إذ افتتح الخطبة فقال: (ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها أنبئت بسر ـ هو ابن أبي أرطأة من قادة جنود الشام ـ قد اطلع اليمن، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم) فقوله: (ما هي إلا الكوفة) موقعه موقع الدليل على‏ قوله: (لأظن هؤلاء القوم‏)، وقال عيسى بن طلحة لما دخل على عروة بن الزبير حين قطعت رجل (ما كنا نعدك للصراع، والحمد لله الذي أبقى لنا أكثرك: أبقى لنا سمعك، وبصرك، ولسانك، وعقلك، وإحدى رجليك) فقدم قوله: ما كنا نعدك للصراع، والمقصود من مثل ذلك الاهتمام والعناية بالحجة قبل ذكر الدعوى تشويقا للدعوى، أو حملا على التعجيل بالامتثال.

3. تركيب (ألم تر إلى كذا) إذا جاء فعل الرؤية فيه متعديا إلى ما ليس من شأن السامع أن يكون رآه، كان كلاما مقصودا منه التحريض على علم ما عدي إليه فعل الرؤية، وهذا مما اتفق عليه المفسرون ولذلك تكون همزة الاستفهام مستعملة في غير معنى الاستفهام بل في معنى مجازي أو كنائي، من معاني الاستفهام غير الحقيقي، وكان الخطاب به غالبا موجها إلى غير معين، وربما كان المخاطب مفروضا متخيلا، ولنا في بيان وجه إفادة هذا التحريض من ذلك التركيب وجوه ثلاثة:

أ. الأول: أن يكون الاستفهام مستعملا في التعجب أو التعجيب، من عدم علم المخاطب بمفعول فعل الرؤية، ويكون فعل الرؤية علميا من أخوات ظن، على مذهب الفراء وهو صواب؛ لأن إلى ولام الجر يتعاقبان في الكلام كثيرا، ومنه قوله تعالى: ﴿وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ﴾ [النمل: 33] أي لك وقالوا: أحمد الله إليك كما يقال: أحمد لك الله والمجرور بإلى في محل المفعول الأول، لأن حرف الجر الزائد لا يطلب متعلقا، وجملة ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ في موضع الحال، سادة مسد المفعول الثاني، لأن أصل المفعول الثاني لأفعال القلوب أنه حال‏، على تقدير: ما كان من حقهم الخروج، وتفرع على قوله: ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ قوله تعالى: ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾ فهو من تمام معنى المفعول الثاني أو تجعل (إلى) تجريدا لاستعارة فعل الرؤية لمعنى العلم، أو قرينة عليها، أو لتضمين فعل الرؤية معنى النظر، ليحصل الادعاء أن هذا الأمر المدرك بالعقل كأنه مدرك بالنظر، لكونه بين الصدق لمن علمه، فيكون قولهم: ا لم تر إلى كذا في قوله: جملتين: ألم تعلم كذا وتنظر إليه.

ب. الثاني: أن يكون الاستفهام تقريريا فإنه كثر مجيء الاستفهام التقريري في الأفعال المنفية، مثل: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: 1] ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 106]، والقول‏ في فعل الرؤية وفي تعدية حرف (إلى) نظير القول فيه في الوجه الأول.

ج. الثالث: أن تجعل الاستفهام إنكاريا، إنكارا لعدم علم المخاطب بمفعول فعل الرؤية والرؤية علمية، والقول في حرف (إلى) نظير القول فيه على الوجه الأول، أو أن تكون الرؤية بصرية ضمن الفعل معنى تنظر على أن أصله أن يخاطب به من غفل عن النظر إلى شيء مبصر ويكون الاستفهام إنكاريا: حقيقة أو تنزيلا، ثم نقل المركب إلى استعماله في غير الأمور المبصرة فصار كالمثل، وقريب منه قول الأعشى: (ترى الجود يجري ظاهرا فوق وجهه)

4. استفادة التحريض، على الوجوه الثلاثة إنما هي من طريق الكناية بلازم معنى الاستفهام لأن شأن الأمر المتعجب منه أو المقرر به أو المنكور علمه، أن يكون شأنه أن تتوافر الدواعي على علمه، وذلك مما يحرض على علمه.

5. هذا التركيب جرى مجرى المثل في ملازمته لهذا الأسلوب، سوى أنهم غيروه باختلاف أدوات الخطاب التي يشتمل عليها من تذكير وضده، وإفراد وضده، نحو ألم ترى في خطاب المرأة وأ لم تريا وأ لم تروا وأ لم ترين، في التثنية والجمع هذا إذا خوطب بهذا المركب في أمر ليس من شأنه أن يكون مبصرا للمخاطب أو مطلقا.

6. اختلف في المراد من هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم، والأظهر أنهم قوم خرجوا خائفين من أعدائهم فتركوا ديارهم جبنا، وقرينة ذلك عندي قوله تعالى: ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ فإنه جملة حال وهي محل التعجيب، وإنما تكون كثرة العدد محلا للتعجيب إذا كان المقصود الخوف من العدو، فإن شأن القوم الكثيرين ألا يتركوا ديارهم خوفا وهلعا والعرب تقول للجيش إذا بلغ الألوف لا يغلب من قلة، فقيل هم من نبي إسرائيل خالفوا على نبي لهم في دعوته إياهم للجهاد، ففارقوا وطنهم فرارا من الجهاد، وهذا الأظهر، فتكون القصة تمثيلا لحال أهل الجبن في القتال، بحال الذين خرجوا من ديارهم، بجامع الجبن وكانت الحالة الشبه بها أظهر في صفة الجبن وأفظع، مثل تمثيل‏ حال المتردد في شيء بحال من يقدم رجلا ويؤخر أخرى، فلا يقال إن ذلك يرجع إلى تشبيه الشيء بمثله، وهذا أرجح الوجوه لأن أكثر أمثال القرآن أن تكون بأحوال الأمم الشهيرة وبخاصة بني إسرائيل.

7. قيل هم من قوم من بني إسرائيل من أهل داوردان قرب واسط فتكون القصة استعارة شبه الذين يجبنون عن القتال بالذين يجبنون من الطاعون، بجامع خوف الموت، والمشبهون يحتمل أنهم قوم من المسلمين خامرهم الجبن لما دعوا إلى الجهاد في بعض الغزوات، ويحتمل أنهم فريق مفروض وقوعه قبل أن يقع، لقطع الخواطر التي قد تخطر في قلوبهم.

8. في (تفسير ابن كثير) عن ابن جريج عن عطاء أن هذا مثل لا قصة واقعة، وهذا بعيد يبعده التعبير عنهم بالموصول وقوله تعالى: ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ﴾، وانتصب‏ ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ على المفعول لأجله، وعامله‏ ﴿خَرَجُوا﴾، والأظهر أنهم قوم فروا من عدوهم، مع كثرتهم، وأخلوا له الديار، فوقعت لهم في طريقهم مصائب أشرفوا بها على الهلاك، ثم نجوا، أو أوبئة وأمراض، كانت أعراضها تشبه أعراض الموت، مثل داء السكت ثم برؤوا منها فهم في حالهم تلك مثل قول الراجز:

çوخارج أخرجه حب الطمع‏...فرّ من الموت وفي الموت وقع‏é

ويؤيد أنها إشارة إلى حادثة وليست مثلا قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ [غافر: 61] الآية ويؤيد أن المتحدث عنهم ليسوا من بني إسرائيل قوله تعالى بعد هذه‏ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ [البقرة: 246] والآية تشير إلى معنى قوله تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾ [النساء: 78] ـ وقوله ـ ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ [آل عمران: 154]

9. أما الذين قالوا إنهم قوم من بني إسرائيل أحياهم الله بدعوة حزقيال، والذين قالوا إنما هذا مثل لا قصة واقعة، فالظاهر أنهم أرادوا الرؤيا التي ذكرت في كتاب حزقيال في الإصحاح 37 منه إذ قال: (أخرجني روح الرب وأنزلني في وسط بقعة ملآنة عظاما ومرّ بي من حولها وإذا هي كثيرة ويابسة فقال لي يا ابن آدم أتحيا هذه العظام؟ فقلت يا سيدي أنت تعلم، فقال لي تنبأ على هذه العظام وقل لها أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب، فتقاربت العظام، وإذا بالعصب واللحم كساها وبسط الجلد عليها من فوق وليس فيها روح فقال لي تنبأ للروح وقل قال الرب هلم يا روح من الرياح الأربع وهبّ على هؤلاء القتلى فتنبأت كما أمرني فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدا جدا) وهذا مثل ضربه النبي لاستماتة قومه، واستسلامهم لأعدائهم، لأنه قال بعده (هذه العظام وهي كل بيوت إسرائيل هم يقولون يبست عظامنا وهلك رجاؤنا قد انقطعنا فتنبأ وقل لهم قال السيد الرب ها أنا ذا أفتح قبوركم وأصعدكم منها يا شعبي وآتي بكم إلى أرض إسرائيل وأجعل روحي فيكم فتحيون) فلعل هذا المثل مع الموضع الذي كانت فيه مرائي هذا النبي، وهو الخابور، وهو قرب واسط، هو الذي حدا بعض أهل القصص إلى دعوى أن هؤلاء القوم من أهل داوردان: إذ لعل داوردان كانت بجهات الخابور الذي رأى عنده النبي حزقيال ما رأى.

10. ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ القول فيه إما مجاز في التكوين والموت حقيقة أي جعل فيهم حالة الموت، وهي وقوف القلب وذهاب الإدراك والإحساس، استعيرت حالة تلقي المكوّن لأثر الإرادة بتلقي المأمور للأمر، فأطلق على الحالة المشبهة المركب الدال على الحالة المشبّه بها على طريقة التمثيل، ثم أحياهم بزوال ذلك العارض فعلموا أنهم أصيبوا بما لو دام لكان موتا مستمرا، وقد يكون هذا من الأدواء النادرة المشبهة داء السكت وإما أن يكون القول مجازا عن الإنذار بالموت، والموت حقيقة، أي أراهم الله مهالك شموا منها رائحة الموت، ثم فرج الله عنهم فأحياهم، وإما أن يكون كلاما حقيقيا بوحي الله، لبعض الأنبياء، والموت موت مجازي، وهو أمر للتحقير شتما لهم، ورماهم بالذل والصغار، ثم أحياهم، وثبت فيهم روح الشجاعة.

11. المقصود من هذا موعظة المسلمين بترك الجبن، وأن الخوف من الموت لا يدفع الموت، فهؤلاء الذين ضرب بهم هذا المثل خرجوا من ديارهم خائفين من الموت، فلم يغن خوفهم عنهم شيئا، وأراهم الله الموت ثم أحياهم، ليصير خلق الشجاعة لهم حاصلا بإدراك الحس، ومحل العبرة من القصة هو أنهم ذاقوا الموت الذي فروا منه، ليعلموا أن الفرار لا يغني عنهم شيئا، وأنهم ذاقوا الحياة بعد الموت، ليعلموا أن الموت والحياة بيد الله، كما قال تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ﴾ [الأحزاب: 16]

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/454.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى أحكام الأسرة، والدعامة التي يقوم عليها بنيانها، والنظم التي تربط آحادها، وحقوق كل واحد فيها على سائرها فبين حق الزوج، وحق الولد، وما ينبغي لتستمر المودة الرابطة حال بقاء الزوجية وعند انتهائها ليكون حبل الوداد موصولا دائما، والأسرة هي بناء المجتمع الإنساني واللبنات التي يشاد منها صرح مجتمع فاضل؛ فالمجتمع القوى الفاضل لا يقوم إلا على دعائم من أسر قوية فاضلة؛ ففي الأسرة يتعلم الطفل مبادئ المجتمع المشترك المتحد المؤتلف، وفى الأسرة يسمو نزوعه المدنى إلى الاجتماع والائتلاف، ويتجه اتجاها مستقيما نحو أسمى الغايات الاجتماعية، وهو أن يكون امرأ يألف ويؤلف؛ وإن الأساس الحقيقي للاجتماع أن يكون آحاده ممن يألفون ويؤلفون؛ ولذلك قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن مألفة، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)

2. إن القادة والزعماء الذين يعدون أممهم للكفاح يبتدئون بالأسرة، فيحمونها ويقيمون دعائمها على أسس الخير وحب الاجتماع، والاستعداد للفداء في سبيله والنظم الاجتماعية التي جرب فيها محو الأسرة لتتربى الأمة على الكفاح ـ كنظام ليكورغ في أسبرطة ـ أدى إلى وجود شباب قد يكون قويا في جسمه، ولكن لا يمكن أن يكون قويا في خلقه وإيمانه بالفضيلة، والمثل العليا للمجتمع الفاضل الذي يحمى نفسه من ذرائع الانحلال في داخله، ويدرع بعدة القتال لحماية الحوزة ودفع الذل.

3. من أجل هذا كانت أحكام الأسرة بين أحكام الجهاد في القرآن؛ فقد سبق أحكام الأسرة كلام من الله تعالى في القتال وأعقبها دعوة وتحريض على الجهاد، وحث عليه بضرب الأمثال من الأمم السابقة، وكيف جاهدت في سبيل الحق، وانتصرت القلة مع إيمانها على الكثرة مع كفرها؛ وقد ابتدأ سبحانه وتعالى هذا بقوله تعالت كلماته: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ الاستفهام هنا يؤدى في مغزاه معنى التقرير والتثبت؛ وذلك لأنه للإنكار والنفي وقد دخل على منفى فنفى النفي وبذلك تقرر المعنى وثبت؛ لأن نفى النفي إثبات؛ فالمعنى قد رأيت ونظرت وعلمت، والخطاب عام لكل قارئ وسامع إلى يوم القيامة، والرؤية بمعنى العلم؛ فإن رأى تكون بمعنى علم وبمعنى أبصر، أو تكون دائما بمعنى أبصر، ولكن الإبصار قد يكون بالبصر، وقد يكون بالبصيرة فيكون علما؛ وقد تتضمن الرؤية معنى النظر وهو نظر بالبصيرة؛ ولأنها تضمنت معنى النظر قد تعدت بإلى، فقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ وقد ذكر الراغب الأصفهاني في مفرداته: أن رأى إذا تضمنت معنى النظر، ولو كان النظر بالبصيرة، تتعدى بإلى.

4. لقد علمت أيها القارئ المتتبع لسنن الله في الناس واجتماعهم الناطقة به آياته في نفوسهم وفى الآفاق، علم اليقين والجزم الناشئ عن‏ دليل منير ـ حال أولئك الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، ومن لم يعلم ذلك ينبغي أن يعلم؛ لأن البينات قائمة؛ والعلامة المعلمة واضحة فالاستفهام في الآية يقرر العلم، ويوجه الأنظار إلى وجوبه، ويحثها على الأخذ في أسبابه والالتفات إلى أماراته وأعلامه؛ فهو تقرير وتنبيه، وإثارة للمعجب من حال من فروا من الجهاد فلقوا الموت.

5. قبل أن نبحث عن أولئك الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت نتكلم في أمرين لفظيين قد يهدى أحدهما إلى الحق في شأن أولئك الذين خرجوا من ديارهم:

أ. الأول: كلمة ﴿أُلُوفٌ﴾ [البقرة: 243] فإن بعض العلماء فسرها بمعنى كثرة العدد، أي أنهم عدد كثير، ألوف مؤلفة، وكثرة كاثرة؛ فما كان خوفهم عن قلة، بل كان على كثرة؛ أو ما كان الخوف عن سبب يسوغه، بل كان عن جبن يخذل، وبعض العلماء قال إن معنى ﴿أُلُوفٌ﴾ [البقرة: 243] مؤتلفون مجتمعون؛ فألوف على هذا جمع آلف، كقعود جمع قاعد، وركوب جمع راكب، ونحو ذلك؛ والمعنى على ذلك أنهم قبل خروجهم من ديارهم، وتفرقهم في الأرض كانوا مؤتلفين مجتمعين توحدهم كلمة جامعة، ووحدة رابطة، ففرقهم الخوف على الحياة أيا كانت صورها ولو كانت حياة الذل والانكسار، وإنه ليعقبها الشقوة والانهيار.

ب. الثاني: كلمة ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ [البقرة: 243] تنبئ عن الباعث على فرارهم، وهو حرصهم المطلق على الحياة على أي صورة كانت تلك الحياة، كما وصف سبحانه وتعالى اليهود فقال سبحانه: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ أي مهما يكن نوع هذه الحياة، ثم خوفهم المطلق من الموت، أيا كانت أسبابه، ومهما تكن نهاية الفرار منه، وإن ذلك الخوف كان قبل أن تتحقق أسبابه فلم يكن الموت قد نزل ضربة لازب لا مناص منه إلا بالخروج من الديار؛ بل إن الذي دفعهم هو الحذر من الموت، وليس الحذر إلا توقيا للأسباب واحتراسا وابتعادا قبل أن تظهر الأسباب قوية ملزمة موجبة، وعلى ذلك يكون الحذر من الموت أدق‏ في بيان جبنهم من الخوف، إذ الخوف يكون وقد ظهرت موجباته، وتعددت الأمارات؛ أما الحذر فإنه توق مانع قبل وجود الأسباب وإن بدت ولاحت بعض أمور احتمالية لوجود هذه الأسباب.

6. كانت نتيجة خروج أولئك الحذرين من الموت أن استقبلهم الموت المقدور، فقال لهم الله موتوا؛ وأمر الله سبحانه وتعالى هنا أمر تكويني؛ أي أنه سبحانه وتعالى أماتهم، وإن أمر الله التكويني هو بإيجاد ما ساقه على أنه أمره‏ ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس‏]، فإذا كان أولئك قد فروا من الموت فيلقاهم الموت، وكيف يفرون من أمر وهو واقع لا محالة طال الأمد أو قصر، وهو واحد مهما تعددت أسبابه، والموت في شرف خير من الحياة في خسة، والموت في عزة خير من الحياة في ذلة!.

7. وردت في الذين فروا من الموت فلقيهم من حيث لا يقدرون، ثم أحياهم من ذلك رب العالمين، أخبار وروايات لم تثبت بسند صحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم الذي بيّن الكتاب للناس، ولا عن أحد من أصحابه الذين تلقوا ذلك البيان، ومن تلك الروايات أنهم قوم من بنى إسرائيل خرجوا هاربين من الوباء فنزلوا واديا، فأماتهم الله ثم أحياهم اعتبارا وإجابة لدعاء نبيّ من أنبيائهم، وفى رواية أخرى أنهم قوم من بنى إسرائيل فروا من الجهاد مع نبيهم، فأماتهم الله ليعلمهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم ليجاهدوا، ورواية ثالثة تقول: إن أولئك القوم كانوا من بنى إسرائيل، حرضهم ملك من ملوكهم على الجهاد فخرجوا حذر الموت، فأماتهم الله سبحانه ثم أحياهم.

8. فى كل رواية من تلك الروايات تفصيلات لا حاجة إلى ذكرها، ولقد نقل القرطبي في أحكام القرآن بعد ذكر هذه الروايات ما نصه: قال ابن عطية: وهذا القصص كله ليّن الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم ليروا هم وكل من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف ولا اغترار مغتر؛ وجعل الله تعالى هذه الآية مقدمة بين يدى أمر المؤمنين من أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم بالجهاد؛ وهذا قول الطبري وهو ظاهر وصف الآية.

9. هذه كلمة نقلها القرطبي وقد اختار من قبله شيخ مفسري الأثر ابن جرير ذلك، وقد ارتضى ألا يتعرض لأولئك الأقوام من هم؟ إذ لو كان في ذكرهم فائدة لذكرهم القرآن، أو لذكرتهم السنة النبوية.

10. إن المفسرين السابقين قد نهجوا على أساس أن الموت حقيقي حسى، وأن أولئك قد ماتوا حسا وأحياهم الله سبحانه وتعالى حسا، وإن ذلك بلا ريب يكون فيه مع إعلامهم بأن الموت لا مناص منه، بيان لقدرة الله الخارقة للعادات، المتحكمة في السنن الكونية، فلا تخضع لهذه السنن؛ لأن الله منشئها.

11. جاء من بعد أولئك المفسرين السابقين الأستاذ الشيخ محمد عبده، فرأى أن الموت معنوي والحياة حسية، فرأى أن الموت هو موت الأمم، والحياة هي حياتها، وموت الأمم بتفرق كلمتها وذهاب وحدتها، وضرب الذلة عليها؛ وأن حياتها هي اجتماع كلمتها، ونيل عزتها، وتولى أمرها بنفسها؛ وخروجها من ديارها أن يتحكم فيها عدوها، فإنها تكون غريبة في أرضها ما دام لا أمر لها فيها، وقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة(2).

12. هذا نظر محمد عبده، ونراه نظر إلى مرمى الآية الكريمة، وهو يتجه إلى أن الموت والحياة هو موت الأمم وحياتها؛ وموت الأمة ليس بموت آحادها، إنما هو بذهاب الجامعة التي تربطها، واندغامها في غيرها، حتى لا يصبح لها كيان قائم بذاته؛ وحياتها هي عودة هذه الوحدة الجامعة، والعزة المسيطرة والكيان المستقل.

13. بعد هذا العرض الذي سقناه بيانا لآراء العلماء أجد في نفسي ميلا لأن أعتبر الحياة التي منحهم الله سبحانه وتعالى ليست تلك الحياة المادية في الدنيا بإعادة الروح إلى العظام واللحم؛ وإن كان ذلك في قدرة الله سبحانه وتعالى؛ ولو كانت الآية في مقام إثبات البعث والنشور لقررنا ذلك وقلنا إن الآية لا تحتمل سواه، ولكن المقام هنا هو مقام الحث على القتال والتحريض عليه وسوق القصص الدالة على وجوبه، ليكون حفاظا للأمم، وسياجا لوجودها، فيكون الإحياء بمعنى غير إعادة الروح إلى الجسد في هذه الدنيا، وعلى ذلك لا مناص لي من أن أختار أحد أمرين:

أ. أولهما: أن نقول إن الحياة هي حياة الأمم برد عزتها بعد أن فقدتها، والموت هو موت الأمم بذهاب جامعتها على النحو الذي بينه الأستاذ الإمام؛ فالحياة والموت هنا معنويان، والقرآن الكريم قد أطلق الحياة والموت على الأمور المعنوية، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال‏] وقال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام‏]، وإنا إذا اخترنا ذلك المنهاج الذي نهجه الأستاذ الشيخ محمد عبده، فإننا نقرر أن الله سبحانه قد ذكر لنا في آية آخري في بنى إسرائيل أنهم تفرقوا في الصحراء تائهين عندما عجزوا عن دخول الأرض المقدسة مع موسى فذهبت وحدتهم، حتى إذا رد إليهم بأسهم وقويت نفوسهم بالحياة البدوية جمعهم الله فأحياهم وجعلهم جماعة تقاتل في ظل النبيين، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في سورة المائدة فقد قال تعالى في مجاوبة بنى إسرائيل لموسى عندما دعاهم إلى القتال ليدخلوا الأرض المقدسة: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [المائدة]، فهؤلاء الذين تاهوا في الأرض قد ماتت وحدتهم، وقد أحياهم الله سبحانه من بعد بجمع كلمتهم في عهد الملوك والنبيين، وإنه ليزكى ذلك النظر أن الآيات من بعد ذلك في قتال بنى إسرائيل مع ملوكهم وأنبيائهم، وانتصارهم وهم فئة قليلة مع داوود عليه السلام على أعدائهم وقد كانوا كثيرين.

ب. الثاني: الذي تحتمله الآية الكريمة في معنى الحياة والممات: أن يكون المراد الموت الحقيقي بموت أكثرهم، وتشتت باقيهم؛ وذلك لأن حذر الموت جعل عدوهم يعمل سيفه في رقابهم حتى أباد خضراءهم، واجتث شأفتهم؛ والحياة من بعد ذلك هي الحياة الآخرة، وما يجرى بعدها من حساب وعقاب؛ فهم قد أذاقهم الله سبحانه وتعالى بها مغبة الجبن في الدنيا، وسيحاسبهم على ما كان منهم في الآخرة؛ فهم بهذا قد خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، وقد يقول قائل: إن التعبير بالماضي والحياة في الآخرة أمر مستقبل غيب الله سبحانه زمانه، وأكد وجوده، فنقول: إن التعبير بالماضي للدلالة على تأكيد أن الوقوع في المستقبل منهاج قرآني كما في قوله تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل‏] ف (أتى) هنا بمعنى سيأتي بقرينة ﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ ومثل قوله تعالى في أهوال يوم القيامة: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان‏]

14. هذان هما الأمران، ولعل أولهما أبين وأوضح، ونحن إليه أميل.

15. سؤال وإشكال: لماذا تستبعد الإحياء الجسمي في الدنيا؟ أهو مستحيل؟ والجواب: إنه ليس بمستحيل، ولكنه خارق للعادة، والله سبحانه وتعالى يسير أمور الناس على مقتضى ما سنه في الكون حتى تقتضى حكمته خرق ذلك النظام ليكون حجة على رسالة رسول، وليس في الآية ما يدل على ذلك، كما أنه لم يسق الآية لبيان البعث حتى يكون خرق سنن الله التي سنها في الكون لبيان قرب البعث وقدرة الله عليه؛ إنما الأمر في الجهاد، ويناسب ذلك أحد المعنيين اللذين ذكرناهما، و الأول في هذا المقام أنسب، وهو على النحو الذي وضحناه يكون تمهيدا لبيان قصص بنى إسرائيل في قتالهم.

16. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [غافر: 61] بعد بيان حال الذين فروا من الجهاد، وآثروا الدعة والراحة فلم يأخذوا الأهبة للقاء عدوهم الذي يتربص بهم الدوائر، وينتهز أية فرصة لينقض عليهم؛ بعد بيان حال هؤلاء وأنهم يفرون من الموت في شرف إلى الموت في خسة، ومن الموت العزيز الكريم، إلى الموت الذليل الذي يدفع إليه الطبع اللئيم؛ بعد هذا كله أشار سبحانه إلى فضله تعالى على الناس أجمعين؛ وإن الإشارة إلى فضل الله تعالى في هذا المقام تنبيه للعقول الغافلة، وإيقاظ للأفكار الراقدة إلى عظيم نعمته تعالى على الناس في أنفسهم وفى اجتماعهم؛ وذلك لأنه سبحانه وتعالى أنشأ النفوس الإنسانية، وأودعها الإلف والائتلاف، وبذلك يتكون الاجتماع، ويعاون كل امرئ الآخرين، وبفضل التعاون تقوم الأمة، ويشتد ساعدها؛ ولقد أودع الله سبحانه وتعالى مع تلك النعمة المؤلفة الرابطة قوة أخرى في الإنسان، وهى القدرة على الدفاع عن النفس، ومغالبة الذين يصاولونه، ويريدون به الأذى، من أعداء مغيرين، أو حيوان مفترس؛ فبهذه القوة الخلقية التي أودعت نفسه، وبتلك القوة الجسمية المكافحة يصاول أعداءه، ويحمى أولياءه؛ ومن مزيد فضله على الناس أن أباح الدفاع عن النفس، والقتل في سبيل ذلك، كما قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج‏]

17. من فضل الله على الناس أن مكن للمظلوم من ظالمه، وللمعتدى عليه من المعتدى إذا أخذ المظلوم في أسباب دفع الظلم واستعد، ولم يمكن الظالم من رقبته؛ فإن مات في سبيل ذلك مات شهيدا، وجعل الله سبحانه وتعالى له في الآخرة نعيما مقيما، وثوابا دائما، واعتبره أفضل الأحياء؛ كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران‏]

18. اعتبر سبحانه وتعالى الجهاد في الدفاع عن الحوزة والديار ما دام عادلا، جهادا في سبيله سبحانه وتعالى، كل هذا من فضل الله على الناس‏ ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ لا يشكرون هذه النعم ويقومون بحقها عليهم، فإن شكر النعم أن يحس المنعم عليه بفضل المنعم، ويحمده ويثنى عليه، ويقوم بحق الإنعام بأن يجعل ما أنعم الله به عليه لخيره وخير الناس، ويستعمله فيما أحله سبحانه.

19. وأكثر الناس قد كفروا هذه النعم؛ فمنهم من أشرك مع المنعم سبحانه غيره من أحجار وأوثان وشمس وبقر ونار، فطمس الله على بصيرتهم؛ ومنهم من كفر بما أودع الله نفسه من قوة، فاستخذى واستكان، ورضى بالمكان الدون، والمنزل الهون؛ ومنهم من تقاعس في الدفاع عن حوزته ودياره وهو على ذلك قادر حتى أبيح الحمى وهدمت الديار؛ ومنهم من فر من لقاء الأعداء، حتى آل إلى الموت الخسيس، وقد جهل نعمة الله على الناس، وسننه فيهم وهى أنه لا ينجى من الموت إلا الإقدام على الموت مدرعا بكل وسائل القتال والدفاع؛ وأن من يطلب الموت ينال الحياة، ومن يفر من الموت الشريف يطلبه الموت الذليل تلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

20. هذا موضع قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [غافر: 61] في مقام بيان عاقبة الذين يتركون الجهاد ويفرون حذر الموت، وهو يدل على أن أولئك الفارين لم يقوموا بحق المنعم الذي أنعم عليهم؛ إذ لم يطيعوه بأخذ الأهبة والاستعداد، ولم يعتمدوا عليه سبحانه بعد أن يأخذوا بالأسباب، وكفروا بأنعم الله عليهم ولم يقوموا بحقها فعطلوا قواهم ورضوا بالفرار والعار، وعندهم القدرة على الدفاع مستعينين بالله سبحانه.

21. قال تعالى في وصف ذاته الكريمة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ [غافر: 61] أي لصاحب فضل دائما، أي أن الفضل على الناس بلازم ذاته الكريمة، فهو المتفضل سبحانه وتعالى دائما؛ تفضل بالإيجاد، وتفضل بإيداع القوى، وتفضل بسن السنن الكونية والشرائع الهادية، والإرشاد القويم؛ وتفضل بأن أقام الأمور على الحق والقسط، وأن الخير يدفع الشر، وأهل الحق يدفعون الباطل وأنصاره، وأن‏ المعتدى عليه يدفع اعتداء المعتدى، وفى كل ذلك صلاح الأرض‏ ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251] [البقرة]

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/857.

(2) ذكر هنا كلام محمد عبده في هذا، والذي ذكرناه سابقا

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لقد أطال المفسرون الكلام حول هذه الآية:

أ. قال أكثرهم: انها تشير إلى قصة تاريخية، وسودوا الصفحات في تصوير هذه القصة.. فبعضهم قال بما يتلخص: ان قوما من بني إسرائيل أمروا بجهاد عدوهم، فخافوا الموت بالقتال، فخرجوا من ديارهم فرارا من الموت، فأماتهم الله ليعرّفهم انه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم ليعتبروا ويستوفوا ما بقي من أعمارهم.. ومن أطرف ما قرأته في تفسيرها ان أحد المفسرين قال ان الموت نوعان: موت عقوبة، وهو الذي يحيا الميت بعده في هذه الدنيا، وموت أجل، وهو الذي لا حياة بعده إلا في الآخرة.

ب. وقال آخرون: فروا من مرض الطاعون، لا من جهاد عدوهم.

ج. وفسر محيي الدين بن عربي الآية تفسيرا صوفيا على طريقته، حيث قال ان الله أماتهم بالجهل، وأحياهم بالعلم والعقل..

د. وحمل الشيخ محمد عبده الآية ـ كما في تفسير المنار ـ على انها تمثيل للاعتبار والعظة، وليست اشارة الى قصة واقعة حقيقة، وان الهدف من هذه الاشارة هو بيان سنة الله في الأمم، وان الأمة التي تجاهد، وتستميت في الدفاع عن حقها تحيا حياة طيبة، وان الأمة التي تجبن وتستسلم للظلم تحيا حياة الذل والهوان، فقوله تعالى: ﴿مُوتُوا﴾، أي عيشوا بالاستعباد والاضطهاد، لجبنكم، لأن مثل هذا العيش موت لا حياة، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾، أي عاشوا عيش الحرية والكرامة لجهادهم ودفاعهم عن حقهم.

2. هذا تلخيص موجز جدا لرأي الشيخ محمد عبده الذي شرحه بكلام طويل، وهو ـ كما ترى ـ من وحي وعيه النير، ورسالته الاصلاحية، لا من وحي دلالة اللفظ، ان رأيه هذا صحيح في ذاته، وانساني من غير شك، ولكنه بعيد عن مدلول اللفظ، وقد يظن انه أقرب من قول أكثر المفسرين من هذه الجهة لأن قولهم يعتمد الروايات الاسرائيلية، والأساطير التي لا سند لها، ولا تمت الى الحياة بسبب، وقوله يهدف الى الترغيب في مقاومة الظلم، والتضحية من أجل الحرية والكرامة، شأن الموجه المصلح.

3. كيف كان، فان الآية تحتمل معاني شتى.. ومن ثم كثرت فيها الأقوال، ولا شيء في لفظها يدل على صحة قول بالذات.. أجل، ان قول الشيخ عبده هو أرجح الأقوال جميعا، للاعتبار من جهة، كما أشرنا، ويساعد عليه السياق من جهة أخرى، أما الاعتبار فواضح، واما السياق فقوله تعالى بعد هذه الآية بلا فاصل: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/373.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾، الرؤية هاهنا بمعنى العلم، عبر بذلك لدعوى ظهوره بحيث يعد فيه العلم رؤية فهو كقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾، وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾، وقد ذكر الزمخشري أن لفظ ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ [الفيل: 1] جرى مجرى المثل، يؤتى به في مقام التعجيب فقولنا: ألم تر كذا وكذا معناه ألا تعجب لكذا وكذا، وحذر الموت مفعول له، ويمكن أن يكون مفعولا مطلقا والتقدير يحذرون الموت حذرا.

2. ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾، الأمر تكويني ولا ينافي كون موتهم واقعا عن مجرى طبيعي كما ورد في الروايات: أن ذلك كان بالطاعون، وإنما عبر بالأمر، دون أن يقال: فأماتهم الله ثم أحياهم ليكون أدل على نفوذ القدرة وغلبة الأمر:

أ. فإن التعبير بالإنشاء في التكوينيات أقوى وآكد من التعبير بالإخبار.

ب. كما أن التعبير بصورة الإخبار الدال على الوقوع في التشريعيات أقوى وآكد من الإنشاء.

3. لا يخلو قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ عن الدلالة على أن الله أحياهم ليعيشوا فعاشوا بعد حياتهم، إذ لو كان إحياؤهم لعبرة يعتبر بها غيرهم أو لإتمام حجة أو لبيان حقيقة لذكر ذلك على ما هو دأب القرآن في بلاغته كما في قصة أصحاب الكهف، على أن قوله تعالى بعد: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ [غافر: 61] يشعر بذلك أيضا.

4. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾، الإظهار في موضع الإضمار أعني تكرار لفظ الناس ثانيا لما فيه من الدلالة على انخفاض سطح أفكارهم، على أن هؤلاء الذين تفضل الله عليهم بالإحياء طائفة خاصة، وليس المراد كون الأكثر منهم بعينهم غير شاكرين بل الأكثر من جميع الناس، وهذه الآية لا تخلو عن مناسبة ما مع ما بعدها من الآيات المتعرضة لفرض القتال، لما في الجهاد من إحياء الملة بعد موتها.

5. ذكر بعض المفسرين أن الآية مثل ضربه الله لحال الأمة في تأخرها وموتها باستخزاء الأجانب إياها ببسط السلطة والسيطرة عليها، ثم حياتها بنهضتها ودفاعها عن حقوقها الحيوية واستقلالها في حكومتها على نفسها، قال ما حاصله: (إن الآية لو كانت مسوقة لبيان قصة من قصص بني إسرائيل كما يدل عليه أكثر الروايات أو غيرهم كما في بعضها لكان من الواجب الإشارة إلى كونهم من بني إسرائيل، وإلى النبي الذي أحياهم كما هو دأب القرآن في سائر قصصه مع أن الآية خالية عن ذلك على أن التوراة أيضا لم تتعرض لذلك في قصص حزقيل النبي على نبينا وآله وعليه السلام فليست الروايات إلا من الإسرائيليات التي دستها اليهود، مع أن الموت والحياة الدنيويتين ليستا إلا موتا واحدا أو حياة واحدة كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى﴾، وقوله: ﴿وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾، فلا معنى لحياتين في الدنيا هذا، فالآية مسوقة سوق المثل، والمراد بها قوم هجم عليهم أولو القدرة والقوة من أعدائهم باستذلالهم واستخزائهم وبسط السلطة فيهم والتحكم عليهم فلم يدافعوا عن استقلالهم، وخرجوا من ديارهم وهم ألوف لهم كثرة وعزيمة حذر الموت، فقال لهم الله: موتوا موت الخزي والجهل، فإن الجهل والخمود موت كما أن العلم وإباء الضيم حياة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾، وقال: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾، وبالجملة فهؤلاء يموتون بالخزي وتمكن الأعداء منهم ويبقون أمواتا، ثم أحياهم الله بإلقاء روح النهضة والدفاع عن الحق فيهم، فقاموا بحقوق أنفسهم واستقلوا في أمرهم، وهؤلاء الذين أحياهم الله وإن كانوا بحسب الأشخاص غير الذين أماتهم الله إلا أن الجميع أمة واحدة ماتت في حين وحييت في حين بعد حين، وقد عد الله تعالى القوم واحدا مع اختلاف الأشخاص كقوله تعالى في بني إسرائيل: ﴿أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾، وقوله: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾، ولولا ما ذكرناه من كون الآية مسوقا للتمثيل لم يستقم ارتباط الآية بما يتلوها من آيات القتال وهو ظاهر)(2)، انتهى ما ذكره ملخصا.

6. هذا الكلام كما ترى مبني:

أ. أولا: على إنكار المعجزات وخوارق العادات أو بعضها كإحياء الموتى وقد مر إثباتها، على أن ظهور القرآن في إثبات خرق العادة بإحياء الموتى ونحو ذلك مما لا يمكن إنكاره ولو لم يسع لنا إثبات صحته من طريق العقل.

ب. وثانيا: على دعوى أن القرآن يدل على امتناع أكثر من حياة واحدة في الدنيا كما استدلّ بمثل قوله تعالى: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى﴾، وقوله: ﴿أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾، وفيه أن جميع الآيات الدالة على إحياء الموتى كما في قصص إبراهيم وموسى وعيسى وعزير، بحيث لا تدفع دلالتها، يكفي في رد ما ذكره، على أن الحياة الدنيا لا تصير بتخلل الموت حياتين كما يستفاد أحسن الاستفادة من قصة عزير، حيث لم يتنبه لموته الممتد، والمراد بما أورده من الآيات الدالة على نوع الحياة.

ج. ثالثا: على أن الآية لو كانت مسوقة لبيان القصة لتعرضت لتعيين قومهم وتشخيص النبي الذي أحياهم، وأنت تعلم أن مذاهب البلاغة مختلفة متشتتة، والكلام كما ربما يجري مجرى الإطناب كذلك يجري مجرى الإيجاز، وللآية نظائر في القرآن كقوله تعالى: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾، وقوله: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾

د. رابعا: على أن الآية لو لم تحمل على التمثيل لم ترتبط بما بعدها من الآيات بحسب المعنى، وأنت تعلم أن نزول القرآن نجوما يغني عن كل تكلف بارد في ربط الآيات بعضها ببعض إلا ما كان منها ظاهر الارتباط، بين الاتصال على ما هو شأن الكلام البليغ.

7. الحق أن الآية كما هو ظاهرها مسوقة لبيان القصة، وليت شعري أي بلاغة في أن يلقي الله سبحانه للناس كلاما لا يرى أكثر الناظرين فيه إلا أنه قصة من قصص الماضين، وهو في الحقيقة تمثيل مبني على التخييل من غير حقيقة، مع أن دأب كلامه تعالى على تمييز المثل عن غيره في جميع الأمثال الموضوعة فيه بنحو قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي﴾، وقوله: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، وقوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا﴾، إلى غير ذلك.

8. في الاحتجاج، عن الصادق عليه السلام في حديث قال عليه السلام: (أحيا الله قوما خرجوا من أوطانهم هاربين من الطاعون، لا يحصى عددهم، فأماتهم الله دهرا طويلا حتى بليت عظامهم، وتقطعت أوصالهم، وصاروا ترابا، فبعث الله في وقت أحب أن يرى خلقه نبيا يقال له: حزقيل، فدعاهم فاجتمعت أبدانهم، ورجعت فيها أرواحهم، وقاموا كهيئة يوم ماتوا، لا يفتقدون في أعدادهم رجلا ـ فعاشوا بعد ذلك دهرا طويلا)، وروى هذا المعنى الكليني والعياشي بنحو أبسط، وفي آخره: وفيهم نزلت هذه الآية.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/279.

(2) الكلام هنا كما مر معنا لمحمد عبده

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾ قال الشرفي في (المصابيح): (﴿أَلَمْ تَرَ﴾ مخرجه مخرج التعجب، كأن الله يعجِّب خلقه من حال هؤلاء الألوف.. ولا يجوز أن يكون هذا العدد دون العشرة؛ لأن بناء فُعُول في (باب العدد) على ما زاد على العشرة)

2. التعجيب منهم حين تركَّز على كثرتهم، يظهر منه: أنهم فروا من القتال وهم يستطيعون الدفاع لكثرتهم، فكان عجزُهم عن الدفاع عن أنفسهم، ولجوءهم إلى الخروج من ديارهم ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ عجيباً؛ لأنهم يستطيعون الدفاع، واقتران هذه الآية بما بعدها من الأمر بالقتال في سبيل الله يؤكد هذا، فأما الرواية أنهم فروا من الطاعون فالله أعلم بصحتها، ولا يبعد أنها من أكاذيب اليهود إذا كان هؤلاء الألوف منهم.. فرووا هذه القصة؛ ليستتروا من عار الفرار، ومن البعيد أن يفرق بين الكثير والقليل في الفرار من المصائب الربانية؛ لأن الفرار طبيعي من طبائع البشر والكثير والقليل فيه سواء، ألا ترى أن فرار الألوف من الفيضان ليس عجيباً، ويؤكد هذا أن قوله تعالى: ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾ يفهم منه أن ذلك جرى مجرى العقوبة على فرارهم، والعقوبة إنما تكون على فعل معصية أو ترك واجب، فظهر: أنهم فروا من القتال وكان واجباً عليهم الدفاع.

3. سؤال وإشكال: هم فروا من الله فأراهم قدرته على إماتتهم؟ والجواب: ليس الفرار من أسباب الهلاك يعتبر فراراً من الله؛ لأن الله قد مكن من الفرار وجعل الطباع تدعو إليه، وجعله سبباً للنجاة في بعض الحالات، فدل ذلك على جوازه إذا لم ينه عنه، وأنه ليس فراراً من الله، كما أن الفرار من الفيضان ليس فراراً من الله، وأيضاً الفرار من أسباب الهلاك لا يستلزم الجهل بقدرة الله على إهلاك الهارب حيث صار فلا يوجب العقوبة، فظهر: أن عقابهم على فرارهم من القتال، وترجيحهم حذر الموت على الدفاع الذي فيه دفع الظالم عن ظلمه ومنعه عن زيادة التمكن والقوة على الفساد؛ فلذلك يستحقون أن يعاملوا بنقيض قصدهم فأماتهم الله؛

4. ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ تفضلاً عليهم، ولا مانع من حمله على ظاهره، وأنه تعالى أحيا الأشخاص الذين أماتهم كالذي أماته الله مائة عام ثم بعثه ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ [غافر: 61] لأنه ينعم عليهم ويعاملهم معاملة الحلم والرحمة، وفي إحياء الذين أماتهم نعمة عظيمة لتعريضهم على التوبة والنجاة من عذاب الآخرة ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ لأن الإنسان ظلوم كفار لا يهمه إلا مطالبهُ العاجلة دون ما عليه من الحق لربه.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/361.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يذكر المفسرون لهذه الآية، قصة من قصص الأمم السالفة، ففي الكافي في ما رواه ـ بسند ضعيف ـ عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السّلام ـ وعن أبيه أبي جعفر محمد الباقر عليه السّلام‏ في قول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾، فقال: إن هؤلاء أهل مدينة من مدائن الشام، وكانوا سبعين ألف بيت، وكان الطاعون يقع فيهم في كل أوان، فكانوا إذا أحسوا به، خرج من المدينة الأغنياء لقوّتهم، وبقي فيها الفقراء لضعفهم، فكان الموت يكثر في الذين أقاموا ويقلّ في الذين خرجوا، فيقول الذين خرجوا: لو كنا أقمنا، لكثر فينا الموت..إلى آخر الأثر سبق ذكره.

2. أورد الطبري في تفسيره، والسيوطي في الدر المنثور عدة روايات تشبه هذه الرواية، مع بعض الاختلاف في التفاصيل‏، وقد ذكر بعض المفسرين أن الآية واردة مورد المثل، وحاول بعضهم أن يوجه الحياة والموت إلى الجانب المعنوي منهما بما يقرب من العز المتمثل في مواجهة الأعداء، والذل الذي يتمثل في الوقوع تحت سيطرتهم، واعتبر الأحاديث الواردة في هذا الباب من الإسرائيليات التي لا يعتمد عليها في تفسير القرآن أو في تقرير أية حقيقة من حقائق الإسلام.. ونحن لا نريد أن نتوقف طويلا أمام هذه الروايات لنحقق صحة سندها وضعفه، ولنجمع بينها في ما تتفق فيه، ولنعالجها في ما تختلف فيه، لأن ذلك كله لا يقدم شيئا ولا يؤخر في ما نحن بصدده من فهم معنى الآية واستيحائها.

3. الآية الكريمة تحدثنا عن جماعة من الناس خرجوا من ديارهم خوفا من الموت، دون أن تعرّفنا ظروف هذا الخوف، هل هو العدو المتربص بهم، أو هو المرض الذي يوشك أن يحل بهم أو هو شيء آخر.. ولم يرض‏ الله لهم بهذا الخروج، لأن ذلك لن يحل لهم المشكلة، فللموت أسباب كثيرة تنتظر الناس في الطريق، فإذا هربوا من سبب التقوا بسبب آخر، فكأن الله يريد لهم أن يواجهوا الموقف من موقع الصمود الواعي الذي يتعامل مع الحياة والموت بإرادة واعية، لا تبتعد عن الواقع عندما تقترب من الإيمان.. فأماتهم الله جميعا ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾، ليعرفهم أن الموت بيده، فهو الذي يحدد وقته من خلال حكمته في الكون بشكل مباشر أو غير مباشر، فقد يأتي الموت للإنسان من حيث لا يحتسب، وقد يتركه من حيث يرى أنه قادم إليه.

4. ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ بما يملكه من القدرة على الإحياء، لأنه مالك الحياة والموت ليأخذوا العبرة من ذلك في ما يستقبلون من حياة جديدة، فلا يهربون من الموت عندما تدعوهم المسؤولية إلى مواجهة الخطر الذي يقترب بهم من الموت، بل يقبلون عليه إقبال الإنسان الواثق بأن قضية الحياة والموت بيد الله، ولا راد لقضاء الله تماما كما هو وحي الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ [آل عمران: 154].. وقوله تعالى في آية أخرى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ [آل عمران: 145]

5. هكذا كانت الآية تعبر عن صورة من صور الواقع بما توحيه من حكاية التاريخ في مدلولها اللفظي، وربما كان قوله تعالى لهم: ﴿مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾، دلالة واضحة على أن للقضية وجها ماديا في ما تعنيه كلمة الحياة والموت، لا سيما بعد حديثه عنهم بأنهم خرجوا من بيوتهم حذر الموت، فكأنه أراد أن يأخذهم بعكس ما قصدوه، فقد فكروا بأن الخروج يحقق لهم النجاة من الموت، فإذا به يلقيهم في منتصف الطريق.

6. في هذا الجو، نفهم من الإحياء بعد ذلك معنى يلتقي بالعبرة التي أراد الله لهم أن يأخذوها من ذلك كله، ولعل في ابتداء الآية بكلمة ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ما يوحي بأن القصة كانت معروفة بشكل واضح، أو هكذا تريد الآية أن توحي، مما يؤكد الطبيعة الواقعية للقصة، ولهذا كله فإننا نتحفظ بشدة في تأويل كلمات الآية إلى غير ما هو الظاهر من معناها اللغوي، لا لأننا نرفض الاستعمالات المجازية في القرآن، بل لأن جو الآية لا يسمح بذلك.. ولكن هذا لا يمنع من أن يستوحي القارئ للقرآن من هذه الآية المعاني الكبيرة التي تربط الناس بالفكرة.

7. قد يكون من المناسب ـ في هذا السياق ـ أن نشير إلى قضية حيوية في التفسير القرآني المشتمل على قصص التاريخ في ما يتحدث لنا به عن الأمم السابقة التي عاشت في إطار النبوات وفي غيرها.. وهي:

أ. أن البعض يحاول أن يندفع إلى الأخذ بكل أقاصيص الرواة، من دون تمييز بين الصحيح والفاسد منها، ولا بين المعقول وغير المعقول، ولا بين الموضوع وغير الموضوع.. لأنه يعتقد أن مجال ذلك هو الأحكام الشرعية التي تتمثل بالحلال والحرام، فلا بد فيها من التدقيق في الروايات من خلال سند الرواية ومضمونها، لئلا نحكم بحلية ما حرمه الله، أو بحرمة ما أحله الله، فنستحق بذلك عقاب الله عندما ننسب إلى الله ورسوله شيئا لم يقله أو لم يشرعه، أما الأقاصيص، فإنها لا تمثل أي جانب سلبي من هذه الجهة، لأنها مما لا يترتب عليها أي أثر في الشرع وفي الحياة، كما في هذه القصة التي رواها المفسرون في تفسير هذه الآية، فما الذي يترتب من الأثر السلبي على مثل هذا التفسير ـ سواء أكان خطأ أم كان صوابا ـ فالفكرة هي الفكرة من حيث العبرة والإيحاء، فلا ضرورة للتدقيق والأخذ والرد من المناقشات، التي قد ترد في هذا الباب.

ب. وهناك من يحاول أن يقف في الخط المعاكس لهذا الاتجاه، فيرى أن علينا أن نثير الكثير الكثير من علامات الاستفهام أمام ما ورد من روايات القصص القرآني في التفسير، لأن الإسرائيليات قد اقتحمت علينا الساحة بما أثاره الرواة الذين تتلمذوا على كعب الأحبار ووهب بن منبه، من قضايا أراد اليهود أن يدخلوها في الفكر الإسلامي في ما يتصورونه للحياة وللتشريع وللتاريخ من تصورات لا تتفق مع مع المفاهيم الأصيلة للتصور الإسلامي الصحيح.. لذلك، فإن علينا أن نواجه الموقف بطريقة الرصد الواعي لكل رواية نحتمل فيها السير في هذا الاتجاه ولو من بعيد، وقد يؤكد هذا البعض على رفض الروايات التي تدخل عنصر الغيب في القصص والأحداث، فتكثر من ربط الحياة بالغيب، من خلال التفسير الغيبي للمفاهيم القرآنية التي لا تبتعد كثيرا عن الواقع في طبيعتها الواقعية الأصيلة.. وقد يحاول مثل هؤلاء أن يفسروا هذه الغيبيات تفسيرا ماديا خالصا، لأنهم يستبعدون الغيب كفكرة، وإن كانوا لا يكفرون به كعقيدة، وبذلك اعتبروا كثيرا من التعابير القرآنية أدبا رمزيا يعتمد على الرمز في ما يريده، ولا يرتكز على الوضوح والبيان.

8. أما نحن، فنقف موقفا وسطا بين هذين الاتجاهين:

أ. فلا نوافق الاتجاه الأول في الأخذ بكل الأقاصيص والتخفيف من خطورة السلبيات الناشئة من الأقاصيص التي قد تكون مكذوبة، لأن ذلك يمثل مسئولية شرعية في القول في القرآن بغير علم، بل ربما كان ذلك أعظم إثما من تفسير القرآن بالرأي الذي رفضته الأحاديث الشريفة المتواترة، وثانيا، إن طبيعة التصور الذي‏ تحدثه القصة في النفس يخلق لدى الإنسان مفهوما معينا من خلال القصة، الأمر الذي قد يترك تأثيرات سلبية على طبيعة الممارسة العملية لكثير من قضايا الواقع والحياة، ولعل الأثر الذي تحدثه القصة في تربية المفاهيم السلبية أو الإيجابية في عمق الشخصية، أكثر من الأثر الذي يحصل من خلال أسلوب فكري أو تحليلي مجرد، وهذا ما نعرفه في مهمّة الأسلوب القصصي في التربية العامة والخاصة، وفي ضوء ذلك، فإننا نؤكّد على ضرورة التدقيق في سند القصة التفسيرية ومضمونها، من أجل أن نعرف صحيح الحديث من فاسده على أساس الموازين العلمية الصحيحة، فلا نأخذ بحديث إلا بعد أن تثبت لنا صحته وواقعيته وأصالته، وبهذا نستطيع أن نكتشف زيف الإسرائيليات الموضوعة التي لا أساس لها في كتب الله ورسالاته، وقد نتعرف في بعض هذه الإسرائيليات التي رواها علماء اليهود، ما قد يكون صحيحا في فكرته وأسلوبه، لأن وجود الوضع والدس والافتراء لا يعني أنه يمثل ظاهرة شاملة في كل هذه الأحاديث.

ب. أما وجود الغيب في بعض القصص والأحاديث، فلا يكون دليلا على الضعف، لأننا لا نستطيع أن نمنع ما في الغيب من أصالة الإيمان والحقيقة، فإن الإيمان بالغيب عقيدة إسلامية إيمانية أصيلة، ولكننا لا نوافق ـ في الوقت نفسه ـ على أن الغيب ظاهرة شاملة في كل الواقع، فإن الله قد أقام الحياة على أساس القوانين الطبيعية المودعة في الكون، وأراد منا أن نفهم الحياة من خلالها من خلال ربط المسببات بأسبابها، مع إعطاء فسحة للغيب في بعض المجالات، ولهذا فإننا قد نقبل التفسير الغيبي في بعض الموارد التي لا نجد لها أساسا معقولا للتفسير الطبيعي للأشياء، ونتحفظ في بعض الموارد التي نجد لها أسسا واقعية تربط القضية بالقوانين الطبيعية للأشياء، فنستبعد الجانب‏ الغيبي، لأنه لا يقدم لنا تبريرا لإنكار السبب الواقعي واستبداله بالسبب الغيبي، من دون أن يضر ذلك بقضية الإيمان بالغيب، لأنه لا يرفض الغيب كعقيدة تعيش في الحياة وفي الإيمان، ولكنه يتحفظ فيه كظاهرة شاملة ترفض الأسباب الواقعية للأشياء.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/374.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. انتشر مرض الطاعون في إحدى مدن الشام وأخذ يحصد الناس بسرعة عجيبة، فهجر المدينة جمع من الناس أملا في النجاة من مخالب الموت، وإذ نجوا من الموت فعلا بهروبهم من ذلك الجو المبوء، شعروا في أنفسهم بشيء من القدرة والاستقلالية، وحسبوا أنّ نجاتهم مدينة لعوامل طبيعية غافلين عن إرادة الله ومشيئته، فأماتهم الله في تلك الصحراء بالمرض نفسه، وقيل: إنّ نزول المرض بأهل هذه المدينة كان عقابا لهم، لأنّ زعيمهم وقائدهم طلب منهم أن يستعدّوا للحرب وأن يخرجوا من المدينة، ولكنّهم رفضوا الخروج للحرب بحجّة أنّ مرض الطاعون متفشّي في ميادينها، فابتلاهم الله بما كانوا يخشونه ويفرّون منه، فانتشر بينهم مرض الطاعون، فهجروا بيوتهم وهربوا من‏ المرض إلى خارج المدينة حيث انشب المرض مخالبه فيهم وماتوا، ومضى زمان على هذا حتّى مرّ يوما (حزقيل)

2. ثمّ إنّ الآية أشارت إلى عاقبتهم فقالت: ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ لتكون قصّة موتهم وحياتهم مرّة أخرى عبرة للآخرين، ومن الواضح أنّ المراد من‏ ﴿مُوتُوا﴾ ليس هو الأمر اللفظي بل هو أمر الله التكويني الحاكم على كلّ حيّ في‏ عالم الوجود، أي أنّ الله تعالى أوجد أسباب هلاكهم فماتوا جميعا في وقت قصير، وهذه أشبه بالأمر الذي أورد في الآية 82 من سورة يس‏ ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾

3. جملة ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ إشارة إلى عودتهم إلى الحياة بعد موتهم استجابة لدعاء (حزقيل النبي) كما ذكرنا في القصة المرتبطة بالآية، ولمّا كانت عودتهم إلى الحياة مرّة أخرى من النعم الإلهيّة البيّنة (نعمة لهم ونعمة لبقيّة الناس للعبرة) ففي ختام الآية تقول‏ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [غافر: 61] فليست نعمة الله وألطافه وعنايته تنحصر بهؤلاء، بل لجميع الناس.

4. سؤال وإشكال: هذه الحكاية التي ذكرناها، أهي حدث تاريخي واقعي أشار إليه القرآن إشارة عابرة، ثمّ شرحته الروايات والأحاديث، أم أنّها أقصوصة لتجسيد الحقائق العقلية وبيانها بلغة حسّية؟ والجواب: لمّا كان لهذه الحكاية جوانب غير عادية بحيث صعب هضمها على بعض المفسّرين، فإنّهم أنكروا كونها حقيقة واقعة، وقالوا إنّ ما جاء في الآية إنّما هو من باب ضرب المثل بقوم يضعفون عن الجهاد ضدّ العدوّ فيهزمون ثمّ يعتبرون بما جرى فيستيقظون ويستأنفون الجهاد ومحاربة العدوّ وينتصرون، وبموجب هذا التفسير يكون معنى (موتوا) الهزيمة في الحرب بسبب الضعف‏ والتهاون، و﴿أَحْيَاهُمْ﴾ [البقرة: 243] إشارة إلى الوعي واليقظة ومن ثمّ النصر، هذا التفسير يرى أنّ الروايات التي تعتبر هذه الحادثة واقعة تاريخية روايات مجعولة وإسرائيلية، وعلى الرغم من أن مسألة (الهزيمة) بعد التهاون و(الانتصار) بعد اليقظة مسألة هامّة ورائعة، ولكن لا يمكن إنكار كون ظاهر الآية يدلّ على بيان حادثة تاريخية بعينها، وليست تمثيلا، إنّ الآية تتحدّث عن قوم من الماضين ماتوا على أثر هروبهم من حدث مروّع ثمّ أحياهم الله، فإذا كانت غرابة الحادثة وبعدها عن المألوف هو السبب في تأويلها ذاك التأويل، فهذا إذا ما ينبغي أن نفعله بشأن جميع معاجز الأنبياء، ولو أنّ أمثال هذه التأويلات والتوجيهات وجدت طريقها إلى القرآن لأمكن إنكار معاجز الأنبياء، فضلا عن إنكار معظم قصص القرآن التاريخية واعتبارها من قبيل القصص الرمزي التمثيلي، كأن نعتبر قصّة هابيل وقابيل قصّة موضوعة لتمثّل الصراع بين العدالة وطلب الحقّ من جهة، والقسوة والظلم من جهة أخرى، وبهذا تفقد قصص القرآن قيمتها التاريخية، وفضلا عن ذلك فإننا لا نستطيع أن نتجاهل الروايات الواردة في تفسير هذه الآية، لأنّ بعضها قد ورد في الكتب الموثوق بها ولا يمكن أن تكون من الإسرائيليات المجعولة.

5. هدف الآية في الواقع هو إشارة إلى جماعة من بني إسرائيل الّذين كانوا يتذرّعون تهرّبا من الجهاد بمختلف المعاذير، فابتلاهم الله بمرض الطّاعون حيث فتك بهم سريعا وأفناهم وأبادهم إلى درجة أنّه لا يستطيع‏ أي عدوّ شرس أن يصنع ذلك في ميدان القتال، فبهذا تقول الآية لهم أنّه لا تتصوّروا أنّ التهرّب من المسؤوليّة والتوسّل بالأعذار الواهية يجعلكم في مأمن من الخطر، فأنتم أعجز من أن تقفوا أمام قدرة الله تعالى، فإنّه تعالى قادر على أن يبتليكم بعدوّ صغير لا يرى بالعين وهو مكروب الطّاعون أو الوباء وأمثال ذلك فيختطف أرواحكم فيذركم كعصف مأكول.

6. النقطة الأخرى التي لا بدّ من الالتفات إليها هنا هي مسألة إمكان الرّجعة التي تستفاد من الآية بوضوح، وتوضيح ذلك: أنّ التاريخ يحدّثنا عن بعض الأقوام من السالفين ماتوا ثمّ أعيدوا إلى هذه الدنيا، كما في حادثة طائفة من بني إسرائيل الّذين توجّهوا مع النبي موسى عليه السّلام إلى جبل طور الواردة في آية 55 و56 من سورة البقرة وقصّة (عزير) أو إرميا الواردة في الآية 259 من هذه السورة، وكذلك الحادثة المذكورة في هذه الآية الكريمة، فلا مانع أن تتكرّر هذه الحادثة مرّة أخرى في المستقبل، العالم الشيعي المعروف ب (الصدوق) استدلّ بهذه الآية على القول بالرّجعة وقال: (إنّ من معتقداتنا الرّجعة) أي رجوع طائفة من الناس الّذين ماتوا في الأزمنة الغابرة إلى هذه الدّنيا مرّة أخرى، ويمكن كذلك أن تكون هذه الآية دليلا على المعاد وإحياء الموتى يوم القيامة.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/205.

114. القتال والإنفاق

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈114⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 244 ـ 245]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثم بألسنتكم، ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفا ولم ينكر منكرا قلب فجعل أعلاه أسفله(1).

2. روي أنّه قال: قيل: يا رسول الله، قوم لنا السعر، قال: إن غلاء السعر ورخصه بيد الله، أريد أن ألقى ربي وليس أحد يطلبني بمظلمة ظلمتها إياه(2).

__________

(1) نهج البلاغة: 3/244/375.

(2) البزار: ٣/١١٣.

هريرة:

روي عن أبي عثمان النهدي قال: بلغني عن أبي هريرة (ت 58 هـ) حديث أنّه قال: إن الله ليكتب لعبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة، فحججت ذلك العام، ولم أكن أريد أن أحج إلا لألقاه في هذا الحديث، فلقيت أبا هريرة، فقلت له، فقال: ليس هذا قلت، ولم يحفظ الذي حدثك، إنما قلت: إن الله ليعطي العبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة، ثم قال أبو هريرة: أو ليس تجدون هذا في كتاب الله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾، فالكثيرة عند الله أكثر من ألف ألف وألفي ألف، والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة)(1).

__________

(1) أحمد: ١٦/٤٤٢ ـ: ٤٤٣.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: أتت اليهود محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم حين أنزل الله إليه: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾، فقالوا: يا محمد، افتقر ربك!؟ يسأل عباده!؟ فأنزل الله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران: ١٨٢] (1).

2. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ الآية في ثابت بن الدحداحة حين تصدق بماله(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٦٠.

(2) الدرّ المنثور: ابن إسحاق.

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾، قال: (ألفي ألف ضعف)(1).

__________

(1) ابن عدي في الكامل: ١/٣٩٨.

السجاد:

روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إن الله عزّوجلّ وكّل بالسعر ملكا يدبره بأمره(1).

2. روي أنّه ذكر عند الإمام السجاد غلاء السعر، فقال: وما عليّ من غلائه إن غلا فهو عليه، وان رخص فهو عليه(2).

__________

(1) من لا يحضره الفقيه: 3/170/760.

(2) من لا يحضره الفقيه: 4/170/756.

الشعبي:

روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: استقرض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من رجل تمرا فلم يقرضه، وقال: لو كان هذا نبيا لم يستقرض، فأرسل إلى أبي الدحداح فاستقرضه، فقال: والله، لأنت أحق بي وبمالي وولدي من نفسي، وإنما هو مالك، فخذ منه ما شئت، واترك لنا ما شئت، فلما توفي ابن الدحداح قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (رب عذق مذلل لابن الدحداح في الجنة)(1).

__________

(1) الدرّ المنثور: ابن سعد مرسلًا.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان المشركون يخلطون أموالهم بالحرام، حتى جاء الإسلام، فنزلت هذه الآية، فأمروا أن يتصدقوا من الحلال، ولما نزلت قالت اليهود: هذا ربكم يستقرضكم، وإنما يستقرض الفقير؛ فهو فقير ونحن أغنياء، فأنزل الله: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران: ١٨١] (1).

2. روي أنّه قال: هذا في التطوع(2).

3. روي أنّه قال: إن الله ـ وله الحمد، لا شريك له ـ رفع عن هذه الأمة الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وأحل لهم في حال الضرورة كثيرا مما حرم عليهم، وأعطاهم خمسا: أعطاهم الدنيا قرضا، وسألهم إياها قرضا، فما أعطوه عن طيب نفس منهم فلهم به الأضعاف الكثيرة، من العشرة إلى سبعمائة ضعف، إلى ما لا يعلم علمه إلا الله تبارك وتعالى، وذلك قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾(3).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٤٤ ـ.

(2) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٤٤.

(3) ابن أبي الدنيا في كتاب الصبر ـ موسوعة الإمام ابن أبي الدنيا: ٤/٣٢.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: يستقرضكم ربكم كما تسمعون، وهو الولي الحميد، ويستقرض عباده!(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ﴾ يقبض الصدقة، ﴿وَيَبْسُطُ﴾(2).

3. روي أنّه قال: ذكر لنا: أن رجلا على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لما سمع هذه الآية قال أنا أقرض الله، فعمد إلى خير ماله، فتصدق به(1).

4. روي أنّه قال: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ قال من التراب خلقهم، وإلى التراب يعودون (3).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٣٠.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٦٢.

(3) ابن جرير: ٤/٤٣٥.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٣١.

أبو كثير:

روي عن يحيى بن أبي كثير (ت 132 هـ) أنّه قال: لما نزلت: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (يا أهل الإسلام، أقرضوا الله من أموالكم يضاعفه لكم أضعافا كثيرة)، فقال له ابن الدحداحة: يا رسول الله، لي مالان؛ مال بالعالية، ومال في بني ظفر، فابعث خارصك فليقبض خيرهما، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لفروة بن عمرو: (انطلق، فانظر خيرهما فدعه، واقبض الآخر)، فانطلق، فأخبره، فقال: ما كنت لأقرض ربي شر ما أملك، ولكن أقرض ربي خير ما أملك، إني لا أخاف فقر الدنيا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (يا رب عذق مذلل لابن الدحداحة في الجنة)(1).

__________

(1) الدرّ المنثور: ابن سعد مرسلًا.

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ النفقة على الأهل(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٦٠.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 245]: يعني يعطي ويمنع(1).

2. روي أنه قيل له: أخبرني عن الدعاء إلى الله والجهاد في سبيله أهو لقوم لا يحل إلا لهم ولا يقوم به إلا من كان منهم، أم هو مباح لكل من وحد الله عزّ وجلّ وآمن برسوله صلّى الله عليه وآله وسلم؟ ومن كان كذا فله أن يدعو إلى الله عزّ وجلّ وإلى طاعته وأن يجاهد في سبيل الله؟ فقال: ذلك لقوم لا يحل إلا لهم، ولا يقوم به إلاّ من كان منهم فقيل: من أولئك؟ فقال: من قام بشرائط الله عزّ وجلّ في القتال والجهاد على المجاهدين فهو المأذون له في الدعاء إلى الله عزّ وجلّ، ومن لم يكن قائما بشرائط الله عزّ وجلّ في الجهاد على المجاهدين فليس بمأذون له في الجهاد والدعاء إلى الله حتى يحكم في نفسه بما أخذ الله عليه من شرائط الجهاد، قيل: بين لي يرحمك الله، فقال: ان الله عزّ وجلّ أخبر في كتابه الدعاء إليه، ووصف الدعاة إليه فجعل ذلك لهم درجات يعرف بعضها بعضا ويستدل ببعضها على بعض، فأخبر أنه تبارك وتعالى أول من دعا إلى نفسه ودعا إلى طاعته واتباع أمره، فبدأ بنفسه فقال: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: 25] ثم ثنى برسوله فقال: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125] يعني: القرآن، ولم يكن داعيا إلى الله عزّ وجلّ من خالف أمر الله ويدعو إليه بغير ما أمر في كتابه الذي أمر أن لا يدعى إلا به، وقال في نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52] يقول: تدعو، ثمّ ثلّث بالدعاء إليه بكتابه أيضاً فقال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9] أي يدعو (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ)، ثم ذكر من أذن له في الدعاء إليه بعده وبعد رسوله في كتابه فقال: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104] ثم أخبر عن هذه الأمة وممن هي وأنها من ذرية إبراهيم وذرية إسماعيل من سكان الحرم ممن لم يعبدوا غير الله قط الذين وجبت لهم الدعوة دعوة إبراهيم وإسماعيل من أهل المسجد الذين أخبر عنهم في كتابه أنه أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، الذين وصفناهم قبل هذه في صفة أمة إبراهيم الذين عناهم الله تبارك وتعالى في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108] يعني: أول من اتبعه على الإيمان به والتصديق له بما جاء به من عند الله عزّ وجلّ من الأمة التي بعث فيها ومنها واليها قبل الخلق ممن لم يشرك بالله قط، ولم يلبس ايمانه بظلم، وهو الشرك، ثم ذكر اتباع نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم واتباع هذه الأمة التي وصفها في كتابه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعلها داعية إليه، وأذن له في الدعاء إليه، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 64] ثم وصف أتباع نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم من المؤمنين فقال عزّ وجلّ: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 29]، وقال: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ [التحريم: 8] يعني: أولئك المؤمنين، وقال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون: 1] ثم حلاهم ووصفهم كيلا يطمع في اللحاق بهم الا من كان منهم، فقال فيما حلاهم به ووصفهم: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون: 2 ـ 11] وقال في صفتهم وحليتهم أيضاً: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾ [الفرقان: 68] ثم أخبر أنه اشترى من هؤلاء المؤمنين ومن كان على مثل صفتهم ﴿أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾ [التوبة: 111]، ثم ذكر وفاءهم له بعهده ومبايعته فقال: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111] فلما نزلت هذه الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ [التوبة: 111] قام رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: أرأيتك يا نبي الله الرجل يأخذ سيفه فيقاتل حتى يقتل إلا أنه يقترف من هذه المحارم أشهيد هو؟ فأنزل الله عزّ وجلّ على رسوله ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 112] فبشر الله المجاهدين من المؤمنين الذين هذه صفتهم وحليتهم بالشهادة والجنة، وقال: التائبون من الذنوب، العابدون الذين لا يعبدون إلا الله، ولا يشركون به شيئاً، الحامدون الذين يحمدون الله على كل حال في الشدة والرخاء، السائحون وهم الصائمون، الراكعون الساجدون وهم الذين يواظبون على الصلوات الخمس، والحافظون لها والمحافظون عليها في ركوعها وسجودها وفي الخشوع فيها وفي أوقاتها الآمرون بالمعروف بعد ذلك، والعاملون به والناهون عن المنكر والمنتهون عنه، فبشر من قتل وهو قائم بهذه الشروط بالشهادة والجنة، ثم أخبر تبارك وتعالى أنه لم يأمر بالقتال إلا أصحاب هذه الشروط فقال عزّ وجلّ: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحج: 39 ـ 40].. وإنما أذن للمؤمنين الذين قاموا بشرائط الإيمان التي وصفناها، وذلك أنه لا يكون مأذونا له في القتال حتى يكون مظلوما، ولا يكون مظلوما حتى يكون مؤمنا، ولا يكون مؤمنا حتى يكون قائما بشرائط الإيمان التي اشترط الله عزّ وجلّ على المؤمنين والمجاهدين فإذا تكاملت فيه شرائط الله عزّ وجلّ كان مؤمنا، وإذا كان مؤمنا كان مظلوما، وإذا كان مظلوما كان مأذونا له في الجهاد لقول الله عز وجل: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39] وإن لم يكن مستكملا لشرائط الإيمان فهو ظالم ممن يبغي ويجب جهاده حتى يتوب وليس مثله مأذونا له في الجهاد والدعاء إلى الله عزّ وجلّ لأنه ليس من المؤمنين المظلومين الذين أذن لهم في القرآن في القتال، فلما نزلت هذه الآية ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39] في المهاجرين الذين أخرجهم أهل مكة من ديارهم وأموالهم أحل لهم جهادهم بظلمهم إياهم، وأذن لهم في القتال، قيل: فهذه نزلت في المهاجرين بظلم مشركي أهل مكة لهم، فما بالهم في قتالهم كسرى وقيصر ومن دونهم من مشركي قبائل العرب؟ فقال: لو كان إنما أذن في قتال من ظلمهم من أهل مكة فقط لم يكن لهم إلى قتال جموع كسرى وقيصر وغير أهل مكة من قبائل العرب سبيل، لأن الذين ظلموهم غيرهم، وإنما أذن لهم في قتال من ظلمهم من أهل مكة لإخراجهم إياهم من ديارهم وأموالهم بغير حق، ولو كانت الآية إنمّا عنت المهاجرين الذين ظلمهم أهل مكة كانت الآية مرتفعة الفرض عمن بعدهم إذا لم يبق من الظالمين والمظلومين أحد وكان فرضها مرفوعا عن الناس بعدهم إذا لم يبق من الظالمين والمظلومين أحد وليس كما ظننت ولا كما ذكرت، لكن المهاجرين ظلموا من جهتين: ظلمهم أهل مكة بإخراجهم من ديارهم وأموالهم فقاتلوهم بإذن الله لهم في ذلك، وظلمهم كسرى وقيصر ومن كان دونهم من قبائل العرب والعجم بما كان في أيديهم مما كان المؤمنون أحق به منهم، فقد قاتلوهم بإذن الله عزّ وجلّ لهم في ذلك، وبحجة هذه الآية يقاتل مؤمنو كل زمان، وإنما أذن الله عزّ وجلّ للمؤمنين الذين قاموا بما وصف الله عزّ وجلّ من الشرائط التي شرطها الله عزّ وجلّ على المؤمنين في الإيمان والجهاد ومن كان قائما بتلك الشرائط فهو مؤمن وهو مظلوم ومأذون له في الجهاد بذلك المعنى، ومن كان على خلاف ذلك فهو ظالم وليس من المظلومين، وليس بمأذون له في القتال، ولا بالنهي عن المنكر والأمر بالمعروف، لأنه ليس من أهل ذلك، ولا مأذون له في الدعاء إلى الله عز وجل لأنه ليس يجاهد مثله، وأمر بدعائه إلى الله، ولا يكون مجاهدا من قد أمر المؤمنون بجهاده وحظر الجهاد عليه ومنعه منه، ولا يكون داعيا إلى الله عزّ وجلّ من أمر بدعائه مثله إلى التوبة والحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يأمر بالمعروف من قد أمر أن يؤمر به، ولا ينهى عن المنكر من قد أمر أن ينهى عنه، فمن كانت قد تمت فيه شرائط الله عزّ وجلّ التي وصف بها أهلها من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهو مظلوم فهو مأذون له في الجهاد كما أذن لهم في الجهاد، لأن حكم الله عزّ وجلّ في الأولين والآخرين وفرائضه عليهم سواء إلا من علة أو حادث يكون، و الأولون والآخرون أيضاً في منع الحوادث شركاء، والفرائض عليهم واحدة، يسأل الآخرون من أداء الفرائض عما يسأل عنه الأولون، ويحاسبون عما به يحاسبون، ومن لم يكن على صفة من أذن الله له في الجهاد من المؤمنين فليس من أهل الجهاد وليس بمأذون له فيه حتّى يفيء بما شرط الله عزّ وجلّ فإذا تكاملت فيه شرائط الله عزّ وجلّ على المؤمنين والمجاهدين فهو من المأذونين لهم في الجهاد، فليتق الله عزّ وجلّ عبد ولا يغتر بالأماني التي نهى الله عزّ وجلّ عنها من هذه الأحاديث الكاذبة على الله التي يكذبها القرآن، ويتبرأ منها ومن حملتها ورواتها، ولا يقدم على الله عزّ وجلّ بشبهة لا يعذر بها، فإنّه ليس وراء المتعرض للقتل في سبيل الله منزلة يؤتى الله من قبلها، وهي غاية الأعمال في عظم قدرها، فليحكم امرؤ لنفسه وليرها كتاب الله عزّ وجلّ ويعرضها عليه فإنّه لا أحد أعلم بالمرء من نفسه، فإن وجدها قائمة بما شرط الله عليه في الجهاد فليقدم على الجهاد، وإن علم تقصيرا فليصلحها وليقمها على ما فرض الله تعالى عليها من الجهاد ثم ليقدم بها وهي طاهرة مطهرة من كل دنس يحول بينها وبين جهادها، ولسنا نقول لمن أراد الجهاد وهو على خلاف ما وصفنا من شرائط الله عزّ وجلّ على المؤمنين والمجاهدين: لا تجاهدوا، ولكن نقول: قد علمناكم ما شرط الله عزّ وجلّ على أهل الجهاد الذين بايعهم واشترى منهم أنفسهم وأموالهم بالجنان فليصلح امرؤ ما علم من نفسه من تقصير عن ذلك، وليعرضها على شرائط الله عزّ وجلّ، فإن رأى أنه قد وفي بها وتكاملت فيه فإنّه ممن أذن الله عز وجل له في الجهاد، وإن أبى إلا أن يكون مجاهدا على ما فيه من الإصرار على المعاصي والمحارم والإقدام على الجهاد بالتخبيط والعمى والقدوم على الله عزّ وجلّ بالجهل والروايات الكاذبة فلقد لعمري جاء الأثر فيمن فعل هذا الفعل أن الله تعالى ينصر هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم، فليتق الله عزّ وجلّ امرؤ وليحذر أن يكون منهم، فقد بين لكم ولا عذر لكم بعد البيان في الجهل ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله عليه توكلنا وإليه المصير(2).

3. روي أنّه قال: لما نزلت هذه الآية على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: اللهم زدني، فأنزل اللّه وتعالى عليه: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾، فقال رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وسلم: اللهم زدني، فأنزل الله تبارك وتعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ فعلم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أن الكثير من الله عز وجل لا يحصى، وليس له منتهى(3).

__________

(1) التوحيد: 161/2.

(2) الكافي: 5/13/1.

(3) معاني الأخبار: 397/54.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ طيبة بها نفسه، محتسبا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾، يعني: يقتر، ويوسع(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فيجزيكم بأعمالكم(1).

4. روي أنّه قال: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لقولهم: إن الأرض التي نبعث إليها فيها الطاعون، ﴿عَلِيمٌ﴾ بذلك، [حتى إنه ليوجد في ذلك السبط من اليهود ريح كريح الموتى (2).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٠٤.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٠٢، وفي تفسير الثعلبي: ٢/٢٠٢ ـ: ٢٠٣.

ابن المبارك:

روي عن ابن المبارك (ت 181 هـ) أنّه قال في الآية: هو أن يكون المال من الحلال(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/٢٠٦.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في الآية: علم الله أن فيمن يقاتل في سبيله من لا يجد قوة، وفيمن لا يقاتل في سبيله من يجد غنى، فندب هؤلاء إلى القرض؛ فقال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ يبسط عليك وأنت ثقيل عن الخروج لا تريده، ويقبض عن هذا وهو يطيب نفسا بالخروج ويخف له، فقوه مما في يدك يكن لك في ذلك حظ(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾، قال بالواحد سبعمئة ضعف(2).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٣٤.

(2) ابن جرير: ٤/٤٢٩.

عيينة:

روي عن سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) عن صاحب له يذكر عن بعض العلماء، قال: إن الله أعطاكم الدنيا قرضا، وسألكموها قرضا، فإن أعطيتموها طيبة بها أنفسكم ضاعف لكم ما بين الحسنة إلى العشر إلى السبعمائة، إلى أكثر من ذلك، وإن أخذها منكم وأنتم كارهون، فصبرتم وأحسنتم؛ كانت لكم الصلاة والرحمة، وأوجب لكم الهدى(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٣١.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ عامل الله تعالى بلطفه وكرمه الخلق معاملة من لا حق له في أموالهم، لا كمعاملة العباد بعضهم بعضا، وإن كان العبيد وأموالهم كلهم له حيث طلب منهم الإقراض لبعضهم من بعض ثم وعد لهم الثواب على ذلك فقال: ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ ثم لما سمع اليهود ذلك قالوا: إن إله محمد فقير، وهو قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران: 181]، ومرة قالوا لما رأوا الشدة على بعض الناس فقالوا: إنما يفعل ذلك ببخله حيث قالوا: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: 64]، فرأوا المنع إما للبخل وإما للفقر، فأكذبهم الله في قولهم ذلك فقال: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾:

أ. قيل: ﴿يَقْبِضُ﴾ أي يقتر، و﴿وَيَبْسُطُ﴾ أي يوسع.

ب. وقيل: ﴿يَقْبِضُ﴾ ما أعطى، أي يأخذ، و﴿وَيَبْسُطُ﴾ ويترك ما أعطى، ولا يأخذ منه شيئا.

ج. وقيل‏: إنها نزلت في أبى الدحداح‏؛ وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال (من تصدق بصدقة فله مثلها في الجنة، فقال أبو الدحداح: إن تصدقت بحديقتي، فلى مثلها في الجنة؟ فقال: نعم، وقال: وأم الدحداح معي؟ قال نعم، وقال: والصبية معي؟ قال نعم، فرجع أبو الدحداح فوجد أم الدحداح والصبية فيها، فقام على باب الحديقة، فنادى: يا أم الدحداح إني جعلت حديقتي هذه صدقة، واشترطت مثيلتها في الجنة، وأم الدحداح‏ والصبية فيها معي، قالت: بارك الله لك فيما شريت، وفيما اشتريت أربيت، فخرجوا منها، فتركوا ما كانوا اجتنوا منها، وسلموا الحديقة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فنزل قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ الآية.

3. اختلف في توجيه قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾:

أ. فمنهم من يوجهها إلى جميع المحاسن يؤثرها ويختارها لله، فله أضعاف ذلك في الموعود ـ آجلا وعاجلا ـ فالآجل ما وعد، والعاجل ثناء الناس وجلالة القدر له في القلوب، متعارف ذلك للأخيار، وسماه قرضا بما هو اسم المعروف، ليذكره عظم نعمه عليه، إن قبله قول المعروف بالشكر له في ذلك، وإن كان ذلك حقّا له عليه، والثاني: ليعرف الخلق كيفية الصحبة والمعاشرة بينهم، إن الله تعالى عامل عبده فيما هو له معاملة من يستحق الشكر منه بما يسدى‏ إليه من النعم، ولله حقيقة ذلك، ليعقل الحكماء أن مثل ذلك في معاملة الإخوان، وفيما كان نعمه في الحقيقة أوجب وأحق، وليعظموا المعروفين بالمعروف بما أكرمهم الله تعالى بالأسماء الجليلة، ولا قوة إلا بالله.

ب. ومنهم من يوجهها إلى الصدقات خاصة؛ وسماها قرضا لوجوه:

أحدها: أن جعل معاملة الفقراء والتصدق عليهم معاملة الله تفضيلا لهم، على ما نسب مخادعة المؤمنين إلى الله تعالى تعظيما لهم، فمثله الصدقة، ثم وعد فيه العوض لتصير الصدقة بمعنى الإقراض، إذ يرجع في عوضه، فيزول وجه الامتنان عن الفقير بما يأخذ منه البدل، وبالله التوفيق.

الثاني: سمى ذلك قرضا بما هو له على ما لم يزل الله تعالى عود به عباده بالذي عرفوا به كرمه وجوده حتى سمى تسليم الذي له في الحقيقة قرضا كالتسليم إلى من لا حق له في الحقيقة، وعلى ذلك أمر الشراء بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ [التوبة: 111]، والله أعلم.

الثالث: أنه ذكرهم وجه القصد في الصدقات، والموقع لها، ليكون ذلك تبينا لعظيم منه الفقر عليه إذ وصل به إلى الله ذكره وأجل محله عنده، فيصير عنده أحد الأعوان له والأنصار على عظيم الموعود وجليل القدر عند الله، فيحمده على ذلك ويشكر له دون أن يمن عليه أو يؤذيه.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/221.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي يقبض العطاء مرّة ويبسطه أخرى، لما أراد من المحنة والخيرة لمن اتقى، فإن رزق فلحكمته، وإن منع فلرحمته(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 287.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ القرض هنا الجهاد، وكذلك سائر أبواب البر، قال الشاعر:

çوإذا جوزيت قرضاً فاجره... إنما يجزي الفتى ليس الجملé

وقد جهلت اليهود لما نزلت هذه الآية فقالت: إن الله يستقرض منا فنحن أغنياء وهو فقير فأنزل الله: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران:181]

2. ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ أي عدداً لا يعلمه إلا الله تعالى لكثرته ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ أي يقبض الصدقات ويبسط الجزاء.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/119.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: أنه الجهاد، وهو قول ابن زيد.

ب. الثاني: أبواب البر، وهو قول الحسن، ومنه قول الشاعر:

çوإذا جوزيت قرضا فاجزه‏...إنما يجزي الفتى ليس الجمل‏é

قال الحسن: وقد جهلت اليهود لما نزلت هذه الآية فقالوا: إن الله يستقرض منا، فنحن أغنياء، وهو فقير، فأنزل الله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران: 181]

2. في قوله تعالى: ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ قولان:

أ. أحدهما: سبعمائة ضعف، وهو قول ابن زيد.

ب. الثاني: لا يعلمه أحد إلا الله، وهو قول السدي.

3. في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: يعني في الرزق، وهو قول الحسن وابن زيد.

ب. الثاني: يقبض الصدقات ويبسط الجزاء، وهو قول الزجاج.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/313.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. فيمن يتوجه إليه الخطاب في قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه متوجه الى الصحابة بعد ما ذكرهم بحال من فرّ من الموت، فلم ينفعه الفرار، حضهم على الجهاد، لئلّا يسلكوا سبيلهم في الفرار من الجهاد، كما فرّ أولئك من الديار.

ب. الثاني:الخطاب للذين جرى ذكرهم على تقدير، وقيل لهم: قاتلوا في سبيل الله، والقول الأول أظهر، لأن الكلام على وجهه، لا محذوف فيه.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾:

أ. قيل: معناه هاهنا: أنه ﴿سَمِيعٌ﴾ [المجادلة: 1] لما يقوله المنافق ﴿عَلِيمٌ﴾ [الملك: 13] بما يحبه المنافق، فاحذروا حاله.

ب. وقيل: ﴿سَمِيعٌ﴾ [المجادلة: 1] لما يقوله المتعلل ﴿عَلِيمٌ﴾ [الملك: 13] بما يضمر، فإياكم والتعلل بالباطل.

ج. وقيل: ﴿سَمِيعٌ﴾ [المجادلة: 1] لقولكم إن قلتم كقول من قبلكم ﴿عَلِيمٌ﴾ [الملك: 13] بضمائركم.

3. سبيل الله الذي أمر بالقتال فيها: قتل في دين الله، لإعزازه، والنصر له، وقتل في طاعة الله، وقتل في جهاد أعداء المؤمنين.

4. القتل: نقض البنية التي تحتاج إليها الحياة، والقتال: هو تعرض كل واحد منهما للقتل.

5. الفرق بين سميع وسامع: أن سامعاً يقتضي وجوه السمع، وسميع لا يدل عليه، وإنما معناه: أنه من كان على صفة لأجلها يسمع المسموعات إذا وجدت ولذلك يوصف تعالى فيما لم يزل بأنه سميع، ولا يوصف بأنه سامع إلا بعد وجود المسموعات.

6. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 245] قرأ أبو عمرو، ونافع، وحمزة، والكسائي (فيضاعفه) بالرفع، وقرأ عاصم بالألف، والنصب، وقرأ ابن كثير (فيضعّفه) بالتشديد، والرفع، وقرأ ابن عامر بالتشديد والنصب.

7. القرض الذي دعا الله إليه قال ابن زيد هو الجهاد، وقال في البر من النفل، والقرض: هو قطع جزء من المال بالإعطاء على أن يردّ بدل منه، وقوله: ﴿يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ مجاز، والقرض القطع بالناب، قرض يقرض قرضاً: إذا قطع الشيء بنابه، وقرّض تقريضاً، وتقرّض تقرضاً، واقترض المال اقتراضاً، والقرض ما أعطيته لتكافاه، أو يرد بعينه، واقترض اقتراضاً، واستقرض استقراضاً، وتقارضا الثناء: إذا أثنى كل واحد منهما على صاحبه، وكذلك قارضه الثناء، وانقرضوا انقراضاً: إذا هلكوا، والدنيا قروض: أي يتقارضها الناس من بينهم بالمكافاة، وقرض الشيء (أو مديناً مثل ما دانا)، يقرضه قرضاً، والشعر قريض، ومنه قوله تعالى: ﴿تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾ أي تقطعهم بمرورها عليهم والمقراض: الجلم الصغير، وقراضات الثوب ما ينفيه الجلم.

8. ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ [الحديد: 11] من رفع عطفه على قوله: ﴿يُقْرِضُ﴾ [الحديد: 11] ومن نصب، فعلى جواب الاستفهام بالفاء، والاختيار الرفع لأن فيه معنى الجزاء، وجواب الجزاء بالفاء لا يكون إلا رفعاً ﴿ويضاعفه﴾ أكثر في الاستعمال، وإنما شدد أبو عمرو ﴿يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾ [الأحزاب: 30] ولم يشدد ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ [الحديد: 11] لأن المضاعفة عنده لما لا يحّد، والتضعيف للمحدود، وتقول: ضعفت القوم أضعفهم ضعفاً: إذا كثرتهم، فصرت مع أصحابك على الضعف منهم، وضعف الشيء: مثلاه في المقدار، وأضعفت الشيء إضعافاً، وضعّفته تضعيفاً، وضاعفته مضاعفة، وهو الزيادة على أصل الشيء حتى يصير مثلين أو أكثر، وتضاعف الشيء تضاعفاً وضعف ضعفاً، والضعف خلاف القوة، لأنه قطع القوة عن التمام، وضعف الشيء مثله في المقدار إذا زيد عليه، فكل واحد منهما ضعف، والتضعيف: تكرير الخوف، واستضعفت الرجل استضعافاً، وأصل الباب الضعف، وهو زيادة المثل.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ [البقرة: 245]:

أ. قال الحسن، وابن زيد في الرزق.

ب. وحكى الزجاج: أنه يقبض الصدقات ويبسط الجزاء عليها عاجلا، وآجلا عليها.

10. القبض خلاف البسط والقبض ضم الكف على الشيء قبضه قبضا وتقبضّ عنه تقبَّضا: إذا اشمأز منه، لأنه ضم نفسه عن الانبساط إليه، وانقبض انقباضاً، وقبضت الرجل تقبيضا: إذا أعطيته لانضمام كفه على ما أخذه، ورجل قبيض: إذا كان منكمشا سريعاً لتجمعه للإسراع، وراع قبضة: إذا كان لا يتفسح في رعيه، لانقباضه، والتقبض: التشنج، وقبض الإنسان: إذا مات، والملك قابض الأرواح.

11. البسط خلاف القبض تقول: بسط يبسط بسطاً، وانبسط انبساطاً، وبسطه تبسيطاً، وتبسّط تبسطاً، والبساط ـ بكسر الباء ـ ما بسطته، والبساط ـ بفتح الباء ـ الأرض الواسعة، وناقة بسط: معها ولدها لانبساطه، والبسطة: الفضيلة في‏ الجسم أو المال، ونحو ذلك‏ ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ وكتب (بصطة) بالصاد، وبسطة بالسين، لأن القلب على الساكن أقوى منه على المتحرك.

12. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ التلطف في الاستدعاء الى أعمال البرّ والإنفاق في سبيل الخير، وجهلت اليهود لما نزلت هذه الآية، فقالوا الله يستقرض منا فنحن أغنياء وهو فقير إلينا! فأنزل الله تعالى‏ ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ ذكره الحسن.

13. اختلف في الهاء في قوله تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾:

أ. قيل: عائدة الى الله، ومعناه الى الله ترجعون في الآخرة.

ب. وقيل: الى التراب الذي خلقكم منه ذكره قتادة.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/283.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. المقاتلة: مفاعلة من القتل، والقتل بفتح القاف مصدر قتله قتلاً، وبكسر القاف العدو، قال الشاعر:

çواعتراني من عامر بن لؤي... في بلاد كثيرة الاقتتالé

ومقاتل الإنسان: المواضع التي إذا أصيبت قَتَلَتْهُ.

ب. القرض: القطع، قرض يَقْرِضُ، والقرض: ما أعطيته ليعود عليك مثله؛ لأنه يقطع لصاحبه من ماله بقرضه، والقرض: بدل ما يجب فيه المثل، ومنه سمي القراض، ومنه قَرْضُ الفأْرِ.

ج. الضعف: زيادة المثل، وضعَّفتُ الشيء كثَّرتُهُ حتى صار على الضعف من غيره، وضِعْفُ الشيء مثلاه في المقدار.

د. القبض: خلاف البسط، والقبض باليد: ضم الكف على الشيء.

2. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله وَاعْلَمُوا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾:

أ. قيل: لما أراد الله تعالى حثهم على الجهاد قدم ذكر أولئك الَّذِينَ فروا فلم ينفعهم الفرار مشجعًا بذلك، ثم عقبه بالأمر بالقتال، فقال تعالى: ﴿وَقَاتَلُوا﴾ خطاب للصحابة حثًّا على الجهاد ومنعًا من سلوك أولئك في الفرار.

ب. وقيل: إنه خطاب للذين جرى ذكرهم على تقدير: وقيل لهم قاتلوا، قال الضحاك: أمروا بالجهاد ففروا، فأماتهم، ثم أحياهم، ثم أمرهم بالجهاد.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فِي سَبِيلِ الله﴾:

أ. قيل: يعني في دين الله، وطريقه التي شرع لهم لإعزازه، عن أبي علي.

ب. وقيل: في طاعته.

ج. وقيل: في جهاد أعداء المؤمنين.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ الله سَمِيعٌ﴾:

أ. قيل: سَمِيعٌ لما يقوله المنافق: ﴿عَلِيمٌ﴾ بما يحبه، فاحذروا حاله.

ب. وقيل: سميع لما يقوله المتعلل، عليم بما يضمره، وإياكم والتعلل بالباطل.

ج. وقيل: سميع لقولكم عليم بفعلكم وضمائركم.

5. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَالله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾:

أ. عن سفيان قال: لما نزل قوله: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: رَبِّ زِدْ أمتي، فنزلت: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله﴾ الآية، فقال: ربِّ زِدْ أمتي، فنزلت: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾

ب. وقيل: لما نزلت الآية قال اليهود: الله يستقرض منا فنحن أغنياء، وهو فقير، فنزل قوله: ﴿لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ عن الحسن.

6. لما حث الله تعالى على الجهاد، وذلك يكون بالنفس والمال، عقبه بهذه الآية، وهو تلطف في الاستدعاء إلى البر والإنفاق في سبيل الله فقال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي﴾ هو استفهام والمراد الأمر والترغيب.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يُقْرِضُ الله﴾:

أ. قيل: أي ينفق في سبيله وطاعته، وليس هذا القرض حاجة، وإنما هو مجاز وتوسع، عن أبي علي، وكثر استعماله عند الحاجة فاستعمل ههنا على غير ذلك الوجه، ووجه الشبه أنه ينفق ليجازى عليه فشبه بالقرض، وهو الوجه.

ب. وقيل: معنى القرض البلاء الحسن، عن الزجاج.

ج. وقيل: القرض: ما أسلفت من عمل صالح أو سيئ، عن الكسائي.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قَرْضًا﴾:

أ. قيل: في الجهاد، عن ابن زيد.

ب. وقيل: في أبواب البر، عن الحسن.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حَسَنًا﴾:

أ. قيل: محتسبا طيِّبة به نفسه، عن الواقدي.

ب. وقيل: من الحلال، عن ابن المبارك.

ج. وقيل: لا تَمُنّ ولا تؤذِ.

د. وقيل: حسن الموقع عند الإنفاق فلا يكون خسيسًا.

هـ. وقيل: بجميع هذه الوجوه كلها.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾:

أ. قيل: يمسك، ويضيق على من شاء، ويوسع على من شاء في الرزق بحسب المصالح، عن الحسن وابن زيد وأبي علي وأبي مسلم.

ب. وقيل: يقبض الصدقات بالقبول، ويبسط الجزاء عليها عاجلاً وآجلا، عن الأصم وحكاه الزجاج.

ج. وقيل: أراد ما يفعله بالمكلف من ضيق صدره بالعطية وسعة صدره يعني بالألطاف.

د. وقيل: يقبض: يسلب عن قوم نعمتهم، ويبسط لقوم بحسب المصلحة أو رحمة أو عقوبة، عن الأصم.

هـ. وقيل: يقبض بموت واحد، ويبسط لوارثه.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾:

أ. قيل: إلى الموضع الذي يحكم بين عباده، ولا حاكم ولا مالك غيره فيجازيكم بأعمالكم.

ب. وقيل: إلى التراب، يعني منه خلقكم وإليه تعودون، عن قتادة.

12. تدل الآيات الكريمة على:

أ. وجوب الجهاد.

ب. التحذير في القول والعمل من حيث يرى ويسمع ويعلم ما يحبه الواحد منا.

ج. أن الله تعالى سميع بصير، خلاف ما يقوله البغدادية إنه بمعنى يعلم، والسميع الذي يسمع المسموعات إذا وجدت، والبصير الذي يدرك المرئيات إذا وجدت، والفرق بين سامع وسميع أن السامع يدل على وجود المسموع، وسميع لا يدل عليه.

د. التحذير من النفاق والرياء؛ لأنه تعالى يعلم الأسرار.

هـ. الترغيب في الإنفاق في سبيل الله، ثم اختلفوا، فمنهم من حمله على التطوع، ومنهم من حمله على كل صدقة واجبة أو غيرها، والأول أقرب؛ لأنه شبه ذلك بالقرض الذي لا يكون إلا تبرعًا.

و. أنه يجازي على الأعمال.

ز. أنه يقبض ويبسط في الدنيا للمصلحة لا للاستحقاق، وأنه في الآخرة يجازي على الأعمال.

ح. أنه ينبغي للعبد أن يتكل على رزق الله وفضله؛ لأنه الغني الذي لا يفتقر، والجواد الذي لا يبخل، والحافظ الذي لا ينسى.

13. قراءات وحجج:

أ. في قوله تعالى: ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ أربع قراءات، قرأ: ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ بالألف والرفع أبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي، وقرأ بالألف والنصب عاصم، وقرأ بالتشديد والرفع بلا ألف (فيضعِّفُه) أبو جعفر وابن كثير، وقرأ ابن عامر بالتشديد والنصب، وهما لغتان، ووجه الرفع العطف على: ﴿يُقْرِضُ﴾، ووجه النصب على جواب الاستفهام بالفاء، والاختيار الرفع؛ لأن فيه معنى الجزاء، وجواب الجزاء بالفاء لا يكون إلا رفعًا، و(يضاعفه) أكثر في الاستعمال، وقرأ أبو عمرو (يضعف لها العذاب) بالتشديد، وههنا بالألف؛ لأن عنده المضاعفة لما لا يحد، والتضعيف للمحدود.

ب. قرأ أبو عمرو وحمزة: ﴿يَبْسُطُ﴾ بالسين، وفي الأعراف: ﴿بَسْطَةً﴾، وروي عنهما بالصاد، واختلف عن بعض أيضًا، والباقون بالصاد، وهما لغتان.

14. مسائل نحوية:

أ. ﴿مِنَ﴾ استفهام محله رفع بالابتداء، و﴿الَّذِي﴾ خبره.

ب. ﴿وَإِلَيْهِ﴾ الهاء كناية عن اسم الله تعالى، وقيل: يعود على التراب الذي خلقكم منه، عن قتادة فهو كناية عن غير مذكور، وفيه بُعْدٌ، والأول الوجه.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/41.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. القرض هو قطع جزء من المال بالإعطاء، على أن يرد بعينه، أو يرد مثله بدلا منه، وأصل القرض: القطع بالناب يقال: قرض الشيء يقرض: إذا قطعه بنابه، وأقرض فلان فلانا: إذا أعطاه ما يتجازاه منه، والاسم منه القرض.

ب. التضعيف والمضاعفة والإضعاف بمعنى وهو الزيادة على أصل الشيء، حتى يصير مثلين أو أكثر، تقول: ضعفت القوم أضعفهم ضعفا: إذا كثرتهم فصرت مع أصحابك على الضعف منهم، وضعف الشيء: مثله في المقدار، إذا زيد عليه، فكل واحد منهما ضعف، وضعف الشيء ضعفا وضعفا، والضعف: خلاف القوة، والقبض: خلاف البسط، يقال: قبضه يقبضه قبضا.

ج. القبض: ضم الكف على الشيء، والتقبض: التشنج، وتقبض عنه: إذا اشمأز عنه، لأنه ضم نفسه عن الانبساط إليه، وقبض الانسان: إذا مات، والملك: قابض الأرواح.

د. بسط يبسط بسطا، والبساط والبساط بفتح الباء: الأرض الواسعة، وكتب يبسط بالسين، وبصطة بالصاد، لأن القلب على الساكن أقوى منه على المتحرك.

2. اختلف في المخاطب بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله﴾:

أ. قيل: توجه الخطاب إلى الصحابة بعد ما ذكرهم بحال من فر من الموت، فلم ينفعه الفرار، يحرضهم على الجهاد، لئلا يسلكوا في الفرار من الجهاد سبيل أولئك الذين فروا من الديار.

ب. وقيل: إنه خطاب للذين جرى ذكرهم على تقدير: وقيل لهم قاتلوا في سبيل الله.

3. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي: سميع لما يقول المنافق، عليم بما يجنه، فاحذروا حاله.

4. لما حث سبحانه على الجهاد، وذلك يكون بالنفس والمال، وعقبه بالتلطف في الاستدعاء إلى أعمال البر، والإنفاق في سبيل الخير، فقال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله﴾ أي: ينفق في سبيل الله وطاعته، والمراد به الأمر، وليس هذا بقرض حاجة على ما ظنه اليهود، فقال: إنما يستقرض منا ربنا عن عوز، فإنما هو فقير ونحن أغنياء، بل سمى تعالى الانفاق قرضا تلطفا للدعاء إلى فعله، وتأكيدا للجزاء عليه، فإن القرض يوجب الجزاء.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾:

أ. قيل: القرض الحسن أن ينفق من حلال، ولا يفسده بمن ولا أذى.

ب. وقيل: هو أن يكون محتسبا طيبا به نفسه، عن الواقدي.

ج. وقيل: هو أن يكون حسن الموقع عند الانفاق، فلا يكون خسيسا.

د. والأولى أن يكون جامعا لهذه الأمور كلها، فلا تنافي بينها.

6. ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ أي: فيزيده له أي: يعطيه ما لا يعلمه إلا الله، وهو مثل قوله تعالى: ﴿وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ عن الحسن والسدي.

7. روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾ قال رسول الله: رب زدني، فأنزل الله: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ فقال رسول الله: رب زدني، فأنزل الله سبحانه: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾، والكثير عند الله لا يحصى.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾:

أ. قيل: معناه، والله يقبض الرزق عن أقوام بأن يقتره عليهم، ويبسط الرزق على أقوام بأن يوسعه عليهم، عن الحسن وابن زيد.

ب. وقيل: معناه يقبض الصدقات، ويبسط الجزاء عليها، عاجلا أو آجلا، أو كلاهما، عن الأصم والزجاج.

ج. وقيل: يقبض الرزق بموت واحد، ويبسط لوارثه.

9. ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ هذا تأكيد للجزاء.

10. قال الكلبي في سبب نزول هذه الآية: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: من تصدق بصدقة فله مثلها في الجنة) فقال أبو الدحداح الأنصاري، واسمه عمرو بن الدحداح: يا رسول الله! إن لي حديقتين إن تصدقت بإحداهما، فإن لي مثليها في الجنة؟قال: نعم، قال: وأم الدحداح معي؟ قال: نعم، قال: والصبية معي؟ قال: نعم، فتصدق بأفضل حديقتيه، فدفعها إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فنزلت الآية، فضاعف الله له صدقته ألفي ألف، وذلك قوله: ﴿أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾، قال: فرجع أبو الدحداح، فوجد أم الدحداح والصبية في الحديقة التي جعلها صدقة، فقام على باب الحديقة، وتحرج أن يدخلها فنادى: يا أم الدحداح! قالت: لبيك يا أبا الدحداح، قال: إني قد جعلت حديقتي هذه صدقة، واشتريت مثليها في الجنة، وأم الدحداح معي، والصبية معي، قالت: بارك الله لك فيما شريت، وفيما اشتريت! فخرجوا منها، وأسلموا الحديقة إلى النبي، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (كم نخلة متدل عذوقها لأبي الدحداح في الجنة!)

11. قراءات وحجج:

12. ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ [الحديد: 11] فيه أربع قراآت: قرأ أبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي: ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ بالألف والرفع، وقرأ عاصم بالألف والنصب، وقرأ ابن كثير وأبو جعفر: (فيضعفه) بالتشديد والرفع، وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد والنصب:

قال أبو علي: للرفع في قوله: ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ وجهان أحدهما: أن يعطفه على ما في الصلة والآخر: أن يستأنفه.

فأما النصب في: ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ فالرفع أحسن منه ألا ترى أن الاستفهام إنما هو عن فاعل الإقراض، لا عن الإقراض، وإذا كان كذلك لم يكن مثل قولك أتقرضني فأشكرك، لأن الاستفهام ههنا عن الإقراض.

ووجه قول ابن عامر وعاصم في النصب من فاء: ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ أنه حمل الكلام على المعنى، وذلك أنه لما كان المعنى أيكون قرض حمل قوله: ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ على ذلك، كما أن من قرأ: ﴿مَنْ يُضْلِلِ الله فَلَا هَادِيَ﴾ ويذرهم جزم قوله: ﴿وَيَذَرُهُمْ﴾ لما كان معنى قوله: ﴿فَلَا هَادِيَ لَهُ﴾ لا يهده، ونحو ذلك مما يحمل فيه الكلام على المعنى دون اللفظ كثير.

فأما القول في يضاعف ويضعف فكل واحد منهما في معنى الآخر، وقوله: ﴿أَضْعَافًا﴾ منصوب على الحال، وتقديره فيكثره، فإذا هي أضعاف، فيكون حالا بعد الفراغ من الفعل.

13. قرأ أبو عمرو والكسائي وحمزة يبسط، وبسطه وفي الأعراف أيضا بالسين، وروي عنهم أيضا بالصاد، ويعقوب وهشام بالسين والباقون مختلف عنهم، وجه قول من أبدل من السين الصاد في هذه المواضع التي ذكرت أن الطاء حرف مستعل يتصعد من مخرجها إلى الحنك، ولم يتصعد السين تصعدها، فكره التصعد عن التسفل، فأبدل من السين حرفا في مخرجها في تصعد الطاء فتلاءم الحرفان، وصار كل واحد منهما وفق صاحبه في التصعد، فزال في الإبدال ما كان يكره من التصد عن التسفل، ولو كان اجتماع الحرفين على عكس ما ذكرناه، وهو أن يكون التصعد قبل التسفل، لم يكره ذلك، ولم يبدلوا، ألا ترى أنهم قالوا: طسم الطريق، وقسوت، وقست، فلم يكرهوا التسفل عن تصعد، كما كرهوا بسط حتى قالوا بصط، فأبدلوا، فأما من لم يبدل السين في بسط، وترك السين، فلأنه الأصل، ولأن ما بين الحرفين من الخلاف يسير، فاحتمل الخلاف لقلته.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/608.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في المخاطبين بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 244] قولان:

أ. أحدهما: أنهم الذين أماتهم الله، ثم أحياهم، قاله الضحّاك .

ب. الثاني: أنه خطاب لأمّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فمعناه: لا تهربوا من الموت كما هرب هؤلاء، فما ينفعكم الهرب واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بما تنطوي عليه ضمائركم.

﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ [الحديد: 11]، قال الزجّاج: أصل القرض ما يعطيه الرجل أو يفعله ليجازى عليه، وأصله في اللغة القطع، ومنه أخذ المقراض، فمعنى أقرضته: قطعت له قطعة يجازيني عليها.

2. سؤال وإشكال: ما وجه تسمية الصّدقة قرضا؟ والجواب: من ثلاثة أوجه:

أ. أحدها: أن القرض يبدل بالجزاء .

ب. الثاني: لأنه يتأخر قضاؤه إلى يوم القيامة.

ج. الثالث: لتأكيد استحقاق الثواب به، إذ لا يكون قرض إلا والعوض مستحقّ به، فأمّا اليهود فإنهم جهلوا هذا، فقالوا: أيستقرض الله منا؟ وأما المسلمون فوثقوا بوعد الله، وبادروا إلى معاملته، قال ابن مسعود: لما نزلت هذه الآية، قال أبو الدّحداح: وإن الله تعالى ليريد منا القرض؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (نعم)، قال أرني يدك، قال إني أقرضت ربّي حائطي، قال وحائطه فيه ستمائة نخلة، ثم جاء إلى الحائط، فقال: يا أمّ الدّحداح اخرجي من الحائط، فقد أقرضته ربّي، وفي بعض الألفاظ: فعمدت إلى صبيانها تخرج ما في أفواههم، وتنفض ما في أكمامهم، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (كم من عذق رداح في الجنّة لأبي الدّحداح)

3. في معنى القرض الحسن ستة أقوال:

أ. أحدها: أنه الخالص لله، قاله الضحّاك .

ب. الثاني: أن يخرج عن طيب نفس، قاله مقاتل.

ج. الثالث: أن يكون حلالا، قاله ابن المبارك.

د. الرابع: أن يحتسب عند الله ثوابه.

هـ. الخامس: أن لا يتبعه منّا ولا أذى.

و. السادس: أن يكون من خيار المال.

4. في الأضعاف الكثيرة قولان:

أ. أحدهما: أنها لا يحصى عددها، قاله ابن عباس والسّدّيّ، وروى أبو عثمان النّهديّ عن أبي هريرة أنّه قال: إن الله يكتب للمؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة، وقرأ هذه الآية، ثم قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة)

ب. الثاني: أنها معلومة المقدار، فالدّرهم بسبعمائة، كما ذكر في الآية بعدها، قاله ابن زيد.

5. في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ [البقرة: 245] قولان:

أ. أحدهما: أن معناه: يقتر على من يشاء في الرزق، ويبسطه على من يشاء، قاله ابن عباس، والحسن، وابن زيد ومقاتل .

ب. الثاني: يقبض يد من يشاء عن الإنفاق في سبيله، ويبسط يد من يشاء بالإنفاق، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ في آخرين.

__________

(1) زاد المسير: 1/220.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ قولان:

أ. الأول: أن هذا خطاب للذين أحيوا، قال الضحاك: أحياهم ثم أمرهم بأن يذهبوا إلى الجهاد لأنه تعالى إنما أماتهم بسبب أن كرهوا الجهاد، وهذا القول لا يتم إلا بإضمار محذوف تقديره: وقيل لهم قاتلوا.

ب. الثاني: وهو اختيار جمهور المحققين: أن هذا استئناف خطاب للحاضرين، يتضمن الأمر بالجهاد إلا أنه سبحانه بلطفه ورحمته قدم على الأمر بالقتال ذكر الذين خرجوا من ديارهم لئلا ينكص عن أمر الله بحب الحياة بسبب خوف الموت، وليعلم كل أحد أنه يترك القتال لا يثق بالسلامة من الموت، كما قال في قوله: ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب: 16] فشجعهم على القتال الذي به وعد إحدى الحسنيين، إما في العاجل الظهور على العدو، أو في الآجل الفوز بالخلود في النعيم، والوصول إلى ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.

2. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فالسبيل هو الطريق، وسميت العبادات سبيلا إلى الله تعالى من حيث إن الإنسان يسلكها، ويتوصل إلى الله تعالى بها، ومعلوم أن الجهاد تقوية للدين، فكان طاعة، فلا جرم كان المجاهد مقاتلا في سبيل الله.

3. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي هو يسمع كلامكم في ترغيب الغير في الجهاد، وفي تنفير الغير عنه، وعليم بما في صدوركم من البواعث والأغراض وأن ذلك الجهاد لغرض الدين أو لعاجل الدنيا.

4. ثم إنه تعالى لما أمر بالقتال في سبيل الله ثم أردفه بقوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾، واختلف المفسرون فيه على قولين:

أ. الأول: أن هذه الآية متعلقة بما قبلها والمراد منها القرض في الجهاد خاصة، فندب العاجز عن الجهاد أن ينفق على الفقير القادر على الجهاد، وأمر القادر على الجهاد أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد، ثم أكد تعالى ذلك بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ [البقرة: 245]، وذلك لأن من علم ذلك كان اعتماده على فضل الله تعالى أكثر من اعتماده على ماله وذلك يدعوه إلى إنفاق المال في سبيل الله، والاحتراز عن البخل بذلك الإنفاق.

ب. الثاني: أن هذا الكلام مبتدأ لا تعلق له بما قبله.

5. اختلف القائلون بأن قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ المراد منه إنفاق المال، على ثلاثة أقوال:

أ. القول الأول: أن المراد من الآية ما ليس بواجب من الصدقة، وهو قول الأصم واحتج عليه بوجهين:

الأول: أنه تعالى سماه بالقرض والقرض لا يكون إلا تبرعا.

الثاني: سبب نزول الآية، قال ابن عباس: نزلت الآية في أبي الدحداح قال يا رسول الله إن لي حديقتين فإن تصدقت بإحداهما فهل لي مثلاها في الجنة؟ قال نعم، قال وأم الدحداح معي؟ قال نعم، قال والصبية معي؟ قال نعم، فتصدق بأفضل حديقته، وكانت تسمى الحنينة، قال فرجع أبو الدحداح إلى أهله وكانوا في الحديقة التي تصدق بها، فقام على باب الحديقة، وذكر ذلك لامرأته فقالت أم الدحداح: بارك الله لك فيما اشتريت، فخرجوا منها وسلموها، فكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: كم من نخلة رداح، تدلي عروقها في الجنة لأبي الدحداح، إذا عرفت سبب نزول هذه الآية ظهر أن المراد بهذا القرض ما كان تبرعا لا واجبا.

ب. القول الثاني: أن المراد من هذا القرض الإنفاق الواجب في سبيل الله، واحتج هذا القائل على قوله بأنه تعالى ذكر في آخر الآية: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ وذلك كالزجر، وهو إنما يليق بالواجب.

ج. القول الثالث: وهو الأقرب أنه يدخل فيه كلا القسمين، كما أنه داخل تحت قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ﴾ [البقرة: 261]

6. من قال المراد من هذا القرض شيء سوى إنفاق المال، قالوا: روي عن بعض أصحاب ابن مسعود أنه قول الرجل (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) قال القاضي: وهذا بعيد، لأن لفظ الإقراض لا يقع عليه في عرف اللغة، ثم قال: ولا يمكن حمل هذا القول على الصحة، إلا أن نقول: الفقير الذي لا يملك شيئا إذا كان في قلبه أنه لو كان قادرا لأنفق وأعطى فحينئذ تكون تلك النية قائمة مقام الإنفاق، وقد روي عنه صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال (من لم يكن عنده ما يتصدق به فليلعن اليهود فإنه له صدقة)

7. اختلفوا في أن إطلاق لفظ القرض على هذا الإنفاق حقيقة أو مجاز:

أ. الأول: قال الزجاج: إنه حقيقة، وذلك لأن القرض هو كل ما يفعل ليجازى عليه، تقول العرب: لك عندي قرض حسن وسيء، والمراد منه الفعل الذي يجازى عليه، قال أمية بن أبي الصلت:

çكل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا...أو سيئا أو مدينا كالذي داناé

ومما يدل على أن القرض ما ذكرناه أن القرض أصله في اللغة القطع، ومنه القراض، وانقراض، وانقرض القوم إذا هلكوا، وذلك لانقطاع أثرهم فإذا أقرض فالمراد قطع له من ماله أو عمله قطعة يجازى عليها.

ب. الثاني: أن لفظ القرض هاهنا مجاز، وذلك لأن القرض هو أن يعطي الإنسان شيئا ليرجع إليه مثله وهاهنا المنفق في سبيل الله إنما ينفق ليرجع إليه بدله إلا أنه جعل الاختلاف بين هذا الإنفاق وبين القرض من وجوه:

أحدها: أن القرض إنما يأخذه من يحتاج إليه لفقره وذلك في حق الله تعالى محال .

ثانيها: أن البدل في القرض المعتاد لا يكون إلا المثل، وفي هذا الإنفاق هو الضعف .

ثالثها: أن المال الذي يأخذه المستقرض لا يكون ملكا له وهاهنا هذا المال المأخوذ ملك لله، ثم مع حصول هذه الفروق سماه الله قرضا، والحكمة فيه التنبيه على أن ذلك لا يضيع عند الله، فكما أن القرض يجب أداؤه لا يجوز الإخلال به فكذا الثواب الواجب على هذا الإنفاق واصل إلى المكلف لا محالة.

8. يروى‏ أنه لما نزلت هذه الآية قالت اليهود: إن الله فقير ونحن أغنياء، فهو يطلب منا القرض، وهذا الكلام لائق بجهلهم وحمقهم، لأن الغالب عليهم التشبيه، ويقولون: إن معبودهم شيخ، قال القاضي: من يقول في معبوده مثل هذا القول لا يستبعد منه أن يصفه بالفقر.

9. سؤال وإشكال: ما معنى قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ ولأي فائدة جرى الكلام على طريق الاستفهام؟ والجواب: إن ذلك في الترغيب في الدعاء إلى الفعل أقرب من ظاهر الأمر.

10. ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ قال الواحدي: (القرض في هذه الآية اسم لا مصدر، ولو كان مصدرا لكان ذلك إقراضا)، وكون القرض حسنا يحتمل وجوها .

أ. أحدها: أراد به حلالا خالصا لا يختلط به الحرام، لأن مع الشبهة يقع الاختلاط، ومع الاختلاط ربما قبح الفعل .

ب. ثانيها: أن لا يتبع ذلك الإنفاق منا ولا أذى .

ج. ثالثها: أن يفعله على نية التقرب إلى الله تعالى، لأن ما يفعل رياء وسمعة لا يستحق به الثواب.

11. في قوله تعالى: ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ أربع قراءات:

أ. أحدها: قرأ أبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي‏ ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ بالألف والرفع .

ب. الثاني: قرأ عاصم‏ ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ بألف والنصب .

ج. الثالث: قرأ ابن كثير فيضعفه بالتشديد والرفع بلا ألف .

د. الرابع: قرأ ابن عامر فيضعفه بالتشديد والنصب.

12. أما التشديد والتخفيف فهما لغتان، ووجه الرفع العطف على يقرض، ووجه النصب أن يحمل الكلام على المعنى لا على اللفظ لأن المعنى يكون قرضا فيضاعفه، والاختيار الرفع لأن فيه معنى الجزاء، وجواب الجزاء بالفاء لا يكون إلا رفعا.

13. التضعيف والإضعاف والمضاعفة واحد وهو الزيادة على أصل الشيء حتى يبلغ مثلين أو أكثر، وفي الآية حذف، والتقدير: فيضاعف ثوابه.

14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾:

أ. فمنهم من ذكر فيه قدرا معينا، وأجود ما يقال فيه: إنه القدر المذكور في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾ [البقرة: 261] فيقال‏ يحمل المجمل على المفسر لأن كلتا الآيتين وردتا في الإنفاق، ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى لم يقتصر في هذه الآية على التحديد، بل قال بعده: ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 261]

ب. الثاني: وهو الأصح واختيار السدي: أن هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو وكم هو؟ وإنما أبهم تعالى ذلك لأن ذكر المبهم في باب الترغيب أقوى من ذكر المحدود.

15. في بيان أن قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ [البقرة: 245] كيف يناسب ما تقدم وجوه:

أ. أحدها: أن المعنى أنه تعالى لما كان هو القابض الباسط، فإن كان تقدير هذا الذي أمر بإنفاق المال الفقر فلينفق المال في سبيل الله، فإنه سواء أنفق أو لم ينفق فليس له إلا الفقر، وإن كان تقديره الغنى فلينفق فإنه سواء أنفق أو لم ينفق فليس له إلا الغنى والسعة وبسط اليد، فعلى كلا التقديرين يكون إنفاق المال في سبيل الله أولى .

ب. ثانيها: أن الإنسان إذا علم أن القبض والبسط بالله انقطع نظره عن مال الدنيا، وبقي اعتماده على الله، فحينئذ يسهل عليه إنفاق المال في سبيل مرضاة الله تعالى .

ج. ثالثها: أنه تعالى يوسع عن عباده ويقتر، فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم، لئلا يبدل السعة الحاصلة لكم بالضيق .

د. رابعها: أنه تعالى لما أمرهم بالصدقة وحثهم عليها أخبر أنه لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه وإعانته، فقال: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ [البقرة: 245] يعني يقبض القلوب حتى لا تقدم على هذه الطاعة، ويبسط بعضها حتى يقدم على هذه الطاعة، ثم قال ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ والمراد به إلى حيث لا حاكم ولا مدبر سواه.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/499.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي﴾، قال مالك: سبل الله كثيرة، وما من سبيل إلا يقاتل عليها أو فيها أولها، وأعظمها دين الإسلام، لا خلاف في هذا، وقيل: الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل، روى عن ابن عباس والضحاك.

2. الواو على هذا في قوله ﴿وَقَاتَلُوا﴾ عاطفة على الأمر المتقدم، وفي الكلام متروك تقديره: وقال لهم قاتلوا، وعلى القول الأول عاطفة جملة كلام على جملة ما تقدم، ولا حاجة إلى إضمار في الكلام، قال النحاس: ﴿وَقَاتَلُوا﴾ أمر من الله تعالى للمؤمنين ألا تهربوا كما هرب هؤلاء، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي يسمع قولكم إن قلتم مثل ما قال هؤلاء ويعلم مرادكم به، وقال الطبري: لا وجه لقول من قال: إن الأمر بالقتال للذين أحيوا.

3. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ لما أمر الله تعالى بالجهاد والقتال على الحق ـ إذ ليس شي من الشريعة إلا ويجوز القتال عليه وعنه، وأعظمها دين الإسلام ـ كما قال مالك ـ حرض على الإنفاق في ذلك، فدخل في هذا الخبر المقاتل في سبيل الله، فإنه يقرض به رجاء الثواب كما فعل عثمان في جيش العسرة، و﴿منَ﴾ رفع بالابتداء، و﴿ذَا﴾ خبره، و﴿الَّذِي﴾ نعت لذا، وإن شئت بدل.

4. لما نزلت هذه الآية بادر أبو الدحداح إلى التصدق بماله ابتغاء ثواب ربه، إلى آخر الأثر سبق ذكره.

5. قال ابن العربي: انقسم الخلق بحكم الخالق وحكمته وقدرته ومشيئته وقضائه وقدره حين سمعوا هذه الآية أقساما، فتفرقوا فرقا ثلاثة:

أ. الفرقة الأولى الرذلى قالوا: إن رب محمد محتاج فقير إلينا ونحن أغنياء، فهذه جهالة لا تخفى على ذي لب، فرد الله عليهم بقوله: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران: 181]

ب. الفرقة الثانية: لما سمعت هذا القول آثرت الشح والبخل وقدمت الرغبة في المال، فما أنفقت في سبيل الله ولا فكت أسيرا ولا أعانت أحدا، تكاسلا عن الطاعة وركونا إلى هذه الدار.

ج. الفرقة الثالثة: لما سمعت بادرت إلى امتثاله وآثر المجيب منهم بسرعة بماله كأبي الدحداح وغيره.

6. ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ القرض: اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء، وأقرض فلان فلانا أي أعطاه ما يتجازاه، قال الشاعر وهو لبيد:

çوإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنما يجزي الفتى ليس الجملé

والقرض بالكسر لغة فيه حكاها الكسائي، واستقرضت من فلان أي طلبت منه القرض فأقرضني، واقترضت منه أي أخذت القرض، وقال الزجاج: القرض في اللغة البلاء الحسن والبلاء السيئ، قال أمية:

çكل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا ... أو سيئا ومدينا مثل ما داناé

وقال آخر:

çتجازى القروض بأمثالها ... فبالخير خيرا وبالشر شراé

وقال الكسائي: القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيئ، وأصل الكلمة القطع، ومنه المقراض، وأقرضته أي قطعت له من مالي قطعة يجازي عليها، وانقرض القوم: انقطع أثرهم وهلكوا، والقرض هاهنا: اسم، ولولاه لقال هاهنا إقراضا.

7. استدعاء القرض في هذه الآية إنما هي تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه، والله هو الغني الحميد، لكنه تعالى شبه عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو به ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء، حسب ما يأتي بيانه في براءة إن شاء الله تعالى.

8. المراد بالآية الحث على الصدقة وإنفاق المال على الفقراء والمحتاجين والتوسعة عليهم، وفي سبيل الله بنصرة الدين، وكنى الله سبحانه عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيبا في الصدقة، كما كنى عن المريض والجائع والعطشان بنفسه المقدسة عن النقائص والآلام، ففي صحيح الحديث إخبارا عن الله تعالى: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني، قال يا رب كيف سقيك وأنت رب العالمين!؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي، وكذا فيما قبل، أخرجه مسلم والبخاري وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كنى عنه ترغيبا لمن خوطب به.

9. يجب على المستقرض رد القرض، لأن الله تعالى بين أن من أنفق في سبيل الله لا يضيع عند الله تعالى بل يرد الثواب قطعا وأبهم الجزاء، وفي الخبر: النفقة في سبيل الله تضاعف إلى سبعمائة ضعف وأكثر، على ما يأتي بيانه في هذه السورة عند قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾ الآية، وقال هاهنا: ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ وهذا لا نهاية له ولا حد.

10. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالقرض وثوابه وأحكامه، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

11. ﴿حَسَنًا﴾ قال الواقدي: محتسبا طيبة به نفسه، وقال عمرو ابن عثمان الصدفي: لا يمن به ولا يؤذي، وقال سهل بن عبد الله: لا يعتقد في قرضه عوضا.

12. ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ هذا عام في كل شي فهو القابض الباسط.. ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ وعيد، فيجازى كلا بعمله.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/231.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ هو معطوف على مقدّر، كأنه قيل: اشكروا فضله بالاعتبار بما قصّ عليكم وقاتلوا، هذا إذا كان الخطاب بقوله تعالى: ﴿وَقَاتَلُوا﴾ راجعا إلى المخاطبين بقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا﴾ كما قاله جمهور المفسرين، وعلى هذا يكون إيراد هذه القصة لتشجيع المسلمين على الجهاد؛ وقيل إن الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل فيكون عطفا على قوله تعالى: ﴿مُوتُوا﴾ وفي الكلام محذوف تقديره: وقال لهم: قاتلوا، وقال ابن جرير: لا وجه لقول من قال إن الأمر بالقتال للذين أحيوا.

2. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ لما أمر سبحانه بالقتال والجهاد أمر بالإنفاق في ذلك، و(من) استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء، و(ذا) خبره، و(الذي) وصلته وصف له، أو بدل منه، وإقراض الله: مثل لتقديم العمل الصالح الذي يستحق به فاعله الثواب، وأصل القرض: اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء، يقال: أقرض فلان فلانا، أي: أعطاه ما يتجازاه.

3. ﴿حَسَنًا﴾ أي: طيبة به نفسه من دون منّ ولا أذى.. ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ هذا عام في كل شيء، فهو القابض الباسط، والقبض: التقتير، والبسط: التوسيع؛ وفيه وعيد بأن من بخل من البسط يوشك أن يبدل بالقبض، ولهذا قال: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي: هو يجازيكم بما قدمتم عند الرجوع إليه، وإذا أنفقتم مما وسع به عليكم أحسن إليكم، وإن بخلتم عاقبكم.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/301.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، قال المفسرون: في إتباع القصة المتقدمة الأمر بالقتال، دليل على أنها سيقت بعثا على الجهاد، فحرض على الجهاد بعد الإعلام بأن الفرار من الموت لا يغني، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فادرؤوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ‏﴾ [آل عمران: 168]، وأصل السبيل هو الطريق، وسميت المجاهدة سبيلا إلى الله تعالى من حيث إن الإنسان يسلكها ويتوصل إلى الله بها ليتمكن من إظهار عبادته تعالى، ونشر الدعوة إلى توحيده وحماية أهلها والمدافعة عن الحق وأهله، فالقتال دفاع في سبيل الله لإزالة الضرر العام، وهو منع الحق وتأييد الشرك، وذلك بتربية الذين يفتنون الناس عن دينهم وينكثون عهودهم لا لحظوظ النفس وأهوائها، والضراوة بحب التسافك وإزهاق الأرواح، ولا لأجل الطمع في الكسب.

2. في قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ بعث على صدق النية والإخلاص، كما في الصحيحين‏ عن أبي موسى قال: سئل رسول‏ الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.

3. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ هذا حث من الله تعالى لعباده على الصدقة، وقد كرر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير موضع، قال القرطبيّ: طلب القرض في هذه الآية لما هو تأنيب وتقريب للناس بما يفهمون، والله هو الغني الحميد، لكنه تعالى شبه إعطاءه المؤمنين، وإنفاقهم في الدنيا الذي يرجون ثوابه في الآخرة، بالقرض، كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة، بالبيع والشراء، حسبما يأتي بيانه في سورة براءة، وكنى الله سبحانه وتعالى عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيبا في الصدقة، كما كنّى عن المرض والجائع والعطشان بنفسه المقدسة، ففي‏ صحيح الحديث‏ إخبارا عن الله تعالى: (يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني، استطعمتك فلم تطعمني، استسقيتك فلم تسقني، قال يا ربّ! كيف أسقيك وأنت ربّ العالمين؟ قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي)؛ وكذا فيما قبله، أخرجه الشيخان، وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كنّى عنه ترغيبا لمن خوطب به.

4. ﴿حَسَنًا﴾ أي طيبة به نفسه من دون منّ ولا أذى، ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ كما قال سبحانه: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261]

5. ولما رغب سبحانه في إقراضه أتبعه جملة مرهبة مرغبة فقال: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ أي: يضيّق على من يشاء من عباده في الرزق ويوسعه على آخرين، أي فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم، لئلا يبدّل السعة الحاصلة لكم بالضيق، ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي يوم القيامة فيجازيكم، قال المهايميّ: وكيف ينكر بسط الله وقبضه وهو الذي يعطي الفقير الملك ويسلبه من أهله، ويقوي الضعفاء من الجمع القليل ويضعف الأقوياء من الجمع الكثير؟

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/176.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في القصَّة تمهيد للاجتراء على القتال كما قال: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ يا أيُّها المسلمون، ولا بدَّ من الموت، فإن قُتلتم متُّم شهداء فائزين، ولا يردُّ الموتَ لأجَله شيء، فقد فرَّ هؤلاء الإسرائيليُّون عن الطَّاعون أو القتال فماتوا ولم يغنهم الفرار شيئًا، فتوكَّلوا على الله وقاتلوا أعداءه، ولو بالدعاء على من استعدَّ منهم لإهانة الإسلام.

2. والعطف على (أَلَمْ تَرَ) عطف قصَّة على أخرى، أو مراعاة لمعنى (أَلَمْ تَرَ)، إذ معناه: انظر وتفكَّرْ، أو يقدَّر: اشكروا وقاتلوا في سبيل الله، ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ لا يخفى عنه الجهاد والإخلاص ولا عدم الجهاد أو الإخلاص، ولا يخفى عنه قول المتخَلِّف عن الجهاد وتنفيره لغيره عنه؛ وقيل: الخطابانِ في الزمان السابق لمن أماتهم ثمَّ أحياهم.

3. ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ يعامل الله بأعماله الصَّالحة، من إنفاق ماله في الجهاد وأنواع الأجر، واستعمال نفسه في ذلك فرضًا ونفلاً، وسائر الأعمال الصالحة ولو غير الجهاد أيضًا، ويدخل الجهاد أوَّلاً، وعن عمر: المراد الجهاد والإنفاق فيه، معاملةَ من يُقرض محتاجًا، فإنَّ الله يثيبه بالجنَّة الدَّائمة على ذلك، كما يردُّ إليه المستقرض مثل ما أقرض، والله غنيٌّ.

4. وفي البخاري ومسلم من الحديث القدسيِّ: (يا ابن آدم، مرضتُ فلم تعدني، واستطعمتُكَ فلم تطمعني، واسْتَسْقَيْتُكَ فلم تَسْقِي، قال: يا ربِّ كيف تمرض وكيف أطعمك وأسقيك وأنت ربُّ العالمين؟ قال: مَرِضَ عَبدي فلان فلم تعدْه، واسْتَسقَاكَ فلم تَسْقِه، واسْتَطعَمك فلم تُطعمه، أمَا إِنَّك لو فعلت ذلك لوجدته عندي)، وحسن القرض أن يكون بإخلاص وطيب نفس ومن حلال غير رديء، والقرض اسم مصدر لـ (يُقْرِضُ) أَيْ إِقرَاضًا أو [قرضًا بمعنى] مالا، فيكون مفعولا به لـ (يُقرضُ).

5. ﴿فَيُضَاعِفُهُ﴾ يكثر جزاءه كَمًّا، ويعظمه كَيْفًا، والمفاعلة مبالغة ﴿لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ لا يعلمها إِلَّا الله، الواحدة بعشر وأكثر، إلى سبعمائة وأكثر، قيل: عن أبي هريرة: (إنَّ الله تَعَإلى لَيَكْتُبُ لِعَبْدِهِ المُؤمن بالحسنة الواحدة ألفَ ألفِ حسنة)، فحجَّ أبو عثمان النهديُّ ليسمع هذا عن أبي هريرة فلقيه، فقال: (لم يحفظ الرَّاوي وإنَّما قلت: ألفيْ ألف حسنة، والله قد سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم )، و(أضعافًا) جمع ضعف، والضعف بمعنى: إضعاف، بكسر الهمزة، أو (مُضاعفةً) مفعول مطلق، والمصدر واسمه يصلحان للكثير مع الإفراد، ولكن جمع للدلالة على الأنواع، أو بمعنى نفس القسم حال من الهاء، أو مفعول ثانٍ لأنَّ المعنى: يصيِّره أقسامًا كثيرة.

6. ﴿وَاللهُ يَقْبِضُ﴾ يضيِّق الرزق على من يشاء، قدَّم القبض تسلية للفقراء، بأنَّه يعقبه البسط، كما قال: ﴿وَيَبْصُطُ﴾ الرزق لمن يشاء، وكلُّ ذلك حكمة، فلا تبخلوا بما أعطاكم، وفي الحديث القدسيِّ: (من عبادي من لا يُصلِحه إِلَّا الغنَى، ولو أفقرتُه لفسدَ، ومن عبادي من لا يصلحه إِلَّا الفقر، ولو أغنيته لفسدَ)، ولا تمسكوا خوف الفقر فإنَّ الله يقبض عمَّن يشاء ولو أمسك، وقيل: يقبض الصدقة ويبسط الثواب عليها، ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فيجازيكم على ما قدَّمتم من قليلكم أو كثيركم.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/93.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. القتال في سبيل الله: هو القتال لإعلاء كلمته، وتأمين دينه ونشر دعوته، والدفاع عن حزبه كي لا يغلبوا على حقهم، ولا يصدوا عن إظهار أمرهم، فهو أعم من القتال لأجل الدين؛ لأنه يشمل مع الدفاع عن الدين وحماية دعوته الدفاع عن الحوزة إذا هم الطامع المهاجم باغتصاب بلادنا والتمتع بخيرات أرضنا، أو أراد العدو الباغي إذلالنا، والعدوان على استقلالنا، ولو لم يكن ذلك لأجل فتنتنا في ديننا، فهذا الأمر مطلق كأنه أمر لنا بأن نتحلى بحلية الشجاعة، ونتسربل بسرابيل القوة والعزة؛ لتكون حقوقنا محفوظة، وحرمتنا مصونة، لا نؤخذ من جانب ديننا، ولا نغتال من جهة دنيانا، بل نبقى أعزاء الجانبين، جديرين بسعادة الدارين، ألا ترى أن من ساق الله لنا العبرة بحالهم، وذكرنا بسنته في موتهم وحياتهم، لم يذكر أنهم قوتلوا وقتلوا لأجل الدين! فالقتال لحماية الحقيقة كالقتال لحماية الحق كله جهاد في سبيل الله، فتفسير الجلال سبيل الله بإعلاء دينه تقييد لمطلق، وتخصيص لقول عام من غير دليل، وقد اتفق الفقهاء على أن العدو إذا دخل دار الإسلام، يكون قتاله فرض عين.

2. ذكّرنا الله تعالى بعد هذا الأمر بأنه سميع عليم؛ لينبهنا على مراقبته فيما عسى أن نعتذر به عن أنفسنا في تقصيرها عن امتثال هذا الأمر في وقته، وأخذ الأهبة له قبل الاضطرار إليه، أمرنا أن نعلم أنه سميع لأقوال الجبناء في اعتذارهم عن أنفسهم: ماذا نعمل؟ ما في اليد حيلة، ليس لها من دون الله كاشفة، ليس لنا من الأمر شيء، لو كان لنا من الأمر شيء ما قعدنا هاهنا، فهذه الألفاظ في هذا المقام مفتاح الجبن، وعلل الخوف والحزن، فهي عند أهلها تعلات وأعذار، وعند الله تعالى ذنوب وأوزار، وما كان منها حقا في نفسه فهو من الحق الذي أريد به الباطل ـ وأن نعلم أنه عليم بما يأتيه مرضى القلوب وضعفاء الإيمان من الحيل والمراوغة، والفرار من الاستعداد والمدافعة، فإذا علمنا هذا وحاسبنا به أنفسنا، عرفنا أن كلا من المعتذر بلسانه والمتعلل بفعاله مخادع لربه ولنفسه وقومه.

3. قال محمد عبده بعد نحو مما تقدم: وكثير من الناس يهزأ بنفسه وهو لا يدري إذ يصدق ما يعتاده من التوهم، وهذه شنشنة المخذولين الذين ضربت عليهم الذلة وخيم عليهم الشقاء، تعمل فيهم هذه الوساوس مالا تعمل الحقائق، وقد أنذرنا الله تعالى أن نكون مثلهم بتذكيرنا بأنه سميع عليم، لا يخادع ولا يخفى عليه شيء، ونقول: إن هذا التذكير كان بالأمر بالعلم لا بمجرد القول أو التسليم، فمن علم علما صحيحا أن الله سميع لما يقول عليم بما يفعل، حاسب نفسه وناقشها، ومن حاسب نفسه وناقشها تجلى له كل آن من تقصيرها ما يحمله على التشمير لتدارك ما فات، والاستعداد لما هو آت، فمن تراه مشمرا فاعلم أنه عالم، ومن تراه مقصرا فاعلم بأنه مغرور آثم.

4. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، القتال للدفاع عن الحق أو لحماية الحقيقة يتوقف على بذل المال لتجهيز المقاتلة ولغير ذلك، لا فصل في الحاجة إلى هذا بين البدو والحضر، فإذا كانت مقاتلة القبائل البدوية لا تكلف رئيسها أن يتولى تجهيزها بل يجهز كل واحد نفسه، فكل واحد مطالب ببذل المال لتجهيز نفسه، وإعانة من يعجز عن ذلك من فقراء قومه، وأما دول الحضارة فهي تحتاج في الاستعداد للمدافعة والمهاجمة ما لا يحتاج إليه أهل البادية، وقد كثرت نفقات الدول الحربية اليوم بارتقاء الفنون العسكرية، وتوقف الحرب على علوم وفنون وصناعات كثيرة من قصر فيها كان عرضة لسقوط دولته؛ لهذا قرن الله تعالى الأمر بالقتال، بالحث على بذل المال، فالمراد بالبذل هنا ما يعين على القتال، وما هو بمعناه من كل ما يعلي شأن الدين، ويصون الأمة ويمنعها من عدوان العادين، ويرفع مكانتها في العالمين.

5. ذكر الله تعالى حكم هذا الإنفاق في سبيل الله بعبارة تستفز النفوس، وأسلوب يحفز الهمم، ويبسط الأكف بالكرم، فقال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ فهذه العبارة أبلغ من الأمر المجرد، ومن الأمر المقرون ببيان الحكمة، والتنبيه إلى الفائدة، والوجه في اختيار هذا الأسلوب هنا على ما قرره محمد عبده أن الداعية إلى البذل في المصالح العامة ضعيفة في نفوس الأكثرين، والرغبة فيه قليلة؛ إذ ليس فيه من اللذة والأريحية ما في البذل للأفراد، فاحتيج فيه للمبالغة في التأثير.

6. يدفع الغني إلى بذل شيء من فضل ماله لأفراد ممن يعيش معهم أمور كثيرة: منها إزالة ألم النفس برؤية المعوزين والبائسين، ومنها اتقاء حسد الفقراء واكتفاء شر شرارهم، والأمن من اعتدائهم، ومنها التلذذ برؤية يده العليا، وبما يتوقعه من ارتفاع المكانة في النفوس، وتعظيم من يبذل لهم وشكرهم وحبهم؛ فإن السخي محبب إلى جميع الناس من ينتفع منهم بسخائه ومن لا ينتفع، وإذا كان البذل إلى ذوي القربى أو الجيران فحظ النفس فيه أجلى، وشفاء ألم النفس به أقوى، فإن ألم جارك وقريبك ألم لك، ويتعذر على الإنسان أن يكون ناعما بين أهل البؤس والضراء، سعيدا بين الأشقياء، فكل هذه حظوظ للنفس في البذل للأفراد تسهل عليها امتثال أمر الله فيه وإن لم يكن مؤكدا، وقد يكون فيها من الرياء وحب السمعة ما ينافي كونها قربة وتعبدا.

7. البذل الذي يراد هنا ـ وهو البذل للدفاع عن الدين وإعلاء كلمته وحفظ حقوق أهله ـ فليس فيه شيء من تلك الحظوظ التي تسهل على النفس مفارقة محبوبها المال إلا إذا كان تبرعا جهريا يتولى جمعه بعض الحكام والأمراء أو يجمع بأمر الملوك والسلاطين؛ ولذلك يقل في الناس من يبذل المال في المصالح العامة لوجه الله تعالى، فلهذا كان المقام يقتضي مزيد التأكيد والمبالغة في الترغيب.

8. ليس في الكلام ما يدرك شأو هذه الآية في تأثيرها، ولا سيما موقعها هذا بعد بيان سنة الله تعالى في موت الأمم وحياتها، حسبك أنه تعالى جعل هذا البذل بمثابة الإقراض له، وهو الغني عن العالمين الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما، وإنما يقترض المحتاج، وأنه عبر عن طلبه بهذا الضرب من الاستفهام، المستعمل للإكبار والاستعظام، فإنه إنما يقال من ذا الذي يفعل كذا؟ في الأمر الذي يندر أن يقدم عليه أحد، يقال من ذا يتطاول إلى الملك فلان؟ أو من ذا الذي يعمل هذا العمل وله كذا؟ إذا كان عظيما أو شاقا يقل من يتصدى له، قال الله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، وقال: ﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ﴾؟ الآية، ولا يقال: من ذا الذي يشرب هذه الكأس المثلوجة؟ ـ وهجير الصيف متقد، والسموم تلفح الوجوه ـ

9. لم يكتف الله تعالى بتسميته إقراضا وبالتعبير عنه بهذا الاستفهام حتى قال: ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ ذلك أن الإقراض هو أن تعطي إنسانا شيئا من المال على أن يرد إليك مثله، فالتعبير بالإقراض يقتضي أن القرض لا يضيع، وليس هذا بكاف في الترغيب الذي تقتضيه الحال هنا، فصرح بأنه لا يرد مثله، بل أضعاف أضعافه من غير تحديد، وقد قال في مقام آخر: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ وهو كاف هناك لما علمت من الفصل بين المقامين، والتفاوت بين الناس في الحالين، وإنك لتجد الناس على هذا التأكيد في الترغيب قلما يجودون بأموالهم في المصالح العامة ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾

10. قال محمد عبده: معلوم أن الله تعالى غني عن العالمين فلا يحتاج إلى شيء لذاته، ولا هو عائل لجماعة معينين فيقترض لهم، فلا بد لهذا التعبير بالإقراض من وجه صحيح ـ أي غير ما يعطيه الأسلوب من الترغيب ـ فما هذا الوجه؟ ورد في الحديث أن الفقراء عيال الله على الأغنياء؛ لأن الحاجات التي تعرض لهم يقضيها الأغنياء؛ ومعنى كونهم عيال الله: أن ما أصابهم من الفاقة والعوز إنما كان بالجري على سنن الله في أسباب الفقر، وللفقر أسباب كثيرة منها الضعف والعجز عن الكسب ومنها إخفاق السعي، ومنها البطالة والكسل، ومنها الجهل بالطرق الموصلة، ومنها ما تسوقه الأقدار من نحو حركات الرياح واضطراب البحار واحتباس الأمطار، وكساد التجارة ورخص الأسعار، والأغنياء متمكنون من إزالة بعض هذه الأسباب أو تدارك ضررها وإضعاف أثرها، كإزالة البطالة بإحداث أعمال ومصالح للفقراء، وإزالة الجهل بالإنفاق على التعليم والتربية ـ تعليم طرق الكسب والتربية على العمل والاستقامة والصدق ـ وإذا كان فقر الفقير إنما هو بالجري على سنة من سنن الله فإزالة سبب فقره أو مساعدته عليه أو فيه إنما يجري على سنة من سننه تعالى أيضا كما أن غنى الغني كذلك، فالإنفاق لإحياء سنة الله ومساعدة من ينتسبون إلى الله تعالى على أنهم عياله ـ إذ لا غنى لهم بكسبهم ولا حول لهم ولا قوة ـ ينزل منزلة الإقراض له تعالى، فالفقراء عيال، والله يعولهم بأيدي الأغنياء، ويعول الأغنياء بتوفيقهم لأسباب الغنى.

11. هكذا محمد عبده وجه العبارة بعد أن قال: إن الحث على الإنفاق في هذه الآية يراد به الإنفاق في المصلحة العامة، لا مواساة الفقير، فكأنه أراد أن يبين صحة التعبير في نفسه حيثما ورد وإن استعمل في مقام آخر، كقوله تعالى في سورة التغابن: ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ودخل فيما ذكره بعض المصالح العامة وهو ينطبق على سائرها؛ فإن القتال لحماية الدين وتأمين دعوته وللدفاع عن الأنفس والبلاد هو من سنن الله تعالى في الاجتماع البشري، فالإنفاق فيه يصح أن يسمى إقراضا لله تعالى باعتبار إقامة سنته به على وجه الحق الذي يرضيه جل شأنه، وقد كنت أزيد مثل هذا البحث فيما أكتبه وأسنده إليه في حياته اعتمادا على إجازته مع كونه مما يقتضيه قوله.

12. التعبير عن الإنفاق بالإقراض(2) الذي يشعر بحاجة المستقرض إلى المقرض عادة جدير بأن يملك قلب المؤمن ويحيط بشعوره ويستغرق وجدانه حتى يسهل عليه الخروج من كل ما يملك ابتغاء مرضاة الله وحياء منه، فكيف وقد وعد برده مضاعفا أضعافا كثيرة ووعده الحق؟ هذا التعبير بمثابة الهز والزلزال لقلوب المؤمنين، فقلب لا يلين له ويندفع به إلى البذل قلب لم يمسه الإيمان، ولم تصبه نفحة من نفحات الرحمن قلب خاو من الخير، فائض بالخبث والشر؛ أي لطف من عظيم يداني هذا اللطف من الله تعالى بعباده؟ جبار السماوات والأرض رب كل شيء ومليكه، الغني عن العالمين، الفعال لما يريد، المقلب لقلوب العبيد، يرشد عباده الذين أنعم عليهم بفضل من المال واختصهم بشيء من النعمة إلى مواساة إخوانهم بما فيه سعادة لهم أنفسهم ولمن يعيش معهم، ويهديهم إلى بذل شيء من فضول أموالهم في المصالح العامة التي فيها صلاح حالهم، وحفظ شرفهم واستقلالهم، فيبرر هذا الهدى والإرشاد في صورة الاستفهام دون صيغة الأمر والإلزام، ويسمي نفسه مقترضا ليشعر قلب الغني بمعنى الحاجة التي ربما تصيبه يوما من الأيام، ثم هو يعده بمضاعفة ذلك العطاء، أيكون هذا اللطف كله منه بعبده الذي غمره بنعمته وفضله على كثير من خلقه، ثم يجمد قلب هذا العبد وتنقبض يده، ولا يستحي من ربه، ولا يثق بوعده، ويقال مع هذا: إنه مؤمن به وبأن ما أصابه من الخير فهو من عنده؟ كلا، مثل في نفسك ملكا من ملوك الدنيا يريد أن يجمع إعانة للفقراء أو لمصلحة من مصالح الدولة، وقد خاطبك بمثل هذا الخطاب في التلطف والاستعطاف، ومثل في خيالك موقع قوله من قلبك، وأثر كلامه في يديك.

13. أما كون القرض حسنا، فالمراد به ما حل محله ووافق المصلحة، لا ما وضع موضع الفخفخة وقصد به الرياء والسمعة، نعم إن ما أنفق في المصالح العامة حسن ـ وإن أريد به الشهرة ـ ولكنه لا يكون دالا على إيمان المنفق وثقته بربه وابتغائه مرضاته، ولا على حبه الخير لذاته لارتقاء نفسه وعلو همته بما استفاد من فضائل الدين وحسن التهذيب، فلا يكون له حظ من نفقته يقربه إلى ربه زلفى، بل يكون كل جزائه تلك السمعة الحسنة (فهجرته إلى ما هاجر إليه)، ومن الناس من ينفق في المصالح بنية حسنة، ولكن بغير بصيرة تريه مواطن المنفعة بنفقته، فيبني مسجدا حيث تكثر المساجد؛ فيكون سببا في زيادة تفرق الجماعة وذلك مخالف لحكمة الشرع، أو يبني مدرسة ولا يحسن اختيار المعلمين لها، أو يفرض لها من النفقة ما لا يكفي لدوامها، فيسرع إليها الخراب، أو يضع فيها معلمين فاسدي الاعتقاد أو الآداب، فيفسدون ولا يصلحون، فمثل هذا كله لا يقال له قرض حسن، وإنما يكون الإنفاق قرضا حسنا مستحقا للمضاعفة الكثيرة إذا وضع موضعه مع البصيرة وحسن النية؛ ليكون على الوجه المشروع من إقامة الدين وحفظ مصالح المسلمين، أو منفعة جميع الأنام من الطريق الذي شرعه الإسلام.

14. أما هذه المضاعفة إلى أضعاف كثيرة ـ وسيأتي في آية أخرى بلوغها سبعمائة ضعف، والمراد الكثرة ـ فهي تكون في الدنيا والآخرة؛ ذلك بأن المنفق لإعلاء كلمة الله ولتعزيز الأمة وللمدافعة عن الحق والحقيقة يكون مدافعا عن نفسه ومعززا لها وحافظا لحقوقها؛ لأن اعتداء المعتدين على الأمة إنما يكون بالاعتداء على أفرادها، فضعف الأمة وإذلالها وضياع حقوقها لا يتحقق إلا بما يقع على أفرادها وهو منهم، والبلاء يكون عاما ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ ثم إن الأمة التي تبذل أغنياؤها المال وتقوم بفريضة التعاون على الأعمال، فيكفل غنيها فقيرها، ويحمي قويها ضعيفها، تتسع دائرة مصالحها ومنافعها، وتكثر مرافقها وتتوفر سعادتها، وتدوم على أفرادها النعمة، ما استقاموا على البذل والتعاون في المصالح العامة، ثم إنهم يكونون بذلك مستحقين لسعادة الآخرة ومضاعفة الثواب فيها.

15. لو سرنا في الأرض وسبرنا أحوال الأمم الحاضرة وعرفنا تاريخ الأمم الغابرة لرأينا كيف ماتت الأمم التي قصرت في هذه الفريضة أو استعبدت، وكيف عزت الأمم التي شمرت فيها وسعدت، وهذه المضاعفة الدنيوية تكون لكل أمة أقامت هذه السنة الإلهية في حفظ بيضتها، وإعزاز سلطانها، سواء أكان المنفقون فيها يبتغون الأجر عند الله تعالى أم لا، وإنها لمضاعفة كثيرة لا يمكن تحديدها، فما أجهل الأمم الغافلة عنها وعن حال أهلها إذ يرون أهلها قد ورثوا الأرض وسادوا الشعوب فيتمنون لو كانوا مثلهم، ولا يدرون كيف يكون كذلك!

16. من العجب أن يكون المسلمون اليوم أجهل الأمم والشعوب بهذه السنة الإلهية وهم يتلون كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار ولا تتحرك قلوبهم، ولا تنبسط أيديهم عند تلاوة آياته الحاثة على بذل المال في سبيله، ولا سيما هذه الآية التي لو أنزلت على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من هيبة الله تعالى والحياء منه، عمل بهذه الهداية قوم فسعدوا، وتركها آخرون فشقوا، فإن كان قد فات الأولين قصد مرضاة الله بإقامة سنته فحرموا ثواب الآخرة، فقد خسر الآخرون بتركها السعادتين، وذلك هو الخسران المبين.

17. ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ وقرأ نافع والكسائي والبزي وأبو بكر (يبصط) بالصاد، وهي لغة، كأن الأصل فيها تفخيم السين لمجاورة الطاء، يقبض الرزق عن بعض الناس فيجهلون طرقه التي هي سنن الله تعالى فيه، أو يضعفون في سلوكها، ويبسطه لمن يشاء بما يهديهم إلى تلك السنن، ويفتح لهم الأبواب ويسهل لهم الأسباب، ولو شاء أن يغني فقيرا ويفقر غنيا لفعل، فإن الأمر كله له وبيده القبض والبسط، وهو واضع السنن الهادي إليها، والموفق للسير عليها، فليس حضه الأغنياء على مواساة الفقراء والإنفاق في المنافع العامة أو الخاصة من حاجة به أو عجز منه سبحانه، كلا، بل هي هدايته الإنسان إلى طريق الشكر على النعم بما يحفظها ويفضي إلى المزيد فيها، حتى يبلغ كماله الاجتماعي الذي أعده له بحكمته.

18. قال بعض المفسرين: يقبض بعض الأيدي عن البذل، ويبسط بعضها بالفضل، قال محمد عبده: وهو لا يتفق مع ما تقدمه من الآية ولا يظهر بعده ما تضمنه قوله تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ من الوعد والوعيد؛ أي: لأنه لا بد أن يكون مرتبا على عمل لنا فيه كسب واختيار، لا على ما تصرفه الأقدار، وقد قال بعض العلماء: إن هذا التعقيب يدل على أن البذل واجب يعاقب على تركه، أقول يريد عقاب الآخرة، وأما عقاب الدنيا فهو أظهر؛ لأنه مشاهد لأرباب البصائر الباحثين في شئون الأمم، إذ لا يبحثون في حال أمة عزيزة إلا ويرون بذل أغنيائها المال لنشر العلوم وإتقان الأعمال، وتعاون أفرادها على مصلحتها هي أسباب عزتها ورفعتها، ولا يبحثون في حال أمة ذليلة مقهورة إلا ويرون أغنياءها ممسكين وأفرادها غير متعاونين، فعلمنا بهذا أن قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ الآية، بيان لطريق المضاعفة ودليل عليه، وتذكير بالله وبتدبيره لخلقه وبمصير الخلق إليه؛ أي: فهو يضاعف لهم في الدارين، وقد عهدنا في القرآن ختم آيات الأحكام بمثل هذا، وعندي أن هذه الآية أبلغ آياته.

19. الرجوع إلى الله تعالى رجوعان(2):

أ. رجوع في هذا العالم إلى سنته الحكيمة ونظام خليقته الثابت ككون تحصيل الغني يكون بكذا من عمل العامل وكذا من توفيق الله تعالى وتسخيره، وكون الفقر يكون بكذا وكذا من نحو ذلك، وككون البذل من فضل المال يأتي بكذا وكذا من المنافع الخاصة بالباذل والعامة لقومه الذين يعتز بعزتهم ويسعد بسعادتهم، وكون ترك البذل يأتي بكذا وكذا من المفاسد والمضار العامة والخاصة ولا يستقل الإنسان بعمل من ذلك تمام الاستقلال بحيث يستغني به عن الرجوع إلى الله تعالى بالحاجة إلى معونته وتوفيقه وتسخير الأسباب له، ولو فرض أن بعض أعماله يتم بكسبه وسعيه وجده لما كان راجعا إلا إلى الله تعالى فيه؛ لأنه ما عمل ولا وصل إلا بالسير على سنته، وإنما يكون مستغنيا عن الله تعالى إن قدر أن يغير سننه ونظام خلقه وينفذ بعمله من محيط ملكه وسلطانه ﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾

ب. أما الرجوع الآخر فهو الرجوع في الدار الآخرة حيث تظهر نتائج الأعمال وآثارها ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/459.

(2) الكلام هنا لمحمد عبده

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ القتال في سبيل الله هو القتال لإعلاء كلمة الحق، وتأمين الدعوة، ونشر الدين، حتى لا يغلب أهله، ولا يصدهم صادّ عن إقامة شعائره، وتلقين أوامره، والدفاع عن بلاد الإسلام إذا همّ الطامع في اغتصابها والتمتع بخيراتها، وإرادة إذلالها، والعدوان على استقلالها، فهذا أمر لنا بأن نتحلّى بالشجاعة، ونلبس سرابيل القوة، ليخشى العدو بأسنا، ويرهب جانبنا، ونكون أعزاء ونحيا حياة سعيدة في دنيانا وأخرانا.

2. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فعلينا أن نراقب أنفسنا فيما عسى أن نعتذر به عن التقصير عن امتثال الأمر بالقتال بنحو قولنا ـ ماذا نعمل، ليس لنا في الأمر شيء (ليس لها من دون الله كاشفة) إلى نحو ذلك من تعلّات الجبناء التي لا يتقبلها الله وما هي إلا مراوغة، وفرار من الاستعداد للدفاع ومقاتلة العدو، فالمتعلل بها مخادع لربه ولنفسه ولقومه، فمن علم علما صحيحا أن الله سميع لما يقول، عليم بما يفعل، حاسب نفسه حتى يتجلّى له من تقصيره ما يحمله على التشمير عن ساعد الجد لتدارك ما فات، والاستعداد لما هو آت.

3. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ بعد أن أمر سبحانه بالقتال في الآية السابقة دفاعا عن الحق، وكان ذلك يتوقف على بذل المال لتجهيز المقاتلة، والاستعداد للمدافعة، ولا سيما بعد أن ارتقت الفنون العسكرية، واحتاجت إلى علوم وصناعات كثيرة ـ حثّ هنا على بذل المال فيما يعين عليه، ويعلى شأن الدين، ويمنع عداوة المعتدين.

4. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ حث سبحانه على الإنفاق في سبيل الله بهذا الأسلوب الذي يستفزّ النفوس ويبسط الأكف، إذ سماه قرضا لله، والله غنى عن العالمين، لعلمه بأن داعى البذل في المصالح العامة ضعيف في نفوس أكثر الناس والرغبة فيه قليلة، فإنك لترى أن الغنى يبذل فضل ماله لأفراد يعيش بينهم، إما لاتقاء شر حسده، وإما لارتفاع مكانته في النفوس، وإما لجلب محبتهم إياه كما قال:

çأحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم‏...فطالما استعبد الإنسان إحسان‏é

ولا سيما إذا كان البذل لذوى القربي، فحظ النفس فيه أظهر، إذ يتعذر على الإنسان أن يكون ناعم البال بين أهل الضر والبؤس، سعيدا بين الأشقياء والمعوزين، أما البدل للدفاع عن الدين وإعلاء كلمته، وحفظ حقوقه، فليس فيه شيء من حظوظ النفس التي تسهل عليها مفارقة ما تحبه وهو المال، إلا إذا كان تبرعا جهريا يتولاه الحكام والملوك.

5. من قبل هذا احتاج الأمر إلى المبالغة في الترغيب، فإنك لا تقول: من ذا الذي‏ يفعل كذا إلا في الأمر العظيم الذي يندر أن يقدم عليه أحد، لأنه عظيم أو شاقّ قلّ من يتصدى له كما جاء في قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ﴾ وقوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾

6. القرض الحسن هو ما حل محله ووافق المصلحة، لا ما قصد به الرياء والسمعة، نعم إن ما أنفق في المصالح العامة حسن وإن أريد به الشهرة، لكنه لا يدل على ثقة المنفق بربه، وابتغائه مرضاته، ولا على حبه للخير لذاته، فلا يكون له حظ من نفقته يقرّبه إلى ربه، والخلاصة ـ إنه لا يكون القرض حسنا إلا إذا وضع موضعه، مع البصر بوجه الحاجة وحسن النية، ليكون فيه منفعة للمسلمين من الطريق الذي شرعه الإسلام.

7. ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ الأضعاف واحدها ضعف، وهو مثل الشيء في المقدار يزاد عليه، وقد عبر عن البذل في سبيله ابتغاء مرضاته بالقرض الحسن، وهذا يقتضى أنه لا يضيع منه شيء عند الله، ثم عبر ثانيا بالجزاء عليه أضعافا مضاعفة، زيادة في الترغيب والحث عليه، وهذه الأضعاف الكثيرة التي جاء في بعض الآيات أنها تبلغ سبعمائة ضعف (والمراد من ذلك) تكون في الدنيا والآخرة.

8. ذاك أن المنفق لإعلاء كلمة الله، ولتعزيز الأمة، والدفاع عن الحق، إنما يدافع عن نفسه، ويحفظ حقوقها، فضعف الأمة وضياع حقوقها لا يكون إلا بما يقع على أفرادها من البلاء والعسف والظلم ـ إلى أن بذل الأغنياء لأموالهم، وقيامهم بفريضة التعاون، وكفالة الغنى للفقير، وحماية القوىّ للضعيف ـ مما يوسع المرافق على الأمة ويوفر لها السعادة ويديم لأفرادها النعمة، ما بقوا على هذه السنة، واستقاموا على هذا النهج القويم ثم هم بذلك يستحقون سعادة الآخرة ومضاعفة الثواب، ورضوان الله ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة: 72]

9. ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ يقبض أي يقتر ويضيق، ويبسط أي يوسع أي والله يقتر على بعض الناس لجهلهم بسنن الله في كسب المال، وعدم نهوضهم للسعى في مناكب الأرض بحسب الأوضاع التي شرعها الله لعباده في هذه الحياة، ويبسط الرزق لآخرين، لأنهم ساروا على النواميس التي تقتضيها طبيعة الحياة، واتخذوا الأسباب التي توصل من سلكها إلى نتائجها المحتومة كما أرشدت إلى ذلك الفطرة وسنة الوجود، ولو شاء أن يغنى فقيرا، أو يفقر غنيا لفعل، فإن الأمر كله له، وبيده القبض والبسط، فحضّ الأغنياء على مؤازرة الفقراء لم يكن من حاجة له، أو عجز منه، بل هداية منه لعباده، ليشكروه على تلك النعم فيزيدهم منها كما قال ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ وبذلك يبلغ النوع الإنساني كماله الاجتماعي الذي أعده له بحكمته حتى يحقق معنى الخلافة في الأرض ويعمرها على أحسن الوجوه، وأفضل الحالات.

10. ثم بين الله تعالى مصير الخلق ومجازاتهم على أعمالهم من خير أو شر، وفيه وعد ووعيد فقال: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ والرجوع إلى الله ضربان:

أ. رجوع في هذه الحياة بالسير على سننه الحكيمة، ونظمه في الخليقة، بأن يعرف المرء أن الغنى يكون بعمل العامل وتوفيق الله وتسخيره، وأن البذل من فضل الله يأتي بالمنافع الخاصة للباذل، وبالمنافع العامة لقومه الذين يعتز بهم ويسعد بسعادتهم، وأن تركه يعقبه مفاسد ومضار عامة وخاصة للأمم والأفراد، وأنه لا يستقل بعمله مهما أوتي من رجاحة عقل، بل له حاجة إلى معونة الله وتوفيقه بتسخير الأسباب له.

ب. رجوع في الآخرة حين تظهر للمرء نتائج أعماله وآثار أفعاله‏ ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾

__________

(1) تفسير المراغي: 2/211.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.. هنا ندرك طرفا من هدف تلك الحادثة ومغزاها؛ وندرك طرفا من حكمة الله في سوق هذه التجربة للجماعة المسلمة في جيلها الأول وفي أجيالها جميعا.. ألا يقعدن بكم حب الحياة، وحذر الموت، عن الجهاد في سبيل الله، فالموت والحياة بيد الله، قاتلوا في سبيل الله لا في سبيل غاية أخرى، وتحت راية الله لا تحت راية أخرى.

2. قاتلوا في سبيل الله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.. يسمع ويعلم.. يسمع القول ويعلم ما وراءه، أو يسمع فيستجيب ويعلم ما يصلح الحياة والقلوب، قاتلوا في سبيل الله وليس هناك عمل ضائع عند الله، واهب الحياة وآخذ الحياة.

3. الجهاد في سبيل الله بذل وتضحية، وبذل المال والإنفاق في سبيل الله يقترن في القرآن غالبا بذكر الجهاد والقتال، وبخاصة في تلك الفترة حيث كان الجهاد تطوعا، والمجاهد ينفق على نفسه، وقد يقعد به المال حين لا يقعد به الجهد؛ فلم يكن بد من الحث المستمر على الإنفاق لتيسير الطريق للمجاهدين في سبيل الله، وهنا تجيء الدعوة إلى الإنفاق في صورة موحية دافعة: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾

4. إذا كان الموت والحياة بيد الله، والحياة لا تذهب بالقتال إذا قدر الله لها البقاء، فكذلك المال لا يذهب بالإنفاق، إنما هو قرض حسن لله، مضمون عنده، يضاعفه أضعافا كثيرة، يضاعفه في الدنيا مالا وبركة وسعادة وراحة؛ ويضاعفه في الآخرة نعيما ومتاعا، ورضى وقربى من الله.

5. مرد الأمر في الغنى والفقر إلى الله، لا إلى حرص وبخل، ولا إلى بذل وإنفاق: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾.. والمرجع إليه سبحانه في نهاية المطاف، فأين يكون المال والناس أنفسهم راجعون بقضهم وقضيضهم إلى الله: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.. وإذن فلا فزع من الموت، ولا خوف من الفقر، ولا محيد عن الرجعة إلى الله، وإذن فليجاهد المؤمنون في سبيل الله، وليقدموا الأرواح والأموال؛ وليستيقنوا أن أنفاسهم معدودة، وأن أرزاقهم مقدرة، وأنه من الخير لهم أن يعيشوا الحياة قوية طليقة شجاعة كريمة، ومردهم بعد ذلك إلى الله.

6. لا يفوتني بعد تقرير تلك الإيحاءات الإيمانية التربوية الكريمة التي تضمنتها الآيات.. أن ألم بذلك الجمال الفني في الأداء:

أ. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾.. إن في التعبير استعراضا لهذه الألوف ولهذه الصفوف استعراضا ترسمه هاتان الكلمتان: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾.. وأي تعبير آخر ما كان ليرسم أمام المخيلة هذا الاستعراض كما رسمته هاتان الكلمتان العاديتان في موضعهما المختار.

ب. ومن مشهد الألوف المؤلفة، الحذرة من الموت، المتلفتة من الذعر.. إلى مشهد الموت المطبق في لحظة؛ ومن خلال كلمة: ﴿مُوتُوا﴾.. كل هذا الحذر، وكل هذا التجمع، وكل هذه المحاولة.. كلها ذهبت هباء في كلمة واحدة: ﴿مُوتُوا﴾.. ليلقي ذلك في الحس عبث المحاولة، وضلالة المنهج؛ كما يلقي صرامة القضاء، وسرعة الفصل عند الله.

ج. ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾.. هكذا بلا تفصيل للوسيلة.. إنها القدرة المالكة زمام الموت وزمام الحياة، المتصرفة في شئون العباد، لا ترد لها إرادة ولا يكون إلا ما تشاء.. وهذا التعبير يلقي الظل المناسب على مشهد الموت ومشهد الحياة.

د. ونحن في مشهد إماتة وإحياء، قبض للروح وإطلاق.. فلما جاء ذكر الرزق كان التعبير: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾.. متناسقا في الحركة مع قبض الروح وإطلاقها في إيجاز كذلك واختصار.

هـ. وكذلك يبدو التناسق العجيب في تصوير المشاهد، إلى جوار التناسق العجيب في إحياء المعاني وجمال الأداء.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/265.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ لقد نجّى الله المسلمين من عدوّهم، كما نجّى بنى إسرائيل من عدوّهم، ولكن بنى إسرائيل كفروا وجحدوا، وضنّوا أن يعطوا شيئا من أنفسهم لله الذي استنقذها وخلّصها، وهذه دعوة للمسلمين الذين خلصهم الله من البلاء، وعافاهم من السوء الذي كانت ترميهم به قريش ـ دعوة لهم أن يقاتلوا في سبيل الله، وأن يدفعوا يد الضلّال والمفسدين عن طريق الحق والخير والسلام، فتلك هي الزكاة التي يؤدونها عن هذه النعمة التي ألبسهم الله إياها، وبذلك تضعف قوى البطش والطغيان، فلا تتسلط على عباد الله كما كانت متسلطة عليهم هم، من قبل أن يمنّ لله عليهم، وينجّيهم مما كانوا فيه من بلاء!

2. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 245] إن مجال الجهاد في سبيل الله متعدد الميادين، مختلف الوسائل، فمن جهاد بالنفس وبيع لها في سبيل الله، إلى جهاد بالمال، وبذل له في وجوه الخير والنفع، إلى جهاد بالكلمة الطيبة الصادقة في دعوة الحق والخير.. كل أولئك وما شابهه جهاد مبرور في سبيل الله.

3. من لطف الله بعباده ورحمته لهم أنه يمنحهم الحياة، ويفضل عليهم بالمال، ثم يجعل ذلك ملكا خالصا لهم، ثم يعود بفضله عليهم فيشترى منهم تلك الأنفس، ويقترض منهم هذا المال، ثم يعود بفضله وكرمه فيؤدى إليهم ثمن ما اشترى، وقيمة ما اقترض أضعافا مضاعفة.. وكان له ـ سبحانه ـ أن يأخذ ما منح، ويسلب ما أعطى، بلا عوض، ودون مقابل، ولكنه ذو رحمة واسعة وفضل عميم! ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [غافر: 61]

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/304.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جملة: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الآية هي المقصود الأول، فإن ما قبلها تمهيد لها كما علمت، وقد جعلت في النظم معطوفة على جملة ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ عطفا على الاستئناف، فيكون لها حكم جملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا، ولولا طول الفصل بينها وبين جملة ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216]، لقلنا: إنها معطوفة عليها على أن اتصال الغرضين يلحقها بها بدون عطف.

2. جملة ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ حث على القتال وتحذير من تركه بتذكيرهم بإحاطة علم الله تعالى بجميع المعلومات: ظاهرها وباطنها، وقدّم وصف سميع، وهو أخص من عليم، اهتماما به هنا؛ لأن معظم أحوال القتال في سبيل الله من الأمور المسموعة، مثل جلبة الجيش وقعقعة السلاح وصهيل الخيل، ثم ذكر وصف عليم لأنه يعم العلم بجميع المعلومات، وفيها ما هو من حديث النفس مثل خلق الخوف، وتسويل النفس القعود عن القتال، وفي هذا تعريض بالوعد والوعيد، وافتتاح الجملة بقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا﴾ للتنبيه على ما تحتوي عليه من معنى صريح وتعريض، وقد تقدم قريبا عند قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ [البقرة: 223]

3. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، قصد به الاستطراد للحث على الإنفاق لوجه الله في طرق البر، لمناسبة الحث على القتال، فإن القتال يستدعي إنفاق المقاتل على نفسه في العدّة والمئونة مع الحث على إنفاق الواجد فضلا في سبيل الله بإعطاء العدّة لمن لا عدّة له، والإنفاق على المعسرين من الجيش، وفيها تبيين لمضمون‏ جملة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 244] فكانت ذات ثلاثة أغراض.

4. القرض إسلاف المال ونحوه بنية إرجاع مثله، ويطلق مجازا على البذل لأجل الجزاء، فيشمل بهذا المعنى بذل النفس والجسم رجاء الثواب، ففعل (يقرض) مستعمل في حقيقته ومجازه.

5. الاستفهام في قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ مستعمل في التحضيض والتهييج على الاتصاف بالخير كأنّ المستفهم لا يدري من هو أهل هذا الخير والجدير به، قال طرفة:

çإذا القوم قالوا من فتى خلت أنني‏...عنيت فلم أكسل ولم أتبلّدé

6. (ذا) بعد أسماء الاستفهام قد يكون مستعملا في معناه كما تقول وقد رأيت شخصا لا تعرفه: (من ذا) فإذا لم يكن في مقام الكلام شيء يصلح لأن يشار إليه بالاستفهام كان استعمال (ذا) بعد اسم الاستفهام للإشارة المجازية بأن يتصوّر المتكلم في ذهنه شخصا موهوما مجهولا صدر منه فعل فهو يسأل عن تعيينه، وإنما يكون ذلك للاهتمام بالفعل الواقع وتطلّب معرفة فاعله ولكون هذا الاستعمال يلازم ذكر فعل بعد اسم الإشارة، قال النّحاة كلهم بصريّهم وكوفيّهم: بأن (ذا) مع الاستفهام تتحوّل إلى اسم موصول مبهم غير معهود، فعدّوه اسم موصول، وبوّب سيبويه في (كتابه) فقال: (باب إجرائهم ذا وحده بمنزلة الذي وليس يكون كالذي إلا مع (ما) و(من) في الاستفهام فيكون (ذا) بمنزلة الذي ويكون ما ـ أي أو من ـ حرف الاستفهام وإجراؤهم إياه مع ما ـ أي أو من ـ بمنزلة اسم واحد) ومثّله بقوله تعالى: ﴿مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا﴾ [النحل: 30] وبقية أسماء الإشارة مثل اسم (ذا) عند الكوفيين، وأما البصريون فقصروا هذا الاستعمال على (ذا) وليس مرادهم أن ذا مع الاستفهام يصير اسم موصول فإنه يكثر في الكلام أن يقع بعده اسم موصول، كما في هذه الآية، ولا معنى لوقوع اسمى موصول صلتهما واحدة، ولكنهم أرادوا أنه يفيد مفاد اسم الموصول، فيكون ما بعده من فعل أو وصف في معنى صلة الموصول، وإنما دوّنوا ذلك لأنهم تناسوا ما في استعمال ذا في الاستفهام من المجاز، فكان تدوينها قليل الجدوى، والوجه أن (ذا) في الاستفهام لا يخرج عن كونه للإشارة وإنما هي إشارة مجازية، والفعل الذي يجيء بعده يكون في موضع الحال، فوزان قوله تعالى: ﴿مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ﴾ [النحل: 24] وزان قول يزيد بن ربيعة بن مفرغ يخاطب بغلته: (نجوت وهذا تحملين طليق‏)

7. الإقراض: فعل القرض، والقرض: السلف، وهو بذل شيء ليرد مثله أو مساويه، واستعمل هنا مجازا في البذل الذي يرجى الجزاء عليه تأكيدا في تحقيق حصول التعويض والجزاء، ووصف القرض بالحسن لأنه لا يرضى الله به إلّا إذا كان مبرّأ عن شوائب الرياء والأذى، كما قال النابغة: (ليست بذات عقارب)‏، وقيل: القرض هنا على حقيقته وهو السلف، ولعله علق باسم الجلالة لأن الذي يقرض الناس طمعا في الثواب كأنه أقرض الله تعالى؛ لأن القرض من الإحسان الذي أمر الله به وفي معنى هذا ما جاء في الحديث القدسي‏ (أن الله عزّ وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه) الحديث، وقد رووا أن ثواب الصدقة عشر أمثالها وثواب القرض ثمانية عشر من أمثاله.

8. قرأ الجمهور (فيضاعفه) بألف بعد الضاد، وقرأه ابن كثير، وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بدون ألف بعد الضاد وبتشديد العين، ورفع (فيضاعفه) في قراءة الجمهور، على العطف على‏ ﴿يُقْرِضُ﴾، ليدخل في حيز التحضيض معاقبا للإقراض في الحصول، وقرأه ابن عامر وعاصم ويعقوب بنصب الفاء على جواب التحضيض، والمعنى على كلتا القراءتين واحد.

9. ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ أصل القبض الشد والتماسك، وأصل البسط: ضد القبض وهو الإطلاق والإرسال، وقد تفرعت عن هذا المعنى معان: منها القبض بمعنى الأخذ ﴿فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ [البقرة: 283] وبمعنى الشح‏ ﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ [التوبة: 67] ومنها البسط بمعنى البذل‏ ﴿اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [الرعد: 26] وبمعنى السخاء ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: 64] ومن أسمائه تعالى القابض الباسط بمعنى المانع المعطي، يحتمل أن المراد هنا: يقبض العطايا والصدقات ويبسط الجزاء والثواب، ويحتمل أن المراد يقبض نفوسا عن الخير ويبسط نفوسا للخير، وفيه تعريض بالوعد بالتوسعة على‏ المنفق في سبيل الله، والتقتير على البخيل، وفي الحديث‏ (اللهم أعط منفقا خلفا وممسكا تلفا)

10. في ابن عطية عن الحلواني عن قالون عن نافع (أنه لا يبالي كيف قرأ يبسط وبسطه بالسين أو بالصاد) أي لأنهما لغتان مثل الصراط والسراط، والأصل هو السين، ولكنها قلبت صادا في بصطه ويبسط لوجود الطاء بعدها، ومخرجها بعيد عن مخرج السين؛ لأن الانتقال من السين إلى الطاء ثقيل بخلاف الصاد.

11. ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ خبر مستعمل في التنبيه والتذكير بأن ما أعد لهم في الآخرة من الجزاء على الإنفاق في سبيل الله أعظم مما وعدوا به من الخير في الدنيا، وفيه تعريض بأن الممسك البخيل عن الإنفاق في سبيل الله محروم من خير كثير.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/459.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ هذه الآية الكريمة استئناف مترتب فيه الأمر الملزم بالقتال على القصة المشار إليها آنفا، فإنه إذا كان الخروج من الديار حذر الموت يؤدى لا محالة إلى الموت، فإنه من الواجب القتال في سبيل الله تعالى ورد الاعتداء؛ وإذا كان الموت في القتال محتملا أو راجحا، فالموت في الفرار والخروج من الديار حذر الموت مؤكد لا محالة؛ ولو خير العاقل بين موت احتمالي وفيه الفخار، وموت مؤكد وفيه العار، لاختار بلا ريب القتال.

2. القتال في سبيل الله هو الحياة الكاملة؛ فإن قتل في ذلك فقد رزق الشهادة، وهى رزق يتنافس فيه المؤمنون، ويطلبه المتقون؛ وسبيل الله هي سبيل الحق؛ فكل قتال لأجل الدين والدفاع عنه فهو قتال في سبيل الله، وكل قتال في سبيل الجماعة هو قتال في سبيل الله ما دام القتال عادلا، وقتال المرء دون عرضه هو قتال في سبيل الله، وقتاله دون ماله هو في سبيل الله سبحانه‏، فكل قتال لدفع الظلم وإعلاء منار الحق هو من القتال في سبيل الله سبحانه، ولقد قال الإمام مالك: (سبل الله كثيرة) وكل طريق للوصول إلى الحق أو حمايته أو الدفاع عنه هي من سبل الله سبحانه وتعالى.

3. الخطاب في الآية الكريمة: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ للمسلمين أجمعين في كل الأجيال وفى كل العصور، ولم يقل في هذه الآية كما قال في غيرها: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾ مع أن أصل القتال في الإسلام لدفع الاعتداء فقط، لم يقل سبحانه وتعالى ذلك إلا للإشارة إلى أمرين:

أ. أولهما: وجوب الاستعداد الدائم للقتال فإنّ حب الغلب في فطرة الإنسان، وتوقع الاعتداء مع ذلك أمر لا بد منه كما قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال‏] ولا شيء يمنع الاعتداء أكثر من الاستعداد لدفع الاعتداء، فلو كان للحمل ناب ما عدت عليه الذئاب؛ ولو كان للظبى ظفر وناب ما افترسته أوابد الوحوش.

ب. ثانيهما: القتال في سبيل نصرة الحق ودفع الظلم ومعاونة المظلومين ضد الظالمين؛ وذلك حق على كل مسلم وإن لم يكن الاعتداء واقعا عليه؛ فالقتال لدفع الظلم وإقامة الحق قتالا عادلا وهو قتال في سبيل الله سبحانه، ولو لم يقع الاعتداء على شخص القاتل؛ لأن ذلك من قبيل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران‏]، ولقد بارك النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم حلف الفضول، وقد كان عهدا بين المتحالفين أن ينصروا المظلوم على الظالم‏.

4. عطف الله سبحانه وتعالى على الأمر بالقتال قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فهو أمر منه سبحانه بأن يتذكروا دائما أن الله سبحانه وتعالى سميع لكل أقوالهم التي ينطقون بها سواء أكانت تلك الأقوال تدل على رغبة في الجهاد وطلب للاستشهاد، أم كانت هذه الأقوال مخذلة معوقة للمجاهدين الأبرار من مثل قول: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ [آل عمران‏] ومثل قول: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران‏] وإنه سيجازى كل واحد بقوله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

5. كما أمرنا الله تعالى أن نتذكر دائما أنه سميع لنشعر برقابته على أقوالنا، أمرنا بأن نتذكر بأنه عليم بخواطرنا وبالدوافع التي تدفعنا إلى القتال، فهو يعلم الوساوس التي تلقى في النفس ضعفا يظهر على الشفاه، وتعلنه الأفعال، ويعلم البواعث التي تدفع إلى القتال أهي فخار ورغبة في دنيا يصيبها، أم لتكون كلمة الله هي العليا، ولرفع منار الحق، وخفض الباطل؛ فإن كانت الأولى فقد ذهب ثوابه بما أصاب من دنيا قصدها، وإن كانت الثانية فكل خطوة خطاها لها ثوابها، وكل مقام شهده له أجره؛ وإن ظفر بالشهادة فقد ظفر بغاية الغايات للمؤمن الصبور التقى الطاهر، والله سبحانه عليم بحال المقاتلين: اندفعوا في قتالهم إلى الاعتداء، أم ساروا على الطريق المستقيم، فلا اعتداء في قتال، فلم يقتلوا غير مقاتل، ولم يقاتلوا من لا يقاتل.

6. هذا هو الجهاد في الإسلام: دفاعا عن الذمار، وطلبا للحياة الكريمة في الوغى حيث يحمى الوطيس، ويكون الموت قد فغر فاه، وحيث المنايا تعددت طرائقها؛ وإن المجاهد في الإسلام إنما يخط بسيفه نور الحق في وسط ظلمات الباطل؛ وإن الجهاد لسبيل لإعلاء كلمة الله، حيث يشتد الظلم، ويستغلظ الظالمون، ويريدون أن يلتهموا الأمم والجماعات، ويبيدوا خضراءها، فعندئذ يكون القتال في الإسلام، ومن يفر منه حذر الموت فإنما يفر من العزة إلى الذلة، ومن الحياة الكريمة إلى الموت؛ ولذلك قال على بن أبى طالب: (الجهاد باب من أبواب الجنة) وعند الله النصر المبين.

7. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ بين الله سبحانه وتعالى أن الجهاد سبيل لحياة الأمم، والقعود عن الدفاع سبيل لفنائها، وبذهاب دولتها، وتقطع وحدتها، وفقد لكيانها المجتمع، وأمرها المؤتلف، وأنه لا سبيل لأن تعيد الجماعة قوتها، ودولتها إلا بالجهاد والاستعداد له؛ ففي الاستعداد للجهاد الحياة، وبالجهاد ترد الحياة؛ والجهاد في أدق معناه هو تعرض النفس للتلف ليبقى المجموع، فهو إيثار بالنفس، وبذل للمهج والأرواح، وتقدم للبأس من القادرين؛ بيد أن الجهاد لا بد له من عدة وعتاد، وشكّة وسلاح؛ ولا بد له من أن تكون الكلمة موحدة، والقوى مجتمعة بالتعاون بين الغنى والفقير؛ فإذا كان‏ الجهاد بذلا للأنفس والمهج في سبيل حياة أعز فلا بد فيه من بذل المال؛ فالجهاد بذل للنفس والنفيس معا؛ ولذا أردف سبحانه الأمر بالقتال بعد ضرب الأمثال، بالأمر بالبذل والعطاء، فقال عزّ من قائل:

8. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ القرض: أصل معناه اللغوي القطع، ومنه المقراض، ثم أطلق على معنى المجاوزة؛ لأنها قطع للمكان؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾ [الكهف‏] أي تتجاوزهم وتدعهم إلى أحد المكانين؛ ومنه انقرض القوم أي انقطعوا من الدنيا وتجاوزتهم، وسمى إسلاف المال وبذله في سبيل الخير قرضا لأنه يقتطع من المال المدخر، وينتقص منه، والمال نظير النفس فكأنه يقتطع من النفس؛ ولذلك كان الجواد شجاعا عادة؛ لأن بذل النفيس كبذل النفس كلاهما ينبع من نفس واحدة فالجود والشجاعة صنوان أو أخوان لا يولدان إلا من أب واحد، ولا يترعرعان إلا في منبت واحد وبيئة واحدة، والبخل والجبن أخوان منبتهما واحد، ومولدهما واحد؛ فالبخيل جبان في مجرى العادة، وقد دل على ذلك الاستقراء.

9. القرض بعد هذا البيان هو إسلاف المال في السبيل الحسن لمعاونة صديق أو سد حاجة معوز أو حماية الدولة أو إغاثة ملهوف على أن يرد مثله من غير وكس ولا شطط؛ وقد يكون من جنسه مالا بمال، وقد يكون العوض أزكى من المال وأنمى منه، وأنفع وأبقى، وذلك هو الإسلاف في سبيل الخير غير مبتغ جزاء ولا شكورا إلا من خالق الناس مالك الملك ذي الجلال والإكرام.

10. الزمخشري يرى إطلاق القرض على بذل المال من غير رجاء لرد البدل في الدنيا إطلاقا مجازيا، كأنه يرى أن القرض في حقيقته اللغوية، إسلاف المال على أن يأخذ بدله؛ لأن ذلك هو الحقيقة التي آل إليها اللفظ بعد انتقاله من معنى القطع المجرد فيكون استعمال القرض في هذا الموضع من قبيل المجاز في نظر الزمخشري فقد شبه هنا بذل المال في سبيل الخير ورجاء ما عند الله ورضوانه والثواب المقيم في الآخرة، والتوفيق والبسط في الرزق في الدنيا؛ شبه هذا بمن يبذل المال ليرد عليه مثله، فعبر باللفظ الدال على المشبه به في معنى المشبه.

11. عبارات كثيرين من المفسرين يستفاد منها أن كلمة القرض هنا مستعملة في معناها من غير مجاز؛ لأن معنى القرض ثابت؛ إذ إنه اقتطاع من مدخر المال، ورجاء البدل متحقق ثابت بشكل أوضح ممن يرجو بدل المال في الدنيا؛ لأن ما عند الله خير وأبقى؛ ولأن البركة في الرزق والبسطة فيه قد قدرها الله سبحانه وتعالى لمن يعطى سماحا جوادا من غير منّ ولا أذى.

12. القرض الحسن المذكور في الآية الكريمة، هو القرض الذي يكون منبعثا من نفس طيبة بالعطاء، قاصدة وجه الخير ورضا الله سبحانه وتعالى، ومتحرية موضع الإنفاق وزمانه، فالقرض الحسن في هذا المقام لا بد لتحققه من أن يكون الباعث عليه خيرا مقصودا به وجه الله تعالى، فلا ينفق رئاء الناس، ولا ينفق ابتغاء جاه ولا ملقا لذى جاه، كأولئك الذين يتصدقون بالصدقات العظيمة لإرضاء كبير مسيطر، لا يقصد الصدقة لذاتها ولا وجه الله فيها، ولا المعاونة لمستحقيها، وإنما يقصد إرضاء الكبير فقط؛ وإن ذلك هو الشرك الخفي؛ ولقد روى أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال (من تصدق يرائي فقد أشرك)

13. لا بد لتحقق القرض الحسن أن يتحرى الشخص موضع الحاجة فيسد حاجة المعوزين، وينفق على المحتاجين، يؤثر أشدهم حاجة؛ فالأدنى منه، ما وسع فضل ماله؛ ثم ينفق في المصالح العامة لإقامة مشروعات اجتماعية أو عمرانية، والإنفاق للجهاد في سبيل الله هو المرتبة السامية العليا.

14. سؤال وإشكال: هذه معانى القرض الحسن في ذاتها ولبها؛ وما المراد به هنا؟ أيراد به المعنى العام الشامل، أم يراد به المعنى الخاص الذي يدل عليه ما قبل الآية وما بعدها؟ والجواب: إنّ الاتجاهات في هذا ثلاثة:

أ. أولها: القرض الحسن هنا هو المعنى العام له، وهو كل إنفاق في سبيل الخير، سواء أكان الإنفاق لسد حاجات المحتاجين من الآحاد، أم كان للمصالح التي يعم‏ نفعها، ويشمل خيرها، أم كان في الجهاد في سبيل الله، ووجهة هؤلاء في هذا العموم أن كل ذلك يضاعف الله في جزائه، وذلك قرينة العموم، والمقام لا يمنعه؛ لأنه يدخل فيه الجهاد.

ب. ثانيها: أن القرض الحسن ما ينفق في سبيل المصالح العامة من إنشاء جماعات للبر بكل ضروبه والإنفاق عليها، ومن بذل في سبيل إعداد الأمة إعدادا حربيا؛ لأن كل ذلك تقوية للوحدة في الأمة، وهو من عدة القلوب، فالتعاون فيه قوة، بل هو عماد القوة.

ج. ثالثها: أن المراد الإنفاق في الجهاد، بدليل توسط الآية بين الآيات الدالة على القتال المحرضة عليه؛ فهي تخص البذل في القتال، وهو في ذاته أقواها أثرا، والمقام يؤيد إرادته.

15. عندي أن السياق حقا يجعل القرض الحسن في هذا المقام متجها أولا وبالذات نحو البذل لإعداد العدة وأخذ الأهبة؛ ليتحقق على الوجه الأكمل قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال‏] ولكن ذلك لا يمنع الشمول، فإن الله سبحانه وتعالى يأتي بالعبارات السامية المحكمة الشاملة في معناها في مقام يستدعى ذكرها لوجود حال تدخل في العموم، فلما ذكر القتال ذكر معه وجوب البذل عامة كقاعدة شرعية وأصل من أصول الاجتماع الإسلامي الفاضل، ودخل في هذا العموم البذل في القتال على وجه الخصوص وخصوصيته جاءت من السياق القرآني السامي ولقد حث المولى الكريم عباده المؤمنين على البذل والعطاء لمعاونة المحتاجين، وعلى الإنفاق في مصالح الاجتماع، والإنفاق في الحروب بشكل خاص، وقد جاء النص الكريم متضمنا بعبارته وإشارته أبلغ ما يدل على التحريض على البذل، والدعوة إليه؛ وإنا نذكر قدرا مما وصلت إليه مداركنا.

16. أول ما يدل على المبالغة في الحث على البذل في الخير التعبير بقوله تعالى‏ ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ فقد تضمن ذلك التعبير الحث على البذل من عدة وجوه:

أ. منها: التعبير بالاستفهام؛ فإنه للتنبيه وبعث الأذهان وحفز العقول على الالتفات، وبمقدار الوعى عند الاستماع تكون الإجابة وبمقدار الحث على الانتباه يكون الطلب.

ب. ومنها: أنه جمع الإشارة والموصول في الاستفهام فقال‏ ﴿مَنْ ذَا الَّذِي﴾ وفى ذلك بيان لعلو شأن من يبذل؛ فإنه لا يستفهم‏ ﴿مَنْ ذَا الَّذِي﴾ إلا إذا كان المقام ذا شأن وخطر، وكان موضع الاستفهام خطيرا وعظيما وكان المخاطب له شأن جليل إلى درجة أن يشار إليه، ويتحدث عنه؛ فالإشارة كناية عن أنه يشار إليه في كل أمر جليل، والموصول كناية عن أنه يتحدث عنه عند ذكر كل أمر جليل.

ج. ومن وجوه الحث على البذل في الجملة السامية: أن الله سبحانه وتعالى سماه قرضا؛ لأن فيه إشارة إلى أنه سيرد لصاحبه، وأنه ليس مالا يبذل من غير بدل يعود إليه، بل إن له بدلا أسمى منه، وعوضا أجل وأعظم؛ واعتبره سبحانه قرضا لله تعالى؛ وأي سمو تعلو إليه نفس الباذل عندما يحس بأن المقترض منه هو رب العالمين، الذي يملك كل شيء وهو خالق كل شيء؟ أي كلام يحرض على البذل أبلغ من أن يسمى فعله قرضا لله المنعم بالوجود، والمالك لكل موجود؟ ثم إن القرض لله تعالى قرض مضمون الوفاء، مؤكد الأداء.

د. ومن وجوه الحث على البذل في التعبير السامي أن سماه سبحانه قرضا حسنا؛ فهو حسن في باعثه، وفى عطائه، وفى نتيجته وثمرته.

17. ذكر سبحانه بدل القرض فقال: ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ وهذا هو الأمر الثاني الذي يدل على المبالغة في الحث على البذل والعطاء في سبيل الجهاد والنفع العام؛ فإذا كانت الجملة السابقة تدل على علو شأن الباذل الذي يعطى وعظم البذل في سبيل الخير والعطاء، وشرف ذلك العمل لأنه عطاء لله العلى القدير مالك كل شيء؛ إذا كانت الجملة السامية التي سبقت تدل على ذلك، فإن هذه الجملة الكريمة تحرض على العطاء من ناحية العوض الذي يعوض عنه، فإنه ليس بقدره، بل هو أضعافه.

18. الضّعف: مثل الشيء، وضعفاه أي مثلاه، وقد يراد من الضعف المثلان، وقد جاء في القاموس المحيط ما نصه: (ويقال لك ضعفه يريدون مثليه وثلاثة أمثاله؛ لأنه زيادة غير محصورة) وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني: (الضعف من الألفاظ المتضايفة التي يقتضى وجود أحدهما وجود الآخر كالنصف والزوج، وهو تركب قدرين متساويين، ويختص بالعدد فإذا قيل أضعفت الشيء وضعفته وضاعفته ضممت إليه مثله فصاعدا؛ قال بعضهم: ضاعفت أبلغ من ضعفت)

19. من هذا يتبين أن (يضاعف) في الآية الكريمة معناها يرد إلى الباذل المعطى المقرض لله بدلا ما أعطى أمثالا كثيرة؛ فمعنى أضعافا: أمثالا كثيرة، ولم يذكر سبحانه وتعالى العدد، وذلك يدل على الكثرة الكاثرة التي لا حدّ لها، ولا عدد يحصيها؛ وحسبك أن تعلم أن الذي يوفى بالقرض هو مالك السموات والأرض، وإذا علم الباذل أن ذلك جزاء عطائه وإنفاقه، فلا بد بالغ أقصى غايات الجود، باذل كل موجود، وليس بذاهب ما يكون في سبيل الخير، ولا ضائع ما يكون في سبيل النفع العام.

20. سؤال وإشكال: ما هذا الجزاء؟ أهو في الدنيا أم في الآخرة؟ والجواب: لا شك أن ثمة جزاء في الآخرة وأن جزاءها هو الجزاء الأوفى، والغاية القصوى، والأمل المرجى لكل مؤمن؛ وإن فيها للذين أحسنوا الحسنى وزيادة، وإنه مع ذلك الجزاء الأوفى يوجد جزاء دنيوي ومضاعفة لفعل الخير في هذه الحياة تبدو لكل من يفهم معانى الحياة، وإن هذا الجزاء الدنيوي هو العيش العزيز، والحياة الكريمة له ولقومه، ودفع الهلاك عن أمته؛ فإن بذل المال دفاعا عن الحوزة هو الحياة، وهو أقصى غاية الوجود بعد بذل النفس؛ ولذا اعتبر من لم ينفق قد ألقى بنفسه في الهلكة، كما قال تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾

21. ليس بذل المال للجهاد هو وحده الذي يكون فيه الجزاء الدنيوي ودفع الهلاك عن النفس، بل سد حاجة المعوزين وإعطاء المال للسائل والمحروم فيه عزة الأمة؛ لأنه لا عزة لأمة لا تدفع المتربة عن آحادها وتذل فقراءها؛ ولئن تململوا بحياتهم لكان التقاطع والتنابز، ومن وراء ذلك الخراب، وأن يكون بأس الأمة بينها شديدا، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى.

22. هذا فوق أن البذل في سبيل الله والإنفاق في سبيل الخير والنفع العام والمصالح الإنسانية يلقى في النفس سعادة واطمئنانا لا يشعر بهما إلا الأبرار؛ وإن الله يبارك في رزق الذين ينفقون، فوق غنى النفس الذي تمتلئ به النفس؛ وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس)

23. فالبذل والعطاء في سبيل الخير يدفع ضرا، ويقي من شر، ويحمى الجماعة من الآفات، ويسعد النفس، ويبارك في رزق المعطى، ويكثر قوى الإنتاج في الأمة، فتقوى الأيدي كلها على العمل فيعم الخير، وتكثر الثمرة، ويكون الإنتاج الطيب الذي يعم ولا يخص، فمن أعطى قليلا يأخذ كثيرا في نفسه وقومه وأهله وعشيرته.

24. ذكر سبحانه أن الأرزاق كلها بيد الله، فعلى كل امرئ أن يعرف أن الغنى ليس بالعمل فقط، بل بتوفيق الله تعالى وتقديره وهو العزيز العليم؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، وهذا هو الطريق الثالث الذي اشتملت عليه الآية الكريمة في الحث على البذل والعطاء في سبيل الخير؛ فقد بين بهذا سبحانه أنه تعالى القابض الذي يقتر الرزق على من يشاء، ويبسط الرزق لمن يشاء؛ فعلى الغنى أن يستشعر في نفسه أنه كان يجوز أن يخلقه الله فقيرا لا يستطيع إعطاء، فعليه أن يشكر النعمة التي أعطاها الله سبحانه وتعالى إياه، وإن شكرها أن يبذلها في سبيل النفع العام؛ ثم ليعلم أن‏ المآل إليه سبحانه وتعالى؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي إليه وحده ترجعون فيحاسبكم سبحانه وقد جردتم من كل قوة قاهرة، وكل سلطان ظاهر، ولم يكن معكم إلا عمل صالح.

25. نشير إلى بعض المباحث اللفظية:

أ. معنى القبض والبسط، والسبب في تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، القبض معناه: جمع اليد على الشيء، ويقال حينئذ قبضته اليد، ويقال قبض عنه يده أي جمعها قبل تناوله، فلم يأخذه، وذلك يقال فيه إنه إمساك عنه، ويقال لإمساك اليد عن البذل قبض، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ [التوبة] أي يمتنعون عن الإنفاق؛ ولذلك أطلق القبض على المنع، والبسط على العطاء؛ قال الأصفهاني في قوله تعالى: ﴿يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ (أي يسلب تارة، ويعطى تارة أخرى، ويسلب قوما ويعطى قوما، ويجمع مرة ويفرق أخرى)، والبسط معناه النشر والتوسعة، وبسط الرزق التوسعة فيه، والبسطة في الجسم أن يكون مديد القامة بعيد ما بين المنكبين وذلك كناية عن القوة؛ والبسط المد، وقد يطلق ويراد به الصولة والقوة، كما يراد به الإعطاء، ومن الأول قوله تعالى: ﴿وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ﴾ [الممتحنة] ومن الثاني قوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة]

ب. تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ للدلالة على كمال سلطان الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، وأنه لا سلطان لأحد سواه، ولا مرجع إلا إليه؛ فالمعنى: إليه سبحانه وتعالى وحده ولا أحد غيره ترجعون، تعادون بالبعث في الآخرة، وترجعون إليه في الدنيا، فهو وحده فوق عباده يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويقبض ويبسط، ويفرق ويجمع، وكل ذلك بأسباب وضعها، وسنن أحكمها؛ فلا ينصر إلا من يعمل للنصر، ولا يخذل من أخذ الأهبة واستعد للأمر، ولا ينصر بعد أخذ الأسباب إلا أهل الحق‏ ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج‏]

26. سؤال وإشكال: إن الحكمة الإلهية قد اقتضت أن يكون كل عمل له نتائجه وثمراته، فمن يعمل خيرا يجد ثمرة عمله، ومن يجدّ يجد نتائج جدّه؛ فالغنى والفقر ثمرتان للعمل والكسل، فمن عمل واتخذ الأسباب وسار فيها نال الثمرة، ومن كسل وأهمل ناله الفقر ولا يلومنّ إلا نفسه، وقد تكرر في القرآن أن الله القابض الباسط، وأنه الرازق، وأنه يرزق من يشاء، فكيف يوفق القارئ بين ذلك السنن الحكيم، وبين ذلك القول الكريم؟ والجواب: إن على كل مؤمن أن يعمل، وأن يجد ويجتهد، وعليه فوق ذلك أن يعلم أن الله هو الرازق، وأنه فوق كل شيء، وأنه القابض الباسط، وأنه الرزاق ذو القوة المتين، ولكل موضعه، وإن المستقرئ لشئون الناس وأعمالهم في الحياة ونتائجها ينته به الاستقراء إلى أن الرزق لا يمكن أن يجيء ثمرة للعمل وحده، بل إنه يجيء مع العمل توفيق الله، ومصادفات قدرها العليم الخبير، اللطيف البصير؛ فاثنان يعملان عملا واحدا، فيلقيان البذر بعد الحرث، ومع البذر السماد، والأرض طيبة منتجة، والري متحد الزمان في كليهما، ولكن زرع أحدهما قد يبتلى بآفة تستمكن منه فتبيده أو تكاد، ولا تصيب زرع الآخر إلا قليلا، فيكون في سعة والآخر قد قتر الله عليه في الرزق؛ وقد تكون الثمرات متحدة في النتائج والمقدار، ولكن أحدهما سارع بالبيع، فصادف غلاء، و الثاني أخر في البيع فصادف كسادا؛ وقد يبيع هذا لتاجر حسن الأداء مليء، و الثاني يبيع لآخر مثله، ولكنه قبل الأداء يصاب في تجارته؛ وهكذا؛ فاتخاذ الأسباب أمر لا بد منه؛ ولكن وراء الأسباب القدرة القاهرة التي هي فوق كل شيء، وهى قدرة الله تعالى، فاتحاد الأسباب لا يستدعى اتحاد المصادفات ولا اتحاد الفرص؛ واتحاد الفرص المهنية لا يوجب اتحاد الثمرات والنتائج؛ فقد تكون ثمة ملابسات لم تكن في الحسبان، وما كان يستطيع تقديرها إنسان، وإن تقدير الإنسان مهما يكن من قوة هو في دائرة القدرة الإنسانية، وهى محدودة الأفق، محدودة الغاية، وإن كان له سلطان على الأعمال فليس له سلطان على النتائج والأحوال، ومن هنا كان الواجب على المؤمن أن يعمل ثم يفوض أمره إلى الله، ويقول: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [غافر]

27. ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ وإذا كان الرزق بيد الله فعلى الغنى أن يعلم أن ما بيده فيض من الله تعالى القدير؛ وإذا كان فيضا من الكريم الحليم فعليه أن يشكر لله بإنفاقه في الحلال دون الحرام، وفى إنفاقه على عيال الله، وهم الفقراء الذين اقتضت حكمته تعالى أن يحرمهم مما أعطاه، وفى سبيل النفع العام الذي يقيم دولة إسلامية فاضلة، بها يعتز دين الله، وبها تعلو كلمته، وبها يحق الله الحق ويبطل الباطل، وبها تعتز الفضيلة وتعلو الإنسانية، وعليه أن ينفق مال الله الذي أعطاه في سبيل نصرة دينه وإعلاء كلمته؛ ولقد سمى الله سبحانه وتعالى ذلك كله قرضا حسنا له، وهو سبحانه وتعالى الذي أعطى والذى وهب ورزق؛ سبحانك ربى تعاليت، وإنك كما قلت في كتابك المحكم: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾، ولقد قال رسولك الأمين: (الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله)

28. علم الأتقياء الأبرار في كل العصور أن الأسباب مهما تكن قوية محكمة فإن النتائج بيد الله تعالى، ولأن كل الكون في سلطان الله تعالى، كما قال سبحانه: ﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن‏]، ولهذا المعنى بذلوا في نصرة الله تعالى(2).

29. هذا هو الإيمان حقا وصدقا، وهذا هو شكر النعمة، وهذه هي المعاونة الصادقة، وهذه هي القوة الروحية التي تشع النور على الوجود الإنساني فهل للخلف أن يقتدوا بما كان يفعله السلف؟ وهل آن للمؤمنين أن يفدوا دينهم ودولتهم بأموالهم؟ وهل آن للمسلمين أن يعتبروا بالعبر وقد خلت من قبلهم المثلات، وأن يعلموا حق الله في أموالهم؟ لقد صار الهوى متبعا، والشح مطاعا، وتشنعت الفتن، وتحكمت الإحن، وغلبت على المسلمين الشقوة، وضربت عليهم الذلة، حتى إنه ليقتطع من جسم العالم الإسلامي قطعة هي منه بمنزلة الكبد من الجسم، والأعداء يسلطون على المشردين والمقيمين في الوادي المقدس الفقر والجوع، ويحاولون إخراجهم بالجوع والعرى من دينهم، والمسلمون يرون ويسمعون، وهم في غفلة لاهون! ألا فأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لكم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/867.

(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن أمر الله سبحانه في الآية السابقة بالقتال دفاعا عن الحق حث في هذه‏ الآية على بذل المال لتجهيز المجاهدين، لأن القتال كما يحتاج الى الرجال فإنه يحتاج الى المال، ومن يقرأ عن ميزانية الحروب اليوم للدول الكبرى فلا بد أن تذهله الأرقام.. فلقد بلغت عند بعض الدول الغربية أكثر من أربعمائة الف مليون ولكن هذه الميزانية الضخمة خصصت للاعتداء وسيطرة الظلم، وفرض الارادة على الشعوب، والتحكم في مصيرها ومقدراتها.. أما الجهاد الذي حث الله عليه في كتابه فهو الجهاد من أجل احقاق الحق، والتحصن من عدوان المعتدين.

2. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾، هذا في واقعه أمر بالإنفاق والبذل، وجيء به بصيغة الاستفهام عن الاقراض، ليحرك أريحية المؤمنين، ويملأ القلوب بالعطف، حتى يسهل عليها البذل ابتغاء مرضاة الله.. وقوله سبحانه: ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ اشارة الى أن المال المبذول يجب أن يكون من الحلال لا من الحرام، وأن يبذل عن رضا وبقصد التقرب اليه سبحانه، وأن يصادف موقعه.

3. متى تمت هذه الشروط بكاملها ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾، قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: لما نزل قوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾ قال رسول الله: رب زدني، فأنزل الله من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، فقال رسول الله: رب زدني، فأنزل الله سبحانه: فيضاعفه له أضعافا كثيرة، والكثير عند الله لا يبلغه الإحصاء.

4. ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾، أي يضيق ويوسع، والمراد ان الله سبحانه لم يحث عباده على البذل، لحاجة منه اليهم.. كلا، فإنه الغني، وهم الفقراء، وإنما الغرض هو إرشادهم وهدايتهم الى عمل الخير، ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، فيجازى المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/375.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الاتصال البين بين الآيات أعني الارتباط الظاهر بين فرض القتال، والترغيب في القرض الحسن، والمعنى المحصل من قصة طالوت وداوود وجالوت يعطي أن هذه الآيات نزلت دفعة واحدة، والمراد بيان ما للقتال من شئون الحياة، والروح الذي به تقدم الأمة في حياتهم الدينية، والدنيوية، وسعادتهم الحقيقية، يبين سبحانه فيها فرض الجهاد، ويدعو إلى الإنفاق والبذل في تجهيز المؤمنين وتهيئة العدة والقوة، وسماه إقراضا لله لكونه في سبيله، مع ما فيه من كمال الاسترسال والإيذان بالقرب، ثم يقص قصة طالوت وجالوت وداوود ليعتبر بها هؤلاء المؤمنون المأمورون بالقتال مع أعداء الدين ويعلموا أن الحكومة والغلبة للإيمان والتقوى وإن قل حاملوهما، والخزي والفناء للنفاق والفسق وإن كثر جمعهما، فإن بني إسرائيل، وهم أصحاب القصة، كانوا أذلاء مخزيين ما داموا على الخمود والكسل والتواني، فلما قاموا لله وقاتلوا في سبيل الله واستظهروا بكلمة الحق وإن كان الصادق منهم في قوله القليل منهم، وتولى أكثرهم عند إنجاز القتال أولا، وبالاعتراض على طالوت ثانيا، وبالشرب من النهر ثالثا، وبقولهم: لا طاقة لنا بجالوت وجنوده رابعا، نصرهم الله تعالى على عدوهم فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت واستقر الملك فيهم، وعادت الحياة إليهم، ورجع إليهم سؤددهم وقوتهم، ولم يكن ذلك كله إلا لكلمة أجراها الإيمان والتقوى على لسانهم لما برزوا لجالوت وجنوده، وهي قولهم: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، فكذلك ينبغي للمؤمنين أن يسيروا بسيرة الصالحين من الماضين، فهم الأعلون إن كانوا مؤمنين.

2. ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الآية، فرض وإيجاب للجهاد، وقد قيده تعالى هاهنا وسائر المواضع من كلامه بكونه في سبيل الله لئلا يسبق إلى الوهم ولا يستقر في الخيال أن هذه الوظيفة الدينية المهمة لإيجاد السلطة الدنيوية الجافة، وتوسعة المملكة الصورية، كما تخيله الباحثون اليوم في التقدم الإسلامي من الاجتماعيين وغيرهم، بل هو لتوسعة سلطة الدين التي فيها صلاح الناس في دنياهم وآخرتهم.

3. في قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، تحذير للمؤمنين في سيرهم هذا السير أن لا يخالفوا بالقول إذا أمر الله ورسوله بشيء، ولا يضمروا نفاقا كما كان ذلك من بني إسرائيل حيث تكلموا في أمر طالوت فقالوا: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾ الآية، وحيث قالوا: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾، وحيث فشلوا وتولوا لما كتب عليهم القتال وحيث شربوا من النهر بعد ما نهاهم طالوت عن شربه.

4. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ إلى قوله‏ ﴿أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾، القرض معروف وقد عد الله سبحانه ما ينفقونه في سبيله قرضا لنفسه لما مر أنه للترغيب، ولأنه إنفاق في سبيله، ولأنه مما سيرد إليهم أضعافا مضاعفة.

5. غير سياق الخطاب من الأمر إلى الاستفهام فقيل بعد قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾، ولم يقل: قاتلوا في سبيل الله وأقرضوا، لينشط بذلك ذهن المخاطب بالخروج من حيز الأمر غير الخالي من كلفة التكليف إلى حيز الدعوة والندب فيستريح بذلك ويتهيج.

6. ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 245]، ـ القبض ـ الأخذ بالشيء إليك ويقابله البسط، والبصط ـ هو البسط قلب سينه صادا لمجاورته حرف الإطباق والتفخيم وهو الطاء، وإيراد صفاته الثلاثة أعني: كونه قابضا وباسطا ومرجعا يرجعون إليه للإشعار بأن ما أنفقوه بإقراضه تعالى لا يعود باطلا ولا يستبعد تضعيفه أضعافا كثيرة فإن الله هو القابض الباسط، ينقص ما شاء، ويزيد ما شاء، وإليه يرجعون فيوفيهم ما أقرضوه أحسن التوفية.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/284.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ العطف إما على قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ وهو أظهر، وإما على ما يشير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ [غافر: 61] من الحث على الشكر، فكأنه قيل: اشكروا فضل الله وقاتلوا، والأمر هنا بالقتال في سبيل الله مطلق يقتضي وجوبه على الإطلاق كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ﴾ [النساء:76] وغير هذه من الأوامر والدلائل على وجوب القتال في سبيل الله.

2. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فلا يخفى عليه من يجاهد ومن يقعد ومن يحرض ومن ينصر ومن يثبط ومن يتكل على الاعتذارات الكاذبة، فعلينا مراقبته واتقاء عذابه.

3. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ والقرض الحسن الإنفاق في سبيل الله من الحلال برغبة ونية خالصة لله ومنه الإنفاق في سائر وجوه البر ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ وقد ذكر الله تضعيف الإنفاق في سبيل الله في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، وجاء في حديث في (مجموع الإمام زيد بن علي عليهما السلام) في تضعيف صدقة السر: (فيربيها كما يربي أحدكم فلوّه أو فصيله، حتى تصير اللقمة مثل أحد) ولا يبعد أن التضعيف نوعان:

أ. الأول: بالتفضل بزيادة الأجر كجزاء الحسنة بعشر أمثالها.

ب. الثاني: ترتيب فوائد كثيرة للحسنة وآثار حسنة تكثر فتعظم بها الحسنة التي هي سببها، ولعل هذا معنى الحديث المذكور والآية تشمله وتشمل الأول.

4. ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فهو يقبض ابتلاءً ويبسط ابتلاءً، وبيده الخير فلم يرغب في الإنفاق من قلة ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فيجزي كل نفس بما تسعى، ويوفي المحسنين أجورهم.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/363.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ هذا نداء للمؤمنين، بالاندفاع في مواجهة الموت، وعدم الخوف منه بالتراجع عن المسؤوليات الجهادية التي تفرض عليهم القتال في سبيل الله، فإن ذلك هو ما يحقق لهم سبيل الحياة القويمة الحرة الكريمة، فإننا نستوحي، من ذكر هذه الآية، بعد القصة المتقدمة التي خرج أشخاصها من ديارهم حذر الموت فماتوا ثم أحياهم الله، أن الأمة التي تفر من الموت لتفرض على نفسها الهزيمة لا تستطيع تفادي الموت، وأن الأمة التي تموت في خط العزة والجهاد قد يعيدها ذلك إلى الحياة، وهو إعلان لهم بأن الله يسمع كل ما يفيضون به من حديث في ما يتحركون فيه من الإقبال على الجهاد أو الإدبار عنه، ويعلم كل ما يضمرونه وما يعملونه من طاعة ومعصية، وفي هذا التأكيد على هاتين الصفتين من صفات الله، إيحاء بالرقابة الشاملة لله على الإنسان في كل ما يضمره أو يقوله وما يفعله، ليتعمق في داخله الشعور بالانضباط الواعي أمام مسئولياته.

2. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ هذه دعوة إلى الإنفاق في سبيل الله، سواء في مواقع السلم أو في مواقع الحرب، فإن كل واحد من هذه المواقع يحتاج إلى المال الذي ينفقه المؤمنون لبناء القوة الذاتية للأمن، من خلال السيطرة على كل نقاط الضعف الذاتي.. وقد أراد الله أن يوحي للإنسان بأن ذلك لا يمثل أي نوع من أنواع خسارة المال، كما قد يخيّل للبعض، عندما يفكرون بأنه لا يستتبع تعويضا.

3. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ بل هو نوع من القرض الحسن الذي يقرضه المؤمن لله مالك السماوات والأرض، باعتبار أن الجهات التي يصرف المال في سبيلها هي لله مالك السّموات والأرض في ما يحبه ويرضاه ويريده.. وقد وعد المنفقين بأن يعطيهم ثواب القرض الحسن.

4. ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ ويرد إليهم ما أنفقوا مضاعفا أضعافا كثيرة، فعليهم أن‏ يراقبوه في حالة الإنفاق وعدمه، ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ لأنه الذي يقبض يده عندما يريد ويبسطها عندما يريد، في ما يعطي وما لا يعطي‏ ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، وإليه يرجع الناس كلهم فيجدون لديه نتائج أعمالهم في ما يجدون من ثوابه وعقابه.

5. جاء عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام‏: لما نزلت هذه الآية على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم‏ ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾ [النمل: 89] قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: اللهم زدني، فأنزل الله تبارك وتعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: 160] قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: اللهم زدني، فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾، فعلم رسول الله أن الكثير من الله عزّ وجلّ لا يحصى وليس له منتهى‏.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/381.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآيات تشرع في حديثها عن الجهاد وتعقّب بذكر قصّة في هذا الصدّد عن الأقوام السّالفة، مع الالتفات إلى الأحداث التي مرّت على جماعة من بني إسرائيل الّذين تهرّبوا من الجهاد بحجّة الإصابة بمرض الطّاعون وأخيرا ماتوا بهذا المرض، يتّضح الارتباط بين هذه الآيات والآيات السّابقة.

2. في البداية تقول الآية ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يسمع أحاديثكم ويعلم نياتكم ودوافعكم النفسية في الجهاد، ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ أي ينفق من الأموال التي رزقه الله تعالى إيّاه في طريق الجهاد وحماية المستضعفين والمعوزين.

3. فعلى هذا يكون إقراض الله تعالى بمعنى (الإنفاق في سبيل الله)، وكما ذكر بعض المفسّرين أنّها تعني المصارف التي ينفقها الإنسان في طريق الجهاد، لأنّ تأمين احتياجات الجهاد في ذلك الوقت كان في عهدة المسلمين المجاهدين، في حين أنّ البعض يرى بأنّ الآية تشمل كلّ أنواع الإنفاق‏، لكنّ التفسير الثاني أقرب وأكثر انسجاما مع ظاهر الآية، وخاصّة أنّه شامل للمعنى الأوّل أيضا، وأساسا فإنّ الإنفاق في سبيل الله ومساعدة الفقراء والمساكين‏ وحماية المحرومين يعطي ثمرة الجهاد أيضا، لأنّ كلّا منها يبعث على استقلال المجتمع الإسلامي وعزّته.

4. (أضعاف) جمع (ضعف) على وزن (علم)، والضّعف هو أنّ تضيف إلى المقدار مثله أو أمثاله، وقد ورد هنا الجمع مؤكّدا بالكثرة (كثيرة) كما أنّ كلمة (يضاعف) فيها تأكيد على هذا المعنى أكثر من كلمة (يضعّف)، وكلّ ذلك يدلّ على أنّ الله تعالى يعطي كلّ من ينفق في سبيله الكثير الكثير كالبذرة التي تبذر في أرض صالحة وتسقى فينمّيها ويعيدها إلى صاحبها أضعافا كثيرة كما سيأتي في الآية.

5. في ختام الآية يقول: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ وتشير الآية إلى أنّه لا تتصوروا إن الإنفاق والبذل سوف يؤدي إلى قلّة أموالكم، لأنّ سعة وضيق أرزاقكم بيد الله فهو القادر على أن يعوض ما أنفقتموه أضعافا مضاعفا، بملاحظة الارتباط الوثيق لأفراد المجتمع، فإن نفس تلك الأموال التي أنفقتموها سوف تعود إليكم في الواقع، هذا من البعد الدنيوي، وأمّا البعد الأخروي للإنفاق فلا تنسوا أن جميع المخلوقات سوف تعود إلى الله عزّ وجلّ وسوف يثيبكم حينذاك ويجزل لكم العطاء.

6. لقد ورد التعبير بالقرض في مورد الإنفاق في عدّة آيات قرآنية، وهذا من جهة يحكي عظيم لطف الله بالنسبة لعباده، وأهمية مسائلة الإنفاق من جهة أخرى، فالبرغم من أن المالك الحقيقي لجميع عالم الوجود هو الله تعالى وأن الناس يمثلون وكلاء عن الله في التصرف في جزء صغير من هذا العالم كما ورد في الآية من سورة الحديد ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾، لكن مع ذلك يعود سبحانه إلى العبد ليستقرض منه وأيضا استقراض بربح وفير جدّا (فانظر إلى كرم الله ولطفه)، يقول الإمام علي عليه السّلام في نهج البلاغة: (واستقرضكم وله خزائن السموات والأرض وهو الغني الحميد وإنّما أراد أن يبلوكم أيّكم أحسن عملا)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/210.

115. طالوت والقيادة والقتال

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈115⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 246-248]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: استشعر الحكمة وتجلبب السكينة فإنّهما حلية الأبرار(1).

2. روي أنّه قال: تعلّموا العلم، وتعلّموا للعلم السكينة والحلم، ولا تكونوا جبابرة العلماء(2).

3. روي أنّه قال: السكينة: ريح خجوج، ولها رأسان(3).

4. روي أنّه قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان، ثم هي بعد ريح هفافة(4).

5. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ قال ريح هفافة، لها صورة، ولها وجه كوجه الإنسان(5).

6. روي أنّه قال: لولا بقية من المسلمين فيكم لهلكتم(6).

__________

(1) غرر الحكم: ص58 و59 و60.

(2) كنز الفوائد 2/108.

(3) ابن جرير: ٤/٤٦٨.

(4) عبد الرزاق: ١/١٠٠ ـ: ١٠١.

(5) ابن جرير: ٤/٤٦٧ ـ: ٤٦٨.

(6) ابن جرير: ٤/٥١٦.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أما السكينة فما تعرفون من الآيات، تسكنون إليها(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ العلم، والتوراة(2).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٧١.

(2) ابن جرير: ٤/٤٧٦.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ﴾ يعني: ألم تخبر يا محمد عن الملأ ﴿مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ هذا حين رفعت التوراة، واستخرج أهل الإيمان، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ﴾، يعني: اختاره عليكم(3).

4. روي أنّه قال: السكينة: الرحمة(4).

5. روي أنّه قال: السكينة: الطمأنينة(5).

6. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾ علامة(6).

7. روي أنّه قال: ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾، يعني: أخرجتنا العمالقة، وكان رأس العمالقة يومئذ جالوت، فسأل الله نبيهم أن يبعث لهم ملكا(1).

8. روي أنّه قال: لما قال لهم نبيهم: إن الله اصطفى طالوت عليكم، وزاده بسطة في العلم والجسم، أبوا أن يسلموا له الرياسة، حتى قال لهم: ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، وكان موسى حين ألقى الألواح تكسرت، ورفع منها، وجمع ما بقي، فجعله في التابوت، ولم يبق من الألواح إلا سدسها، وكانت العمالقة قد سبت ذلك التابوت، والعمالقة فرقة من عاد، كانوا بأريحا، فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض، وهم ينظرون إليه، حتى وضعته عند طالوت، فلما رأوا ذلك قالوا: نعم، فسلموا له، وملكوه، وكانت الأنبياء إذا حضروا قتالا قدموا التابوت بين أيديهم(7).

9. روي أنّه قال: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً﴾ يقول: فضيلة: ﴿فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ يقول: كان عظيما جسيما، يفضل بني إسرائيل بعنقه(8).

10. روي أنّه قال: السكينة: دابة قدر الهر، لها عينان لهما شعاع، وكان إذا التقى الجمعان أخرجت يديها، ونظرت إليهم؛ فيهزم الجيش من الرعب(9).

11. روي أنّه قال: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيها قلوب الأنبياء، ألقى موسى فيها الألواح(10).

12. روي أنّه قال: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى﴾ عصاه، ورضاض الألواح(11).

13. روي أنّه قال: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ كان موسى حين ألقى الألواح تكسرت، ورفع منها، فجعل الباقي في ذلك التابوت.. لم يبق من الألواح إلا سدسها(12).

14. روي أنّه قال: البقية: رضاض الألواح، وعصا موسى، وعمامة هارون، وقباء هارون الذي كان فيه علامات الأسباط، وكان فيه طست من ذهب، فيه صاع من من الجنة، وكان يفطر عليه يعقوب، وأما السكينة فكانت مثل رأس هرة من زبرجدة خضراء(13).

15. روي أنّه قال: ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾: جاءت الملائكة بالتابوت، تحمله بين السماء والأرض، وهم ينظرون إليه، حتى وضعته عند طالوت(14).

16. روي أنّه قال: وضعوه على عجل حلي، ثم سيبوه، فساقته الملائكة حتى أدخلوه محلة بني إسرائيل، فذلك قوله تعالى: ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾(15).

17. روي أنّه قال: كانوا مائة ألف وثلاث آلاف وثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا(16).

__________

(1) ابن عساكر: ٢٤/٤٣٧.

(2) ابن جرير: ٤/٤٤٠.

(3) ابن جرير: ٤/٤٥٤.

(4) ابن أبي حاتم: ٢/٤٦٩.

(5) الدرّ المنثور: ابن أبي حاتم.

(6) ابن أبي حاتم: ٢/٤٧٢.

(7) ابن جرير: ٤/٤٥٣.

(8) ابن أبي حاتم: ٢/٤٦٦.

(9) ابن أبي حاتم: ٢/٤٦٨.

(10) سعيد بن منصور: ٤٢١ ـ تفسير.

(11) ابن جرير: ٤/٤٧٣.

(12) ابن جرير: ٤/٤٧٦.

(13) ابن عساكر: ٢٤/٤٤٠ ـ: ٤٤١.

(14) ابن جرير: ٤/٤٦٤.

(15) ابن عساكر: ٢٤/٤٤١.

(16) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ٢٤/٤٤٢.

الهذلي:

روي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود الهذلي (ت 81 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان في بني إسرائيل رجل له ضرتان، وكانت إحداهما تلد والأخرى لا تلد، فاشتد على التي لا تلد، فتطهرت، فخرجت إلى المسجد لتدعو الله، فلقيها حكم على بني إسرائيل ـ وحكماؤهم: الذين يدبرون أمورهم ـ، فقال: أين تذهبين؟ قالت: حاجة لي إلى ربي قال اللهم، اقض لها حاجتها، فعلقت بغلام، وهو الشمول، فلما ولدت جعلته محررا، وكانوا يجعلون المحرر إذا بلغ السعي في المسجد يخدم أهله، فلما بلغ الشمول السعي دفع إلى أهل المسجد يخدم، فنودي الشمول ليلة، فأتى الحكم، فقال: دعوتني؟ فقال: لا، فلما كانت الليلة الأخرى دعي، فأتى الحكم، فقال: دعوتني؟ فقال: لا، [وكان الحكم يعلم كيف تكون النبوة، فقال: دعيت البارحة الأولى؟ قال نعم قال ودعيت البارحة؟ قال نعم قال فإن دعيت الليلة فقل: لبيك وسعديك، والخير بين يديك، والمهدي من هديت، أنا عبدك بين يديك، مرني بما شئت، فأوحي إليه، فأتى الحكم، فقال: دعيت الليلة؟ قال نعم، وأوحي إلي قال فذكرت لك بشيء؟ قال لا عليك ألا تسألني قال ما أبيت أن تخبرني إلا وقد ذكر لك شيء من أمري، فألح عليه، وأبى أن يدعه حتى أخبره، فقال: قيل لي: إنه قد حضرت هلكتك، وارتشا ابنك في حكمك، فكان لا يدبر أمرا إلا انتكث، ولا يبعث جيشا إلا هزم، حتى بعث جيشا، وبعث معهم بالتوراة يستفتح بها، فهزموا، وأخذت التوراة، فصعد المنبر، وهو أسيف غضبان، فوقع، فانكسرت رجله أو فخذه، فمات من ذلك، فعند ذلك قالوا لنبي لهم: ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وهو الشمول ابن حنة العاقر(1).

2. روي أنّه قال: ﴿إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ﴾ قال الشمول ابن حنة بن العاقر(2).

__________

(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٦٢.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ﴾، يعني: وأعطاه الله(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾ لأنه لم يكن من سبط النبوة، ولا من سبط الخلافة(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٨٠.

(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.

أبو مالك:

روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَنَّى﴾، يعني: من أين!؟(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ قال طست من ذهب، التي ألقى فيها الألواح(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٦٥.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٦٩.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾: يعني بالبقية: القتال في سبيل الله، وبذلك قاتلوا مع طالوت، وبذلك أمروا(1).

2. روي أنّه قال: كانت هرة رأسها من زمردة، وظهرها من در، وبطنها من ياقوت، وذنبها وقوائمها من لؤلؤ، فالله أعلم.. فإذا أرادوا القتال قدموا التابوت، ثم يكون أعلامهم وراياتهم خلف التابوت، وهم وقوف خلف ذلك ينتظرون تحريك التابوت، فتصيح الهرة، فيسمعون صراخا كصراخ الهرة، فيخرج من التابوت ريح هفافة، فيرفع التابوت بين السماء والأرض، ويخرج منها [لسانان]؛ ظلمة ونور، فتضيء على المسلمين، وتظلم على الكفار، فيقاتل القوم، [فينصرون]، فلما رأوا التابوت قد رد عليهم أقروا لطالوت بالملك، واستوسقوا له على التابوت(2).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٧٧.

(2) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ٢٤/٤٤١.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ قال هم الذين قال الله: ﴿ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾ [النساء: ٧٧] (1).

2. روي أنّه قال: السكينة من الله كهيئة الريح، لها وجه كوجه الهر، وجناحان، وذنب مثل ذنب الهر(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٦٢.

(2) تفسير مجاهد: ص٢٤٢ بنحوه.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم﴾ السكينة: عصا موسى(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ التوراة، ورضاض الألواح، والعصا(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٧٠.

(2) ابن جرير: ٤/٤٧٤.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾، يعني: الملك بيد الله تعالى، يضعه الله حيث يشاء، ليس أن تخبروا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ﴾ شيء تسكن إليه قلوبهم، يعني: ما يعرفون من الآيات يسكنون إليه(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ فيه تقديم، يعني: في الجسم والعلم، كان أطولهم بسطة رجل، وقال الحسن: لم يكن بأعلمهم، ولكن كان أعلمهم بالحرب، فذلك قوله تعالى: ﴿فِي الْعِلْمِ﴾، أنه كان مجربا(3).

4. روي أنّه قال: إنما سألوا ذلك أنهم كانوا في مدينة لهم قد بارك الله لهم في مكانهم، لا يدخله عليهم عدو، ولا يحتاجون إلى غيره، فلما عظمت أحداثهم، وانتكهوا محارم الله تعالى وجاروا في الحكم؛ نزل بهم عدوهم، فخرجوا إليهم، وأخرجوا التابوت ـ وكان يكون التابوت أمامهم في القتال ـ، فقدموا التابوت، فسبي التابوت، وكان عليهم ملكا يقال له: إيلاف، فأخبر الملك أن التابوت قد سبي واستلب، فمالت عنقه، فمات كمدا عليه، فمرجت أمورهم، فظهر عدوهم، وأصيب من أبنائهم ونسائهم، فعند ذلك قالوا: ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾(3).

5. روي أنّه قال: سأل الله تعالى نبيهم أن يبعث لهم ملكا، فأوحى الله تعالى إليه: أن انظر القرن الذي في بيتك فيه الدهن، فإذا دخل عليك رجل ينش الدهن الذي في القرن فإنه ملك بني إسرائيل، فادهن رأسه منه، وملكه عليهم، فجعل ينظر من ذلك الرجل الداخل عليه، وكان طالوت رجلا دباغا من سبط ابن يامين لم يكن فيه نبوة ولا ملك، فخرج طالوت يطلب حمارا مع غلام له، فمر ببيت أشمويل النبي، فدخل عليه مع غلامه، فذكر له أمر حماره، إذ نش الدهن في القرن، فقام إليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فأخذه، ثم قال لطالوت: قرب رأسك، فقربه، فدهنه، فقال: يا منشد الحمار، هذا خير لك مما تطلب، أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني ربي أن أملكه عليهم، وكان اسم طالوت بالسريانية: مبارك، وخرج من عنده، فقال الناس: ملك طالوت(3).

6. روي أنّه قال: ﴿إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قال كان نبيهم أشمويل بن أبال بن علقمة(3).

7. روي أنّه قال: وكان التابوت من خشب(4).

8. روي أنّه قال: كان التابوت مع الملائكة في السماء، فلما ولي طالوت الملك حملته الملائكة، ووضعته بينهم(5).

9. روي أنّه قال: في تلك الغرفة ما شربوا، وسقوا دوابهم(6).

__________

(1) ،ابن عساكر في تاريخ دمشق: ٢٤/٤٣٧ ـ: ٤٣٩.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٦٩.

(3) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ٢٤/٤٣٧ ـ: ٤٣٩.

(4) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٤٧.

(5) تفسير البغوي: ١/٣٠٠.

(6) ابن أبي حاتم: ٢/٤٧٤.

باذام:

روي عن أبي صالح باذام (ت 111 هـ) أنّه قال: كان في التابوت عصا موسى، وعصا هارون، وثياب موسى، وثياب هارون، ولوحان من التوراة، والمن، وكلمة الفرج: لا إله إلا الله الحليم الكريم، وسبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين(1).

__________

(1) سعيد بن منصور: ٤٢٢ ـ تفسير.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾: (كان القليل ستين ألفا)(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾، قال (رضراض الألواح فيها العلم والحكمة، العلم جاء من السماء، فكتب في الألواح، وجعل في التابوت)(2).

3. روي أنّه قال: إن بني إسرائيل من بعد موسى عملوا بالمعاصي، وغيروا دين الله، وعتوا عن أمر ربهم، وكان فيهم نبي يأمرهم وينهاهم فلم يطيعوه، وروي أنه إرميا النبي، فسلط الله عليهم جالوت، وهو من القبط، فأذلهم، وقتل رجالهم، وأخرجهم من ديارهم وأموالهم، واستعبد نساءهم، ففزعوا إلى نبيهم، وقالوا: سل الله ان يبعث لنا ملكا، نقاتل في سبيل الله، وكانت النبوة في بني إسرائيل في بيت، والملك والسلطان في بيت آخر، لم يجمع الله تعالى لهم النبوة والملك في بيت واحد، فمن ذلك قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، فقال لهم نبيهم: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ وكان كما قال الله: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾، فقال لهم نبيهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾، فغضبوا من ذلك: وقالوا: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ وكانت النبوة في ولد لاوي، والملك في ولد يوسف، وكان طالوت من ولد بنيامين أخي يوسف لأمه، لم يكن من بيت النبوة، ولا من بيت المملكة، فقال لهم نبيهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ وكان أعظمهم جسما، وكان شجاعا قويا، وكان أعلمهم، إلا أنه كان فقيرا، فعابوه بالفقر، فقالوا: لم يؤت سعة من المال، ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾، وكان التابوت الذي أنزل الله على موسى، فوضعته فيه امه وألقته في اليم، فكان في بني إسرائيل معظما، يتبركون به، فلما حضرت موسى الوفاة وضع فيه الألواح، ودرعه، وما كان عنده من آيات النبوة، وأودعه يوشع وصيه، فلم يزل التابوت بينهم حتى استخفوا به، وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم يزل بنو إسرائيل في عز وشرف ما دام التابوت عندهم، فلما عملوا بالمعاصي، واستخفوا بالتابوت، رفعه الله عنهم، فلما سألوا النبي بعث الله تعالى طالوت عليهم ملكا، يقاتل معهم، فرد الله عليهم التابوت كما قال ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾، البقية ذرية الأنبياء)(3).

4. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾: (لم يكن من سبط النبوة، ولا من سبط المملكة ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾، وقال: ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾، فجاءت به الملائكة تحمله، وقال الله عز ذكره: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ﴾ إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا منهم من اغترف، ومنهم من لم يشرب، فلما برزوا، قال الذين اغترفوا: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾، وقال الذين لم يغترفوا: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾)(4).

5. روي أنّه قال: ﴿يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾: (رضراض الألواح فيها العلم والحكمة)(5).

__________

(1) معاني الأخبار: 151/1.

(2) تفسير العيّاشي: 1/133.

(3) تفسير القمّي: 1/81.

(4) الكافي: 8/316.

(5) الكافي: 8/317.

منبه:

روي عن وهب بن منبه (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ الملك بيد الله، يضعه حيث شاء، ليس لكم أن تختاروا فيه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ﴾ العلم بالحرب(2).

3. روي أنّه قال: خلف بعد موسى في بني إسرائيل يوشع بن نون، يقيم فيهم التوراة وأمر الله، حتى قبضه الله، ثم خلف فيهم كالب بن يوفنا، يقيم فيهم التوراة وأمر الله، حتى قبضه الله، ثم خلف فيهم حزقيل بن بوزي، وهو ابن العجوز، ثم إن الله قبض حزقيل، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث، ونسوا ما كان من عهد الله إليهم، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله، فبعث إليهم إلياس بن تسبى بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبيا، وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة، وكان إلياس مع ملك من بني إسرائيل يقال له: أحاب، وكان يسمع منه ويصدقه، فكان إلياس يقيم له أمره، وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا إلا ما كان من ذلك الملك، والملوك متفرقة بالشام، كل ملك له ناحية منها يأكلها، فقال ذلك الملك لإلياس: ما أرى ما تدعون إليه إلا باطلا، أرى فلانا وفلانا ـ يعدد ملوك بني إسرائيل ـ قد عبدوا الأوثان، وهم يأكلون ويشربون ويتنعمون، ما ينقص من دنياهم!، فاسترجع إلياس، وقام شعره، ثم رفضه وخرج عنه، ففعل ذلك الملك فعل أصحابه، وعبد الأوثان، ثم خلف من بعده فيهم اليسع، فكان فيهم ما شاء الله أن يكون، ثم قبضه الله إليه، وخلفت فيهم الخلوف، وعظمت فيهم الخطايا، وعندهم التابوت يتوارثونه كابرا عن كابر، فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وكان لا يلقاهم عدو، فيقدمون التابوت، ويزحفون به معهم؛ إلا هزم الله ذلك العدو، فلما عظمت أحداثهم، وتركوا عهد الله إليهم؛ نزل بهم عدو، فخرجوا إليه، وأخرجوا معهم التابوت كما كانوا يخرجونه، ثم زحفوا به، فقوتلوا حتى استلب من أيديهم، فمرج أمرهم عليهم، ووطئهم عدوهم، حتى أصيب من أبنائهم ونسائهم، وفيهم نبي يقال له: شمويل ـ وهو الذي ذكره الله في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ﴾ الآية ـ، فكلموه، وقالوا: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، وإنما كان قوام بني إسرائيل الاجتماع على الملوك، وطاعة الملوك أنبياءهم، وكان الملك هو يسير بالجموع، والنبي يقوم له بأمره، ويأتيه بالخبر من ربه، فإذا فعلوا ذلك صلح أمرهم، فإذا عتت ملوكهم، وتركوا أمر أنبيائهم؛ فسد أمرهم، فكانت الملوك إذا تابعتها الجماعة على الضلالة تركوا أمر الرسل، ففريقا يكذبون فلا يقبلون منه شيئا، وفريقا يقتلون، فلم يزل ذلك البلاء بهم حتى قالوا له: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، فقال لهم: إنه ليس عندكم وفاء ولا صدق، ولا رغبة في الجهاد، فقالوا: إنا كنا نهاب الجهاد ونزهد فيه، إنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يطؤها أحد، فلا يظهر علينا فيها عدو، فأما إذا بلغ ذلك فإنه لا بد من الجهاد، فنطيع ربنا في جهاد عدونا، ونمنع أبناءنا ونساءنا وذرارينا(3).

4. روي أنّه قال: قالت بنو إسرائيل لشمويل: ابعث ملكا نقاتل في سبيل الله قال قد كفاكم الله القتال، قالوا: إنا نتخوف من حولنا، فيكون لنا ملك نفزع إليه، فأوحى الله إلى شمويل: أن ابعث لهم طالوت ملكا، وادهنه بدهن القدس، وضلت حمر لأبي طالوت، فأرسله وغلاما له يطلبانها، فجاؤوا إلى شمويل يسألونه عنها، فقال: إن الله قد بعثك ملكا على بني إسرائيل قال أنا؟ قال نعم قال وما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل؟ قال بلى قال فبأي آية؟ قال بآية أن ترجع وقد وجد أبوك حمره، فدهنه بدهن القدس، فقال لبني إسرائيل: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ﴾ الآية(4).

5. روي أنّه قال: قال شمويل لبني إسرائيل لما قالوا له: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ قال ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾، و: ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾: وإن تمليكه من قبل الله: ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ فيرد عليكم الذي فيه من السكينة، ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ وهو الذي كنتم تهزمون به من لقيكم من العدو، وتظهرون به عليه، قالوا: فإن جاءنا التابوت فقد رضينا وسلمنا، وكان العدو الذين أصابوا التابوت أسفل من الجبل؛ جبل إيليا، فيما بينهم وبين مصر، وكانوا أصحاب أوثان، وكان فيهم جالوت، وكان جالوت رجلا قد أعطي بسطة في الجسم، وقوة في البطش، وشدة في الحرب، مذكورا بذلك في الناس، وكان التابوت حين استبي قد جعل في قرية من قرى فلسطين، يقال لها: أزدود، فكانوا قد جعلوا التابوت في كنيسة فيها أصنامهم، فلما كان من أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ما كان من وعد بني إسرائيل أن التابوت سيأتيهم؛ جعلت أصنامهم تصبح في الكنيسة منكسة على رؤوسها، وبعث الله على أهل تلك القرية فأرا، تبيت الفأرة الرجل فيصبح ميتا قد أكلت في جوفه من دبره، قالوا: تعلمون ـ والله ـ لقد أصابكم بلاء ما أصاب أمة من الأمم قبلكم، وما نعلمه أصابنا إلا مذ كان هذا التابوت بين أظهرنا، مع أنكم قد رأيتم أصنامكم تصبح كل غداة منكسة، شيء لم يكن يصنع بها حتى كان هذا التابوت معها، فأخرجوه من بين أظهركم، فدعوا بعجلة، فحملوا عليها التابوت، ثم علقوها بثورين، ثم ضربوا على جنوبهما، وخرجت الملائكة بالثورين تسوقهما، فلم يمر التابوت بشيء من الأرض إلا كان قدسا، فلم يرعهم إلا التابوت على عجلة يجرها الثوران، حتى وقف على بني إسرائيل، فكبروا، وحمدوا الله، وجدوا في حربهم، واستوسقوا على طالوت(5).

6. روي أنّه قال: هو شمويل بن بالي بن علقمة بن يرحام بن أليهو بن تهو بن صوف بن علقمة بن ماحث بن عموصا بن عزريا بن صفية بن علقمة بن أبي ياسق بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم(6).

7. روي أنّه قال: كان طالوت رجلا دباغا يعمل الأديم(7).

8. روي أنّه قال: ﴿وَالْجِسْمِ﴾ كان فوق بني إسرائيل من منكبيه فصاعدا(8).

9. روي أنّه سئل عن تابوت موسى: ما سعته؟ قال نحو من ثلاثة أذرع في ذراعين(9).

10. روي أنّه سئل عن السكينة، فقال: روح من الله يتكلم، إذا اختلفوا في شيء تكلم، فأخبرهم ببيان ما يريدون(9).

11. روي أنّه قال: وكل بالبقرتين اللتين سارتا بالتابوت أربعة من الملائكة يسوقونهما، فسارت البقرتان بهما سيرا سريعا، حتى إذا بلغتا طرف القدس ذهبتا(10).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٥٦.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٦٦.

(3) ابن جرير: ٤/٤٣٧

(4) ابن جرير: ٤/٤٤٩.

(5) ابن جرير: ٤/٤٦٢ ـ: ٤٦٣.

(6) ابن جرير: ٤/٤٣٥ ـ: ٤٣٦.

(7) ابن جرير: ٤/٤٤٨.

(8) ابن جرير: ٤/٤٥٥.

(9) عبد الرزاق: ١/١٠٠.

(10) ابن جرير: ٤/٤٦٤.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ﴾، أي: وقار(1).

2. روي أنّه قال: من السكون، أي: طمأنينة من ربكم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ الآية: كان موسى تركه عند فتاه يوشع بن نون، وهو بالبرية، وأقبلت به الملائكة تحمله، حتى وضعته في دار طالوت، فأصبح في داره(3).

4. روي أنّه قال في الآية: هو يوشع بن نون قال وهو أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما قال وأحسبه أيضا قال هو فتى موسى(4).

5. روي أنّه قال: ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ أقبلت به الملائكة تحمله، حتى وضعته في بيت طالوت، فأصبح في داره(1).

__________

(1) عبد الرزاق: ١/٩٨.

(2) تفسير الثعلبي: ٢/٢١٣.

(3) ابن جرير: ٤/٤٦٥.

(4) عبد الرزاق: ١/٩٧.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: (﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ معناه ألم تعلم وملأهم: أشرافهم(1).

2. روي أنّه قال: (﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾ معناه اختاره فملكه(1).

3. روي أنّه قال: (﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ فالبسطة: الزّيادة والبسطة: الطّول(1).

4. روي أنّه قال: (﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾: الآية: هي علامة، وحجة.. والسّكينة: هي ريح هفهافة.. وقد قيل إنّ السّكينة: هي طشت من ذهب تغسّل فيه قلوب الأنبياء.. والسّكينة في الآية الأخرى: ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ﴾ أراد بها الوقار(2).

5. روي أنّه قال: (﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ معناه تسوقه(2).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 101.

(2) تفسير الإمام زيد، ص 102.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: اسمه شمعون، وإنما سمي شمعون لأن أمه دعت الله أن يرزقها غلاما، فاستجاب الله لها دعاءها فرزقها، فولدت غلاما، فسمته: شمعون؛ تقول: الله تعالى سمع دعائي(1).

2. روي أنّه قال: كان طالوت رجلا سقاء، يسقي على حمار له(2).

3. روي أنّه قال: أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعصا تكون مقدارا على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا، فقال: إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا، فقاسوا أنفسهم بها فلم يكونوا مثلها، فقاسوا طالوت بها فكان مثلها(3).

4. روي أنّه قال: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، السكينة: طست من ذهب، يغسل فيها قلوب الأنبياء، أعطاها الله موسى، وفيها وضع الألواح، وكانت الألواح ـ فيما بلغنا ـ من در وياقوت وزبرجد(4).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٣٦.

(2) ابن جرير: ٤/٤٤١.

(3) ابن جرير: ٤/٤٥٥.

(4) سعيد بن منصور في سننه: ٤٢٠ ـ تفسير.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾: كيف يكون له الملك علينا!؟(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، أي: رحمة من ربكم(2).

3. روي أنّه قال: ذكر لنا أن موسى لما حضرته الوفاة استخلف فتاه يوشع بن نون على بني إسرائيل، وأن يوشع بن نون سار فيهم بكتاب الله التوراة وسنة نبيه موسى، ثم إن يوشع بن نون توفي واستخلف فيهم آخر، فسار فيهم بكتاب الله وسنة نبيه موسى، ثم استخلف آخر، فسار بهم سيرة صاحبيه، ثم استخلف آخر، فعرفوا وأنكروا، ثم استخلف آخر، فأنكروا عامة أمره، ثم استخلف آخر، فأنكروا أمره كله، ثم إن بني إسرائيل أتوا نبيا من أنبيائهم حين أوذوا في أنفسهم وأموالهم، فقالوا له: سل ربك أن يكتب علينا القتال، فقال لهم ذلك النبي: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ الآية(3).

4. روي أنّه قال: لما قالت بنو إسرائيل لنبيهم: سل ربك أن يكتب علينا القتال، فقال لهم ذلك النبي: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ الآية فبعث الله طالوت ملكا، وكان في بني إسرائيل سبطان؛ سبط نبوة، وسبط مملكة، ولم يكن طالوت من سبط النبوة، ولا من سبط المملكة، فلما بعث لهم ملكا أنكروا ذلك، وعجبوا، و‌‌قالوا: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾، قالوا: وكيف يكون له الملك علينا وليس من سبط النبوة، ولا من سبط المملكة!؟ فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾ الآية(4).

5. روي أنّه قال: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾: عصا موسى، وأمور من التوراة(5).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٦٥.

(2) ابن جرير: ٤/٤٧١.

(3) ابن جرير: ٤/٤٤٠.

(4) ابن جرير: ٤/٤٥٢.

(5) ابن جرير: ٤/٤٧٤.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: إن بني إسرائيل مكثوا زمانا من الدهر ليس عليهم ملك، فأحبوا أن يكون عليهم ملك يقاتل عدوهم، فمشوا إلى نبي لهم من بني هارون يقال له: إشمويل، فقالوا له: ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، فقال لهم نبيهم: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾، وكان عدوهم من قوم جالوت، ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٤٥.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾، فقال: (ذرية الأنبياء)(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: (وكان الملك في ذلك الزمان هو الذي يسير بالجنود، والنبي يقيم له أمره وينبئه بالخبر من عند ربه، فلما قالوا ذلك لنبيهم، قال لهم: إنه ليس عندكم وفاء ولا صدق ولا رغبة في الجهاد، فقالوا: إنا كنا نهاب الجهاد، فإذا أخرجنا من ديارنا وأبنائنا، فلا بد لنا من الجهاد، ونطيع ربنا في جهاد عدونا، قال فإن الله قد بعث لكم طالوت ملكا، فقالت عظماء بني إسرائيل: وما شأن طالوت يملك علينا، وليس في بيت النبوة والمملكة، وقد عرفت أن النبوة والمملكة في آل لاوي ويهودا، وطالوت من سبط بنيامين بن يعقوب، فقال لهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ والملك بيد الله يجعله حيث يشاء، ليس لكم أن تختاروا، ﴿وإِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ من قبل الله تحمله الملائكة ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ وهو الذي كنتم تهزمون به من لقيتم، فقالوا: إن جاء التابوت رضينا وسلمنا)(2).

3. روي أنّه قال: (إذا خرجت من منزلك فاخرج خروج من لا يعود، ولا يكن خروجك إلا لطاعة أو في سبب من أسباب الدين، والزم السكينة والوقار، واذكر الله سرا وجهرا)(3).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/133.

(2) تفسير العيّاشي: 1/132.

(3) بحار الأنوار: 73/167.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ﴾ عدونا ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ﴾ لهم نبيهم: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ﴾ بعث الله لكم ملكا و﴿كُتُبٌ﴾ يعني: وفرض ﴿عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ﴾ أي: فلما فرض ـ كقوله سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾، يعني: فرض عليكم ـ ﴿عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ﴾ يعني: على بني إسرائيل ﴿تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ يعني: كره القتال العصابة الذين وقفوا في النهر، ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ يعنيهم لقولهم: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾، وكان القليل أصحاب الفرقة ثلاثمائة وثلاثة عشر، عدد أصحاب بدر، وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم بدر: (إنكم على عدد أصحاب طالوت)(1).

2. روي أنّه قال: قال لهم نبيهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ تعالى ﴿اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾ يعني: اختاره، كقوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ [البقرة: ١٣٢]، يعني: اختاره(2).

3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ يعني: في رد التابوت: ﴿لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يعني: مصدقين بأن طالوت ملكه من الله تعالى(2).

4. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾، وذلك أن كفار بني إسرائيل قهروا مؤمنيهم، فقتلوهم، وسبوهم، وأخرجوهم من ديارهم وأبنائهم، فمكثوا زمانا ليس لهم ملك يقاتل عدوهم، والعدو بين فلسطين ومصر(1).

5. روي أنّه قال:، قال فلما أنكروا أن يكون طالوت عليهم ملكا، ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾ أنه من الله ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ الذي أخذ منكم، وكان التابوت يكون مع الأنبياء، إذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم؛ يستفتحون به على عدوهم، فلما تفرقت بنو إسرائيل، وعصوا الأنبياء؛ سلط الله تعالى عليهم عدوهم، فقتلوهم، وغلبوهم على التابوت، فدفنوه في مخرأة لهم، فابتلاهم الله تعالى بالبواسير، فكان الرجل إذا تبرز عند التابوت أخذه الباسور، ففشى ذلك فيهم، فهجروه، فقالوا: ما ابتلينا بهذه إلا بفعلنا بالتابوت، فاستخرجوه، ثم وجهوه إلى بني إسرائيل على بقرة ذات لبن، وبعث الله تعالى الملائكة، فساقوا العجلة، فإذا التابوت بين أظهرهم... فلما رأوا التابوت أيقنوا بأن ملك طالوت من الله تعالى، فسمعوا له، وأطاعوا، وكان موسى عليه السلام ترك التابوت في التيه قبل موته عند يوشع بن نون(2).

6. روي أنّه قال: ﴿إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ﴾ اسمه إشماويل ـ وهو بالعربية: إسماعيل ـ بن هلقابا، واسم أمه: حنة، وهو من نسل هارون بن عمران أخو موسى(1).

7. روي أنّه قال: كان طالوت من سبط بنيامين، وكان جسيما عالما، وكان اسمه: شارل بن كيس، وبالعربية: طالوت بن قيس، وسمي طالوت لطوله(2).

8. روي أنّه قال: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾، وكان أعلم بني إسرائيل، وكان طالوت من سبط بنيامين، وكان جسيما عالما، وكان اسمه: شارل بن كيس، وبالعربية: طالوت بن قيس، وسمي طالوت لطوله، ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ﴾ بعطية الملك، ﴿عَلِيمٌ﴾ بمن يعطيه الملك(2).

9. روي أنّه قال: وكان التابوت من عود الشمشاد التي تتخذ منه الأمشاط الصفر، مموه بالذهب(2).

10. روي أنّه قال: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، ورأس كرأس الهرة، ولها جناحان، فإذا صوتت عرفوا أن النصر لهم، فكانوا يقدمونها أمام الصف(2).

11. روي أنّه قال: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾، يعني بالبقية: رضراضا من الألواح، وقفيز من في طست من ذهب، وعصا موسى عليه السلام، وعمامته(2).

12. روي أنّه قال: فاستخرجوه ـ أي: التابوت ـ لما أخذه عدو بني إسرائيل، فابتلاهم الله بالبواسير، ثم وجهوه إلى بني إسرائيل على بقرة ذات لبن، وبعث الله تعالى الملائكة، فساقوا العجلة، فإذا التابوت بين أظهرهم، فذلك قوله سبحانه: ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾، يعني: تسوقه الملائكة(2).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٠٥.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٠٦.

الثوري:

روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ منهم من يقول: البقية: قفيز من من، ورضاض الألواح، ومنهم من يقول: العصا، والنعلان(1).

__________

(1) عبد الرزاق: ١/١٠١.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لما قال لهم ـ يعني: النبي لبني إسرائيل ـ: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾، قالوا: فمن لنا بأن الله هو آتاه هذا؟ ما هو إلا لهواك فيه قال إن كنتم قد كذبتموني واتهمتموني، فإن ﴿آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٧٨.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾، الآيات هي: ما أنزل الله سبحانه من كتابه، وما جعل الله فيه من آياته ودلائله، التي توجب الطاعة، وتذهب المعصية، ويتم بها من الله على عباده النعمة، آيات حق، ومثبتات لصدق، مع رسول أمين، مقرب عند ذي العرش مكين، مستودع من أخبار الأولين والآخرين، مع علم ما سيكون في يوم الدين، والآيات التي جاء بها محمد صلّى الله عليه وآله وسلم تشهد على نبوته، وتفلج خصمه، وتقيم الحجة له؛ ألا تسمع كيف يقول سبحانه في أول العشر: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، فكل هذه آيات وتبصرة، وهداية للحق وتذكرة.

2. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾، ليس هو بداوود؛ ولكنه نبي من أنبياء بني إسرائيل، وإنما داوود كان من بعد قيام طالوت، وداوود هو الذي قتل جالوت، وكان من خبر داوود وطالوت ـ ما قد بلغكم من عجائب أخبارهما، وطرائف حديثهما، وما كان من جراءة طالوت على داوود، ونكباته فيما كان جرى بينه وبينه.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/177.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآية والتي قبلها قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ [البقرة: 243]:

أ. دلالة إثبات رسالة محمد عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات؛ لأن القصة فيهم كانت ظاهرة في أهل الكتاب، ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لم يختلف إلى أحد منهم، ولا نظر إلى كتبهم، ثم أخبر على ما كان، دل أنه إنما عرف ذلك بالله عزّ وجل.

ب. ثم فيه دلالة: أن كل نبيّ منهم كان إنما يشاور الأشراف من قومه والرؤساء منهم، وإليهم يصرف تدبير الأمور، ولا إلى السفلة منهم والرّذالة.

ج. وفيه دلالة أيضا: أن الأنبياء، صلوات الله عليهم وسلامه، لم يكونوا يتولون الجهاد والقتال بأنفسهم، ولكن الملوك هم الذين يتولون ذلك، ثم الملوك هم الراجعون إلى تدبير الأنبياء والرسل، عليهم الصلاة والسلام، في أمر الدين والآخرة، حيث سألوا (ملكا) يقاتلون معه عدوهم.

2. ذكر أن كفار بنى إسرائيل قهروا مؤمنيهم فقتلوهم وسبوهم وأخرجوهم من ديارهم وأبنائهم، فمضوا زمانا ليس لهم ملك يقاتل عدوهم، فقال النبيّ لهم، وهو من نسل هارون ابن عمران أخي موسى: ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ﴾ عدونا، فقال لهم نبيهم: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ استخبار عن سؤالهم الذي سألوا، أحق هو أم شيء أجروه على ألسنتهم من غير تحقيق، لئلا يستوجبوا العذاب بتركهم ذلك إذا أجيبوا وأعطوا ما سألوا وتمنوا؛ لما عرف من شدة القتال مع العدو والجهاد في سبيل الله، وكراهية ذلك في كل قوم إلى أن بينوا أنهم عن حق سألوا لما تبينوا العلة التي حملتهم على ذلك، وغاية رغبتهم فيها، وما لأجله كان السؤال، إن قالوا: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ من القتل، وأخذ الأموال وسبى الذراري.

3. ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ﴾ أي فرض، ﴿تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ فيه دلالة على أنه قد كان فيهم ما كان في هذه من قوله تعالى: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2]، من كراهية القتال والجهاد في سبيل الله، وقيل: ﴿تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر نفرا لم يتولوا عما سألوا.

﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ قيل: سمى (طالوتا) لطوله وقوته.

4. قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ يتوجه مثل هذا الكلام وجهين:

أ. أحدهما: على الإنكار، فلا يحمل على الإنكار؛ لأنه كفر.

ب. الثاني: على الاسترشاد وطلب العلم لهم منه في ذلك عن جهة جعله له ملكا، لما قد عرفوا أن لا يستوجب الملك، ولا يولى إلا أحد رجلين: إما بالوراثة من‏ الآباء، أو بالسعة في المال، لذلك قالوا: ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ لأنهم كانوا أبناء الملوك وأرباب الأموال.

5. ثم بين لهم عزّ وجل أن جهة الاختيار ليس إليهم، وأن سبب الملك ليس ما ذكرنا دون غيره، بل الله عزّ وجل يختار من يشاء لذلك بأسباب سوى ما ذكروا بفضل علم وبفضل قوة، حيث قال ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ قرر عندهم أن الملك يحتاج إلى فضل علم وفضل قوة.

6. قوله تعالى: ﴿بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: علم الحرب والقتال.

ب. ويحتمل: علم الأشياء الأخر على حفظ الرغبة وغيره.

7. ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾ هو لأى معنى جعل له الملك علينا؟ أو كيف يكون له الملك علينا، ونحن بظاهر الأسباب التي تحقق الملك أملك، فنكون بها أحق بالملك منه فبين الله أن المعنى الذي له صار أحق بالملك منهم في ذلك الأمر.

8. الحرف (أنى) وإن كان مما يتعارف في الإنكار فليس هو كذلك في الحقيقة؛ إذ قد أخبرهم من هو نبيّ عندهم، ومن تقرر عنده نبوة أحد لا يحتمل تكذيبه إياه في هذا.

9. قد يحتمل كون أهل النفاق فيهم، فيكون منهم الإنكار أيضا كما كان أمثال ذلك في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يؤيد سؤالهم الآية حتى قال ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾ كذا، ويؤيد ذلك كثرة مخالفتهم إياه لما امتحنوا بالنهر.

10. فى هذا ونحو ذلك دلالة جواز الآيات بغير الرسل إذا كان فيها تصديق الرسل، وكذلك قصة مريم، وكذلك عمل صاحب سليمان، وغير ذلك مما جاء به الكتاب، لكن ذلك يجوز إذا كان منهم تصديق الرسول‏ فيكون في التحقيق كآيات لهم ظهرت على ألسن غيرهم أو أيديهم، ومن أراد بها ادعاء الرسالة لنفسه فيعجز عن ذلك، بل لا يكرم الله بها من يعلم أنه يدعو إلى تصديق الكذب ومضاهاة الرسل، وبهذا يجاب لمن يعارض بمن يتعلم القرآن، ثم يأتي موضعا لا يعرف فيحتج به في نبوته، مع ما في ذلك أوجه تمنع الاحتجاج به من ذلك، بما فيه من الإخبار عن الأسئلة والأنباء عن أمور لا توجد هنالك وبما لا يعلم أوله أنه من تعلم تقدم منه إلى من هو حجة له، أو عن وحى إليه، إذ لم يكن امتحن من قبل، والحجة ما يخرج من المعتاد وحمل الطبيعة، يكرم بها وقت الدعوة بلا سبب سبق منه في مثله ولا عناية، ولا قوة إلا بالله، وبعد فإنه قد ظهر في جميع من لسانه ذلك اللسان ممن لا يطاق الدفع لمثله ولا إنكار وانتشر أمر الآتي به، فيظهر بذلك كذبه، ويفتضح عند الدعوى قبل المحنة والتأمل فيما جاء به إلا أن يأتي به من ليس ذلك لسانه، ولا معنى للاحتجاج به في أمثالهم.

11. ﴿وَاسِعُ﴾ أي غنى، يغنى من يشاء ويعطيه، ﴿عَلِيمٌ﴾ بمن يصلح للملك.

12. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ كأنهم سألوا نبيهم: ما آية ملكه؟ فقال لهم نبيهم: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت تحمله الملائكة.

13. ذكر في القصة: أن التابوت يكون مع الأنبياء، إذا حضروا قتالا قدموا التابوت من بين أيديهم إلى العدو، ويستنصرون به على عدوهم، وفيه سكينة، كأنها رأس هرة فإذا أن ذلك الرأس سمع التابوت أنين ذلك الرأس دف نحو العدو، وهم يمضون معه ما مضى، فإذا استقر ثبتوا خلفه، فلما هربت بنو إسرائيل وعصوا الأنبياء سلط الله تعالى عليهم عدوهم، وأخذوا منه التابوت لما سئموا وملوا، ثم رد عليهم بعد زمان طويل، وجعل ذلك آية من آيات ملك طالوت، فلا ندرى كيف كانت القصة.

14. اختلف في قوله تعالى: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾:

أ. قيل‏: ﴿سَكِينَةٌ﴾ ريح هفافة، فيها صورة كوجه الإنسان.

ب. وقيل‏: السكينة لها وجه كوجه الهرة، لها جناحان، فإذا تصوتت عرفوا النصرة.

ج. وقيل‏: السكينة: طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء.

د. وقيل‏: ﴿فِيهِ﴾ أي في التابوت‏ ﴿سَكِينَةٌ﴾ أي طمأنينة من ربكم، كأن التابوت في أي مكان كان اطمأنوا إليه وسكنوا.

15. لا ندرى ما السكينة؟ سوى أننا عرفنا أن قلوبهم كانت تسكن إليه وتطمئن، فليس لنا إلى معرفة (السكينة)، وكيفيتها حاجة.

16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾

أ. قيل‏: (البقية) فيه رضاض الألواح ـ وهو كسرها ـ وثياب موسى، وثياب هارون.

ب. وقيل‏: عصا موسى، وعصا هارون.

ج. وقيل‏: (البقية) قفيز من منّ، وهو الترنجبين الذي كان يأكله بنو إسرائيل في أرض التيه.

د. وقيل‏: فيه سنة موسى وهارون، وعلمهما، والله أعلم بذلك.

17. فى الآية دليل جرى الآية على أيدى الأولياء، لما أعطى لطالوت آية لملكه تشبه آيات الأنبياء حيث أخبر أنه كان‏ ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ هي القوة في داره، وهم كانوا لم يمروا ذلك وقت حمل الملائكة إياه، لكن تلك الآيات في الحاصل تكون للأنبياء يجريها الله تعالى على أيدى الأولياء إلا أن يكون للأولياء ذلك، ثم من ادعى من الأولياء بتلك الآيات النبوة لنفسه يعجزه الله تعالى عن ذلك، ويخرج الآية من أن تصير آية له، نحو من أتى مدينة من المدائن التي لم يبلغ أهلها هذا القرآن، ولا عرفوه ولا سمعوا ذلك من أحد قط، فجعل يقرأ ذلك عليهم عن ظهر قلبه، وادعى بذلك رسالة لنفسه، أيسع أهل ذلك البلد أن يصدقوه فيما ادعى، أم لا؟ فإن لأصحابنا(2)، جوابان:

أ. أحدهما: بأن في القران ما يظهر به كذب هذا المدعى في دعوته من نحو قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ عن كذا، ومن نحو الأخبار، والحكايات، والقصص التي فيها مما لا يحتمل كونها إلا بتقدم أسباب فيكذبه ذلك، فلم يلزمهم تصديقه، وبالله العصمة.

ب. الثاني: قالوا: إذا ادعى ذلك به يعجزه الله عزّ وجل عن تلاوته، وإجرائه على لسانه، وادعاء ما ادعى بذلك، وكأن هذا أقرب.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/223.

(2) يقصد أهل السنة الماتريدية

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى ما حكاه عز وجل من قول بني إسرائيل: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾: يريد التوقيف لهم: هل عساكم أن لا تقاتلوا إن كتب عليكم القتال، ولعلكم تضنون بأنفسكم ذلك الوقت فأخبروني الآن ما الذي تقولون: ﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾

2. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ كان القوم يريدون ملكاً كثير المال، يستعينون بماله على أمورهم، وكانوا زاهدين في ولي الله لغفلتهم وجهلهم، فرد عليهم نبيهم ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾ أي اختاره وعلم أنه خير منكم، فملكه البلاد وجعله حجة عليكم.

3. ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ والبسطة: هي السعة في العلم، وهو مأخوذ من بسط الشيء وسعته، ونشره من بعد انقباضه، ومن ذلك البساط سمي بساطاً لتبسطه وسعته، وأما الجسم فقيل في ذلك بقولين:

أ. أحدهما: أنه كان جسماً طويلاً مضطلعاً بحمل السلاح، قوياً على القتال، وقتل مَن عصى الله من شبه الرجال، الخونة الكفرة الظلمة الأنذال.

ب. وقيل في ذلك: أنه لم يعنِ ولم يرد الجسم في نفسه، وإنما عنى الشجاعة التي هي مركبة في جسمه وقلبه، والعزيمة التي هي في حزمه، فكلا القولين حسن لا بأس به.

4. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾: أي علامة نبوته، ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ إلى آخر الآية: روي أن هذا التابوت هو تابوت موسى فيه بقية بقيت وثبتت مما ترك آل موسى وآل هارون، مما تركوه وخلفوه بعد موتهم من الكتب والدلائل التي كانت مع موسى وهارون، فجعل الله تعالى من ذلك التابوت وما فيه دليلاً على نبوة من قام من أولي العزم، فكانت الملائكة تحمله بين يديه، فإذا رآه الناس علموا أن ذلك نبي من أولي العزم والجهاد، وأن الله قد اصطفاه على جميع العباد.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 287.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ﴾ الملأ الجماعة من الأشراف والنبي الذي سألوه داوود ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لأن الجبابرة في وقته استذلوهم وهضموهم فسألوا لقتالهم.

2. ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ إنما أنكروا أن يكون ملكاً عليهم لأنه لم يكن من سبط النبوة ولا من سبط المملكة بل كان من أخمل سبط من بني إسرائيل.

3. ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ [البقرة: 247] يعني زيادة في العلم وعظماً في الجسم ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ والتقدير واسع الفضل فأسقط الفضل اكتفاء باللفظ ويجوز أن يكون واسع بمعنى يوسع نعمه على خلقه.

4. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: 248] أي علامة ملكه وقدر التابوت ثلاثة أذرع في ذراعين فيه سكينة من ربكم أي ما تعرفون من الآيات فتسكنون إليها وتثبتون لها ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ [البقرة: 248] والبقية فهي العلم والتوراة وقيل عصا موسى ورصاص الألواح وكل ذلك جائز وكانت الملائكة التي حملته بين السماء والأرض.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/119.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الملأ: الجماعة، ﴿مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ﴾ اختلف أهل التأويل فيه على ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أنه سمويل‏، وهو قول وهب بن منبه.

ب. الثاني: يوشع بن نون، وهو قول قتادة.

ج. الثالث: شمعون، سمّته أمّه بذلك لأن الله سمع دعاءها فيه، وهو قول السدي.

2. ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في سبب سؤالهم لذلك قولان:

أ. أحدهما: أنهم سألوا ذلك لقتال العمالقة، وهو قول السدي.

ب. الثاني: أن الجبابرة الذين كانوا في زمانهم استزلوهم، فسألوا قتالهم، وهو قول وهب والربيع.

3. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ قال وهب، والسدي: إنما أنكروا أن يكون ملكا عليهم، لأنه لم يكن من سبط النبوة، ولا من سبط المملكة، بل كان من أخمل سبط في بني إسرائيل.

4. ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ يعني زيادة في العلم وعظما في الجسم، واختلفوا هل كان ذلك فيه قبل الملك؟

أ. فقال وهب ابن منبه، والسدي: كان له ذلك قبل الملك.

ب. وقال ابن زيد: زيادة ذلك بعد الملك.

5. ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ في واسع ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: واسع الفضل، فحذف ذكر الفضل اكتفاء بدليل اللفظ، كما يقال فلان كبير، بمعنى كبير القدر.

ب. الثاني: أنه بمعنى موسع النعمة على من يشاء من خلقه.

ج. الثالث: أنه بمعنى ذو سعة.

6. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾ أي علامة ملكه‏ ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ قال وهب بن منبه: كان قدر التابوت ثلاثة أذرع في ذراعين.

7. ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ في السكينة ستة تأويلات:

أ. أحدها: ريح هفافة لها وجه‏ كوجه الإنسان، وهذا قول عليّ عليه السّلام.

ب. الثاني: أنها طست من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء، وهذا قول ابن عباس والسدي.

ج. الثالث: أنها روح من الله تعالى يتكلم، وهذا قول وهب بن منبه.

د. الرابع: أنها ما يعرف من الآيات فيسكنون إليها، وهذا قول عطاء بن أبي رباح.

هـ. الخامس: أنها الرحمة، وهو قول الربيع بن أنس.

و. السادس: أنها الوقار، وهو قول قتادة.

8. في قوله تعالى: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ أربعة تأويلات:

أ. أحدها: أن البقية عصا موسى ورضاض الألواح، وهذا قول ابن عباس.

ب. الثاني: أنها العلم والتوراة، وهو قول عطاء.

ج. الثالث: أنها الجهاد في سبيل الله، وهو قول الضحاك.

د. الرابع: أنها التوراة وشيء من ثياب موسى، وهو قول الحسن.

9. ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ قال الحسن: تحمله الملائكة بين السماء والأرض، ترونه عيانا، ويقولون: إن آدم نزل بالتابوت، وبالركن، واختلفوا أين كان قبل أن يرد إليهم:

أ. فقال ابن عباس، ووهب كان في أيدي العمالقة، غلبوا عليه بني إسرائيل.

ب. وقال قتادة كان في بريّة التيه، خلّفه هناك يوشع بن نون.

ج. زقال أبو جعفر الطبري: وبلغني أن التابوت وعصا موسى وبحيرة الطبرية، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/314.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الملأ: الجماعة الأشراف من الناس وروي أن رجلا من الأنصار قال يوم‏ بدر: إن قتلنا الّا عجاز صلعا، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: أولئك الملا من قريش لو رأيتهم في أنديتهم لهبتهم، ولو أمروك لأطعتهم، ولاحتقرت فعالك عند فعالهم، وتقول ملأت الإناء أملأه ملاء إذا أترعته، لأنه يجتمع فيه ما لا يكون معه مزيد عليه، وامتلأ امتلاء: إذا طفح، ومالأت الرجل: إذا عاونته ممالأة، وتمالؤوا عليّ: إذا تعاونوا، وملوء الرجل ملاءة، فهو مليء بالأمر: إذا أمكنه القيام به، ووعاء ملآن والأنثى ملآى، والجمع: ملاء، والملأ: الجماعة من الناس يستجمعون للمشاورة، والجميع الاملاء قال الشاعر:

çوقالت لنا الاملاء من كل معشر...وخير أقاويل الرجال سديدهاé

والاملاء: الريطة وأصل الباب الاملاء، وهو الاجتماع فيما لا يحتمل المزيد، ومنه شاب مالئ العين أي قد اجتمع له من الحسن في العين ما ليس عليه مزيد، والملأ: الخلق، لأن جميع أفعال صاحبه تجرى عليه.

2. قال السدي: إن النبي الذي قالت له بنو إسرائيل ما حكاه يقال: شمعون سمته أمه بذلك لأن الله سمع دعاءها فيه، وقال قتادة: هو يوشع بن نون، وقال وهب بن منية: هو شمويل، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.

3. كان سبب سؤالهم هذا استذلال الجبابرة لهم من الملوك الذين كانوا في زمانهم إياهم على قول وهب، والربيع، وقال السدي: قتال العمالقة، وإنما سألوا ملكا، ليكون آمراً عليهم تنتظم به كلمتهم، وتجتمع أمورهم، ويستقيم حالهم في جهاد عدوّهم.

4. أكثر النحويين على الجزم في (نقاتل) مع النون، وقالوا: لا يجوز غير الجزم، وأجاز الزجاج الرفع على ضعف فيه على تقرير: فانا نقاتل في سبيل الله، ولو كان بالتاء لجاز الرفع على أن يكون صفة للملك، والجزم على الجواب، كما قال‏ ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي﴾ بالجزم، والرفع، ولو كان (نقاتل معه) لحسن الرفع أيضاً لعائد الذكر، ولا يجوز أن تقول: الذي مررت زيد، تريد: به.

5. دخلت (أن) في قوله: ﴿ما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾، وأسقطت في قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ لأحد ثلاثة أشياء:

أ. أولها دخلت (أن) لتدل أن فيه معنى: ما منعنا من أن نقاتل، كما دخلت الباء في خبر هل لما تضمنت معنى ما.. وأما سقوطها في الموضع الآخر، فعلى الأصل كأنه قيل: ما لنا غير مقاتلين، كما قال ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ هذا قول الفراء.

ب. الثاني:أن تكون (أن) زائدة في قول الأخفش، وهو ضعيف، لأنه لا يجوز الحمل على الزيادة لا لضرورة.

ج. الثالث: على حذف الواو كأنه قال وما لنا ولأن نقاتل، كما قالوا: إياك أن تتكلم بمعنى إياك وأن تتكلم، قال الرماني: وهذا ليس بالوجه، لأنه لا يحكم أحد بالحذف، ولا بالزيادة إلا عند الضرورة قال الشاعر:

çفبح بالسرائر في أهلها...وإياك في غيرهم أن تبوحاé

فالآية مستغنية عن الواو مثل البيت سواء قال الشاعر: (فإياك المحاين أن تحينا)، فإنما هو على احذر المحاين لا على إضمار (أن)، وقال المبرد في (ما) وجه آخر، وهو أن يكون جحداً، ويكون تقديره: ما لنا ترك القتال، وعلى الوجه الأول (ما) استفهام، وإنما جاز، مالك أن تقوم، ولم يجوز مالك أن قمت، لأن المنع إنما يكون على الاستئناف، تقول: منعه أن يقوم، ولا يجوز أن يقوم منعه أن قام، كذا قال الفراء في الكلام حذف، وتقديره: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ فسأل، فبعث، فوجب عليهم القتال (فلما كتب) (تولوا)، وإنما وجب أن يكون محذوفاً، لأن الكلام لا يدل عليه إلا من جهة الذكر له أو الحذف منه، فأما ما يدل عليه الكلام من غير جهة الذكر له، أو الحذف منه، فليس بمحذوف نحو قد عُرف زيد، فإنه يدل على أنه عرفه عارف، وليس بمحذوف، لأنه لم يدل عليه من جهة الذكر له ولا الحذف منه.

6. عسيتم ـ بكسر السين ـ لغة، والفتح أكثر، وقوله تعالى: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ لا يجوز فيه الرفع، لأنه استثناء بعد موجب، وكذلك قوله تعالى: ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾ لا يجوز فيه الرفع.

7. قال السدي، ووهب بن منبه: إنما أنكروا أن يكون طالوت ملكاً، لأنه لم يكن من سبط النبوة، ولا سبط المملكة بل كان من أجمل سبط في بني إسرائيل.

8. ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ﴾ معناه اختاره في قول ابن عباس، وابن زيد، وأصله الصفوة من الأدناس، وقوله تعالى: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ قيل في معناه قولان:

أ. قال الحسن: زيادة في العلم وعُظماً في الجسم.

ب. وقال الجبائي: كان إذا قام الرجل، فبسط يده رافعاً لها نال رأسه.

9. جسم يجسم جسامة يعنى ضخم ضخامة، ورجل جسيم: عظيم الخلق، وجسمه تجسيما، وتجسم تجسما، وهو أجسم منه أي أضخم، وأصل الباب الضخم، والجسم: هو الذاهب في الجهات الثلاثة: الطول والعرض والعمق.

10. إنما لم يصرف (طالوت)، وصرف (جاموس) إذا سميت به، وإن كانا أعجميين ـ في قول الزجاج ـ لأنه لما كان يدخله الألف واللام نكر، نحو قولهم: الجاموس، وكلما أعرب في حال تنكيره فإنه لا يعتد بالعجمة فيه، لأنه بمنزلة ما أصله عربي فأما ما أعرب في حال تعريفه، فليس كذلك، لأنه لم يستعمل إلا على احدى الحالين دون الأخرى، فنقل لذلك.

11. في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: واسع الفضل، فحذف، كما حذف في قولهم: فلان كبير أي كبير القدر.

ب. الثاني:واسع بمعنى: موسع أي يوسع على من يشاء من نعمه، كما جاء (أليم) بمعنى: مؤلم.

ج. الثالث: واسع بمعنى ذو سعة نحو ﴿عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ أي ذات رضى، وهم ناصب أي ذو نصب، وتامر، ولابن، أي ذو تمر وذو لبن، ويجيء باب في فاعل بمعنى ذو كذا.

12. ﴿عَلِيمٌ﴾ [الملك: 13] أي عليم بمن ينبغي أن يؤتيه الفضل إما للاستصلاح، وإما للامتحان.

13. قال البلخي: في الآية دلالة على فساد قول من قال بأن الامامة وراثة، لان الله تعالى رد عليهم ما أنكروه من التعليل‏ عليهم من ليس من أهل النبوة، ولا المملكة، وبين أنه يجب بالعلم والقوة لا بالوراثة، وقال أصحابنا(2): فيها دلالة على أن من شرط الامام أن يكون أعلم رعيته وأفضلهم في خصال الفضل، لأن الله تعالى علل تقديمه عليهم بكونه أعلم وأقوى فلولا أنه شرط وإلا لم يكن له معنى.

14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾:

أ. قال الحسن: وجه الآية في التابوت أن الملائكة كانت تحمله بين السماء والأرض يرونه عياناً.

ب. وقال ابن عباس ووهب: إن الله انتزعه من أيدي أعدائهم الذين نهبوه منهم، فردّ عليهم‏ ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾

ج. وقيل: إن التابوت كان في أيدي أعداء بني إسرائيل من العمالقة الذين غلبوهم عليه ـ على قول ابن عباس، ووهب ـ وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام.

د. وقال قتادة: كان في برية التيه: خلفه هناك يوشع ابن نون، وقال وهب بن منبه: كان قدر التابوت نحواً من ثلاث أذرع في ذراعين.

هـ. وقال أبو جعفر التابوت هو الذي وضعت أم موسى فيه موسى حين ألقتة في اليم.

15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: 248]:

أ. روي عن علي عليه السلام، أنّه قال السكينة التي كانت فيه ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان.

ب. وقال مجاهد لها رأس كرأس الهرة، وروي ذلك في أخبارنا.

ج. وقال وهب: روح من الله تكلمهم بالبيان عند وقوع الاختلاف.

د. وقال عطا: كان فيه آية يسكنون إليها.

هـ. السكينة مصدر وقع موقع الاسم نحو القضية والبقية والعزيمة وأخذ من معنى السكون لأن نفوسهم تسكن إليه والبقية التي ترك آل موسى، وآل هارون: قال‏ ابن عباس، وقتادة، والسدي: إنها عصا موسى ورصاص للألواح، وهو المروي عن أبي جعفر.

16. أقوى هذه الأقوال أن يحمل على أنه كان فيه ما يسكنون إليه، ويجوز أن يكون ذلك عصا موسى والرصاص، وغير ذلك مما اختلفوا فيه بعد أن يكون فيه ما تسكن النفس إليه، لأنه تعالى بين أن فيه سكينة، وهي فعيلة من السكون، ولا يقطع بشيء من ذلك إلا بدليل يوجب العلم، وقال الحسن: كان فيه التوراة وشيء من ثياب موسى.

17. في التابوت لغتان فلغة جميع العرب إلا الأنصار: التابوت بالتاء، والأنصار تقول: التابوه بالهاء، ويقال: بقي بقاء وأبقاه إبقاء واستبقاه استبقاء وتبقاه تبقياً وتباقى تباقياً وباقاه مباقاة، ومنه بقايا الخراج، وأصل الباب البقاء: خلاف الفناء.

18. ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ تقول: حمل يحمل حملا واحتمل احتمالا وتحامل تحاملا، وتحملّ تحملا وحمّله تحميلا وحامله محاملة، وانحمل انحمالا واستحمل استحمالا، والحمل من الضّان: الخروف، والحمل: السحاب الكثير الماء، والحمل: ما في البطن، والحِمل: ما على الظهر، والحمالة علّاقة السيف، والمحمل: الذي يوكبه الناس والحمالة الدية، يتحملها قوم عن قوم والحميل: الكفيل، والحميل الغريب لأنه يحمل على القوم وليس منهم، وحميل السيل: غثاؤه، وامرأة حامل: حبلى لحملها الولد، وحملت فلاناً على فلان: إذا حرشته عليه، لأنك حملته على مكروهه، والحمولة الإبل لأنها يحمل عليها الأثقال، وأصل الباب الحمل: كون الشيء على الشيء.

19. ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ معناه إن كنتم مصدقين ولا يجوز أن يكونوا على تثبيت الايمان لهم، لأنهم كفروا حين ردّوا على نبيهم، وقيل: إن كنتم مؤمنين كما تزعمون.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/290.

(2) يقصد الإمامية

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الملأ: الجماعة الأشراف، والجمع المُلاء بضم الميم والمد، ولا واحد له من لفظه كالإبل والخيل والقوم والرهط، وأصله من الامتلاء وهو الاجتماع فيما لا يحتمل المزيد، وسمي الأشراف ملأ كأنه ليس على شرفهم مزيد، وقيل: لأنه يملأ الصدور هيبتهم، وقال بعضهم يوم بدر: ما قتلنا إلا عجائز صلعًا، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: أولئك الملأ من قريش لو رأيتهم في أنديتهم لهبتهم، ولو أمروك لأطعتهم ولاحتقرت فعالك عند فعالهم.

ب. النبيء بالهمز وغير الهمز قراءتان، والاختيار ترك الهمز؛ لأنها لغة الحجاز وعليه أكثر القراء، ولأنه أخذ من الرفعة، وبالهمز من الإنباء، وروي في الخبر النهي عن الهمز.

ج. المقاتلة: المحاربة.

د. إسرائيل هو يعقوب، ومعناه عبد الله.

هـ. الاصطفاء: من الصفوة، كأنه اختص بالصفوة من الأدناس، وقيل: هو المختار واصطفاه واستصفاه بمعنى، وهو الاستخلاص بأن تأخذ الشيء خالصًا لنفسك.

و. الجسم: الضخم، جَسُمَ جسامة أي ضَخُمَ، وفلان أجسم منه أي أضخم، واختلفوا في حد الجسيم فقيل: الطويل العريض عند أصحابنا؛ ولذلك يقال: أجسم، وقيل: المؤلف، وقيل: القائم بنفسه، وليسا بشيء، وأقل الأجزاء التي يقع عليها اسم الجسم، قيل: ثمانية، عن أبي علي وأبي هاشم، وقيل: ستة، عن أبي الهذيل، وقيل: أربعة، عن أبي القاسم.

ز. الآية: الحجة والعلامة.

ح. التابوت بالتاء لغة جمهور العرب، وبالهاء لغة الأنصار.

ط. السكينة: فَعِيلَة من السكون، وهي ضد الحركة.

ي. البقية فَعِيَلة من الباقي، وأصله من البقاء ضد الفناء.

ك. الحمل: أصل كون الشيء على الشيء، والحَمْل بالفتح: ما كان علي رأس شجرة أو في بطن، وبالكسر: ما كان على ظَهْرٍ، وامرأة حامل: في بطنها ولد، بغير هاء كحائض، وإذا أريد به الحِمْل فهي حاملة.

ل. الآل: أهل البيت، وخاصَّةُ الرجل.

2. لما تقدم الحث على الجهاد عقبه بقصة كانت مشهورة في بني إسرائيل تتضمن قعودهم عن الجهاد، وما نالهم في ذلك تحذيرًا عن سلوك طريقتهم، فيه فقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ألم تعلم يا محمد، وقيل: أيها السامع: ﴿إِلَى الْمَلَإِ﴾ جماعة الأشراف ﴿مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ أي من بعد موته.

3. ﴿إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ﴾ أي لرسول:

أ. قيل: هو: يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف، عن قتادة.

ب. وقيل: شمعون سَمَّتْهُ أمه بذلك؛ لأنها دعت الله تعالى أن يرزقها فاستجاب دعاءها فسمته شمعون، يعني سمع دعاءها فيه، والسين يصير شينا بالعبرانية، وهو من ولد لاوي بن يعقوب، عن السدي.

ج. وقيل: هو إشمويل من ولد هارون، عن وهب، وعليه أكثر المفسرين.

4. ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا﴾، واختلفوا في سبب سؤالهم:

أ. قيل: استدلال عن الجبابرة لهم من الملوك الَّذِينَ كانوا في زمانهم، عن وهب والربيع.

ب. وقيل: قتال العمالقة، عن السدي.

ج. وقيل: تغلب قوم جالوت على بني إسرائيل فسبوا ذراريهم، وقتل مقاتلتهم.

5. ﴿مُلْكًا﴾ سألوا ملكا تنتظم به كلمتهم، ويجمع أمرهم في جهاد عدوهم، وكان قوام أمر بني إسرائيل بِمَلِكٍ يجتمعون عليه لجهاد الأعداء ويجري الأحكام، وبنبي يطيعه الملك، ويقيم أمر دينهم ويأتيهم الخبر من ربهم ﴿نُقَاتِلْ﴾ نحارب ﴿فِي سَبِيلِ الله﴾ في سبيل دينه وجهاد أعدائه.

6. فأجاب نبيهم، فقال تعالى: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ﴾ أي لعلكم ﴿إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ فرض، ﴿الْقِتَالُ﴾ مع ذلك الملك ألا تقوموا بما تقولون، ولا تقاتلون معه، قال: هل ظننتم إن كلفتم الجهاد ألا تقوموا بحقه.

7. ﴿قَالُوا﴾ يعني الملأ: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا﴾ لفظه عام ومعناه خاص، يعني أخرج بعضنا ﴿مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ من وطننا وأهلينا.

8. ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ﴾ فرض عليهم بعد أن بعث ملكًا يقاتلون معه، وفي الكلام محذوف تقديره: فسأل الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكًا، وكتب عليهم القتال فتولوا وأعرضوا عن الجهاد وضيعوا أمر الله ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ وهم الَّذِينَ عبروا النهر على ما نبينه من بعد.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالله عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾:

أ. قيل: يعني من لم يطعه في أمره ونهيه، عن الأصم.

ب. وقيل: عليم بمن ترك الجهاد بعد وجوبه، عن أبي علي.

10. ثم لما بَيَّنَ تعالى إعراضهم عن الجهاد بين السبب فقال تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ وهو من ولد بنيامين، وسمي طالوت لطوله، قيل: أميرًا على الجيش، عن مجاهد، وقيل: بعثه نبيًا بعد أن جعله ملكًا.

11. ﴿قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾ أي كيف يملك علينا، وهذا أول إعراضهم أن أنكروا ملكه:

أ. قيل: إنما قالوا ذلك لأنه لم يكن من سبط النبوة ولا من سبط الملك، عن وهب والسدي، وكان سبط النبوة سبط لاوي، ومنه موسى وهارون، وسبط المملكة سبط يهوذا، ومنه داوود وسليمان.

ب. وقيل: أنكروه لفقره، واختلفوا فقيل: كان دباغًا، عن وهب.

ج. وقيل: مكارَّيَا.

د. وقيل: سَقَّاءً، عن السدي.

12. ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾؛ لأنا من بيت الشرف وأوتينا المال ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ أي لم يعط المال ﴿قَالَ﴾ يعني نبيهم ﴿إِنَّ الله اصْطَفَاهُ﴾ اختاره ﴿عَلَيْكُمْ﴾، عن ابن عباس وابن زيد ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً﴾ أي فضلة وسعة.

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فِي الْعِلْمِ﴾:

أ. قيل: بالحرب.

ب. وقيل: كان أعلم بني إسرائيل في وقته.

ج. وقيل: إنه أوحى إليه.

14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْجِسْمِ﴾:

أ. قيل: كان عظيمًا في الجسم، عن الحسن.

ب. وقيل: كان طويلا، وكان إذا قام الرجل فبسط يده رافعًا لها نال رأسه، حكاه أبو علي.

ج. وقيل: قوة.

د. وقيل: بالجمال، وكان أجمل بني إسرائيل وأعلمهم، عن الأصم.

﴿وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ يعني لا ينكر ملكه وإن لم يكن من أهل بيت الملك؛ فإنه ليس بالوراثة، ولكن يؤتيه الله من يشاء.

15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾:

أ. قيل: جواد، عن أبي مسلم.

ب. وقيل: واسع الفضل إلا أنه حذف كقولهم فلان كبير، أي كبير القدر.

ج. وقيل: واسع يعني يوسع على من يشاء نعمه، كما جاء أليم بمعنى مؤلم.

د. وقيل: واسع بمعنى ذي سعة، كعيشة راضية بمعنى ذات رِضًا، ورجل تامر ذو تمر، عليم يعني مع أنه واسع الفضل، عليم بمصالح الخلق، يعطي امتحانًا واستصلاحًا.

هـ. وقيل: يعطي على علم بمواقعه، عن أبي علي.

16. ثم لما تقدم ملك طالوت، وإعراض القوم عقب بذكر التابوت معجزة لذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وتأكيدًا لملكه فقال تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾ أي: حجة صحة ملكه ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ وقيل: كان التابوت من الجنة، وكان عند آدم ثم عند الأنبياء، وفيه صورة الأنبياء إلى أن وصل إلى إسماعيل، فرده قيذار على يعقوب، فكان عند بنيه.

17. سؤال وإشكال: أين كان قبل أن يرد على بني إسرائيل؟ والجواب: اختلفوا:

أ. قيل: في أيدي أعداء بني إسرائيل من العمالقة غلبوهم عليها لما مرج أمر بني إسرائيل، وحدث فيهم الأحداث، عن ابن عباس ووهب.

ب. وقيل: في برية التيه خلفه هناك يوشع بن نون، عن قتادة.

ج. وقيل: كان جالوت ذهب به، عن الأصم.

د. وقيل: كان التابوت ثلاثة أذرع في ذراعين، عن وهب.

18. سؤال وإشكال: ما وجه الآية في التابوت؟ والجواب: اختلفوا:

أ. قيل: كانت الملائكة تحمله بين السماء والأرض رأوه عيانًا، عن الحسن.

ب. وقيل: إنه تعالى انتزعه من أيدي أعدائهم الَّذِينَ ذهبوا به فرده عليهم، ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾، عن ابن عباس ووهب.

19. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ﴾:

أ. قيل: في التابوت نفسه.

ب. وقيل: فيما في التابوت.

20. اختلفوا في السكينة:

أ. قيل: ريح هفافة ولها وجه كوجه الإنسان، عن علي.

ب. وقيل: لها رأس كرأس الهرة وجناحان، عن مجاهد.

ج. وقيل: روح من الله يكلمهم بالبيان عند وقوع الاختلاف، عن وهب.

د. وقيل: هو ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها، عن عطاء.

هـ. وقيل: لما أتاهم التابوت وقد وعدوا النصر آمنوا واطمأنوا، عن أبي علي.

و. وقيل: سكنوا إلى التابوت، عن قتادة.

ز. وقيل: رحمة من ربكم، عن الربيع.

ح. وقيل: كان فيه كتب الأنبياء والوعد بنصر طالوت، عن أبي مسلم.

21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾

أ. قيل: عصا موسى ورَضْرَاض الألواح، عن ابن عباس وقتادة والسدي.

ب. وقيل: التوراة وشيء من ثياب موسى، عن الحسن.

22. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾:

أ. قيل: جاءت به بين السماء والأرض إلى طالوت، عن ابن عباس والحسن.

ب. وقيل: لما غلب الأعداء على التابوت أدخلوه بيت الصنم فأصبحت أصنامهم كلها مكسرة، فأخرجوه ووضعوه ناحية المدينة، فأخذ وجع في أعناقهم كلما وضعوه موضعًا ظهر بلاء وموت ووباء، فأشير عليهم بأن يخرجوا التابوت، فجاءوا بعجلة، وحملوا التابوت عليها ثم علقوها على ثورين، فأقبل الثور، ووكل الله به أربعة من الملائكة تسوقه حتى جاء إلى بني إسرائيل.

23. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾:

أ. قيل: مصدقين.

ب. وقيل: إن كنتم مؤمنين فيما تزعمون.

ج. وقيل: لا يجوز حمله على الإيمان؛ لأنهم كفروا بالرد على نبيهم.

24. تدل الآيات الكريمة على:

أ. الحث والترغيب في الجهاد، والتحذير من مخالفة أمر الله فيه، وعلى أن الجهاد كان من فرائض من كان قبلنا، ومن شرائع الأنبياء قبل نبينا صلّى الله عليه وآله وسلم.

ب. أن الجهاد يحتاج إلى مدبر وأمير يجمع الكلمة.

ج. جواز أن ينفصل الملك من النبوة، وجواز أن يجعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الملك لغيره بإذن ربه.

د. أن للأنبياء تشديد العهود والمواثيق على أممهم فيما يلزمهم؛ فلذلك قال: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ﴾

هـ. أن المخالفة قد تقع من الأمة مع التوكيد البليغ.

و. أن ترك القتال بعدما كتب عليهم ظلم؛ لأنه كبيرة.

ز. أن في ترك الجهاد ظلم من وجوه:

منها: استحقاق العقوبة في الآخرة.

ومنها: ما يعود عليه من الضرر بقوة العدو.

ومنها: خوفه في المستقبل من غلبة العدو، وجميع ذلك يحصل في ترك إزالة المنكر، فلذلك وجب.

ح. أن المَلِك قد يضاف إلى الله، وإن لم يكن في البعثة كالأنبياء، والمراد أن ينصبه التدبير، ويعطيه الآلات، ولأمر بالانقياد له، فعند ذلك يقال: بعثه الله ملكًا، وفي ملكه أي أنه من جهته؛ لأن تصرفه بإذنه.

ط. أن الإمامة والملك ليست بوراثة، ولا تستحق بالغنى، وإنما هي بحسب المصلحة، فمن كانت المصلحة فيه يجعل الملك إليه.

ي. أن من شرط الملك أن يكون عالمًا شجاعًا؛ لذلك خص بالذكر العلم والجسم، ولأن لكل واحد منهما تأثيرًا في السياسة والتدبير.

ك. أن كل من آتاه الله الملك هيأ له أسبابه؛ لذلك قال: ﴿وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾

ل. أن الواجب على العبد الرضا بما اختاره الله تعالى له، وليس له أن يختار؛ لأنه لا يعلم المصالح، ولا يعترض بهذا على قولنا: إن الإمامة بالاختيار؛ لأنا نقول: السعة بأمر الله وإذنه، فلا يلزمنا ذلك.

م. تأكيد ملك طالوت بهذه الآية؛ ليكونوا أقرب إلى الانقياد له فيكون لطفًا لهم؛ لأن الملك لا يحتاج إلى معجز خصوصًا مع بيان النبي والمعجز، وإن أكد ملكه فهو معجز لذلك النبي؛ لأن ظهور المعجز على غير النبي لا يجوز.

ن. أن في التابوت ما يسكنون إليه، لذلك منَّ عليهم برده عليهم.

س. عظيم نعم الله تعالى على بني إسرائيل.

25. قراءة العامة: ﴿نُقَاتِلْ﴾ بالنون حكاية عنهم، وعن السلمي، بالياء كناية عن الملك، وقرأ نافع والحسن: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ﴾ بكسر السين، والباقون بالفتح، وهما لغتان والأجود الفتح وهو الأكثر، قال أبو عبيدة: لو جاز ذلك لقرئ عَسِي ربكم.

26. مسائل نحوية:

أ. ﴿نُقَاتِلْ﴾ قال الزجاج: أكثر النحويين لا يجيزه إلا بالجزم، وقد يجوز الرفع على ضعفه بمعنى الاستئناف، كأنه في التقدير: فإنا نقاتل، وبالياء يجوز الرفع على الصفة لـ: ﴿مَلِكِ﴾، والجزم على الجواب كقوله: ﴿يَرِثُنِي﴾ بالجزم، والرفع.

ب. دخلت (أن) في ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا﴾، وحذفت في ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِالله﴾ لأنهما لغتان صحيحتان، فأما إثباته ههنا ففيه أربعة أقوال:

الأول: دخلت: (أن) لتدل على أن فيه معنى ما منعنا من أن لا نقاتل، كما دخلت الباء في خبر ما لما تضمنت معنى: ﴿مَا﴾ وسقوطها في الموضع الآخر على الأصل، كأنه قال: ما لنا غَيْرَ مقاتلين كقوله: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ عن الفراء.

الثاني: (أن) زائدة عند الأخفش، وليس بالوجه؛ لأنه لا يحكم بالزيادة، وله معنى يحسن.

الثالث: على حذف الواو كأنه قيل: وما لنا، وأن لا نقاتل كما يقال: إياك أن تتكلم، يعني إياك وأن لا تتكلم، وليس بالوجه؛ لأنه لا يحكم بالحذف، وعنه مندوحة.

الرابع: ﴿مَا﴾ بمعنى الجحد، كأنه قيل: ما لنا نترك القتال، وعلى الوجه الأول: ﴿مَا﴾ استفهام.

ج. ﴿قَلِيلًا﴾ نصبا، ولا يجوز فيه الرفع؛ لأنه استثناء موجب، عن الزجاج.

د. ﴿طَالُوتُ﴾ لا ينصرف، وصرف جاموس؛ لأنه تدخله الألف واللام، فتمكن في المعنى.

هـ. السكينة: مصدر وقع موقع الاسم نحو القضية والبقية [و] العزيمة.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/48.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الملأ: الجماعة الأشراف من الناس، وروي أن رجلا من الأنصار قال يوم بدر: (إن قتلنا الأعاجيز صلعا)، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (أولئك الملأ من قريش لو رأيتهم في أنديتهم لهبتهم، ولو أمروك لأطعتهم، ولاحتقرت فعالك عند فعالهم)، وملأت الإناء: أترعته، لأنه يجتمع فيه ما لا يكون مزيد عليه، ومالأت الرجل: عاونته، وتمالؤوا على ذلك: إذا تعاونوا، وملأ الرجل ملاءة فهو ملي بالأمر: إذا أمكنه القيام به، والملأ: الخلق لأن جميع أفعال صاحبه يجري عليه، يقال: أحسنوا إملاءكم أي: أخلاقكم قال:

çتنادوا يال بهثة إذ رأونا... فقلنا: أحسني ملأ جهيناé

وأصل الباب: الاجتماع فيما لا يحتمل المزيد، وإنما سمي الأشراف ملأ، لأنه لا مزيد على شرفهم، وقيل: لأن هيبتهم تملأ الصدور، والملا مقصورا: المتسع من الأرض، قال الشاعر:

çألا غنياني، وارفعا الصوت بالملأ... فإن الملا عندي تزيد المدى بعداé

ب. اصطفاه: اختاره واستصفاه بمعناه، وأصله اصتفاه إلا أن التاء أبدلت طاء، لأن التاء من مخرج الطاء، والطاء مطبقة كما أن الصاد مطبقة، فأبدلوها منها ليسهل النطق بها بعد الصاد.

ج. البسطة: الفضيلة في الجسم والمال.

د. الجسم: حده الطويل العريض العميق، بدلالة قولهم جسم جسامة أي: ضخم، وهذا جسيم أي ضخيم وهذا أجسم من هذا: إذا زاد عليه في الطول والعرض والعمق، وقيل: الجسم هو المؤلف، وقيل: هو القائم بنفسه، والصحيح الأول.

هـ. التابوت: بالتاء لغة جمهور العرب، والتابوه بالهاء: لغة الأنصار.

و. السكينة: مصدر وقع موقع الاسم نحو القضية والبقية والعزيمة، وأخذ من السكون.

2. لما قدم تعالى ذكر الجهاد، عقبه بذكر القصة المشهورة في بني إسرائيل تضمنت شرح ما نالهم في قعودهم عنه، تحذيرا من سلوك طريقهم فيه: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أي: ألم ينته علمك يا محمد ﴿إِلَى الْمَلَإِ﴾ أي: جماعة الاشراف ﴿مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ أي: من بعد وفاته ﴿إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ﴾ اختلف في ذلك النبي:

أ. فقيل: اسمه شمعون سمته أمه بذلك، لأن أمه دعت إلى الله أن يرزقها غلاما، فسمع الله دعاءها فيه، وهو شمعون بن صفية، من ولد لاوي بن يعقوب، عن السدي.

ب. وقيل: هو يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب، عن قتادة.

ج. وقيل: هو أشمويل، وهو بالعربية إسماعيل، عن أكثر المفسرين، وهو المروي عن أبي جعفر.

3. ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله﴾ اختلف في سبب سؤالهم ذلك:

أ. فقيل: كان سبب سؤالهم ذلك استذلال الجبابرة لهم، لما ظهروا على بني إسرائيل، وغلبوهم على كثير من ديارهم، وسبوا كثيرا من ذراريهم، بعد أن كانت الخطايا قد كثرت في بني إسرائيل، وعظمت فيهم الأحداث، ونسوا عهد الله تعالى، ولم يكن لهم نبي يدبر أمرهم، فبعث الله إليهم أشمويل نبيا، فقالوا له: إن كنت صادقا، فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله آية من نبوتك، عن الربيع والكلبي.

ب. وقيل: أرادوا قتال العمالقة، فسألوا ملكا يكون أميرا عليهم، تنتظم به كلمتهم، ويجتمع أمرهم، ويستقيم حالهم في جهاد عدوهم، عن السدي.

ج. وقيل: بعث الله أشمويل نبيا، فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال، ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان، فقالوا لأشمويل: ابعث لنا ملكا، عن وهب، وقال أبو عبد الله: كان الملك في ذلك الزمان هو الذي يسير بالجنود، والنبي يقيم له أمره، وينبئه بالخبر من عند ربه، فأجابهم نبيهم، فـ‌ ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ أي: لعلكم إن فرض عليكم المحاربة مع ذلك الملك (أن لا تقاتلوا) أن لا تفوا بما تقولون، وتجبنوا فلا تقاتلوا، وإنما سألهم عن ذلك ليعرف ما عندهم من الحرص على القتال، وهذا كأخذ العهد عليهم.

4. معنى ﴿عَسَيْتُمْ﴾ قاربتم، فإذا قلت: عسيت أن أفعل كذا، فمعناه: قاربت فعله.

5. ﴿قَالُوا﴾ يعني قال الملأ ﴿وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله﴾:

أ. قيل: معناه: وأي شيء لنا في ترك القتال؟

ب. وقيل: معناه ليس لنا ترك القتال.

6. ﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا﴾ لفظه عام ومعناه خاص أي: قد أخرج بعضنا ﴿مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ أوطاننا وأهالينا، بالسبي والقهر على نواحينا.

7. ثم إنهم أجابوا نبيهم بأن قالوا: إنما كنا لا نرغب في القتال إذ كنا أعزاء لا يظهر علينا عدونا، فأما إذا بلغ الأمر هذا المبلغ فلا بد من الجهاد.

8. ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ﴾ فيه حذف تقديره: فسأل النبي الله تعالى أن يبعث لهم ملكا يجاهدون معه أعداءهم، فسمع الله دعوته، وأجاب مسألته، فبعث لهم ملكا، وكتب عليهم القتال أي: فرض.

9. فلما كتب عليهم القتال ﴿تَوَلَّوْا﴾ أي: أعرضوا عن القيام به، وضيعوا أمر الله ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ وهم الذين عبروا النهر على ما نبينه من بعد ﴿وَالله عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ هذا تهديد لمن يتولى عن القتال، لأنهم ظلموا أنفسهم بمعصية الله.

10. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ أي: جعله ملكا، وكان طالوت من ولد بنيامين بن يعقوب، ولم يكن من سبط النبوة، ولا من سبط المملكة، وسمي طالوت لطوله:

أ. ويقال: كان سقاء.

ب. وقيل: كان خرنبدجا.

ج. وقيل: كان دباغا، وكانت النبوة في سبط لاوي بن يعقوب.

11. كانت المملكة:

أ. قيل: في سبط يهوذا بن يعقوب.

ب. وقيل: في سبط يوسف.

12. ﴿ملْكًا﴾ يعني: أميرا على الجيش، عن مجاهد، وقيل: بعثه نبيا بعد أن جعله ملكا ﴿قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾ أي: من أين له الملك؟ وهذا أول اعتراضهم إذ أنكروا ملكه، ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ﴾ أي: أولى ﴿بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾ لأنا من سبط النبوة والمملكة، وأوتينا المال.

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾:

أ. قيل: أي: لم يعط ما يتملك به الناس، وهو المال إذ لا بد للملك من المال يحصل به المماليك.

ب. وقيل: معناه ولم يؤت سعة من المال، فيشرف به، ويجبر نقصا، لو كان فيه، حتى يساوي أهل الأنساب، فأعلمهم الله أنه أعرف بوجوه الحكمة منهم، فإن المقصود في الملك والرئاسة هو العلم والشجاعة، وأخبرهم بذلك عن لسان نبيهم.

14. ﴿قَالَ إِنَّ الله اصْطَفَاهُ﴾ أي: اختاره ﴿عَلَيْكُمْ﴾ عن ابن عباس ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً﴾ أي: فضيلة وسعة ﴿فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ وكان أعلم بني إسرائيل في وقته، وأجملهم وأتمهم وأعظمهم جسما وأقواهم شجاعة، وقيل: كان إذا قام الرجل، فبسط يده رافعا لها نال رأسه، قال وهب: كان ذلك فيه قبل الملك، وزاده ذلك بعد الملك .

15. ﴿وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ أي: لا تنكروا ملكه، وإن لم يكن من أهل بيت الملك، فإن الله سبحانه مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء.

16. في قوله تعالى: ﴿وَالله وَاسِعٌ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: إنه واسع الفضل، فحذف كما يقال: فلان كبير أي: كبير القدر.

ب. الثاني: إن الواسع بمعنى الموسع أي: يوسع على من يشاء من نعمه، كما جاء أليم بمعنى مؤلم، وسميع بمعنى مسمع.

ج. الثالث: إن معناه ذو سعة نحو عيشة راضية أي: ذات رضا، ورجل تأمر أي: ذو تمر، ولابن أي: ذو لبن.

17. ﴿عَلِيمٌ﴾ أي: عليم بمن ينبغي أن يؤتيه الفضل والمملكة، إما للاستصلاح، وإما للامتحان.

في هذه الآية دلالة على أن الملك قد يضاف إليه سبحانه، وذلك بأن ينصب الملك للتدبير، ويعطيه آلات الملك، ويأمر الخلق بالانقياد له، فعند ذلك يجوز:

أ. أن يقال: بعثه الله سبحانه ملكا، وإن لم يكن في البعثة كالأنبياء.

ب. ويقال في ملكه أيضا: إنه من جهة الله سبحانه، لأن تصرفه صادر عن إذنه.

18. فيها دلالة أيضا على أن الملك ليس بواجب أن يكون وراثة، وإنما يكون بحسب ما يعلمه الله من المصلحة.

19. وفيها دلالة على أن من شرط الإمام أن يكون أعلم من رعيته، وأكمل وأفضل في خصال الفضل والشجاعة، لأن الله علل تقديم طالوت عليهم، بكونه أعلم وأقوى، فلولا أن ذلك شرط لم يكن له معنى.

20. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾ أي: علامة تمليك الله إياه، وحجة صحة ملكه ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ وفي هذا دليل على أنهم قالوا لرسولهم: إن كان ملكه بأمر من الله ومن عنده، فأتنا بعلامة تدل على ذلك، فأجابهم بهذا، واختلفوا:

أ. روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبي جعفر: إن التابوت كان الذي أنزله الله على أم موسى، فوضعت فيه ابنها، وألقته في البحر، وكان في بني إسرائيل معظما، يتبركون به، فلما حضر موسى الوفاة، وضع فيه الألواح، ودرعه، وما كان عنده من آثار النبوة، وأودعه عند وصيه يوشع بن نون، فلم يزل التابوت بينهم، وبنو إسرائيل في عز وشرف ما دام فيهم، حتى استخفوا به، وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلما عملوا المعاصي، واستخفوا به، رفعه الله عنهم، فلما سألوا نبيهم أن يبعث إليهم ملكا، بعث الله لهم طالوت، ورد عليهم التابوت.

ب. وقيل: كان في أيدي أعداء بني إسرائيل من العمالقة، غلبوهم عليه لما مرج أمر بني إسرائيل، وحدث فيهم الأحداث، ثم انتزعه الله من أيديهم، ورده على بني إسرائيل، تحمله الملائكة عن ابن العباس ووهب، وروي ذلك عن أبي عبد الله) عليه السلام)

ج. وقيل: كان التابوت الذي أنزله الله على آدم فيه صور الأنبياء، فتوارثه أولاد آدم، وكان في بني إسرائيل يستفتحون به على عدوهم.

د. وقال قتادة: وكان في برية التيه، خلفه هناك يوشع بن نون، فحملته الملائكة إلى بني إسرائيل.

هـ. وقيل: كان قدر التابوت ثلاثة أذرع في ذراعين، عليه صفائح الذهب، وكان من شمشار، وكانوا يقدمونه في الحروب، ويجعلونه أمام جندهم، فإذا سمع من جوفه أنين زف التابوت أي: سار، وكان الناس يسيرون خلفه، فإذا سكن الأنين وقف فوقف الناس بوقوفه.

21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾:

أ. قيل: في التابوت نفسه.

ب. وقيل: فيما في التابوت.

22. اختلف في السكينة:

أ. فقيل: إن السكينة التي كانت فيه، ريح هفافة من الجنة، لها وجه كوجه الانسان، عن علي عليه السلام.

ب. وقيل: كان له جناحان، ورأس كرأس الهرة من الزبرجد والزمرد، عن مجاهد، وروي ذلك في أخبارنا.

ج. وقيل: كان فيه آية يسكنون إليها، عن عطا.

د. وقيل: روح من الله يكلمهم بالبيان عند وقوع الاختلاف، عن وهب.

23. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾:

أ. قيل: إنها عصا موسى، ورضاض الألواح، عن ابن عباس وقتادة والسدي، وهو المروي عن أبي جعفر الصادق.

ب. وقيل: هي التوراة، وشئ من ثياب موسى، عن الحسن.

ج. وقيل: كان فيه أيضا لوحان من التوراة وقفيز من المن الذي كان ينزل عليهم، ونعلا موسى، وعمامة هارون وعصاه.

24. هذه أقوال أهل التفسير في السكينة والبقية، والظاهر أن السكينة أمنة وطمأنينة جعلها الله فيه ليسكن إليه بنو إسرائيل، والبقية جائز أن يكون بقية من العلم، أو شيء من علامات الأنبياء، وجائز أن يتضمنها جميعا على ما قاله الزجاج.

25. ﴿آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ [البقرة: 248] قيل: أراد بآل موسى وآل هارون: موسى وهارون، على نبينا وعليهما السلام، يعني مما ترك موسى وهارون، تقول العرب: آل فلان، يريدون نفسه، أنشد أبو عبيدة:

çفلا تبك ميتا بعد ميت، أحبه... علي، وعباس، وآل أبي بكرé

يريد أبا بكر نفسه، وقال جميل:

çبثينة من آل النساء، وإنما... يكن لأدنى، لا وصال لغائبé

أي: من النساء.

26. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾:

أ. قيل: حملته الملائكة بين السماء والأرض حتى رآه بنو إسرائيل عيانا، عن ابن عباس والحسن.

ب. وقيل: لما غلب الأعداء على التابوت، أدخلوه بيت الأصنام، فأصبحت أصنامهم منكبة، فأخرجوه ووضعوه ناحية من المدينة، فأخذهم وجع في أعناقهم، وكل موضع وضعوه فيه ظهر فيه بلاء وموت ووباء، فأشير عليهم بأن يخرجوا التابوت، فأجمع رأيهم على أن يأتوا به، ويحملوه على عجلة، ويشدوها على ثورين، ففعلوا ذلك، وأرسلوا الثورين، فجاءت الملائكة وساقوا الثورين إلى بني إسرائيل، فعلى هذا يكون معنى ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ تسوقه كما تقول: حملت متاعي إلى مكة، ومعناه: كنت سببا لحمله إلى مكة.

27. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ﴾ أي: في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله سبحانه ملك طالوت عليكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ مصدقين، ولا يجوز أن يكون على تثبيت الإيمان لهم، لأنهم كفروا حين ردوا على نبيهم، وقيل: إن كنتم مؤمنين كما تزعمون.

28. قراءات وحجج:

أ. قرأ نافع وحده ﴿عَسَيْتُمْ﴾ بكسر السين، والباقون بفتحها.

ب. المشهور في (عسيت) فتح السين، ووجه قراءة نافع أنهم قالوا: هو عس بذلك، وما عساه، واعس به، حكاه ابن الأعرابي، وهذا يقوي قراءة نافع، لأن عس مثل حر وشج، وقد جاء فعل وفعل، مثل نقم ونقم، وورت بك زنادي، ووريت، فكذلك عست وعسيت، فإن أسند الفعل إلى ظاهر، فقياس عسيتم أن تقول عسي زيد مثل رضي، فإن قاله فهو قياس قوله، وإن لم يقله فسائغ له أن يأخذ باللغتين معا، ويستعمل إحداهما في موضع، والأخرى في موضع آخر، كما فعل ذلك غيره.

29. مسائل نحوية:

أ. ﴿مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: الجار والمجرور في محل النصب على الحال، والعامل فيه ﴿تَرَ﴾، وذو الحال ﴿الْمَلَأُ﴾

ب. ﴿مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾: في موضح الحال أيضا، وهو حال بعد حال، أو حال من الضمير في الجار والمجرور قبله.

ج. ﴿نُقَاتِلْ﴾ جزم على الجواب للمسألة التي هي على لفظ الأمر أي: إن تبعث لنا ملكا نقاتل، ولو كان بالياء لجاز الرفع على أن يكون صفة للملك، قال الزجاج: والرفع في ﴿نُقَاتِلْ﴾ بعيد يجوز على معنى: فإنا نقاتل في سبيل الله، وكثير من النحويين لا يجيز الرفع فيه.

د. ﴿أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾: في موضع نصب، لأنه خبر ﴿عَسَى﴾

هـ. ﴿وما لنا أن لا نقاتل﴾: قال أبو الحسن الأخفش فيه وفي قوله ما لكم أن لا تأكلوا إن: (أن) زائدة، كأنه قال ما لنا لا نقاتل، وما لكم لا تأكلون، كقوله ﴿مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ﴾، و﴿مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا﴾، وقع الفعل المنفي موقع الحال، كما وقع الموجب موقعه في قولك: مالك تفعل، وقد يقال أيضا في نحو ذلك إن المعنى وما لنا في أن لا نقاتل، وما لكم في أن لا تأكلوا، فكأنه حمل الآية على وجهين، قال أبو علي: والقول الثاني أوضح، ويكون أن مع حرف في موضع نصب الحال، كقوله تعالى: ﴿فما لهم من التذكرة معرضين﴾، ونحو ذلك، ثم حذف الجار، وسد أن وصلتها ذلك المسد، والحال في الأصل هو الجالب للحرف المقدر، إلا أنه ترك إظهاره لدلالة المنصوب عنه عليه، ومثله في وقوع الظرف موقع الحال قول أبي ذؤيب:

çيعثرن في حد الظباة، كأنما... كسيت برود بني يزيد الأذرعé

وهذا كما يقال: خرجت في الثياب أي: خرجت لابسا، ووجه ثالث ذكره المبرد وهو: أن يكون ما جحدوا، وتقديره: وما لنا نترك القتال، وعلى الوجهين الأولين يكون ﴿مَا﴾ استفهاما.

و. ﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا﴾: جملة في موضع الحال، وتقديره وما لنا ألا نقاتل مخرجين من ديارنا، وذو الحال الضمير في ﴿أَلَّا نُقَاتِلَ﴾

ز. ﴿قَلِيلًا﴾: منصوب على الاستثناء من الموجب.

ح. (طالوت، وجالوت، وداوود): لا تنصرف لأنها أسماء أعجمية، وفيها سببان: التعريف والعجمة، فأما جاموس فلو سميت رجلا به، لانصرف وإن كان أعجميا، لأنه قد تمكن في العربية، لأنك تدخل عليه الألف واللام، فتقول: الجاموس.

ط. ﴿مُلْكًا﴾: نصب على الحال، العامل فيه ﴿بَعَثَ﴾، وذو الحال ﴿طَالُوتُ﴾ و﴿أَنَّى﴾: في موضع نصب، لأنه خبر ﴿يَكُونُ﴾، و﴿الْمُلْكُ﴾: اسمه، وله في موضع الحال، وذو الحال ﴿الْمُلْكُ﴾ تقديره: وأنى يكون له الملك يستقر له علينا، ويجوز أن يكون كان هنا تامة، فيتعلق اللام بكون و﴿أَنَّى﴾: في موضع نصب على الحال من يكون.

ي. ﴿عَلَيْنَا﴾: يتعلق بالملك، ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ﴾ [البقرة: 247] في محل النصب على الحال أيضا تقديره: أنى يكون له أن يملك علينا، ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ﴾ منه بالملك.

ك. ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً﴾ في محل الحال أيضا، عطف على (نحن أحق) والعامل فيه ﴿الْمُلْكُ﴾، وذو الحال الضمير في أن يملك وتقديره أن يملك علينا غير مؤتى سعة مالية.

ل. موضع ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ﴾: رفع، المعنى إن آية ملكه إتيان التابوت إياكم فيه سكينة من ربكم: مبتدأ وخبر في موضع النصب على الحال من ﴿التَّابُوتِ﴾

م. ﴿مِمَّا تَرَكَ﴾: الجار والمجرور في موضع الصفة لبقية.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/609.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في نبيّهم ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه شمويل، قاله ابن عباس، ووهب .

ب. الثاني: أنه يوشع بن نون، قاله قتادة.

ج. الثالث: أنه نبيّ، يقال له: سمعون بالسين المهملة، سمّته أمّه بذلك، لأنها دعت الله أن يرزقها غلاما، فسمع دعاؤها فيه، هذا قول السّدّيّ، وسبب سؤالهم ملكا أن عدوّهم غلب عليهم.

2. ﴿نُقَاتِلْ﴾ [البقرة: 246] قراءة الجمهور بالنون والجزم، وقرأ ابن أبي عبلة بالياء والرفع، كناية عن الملك، وقوله تعالى: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ﴾ [البقرة: 246]، قراءة الجمهور بفتح السين، وقرأ نافع بكسرها هاهنا، وفي سورة (محمّد) وهي لغتان.

3. ﴿إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ [البقرة: 246]، أي فرض ﴿أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ [البقرة: 246] أي: لعلّكم تجبنون، ﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا﴾ [البقرة: 246]، يعنون: أخرج بعضنا، وهم الذين سبوا منهم وقهروا، فظاهره العموم، ومعناه الخصوص،﴿تَوَلَّوْا﴾ [المجادلة: 14]، أي: أعرضوا عن الجهاد، ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 2] وهم الذين عبروا النّهر، وسيأتي ذكرهم.

4. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾، ذكر أهل التفسير أن نبيّ بني إسرائيل سأل الله أن يبعث لهم ملكا، فأتي بعصا وقرن فيه دهن، وقيل له: إن صاحبكم الذي يكون ملكا يكون طوله طول هذه العصا، ومتى دخل عليك رجل فنشق الدّهن، فهو الملك، فادهن به رأسه، وملكه على بني إسرائيل؛ فقاس القوم أنفسهم بالعصا، فلم يكونوا على مقدارها، قال عكرمة، والسّديّ: كان طالوت سقّاء يسقي على حمار له، فضلّ حماره، فخرج يطلبه، وقال وهب: بل كان دبّاغا يعمل الأدم، فضلّت حمر لأبيه فأرسله مع غلام له في طلبها، فمرّا ببيت شمويل النبيّ فدخلا ليسألاه عن ضالّتهما، فنشق الدّهن، فقام شمويل، فقاس طالوت بالعصا، وكان على مقدارها، فدهنه، ثم قال له: أنت ملك بني إسرائيل، فقال طالوت: أما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل، وبيتي أدنى بيوتهم؟ قال بلى، قال فبأيّة آية؟ قال بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره، فكان كما قال قال الزجّاج: طالوت، وجالوت، وداوود تنصرف، لأنها أسماء أعجمية، وهي معارف، فاجتمع فيها التعريف والعجمة.

5. ﴿أَنَّى يَكُونُ﴾ من أي جهة يكون له الملك علينا، قال ابن عباس: إنما قالوا ذلك؛ لأنه كان في بني إسرائيل سبطان، في أحدهما النبوّة، وفي الآخر الملك، فلم يكن هو من أحد السّبطين، قال قتادة: كانت النبوّة في سبط لاوي، والملك في سبط يهوذا.

6. ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾، أي: لم يؤت ما يتملّك به الملوك، ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾، أي: اختاره، وهو (افتعل) من الصّفوة، والبسطة: السّعة، قال ابن قتيبة: هو من قولك: بسطت الشيء: إذا كان مجموعا، ففتحته، ووسّعته، قال ابن عباس: كان طالوت أعلم بني إسرائيل بالحرب، وكان يفوق الناس بمنكبيه وعنقه ورأسه، وهل كانت هذه الزيادة قبل الملك، أم أحدثت له بعد؟ فيه قولان:

أ. أحدهما: قبل الملك، قاله وهب، والسّدّيّ .

ب. الثاني: بعد الملك، قاله ابن زيد.

7. المراد بتعظيم الجسم، فضل القوة، إذ العادة أن من كان أعظم جسما، كان أكثر قوة.

8. الواسع: الغنيّ.

9. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾، الآية: العلامة، فمعناه: علامة تمليك الله إياه‏ ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ وهذا من مجاز الكلام، لأن التّابوت يؤتى به، ولا يأتي، ومثله ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ﴾، وإنما جاز مثل هذا، لزوال اللّبس فيه، كما بيّنا في قوله تعالى ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾، وروي عن ابن مسعود، وابن عباس: أنهم قالوا لنبيّهم: إن كنت صادقا؛ فأتنا بآية تدل على أنه ملك، فقال لهم ذلك، وقال وهب: خيّرهم، أيّ آية يريدون؟ فقالوا: أن يردّ علينا التابوت، قال ابن عباس: كان التّابوت من عود الشّمشار عليه صفائح الذهب، وكان يكون مع الأنبياء إذا حضروا قتالا، قدّموه بين أيديهم يستنصرون به، وفيه السّكينة، وقال وهب بن منبه: كان نحوا من ثلاث أذرع في ذراعين، قال مقاتل: فلما تفرّقت بنو إسرائيل، وعصوا الأنبياء، سلّط الله عليهم عدوّهم، فغلبوهم عليه.

10. في السّكينة سبعة أقوال‏:

أ. أحدها: أنها ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان، رواه أبو الأحوص عن عليّ .

ب. الثاني: أنها دابة بمقدار الهرّ، لها عينان لهما شعاع، وكانوا إذا التقى الجمعان، أخرجت يدها، ونظرت إليهم، فيهزم الجيش من الرعب، رواه الضحّاك عن ابن عباس، وقال مجاهد: السّكينة لها رأس كرأس الهرّة وذنب كذنب الهرّة، وجناحان.

ج. الثالث: أنها طست من ذهب تغسل فيه قلوب الأنبياء، رواه أبو مالك عن ابن عباس.

د. الرابع: أنها روح من الله تعالى تتكلّم، كانوا إذا اختلفوا في شيء، كلّمهم وأخبرهم ببيان ما يريدون، رواه عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه، و .

هـ. الخامس: أن السّكينة ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها، رواه ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح، وذهب إلى نحوه الزجّاج، فقال: السّكينة: من السّكون، فمعناه: فيه ما تسكنون إليه إذا أتاكم.

و. السادس: أن السّكينة معناها هاهنا: الوقار، رواه معمر عن قتادة، .

ز. السابع: أن السّكينة: الرّحمة، قاله الرّبيع بن أنس.

11. في البقيّة تسعة أقوال:

أ. أحدها: أنها رضاض‏ الألواح التي تكسّرت حين ألقاها موسى وعصاه، قاله ابن عباس، وقتادة، والسّدّيّ .

ب. الثاني: أنها رضاض الألواح، قاله عكرمة، ولم يذكر العصا، وقيل: إنما اتّخذ موسى التابوت ليجمع رضاض الألواح فيه.

ج. الثالث: أنها عصا موسى، والسّكينة، قاله وهب.

د. الرابع: عصا موسى، وعصا هارون، وثيابهما، ولوحان من التوراة، والمنّ، قاله أبو صالح.

هـ. الخامس: أن البقيّة، العلم والتوراة، قاله مجاهد، وعطاء بن رباح، و .

و. السادس: أنها رضاض الألواح، وقفيز من منّ في طست من ذهب، وعصا موسى وعمامته، قاله مقاتل، .

ز. السابع: أنها قفيز من منّ ورضاض الألواح، حكاه سفيان الثّوريّ عن بعض العلماء، .

ح. الثامن: أنها عصا موسى والنّعلان، ذكره الثّوريّ أيضا عن بعض أهل العلم، .

ط. التاسع: أن المراد بالبقيّة: الجهاد في سبيل الله، وبذلك أمروا، قاله الضحّاك.

12. المراد بآل موسى وآل هارون: موسى وهارون، وأنشد أبو عبيدة:

çولا تبك ميتا بعد ميت أحبّة...عليّ وعبّاس وآل أبي بكرé

يريد: أبا بكر نفسه.

13. ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ قرأ الجمهور (تحمله) بالتاء، وقرأ الحسن ومجاهد والأعمش بالياء، وفي المكان الذي حملته منه الملائكة إليهم قولان:

أ. أحدهما: أنه كان مرفوعا مع الملائكة بين السماء والأرض، منذ خرج عن بني إسرائيل، قاله الحسن.

ب. الثاني: أنه كان في الأرض.

14. في أيّ مكان كان؟ فيه قولان:

أ. أحدهما: أنه كان في أيدي العمالقة قد دفنوه، قال ابن عباس: أخذ التّابوت قوم جالوت، فذفنوه في متبرّز لهم، فأخذهم الباسور فهلكوا، ثم أخذه أهل مدينة أخرى، فأخذهم بلاء، فهلكوا، ثم أخذه غيرهم كذلك، حتى هلكت خمس مدائن، فأخرجوه على بقرتين، ووجّهوهما إلى بني إسرائيل، فساقتهما الملائكة .

ب. الثاني: أنه كان في برّية التّيه، خلّفه فيها يوشع، ولم يعلموا بمكانه حتى جاءت به الملائكة، قاله قتادة.

15. في كيفية مجيء الملائكة به قولان:

أ. أحدهما: أنها جاءت به بأنفسها، قال وهب: قالوا لنبيّهم: اجعل لنا وقتا يأتينا فيه، فقال: الصّبح، فلم يناموا ليلتهم، ووافت به الملائكة مع الفجر، فسمعوا حفيف الملائكة تحمله بين السماء والأرض .

ب. الثاني: أن الملائكة جاءت به على عجلة وثورين، ذكر عن وهب أيضا.

16. على القول الأول: يكون معنى تحمله: تقلّه، وعلى الثاني: يكون معنى حملها إياه: تسبّبها في حمله.

17. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ﴾، أي: علامة تدل على تمليك طالوت، قال المفسّرون: فلما جاءهم التابوت وأقرّوا له بالملك، تأهّب للخروج، فأسرعوا في طاعته، وخرجوا معه، فذلك قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ [البقرة: 249]

__________

(1) زاد المسير: 1/223.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الملأ الأشراف من الناس، وهو اسم الجماعة، كالقوم والرهط والجيش، وجمعه أملاء، قال الشاعر:

çوقال لها الأملاء من كل معشر...وخير أقاويل الرجال سديدهاé

وأصلها من المل‏ء، وهم الذين يملؤون العيون هيبة ورواء، وقيل: هم الذين يملؤون المكان إذا حضروا، وقال الزجاج: الملأ الرؤساء، سموا بذلك لأنهم يملؤون القلوب بما يحتاج إليه، من قولهم: ملأ الرجل يملأ ملأة فهو ملئ.

2. تعلق هذه الآية بما قبلها من حيث إنه تعالى لما فرض القتال بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 244] ثم أمرنا بالإنفاق فيه لما له من التأثير في كمال المراد بالقتال ذكر قصة بني إسرائيل، وهي أنهم لما أمروا بالقتال نكثوا وخالفوا فذمهم الله تعالى عليه، ونسبهم إلى الظلم والمقصود منه أن لا يقدم المأمورون بالقتال من هذه الأمة على المخالفة، وأن يكونوا مستمرين في القتال مع أعداء الله تعالى.

3. لا شك أن المقصود الذي ذكرناه حاصل، سواء علمنا أن النبي من كان من أولئك، وأن أولئك الملأ من كانوا أو لم نعلم شيئا من ذلك، لأن المقصود هو الترغيب في باب الجهاد وذلك لا يختلف، وإنما يعلم من ذلك النبي ومن ذلك الملأ بالخبر المتواتر وهو مفقود، وأما خبر الواحد فإنه لا يفيد إلا الظن:

أ. ومنهم من قال إنه يوشع بن نون بن افرايم بن يوسف، والدليل عليه قوله تعالى ﴿مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ وهذا ضعيف لأن قوله تعالى ﴿مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ كما يحتمل الاتصال يحتمل الحصول من بعد زمان.

ب. ومنهم من قال كان اسم ذلك النبي أشمويل من بني هارون واسمه بالعربية: إسماعيل، وهو قول الأكثرين.

ج. وقال السدي: هو شمعون، سمته أمه بذلك، لأنها دعت الله تعالى أن يرزقها ولدا فاستجاب الله تعالى دعاءها، فسمته شمعون، يعني سمع دعاءها فيه، والسين تصير شينا بالعبرانية، وهو من ولد لاوي بن يعقوب عليه السلام.

4. قال وهب والكلبي: إن المعاصي كثرت في بني إسرائيل، والخطايا عظمت فيهم، ثم غلب عليهم عدو لهم فسبى كثيرا من ذراريهم، فسألوا نبيهم ملكا تنتظم به كلمتهم ويجتمع به أمرهم، ويستقيم حالهم في جهاد عدوهم، وقيل تغلب جالوت على بني إسرائيل، وكان قوام بني إسرائيل بملك يجتمعون عليه يجاهد الأعداء، ويجري الأحكام، ونبي يطيعه الملك، ويقيم أمر دينهم، ويأتيهم بالخبر من عند ربهم.

5. ﴿نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قرئ‏ ﴿نُقَاتِلْ﴾ بالنون والجزم على الجواب، وبالنون والرفع على أنه حال، أي ابعثه لنا مقدرين القتال، أو استئناف كأنه قيل: ما تصنعون بالملك، قالوا نقاتل، وقرئ بالياء والجزم على الجواب، وبالرفع على أنه صفة لقوله تعالى ﴿مُلْكًا﴾

6. قرأ نافع وحده‏ ﴿عَسَيْتُمْ﴾ بكسر السين هاهنا، وفي سورة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، واللغة المشهورة فتحها ووجه قراءة نافع ما حكاه ابن الأعرابي أنهم يقولون: هو عسى بكذا وهذا يقوي‏ ﴿عَسَيْتُمْ﴾ بكسر السين، ألا ترى أن عسى بكذا، مثل حري وشحيح وطعن أبو عبيدة في هذه القراءة فقال لو جاز ذلك لجاز ﴿عَسَى رَبُّكُمْ﴾ أجاب أصحاب نافع عنه من وجهين:

أ. الأول: أن الياء إذا سكنت وانفتح ما قبلها حصل في التلفظ بها نوع كلفة ومشقة، وليست الياء من (عسى) كذلك، لأنها وإن كانت في الكتابة ياء إلا أنها في اللفظ مدة، وهي خفيفة فلا تحتاج إلى خفة أخرى.

ب. الثاني: هب أن القياس يقتضي جواز ﴿عَسَى رَبُّكُمْ﴾ إلا أنا ذكرنا أنهما لغتان، فله أن يأخذ باللغتين فيستعمل إحداهما في موضع والأخرى في موضع آخر.

7. خبر ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ﴾ وهو قوله تعالى ﴿أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ والشرط فاصل بينهما، والمعنى هل قاربتم أن تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال فأدخل (هل) مستفهما عما هو متوقع عنده ومظنون، وأراد بالاستفهام التقرير، وثبت أن المتوقع كائن له، وأنه صائب في توقعه كقوله تعالى ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾ معناه التقرير.

8. ثم إنه تعالى ذكر أنه القوم قالوا: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وهذا يدل على‏ ضمان قوي خصوصا واتبعوا ذلك بعلة قوية توجب التشدد في ذلك، وهو قولهم ﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ لأن من بلغ منه العدو هذا المبلغ فالظاهر من أمره الاجتهاد في قمع عدوه ومقاتلته.

9. سؤال وإشكال: المشهور أنه يقال: مالك تفعل كذا؟ ولا يقال: مالك أن تفعل كذا؟ قال تعالى ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا﴾ [نوح: 13]، وقال ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [الحديد: 8] والجواب: من وجهين:

أ. الأول: وهو قول المبرد: أن (ما) في هذه الآية جحد لا استفهام كأنه قال ما لنا نترك القتال، وعلى هذا الطريق يزول السؤال.

ب. الثاني: أن نسلم أن (ما) هاهنا بمعنى الاستفهام، ثم على هذا القول وجوه:

الأول: قال الأخفش: أن هاهنا زائدة، والمعنى: ما لنا لا نقاتل وهذا ضعيف، لأن القول بثبوت الزيادة في كلام الله خلاف الأصل .

الثاني: قال الفراء: الكلام هاهنا محمول على المعنى، لأن قولك: ما لك لا تقاتل معناه ما يمنعك أن تقاتل؟ فلما ذهب إلى معنى المنع حسن إدخال أن فيه قال تعالى ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ﴾ [ص: 75] وقال ﴿مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾ [الحجر: 32] .

الثالث: قال الكسائي: معنى‏ ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ﴾ أي شيء لنا في ترك القتال؟ ثم سقطت كلمة في ورجح أبو علي الفارسي، قول الكسائي على قول الفراء، قال وذلك لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر، والتقدير: ما يمنعنا من أن نقاتل، إذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين، ثم على قول الكسائي يبقى اللفظ مع هذا الإضمار على ظاهره، وعلى قول الفراء لا يبقى، فكان قول الكسائي لا محالة أولى وأقوى.

10. ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا﴾ في الكلام محذوف تقديره: فسأل الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكا وكتب عليهم القتال فتولوا.

11. ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ فهم الذين عبروا منهم النهر وسيأتي ذكرهم، وقيل: كان عدد هذا القليل ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ أي هو عالم بمن ظلم نفسه حين خالف ربه ولم يف بما قيل من ربه، وهذا هو الذي يدل على تعلق هذه الآية بقوله قبل ذلك ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فكأنه تعالى أكد وجوب ذلك بأن ذكر قصة بني إسرائيل في الجهاد وعقب ذلك بأن من تقدم على مثله فهو ظالم والله أعلم بما يستحقه الظالم وهذا بين في كونه زجرا عن مثل ذلك في المستقبل وفي كونه بعثا على الجهاد، وأن يستمر كل مسلم على القيام بذلك.

12. ثم إنه لما بين في الآية الأولى أنه أجابهم إلى ما سألوا، ثم إنهم تولوا فبين أن أول ما تولوا إنكارهم إمرة طالوت، وذلك لأنهم طلبوا من نبيهم أن يطلب من الله أن يعين لهم ملكا فأجابهم بأن الله قد بعث لهم طالوت ملكا.

13. قال الزمخشري: طالوت اسم أعجمي، كجالوت، وداوود وإنما امتنع من الصرف لتعريفه وعجمته، وزعموا أنه من الطول لما وصف به من البسطة في الجسم، ووزنه إن كان من الطول فعلوت، وأصله‏ طولوت، إلا أن امتناع صرفه يدفع أن يكون منه، إلا أن يقال: هو اسم عبراني وافق عربيا كما وافق حطة حنطة، وعلى هذا التقدير يكون أحد سببه العجمة لكونه عبرانيا.

14. ثم إن الله تعالى لما عينه لأن يكون ملكا لهم أظهروا التولي عن طاعته، والإعراض عن حكمه، وقالوا ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾ واستبعدوا جدا أن يكون هو ملكا عليهم، قال المفسرون: وسبب هذا الاستبعاد أن النبوة كانت مخصوصة بسبط معين من أسباط بني إسرائيل، وهو سبط لاوي بن يعقوب، ومنه موسى وهارون، وسبط المملكة، سبط يهوذا، ومنه داوود وسليمان، وأن طالوت ما كان من أحد هذين السبطين، بل كان من ولد بنيامين فلهذا السبب أنكروا كونه ملكا لهم، وزعموا أنهم أحق بالملك منه، ثم إنهم أكدوا هذه الشبهة بشبهة أخرى، وهي قولهم: ولم يؤت سعة من المال، وذلك إشارة إلى أنه فقير، واختلفوا، فقال وهب، كان دباغا، وقال السدي: كان مكاريا، وقال آخرون، كان سقاء.

15. سؤال وإشكال: ما الفرق بين الواوين في قوله تعالى ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ﴾ وفي قوله تعالى ﴿وَلَمْ يُؤْتَ﴾؟ والجواب: الأولى للحال، و الثانية لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالا، والمعنى: كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك، وأنه فقير ولا بد للملك من مال يعتضد به؟

16. ثم إنه تعالى أجاب عن شبههم المتعلقة بأنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك، وأن طالوت فقير ولا بد للملك من مال يعتضد به بوجوه:

أ. الأول: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾، أي أنه تعالى خصه بالملك والإمرة، وذلك أن القوم لما كانوا مقرين بنبوة ذلك النبي، كان إخباره عن الله تعالى أنه جعل طالوت ملكا عليهم حجة قاطعة في ثبوت الملك له لأن تجويز الكذب على الأنبياء عليهم السلام يقتضي رفع الوثوق بقولهم وذلك يقدح في ثبوت نبوتهم ورسالتهم، وإذا ثبت صدق المخبر ثبت أن الله تعالى خصه بالملك، وإذا ثبت ذلك كان ملكا واجب الطاعة وكانت الاعتراضات ساقطة.

ب. الثاني: في الجواب عن هذه الشبهة قوله تعالى ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ وتقرير هذا الجواب أنهم طعنوا في استحقاقه للملك بأمرين: أحدهما: أنه ليس من أهل بيت الملك، الثاني: أنه فقير، والله تعالى بين أنه أهل للملك وقرر ذلك بأنه حصل له وصفان: أحدهما: العلم، الثاني: القدرة، وهذان الوصفان أشد مناسبة لاستحقاقه الملك من الوصفين الأولين وبيانه من وجوه:

أحدها: أن العلم والقدرة من باب الكمالات‏ الحقيقة، والمال والجاه ليسا كذلك .

الثاني: أن العلم والقدرة من الكمالات الحاصلة لجوهر نفس الإنسان والمال والجاه أمران منفصلان عن ذات الإنسان .

الثالث: أن العلم والقدرة لا يمكن سلبهما عن الإنسان، والمال والجاه يمكن سلبهما عن الإنسان.

الرابع: أن العلم بأمر الحروب، والقوي الشديد على المحاربة يكون الانتفاع به في حفظ مصلحة البلد، وفي دفع شر الأعداء أتم من الانتفاع بالرجل النسيب الغني إذا لم يكن له علم بضبط المصالح، وقدرة على دفع الأعداء، فثبت بما ذكرنا أن إسناد الملك إلى العالم القادر، أولى من إسناده إلى النسيب الغني.

ج. الثالث: قوله تعالى ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ وتقريره أن الملك لله والعبيد لله فهو سبحانه يؤتي ملكه من يشاء ولا اعتراض لأحد عليه في فعله، لأن المالك إذا تصرف في ملكه فلا اعتراض لأحد عليه في فعله.

د. الرابع: في الجواب قوله تعالى ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه تعالى واسع الفضل والرزق والرحمة، وسعت رحمته كل شيء، والتقدير: أنتم طعنتم في طالوت بكونه فقيرا، والله تعالى واسع الفضل والرحمة، فإذا فوض الملك إليه، فإن علم أن الملك لا يتمشى إلا بالمال، فالله تعالى يفتح عليه باب الرزق والسعة في المال.

الثاني: أنه واسع، بمعنى موسع، أي يوسع على من يشاء من نعمه، وتعلقه بما قبله على ما ذكرناه.

الثالث: أنه واسع بمعنى ذو سعة، ويجيء فاعل ومعناه ذو كذا، كقوله تعالى ﴿عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ [الحاقة: 21] أي ذات رضا، وهم ناصب ذو نصب، ثم بين بقوله تعالى ﴿عَلِيمٌ﴾ أنه تعالى مع قدرته على إغناء الفقير عالم بمقادير ما يحتاج إليه في تدبير الملك، وعالم بحال ذلك الملك في الحاضر والمستقبل، فيختار لعلمه بجميع العواقب ما هو مصلحته في قيامه بأمر الملك.

17. ﴿اصْطَفَاهُ﴾ أي أخذ الملك من غيره صافيا له، واصطفاه، واستصفاه بمعنى الاستخلاص، وهو أن يأخذ الشيء خالصا لنفسه، وقال الزجاج: إنه مأخوذ من الصفوة، والأصل فيه اصتفى بالتاء فأبدلت التاء طاء ليسهل النطق بها بعد الصاد، وكيفما كان الاشتقاق فالمراد ما ذكرناه أنه تعالى خصه بالملك والإمرة، وعلى هذا الوجه وصف تعالى نفسه بأنه اصطفى الرسل ووصفهم بأنهم: المصطفون الأخيار ووصف الرسول بأنه المصطفى.

18. هذه الآية تدل على بطلان قول من يقول: إن الإمامة موروثة، وذلك لأن بني إسرائيل أنكروا أن يكون ملكهم من لا يكون من بيت المملكة، فأعلمهم الله تعالى أن هذا ساقط، والمستحق لذلك من خصه الله تعالى بذلك، وهو نظير قوله تعالى ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ [آل عمران: 26]

19. احتج أصحابنا(2) في مسألة خلق الأعمال بقوله تعالى ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ وهذا يدل على أن العلوم الحاصلة للخلق، إنما حصلت بتخليق الله تعالى وإيجاده، وقالت المعتزلة، ومن وافقهم: هذه الإضافة إنما كانت لأنه تعالى هو الذي يعطي العقل ونصب الدلائل، وأجاب الأصحاب بأن الأصل في الإضافة المباشرة دون التسبب.

20. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْجِسْمِ﴾ [البقرة: 247]

أ. قال بعضهم: المراد بالبسطة في الجسم طول القامة، وكان يفوق الناس برأسه ومنكبه، وإنما سمي طالوت لطوله.

ب. وقيل المراد من البسطة في الجسم الجمال، وكان أجمل بني إسرائيل.

ج. وقيل: المراد القوة، وهذا القول عندي أصح لأن المنتفع به في دفع الأعداء هو القوة والشدة، لا الطول والجمال.

21. قدم الله تعالى البسطة في العلم، على البسطة في الجسم، وهذا منه تعالى تنبيه على أن الفضائل النفسانية أعلى وأشرف وأكمل من الفضائل الجسمانية.

22. ظاهر الآية المتقدمة يدل على أن أولئك الأقوام كانوا مقرين بنبوة النبي الذي كان فيهم لأن قوله تعالى حكاية عنهم:‏ ﴿إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا﴾ كالظاهر في أنهم كانوا معترفين بنبوة ذلك النبي، ومقرين بأنه مبعوث من عند الله تعالى، ثم إن ذلك النبي لما قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ كان هذا دليلا قاطعا في كون طالوت ملكا، ثم إنه تعالى لكمال رحمته بالخلق، ضم إلى ذلك الدليل دليلا آخر يدل على كون ذلك النبي صادقا في ذلك الكلام، ويدل أيضا على أن طالوت نصبه الله تعالى للملك وإكثار الدلائل من الله تعالى جائز، ولذلك أنه كثرت معجزات موسى عليه السلام، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فلهذا قال تعالى ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾

23. مجيء ذلك التابوت لا بد وأن يقع على وجه يكون خارقا للعادة حتى يصح أن يكون آية من عند الله، دالة على صدق تلك الدعوى، ثم‏ اختلف أصحاب الأخبار:

أ. الرواية الأولى: إن الله تعالى أنزل على آدم عليه السلام تابوتا فيه صور الأنبياء من أولاده، فتوارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى يعقوب، ثم بقي في أيدي بني إسرائيل، فكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدو فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا بالنصرة، فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه، فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت، قال ذلك النبي: إن آية ملكه أنكم تجدون التابوت في داره، ثم إن الكفار الذين سلبوا ذلك التابوت كانوا قد جعلوه في موضع البول والغائط، فدعا النبي عليهم في ذلك الوقت، فسلط الله على أولئك الكفار البلاء حتى إن كل من بال عنده أو تغوط ابتلاه الله تعالى بالبواسير، فعلم الكفار أن ذلك لأجل استخفافهم بالتابوت، فأخرجوه ووضعوه على ثورين فأقبل الثوران يسيران ووكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما، حتى أتوا منزل طالوت، ثم إن قوم ذلك النبي رأوا التابوت عند طالوت، فعلموا أن ذلك دليل على كونه ملكا لهم، فذلك هو قوله تعالى ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ والإتيان على هذا مجاز، لأنه أتى به ولم يأت هو فنسب إليه توسعا، كما يقال: ربحت الدراهم، وخسرت التجارة.

ب. الرواية الثانية: أن التابوت صندوق كان موسى عليه السلام يضع التوراة فيه، وكان من خشب، وكانوا يعرفونه، ثم إن الله تعالى رفعه بعد ما قبض موسى عليه السلام لسخطه على بني إسرائيل، ثم قال نبي ذلك القوم: إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء، ثم إن التابوت لم تحمله الملائكة ولا الثوران، بل نزل من السماء إلى الأرض، والملائكة كانوا يحفظونه، والقوم كانوا ينظرون إليه حتى نزل عند طالوت، وهذا قول ابن عباس، وعلى هذا الإتيان حقيقة في التابوت، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين جميعا، لأن من حفظ شيئا في الطريق جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء وإن لم يحمله كما يقول القائل: حملت الأمتعة إلى زيد إذا حفظها في الطريق، وإن كان الحامل غيره.

24. جعل الله تعالى إتيان التابوت معجزة، ثم فيه احتمالان:

أ. أحدهما: أن يكون مجيء التابوت معجزا، وذلك هو الذي قررناه.

ب. الثاني: أن لا يكون التابوت معجزا، بل يكون ما فيه هو المعجز، وذلك بأن يشاهدوا التابوت خاليا، ثم إن ذلك النبي يضعه بمحضر من القوم في بيت ويغلقوا البيت، ثم إن النبي يدعي أن الله تعالى خلق فيه ما يدل على واقعتنا، فإذا فتحوا باب البيت ونظروا في التابوت رأوا فيه كتابا يدل على أن ملكهم هو طالوت، وعلى أن الله سينصرهم على أعدائهم فهذا يكون معجزا قاطعا دالا على أنه من عند الله تعالى، ولفظ القرآن يحتمل هذا، لأن قوله تعالى ﴿يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ يحتمل أن يكون المراد منه أنهم يجدون في التابوت هذا المعجز الذي هو سبب لاستقرار قلبهم واطمئنان أنفسهم فهذا محتمل.

25. قال الزمخشري: وزن التابوت إما أن يكون فعلوتا أو فاعولا، و الثاني مرجوح، لأنه يقل في كلام العرب لفظ يكون فاؤه ولامه من جنس واحد، نحو: سلس وقلق، فلا يقال: تابوت من تبت قياسا على ما نقل، وإذا فسد هذا القسم تعين الأول، وهو أنه فعلوت من التوب، وهو الرجوع لأنه ظرف يوضع فيه الأشياء، ويودع فيه فلا يزول يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته.

26. قرأ الكل: التابوت بالتاء، وقرأ أبي وزيد بن ثابت التابوه بالهاء وهي لغة الأنصار.

27. سؤال وإشكال: من الناس من قال إن طالوت كان نبيا، لأنه تعالى أظهر المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبيا، ولا يقال: إن هذا كان من كرامات الأولياء، لأن الفرق بين الكرامة والمعجزة أن الكرامة لا تكون على سبيل التحدي، وهذا كان على سبيل التحدي، فوجب أن لا يكون من جنس الكرامات، والجواب: لا يبعد أن يكون ذلك معجزة لنبي ذلك الزمان، ومع كونه معجزة له فإنه كان آية قاطعة في ثبوت ملكه.

28. ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ السكينة فعلية من السكون، وهو ضد الحركة وهي مصدر وقع موقع الاسم، نحو: القضية والبقية والعزيمة.

29. اختلفوا في السكينة، وضبط الأقوال فيها أن نقول: المراد بالسكينة إما أن يقال إنه كان شيئا حاصلا في التابوت أو ما كان كذلك:

أ. والقسم الثاني: هو قول أبي بكر الأصم، فإنه قال: ﴿آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي تسكنون عند مجيئه وتقرون له بالملك، وتزول نفرتكم عنه، لأنه متى جاءهم التابوت من السماء وشاهدوا تلك الحالة فلا بد وأن تسكن قلوبهم إليه وتزول نفرتهم بالكلية.

ب. أما القسم الأول: وهو أن المراد من السكينة شيء كان موضوعا في التابوت، وعلى هذا ففيه أقوال:

الأول: وهو قول أبي مسلم أنه كان في التابوت بشارات من كتب الله تعالى المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام، بأن الله ينصر طالوت وجنوده، ويزيل خوف العدو عنهم.

الثاني: وهو قول علي عليه السلام: كان لها وجه كوجه الإنسان، وكان لها ريح هفافة.

الثالث: قول ابن عباس: هي صورة من زبرجد أو ياقوت لها رأس كرأس الهر، وذنب كذنبه، فإذا صاحت كصياح الهر ذهب التابوت نحو العدو وهم يمضون معه فإذا وقف وقفوا ونزل النصر.

الرابع: وهو قول عمرو بن عبيد: إن السكينة التي كانت في التابوت شيء لا يعلم.

30. السكينة عبارة عن الثبات والأمن، وهو كقوله في قصة الغار: ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الفتح: 26] فكذا قوله تعالى: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ معناه الأمن والسكون.

31. احتج القائلون بأنه حصل في التابوت شيء بوجهين:

أ. الأول: أن قوله تعالى ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ﴾ يدل على كون التابوت ظرفا للسكينة.

ب. الثاني: وهو أنه عطف عليه قوله تعالى: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى﴾ فكما أن التابوت كان ظرفا للبقية وجب أن يكون ظرفا للسكينة.

32. أجاب القائلون بأن المراد من السكينة شيء كان موضوعا في التابوت:

أ. عن الأول: أن كلمة في كما تكون للظرفية فقد تكون للسببية، قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (في النفس المؤمنة مائة من الإبل)، وقال (في خمس من الإبل شاة) أي بسببه فقوله في هذه الآية ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ﴾ أي بسببه تحصل السكينة.

ب. عن الثاني: لا يبعد أن يكون المراد بقية مما ترك آل موسى وآل هارون من الدين والشريعة، والمعنى أن بسبب هذا التابوت ينتظم أمر ما بقي من دينها وشريعتهما.

33. القائلون بأن البقية شيء كان موضوعا في التابوت قالوا: البقية هي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة وقفيز من المن الذي كان ينزل عليهم.

34. في قوله تعالى: ﴿آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ قولان:

أ. الأول: قال بعض المفسرين يحتمل أن يكون المراد من آل موسى وآل هارون هو موسى وهارون أنفسهما، والدليل عليه‏ قوله صلّى الله عليه وآله وسلم لأبي موسى الأشعري: (لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داوود)، وأراد به داوود نفسه، لأنه لم يكن لأحد من آل داوود من الصوت الحسن مثل ما كان لداود عليه السلام.

ب. الثاني: قال القفال: إنما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون، لأن ذلك التابوت قد تداولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت، وما في التابوت أشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون، فيكون الآل هم الأتباع، قال تعالى ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46]

35. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ المعنى أن هذه الآية معجزة باهرة إن كنتم ممن يؤمن بدلالة المعجزة على صدق المدعي.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/502.

(2) أهل السنة، ومن وافقهم

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر في التحريض على القتال قصة أخرى جرت في بني إسرائيل، والملأ: الأشراف من الناس، كأنهم ممتلئون شرفا، وقال الزجاج: سموا بذلك لأنهم ممتلئون مما يحتاجون إليه منهم، والملأ في هذه الآية القوم، لأن المعنى يقتضيه، والملأ: اسم للجمع كالقوم والرهط، والملأ أيضا: حسن الخلق، ومنه الحديث (أحسنوا الملأ فكلكم سيروى) خرجه مسلم.

2. ﴿مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ أي من بعد وفاته ﴿إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا﴾:

أ. قيل: هو شمويل بن بال بن علقمة ويعرف بابن العجوز، ويقال فيه: شمعون، قال السدى: وإنما قيل: ابن والعجوز لأن أمه كانت عجوزا فسألت الله الولد وقد كبرت وعقمت فوهبه الله تعالى لها، ويقال له: سمعون لأنها دعت الله أن يرزقها الولد فسمع دعاءها فولدت غلاما فسمته (سمعون)، تقول: سمع الله دعائي، والسين تصير شينا بلغة العبرانية، وهو من ولد يعقوب، وقال مقاتل: هو من نسل هارون عليه السلام.

ب. وقال قتادة: هو يوشع بن نون، قال ابن عطية: وهذا ضعيف لأن مدة داوود هي من بعد موسى بقرون من الناس، ويوشع هو فتى موسى.

ج. وذكر المحاسبي أن اسمه إسماعيل.

3. هذه الآية هي خبر عن قوم من بني إسرائيل نالتهم ذلة وغلبة عدو فطلبوا الإذن في الجهاد وأن يؤمروا به، فلما أمروا كع أكثرهم وصبر الأقل فنصرهم الله، وفي الخبر أن هؤلاء المذكورين هم الذين أميتوا ثم أحيوا.

4. ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ﴾ و﴿عَسَيْتُمْ﴾ بالفتح والكسر لغتان، وبالثانية قرأ نافع، والباقون بالأولى وهي الأشهر، قال أبو حاتم: وليس للكسر وجه، وبه قرأ الحسن وطلحة، قال مكي في اسم الفاعل: عس، فهذا يدل على كسر السين في الماضي، والفتح في السين هي اللغة الفاشية، قال أبو علي: ووجه الكسر قول العرب: هو عس بذلك، مثل حر وشج، وقد جاء فعل وفعل في نحو نعم ونعم، وكذلك عسيت وعسيت، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم أن يقال: عسي زيد، مثل رضي زيد، فإن قيل فهو القياس، وإن لم يقل، فسائغ أن يؤخذ باللغتين فتستعمل إحداهما موضع الأخرى، ومعنى هذه المقالة: هل أنتم قريب من التولي والفرار؟

5. ﴿إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ قال الزجاج ﴿أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ في موضع نصب، أي هل عسيتم مقاتلة، ﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قال الأخفش: (أن) زائدة، وقال الفراء: هو محمول على المعنى، أي وما منعنا، كما تقول: ما لك ألا تصلي؟ أي ما منعك، وقيل: المعنى وأى شي لنا في ألا نقاتل في سبيل الله! قال النحاس: وهذا أجودها.

6. ﴿وَأن﴾ في موضع نصب، ﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا﴾ تعليل، وكذلك ﴿وَأَبْنَائِنَا﴾ أي بسبب ذرارينا، قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ﴾ أي فرض عليهم ﴿الْقِتَالُ تَوَلَّوْا﴾

7. أخبر تعالى أنه لما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب وأن نفوسهم ربما قد تذهب ﴿تَوَلَّوْا﴾ أي اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم، وهذا شأن الأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة تتمنى الحرب أوقات الأنفة فإذا حضرت الحرب كعت وانقادت لطبعها، وعن هذا المعنى نهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا) رواه الأئمة، ثم أخبر الله تعالى عن قليل منهم أنهم ثبتوا على النية الأولى واستمرت عزيمتهم على القتال في سبيل الله تعالى.

8. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ أي أجابكم إلى ما سألتم، وكان طالوت سقاء، وقيل: دباغا، وقيل: مكاريا، وكان عالما فلذلك رفعه الله.. وكان من سبط بنيامين ولم يكن من سبط النبوة ولا من سبط الملك، وكانت النبوة في بني لاوى، والملك في سبط يهوذا فلذلك أنكروا، قال وهب بن منبه: لما قال الملأ من بني إسرائيل لشمويل.. إلى آخر الأثر سبق ذكره.

9. ثم قال الله تعالى لبني إسرائيل ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾، وطالوت وجالوت اسمان أعجميان معربان، ولذلك لم ينصرفا، وكذلك داوود والجمع طواليت وجواليت ودواويد، ولو سميت رجلا بطاوس وراقود لصرفت وإن كان أعجميين، والفرق بين هذا والأول أنك تقول: الطاوس، فتدخل الألف واللام فيمكن في العربية ولا يمكن هذا في ذاك.

10. ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾ أي كيف يملكنا ونحن أحق بالملك منه؟ جروا على سنتهم في تعنيتهم الأنبياء وحيدهم عن أمر الله تعالى فقالوا: ﴿أَنَّى﴾ أي من أي جهة، فـ ﴿أَنَّى﴾ في موضع نصب على الظرف، ونحن من سبط الملوك وهو ليس كذلك وهو فقير، فتركوا السبب الأقوى وهو قدر الله تعالى وقضاؤه السابق حتى احتج عليهم نبيهم بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ﴾ أي اختاره وهو الحجة القاطعة، وبين لهم مع ذلك تعليل اصطفاء طالوت، وهو بسطته في العلم الذي هو ملاك الإنسان، والجسم الذي هو معينه في الحرب وعدته عند اللقاء، فتضمنت بيان صفة الإمام وأحوال الإمامة، وأنها مستحقة بالعلم والدين والقوة لا بالنسب، فلا حظ للنسب فيها مع العلم وفضائل النفس وأنها متقدمة عليه، لأن الله تعالى أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته، وإن كانوا أشرف منتسبا، وقد مضى في أول السورة من ذكر الإمامة وشروطها ما يكفي ويغني، وهذه الآية أصل فيها.

11. قال ابن عباس: كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل وأجمله وأتمه، وزيادة الجسم مما يهيب العدو، وقيل: سمي طالوت لطوله، وقيل: زيادة الجسم كانت بكثرة معاني الخير والشجاعة، ولم يرد عظم الجسم، ألم تر إلى قول الشاعر:

çترى الرجل النحيف فتزدريه... وفي أثوابه أسد هصور

ويعجبك الطرير فتبتليه... فيخلف ظنك الرجل الطرير

وقد عظم البعير بغير لب... فلم يستغن بالعظم البعيرé

ومن هذا المعنى قوله صلّى الله عليه وآله وسلم لأزواجه: (أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا)، فكن يتطاولن، فكانت زينب أولهن موتا، لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق، خرجه مسلم.

12. قال بعض المتأولين: المراد بالعلم علم الحرب، وهذا تخصيص العموم من غير دليل، وقد قيل: زيادة العلم بأن أوحى الله إليه، وعلى هذا كان طالوت نبيا.

13. ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ ذهب بعض المتأولين إلى أن هذا من قول الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وقيل: هو من قول شمويل وهو الأظهر، قال لهم ذلك لما علم من تعنتهم وجدالهم في الحجج، فأراد أن يتمم كلامه بالقطعي الذي لا اعتراض عليه فقال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾، وإضافة ملك الدنيا إلى الله تعالى إضافة مملوك إلى ملك.

14. ثم قال لهم على جهة التغبيط والتنبيه من غير سؤال منهم: ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾، ويحتمل أن يكونوا سألوه الدلالة على صدقه في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾، قال ابن عطية: والأول أظهر بمساق الآية، والثاني أشبه بأخلاق بني إسرائيل الذميمة، وإليه ذهب الطبري.‌‌

15. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ إتيان التابوت، والتابوت كان من شأنه فيما ذكر أنه أنزله الله على آدم صلّى الله عليه وآله وسلم، فكان عنده إلى أن وصل إلى يعقوب عليه السلام، فكان في بني إسرائيل يغلبون به من قاتلهم حتى عصوا فغلبوا على التابوت غلبهم عليه العمالقة: جالوت وأصحابه في قول السدي، وسلبوا التابوت منهم، وهذا أدل دليل على أن العصيان سبب الخذلان، وهذا بين.

16. اختلف في الآية في التابوت:

أ. قال النحاس: والآية في التابوت على ما روي أنه كان يسمع فيه أنين، فإذا سمعوا ذلك ساروا لحربهم، وإذا هدأ الأنين لم يسيروا ولم يسر التابوت.

ب. وقيل: كانوا يضعونه في مأزق الحرب فلا تزال تغلب حتى عصوا فغلبوا وأخذ منهم التابوت وذل أمرهم، فلما رأوا آية الاصطلام وذهاب الذكر، أنف بعضهم وتكلموا في أمرهم حتى اجتمع ملؤهم أن قالوا لنبي الوقت: ابعث لنا ملكا، فلما قال لهم: ملككم طالوت راجعوه فيه كما أخبر الله عنهم، فلما قطعهم بالحجة سألوه البينة على ذلك، في قول الطبري، فلما سألوا نبيهم البينة على ما قال، دعا ربه فنزل بالقوم الذين أخذوا التابوت داء بسببه، على خلاف في ذلك:

قيل: وضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام فكانت الأصنام تصبح منكوسة.

وقيل: وضعوه في بيت أصنامهم تحت الصنم الكبير فأصبحوا وهو فوق الصنم، فأخذوه وشدوه إلى رجليه فأصبحوا وقد قطعت يدا الصنم ورجلاه وألقيت تحت التابوت، فأخذوه وجعلوه في قرية قوم فأصاب أولئك القوم أوجاع في أعناقهم.

وقيل: جعلوه في مراحيض قوم فكانوا يصيبهم الباسور، فلما عظم بلاؤهم كيفما كان، قالوا: ما هذا إلا لهذا التابوت! فلنرده إلى بني إسرائيل فوضعوه على عجلة بين ثورين وأرسلوهما في الأرض نحو بلاد بني إسرائيل، وبعث الله ملائكة تسوق البقرتين حتى دخلنا على بني إسرائيل، وهم في أمر طالوت فأيقنوا بالنصر، وهذا هو حمل الملائكة للتابوت في هذه الرواية، وروي أن الملائكة جاءت به تحمله وكان يوشع بن نون قد جعله في البرية، فروي أنهم رأوا التابوت في الهواء حتى نزل بينهم، قاله الربيع بن خيثم.

17. ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ﴾ اختلف الناس في السكينة والبقية:

أ. قيل: السكينة فعيلة مأخوذة من السكون والوقار والطمأنينة، فقوله ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ﴾ أي هو سبب سكون قلوبكم فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت، ونظيره ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ أي أنزل عليه ما سكن به قلبه.

ب. وقيل: أراد أن التابوت كان سبب سكون قلوبهم، فأينما كانوا سكنوا إليه ولم يفروا من التابوت إدا كان معهم في الحرب.

ج. وقال وهب بن منبه: السكينة روح من الله تتكلم، فكانوا إذا اختلفوا في أمر نطقت ببيان ما يريدون، وإذا صاحت في الحرب كان الظفر لهم.

د. وقال علي بن أبي طالب: هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان، وروي عنه أنه قال: هي ريح خجوج لها رأسان.

هـ. وقال مجاهد: حيوان كالهر له جناحان وذنب ولعينيه شعاع، فإذا نظر إلى الجيش انهزم.

و. وقال ابن عباس: طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء.

ز. وقال السدي، وقال ابن عطية: والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى.. وفي صحيح مسلم عن البراء قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له فقال: (تلك السكينة تنزلت للقرآن)، وفي حديث أبي سعيد الخدري: أن أسيد بن الحضير بينما هو ليلة يقرأ في مربده الحديث، وفية: فقال رسوله الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (تلك الملائكة كانت تستمع لك ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم) خرجه البخاري ومسلم، فأخبر صلّى الله عليه وآله وسلم عن نزول السكينة مرة، ومرة عن نزول الملائكة، فدل على أن السكينة كانت في تلك الظلة، وأنها تنزل أبدا مع الملائكة، وفي هذا حجة لمن قال إن السكينة روح أو شي له روح، لأنه لا يصح استماع القرآن إلا لمن يعقل.

18. ﴿وَبَقِيَّةٌ﴾ اختلف في البقية على أقوال:

أ. فقيل: عصا موسى وعصا هارون ورضاض الألواح، لأنها انكسرت حين ألقاها موسى، قاله ابن عباس، زاد عكرمة: التوراة.

ب. وقال أبو صالح: البقية: عصا موسى وثيابه وثياب هارون ولوحان من التوراة.

ج. وقال عطية بن سعد: هي عصا موسى وعصا هارون وثيابهما ورضاض الألواح.

د. وقال الثوري: من الناس من يقول البقية قفيزا من في طست من ذهب وعصا موسى وعمامة هارون ورضاض الألواح، ومنهم من يقول: العصا والنعلان، ومعنى هذا ما روي من أن موسى لما جاء قومه بالألواح فوجدهم قد عبدوا العجل، ألقى الألواح غضبا فتكسرت، فنزع منها ما كان صحيحا وأخذ رضاض ما تكسر فجعله في التابوت.

هـ. وقال الضحاك: البقية: الجهاد وقتال الأعداء، قال ابن عطية: أي الأمر بذلك في التابوت، إما أنه مكتوب فيه، وإما أن نفس الإتيان به هو كالأمر بذلك.

19. أسند الترك إلى آل موسى وآل هارون من حيث كان الأمر مندرجا من قوم إلى قوم وكلهم آل موسى وآل هارون، وآل الرجل قرابته.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/244.

‌‌الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ﴾ الكلام فيه كالكلام في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ وقد قدمناه.

2. الملأ: الأشراف من الناس، كأنهم ملئوا شرفا، وقال الزجاج: سموا بذلك: لأنهم ملئون بما يحتاج إليه منهم، وهو اسم جمع كالقوم والرهط.

3. ذكر الله سبحانه في التحريض على القتال قصة أخرى جرت في بني إسرائيل بعد القصة المتقدمة وقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ من ابتدائية وعاملها مقدر، أي: كائنين من بعد موسى: أي: بعد وفاته.

4. ﴿لِنَبِيٍّ لَهُمُ﴾ قيل: هو شمويل بن يار بن علقمة ويعرف بابن العجوز، ويقال فيه: شمعون، وهو من ولد يعقوب؛ وقيل: من نسل هارون؛ وقيل: هو يوشع بن نون، وهذا ضعيف جدا لأن يوشع هو فتى موسى، ولم يوجد داوود إلا بعد ذلك بدهر طويل؛ وقيل: اسمه‏ إسماعيل.

5. ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا﴾ [البقرة: 246] أي: أميرا نرجع إليه ونعمل على رأيه، ﴿نُقَاتِلْ﴾ [البقرة: 246] بالنون والجزم على جواب الأمر، وبه قرأ الجمهور، وقرأ الضحاك، وابن أبي عبلة: بالياء ورفع الفعل، على أنه صفة للملك، وقرئ: بالنون والرفع، على أنه حال أو كلام مستأنف.

6. ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ﴾ بالفتح للسين وبالكسر لغتان، وبالثانية قرأ نافع، وبالأولى قرأ الباقون، قال في الكشاف: وقراءة الكسر ضعيفة، وقال أبو حاتم: ليس للكسر وجه، وقال أبو علي: وجه الكسر قول العرب، هو عس بذلك، مثل حر وشج، وقد جاء فعل وفعل في نحو نقم ونقم، فكذلك عسيت وعسيت، وكذا قال مكي، وقد قرأ بالكسر أيضا الحسن وطلحة، فلا وجه لتضعيف ذلك، وهو من أفعال المقاربة، أي: هل قاربتم ألا تقاتلوا، وإدخال حرف الاستفهام على فعل المقاربة لتقرير ما هو متوقع عنده، والإشعار بأنه كائن، وفصل بين عسى وخبرها بالشرط للدلالة على الاعتناء به، قال الزجاج: أن لا تقاتلوا في موضع نصب: أي: هل عسيتم مقاتلة.

7. قال الأخفش: (أن) في قوله تعالى: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ﴾ زائدة، وقال الفراء: هو محمول على المعنى، أي: وما منعنا؟ كما تقول: ما لك ألا تصلي؟ وقيل: المعنى، وأي شيء لنا في أن لا نقاتل، قال النحاس: وهذا أجودها.

8. ﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا﴾ تعليل، والجملة حالية، وإفراد الأولاد بالذكر لأنهم الذين وقع عليهم السبي، أو لأنهم بمكان فوق مكان سائر القرابة.

9. ﴿فَلَمَّا كُتِبَ﴾ أي: فرض، أخبر سبحانه أنهم تولوا لاضطراب نياتهم وفتور عزائمهم، واختلف في عدد القليل الذين استثناهم الله سبحانه، وهم الذين اكتفوا بالغرفة.

10. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ﴾ شروع في تفصيل ما جرى بينهم وبين نبيهم من الأقوال والأفعال.

11. طالوت: اسم أعجمي، وكان سقاء؛ وقيل: مكاريا، ولم يكن من سبط النبوة، وهم بنو لاوي، ولا من سبط الملك، وهم بنو يهوذا، فلذلك ﴿قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾ أي: كيف ذلك؟ ولم يكن من بيت الملك، ولا هو ممن أوتي سعة من المال حتى نتبعه لشرفه أو لماله.

12. هذه الجملة: ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ﴾ حالية، وكذلك الجملة المعطوفة عليها.

13. ﴿اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾ أي: اختاره الله هو الحجة القاطعة، ثم بين لهم مع ذلك وجه الاصطفاء: بأن الله زاده بسطة في العلم، الذي هو ملاك الإنسان، ورأس الفضائل، وأعظم وجوه الترجيح، وزاده بسطة في الجسم الذي يظهر به الأثر في الحروب ونحوها، فكان قويا في دينه وبدنه، وذلك هو المعتبر، لا شرف النسب، فإن فضائل النفس مقدّمة عليه.

14. ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ فالملك ملكه، والعبيد عبيده، فما لكم والاعتراض على شيء ليس هو لكم ولا أمره إليكم؟ وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ من قول نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلم؛ وقيل: هو من قول نبيهم وهو الظاهر.

15. ﴿وَاسِعُ﴾ أي: واسع الفضل، يوسع على من يشاء من عباده‏ ﴿عَلِيمٌ﴾ بمن يستحق الملك، ويصلح له.

16. التابوت: فعلوت من التوب وهو الرجوع لأنهم يرجعون إليه، أي: علامة ملكه إتيان التابوت الذي أخذ منهم، أي: رجوعه إليكم وهو صندوق التوراة.

17. السكينة فعيلة، مأخوذة من السكون والوقار والطمأنينة، أي: فيه سبب سكون قلوبكم فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت، قال ابن عطية: الصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس‏ تسكن إلى ذلك وتأنس به وتتقوى، وقد اختلف في السكينة على أقوال، وكذلك اختلف في البقية، فقيل: هي عصا موسى ورضاض الألواح؛ وقيل: غير ذلك.

18. قيل: المراد بآل موسى وهارون: هما أنفسهما، أي: مما ترك هارون وموسى، ولفظ آل: مقحمة لتفخيم شأنهما؛ وقيل: المراد: الأنبياء من بني يعقوب، لأنهما من ذرية يعقوب، فسائر قرابته ومن تناسل منه آل لهما.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/304.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ﴾، وهم القوم ذو الشارة والتجمع‏ ﴿مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ﴾ إنما نكر لعدم مقتض لتعريفه، وزعم الكتابيون أنه صموئيل‏ ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا﴾، أي: أقم لنا أميرا ﴿نُقَاتِلْ﴾، أي معه عن أمره‏ ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وذلك حين ظهرت العمالقة، قوم جالوت على كثير من أرضهم.

2. ﴿قَالَ﴾ لهم نبيهم‏ ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾، قال الزمخشريّ: خبر (عسيتم) ألا تقاتلوا، والشرط فاصل بينهما، والمعنى: هل قاربتم ألا تقاتلوا، يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون، أراد أن يقول عسيتم ألا تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال، فأدخل (هل) مستفهما عما هو متوقع عنده ومظنون، وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه كقوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ﴾ [الإنسان: 1]، معناه التقرير، وقرئ عسيتم بكسر السين، وهي ضعيفة.

3. ﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ﴾، أي وأي سبب لنا في ترك قتال عدونا ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾، أي والحال أنه قد عرض ما يوجب القتال إيجابا قويّا من أخذ بلادنا وسبي أولادنا ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ﴾ بعد إلحاحهم في طلبه‏ ﴿تَوَلَّوْا﴾، أي أعرضوا عن قتال عدوهم جبنا ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ وعيد لهم على ظلمهم بالتولّي عن القتال وترك الجهاد وعصيانا لأمره تعالى.

4. قال بعض مفسري الزيدية(2): ثمرة هذه الآية الكريمة أنها دلت على أحكام:

أ. الأول وجوب الجهاد لأن الله تعالى إنما ذكر هذه القصة المشهورة في بني إسرائيل وما نالهم تحذيرا من سلوك طريقهم، وأيضا: شرائع من قبلنا تلزمنا.

ب. الثاني أن الأمير يحتاج إليه في أمر الجهاد لتدبير أمورهم، وقد كان صلّى الله عليه وآله وسلم إذا بعث سرية أمّر عليها أميرا، قال في الكشاف: وروي‏ أنه أمر الناس إذا سافروا، أن يجعلوا أحدهم أميرا عليهم.

ج. الثالث: وجوب طاعة الأمير في أمر السياسة وتدبير الحرب، لأن سياق الآية يقضي بذلك، في الحديث عنه صلّى الله عليه وآله وسلم‏ (أطيعوا الأمير ولو كان عبدا حبشيا)، وقد ذكر أهل علم المعاملة أنه ينبغي في الأسفار أن يجعل أهل السفر لهم أميرا ودليلا وإماما، وهذا محمود، إذ بذلك ينقطع الجدال وينتظم أمورهم، ويلزم مثل هذا في كل أمر يحتاج فيه إلى ترداد في الآراء، نحو أمور الأوقاف والمساجد والإمامة لكل‏ مسجد ونحو هذا.

د. قال الحاكم: وفيه دلالة على أن للأنبياء تشديد العهود والمواثيق فيما يلزمهم، ووجه ذلك أنّه قال ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ﴾ [البقرة: 246] وهذا نوع من التأكيد عليهم، وكذا يأتي في الإمام قياس ما ذكر الحاكم في النبيّ.

5. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾، هذا شروع في تفصيل ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من الأقوال والأفعال، إثر الإشارة الإجمالية إلى مصير حالهم، أي قال لهم (بعد ما أوحى إليه ما أوحى) إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا أيّ ملّكه عليكم، فانتهوا في تدبير الحرب إلى أمره، وكان طالوت من سبط لم يكن الملك فيهم، وطالوت اسم أعجميّ كجالوت وداوود، ولذلك لم ينصرف، وزعم قوم أنه عربيّ (من الطول) لما وصف به من البسطة في الجسم، ولكنه ليس من أبنية العرب فمنع صرفه للعلمية وشبه العجمة، وقد زعم الكتابيون أن طالوت هو المعروف عندهم بشاول.

6. ﴿قَالُوا﴾ معترضين على نبيهم بل على الله تعالى: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾ أي من أين يكون أو كيف يكون ذلك‏ ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾ أي لأن فينا من هو سبط الملوك دونه، قال الحراليّ: فثنّوا اعتراضهم بما هو أشد وهو الفخر بما ادعوه من استحقاق الملك على من ملّكه الله عليهم، فكان فيه حظ من فخر إبليس حيث قال حين أمر بالسجود لآدم ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف: 12]

7. ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾، أي فصار له مانعان: أحدهما أنه ليس من بيت الملك، و الثاني أنه مملق، والملك لا بد له من مال يعتضد به، قال الحراليّ: فكان في هذه الثالثة فتنة استصنام المال وأنه مما يقام به ملك، وإنما الملك بإيتاء الله، فكان في هذه الفتنة الثالثة جهل وشرك، فتزايدت صنوف فتنتهم فيما انبعثوا إلى طلبه من أنفسهم.

8. ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾، لما استبعدوا تملكه بسقوط نسبه وبفقره، رد عليهم ذلك:

أ. أوّلا: بأن ملاك الأمر هو اصطفاء الله تعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم.

ب. وثانيا: بأن العمدة فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة أمور السياسة، وجسامة البدن ليعظم خطره في القلوب ويقدر على مقاومة الأعداء ومكابدة الحروب، وقد خصه الله تعالى منهما بحظ وافر قاله أبو السعود.

9. ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ في الدنيا من غير إرث أو مال، إذ لا يشترط في حقه تعالى شيء، فهو الفعال لما يريد ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ﴾ يوسع على الفقير ويغنيه‏ ﴿عَلِيمٌ﴾ بمن يليق بالملك ممن لا يليق به، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة.

10. قال بعض مفسري الزيدية(3): (ثمرة الآية أن النبوة والإمامة لا تستحق بالإرث وأن الغنى، والصيانة من الحرف الدنيئة، لا تشترط في أمير ولا إمام ولا قاض، أي لما روي أن طالوت كان دباغا أو سقاء مع فقره.. وتدل الآية أيضا على أنه يشترط في الأمير ونحوه القوة على ما تولاه، فيكون سليما من الآفات عالما بما يحتاج إليه، لأن الله تعالى ذكر البسطة في العلم والجسم ردّا على ما اعتبروا)

11. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ﴾، أي علامة ﴿مُلْكَهُ﴾ أنه من الله تعالى: ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ أي يرد الله إليكم التابوت الذي أخذ منكم وهو صندوق التوراة، على ما سنذكره‏ ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، أي وقار وجلال وهيبة، أو فيه سكون نفوس بني إسرائيل يتقوون به على الحرب‏ ﴿وَبَقِيَّةٌ﴾، أي فضلة جملة، ذهب جلّها ﴿مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾، أي من آثارهم الفاضلة ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾، أي في رد التابوت إليكم‏ ﴿لَآيَةً لَكُمْ﴾ أن ملكه من الله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بآيات الله وأنبيائه.

12. قال العلامة البقاعيّ: التابوت، والله أعلم، الصندوق الذي وضع‏ فيه اللوحان اللذان كتب فيهما العشر الآيات، ويسمى تابوت الشهادة، وكانوا إذا حاربوا حمله جماعة منهم، موظفون لحمله، ويتقدمون به أمام الجيش فيكون ذلك سبب نصرهم، وكان العمالقة أصحاب جالوت لما ظهروا عليهم أخذوه في جملة ما أخذوا من نفائسهم، وكان عهدهم به قد طال، فذكّرهم بمآثره ترغيبا فيه وحملا على الانقياد لطالوت، فقال: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ﴾ الآية.

13. مما ورد في هذا في كتب أهل الكتاب:

أ. في الإصحاح الخامس والعشرين من سفر الخروج ما نصه: وكلّم الرب موسى قائلا، كلّم بني إسرائيل أن يأخذوا لي تقدمة، من كل من يحثّه قلبه تأخذون تقدمتي، وهذه هي التقدمة التي تأخذونها منهم، ذهب وفضة ونحاس واسما نجونيّ وأرجوان وقرمز وبوص وشعر معزى، وجلود كباش محمّرة وجلود نخس وخشب سنط، وزيت للمنارة وأطياب لدهن المسحة وللبخور العطر، وحجارة جزع وحجارة ترصيع للرداء والصّدرة، فيصنعون لي مقدسا لأسكن في وسطهم، بحسب جميع ما أنا أريك من مثال المسكن ومثال جميع آنيته هكذا تصنعون: فتصنعون تابوتا من خشب السنط طوله ذراعان ونصف ذراع وعرضه ذراع ونصف، وارتفاعه ذراع ونصف وتغشّيه بذهب نقيّ من داخل ومن خارج تغشيه، وتصنع عليه إكليلا من ذهب حواليه، وتسبك له أربع حلقات من ذهب وتجعلها على قوائمه الأربع، على جانبه الواحد حلقتان، وعلى جانبه الثاني حلقتان، وتصنع عصوين من خشب السنط وتغشيهما بذهب، وتدخل العصوين في الحلقات على جانب التابوت ليحمل التابوت بهما، تبقي العصوان في حلقات التابوت، لا تنزعان منها، وتضع في التابوت الشهادة التي أعطيك،

ب. وفي الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر الخروج: ثم أعطى موسى عند فراغه من الكلام معه من جبل سيناء لوحي الشهادة لوحي حجر مكتوبين بإصبع الله.

ج. وفي الإصحاح الرابع والثلاثين منه: أن موسى لما كسر اللوحين أمره الله أن ينحت لوحين مثل الأولين، وأمره أن يكتب عليهما كلمات العهد الكلمات العشر، ونصه: ثم قال الرب لموسى: انحت لك لوحين من حجر مثل الأولين، فأكتب أنا على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين اللذين كسرتهما.

د. وفي حواشي التوراة: أن تابوت الشهادة هو التابوت الذي كان فيه لوحا الشريعة الإلهية المسماة شهادة.

14. زعموا أن السكينة معربة عن (شكينا) في اللغة العبرانية، وفي سفر صموئيل من سفر الملوك الأول في الإصحاح الرابع وما بعده نبأ انكسار الإسرائيليين أمام الفلسطينيين وأخذ التابوت من الإسرائيليين وأنه بقي التابوت في بلاد الفلسطينيين سبعة أشهر، في قصص مسهبة.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/178.

(2) يقصد الحاكم الجشمي، وقد سبق ذكر قوله، وما يستفاد من الآيات الكريمة بتفصيل

(3) يقصد الحاكم الجشمي

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ﴾ أي: إلى قصَّة الملإ، الجماعة التي تملأ العيون أو المجلسَ مهابةً، لشرفهم ورئاستهم، يجتمعون للتشاور، أو يتمالؤون، أي: يتعاونون، ويجوز إطلاقه على مطلق الجماعة وبلا اجتماع، وباجتماع لغير تشاور.

2. ﴿مِن بَنِي إِسْرَآئِيلَ﴾ كائنين بعض بني إسرائيل، و(مِن) للتبعيض، ﴿مِن بَعْدِ مُوسَى﴾ متعلِّق بـ (كائنِينَ) المقدَّر، أي: بعد موت موسى، و(مِن) للابتداء المنقطع بحصولهم بعده، ولا يصحُّ تعليقه بـ (قَالُوا) لأنَّ معمول المضاف إليه لا يتقدَّم على المضاف، ولا بـ (لَهُم) لنيابته عن (كائن)، لأنَّ الأصل أن لا يتقدَّم على العامل الذي ليس فيه حروف الفعل معمولُه، ولأنَّ معمول النعت لا يتقدَّم على المنعوت، وكذا لا يتعلَّق بـ (كائن)، وذلك أنَّ (لَهُمْ) نعت (نَبِيءٍ).

3. ﴿إِذْ قَالُواْ لِنَبِيءٍ لَّهُم﴾ قيل: يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب عليه السلام ، وهو ابن أخت موسى، وهو ضعيف؛ لأنَّ بينه وبين داود قرونًا، وقيل: شِمعون ـ بكسر الشين ـ بن صعبة بن علقمة من ولد لاوي بن يعقوب، وقيل: إشْمَوِيل ـ بكسر الهمزة، وعليه الأكثر، وإسكان الشين وفتح الميم وكسر الواو وبعده ياء وبعدها لام ـ ابن بال، وقيل: ابن حنَّة بن العافر، وهو إسماعيل بالعبرانيَّة، ولا يصحُّ القولان أيضًا، لأنَّ بينهما وبين داود قرونًا كثيرة.

4. ﴿ابْعَثْ﴾ بإذن الله، وقد قال بعدُ: ﴿إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ﴾، وإن لم يذكروا له ذلك فمعلوم أنَّه لا حدث إِلَّا بالله، ﴿لَنَا مَلِكًا﴾ أقم لنا أميرًا، أو مُره وهو موجود قبلُ، أو مُره بعد أن تقيمه بالمسير إلى القتال، ﴿نُقَاتِلْ﴾ معه وبأمره ورأيه وتسديده، ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ من أشرك بالله.

5. تتابع يوشع فكالب فحزقيل فإلياس فاليسع بعد موسى، ثمَّ ظهر لهم عدوٌّ، وهم العمالقة قوم جالوت سكَّان بحر الروم بين مصر وفلسطين، وغلبوا على كثير من بلادهم، وأسروا أربعمائة وأربعين من أبناء ملوكهم، وضربوا عليهم الجزية، وأخذوا التوراة، وهلك سبط النبوءة إِلَّا امرأة حبلى ولدت غلامًا سمَّته شمويل، وقيل: شمعون، وَلَمَّا كبر قرأ التوراة ببيت المقدس على عالم من علمائهم، ونبَّأه الله، وقالوا: إن صدقت فابعث لنا ملكًا نقاتل كما قال الله تعالى ، وكان أمر بني إسرائيل على أيدي ملوكهم متَّبعين لأنبيائهم المرشدين لهم.

6. ﴿قَالَ﴾ ذلك النبيء الإسرائيليُّ: ﴿هَلْ عَسِيتُم﴾، لا يخفى أنَّ (عسَى) جامد، وأنَّه فعل إنشاء، فوجه صحَّة دخول أداة الاستفهام عليه مع أنَّه لا خارج له يستفهم عنه أنَّ (هَلْ عَسِيتُم) مضمن معنى (أتوقَّع)، أو أنَّه ضمن معنى (قَارَبتُم) فليست ناسخة، و(أَن لَّا تُقَاتِلُوا) مفعول (عَسِيتُم)، بمعنى: قاربتم، أو أتوقَّع، أو أنَّ الاستفهام متوجِّه إلى ما تُوقِّع بها، وهو أن لا تقاتلوا، وإذا كان الاستفهام عن المتوقَّع اندفع استشكال أنَّ المتكلِّم بكلام لا يستفهم عن توقُّعه، وأن يشترط إيلاء المقرَّر به الهمزة إذا كان التقرير بمعنى حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه، وفصل بأداة الشرط في قوله: ﴿إِن كُتِبَ﴾ فرض ﴿عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُواْ﴾ تقريرًا وتثبُّتًا.

7. ﴿قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ أيُّ غرض لنا في أن لا نقاتل!؟، أي: في ترك القتال، ﴿وَقَدُ اخْرِجْنَا﴾ والحال أنَّا قد أخرجنا ﴿مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا﴾ تمثيل لإخراجهم عن كلِّ ما لهم به اتِّصال، فدخلت الأرضون والأجنَّة والعيون والأقارب والبنات والأزواج، أشاروا بذكر الديار إلى الأصول، وبذكر الأبناء عن الأناسي، وخصُّوا ذكر البنين لشرفهم، والديار مطلق مواضع الإقامة، وضمن الإخراج معنى الإفراد والإبعاد، فصحَّ تسلُّطه على الأبناء، أو يبقى على ظاهره، فيقدَّر (وقد أُخرِجنا وأُفرِدنا وأبعدنا عن ديارنا وأبنائنا)، فالإخراج للديار، والإفراد للأبناء.

8. سؤال وإشكال: القتال لأجل سبيل الله غير القتال حميَّة للديار والأبناء، وفي ذلك غير إخلاص، والجواب: ذلك قول من ركَّت ديانته منهم، ألا ترى إلى قوله: ﴿تَوَلَّوْا﴾؟، أو أرادوا أنَّ كلًّا منهم لله، ولحفظ ديار إخوانه وأبنائهم، ولأنَّه يجوز قصد حميَّة الديار والأبناء لأنفسهم، مع قصد وجه الله لوجوب تلك الحميَّة عليهم، وفيها خزي العدوِّ، وقصد خزيه فرض.

9. ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوا﴾ أعرضوا عنه ﴿اِلَّا قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ ثلاثمائة وثلاثة عشر، وهم الذين اكتفوا بالغرفة، عدد أهل بدر في رواية مشهورة في أهل بدر، وأخرجها البخاري عن البراء بن عازب 5 ، وقيل: ثلاثة آلاف، وقيل: ألف، ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ الذين تولَّوا عن القتال يعاقبهم على تولِّيهم، لَمَّا رأوا كثرة عدد العدوِّ أعرضوا عن القتال، ولم يعرضوا أوَّل فرض ذلك القتال عليهم، ولكن فرضه باقٍ إلى وقت التولِّي.

10. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيئُهُمُ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ﴾ اسمه شاول بن قيس ﴿مَلِكًا﴾ كما طلبتم أن أبعث لكم ملكًا، وهذا القول مقدَّم نزولاً ولو تأخَّر تلاوة، وطالوت عبرانيٌّ، ولو كان على وزن (فَعَلوت) من الطُّول ـ بفتح العين ـ لشدَّة طوله، وأصله (طَوَلوت) بفتح الواو قلبت ألِفًا لتحرُّكها بعد فتح، وصُرف لانفراد العلميَّة، ولا يصحُّ أنَّه منع الصرف لشبه العجمة؛ لأنَّ رهبوتًا ورغبوتًا ورحموتًا وملكوتًا ونحوهنَّ يصرَّفن، ولا يصحُّ أنَّه معدول عن الطول أو الطويل إذ لا يعرف العدل عن ذلك، بل عن فاعل، ولا تعسُّف في أنَّه عبريٌّ وافق العربيَّة في معنى الطول، فمنع للعجمة والعَلَميَّة كما صدَّرتُ به، وقيل: عربيٌّ منع الصرف للعلميَّة وشبه العجمة، إذ ليس ذلك من أوزان العربيَّة الغالبة.

11. كان جالوت ومن معه من العمالقة يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين وضربوا الجزية عليهم، وأبو العمالقة عِمليق ـ بكسر العين ـ أو عملاق ـ بكسرها ـ ابن لاود بن إرم بن سام بن نوح، وَلَمَّا دعا الله نبيئهم أن يجعل لهم ملكًا أمره ملكٌ أن يقلب إناء الدهن الذي في بيته على رأسه فيكون كالإكليل على رأسه على استواء، فكان كذلك أمارة لما أُخْبِرُوا من كونه ملكا، أوْ أوحي إليه إنَّه إذا انتشى الدهن في القرن لدخول رَجل فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه به وملكه عليهم، أو أتي بعصًا طويلة من ساواها فهو الملك، فساواها، ولا ضعف في ذلك؛ لأنَّ الله تعالى أراد أن يبيِّن الملك بالعلامة ليطمئنُّوا، ولو كان قول النبيء كافيًا، روي أنَّه أضلَّ طالوت دابَّة فخرج يطلبها، وقال له غلامه: ندخل على هذا النبيء لعلَّه يرشدنا، فقال: نعم، فدخلا فكان ما ذكر من العصا أو الدهن، ولا بأس بهما معًا.

12. ﴿قَالُواْ أَنَّى﴾ من أين ﴿يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾ مع أنَّه فقير راع، أو سقَّاء أو دبَّاغ، من أولاد بنيامين شقيق يوسف، ولم تكن النبوءة ولا الملك في أولاد بنيامين، والنبوءة في أولاد لاوي بن يعقوب، والملك في أولاد يهوذا، ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾ لأنَّا من أولاد لاوي، وأولاد يهوذا وليس هو منهم، لأنَّ من كان من أهل النبوءة ولو كان من غير بيت الملك أولى مِمَّن ليس من أهل الملك ولا من أهل النبوءة، ولأنَّه ضيِّق المال كما قالوا:

13. ﴿وَلَمْ يُوتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ﴾ وسعًا منه، فردَّ الله عليهم بأنَّ المعتبر اصطفاء الله، وقد اصطفاه كما قال: ﴿قَالَ﴾ نبيئهم ﴿إِنَّ اللهَ اَصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾ والله يعلم المصالح، وبأنَّه أعلم منكم جميعًا وأجمل، والأعلم أمكن من معرفة أمور السياسة، وبأنَّه أعظم جسمًا مع قوَّة قلبه بالعلم، فهو أليق بالحروب وأهيب للعدوِّ، كما قال: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ وكان القائم يمدُّ يده فينال رأسه، ويقال: كان أطول من غيره برأسه ومنكبيه، وبأنَّ الله المعطي المانع، وقد أعطاه الملك كما قال: ﴿وَاللهُ يُوتِي مُلْكَهُ مَنْ يَّشَآءُ﴾ وبأنَّ الله واسع الفضل فقد يغنيه، وبأنَّه العالم بمن يليق بالملك كما قال: ﴿وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ولا يضرُّ أنَّه فقير أو دنيُّ الرتبة عندكم، مَلاكُ الأمر اصطفاء الله، وقد اصطفاه، والعمدة وُفور العلم، والملكُ لله فله أن يعطي ملكه من يشاء، وهو واسع الفضل يوسِّع على الفقير فيغنيه، وقدَّم البسطة في العلم على البسطة في الجسم لأنَّ الفضائل النفسانيَّة أشرف من الفضائل الجسمانيَّة.

14. يروى أنَّه لَمَّا مات موسى خلفه يوشع ثمَّ خلفه كالب ثمَّ خلفه حزقيل ثمَّ إلياس ثمَّ اليسع يحكمون بالتوراة، ثمَّ ظهرت عليهم أعداؤهم العمالقة وغلبوا على كثير وسبوا، ولم يكن لهم نبيء يدبِّر أمرهم، وكان سبط النبوءة قد هلكوا إِلَّا امرأة حبلى فولدت غلامًا فسمَّته شمويل سلَّمته للتوراة في بيت المقدس، وكفله شيخ من علمائهم، وَلَمَّا كبر نبَّأه الله، وكان نائمًا عند شيخه فناداه ملك فقال لشيخه: ناديتني؟ فقال له: اذهب نمْ، فكان ذلك مرَّة ثانية، فقال له: إن ناديتك مرَّة ثالثة فلا تجبني، وناداه الملك وقال له: أنت نبيءُ بني إسرائيل، فاخبرهم، فقالوا: عجلت إن صدقت، فابعث لنا ملكًا، فكان أمر طالوت وشمويل، هذا من نسل هارون عليهما السلام، وكان أمرهم يقوم بملك يلي الجموع، وبنبيء يرشده، وَلَمَّا ملَّك شِمويلُ طالوتَ، قال له طالوت: أما علمت أنَّ سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل، وكان من سبط بنيامين بن يعقوب، ولم تكن فيهم نبوءة ولا ملك، وكان دبَّاغًا، وقيل: نسَّاجًا؟ قال: بلى، فقال شمويل: ﴿اللهُ يُوتِي مُلْكَهُ مَنْ يَّشَآءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، وَلَمَّا طلبوا آية ملكه ـ كما شهر وعليه الأكثر، أو لم يطلبوا ـ أنزل الله جوابًا أو تقويةَ ما ذكره عن نبيئهم في قوله: إثبات ملك طالوت واختباره الأتباع وانهزام الفئة الكثيرة أمام الفئة القليلة

15. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيئُهُمُ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَّاتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ فعلوت، مِن تاب بمعنى رجع، فإنَّه إن غاب هو أو ما فيه رجع، ويناسبه أيضًا أنَّه يضع الواضع فيه شيئًا فيرجع إليه، والأصل التوَبوت ـ بفتح الواو ـ قلبت ألفًا، وهذا شأن كلِّ صندوق، والواو والتَّاء بعده زائدان، كرحموت وملكوت، وقيل: فاعول، فالتاء أصل بعد الواو كالتي قبل، وفيه قلَّة اتِّحاد الفاء واللَّام كسلس وقلق.

16. وهو الصندوق الذي جعلت فيه موسى أمُّه، وقيل: صندوق توضع فيه التوراة من شجر السرو، أو شجر الصمغ، مموَّه بالذهب، من ثلاثة أذرع في ذراعين، وفيه صور الأنبياء كلِّهم، أنزله الله على آدم من الجنَّة وتوارثه الأنبياء إلى أن وصل إلى موسى عليه السلام ، وفشَا الزنى في بني إسرائيل حتَّى على قارعة الطريق فسلَّط الله عليهم العمالقة فأخذوه، وجعل الله ردَّه منهم علامة ملك طالوت، وكان بنو إسرائيل يستفتحون به على عدوِّهم ويقدِّمونه في القتال بين أيديهم ويطمئنُّون إليه كما قال: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ﴾ طمأنينة لقلوبكم ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ كان موسى يقدِّمه فلا يفرُّون وتسكن إليه نفوسهم.

17. وقيل: السكينة صورة من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهرَّة وذنبها، وجناحان فتـئنُّ، ويسير التابوت بسرعة نحو العدوِّ ويتبعونه، فإذا استقرَّ ثبتوا وسكنوا ونزل النصر، أخرجه ابن جرير عن مجاهد، قال الراغب: ولا أراه صحيحًا، والتصوير كان حلالاً للأمم ولو لِما فيه روح وبرأسٍ، بل ولو لم يحلَّ لأنَّ هذه من الله؛ ففي التوراة: (لا تعملوا صورًا ولا تعبدوها)، ويقال: كانوا يسيرون بسيره، ويقفون بوقوفه، وإذا سمعوا صوته تيقَّنوا بالنصر، أو التابوت: القلب، والسكينة: ما في القلب من العلم والإخلاص، وإتيانه: مصيرُ [أي تصيير] القلب كذلك بعد أن لم يكن، وهو ضعيف، لأنَّه لا يلائم أنَّه آية ملك طالوت لخفائه، ويروى أنَّه إذا اختلف بنو إسرائيل تحاكموا إليه فيكلِّمهم بالحكم.

18. ﴿وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَارُونَ﴾ عصا موسى تنثني فيه، ونعلاه وثيابه وعمامة هارون، وما تكسَّر من ألواح التوراة حين ألقاها موسى، وقفيز من المنِّ الذي كان ينزل في التيه، والآلَانِ: أبناؤهما، أو أنبياء بني إسرائيل، لأنَّهم أبناء عمِّهما، أو ذكِرا تعظيمًا، والمراد نفس موسى وهارون.

19. ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَآئِكَةُ﴾ بعد أن نزعته من ظهر البقرتين حين قربتا من الوصول، وذلك أنَّه لَمَّا عصى بنو إسرائيل غلبهم جالوت وقومه من العمالقة وأخذوه وجعلوه في موضع البول والغائط، وَلَمَّا أراد الله أن يملك طالوت سلَّط الله عليهم البلاء، وابتلى كلَّ من بال عليه بالبواسير، وهلكت لهم خمس مدائن، فعلموا أنَّ ذلك بسبب التابوت، فحملوه على ثورين فأقبل الثوران ووكَّل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة حتَّى قربا من منزل طالوت حملوه إليه، وقيل: ساقوهما حتَّى أتوا منزله، فسمَّى السَّوْق حملاً، وَلَمَّا سألوه الآية قال لهم نبيئهم: إنَّكم تجدون التابوت في دار طالوت فوجدوه، وقيل: حملته الملائكة ونزلوا به وهم ينظرون حتَّى وضعوه في دار طالوت.

20. ﴿إِنَّ فِي ذَالِكَ لَأَيَةً لَّكُم﴾ على ملك طالوت ﴿إِن كُنتُمْ مُّومِنِينَ﴾ وهذا من كلام نبيئهم، أو خطاب من الله لهم، وَلَمَّا رأوا التابوت أقرُّوا بملكه وتسارعوا إلى الجهاد، واختار من شبَّانهم سبعين ألفًا فارغين من الأشغال ناشطين، وقال لهم: لا يخرج معي مَنْ بَنى بناء لم يتمَّه، أو من شغل بالتجر، أو من تزوَّج بامرأة ولم يبن بها، وقيل: ثمانين ألفًا، وقيل: مائة وعشرين، ومنهم داود على كلِّ الأقوال.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/96.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تمهيد في نسبة قصص القرآن إلى التاريخ، والفرق بينهما، وبيان حال الأمم قبل القرآن وبعده: بدأ محمد عبده تفسير هذه الآية بمقدمة في قصص القرآن جعلها كالتمهيد لتفسيرها، فقال ما مثاله مع إيضاح:

أ. تقدم في تفسير ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ [البقرة: 243] الآية، أن القرآن لم يعين أولئك القوم ولا الزمان ولا المكان اللذين كانوا فيهما ـ يعني على القول بأنها قصة واقعة لا ضرب مثل كما قال عطاء ـ ثم ذكر هاهنا قصة أخرى عن بني إسرائيل، فعيّن القوم، وذكر أنه كان لهم نبي، ولم يذكر اسمه ولا الزمان ولا المكان اللذين حدثت فيهما القصة، ولكنه ذكر بعد ذلك اسم طالوت وجالوت وداود.

ب. يظن كثير من الناس الآن ـ كما ظن كثير ممن قبلهم ـ أن القصص التي جاءت في القرآن يجب أن تتفق مع ما جاء في كتب بني إسرائيل المعروفة عند النصارى بالعهد العتيق أو كتب التاريخ القديمة، وليس القرآن تاريخا ولا قصصا وإنما هو هداية وموعظة، فلا يذكر قصة لبيان تاريخ حدوثها، ولا لأجل التفكه بها أو الإحاطة بتفصيلها، وإنما يذكر ما يذكره لأجل العبرة كما قال: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ وبيان سنن الاجتماع كما قال: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ وقال: (سنة الله التي قد خلت في عباده) وغير ذلك من الآيات.

ج. الحوادث المتقدمة منها ما هو معروف، والله تعالى يذكر من هذا وذاك ما شاء أن يذكر لأجل العبرة والموعظة، فيكتفي من القصة بموضع العبرة ومحل الفائدة، ولا يأتي بها مفصلة بجزئياتها التي لا تزيد في العبرة بل ربما تشغل عنها، فلا غرو أن يكون في هذه القصص التي يعظنا الله بها ويعلمنا سننه ما لا يعرفه الناس؛ لأنه لم يرو ولم يدون بالكتاب، وقد اهتدى بعض المؤرخين الراقين في هذه الأزمنة إلى الاقتداء بهذا، فصار أهل المنزلة العالية منهم يذكرون من وقائع التاريخ ما يستنبطون منه الأحكام الاجتماعية وهو الأمور الكلية، ولا يحفلون بالجزئيات لما يقع فيها من الخلاف الذي يذهب بالثقة، ولما في قراءتها من الإسراف في الزمن والإضاعة للعمر بغير فائدة توازيه، وبهذه الطريقة يمكن إيداع ما عرف من تاريخ العالم في مجلد واحد يوثق به ويستفاد منه، فلا يكون عرضة للتكذيب والطعن، كما هو الشأن في المصنفات التي تستقصي الوقائع الجزئية مفصلة تفصيلا.

د. إن محاولة جعل قصص القرآن ككتب التاريخ بإدخال ما يروون فيها على أنه بيان لها هي مخالفة لسنته، وصرف للقلوب عن موعظته، وإضاعة لمقصده وحكمته، فالواجب أن نفهم ما فيه، ونعمل أفكارنا في استخراج العبر منه، ونزع نفوسنا عما ذمه وقبحه، ونحملها على التحلي بما استحسنه ومدحه، وإذا ورد في كتب أهل الملل أو المؤرخين ما يخالف بعض هذه القصص، فعلينا أن نجزم بأن ما أوحاه الله إلى نبيه ونقل إلينا بالتواتر الصحيح هو الحق وخبره هو الصادق، وما خالفه هو الباطل، وناقله مخطئ أو كاذب، فلا نعده شبهة على القرآن، ولا نكلف أنفسنا الجواب عنه، فإن حال التاريخ قبل الإسلام كانت مشتبهة الأعلام حالكة الظلام، فلا رواية يوثق بها للمعرفة التامة بسيرة رجال سندها، ولا تواتر يعتد به بالأولى، وإنما انتقل العالم بعد نزول القرآن من حال إلى حال، فكان بداية تاريخ جديد للبشر، كان يجب عليهم ـ لو أنصفوا ـ أن يؤرخوا به أجمعين.

2. الذي يسبق إلى الذهن(2) من هذا القول هو أن ما كان من شئون الأمم وسير العالم بعد الإسلام لم ينطمس ولم تذهب الثقة به، ولم ينقطع سند رواته كما كان قبله، وبيان ذلك بالإجمال: أن القرآن قد جاء البشر بهداية جديدة كاملة، كانوا قد استعدوا للاهتداء بها بالتدريج الذي هو سنة الله تعالى فيهم، فكان من عمل المسلمين في حفظ العلم والتاريخ العناية التامة بالرواية ما يقبل منها وما لا يقبل؛ ولذلك ألفوا الكتب في تاريخ الرواة لتعرف سيرتهم، ويتبين الصادق والكاذب منهم، وتعرف الرواية المتصلة والمنقطعة، وبحثوا في الكتب المؤلفة متى يوثق بنسبتها إلى مؤلفيها، وبينوا حقيقة التواتر الذي يفيد اليقين، والفرق بينه وبين ما يشتهر من روايات الآحاد، فبهذه العناية لم ينقطع سند لنوع من أنواع العلم التي وجدت في المسلمين، على أن العناية بعلوم الدين أصولها وفروعها كانت أتم، ثم كان شأن من قفى على آثارهم في العلوم والمعارف بعد ضعف حضارتهم على نحو من شأنهم في التصنيف، وإن كان دونهم في ضبط الرواية ونقدها والأمانة فيها، فلم يضع شيء من العلوم والفنون ولا من الحوادث والوقائع التي جرت في العالم بعد الإسلام، وما اختلف الرواة والمصنفون في جزئياته من تاريخ الإسلام وغيره يسهل تصفيته في جملته، وأخذ المصفى منه؛ لأجل الاعتبار به، وعرفان سنن الاجتماع منه جريا على هدي القرآن فيه.

3. لقد وصل الراقون في مدارج العمران اليوم إلى درجة يسهل عليهم فيها من ضبط جزئيات الوقائع ما لم يكن يسهل على من قبلهم، كاستخدام الكهرباء في نقل الأخبار لمن يدونها في الصحف، وتصوير الوقائع والمعاهد بما يسمونه التصوير الشمسي (فوتغرافيا) وسهولة الانتقال ـ على الكاتبين ـ من مكان إلى مكان، وتأمين الحكام لهم من المخاوف وغير ذلك، وقد اجتمع من هذه الوسائل في الحرب التي كانت في هذين العامين بين دولتي اليابان وروسيا ما لم يجتمع لمدوني التاريخ في غيرها من الحروب ولا غير الحروب من حوادث الزمان، قد كان لأشهر الجرائد الغربية مكاتبون في مواقع الحرب يتبارون في السبق إلى الوقوف على جزئيات الحوادث وإيصالها إلى جرائدهم، كما تفعل شركات البرقيات (التلغرافات) في إنباء المشتركين فيها، وكنا نرى وسائل الفريقين من الخلاف والتناقض ما يتعذر معه العلم بالحقيقة، وكم من رسالة للشركات البرقية ولمكاتبي الجرائد كانت من المسائل المتفق عليها فتبين بعد ذلك كذبها، فهذه آية بينة على أنه لا سبيل إلى الثقة بجزئيات الوقائع التي تحدث في عصرنا ويعنى المؤرخون أشد العناية بضبطها، إلا ما يبلغ رواته المتفقون عليه مبلغ التواتر الصحيح وقليل ما هو، فما بالك بما كان في الأمم الخالية؟

4. جملة القول أن طريقة القرآن في قصص الذين خلوا هي منتهى الحكمة، وما كان لمحمد الأمي الناشئ في تلك الجاهلية الأمية أن يرتقي إليها بفكره وقد جهلها الحكماء في عصره وقبل عصره، ولكنها هداية الله تعالى لعباده أوحاها إلى صفوته منهم صلّى الله عليه وآله وسلم ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ فعلينا وقد ظهرت الآية ووضحت السبيل ألا نلتفت إلى روايات الغابرين في تلك القصص، ولا نعد مخالفتها للقرآن شبهة نبالي بكشفها كما قال محمد عبده روح الله روحه في مقام الرضوان.

5. سؤال وإشكال: إن قصص العهدين العتيق والجديد التي يسمى مجموعها (الكتاب المقدس) هي وحي من الله شهد لها القرآن وهي تعارض بعض قصصه، والجواب:

أ. أولا: إن تلك الكتب ليس لها أسانيد متصلة متواترة.

ب. ثانيا: إن القرآن إنما أثبت أن الله تعالى أعطى موسى عليه السلام التوراة وهي الشريعة، وأن أتباعه قد حفظوا منها نصيبا ونسوا نصيبا، وأنهم حرفوا النصيب الذي أوتوه، وأنه أعطى عيسى عليه السلام الإنجيل ـ وهو مواعظ وبشارة ـ وقال في أتباعه مثل ما قال في اليهود: ﴿فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾، ويجد القارئ تفصيل هذه الحقائق في تفسير سورة آل عمران والمائدة والأعراف بالنقول من تاريخ الفريقين.

6. إن وجه الاتصال بين آيات هذه القصة وما قبلها هو أن الآيات التي قبلها نزلت في شرع القتال لحماية الحقيقة وإعلاء شأن الحق، وبذل المال في هذه السبيل، سبيل الله لعزة الأمم ومنعتها وحياتها الطيبة التي يقع من ينحرف عنها من الأقوام في الهلاك والموت، كما علم من قصة الذين خرجوا من ديارهم فارين من عدوهم على كثرتهم، وهذه القصة ـ قصة قوم من بني إسرائيل ـ تؤيد ما قبلها من حاجة الأمم إلى دفع الهلاك عنها، فهي تمثل لنا حال قوم لهم نبي يرجعون إليه، وعندهم شريعة تهديهم إذا استهدوا، وقد أخرجوا من ديارهم وأبنائهم بالقهر ـ كما خرج أصحاب القصة الأولى بالجبن ـ فعلموا أن القتال ضرورة لا بد من ارتكابها ما دام العدوان في البشر، وبعد هذا كله جبنوا وضعفوا عن القتال فاستحقوا الخزي والنكال، فهذه القصة المفصلة فيها بيان لما في تلك القصة المجملة: فر أولئك من ديارهم فماتوا بذهاب استقلالهم واستيلاء العدو على ديارهم، فالآية هناك صريحة في أن موتهم هذا سبب عن خروجهم فارين بجبنهم، ولم تصرح بسبب إحيائهم الذي تراخت مدته، ولكن ما جاء بعدها من الأمر بالقتال وبذل المال الذي يضاعفه الله تعالى أضعافا كثيرة قد هدانا إلى سنته في حياة الأمم، وجاءت هذه القصة الإسرائيلية تمثل العبرة فيه، وتفصل كيفية احتياج الناس إليه؛ إذ بينت أن هؤلاء الناس احتاجوا إلى مدافعة العادين عليهم واسترجاع ديارهم وأبنائهم من أيديهم، واشتد الشعور بالحاجة حتى طلبوا من نبيهم الزعيم الذي يقودهم في ميدان الجلاد، وقاموا بما قاموا به من الاستعداد، ولكن الضعف كان قد بلغ من نفوسهم مبلغا لم تنفع معه تلك العدة، فتولوا وأعرضوا للأسباب التي أشير إليها، وألهم القليل منهم رشدهم واعتبروا فانتصروا.

7. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ تقدم الكلام على هذا الضرب من الاستفهام في تفسير القصة السابقة لهذه.

8. الملأ: القوم يجتمعون للتشاور، لا واحد له، قاله البيضاوي وغيره، وقال غيرهم: الملأ الأشراف من الناس وهو اسم للجماعة، كالقوم والرهط والجيش، وجمعه أملاء، سموا ملأ لأنهم يملئون العيون رواء والقلوب هيبة.

9. ﴿إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وهذا النبي لم يسمه القرآن، وقال الجلال: هو شمويل، وهذا أقوى أقوال المفسرين، وهو معرب صمويل، أو صموئيل، وقيل: إنه يوشع، وهذا من الجهل بالتاريخ؛ فإن يوشع هو فتى موسى، والقصة حدثت في زمن داود والزمن بينهما بعيد، وبعث الملك عبارة عن إقامته وتوليته عليهم.

10. ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ قرأ نافع وحده ﴿عَسَيْتُمْ﴾ بكسر السين وهي لغة غير مشهورة، والباقون بفتحها وهي اللغة المشهورة، والمعنى هل قاربتم أن تحجموا عن القتال إن كتب عليكم كما أتوقع ـ أو أتوقع منكم الجبن عن القتال إن هو كتب عليكم؟ فعسى للمقاربة أو للتوقع.

11. ﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ أي: أي داع لنا يدعونا إلى ألا نقاتل وقد وجد سبب القتال، وهو إخراجنا من ديارنا بإجلاء العدو إيانا عنها، وإفرادنا عن أولادنا بسبيه إياهم واستعباده لهم؟

12. ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ ذلك أن الأمم إذا قهرها العدو ونكل بها يفسد بأسها، ويغلب عليهاالجبن والمهانة، فإذا أراد الله تعالى إحياءها بعد موتها ينفخ روح الشجاعة والإقدام في خيارها ـ وهم الأقلون ـ فيعملون ما لا يعمل الأكثرون، كما علمت من تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ وما هو منك ببعيد، ولم يكن هؤلاء القوم قد استعد منهم للحياة إلا القليل.

13. قال محمد عبده: وفي الآية من الفوائد الاجتماعية أن الأمم التي تفسد أخلاقها وتضعف، قد تفكر في المدافعة عند الحاجة إليها وتعزم على القيام بها إذا توفرت شرائطها التي يتخيلونها على حد قول الشاعر:

çوإذا ما خلا الجبان بأرض... طلب الطعن وحده والنزالاé

ثم إذا توفرت الشروط يضعفون ويجبنون، ويزعمون أنها غير كافية ليعذروا أنفسهم وما هم بمعذورين.

14. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ الذين يظلمون أنفسهم وأمتهم بترك الجهاد دفاعا عنها وحفظا لحقها، فهو يجزيهم وصفهم فيكونون في الدنيا أذلاء مستضعفين، وفي الآخرة أشقياء معذبين.

15. في تاريخ أهل الكتاب ما يفيد أن بني إسرائيل كانوا في الزمن الذي بعث فيه صموئيل نبيا ملهما قد انحرفوا عن شريعة موسى ونسوها، فعبدوا من دون الله آلهة أخرى، فضعفت رابطتهم الملية، وسلط الله عليهم الفلسطينيين فحاربوهم حتى أثخنوهم فانكسروا، وسقط منهم ثلاثون ألف مقاتل، وأخذوا تابوت عهد الرب منهم، وكان بنو إسرائيل يستفتحون ـ أي: يستنصرون ويطلبون الفتح ـ به على أعدائهم، فلما أخذه أهل فلسطين انكسرت قلوب بني إسرائيل ولم تنهض همتهم لاسترداده، وكانوا إلى ذلك العهد لا ملوك لهم، وإنما كان رؤساؤهم القضاة بالشريعة، ومنهم الأنبياء ومنهم صموئيل كان قاضيا، فلما شاخ جعل بنيه قضاة وكان ولده البكر وولده الثاني من قضاة الجور وأكلة الرشوة، فاجتمع كل شيوخ بني إسرائيل ـ وهم المعبر عنهم في القرآن بالملأ ـ وطلبوا من صموئيل أن يختار لهم ملكا يحكم فيهم كسائر الشعوب، فحذرهم وأنذرهم ظلم الملوك واستعبادهم للأمم، فألحوا فألهمه الله تعالى أن يختار لهم طالوت ملكا، واسمه عندهم شاول فذلك قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾

16. الظاهر أن طالوت تعريب لشاول ـ وإن كان بعيدا منه في اللفظ ـ وقيل: إنه لقب له من الطول، كملكوت من الملك وأمثالها؛ وذلك أنه كان طويلا مشذبا، ففي سفر صموئيل الأول من العهد العتيق (من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب) وفيه (فوقف بين الشعب فكان أطول من كل الشعب من كتفه فما فوق) ـ واعترض بمنع صرفه، وقال محمد عبده عند ذكر طالوت: هو الذي يسمونه (شاول) وقد سماه الله طالوت فهو طالوت، أي أننا لا نعبأ بما في كتبهم لما قدمنا، وإذا علم القارئ أن القوم لا يعرفون كاتب سفري صموئيل الأول والثاني من هو، ولا في أي زمن كتبا، فإنه يسهل عليه ألا يعتد بتسميتهم.

17. أما استنكارهم جعله ملكا فقد صرحوا به، وقالوا: إن منهم من احتقره، ولكن أخبارهم لا تتصل بأسبابها، ولا تقرن بعللها، وقال المفسرون في استنكارهم لملكه وزعمهم أنهم أحق بالملك منه: إنه كان من أولاد بنيامين لا من بيت يهوذا، وهو بيت الملك، ولا من بيت لاوي، وهو بيت النبوة، وفهم بعضهم من قوله ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ أنه كان فقيرا، وقالوا: كان راعيا أو دباغا أو سقاء، ولا يصح كلامهم في بيت الملك؛ لأنه لم يكن فيهم ملوك قبله، ونفيهم سعة المال التي تؤهله للملك في رأي القائلين لا تدل على أنه كان فقيرا، وإنما العبرة في العبارة هي ما دلت عليه من طباع الناس، وهي أنهم يرون أن الملك لا بد أن يكون وارثا للملك، أو ذا نسب عظيم يسهل على شرفاء الناس وعظمائهم الخضوع له، وذا مال عظيم يدبر به الملك، والسبب في هذا أنهم قد اعتادوا الخضوع للشرفاء والأغنياء، وإن لم يمتازوا عليهم بمعارفهم وصفاتهم الذاتية، فبين الله تعالى فيما حكاه عن نبيه في أولئك القوم أنهم مخطئون في زعمهم أن استحقاق الملك يكون بالنسب وسعة المال بقوله: ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ فسروا اصطفاء الله تعالى هنا بوحيه لذلك النبي أن يجعل طالوت ملكا عليهم، ولعله لو كان هذا هو المراد لقال: اصطفاه لكم كما قال: ﴿اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ والمتبادر عندي أن معناه فضله واختاره عليكم بما أودع فيه من الاستعداد الفطري للملك، ولا ينافي هذا كون اختياره كان بوحي من الله؛ لأن هذه الأمور هي بيان لأسباب الاختيار وهي أربعة:

أ. الاستعداد الفطري.

ب. السعة في العلم الذي يكون به التدبير.

ج. بسطة الجسم المعبر بها عن صحته وكمال قواه المستلزم ذلك لصحة الفكر على قاعدة (العقل السليم في الجسم السليم) وللشجاعة والقدرة على المدافعة وللهيبة والوقار)

د. توفيق الله تعالى الأسباب له وهو ما يعبر عنه بقوله: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 247]

18. الاستعداد هو الركن الأول في المرتبة فلذلك قدمه، والعلم بحال الأمة ومواضع قوتها وضعفها وجودة الفكر في تدبير شئونها، هو الركن الثاني في المرتبة، فكم من عالم بحال زمانه غير مستعد للسلطة اتخذه من هو مستعد لها سراجا يستضيء برأيه في تأسيس مملكة أو سياستها، ولم ينهض به رأيه إلى أن يكون هو السيد الزعيم فيها، وكمال الجسم في قواه وروائه هو الركن الثالث في المرتبة، وهو في الناس أكثر من سابقيه، وأما المال فليس بركن من أركان تأسيس الملك؛ لأن المزايا الثلاث إذا وجدت سهل على صاحبها الإتيان بالمال، وإنا لنعرف في الناس من أسس دولة وهو فقير أمي، ولكن استعداده ومعرفته بحال الأمة التي سادها، وشجاعته كانت كافية للاستيلاء عليها والاستعانة بأهل العلم بالإدارة والشجعان على تمكين سلطته فيها.

19. قدم الأركان الثلاثة على الرابع؛ لأنها تتعلق بمواهب الرجل الذي اختير ملكا فأنكر القوم اختياره فهي المقصودة بالجواب، وأما توفيق الله تعالى بتسخير الأسباب التي لا عمل له فيها لسعيه فليس من مواهبه ومزاياه فتقدم في أسباب اختياره، وإنما تذكر تتمة للفائدة وبيانا للحقيقة؛ ولذلك ذكرت قاعدة عامة لا وصفا له، ولله در الشاعر العربي حيث قال في صفات الجدير بالاختيار لزعامة الأمة وقيادتها:

çفقلدوا أمركم لله دركمو رحب... الذراع بأمر الحرب مضطلعا

لا مترفا إن رخاء العيش ساعده... ولا إذا عض مكروه به خشعا

ومنها وليس يشغله مال يثمره عنكم، ولا ولد يبغي له الرفعاé

20. من الناس من يظن أن معنى إسناد الشيء إلى مشيئة الله تعالى هو أن الله تعالى يفعله بلا سبب ولا جريان على سنة من سننه في نظام خلقه، وليس كذلك فإن كل شيء بمشيئة الله تعالى: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾: أي: بنظام وتقدير موافق للحكمة ليس فيه جزاف ولا خلل، فإيتاؤه الملك لمن يشاء بمقتضى سنته إنما يكون بجعله مستعدا للملك في نفسه، وبتوفيق الأسباب لسعيه في ذلك؛ أي: هو بالجمع بين أمرين: أحدهما في نفس الملك، والآخر في حال الأمة التي يكون فيها، وفي الأحاديث المشهورة على ألسنة العامة (كما تكونون يولى عليكم) قال في الدرر المنتثرة رواه ابن جميع في معجمه من حديث أبي بكرة، والبيهقي في الشعب من حديث يونس بن إسحاق عن أبيه مرفوعا ثم قال: هذا منقطع، وفي كنز العمال أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي بكرة والبيهقي عن أبي إسحاق السبيعي مرسلا.

21. نعم إذا أراد الله إسعاد أمة جعل ملكها مقويا لما فيها من الاستعداد للخير، حتى يغلب خيرها على شرها، فتكون سعيدة، وإذا أراد إهلاك أمة جعل ملكها مقويا لدواعي الشر فيها حتى يتغلب شرها على خيرها، فتكون شقية ذليلة، فتعدوا عليها أمة قوية، فلا تزال تنقصها من أطرافها، وتفتات عليها في أمورها، أو تناجزها الحرب حتى تزيل سلطانها من الأرض، يريد الله تعالى ذلك فيكون بمقتضى سننه في نظام الاجتماع، فهو يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، بعدل وحكمة، لا بظلم ولا عبث؛ ولذلك قال: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾، وقال: ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ فالمتقون في هذا المقام ـ مقام استعمار الأرض والسيادة في الممالك ـ هم الذين يتقون أسباب خراب البلاد وضعف الأمم، وهي الظلم في الحكام، والجهل وفساد الأخلاق في الدولة والأمة، وما يتبع ذلك من التفرق والتنازع والتخاذل، والصالحون في هذا المقام هم الذين يصلحون لاستعمار الأرض وسياسة الأمم بحسب استعدادها الاجتماعي.

22. أطلت في بيان معنى مشيئة الله تعالى في إتيان الملك؛ لأنني أرى عامة المسلمين يفهمون من مثل عبارة الآية في إيجازها أن الملك يكون للملوك بقوة إلهية هي وراء الأسباب والسنن التي يجري عليها البشر في أعمالهم الكسبية، وهذا الاعتقاد قديم في الأمم الوثنية، وفي معناه عبارة في كتب النصرانية، وبه استعبد الملوك الناس الذين يظنون أن سلطتهم شعبة من السلطة الإلهية، وأن محاولة مقاومتهم هي كمحاولة مقاومة الباري سبحانه وتعالى والخروج عن مشيئته.

23. كان محمد عبده أوجز في الدرس بتفسير قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ إذ جاء في آخره، وقد كتبت في مذكرتي عنه (أي: أنه سنة في تهيئة من يشاء للملك) ومثل هذا الإجمال لا يعقله إلا من جمع بين الآيات الكثيرة في إرث الأرض وفي هلاك الأمم وتكونها، والآيات الواردة في أن له تعالى في البشر سننا لا تتبدل ولا تتحول وقد ذكرنا بعضها، ومنها قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ فحالة الأمم في صفات أنفسها ـ وهي عقائدها ومعارفها وأخلاقها وعاداتها ـ هي الأصل في تغير ما بها من سيادة أو عبودية وثروة أو فقر، وقوة أو ضعف، وهي هي التي تمكن الظالم من إهلاكها، والغرض من هذا البيان أن نعلم أنه لا يصح لنا الاعتذار بمشيئة الله عن التقصير في إصلاح شئوننا اتكالا على ملوكنا؛ فإن مشيئته تعالى لا تتعلق بإبطال سنته تعالى وحكمته في نظام خلقه، ولا دليل في الكتاب والسنة ولا في العقل ولا في الوجود على أن تصرف الملوك في الأمم هو بقوة إلهية خارقة للعادة، بل شريعة الله تعالى وخليقته شاهدتان بضد ذلك ﴿فاعتبروا ياأولي الأبصار﴾

24. ثم ختم الآية بقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ على طريقة القرآن في التنبيه على الدليل بعد الحكم والتذكير بأسمائه الحسنى وآثارها؛ أي: واسع التصرف والقدرة، إذا شاء أمرا اقتضته حكمته في نظام الخليقة فإنه يقع لا محالة، عليم بوجوه الحكمة فلا يضع سننه في استحقاق الملك عبثا، ولا يترك أمر العباد في اجتماعهم سدى، بل وضع لهم من السنن الحكيمة ما هو منتهى الإبداع والإتقان، وليس في الإمكان أبدع مما كان.

25. هذا وقد جرى المفسرون على أن وجوه الرد على منكري جعل طالوت ملكا أربعة، وأحسن عبارة لهم على اختصارها عبارة البيضاوي قال: لما استبعدوا تملكه لفقره وسقوط نسبه رد عليهم ذلك:

أ. أولا: بأن العمدة فيه اصطفاء الله تعالى، وقد اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم.

ب. ثانيا: بأن الشروط فيه؛ وفور العلم ليتمكن من معرفة الأمور السياسية، وجسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب، وأقوى على مقاومة العدو ومكابدة الحروب لا ما ذكرتم، وقد زاده الله فيها، وقد كان الرجل القائم يمد يده فينال رأسه.

ج. ثالثا: بأنه تعالى مالك الملك على الإطلاق فله أن يؤتيه من يشاء.

د. رابعا: بأنه ﴿وَاسِعُ﴾ الفضل يوسع الفضل على الفقير ويغنيه ﴿عَلِيمٌ﴾ بمن يليق بالملك وغيره.

26. فجعلوا الأول بمعنى الثالث، وجعلوا مزية العقل ومزية البدن شيئا واحدا وهما شيئان، وأجملوا القول في المشيئة حتى إن المتوهم ليتوهم أن ذلك يكون بعناية غيبية لا بسنة إلهية، وجعلوا كونه تعالى واسعا عليما وجها خاصا، ولا أحفظ عن محمد عبده في الأول شيئا، ورأيه في مشيئة الله تعالى هنا ما تقدم آنفا، وقد فسر (الواسع) بواسع التصرف والقدرة، وهو يتفق مع قولهم واسع الفضل، وقال في تفسير ﴿عَلِيمٌ﴾ عليم بوجوه الاختيار ومن يستحق الملك.

27. قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ يدل على أن بني إسرائيل لم يقتنعوا بما احتج به عليهم نبيهم من استحقاق طالوت الملك بما اختاره الله وأعده له باصطفائه، وإيتائه من سعة العلم وبسطة الجسم ما يمكنه من القيام بأعبائه، حتى جعل لذلك آية تدلهم على العناية به، وهي عود التابوت إليهم.

28. هذا التابوت المعرف: صندوق له قصة معروفة في كتب اليهود، ففي أول الفصل الخامس والعشرين من سفر الخروج ما نصه: (وكلم الرب موسى قائلا: كلم بني إسرائيل أن يأخذوا لي تقدمة من كل من بحثه قلبه تأخذون تقدمتي، وهذه هي التقدمة التي تأخذونها منهم ذهب وفضة ونحاس وأسمانجوني وأرجون وقرمز وبوص وشعر معزى وجلود كباش محمرة وجلود تخس وخشب سنط وزيت للمنارة وأطياب لدهن المسحة، وللبخور العطر، وحجارة جزع وحجارة ترصيع للرداء والصدرة، فيصنعون لي مقدسا لأسكن في وسطهم بحسب جميع ما أنا أريك من مثال المسكن ومثال جميع آنيته، هكذا تصنعون فيصنعون تابوتا من خشب السنط طوله ذراعان ونصف، وعرضه ذراع ونصف، وارتفاعه ذراع ونصف، وتغشيه بذهب نقي، من داخل وخارج تغشيه، وتصنع عليه إكليلا من ذهب حواليه، وتسبك له أربع حلقات من ذهب وتجعلها على قوائمه الأربع، على جانبه الواحد حلقتان وعلى جانبه الثاني حلقتان، وتصنع عصوين من خشب السنط وتغشيهما بذهب، وتدخل العصوين في الحلقات على جانبي التابوت ليحمل التابوت بهما، تبقى العصوان في حلقة التابوت لا تنزعان منها، وتضع في التابوت والشهادة التي أعطيك، وتصنع غطاء من ذهب نقي طوله ذراعان ونصف وعرضه ذراع ونصف، وتصنع كروبين من ذهب صنعة خراطة تصنعهما على طرفي الغطاء، فاصنع كروبا واحدا على الطرف من هنا، وكروبا آخر على الطرف من هناك، من الغطاء تصنعون الكروبين على طرفيه، ويكون الكروبان باسطين أجنحتهما إلى فوق، مظللين بأجنحتهما على الغطاء ووجهاهما كل واحد إلى الآخر نحو الغطاء يكون وجها الكروبين، وتجعل الغطاء على التابوت من فوق، وفي التابوت تضع الشهادة التي أنا أعطيك)

29. هذا ما ورد في صفة الأمر بصنع ذلك التابوت الديني، وذكر بعده كيفية صنع المائدة الدينية وآنيتها والمسكن والمذبح وخيمة العهد ومنارة السراج والثياب المقدسة، ثم فصل في الفصل 27 منه كيف كان صنع هذا التابوت والمائدة والمنار ومذبح البخور، وهي غرائب يعدها عقلاء هذه العصور ألاعيب، والحكمة فيها ـ والله أعلم ـ أن بني إسرائيل كانوا ـ وقد استعبدهم وثنيو المصريين أحقابا ـ قد ملكت قلوبهم عظمة تلك الهياكل الوثنية، وما فيها من الزينة والصنعة التي تدهش الناظر، وتشغل الخاطر، فأراد الله تعالى أن يشغل قلوبهم عنها بمحسوسات من جنسها تنسب إليه سبحانه وتعالى وتذكر به، فالتابوت سمي أولا تابوت الشهادة؛ أي: شهادة الله سبحانه، ثم تابوت الرب وتابوت الله، كذلك أضيف إلى الله تعالى كل شيء صنع للعبادة، وهذا مما يدل على أن تلك الديانة ليست دائمة، فلا غرو إذا نسخ الإسلام كل هذا الزخرف والصنعة من المساجد التي يعبد فيها الله تعالى حتى لا يشتغل المصلي عن مناجاة الله بشيء منها، وما كلفه ذلك الشعب الذي وصفته كتبه المقدسة بأنه صلب الرقبة أو كما تقول العرب (عريض القفا) على قرب عهده بالوثنية وإحاطة الشعوب الوثنية به من كل جانب لا يليق بحال البشر في طور ارتقائهم؛ إذ لا يربى الرجل العاقل بمثل ما يربى به الطفل أو اليافع، وفي سائر فصول سفر الخروج الثلاثة تفصيل لما قدمه بنو إسرائيل لصنع تلك الدار التي يقدس فيها الله، ولصنع الخيمة والتابوت وغير ذلك، وغرضنا منها معرفة حقيقة التابوت عندهم، فإنك لتجد في بعض كتب التفسير وكتب القصص عندنا أقوالا غريبة عنه، منها أنه نزل مع آدم من الجنة، ومنشأ تلك الأقوال ما كان ينبذ به الإسرائيليون من القصص بين المسلمين مخادعة لهم، ليكثر الكذب في تفسيرهم للقرآن فيضلوا به، ويجد رؤساء اليهود مجالا واسعا للطعن في القرآن يصدون به قومهم عنه.

30. في آخر فصول سفر الخروج أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وضع اللوحين اللذين فيهما شهادة الله ـ أي: وصاياه ـ لبني إسرائيل في التابوت، وفي كتبهم الأخرى أنه كان بعده عند فتاه يشوع ـ أي: يوشع ـ وأنهم كانوا يستنصرون بهذا التابوت، فإذا ضعفوا في القتال وجيء به وقدموه تثوب إليهم شجاعتهم، وينصرهم الله تعالى، أي ينصرهم بتلك الشجاعة التي تتجدد لهم بإحضار التابوت لا بالتابوت نفسه ولذلك غلبوا على التابوت فأخذ منهم عندما ضعف يقينهم وفسدت أخلاقهم، فلم يغن عنهم التابوت شيئا كما قال محمد عبده.

31. في سفر تثنية الاشتراع 4 ـ 3 (أن موسى لما كمل كتابة هذه التوراة أمر اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلا: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون شاهدا عليكم)، ثم كانت حرب بين الفلسطينيين وبني إسرائيل على عهد عاليا أو عالي الكاهن، فانتصر الفلسطينيون وأخذوا التابوت من بني إسرائيل بعد أن نكلوا بهم تنكيلا فمات عالي قهرا، وكان صموئيل ـ الذي يدعى في الكتب العربية شمويل ـ قاضيا لبني إسرائيل من بعده، وهو نبيهم الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكا ففعل كما تقدم، وجعل رجوع التابوت إليهم آية لملك طالوت الذي أقامه لهم، وقالوا في سبب إتيان التابوت: إن أهل فلسطين ابتلوا بعد أخذ التابوت بالفيران في زرعهم والبواسير في أنفسهم، فتشاءموا منه، وظنوا أن إله إسرائيل انتقم منهم فأعادوه على عجلة تجرها بقرتان، ووضعوا فيه صور فيران وصور بواسير من الذهب جعلوا كفارة لذنبهم، ومن المدون في التاريخ المقدس عندهم أنه لما أحرق البابليون هيكل سليمان فقدت التوراة وتابوت العهد معا لأنهما قد أحرقا فيه.

32. أما قوله تعالى في التابوت: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ فقد كثرت فيه الروايات، ومنها ما لا يدل عليه نقل ولا يقبله عقل، على أنها متعارضة لا يمكن الجمع بينها كما ترى في تفسير ابن جرير وهو أم التفاسير.

33. أوردنا ما أوردنا من كتب اليهود ليعلم أن أكثر ما ذكر عن التابوت وعما فيه من الغرائب لا أصل له في تلك الكتب، وإنما وحي الله تعالى ناطق بأن فيه سكينة، والسكينة في اللغة ما تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب، وفي إتيان الصندوق سكينة لا تخفى لما كان له من الشأن الديني عند القوم، أو فيه ما يحدث لهم سكينة وهي الفيران والبواسير الذهب التي تدل على خوف العدو، أو الألواح أو رضاضتها، وهي هي البقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وروي عن عطاء نحو ما قلناه، قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالحق في معنى السكينة ما قاله عطاء بن أبي رباح من أنها الشيء تسكن إليه النفوس من الآيات.

34. قوله تعالى: ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ يحتمل وجهين:

أ. أحدهما أن المراد بالملائكة صور الكروبين وقد حمل التابوت؛ أي: وضع عليهما كما تقول في وصف القصور والتماثيل المصنوعة: فيها فلان على فرس من نحاس، تريد تمثال الملك وتمثال الفرس.

ب. وثانيهما: أن البقرتين اللتين حملتا التابوت من بعض بلاد الفلسطينيين إلى بني إسرائيل كانتا تسيران مسخرتين بإلهام الملائكة، وفي كتب القوم أن البقرتين اللتين جرتا عجلة التابوت لم يكن لهما قائد ولا سائق، وما يجري بإلهام لا كسب فيه للبشر وهو من الخير يسند إلى إلهام الملائكة، روى نحو هذا ابن جرير قال: حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: وكل بالبقرتين اللتين سارتا بالتابوت أربعة من الملائكة يسوقونهما إلخ.

35. ختم الآية بقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ قالوا:

أ. يحتمل أن يكون هذا تتمة كلام بني بني إسرائيل لهم، أي إن في مجيء التابوت علامة أو حجة لكم تدل على عناية الله بكم، واصطفائه لكم هذا الملك الذي ينهض بشئونكم وينكل بأعدائكم، فعليكم أن ترضوا بملكه ولا تفرقوا عنه.

ب. ويحتمل أن يكون استئناف كلام منه تعالى لهذه الأمة، معناه أن فيما أوحاه الله تعالى إلى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم من هذه القصة آية بينة على ثبوته؛ إذ لولا الوحي لما كان يعرفها وهو الأمي الذي لم يقرأ ولم يتعلم شيئا، ولا كان يعرف ما انطوت عليه من العبرة والفائدة، ولا سيما ما يعتبر في الملوك من الصفات التي تؤهلهم للقيام بأعباء السياسة وأعمال الرياسة، وإنما يكون ذلك آية بينة وعبرة نافعة لمن يؤمن بالله وآياته التي تؤيد بها أنبياءه ورسله عليهم السلام؛ لذلك قيدها بالشرط الذي حذف جوابه لدلالة الكلام عليه.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/471.

(2) الكلام هنا وما بعده لمحمد رشيد رضا

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن ذكر سبحانه في الآيات التي قبل هذه شرع القتال لحماية الحق وبذل المال في سبيل الله لعزة الأمة ومنعتها، وأن من ينحرف عن ذلك يتردى في مهاوى الردى كما وقع لمن خرجوا من ديارهم فارّين من عدوهم على كثرة عددهم، هنا بين قصة قوم من بنى إسرائيل أخرجوا من ديارهم وأبنائهم بالقهر، كما خرج أصحاب القصة الأولى بالجبن واستحقوا الخزي والنكال، لكن جاءت هذه القصة مفصلة تبين ما في القصة الأولى المجملة، فإن الأولى تصرح بأن موتهم كان بذهاب استقلالهم، وأنه نتيجة لفرارهم وضعف عزيمتهم، لكن لم يذكر سبب إحيائهم وإن كان قد فهم مما جاء بعدها من الأمر بالقتال وبذل المال أن هذا هو سنة الله في إحياء الأمم، أما هذه القصة فقد فصلت احتياج هؤلاء القوم إلى القتال لمدافعة العادين عليهم، واسترجاع ديارهم من أيديهم، فبذلوا الوسع في الاستعداد للدفاع، لكن الضعف قد بلغ منهم كل مبلغ، فتولوا وأعرضوا عن القتال إلا قليلا منهم، ألهمهم الله رشدهم فاعتبروا وانتصروا.

2. جاء قصص القرآن للعبرة والموعظة كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ ومن ثم لم يذكر إلا ما تمس الحاجة إليه من الفائدة، أما ذكر التفاصيل والجزئيات فربما شغل عن ذلك ـ إلى ما فيها من خلاف ربما يذهب الثقة بها، ومن قبل هذا اقتدى كثير من المؤرخين في العصر الحديث بطريق القرآن فلا يذكرون إلا الأمور الكلية، ولا يحفلون بالجزئيات، مع توافر أسباب ضبطها ونقل أخبارها بتصوير الوقائع والأماكن، وسهولة الانتقال من مكان إلى مكان، وإنك لترى في ذكر أخبار الحروب في العصر الحاضر التناقض الواضح في رسائل الفريقين المختصمين فيها، مما يرفع الثقة بها.

3. إذا جاء في كتب بنى إسرائيل المعروفة عند النصارى بالعهد العتيق، أو في كتب التاريخ القديمة ما يخالف ما في القرآن في باب القصص، فعلينا ألا نحفل به ولا نكلف أنفسنا الجواب عنه، فحال التاريخ قبل الإسلام كانت حالكة الظلام، فلا يوثق إذ ذاك برواية، كما أن الكتب الدينية ليست لها أسانيد متواترة، وقد صرح القرآن بأن أتباع موسى نسوا حظّا مما ذكروا به، وحفظوا نصيبا وهذا الذي حفظوه حرفوه، وأن أتباع عيسى فعلوا مثل ما فعل أصحاب موسى، فلا ثقة بما جاء في قصص العهدين العتيق والجديد مما يسمى مجموعه الكتاب المقدس.

4. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ أي ألم ينته إلى علمك قصص هؤلاء الملأ من بنى إسرائيل من بعد موسى في عصر داوود عليه السلام، وكان بينهما زمان طويل.

5. ﴿إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي قالوا لنبيهم شمويل، أقم لنا أميرا نصدر عن رأيه في تدبير الحرب، وتنتظم به كلمتنا، وكان دأب بنى إسرائيل أن يقوم أمرهم بملك يجتمعون عليه، يجاهد الأعداء ويجرى الأحكام، ونبيّ يطيعه الملك؛ ويقيم أمر دينهم، ويأتيهم بالخير من ربهم.

6. ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ أي هل أتوقع منكم الجبن عن القتال إن كتب عليكم؟ ﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ أي أيّ سبب يدعونا إلى ترك القتال، وقد عرض لنا ما يوجبه إيجابا قويا بإخراجنا من ديارنا وأوطاننا واغترابنا عن أهلنا وأولادنا؟

7. ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ أي فلما فرض عليهم القتال بعد سؤال النبي ذلك وبعث الملك ـ أعرضوا وتخلفوا عن الجهاد وضيعوا أمر الله بعد مشاهدة العدوّ وشوكته، إلا قليلا منهم عبروا النهر مع طالوت واقتصروا على الغرفة كما سيأتي بعد، ذاك أن الأمم إذا قهرها العدو تهن قوّتها ويغلب عليها الجبن وتلبس ثوب الذل والمسكنة، فإذا أراد الله إحياءها بعد موتها نفخ روح الشجاعة والإقدام في خيارها وهم الأقلون، فيعملون ما لا يعمله الأكثرون.

8. في الآية من العبرة والفوائد الاجتماعية ـ أن الأمم حين الضعف قد تفكر في الدفاع حين الحاجة إليه، وتعزم على القيام به إذا توافرت الشرائط التي يتخيلونها كما قال:

çوإذا ما خلا الجبان بأرض‏...طلب الطعن وحده والنزالاé

فإذا توافرت لهم ضعفوا وجبنوا وزعموا أن ما هم عليه من القوة غير كاف لمقاومة الأعداء، والتمسوا لأنفسهم المعاذير، وأكثروا من التعللات الواهية.

9. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ أي بالذين يظلمون أنفسهم وأمتهم بترك الجهاد دفاعا عنها، وحفظا لحقوقها، فيصبحون في الدنيا أذلاء مستضعفين، وفي الآخرة أشقياء معذبين، وفي هذا وعيد لأمثالهم لا يخفى.

10. ﴿قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً﴾ روى في أخبار بنى إسرائيل أن الإسرائيليين في الزمن الذي بعث فيه صموئيل نبيا لهم، كانوا قد انحرفوا عن شريعتهم، وعبدوا الأصنام والأوثان، وضعفت فيهم الرابطة الدينية، فسلط الله عليهم أهل فلسطين، فأثخنوهم وقتلوا منهم العدد الكثير، وأخذوا تابوت عهد الرب، وكانوا من قبل يستفتحون به (يطلبون الفتح والنصر به) على أعدائهم ففترت هممهم واستكانوا وذلوا، ولم يكن لهم إلى ذلك العهد ملوك، بل رؤساؤهم وقضاتهم رجال الدين، ومن بينهم أنبياؤهم، ومن هؤلاء صموئيل فقد كان قاضيا، ولما كبرت سنه جعل بنيه قضاة، فكانوا من قضاة الجور وأكلة الرّشا، فاجتمع شيوخ بنى إسرائيل الذين عبر عنهم القرآن بالملإ، وطلبوا من صمويل أن يختار لهم ملكا يحكم فيهم كبقية الشعوب الأخرى، فحذرهم وأنذرهم ظلم الملوك واستعبادهم للأمم فألحوا، فألهمه الله أن يختار لهم شاول ملكا.

11. ﴿قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ أي كيف يملّك علينا وهو لا يستحق هذا التملك؟ لأن هناك من هو أحق به منه، ولأنه لا يوجد لديه ما يتوقف عليه الملك وهو المال، ولأنه ليس من سلائل الملوك ولا من سلائل النبوّة، وقد كان الملك في سبط يهوذا بن يعقوب لا يتجاوزه إلى غيره ومنهم داوود وسليمان، وكانت النبوة في سبط لاوي بن يعقوب، ومنه موسى وهارون.

12. جرت العادة عند الناس أن الملك لا بد أن يكون وارثا للملك أو ذا نسب‏ شريف يسهل على عظماء الناس أن يخضعوا له، وأن يكون ذا مال كثير يدبر به الملك ولا يأبهون بمعارفه وصفاته الذاتية وفضائله وأخلاقه، من أجل هذا بيّن الله فيما حكاه عن نبيه خطأ هؤلاء القوم في زعمهم أن الملك لا يستحق إلا بالنسب وسعة المال فقال: ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ أي قال لهم نبيهم: إن الله اختاره ملكا عليكم لما فيه من المزايا الآتية:

أ. الاستعداد الفطري وهو في المنزلة الأولى من الأهمية، ومن ثم قدمه.

ب. السعة في العلم الذي يكون به التدبير، ومعرفة مواطن ضعف الأمة وقوتها وجودة الفكر في تدبير شئونها.

ج. بسطة الجسم وكمال قواه المستلزمة لصحة الفكر، فقد جاء في أمثالهم: العقل السليم في الجسم السليم، وللشجاعة والقدرة على المدافعة والهيبة والوقار.

د. توفيق الله تعالى له بتسخير الأسباب التي لا عمل له فيها، وهذا ما عناه سبحانه بقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾

13. أما المال فليس بلازم في تأسيس الملك، لأنه متى وجدت الأسباب سهل على صاحبها إيجاد المال اللازم لتدبير الملك، فكم في الناس من أسس دولة وهو فقير أمي وكان استعداده ومعرفته بحال الأمة التي سادها كافيا في الاستيلاء عليها، واستعانته بأهل العلم والشجاعة كافيا في تمكين سلطته فيها.

14. ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أي والله واسع التصرف والقدرة، إذا شاء أمرا اقتضته حكمته في نظام الخليقة فإنه يقع لا محالة، عليم بوجوه الحكمة، فهو يضع لهم من السنن والنظم ما هو في منتهى الإبداع والإتقان، وليس في الإمكان أبدع مما كان.

15. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: 248] الآية: العلامة، والتابوت: صندوق وضعت فيه التوراة، أخذه العمالقة ثم ردّ إلى بنى إسرائيل؛ وفي سفر تثنية الاشتراع: أن موسى لما أكمل كتابة هذه التوراة أمر اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلا: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون شاهدا عليكم، ثم كانت حرب بين الفلسطينيين وبنى إسرائيل على عهد عالي الكاهن انتصر فيها الفلسطينيون، وأخذوا التابوت من بنى إسرائيل ونكّلوا بهم تنكيلا، فمات‏ عالي كمدا، وكان صموئيل أو شمويل قاضيا لبنى إسرائيل من بعده وهو نبيهم الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكا ففعل، وجعل رجوع التابوت إليهم آية لملك طالوت الذي أقامه لهم، والسكينة: ما تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب.

16. في هذه الآيات تفصيل لما جرى بين النبي وقومه من الأقوال والأفعال، إثر الإشارة الجملية يبين مصير حالهم، ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ أي وقال لهم نبيهم: إن من علامة عناية الله بطالوت عود التابوت إليكم، وفيه ما تطمئن به قلوبكم (وقد كان له عندهم شأن ديني خاص) وفيه بقية من رضاضة الألواح (فتاتها) وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة وأشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون، وقد أضيف إلى آل موسى وآل هارون، لأنه قد تناولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت.

17. في صدور هذا القول من النبي دليل على أن بنى إسرائيل لم يقنعوا بما احتج به عليهم من استحقاق طالوت للملك للأسباب المتقدمة، ومن ثم جعل لهم علامة أخرى تدل على عناية ربه به.

18. وصف التابوت في كتب بنى إسرائيل بأوصاف هي غاية في الغرابة في كيفية صنعه وجمال منظره، وما تحلّى به من الذهب ودخل في تركيبه من الخشب الثمينة، والسبب في صنعه أن المصريين الوثنيين استعبدوا الإسرائيليين دهرا طويلا، فملكت قلوب بنى إسرائيل عظمة الهياكل الوثنية، وما فيها من الزينة وجمال الصنعة، فأراد الله أن يشغل قلوبهم عنها بمحسوسات من جنسها تنسب إليه وتذكّر به وقد سمى التابوت أولا تابوت الشهادة: أي شهادة الله سبحانه، ثم تابوت الربّ، وتابوت الله، وقد جاء الإسلام بمنع الزخارف والزينة في المساجد وبيوت العبادة، حتى لا بشغل المصلى شيء منها عن مناجاة ربه، ولكن وا أسفا قلّد المسلمون أرباب الملل الأخرى في الزّخرف والنقش في المساجد والمنابر، وأقيمت الأضرحة، ولبس رجال الدين مثل لباسهم، بل سبقوهم في كثير من ذلك، فأصبحت المساجد كأنها هياكل ومعابد للوثنيين، ونسوا أو تناسوا الحكمة التي لأجلها امتنع المسلمون في الصدر الأول عن تجميلها، وفرشها بالطنافس وعمل الحلي فيها، وصدق فيهم ما جاء في الأثر: (لتتّبعنّ سنن من قبلكم باعا فباعا حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه)

19. ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ قيل إن البقرتين اللتين حملتا التابوت وجرّتا العجلة (العربية) من بعض بلاد فلسطين إلى بنى إسرائيل كانتا تسيران مسخّرتين بإلهام الملائكة وحراستهم، ولم يكن لهما قائد ولا سائق، وقد جرت العادة بأن ما يحدث بإلهام ولا كسب فيه للبشر وهو من الخير يسند إلى إلهام الملائكة، وقالوا في سبب إتيان التابوت: إن أهل فلسطين ابتلوا بعد أخذ التابوت بالفيران في زرعهم، والبواسير في أنفسهم فتشاءموا منه، وظنوا أن إله إسرائيل انتقم منهم، فأعادوه على عجلة تجرها بقرتان، ووضعوا فيه صور فيران وصور بواسير من الذهب، جعلوا ذلك كفارة لذنبهم.

20. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي إن في مجيء التابوت علامة على عناية الله بكم، واصطفائه لكم هذا الملك الذي ينهض بشئونكم، وينكل بعدوكم، فعليكم أن ترضوا بملكه، ولا تتفرقوا عنه، بل عاونوه يرق بكم إلى مراقي السعادة والفلاح.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/215.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. القصة الثانية تجربة في حياة بني إسرائيل من بعد موسى.. بعد ما ضاع ملكهم، ونهبت مقدساتهم، وذلوا لأعدائهم، وذاقوا الويل بسبب انحرافهم عن هدي ربهم، وتعاليم نبيهم.. ثم انتفضت نفوسهم انتفاضة جديدة؛ واستيقظت في قلوبهم العقيدة؛ واشتاقوا القتال في سبيل الله، فقالوا ﴿لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، ومن خلال هذه التجربة ـ كما يعرضها السياق القرآني الموحي ـ تبرز جملة حقائق، تحمل إيحاءات قوية للجماعة المسلمة في كل جيل، فضلا على ما كانت تحمله للجماعة المسلمة في ذلك الحين:

أ. العبرة الكلية التي تبرز من القصة كلها هي أن هذه الانتفاضة ـ انتفاضة العقيدة ـ على الرغم من كل ما اعتورها أمام التجربة الواقعة من نقص وضعف، ومن تخلي القوم عنها فوجا بعد فوج في مراحل الطريق ـ على الرغم من هذا كله فإن ثبات حفنة قليلة من المؤمنين عليها قد حقق لبني إسرائيل نتائج ضخمة جدا.. فقد كان فيها النصر والعز والتمكين، بعد الهزيمة المنكرة، والمهانة الفاضحة، والتشريد الطويل والذل تحت أقدام المتسلطين، ولقد جاءت لهم بملك داوود، ثم ملك سليمان ـ وهذه أعلى قمة وصلت إليها دولة بني إسرائيل في الأرض، وهي عهدهم الذهبي الذي يتحدثون عنه؛ والذي لم يبلغوه من قبل في عهد النبوة الكبرى.. وكان هذا النصر كله ثمرة مباشرة لانتفاضة العقيدة من تحت الركام؛ وثبات حفنة قليلة عليها أمام جحافل جالوت! وفي خلال التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية؛ كلها ذات قيمة للجماعة المسلمة في كل حين:

ب. من ذلك.. أن الحماسة الجماعية قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها، فيجب أن يضعوها على محك التجربة قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة.. فقد تقدم الملأ من بني إسرائيل ـ من ذوي الرأي والمكانة فيهم ـ إلى نبيهم في ذلك الزمان، يطلبون إليه أن يختار لهم ملكا يقودهم إلى المعركة مع أعداء دينهم، الذين سلبوا ملكهم وأموالهم ومعها مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون، فلما أراد نبيهم أن يستوثق من صحة عزيمتهم على القتال، وقال لهم ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ استنكروا عليه هذا القول، وارتفعت حماستهم إلى الذروة وهم يقولون له: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾.. ولكن هذه الحماسة البالغة ما لبثت أن انطفأت شعلتها، وتهاوت على مراحل الطريق كما تذكر القصة؛ وكما يقول السياق بالإجمال: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾.. ومع أن لبني إسرائيل طابعا خاصا في النكول عن العهد، والنكوص عن الوعد، والتفرق في منتصف الطريق.. إلا أن هذه الظاهرة هي ظاهرة بشرية على كل حال، في الجماعات التي لم تبلغ تربيتها الإيمانية مبلغا عاليا من التدريب.. وهي خليقة بأن تصادف قيادة الجماعة المسلمة في أي جيل.. فيحسن الانتفاع فيها بتجربة بني إسرائيل.

ج. ومن ذلك أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الفائر في نفوس الجماعات ينبغي أن لا يقف عند الابتلاء الأول.. فإن كثرة بني إسرائيل هؤلاء قد تولوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم، ولم تبق إلا قلة مستمسكة بعهدها مع نبيها، وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت بعد الحجاج والجدال حول جدارته بالملك والقيادة، ووقوع علامة الله باختياره لهم، ورجعة تابوتهم وفيه مخلفات أنبيائهم تحمله الملائكة..! ومع هذا فقط سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى، وضعفوا أمام الامتحان الأول الذي أقامه لهم قائدهم، ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾.. وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية، فأمام الهول الحي، أمام كثرة الأعداء وقوتهم، تهاوت العزائم وزلزلت القلوب: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ [البقرة: 249].. وأمام هذا التخاذل ثبتت الفئة القليلة المختارة.. اعتصمت بالله ووثقت، وقالت ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.. وهذه هي التي رجحت الكفة، وتلقت النصر، واستحقت العز والتمكين.

د. في ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة.. وكلها واضحة في قيادة طالوت، تبرز منها خبرته بالنفوس؛ وعدم اغتراره بالحماسة الظاهرة، وعدم اكتفائه بالتجربة الأولى، ومحاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس جنوده قبل المعركة، وفصله للذين ضعفوا وتركهم وراءه.. ثم ـ وهذا هو الأهم ـ عدم تخاذله وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة؛ ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة، فخاض بها المعركة ثقة منه بقوة الإيمان الخالص، ووعد الله الصادق للمؤمنين.

هـ. العبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة.. أن القلب الذي يتصل بالله تتغير موازينه وتصوراته؛ لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل، وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود، فهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر، كانت ترى من قلتها وكثرة عدوها ما يراه الآخرون الذين قالوا ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾.. ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف، إنما حكمت حكما آخر، فقالت ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.. ثم اتجهت لربها تدعوه ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.. وهي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين، إنما هو في يد الله وحده، فطلبت منه النصر، ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه.. وهكذا تتغير التصورات والموازين للأمور عند الاتصال بالله حقا، وعند ما يتحقق في القلب الإيمان الصحيح، وهكذا يثبت أن التعامل مع وعد الله الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون! ولا نستوعب الإيحاءات التي تتضمنها القصة، فالنصوص القرآنية ـ كما علمتنا التجربة ـ تفصح عن إيحاءاتها لكل قلب بحسب ما هو فيه من الشأن؛ وبقدر حاجته الظاهرة فيه، ويبقى لها رصيدها المذخور تتفتح به على القلوب، في شتى المواقف، على قدر مقسوم.

2. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾.. ألم تر؟ كأنها حادث واقع ومشهد منظور.. لقد اجتمع الملأ من بني إسرائيل، من كبرائهم وأهل الرأي فيهم ـ إلى نبي لهم، ولم يرد في السياق ذكر اسمه، لأنه ليس المقصود بالقصة، وذكره هنا لا يزيد شيئا في ايحاء القصة، وقد كان لبني إسرائيل كثرة من الأنبياء يتتابعون في تاريخهم الطويل.. لقد اجتمعوا إلى نبي لهم، وطلبوا إليه أن يعين لهم ملكا يقاتلون تحت إمرته‏.

3. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.. وهذا التحديد منهم لطبيعة القتال، وأنه في‏ ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يشي بانتفاضة العقيدة في قلوبهم، ويقظة الإيمان في نفوسهم، وشعورهم بأنهم أهل دين وعقيدة وحق، وأن أعداء هم على ضلالة وكفر وباطل؛ ووضوح الطريق أمامهم للجهاد في سبيل الله، وهذا الوضوح وهذا الحسم هو نصف الطريق إلى النصر، فلا بد للمؤمن أن يتضح في حسه أنه على الحق وأن عدوه على الباطل؛ ولا بد أن يتجرد في حسه الهدف.. في سبيل الله.. فلا يغشيه الغبش الذي لا يدري معه إلى أين يسير.

4. وقد أراد نبيهم أن يستوثق من صدق عزيمتهم، وثبات نيتهم، وتصميمهم على النهوض بالتبعة الثقيلة، وجدّهم فيما يعرضون عليه من الأمر: ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾.. ألا ينتظر أن تنكلوا عن القتال إن فرض عليكم؟ فأنتم الآن في سعة من الأمر، فأما إذا استجبت لكم، فتقرر القتال عليكم فتلك فريضة إذن مكتوبة؛ ولا سبيل بعدها إلى النكول عنها.. إنها الكلمة اللائقة بني، والتأكد اللائق بني، فما يجوز أن تكون كلمات الأنبياء وأوامرهم موضع تردد أو عبث أو تراخ.

5. وهنا ارتفعت درجة الحماسة والفورة؛ وذكر الملأ أن هناك من الأسباب الحافزة للقتال في سبيل الله ما يجعل القتال هو الأمر المتعين الذي لا تردد فيه: ﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾.. ونجد أن الأمر واضح في حسهم، مقرر في نفوسهم.. إن أعداءهم أعداء الله ولدين الله، وقد أخرجوهم من ديارهم وسبوا أبناءهم، فقتالهم واجب؛ والطريق الواحدة التي أمامهم هي القتال؛ ولا ضرورة إلى المراجعة في هذه العزيمة أو الجدال.

6. ولكن هذه الحماسة الفائرة في ساعة الرخاء لم تدم، ويعجل السياق بكشف الصفحة التالية: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾.. وهنا نطلع على سمة خاصة من سمات إسرائيل في نقض العهد، والنكث بالوعد، والتفلت من الطاعة، والنكوص عن التكليف، وتفرق الكلمة، والتولي عن الحق البين.. ولكن هذه كذلك سمة كل جماعة لا تنضج تربيتها الإيمانية؛ فهي سمة بشرية عامة لا تغير منها إلا التربية الإيمانية العالية الطويلة الأمد العميقة التأثير، وهي ـ من ثم ـ سمة ينبغي للقيادة أن تكون منها على حذر، وأن تحسب حسابها في الطريق الوعر، كيلا تفاجأ بها، فيتعاظمها الأمر! فهي متوقعة من الجماعات البشرية التي لم تخلص من الأوشاب، ولم تصهر ولم تطهر من هذه العقابيل.

7. والتعقيب على هذا التولي: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾.. وهو يشي بالاستنكار؛ ووصم الكثرة التي تولت عن هذه الفريضة ـ بعد طلبها ـ وقبل أن تواجه الجهاد مواجهة عملية.. وصمها بالظلم، فهي ظالمة لنفسها، وظالمة لنبيها، وظالمة للحق الذي خذلته وهي تعرف أنه الحق، ثم تتخلى عنه للمبطلين! إن الذي يعرف أنه على الحق، وأن عدوه على الباطل ـ كما عرف الملأ من بني إسرائيل وهم يطلبون أن يبعث لهم نبيهم ملكا ليقاتلوا ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.. ثم يتولى بعد ذلك عن الجهاد ولا ينهض بتبعة الحق الذي عرفه في وجه الباطل الذي عرفه.. إنما هو من الظالمين المجزيين بظلمهم.. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾

8. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾.. في هذه اللجاجة تتكشف سمة من سمات إسرائيل التي وردت الإشارات إليها كثيرة في هذه السورة.. لقد كان مطلبهم أن يكون لهم ملك يقاتلون تحت لوائه، ولقد قالوا: إنهم يريدون أن يقاتلوا ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، فها هم أولاء ينغضون رؤوسهم، ويلوون أعناقهم، ويجادلون في اختيار الله لهم كما أخبرهم نبيهم؛ ويستنكرون أن يكون طالوت ـ الذي بعثه الله لهم ـ ملكا عيهم، لما ذا؟ لأنهم أحق بالملك منه بالوراثة، فلم يكن من نسل الملوك فيهم! ولأنه لم يؤت سعة من المال تبرر التغاضي عن أحقية الوراثة!.. وكل هذا غبش في التصور، كما أنه من سمات بني إسرائيل المعروفة.

9. لقد كشف لهم نبيهم عن أحقيته الذاتية، وعن حكمة الله في اختياره: ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.. إنه رجل قد اختاره الله.. فهذه واحدة.. وزاده بسطة في العلم والجسم.. وهذه أخرى.. والله‏ ﴿يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾.. فهو ملكه، وهو صاحب التصرف فيه، وهو يختار من عباده من يشاء.. ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.. ليس لفضله خازن وليس لعطائه حد، وهو الذي يعلم الخير، ويعلم كيف توضع الأمور في مواضعها.

10. وهي أمور من شأنها أن تصحح التصور المشوش، وأن تجلو عنه الغبش.. ولكن طبيعة إسرائيل ـ ونبيها يعرفها ـ لا تصلح لها هذه الحقائق العالية وحدها، وهم مقبلون على معركة، ولا بد لهم من خارقة ظاهرة تهز قلوبهم، وتردها إلى الثقة واليقين: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾

11. كان أعداؤهم الذين شردوهم من الأرض المقدسة ـ التي غلبوا عليها على يد نبيهم يوشع بعد فترة التيه ووفاة موسى عليه السلام قد سلبوا منهم مقدساتهم ممثلة في التابوت الذي يحفظون فيه مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون، وقيل: كانت فيه نسخة الألواح التي أعطاها الله لموسى على الطور.. فجعل لهم نبيهم علامة من الله، أن تقع خارقة يشهدونها، فيأتيهم التابوت بما فيه‏ ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ فتفيض على قلوبهم السكينة.. وقال لهم: إن هذه الآية تكفي دلالة على صدق اختيار الله لطالوت، إن كنتم حقا مؤمنين.. ويبدو من السياق أن هذه الخارقة قد وقعت، فانتهى القوم منها إلى اليقين.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/263.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. مثل آخر من بنى إسرائيل تعرضه الآية الكريمة لأنظار المسلمين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلّا أن يقولوا ربنا الله.. وفى هذا المثل يرى المسلمون صورة كريهة للمهانة والذلة تركب القوم، فإذا هم جبناء أذلّاء، لا يدفعون عن حرماتهم، ولا يردّون يد العدوّ المتسلط عليهم! إن هؤلاء الملأ من بنى إسرائيل ـ وهم سادة القوم وأشرافهم ـ هم أبناء أولئك الذين أماتهم الله ثم أحياهم، بأن أدخلهم الأرض المقدسة، وجعل لهم مقاما فيها، فلما ركبهم البغي والعدوان سلط الله عليهم من بدّد شملهم، وخرب ديارهم وأزال ملكهم، ونبذهم بالعراء في تيه أشبه بالتيه الذي عاش فيه سلفهم.. وإذ دبّ في القوم دبيب الحياة، وتحركت فيهم أثارة من نخوة ورجولة قالوا لنبيهم: اختر لنا ملكا نجتمع إليه، ونقاتل تحت رايته، لنستعيد ملكنا، ونجتمع إلى ديارنا! ونبيهم يعلم من أمرهم ما لا يعلمون، ويرى من أنفسهم ما لا يرون.. إنهم أكثر الناس أقوالا وأقلّهم أفعالا.. يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم!

2. ﴿قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، فيلقاهم النبيّ بما يتوقع أن يكون منهم.. ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾، وتأخذهم الحميّة، وتغلب عليهم شهوة القول.. فيقولون: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾.. إنهم يجدون أكثر من دافع يدفعهم إلى القتال.. لقد أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وشرّدوا هم وأبناؤهم.. فهل يصبر على هذا الضيم أحرار الرجال؟

3. ولكن أين هم الرجال؟ ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾، لقد فضحوا أنفسهم حين دخلوا في هذه التجربة، وكانوا من قبل أن يطلبوا الدخول فيها، في ستر من أمرهم، ولكن أبوا إلا أن يركبوا مراكب الرجال، فزلت أقدامهم، وعفرت وجوههم في تراب الخزي والمهانة.. إلا قليلا ممن أراد الله له السلامة والأمن، فثبت قدمه، وربط على قلبه.

4. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ تشرح هذه الآية والآيات التي بعدها ما أجملته الآية السابقة، من هذا الموقف المتخاذل الذي كان من هؤلاء القوم، الذين يمكرون بآيات الله، ويستخفّون بأوامره وأحكامه، لقد اختار لهم الله ملكا يقاتلون معه، وذلك إجابة لمقترحهم الذين اقترحوه.. فجعلوا يفتشون في هذا الملك المختار من قبل الله، ويفندون الأسس التي قام عليها اختياره، وفى ذلك ما فيه من جرأة على الله، وعدوان على ما يقضى به ويحكم فيه.. وليتهم إذ نظروا، وقعت أنظارهم على ما في الإنسان من فضائل نفسية وروحية، هي التي يكون بها التفاضل والتمايز بين إنسان وإنسان.. ولكنهم لم ينظروا إلا إلى ما أشربته قلوبهم من حبّ المال، الذي هو ميزان المفاضلة والفضل عندهم.. فحين رأوا أن الملك المختار لم يكن أكثرهم مالا، وأوسعهم ثراء، أنكروا أن يكون ملكا عليهم، وقالوا ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾

5. وتلقّوا الإجابة من نبيهم مسكتة مفحمة ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾، فهل لهم أن يحتكموا على الله؟ لقد اصطفاه الله عليهم.. ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ ثم إن هذا الذي اصطفاه عليهم قد زاده الله بسطة في العلم والجسم، فإذا كان فيهم من يفضله في المال، فهو يفضلهم في كمال الجسم وتمام العقل، وذلك مما يكمل به الملك ويجمل به الملوك! جمال وروعة في المظهر، وفى المخبر.. معا.

6. ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ يصطفى من يشاء لما يشاء، وسع فضله كل شيء، وأحاط علمه بكل شيء، فلا معقّب لحكمه، ولا منازع له في سلطانه، ﴿فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾؟

7. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ لم يطمئن القوم إلى ما أخبرهم به نبيّهم عن طالوت، وأن الله قد اصطفاه لهذه المهمة، وأن عنده من مستلزمات الملك ما ليس لأحد منهم.. بسطة في العلم والجسم.. ولكنهم أبوا أن يخفّوا للانضواء إليه والقتال تحت رايته.. فجاءهم نبيهم بآية محسوسة، يجدونها بين أيديهم، أمارة على اصطفاء الله له، وهو أن يعود إليهم التابوت الذي افتقدوه من زمن بعيد، وفى هذا التابوت سكينة واطمئنان لهم، إذ كانوا يجدون في وجوده بينهم دلالة على م وتأييده لهم في القتال، وفى هذا الصندوق أيضا بعض من مخلفات موسى وهارون.

8. فى هذا شاهد واقعي يشهد لصدق النبيّ ويؤيد ما بلّغ به عن ربّه في شأن طالوت! والتابوت هو (صندوق) يقال إنه هو الذي كان قد وضع فيه موسى حين ألقته أمه في اليمّ، ويمكن أن يكون صندوقا من صنع موسى كان يضع فيه الألواح والعصا، وغير ذلك من آثاره وآثار هارون، وكانوا يصحبون التابوت معهم في حروبهم، تبركا به، فلما كان القوم في بعض حروبهم مع عدوّهم، وغلبوا على أمرهم، واستبيحت ديارهم وأموالهم، حمل أعداؤهم هذا التابوت، فيما حملوا من مال ومتاع! فكانوا بعد ذلك لا يجرؤون على ملاقاة عدو! وجاءهم التابوت وما كان فيه من آثار، وعندها وجدوا السكينة، والاطمئنان.. فآمنوا وصدّقوا، ورضوا بطالوت ملكا وقائدا.. وهكذا يقاد القوم قسرا، بيد الآيات المعجزة القاهرة، التي تسدّ عليهم منافذ، المعاذير والعلل، التي يقيمونها بين يدى كل أمر يدعون إليه من الله!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/305.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جملة ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ استئناف ثان من جملة ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ [البقرة: 243] سيق مساق الاستدلال لجملة ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 190] وفيها زيادة تأكيد لفظاعة حال التقاعس عن القتال بعد التهيؤ له في سبيل الله، والتكرير في مثله يفيد مزيد تحذير وتعريض بالتوبيخ؛ فإن المأمورين بالجهاد في قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لا يخلون من نفر تعتريهم هواجس تثبطهم عن القتال، حبا للحياة ومن نفر تعترضهم خواطر تهون عليهم الموت عند مشاهدة أكدار الحياة، ومصائب المذلة، فضرب الله لهذين الحالين مثلين: أحدهما ما تقدم في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ و الثاني قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وقد قدم أحدهما وأخر الآخر ليقع التحريض على القتال بينهما:

أ. مناسبة تقديم الأولى أنها تشنع حال الذين استسلموا واستضعفوا أنفسهم، فخرجوا من ديارهم مع كثرتهم، وهذه الحالة أنسب بأن تقدم بين يدي الأمر بالقتال والدفاع عن البيضة؛ لأن الأمر بذلك بعدها يقع موقع القبول من السامعين لا محالة.

ب. ومناسبة تأخير الثانية أنها تمثيل حال الذين عرفوا فائدة القتال في سبيل الله لقولهم: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ﴾ الآية، فسألوه دون أن يفرض عليهم فلما عين لهم القتال نكصوا على أعقابهم، وموضع العبرة هو التحذير من الوقوع في مثل حالهم بعد الشروع في القتال أو بعد كتبه عليهم، فلله بلاغة هذا الكلام، وبراعة هذا الأسلوب تقديما وتأخيرا، وتقدم القول على‏ ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ [البقرة: 243] في الآية قبل هذه.

2. الملأ: الجماعة الذين أمرهم واحد، وهو اسم جمع كالقوم والرهط، وكأنه مشتق من المل‏ء وهو تعمير الوعاء بالماء ونحوه، وأنه مؤذن بالتشاور لقولهم: تمالأ القوم إذا اتفقوا على شيء والكل مأخوذ من ملء الماء؛ فإنهم كانوا يملئون قربهم وأوعيتهم كل مساء عند الورد، فإذا ملأ أحد لآخر فقد كفاه شيئا مهما؛ لأن الماء قوام الحياة، فضربوا ذلك مثلا للتعاون على الأمر النافع الذي به قوام الحياة والتمثيل بأحوال الماء في مثل هذا منه‏ قول علي:‏ (اللهم عليك بقريش فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفئوا إنائي)، تمثيلا لإضاعتهم حقه.

3. ﴿مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ إعلام بأن أصحاب هذه القصة كانوا مع نبيء بعد موسى، فإن زمان موسى لم يكن فيه نصب ملوك على بني إسرائيل وكأنه إشارة إلى أنهم أضاعوا الانتفاع بالزمن الذي كان فيه رسولهم بين ظهرانيهم، فكانوا يقولون: ﴿اذهب أنت وربك فقاتلا﴾، وكان النصر لهم معه أرجى لهم ببركة رسولهم، والمقصود التعريض بتحذير المسلمين من الاختلاف على رسولهم.

4. تنكير نبيء لهم للإشارة إلى أن محل العبرة ليس هو شخص النبي فلا حاجة إلى تعيينه، وإنما المقصود حال القوم، وهذا دأب القرآن في قصصه، وهذا النبي هو صمويل وهو بالعربية شمويل بالشين المعجمة ولذلك لم يقل: إذ قالوا لنبيهم، إذ لم يكن هذا النبي معهودا عند السامعين حتى يعرف لهم بالإضافة.

5. في قوله تعالى: ﴿لِنَبِيٍّ لَهُمُ﴾ تأييد لقول علماء النحو إن أصل الإضافة أن تكون على تقدير لام الجر، ومعنى‏ ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا﴾ عين لنا ملكا؛ وذلك أنه لما لم يكن فيهم ملك في حالة الحاجة إلى ملك فكأن الملك غائب عنهم، وكأن حالهم يستدعي حضوره فإذا عين لهم شخص ملكا فكأنه كان غائبا عنهم فبعث أي أرسل إليهم، أو هو مستعار من‏ بعث البعير أي إنهاضه للمشي.

6. ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ الآية، استفهام تقريري وتحذير، فقوله: ﴿أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ مستفهم عنه بهل وخبر لعسى متوقع، ودليل على جواب الشرط ﴿إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ وهذا من أبدع الإيجاز فقد حكى جملا كثيرة وقعت في كلام بينهم، وذلك أنه قررهم على إضمارهم نية عدم القتال اختبارا وسبرا لمقدار عزمهم عليه، ولذلك جاء في الاستفهام بالنفي فقال ما يؤدي معنى (هل لا تقاتلون) ولم يقل: هل تقاتلون؛ لأن المستفهم عنه هو الطرف الراجح عند المستفهم، وإن كان الطرف الآخر مقدرا، وإذا خرج الاستفهام إلى معانيه المجازية كانت حاجة المتكلم إلى اختيار الطرف الراجح متأكدة.

7. توقع منهم عدم القتال وحذرهم من عدم القتال إن فرض عليهم، فجملة ﴿أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ يتنازع معناها كل من هل وعسى وإن، وأعطيت لعسى، فلذلك قرنت بإن، وهي دليل للبقية فيقدر لكل عامل ما يقتضيه، والمقصود من هذا الكلام التحريض لأن ذا الهمة يأنف من نسبته إلى التقصير، فإذا سجل ذلك عليه قبل وجود دواعيه كان على حذر من وقوعه في المستقبل، كما يقول من يوصي غيره: افعل كذا وكذا وما أظنك تفعل.

8. قرأ نافع وحده عسيتم بكسر السين على غير قياس، وقرأه الجمهور بفتح السين وهما لغتان في عسى إذا اتصل بها ضمير المتكلم أو المخاطب، وكأنهم قصدوا من كسر السين التخفيف بإماتة سكون الياء.

9. ﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ جاءت واو العطف في حكاية قولهم؛ إذ كان في كلامهم ما يفيد إرادة أن يكون جوابهم عن كلامه معطوفا على قولهم: ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ما يؤدّى مثله بواو العطف فأرادوا تأكيد رغبتهم، في تعيين ملك يدبر أمور القتال، بأنهم ينكرون كل خاطر يخطر في نفوسهم من التثبيط عن القتال، فجعلوا كلام نبيئهم بمنزلة كلام معترض في أثناء كلامهم الذي كملوه، فما يحصل به جوابهم عن شك نبيهم في ثباتهم، فكان نظم كلامهم على طريقة قوله تعالى حكاية عن الرسل ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 122]، ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾ [إبراهيم: 12]

10. ﴿مَا﴾ [الفلق: 2] اسم استفهام بمعنى أي شيء واللام للاختصاص والاستفهام إنكاري وتعجبي من قول نبيهم ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ لأن شأن المتعجب منه أن يسأل عن سببه، واسم الاستفهام في موضع الابتداء، و﴿لَنَا﴾ خبره، ومعناه ما حصل لنا أو ما استقرّ لنا، فاللام في قوله تعالى: ﴿لَنَا﴾ لام الاختصاص و(أن)حرف مصدر واستقبال، و﴿نُقَاتِلْ﴾ منصوب بأن، ولما كان حرف المصدر يقتضي أن يكون الفعل بعده في تأويل المصدر، فالمصدر المنسبك من أن وفعلها إما أن يجعل مجرورا بحرف جر مقدر قبل أن مناسب لتعلق (لا نقاتل) بالخبر ما لنا في ألا نقاتل أي انتفاء قتالنا أو ما لنا لألا نقاتل أي لأجل انتفاء قتالنا، فيكون معنى الكلام إنكارهم أن يثبت لهم سبب يحملهم على تركهم القتال، أو سبب لأجل تركهم القتال، أي لا يكون لهم ذلك، وإما أن يجعل المصدر المنسبك بدلا من ضمير ﴿لَنَا﴾: بدل اشتمال، والتقدير: ما لنا لتركنا القتال.

مثل هذا النظم يجيء بأشكال خمسة: مثل‏ ﴿مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ﴾ [يوسف: 11] ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [يس: 22] ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [الصافات: 154] (فمالك والتلدد حول نجد) ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ [النساء: 88]، والأكثر أن يكون ما بعد الاستفهام في موضع حال، ولكن الإعراب يختلف ومآل المعنى متحد.

11. ﴿مَا﴾ [الفلق: 2] مبتدأ و﴿لَنَا﴾ [الليل: 13] خبره، والمعنى: أي شيء كان لنا، وجملة ﴿أَلَّا نُقَاتِلَ﴾ [البقرة: 246] حال وهي قيد للاستفهام الإنكاري، أي لا يثبت لنا شيء في حالة تركنا القتال، وهذا كنظائره في قولك: ما لي لا أفعل أو ما لي أفعل، فإن مصدرية مجرورة بحرف جر محذوف يقدر بفي أو لام الجر، متعلق بما تعلق به‏ ﴿لَنَا﴾

12. جملة ﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا﴾ حال معللة لوجه الإنكار، أي إنهم في هذه الحال أبعد الناس عن ترك القتال؛ لأن أسباب حب الحياة تضعف في حالة الضر والكدر بالإخراج من الديار والأبناء، وعطف الأبناء على الديار لأن الإخراج يطلق على إبعاد الشيء من حيزه، وعلى إبعاده من بين ما يصاحبه، ولا حاجة إلى دعوى جعل الواو عاطفة عاملا محذوفا تقديره وأبعدنا عن أبنائنا.

13. ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا﴾ الآية، جملة معترضة، وهي محل العبرة والموعظة لتحذير المسلمين من حال هؤلاء أن يتولوا عن القتال بعد أن أخرجهم المشركون من ديارهم وأبنائهم، وبعد أن تمنوا قتال أعدائهم وفرضه الله عليهم والإشارة إلى ما حكاه الله عنهم بعد بقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [البقرة: 249]

14. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ تذييل، لأن فعلهم هذا من الظلم؛ لأنهم لما طلبوا القتال خيلوا أنهم محبون له ثم نكصوا عنه، ومن أحسن التأديب قول الراجز:

çمن قال لا في حاجة...مسئولة فما ظلم‏

وإنما الظالم من‏...يقول لا بعد نعم‏é

15. هذه الآية أشارت إلى قصة عظيمة من تاريخ بني إسرائيل، لما فيها من العلم والعبرة، فإن القرآن يأتي بذكر الحوادث التاريخية تعليما للأمة بفوائد ما في التاريخ، ويختار لذلك ما هو من تاريخ أهل الشرائع، لأنه أقرب للغرض الذي جاء لأجله القرآن.

16. هذه القصة هي حادث انتقال نظام حكومة بني إسرائيل من الصبغة الشورية، المعبر عنها عندهم بعصر القضاة إلى الصبغة الملكية، المعبر عنها بعصر الملوك وذلك أنه لما توفي موسى عليه السلام في حدود سنة 1380 قبل الميلاد المسيحي، خلفه في الأمة الإسرائيلية يوشع بن نون، الذي عهد له موسى في آخر حياته بأن يخلفه فلما صار أمر بني إسرائيل إلى يوشع جعل لأسباط بني إسرائيل حكاما يسوسونهم ويقضون بينهم، وسماهم القضاة فكانوا في مدن متعددة، وكان من أولئك الحكام أنبياء، وكان هنالك أنبياء غير حكام، وكان كل سبط من بني إسرائيل يسيرون على ما يظهر لهم، وكان من قضاتهم وأنبيائهم صمويل بن القانة، من سبط أفرايم، قاضيا لجميع بني إسرائيل، وكان محبوبا عندهم، فلما شاخ وكبر وقعت حروب بين بني إسرائيل والفلسطينيين وكانت سجالا بينهم، ثم كان الانتصار للفلسطينيين، فأخذوا بعض قرى بني إسرائيل حتى إن تابوت العهد، الذي سيأتي الكلام عليه، أسره الفلسطينيون، وذهبوا به إلى (أشدود) بلادهم وبقي بأيديهم عدة أشهر، فلما رأت بنو إسرائيل ما حل بهم من الهزيمة، ظنوا أن سبب ذلك هو ضعف صمويل عن تدبير أمورهم، وظنوا أن انتظام أمر الفلسطينيين، لم يكن إلّا بسبب النظام الملكي، وكانوا يومئذ يتوقعون هجوم ناحاش: ملك العمونيين عليهم أيضا، فاجتمعت إسرائيل وأرسلوا عرفاءهم من كل مدينة، وطلبوا من صمويل أن يقيم لهم ملكا يقاتل بهم في سبيل الله، فاستاء صمويل من ذلك، وحذرهم عواقب حكم الملوك (إن الملك يأخذ بينكم لخدمته وخدمة خيله ويتخذ منكم من يركض أمام مراكبه، ويسخر منكم حراثين لحرثه، وعملة لعدد حربه، وأدوات مراكبه، ويجعل بناتكم عطّارات وطباخات وخبازات، ويصطفي من حقولكم، وكرومكم، وزياتينكم، أجودها فيعطيها لعبيده، ويتخذكم عبيدا، فإذا صرختم بعد ذلك في وجه ملككم لا يستجيب الله لكم، فقالوا: لا بد لنا من ملك لنكون مثل سائر الأمم، وقال لهم: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ﴾ الآية، وكان ذلك في أوائل القرن الحادي عشر قبل المسيح.

17. ﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ يقتضي أن الفلسطينيين أخذوا بعض مدن بني إسرائيل، وقد صرح بذلك إجمالا في الإصحاح السابع من سفر صمويل الأول، وأنهم أسروا أبناءهم، وأطلقوا كهولهم وشيوخهم، وفي ذكر الإخراج من الديار والأبناء تلهيب للمهاجرين من المسلمين على مقاتلة المشركين الذين أخرجوهم من مكة، وفرقوا بينهم وبين نسائهم، وبينهم وبين أبنائهم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ [النساء: 75]

18. أعاد الفعل في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ﴾ للدلالة على أن كلامه هذا ليس من بقية كلامه الأول، بل هو حديث آخر متأخر عنه وذلك أنه بعد أن حذرهم عواقب الحكومة الملكية وحذرهم التولي عن القتال، تكلم معهم كلاما آخر في وقت آخر، وتأكيد الخبر بإنّ إيذان بأن من شأن هذا الخبر أن يتلقى بالاستغراب والشك، كما أنبأ عنه قولهم ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾

19. وقع في سفر صمويل في الإصحاح التاسع أنه لما صمم بنو إسرائيل في سؤالهم أن يعين لهم ملكا، صلّى لله تعالى فأوحى الله إليه أن أجبهم إلى كل ما طلبوه، فأجابهم وقال لهم: اذهبوا إلى مدنكم، ثم أوحى الله إليه صفة الملك الذي سيعينه لهم، وأنه لقيه رجل من بنيامين اسمه شاول بن قيس، فوجد فيه الصفة وهي أنه أطول القوم، ومسحه صمويل ملكا على إسرائيل، إذ صب على رأسه زيتا، وقبّله وجمع بني إسرائيل بعد أيام في بلد المصفاة وأحضره وعينه لهم ملكا، وذلك سنة 1095 قبل المسيح، وهذا الملك هو الذي سمي في الآية طالوت وهو شاول وطالوت لقبه، وهو وزن اسم مصدر من الطول، على وزن فعلوت مثل جبروت وملكوت ورهبوت ورغبوت ورحموت، ومنه طاغوت أصله طاغيوت فوقع فيه قلب مكاني، وطالوت وصف به للمبالغة في طول قامته، ولعله جعل لقبا له في القرآن للإشارة إلى الصفة التي عرف بها لصمويل‏ في الوحي الذي أوحى الله إليه كما تقدم، ولمراعاة التنظير بينه وبين جالوت غريمه في الحرب، أو كان ذلك لقبا له في قومه قبل أن يؤتى الملك، وإنما يلقب بأمثال هذا اللقب من كان من العموم، ووزن فعلوت وزن نادر في العربية ولعله من بقايا العربية القديمة السامية، وهذا هو الذي يؤذن به منعه من الصرف، فإن منعه من الصرف لا علة له إلّا العلمية والعجمة، وجزم الراغب بأنه اسم عجمي ولم يذكر في كتب اللغة لذلك ولعله عومل معاملة الاسم العجمي لمّا جعل علما على هذا العجمي في العربية، فعجمته عارضة وليس هو عجميا بالأصالة، لأنه لم يعرف هذا الاسم في لغة العبرانيين كداود وشاوول، ويجوز أن يكون منعه من الصرف لمصيره بالإبدال إلى شبه وزن فاعول، ووزن فاعول في الأعلام عجمي، مثل هاروت وماروت وشاوول وداوود، ولذلك منعوا قابوس من الصرف، ولم يعتدوا باشتقاقه من القبس، وكأنّ عدول القرآن عن ذكره باسمه شاول لثقل هذا اللفظ وخفة طالوت.

20. ﴿أَنَّى﴾ [المنافقون: 4] في قوله تعالى: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾ بمعنى كيف، وهو استفهام مستعمل في التعجب، تعجبوا من جعل مثله ملكا، وكان رجلا فلاحا من بيت حقير، إلّا أنه كان شجاعا، وكان أطول القوم، ولما اختاره صمويل لذلك، فتح الله عليه بالحكمة، وتنبأ نبوءات كثيرة، ورضيت به بعض إسرائيل، وأباه بعضهم، ففي سفر صمويل أن الذين لم يرضوا به هم بنو بليعال والقرآن ذكر أن بني إسرائيل قالوا: أنى يكون له الملك علينا وهو الحق؛ لأنهم لا بد أن يكونوا قد ظنوا أن ملكهم سيكون من كبرائهم وقوادهم، والسر في اختيار نبيئهم لهم هذا الملك أنه أراد أن تبقى لهم حالتهم الشورية بقدر الإمكان، فجعل ملكهم من عامتهم لا من سادتهم، لتكون قدمه في الملك غير راسخة، فلا يخشى منه أن يشتد في استعباد أمته، لأن الملوك في ابتداء تأسيس الدول يكونون أقرب إلى الخير لأنهم لم يعتادوا عظمة الملك ولم ينسوا مساواتهم لأمثالهم، وما يزالون يتوقعون الخلع، ولهذا كانت الخلافة سنّة الإسلام، وكانت الوراثة مبدأ الملك في الإسلام، إذ عهد معاوية ابن أبي سفيان لابنه يزيد بالخلافة بعده، والظن به أنه لم يكن يسعه يومئذ إلّا ذلك (2) ؛ لأن شيعة بني أمية راغبون فيه، ثم كانت قاعدة الوراثة للملك في دول الإسلام وهي من تقاليد الدول من أقدم عصور التاريخ، وهي سنة سيئة ولهذا تجد مؤسسي الدول أفضل ملوك عائلاتهم، وقواد بني إسرائيل لم يتفطنوا لهذه الحكمة لقصر أنظارهم، وإنما نظروا إلى قلة جدته، فتوهموا ذلك مانعا من تمليكه عليهم، ولم يعلموا أن الاعتبار بالخلال النفسانية، وأن الغنى غنى النفس لا وفرة المال وما ذا تجدي وفرته إذا لم يكن ينفقه في المصالح، وقد قال الراجز:

çقدني من نصر الخبيبين قدي‏...ليس الإمام بالشحيح الملحدé

21. قولهم: ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ﴾ جملة حالية، والضمير من المتكلمين، وهم قادة بني إسرائيل وجعلوا الجملة حالا للدلالة على أنهم لما ذكروا أحقيتهم بالملك لم يحتاجوا إلى الاستدلال على ذلك؛ لأن هذا الأمر عندهم مسلم معروف، إذ هم قادة وعرفاء، وشاوول رجل من السوقة، فهذا تسجيل منهم بأرجحيتهم عليه.

22. ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ معطوف على جملة الحال فهي حال ثانية، وهذا إبداء مانع فيه من ولايته الملك في نظرهم، وهو أنه فقير، وشأن الملك أن يكون ذا مال ليكفي نوائب الأمة فينفق المال في العدد والعطاء وإغاثة الملهوف، فكيف يستطيع من ليس بذي مال أن يكون ملكا، وإنما قالوا هذا لقصورهم في معرفة سياسة الأمم ونظام الملك؛ فإنهم رأوا الملوك المجاورين لهم في بذخة وسعة، فظنوا ذلك من شروط الملك، ولذا أجابهم نبيئهم بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾ رادّا على قولهم ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾ فإنهم استندوا إلى اصطفاء الجمهور إياهم فأجابهم بأنه أرجح منهم لأن الله اصطفاه، وبقوله تعالى: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ رادا عليهم قولهم ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ أي زاده عليكم بسطة في العلم والجسم، فأعلمهم نبيئهم أن الصفات المحتاج إليها في سياسة أمر الأمة ترجع إلى أصالة الرأي وقوة البدن؛ لأنه بالرأي يهتدي لمصالح الأمة، لا سيما في وقت المضائق، وعند تعذر الاستشارة أو عند خلاف أهل الشورى وبالقوة يستطيع الثبات في مواقع القتال فيكون بثباته ثبات نفوس الجيش.

23. قدّم النبي في كلامه العلم على القوة لأن وقعه أعظم، قال أبو الطيب:

çالرأي قبل شجاعة الشجعان‏...هو أوّل وهي المحل الثاني‏é

فالعلم المراد هنا، هو علم تدبير الحرب وسياسة الأمة، وقيل: هو علم النبوءة، ولا يصح ذلك لأن طالوت لم يكن معدودا من أنبيائهم.

24. لم يجبهم نبيئهم عن قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ اكتفاء بدلالة اقتصاره على قوله تعالى: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ فإنه ببسطة العلم وبالنصر يتوافر له المال؛ لأن (المال تجلبه الرعية) كما قال أرسطوطاليس، ولأن الملك ولو كان ذا ثروة، فثروته لا تكفي لإقامة أمور المملكة ولهذا لم يكن من شرط ولاة الأمور من الخليفة فما دونه أن يكون ذا سعة، وقد ولي على الأمة أبو بكر وعمر وعلي ولم يكونوا ذوي يسار، وغنى الأمة في‏ بيت مالها ومنه تقوم مصالحها، وأرزاق ولاة أمورها، والبسطة اسم من البسط وهو السعة والانتشار، فالبسطة الوفرة والقوة من الشيء، وسيجيء كلام عليها عند قوله تعالى: ﴿وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ﴾ في الأعراف [69]

25. ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ يحتمل أن يكون من كلام النبي، فيكون قد رجع بهم إلى التسليم إلى أمر الله، بعد أن بين لهم شيئا من حكمة الله في ذلك، ويحتمل أن يكون تذييلا للقصة من كلام الله تعالى، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾

26. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أراد نبيئهم أن يتحداهم بمعجزة تدل على أن الله تعالى اختار لهم شاوول ملكا، فجعل لهم آية تدل على ذلك وهي أن يأتيهم التابوت، أي تابوت العهد، بعد أن كان في يد الفلسطينيين كما تقدم، وهذا إشارة إلى قصة تيسير الله تعالى إرجاع التابوت إلى بني إسرائيل بدون قتال، وذلك أن الفلسطينيين أرجعوا التابوت إلى بني إسرائيل في قصة ذكرت في سفر صمويل، حاصلها أن التابوت بقي سبعة أشهر في بلاد فلسطين موضوعا في بيت صنمهم داجون ورأى الفلسطينيون آيات من سقوط صنمهم على وجهه، وانكسار يديه ورأسه، وإصابتهم بالبواسير في أشدود وتخومها، وسلطت عليهم الجرذان تفسد الزروع، فلما رأوا ذلك استشاروا الكهنة، فأشاروا عليهم بإلهام من الله بإرجاعه إلى إسرائيل لأن إله إسرائيل قد غضب لتابوته وأن يرجعوه مصحوبا بهدية: صورة خمس بواسير من ذهب، وصورة خمس فيران من ذهب، على عدد مدن الفلسطينيين العظيمة: أشدود، وغزة، واشقلون، وجت، وعفرون، ويوضع التابوت على عجلة جديدة تجرها بقرتان ومعه صندوق به التماثيل الذهبية، ويطلقون البقرتين تذهبان بإلهام إلى أرض إسرائيل، ففعلوا واهتدت البقرتان إلى أن بلغ التابوت والصندوق إلى يد اللاويين في تخم بيت شمس، هكذا وقع في سفر صمويل غير أن ظاهر سياقه أن رجوع التابوت إليهم كان قبل تمليك شاوول، وصريح القرآن يخالف ذلك، ويمكن تأويل كلام السفر بما يوافق هذا بأن تحمل الحوادث على غير ترتيبها في الذكر، وهو كثير في كتابهم، والذي يظهر لي أن الفلسطينيين لما علموا اتحاد الإسرائيليين تحت ملك علموا أنهم ما أجمعوا أمرهم إلّا لقصد أخذ الثأر من أعدائهم وتخليص تابوت العهد من أيديهم، فدبروا أن يظهروا إرجاع التابوت بسبب آيات شاهدوها، ظنا منهم أن حدة بني إسرائيل تفل إذا أرجع إليهم التابوت بالكيفية المذكورة آنفا، ولا يمكن أن يكون هذا الرعب حصل لهم قبل تمليك شاول، وابتداء ظهور الانتصار به.

27. التابوت اسم عجمي معرب فوزنه فاعول، وهذا الوزن قليل في الأسماء العربية، فيدل على أن ما كان على وزنه إنما هو معرب مثل ناقوس وناموس، واستظهر الزمخشري أن وزنه فعلول بتحريك العين لقلة الأسماء التي فاؤها ولامها حرفان متحدان: مثل سلس وقلق، ومن أجل هذا أثبته الجوهري في مادة توب لا في تبت، والتابوت بمعنى الصندوق المستطيل: وهو صندوق أمر موسى عليه السلام بصنعه صنعه بصلئيل الملهم في صناعة الذهب والفضة والنحاس ونجارة الخشب، فصنعه من خشب السنط ـ وهو شجرة من صنف القرظ ـ وجعل طوله ذراعين ونصفا وعرضه ذراعا ونصفا وارتفاعه ذراعا ونصفا، وغشاه بذهب من داخل ومن خارج، وصنع له إكليلا من ذهب، وسبك له أربع حلق من ذهب على قوائمه الأربع، وجعل له عصوين من خشب مغشاتين بذهب لتدخل في الحلقات لحمل التابوت، وجعل غطاءه من ذهب، وجعل على طريق الغطاء صورة تخيل بها اثنين من الملائكة من ذهب باسطين أجنحتهما فوق الغطاء، وأمر الله موسى أن يضع في هذا التابوت لوحي الشهادة اللذين أعطاه الله إياهما وهي الألواح التي ذكرها الله في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ﴾ [الأعراف: 154]

28. السكينة فعيلة بمعنى الاطمئنان والهدوء، وفي حديث السعي إلى الصلاة (عليكم بالسكينة)، وذلك أن من بركة التابوت أنه إذا كان بينهم في حرب أو سلم كانت نفوسهم واثقة بحسن المنقلب، وفيه أيضا كتب موسى عليه السلام، وهي مما تسكن لرؤيتها نفوس الأمة وتطمئن لأحكامها، فالظرفية على الأول مجازية، وعلى الثاني حقيقية، وورد في حديث أسيد بن حضير إطلاق السكينة على شيء شبه الغمام ينزل من السماء عند قراءة القرآن، فلعلها ملائكة يسمون بالسكينة.

29. البقية في الأصل ما يفضل من شيء بعد انقضاء معظمه، وقد بينت هنا بأنها مما ترك آل موسى وآل هارون، وهي بقايا من آثار الألواح، ومن الثياب التي ألبسها موسى أخاه هارون، حين جعله الكاهن لبني إسرائيل، والحافظ لأمور الدين، وشعائر العبادة، قيل: ومن ذلك عصا موسى، ويجوز أن تكون البقية مجازا عن النفيس من الأشياء؛ لأن الناس إنما يحافظون، على النفائس فتبقى كما قال النابغة:

çبقيّة قدر من قدور توورثت‏...لآل الجلاح كابرا بعد كابرé

وقد فسر بهذا المعنى قول رويشد الطائي:

çإن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم‏...فما عليّ بذنب منكم فوت‏é

أي تأتيني الجماعة الذين ترجعون إليهم في مهامكم، وقريب منه إطلاق التليد على القديم من المال الموروث.

30. المراد من آل موسى وآل هارون أهل بيتهما من أبناء هارون؛ فإنهم عصبة موسى؛ لأن موسى لم يترك أولادا، أو ما تركه آلهما هو آثارهما، فيئول إلى معنى ما ترك موسى وهارون وآلهما، أو أراد مما ترك موسى وهارون فلفظ آل مقحم كما في قوله‏ ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46]

31. هارون هو أخو موسى عليهما السلام وهو هارون بن عمران من سبط لاوي ولد قبل أن يأمر فرعون بقتل أطفال بني إسرائيل وهو أكبر من موسى، ولما كلم الله موسى بالرسالة أعلمه بأنه سيشرك معه أخاه هارون فيكون كالوزير له، وأوحى إلى هارون أيضا، وكان موسى هو الرسول الأعظم، وكان معظم وحي الله إلى هارون على لسان موسى، وقد جعل الله هارون أول كاهن لبني إسرائيل لما أقام لهم خدمة خيمة العبادة، وجعل الكهانة في نسله، فهم يختصون بأحكام لا تشاركهم فيها بقية الأمة، منها تحريم الخمر على الكاهن، ومات هارون سنة ثمان أو سبع وخمسين وأربعمائة وألف قبل المسيح، في جبل هور على تخوم أرض أدوم في مدة التيه في السنة الثالثة من الخروج من مصر.

32. ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ حال من (التابوت)، والحمل هنا هو الترحيل كما في قوله تعالى: ﴿قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ [التوبة: 92] لأن الراحلة تحمل راكبها؛ ولذلك تسمى حمولة وفي حديث غزوة خيبر: (وكانت الحمر حمولتهم)، وقال النابغة: (يخال به راعي الحمولة طائرا)، فمعنى حمل الملائكة التابوت هو تسييرهم بإذن الله البقرتين السائرتين بالعجلة التي عليها التابوت إلى محلة بني إسرائيل، من غير أن يسبق لهما إلف بالسير إلى تلك الجهة، هذا هو الملاقي لما في كتب بني إسرائيل.

33. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ الإشارة إلى جميع الحالة أي في رجوع التابوت من يد أعدائكم إليكم، بدون قتال، وفيما يشتمل عليه التابوت من آثار موسى عليه السلام، وفي مجيئه من غير سائق ولا إلف سابق.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/462.

(2) نرى معارضة هذا لما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة بشأن الحاكمية الإلهية، وسنتعرض للمسألة بتفصيل في محلها من السلسلة

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كانت الآيات السابقة في الحث على القتال دفاعا عن النفس والحوزة، ورفعا لمنار الحق، وخفضا للباطل، ولتكون كلمة الله هي العليا، ولبيان أن الاستعداد للجهاد وردّ الاعتداء يقتضى البذل والعطاء، وفى هذه الآيات يقص سبحانه وتعالى قصصا صادقا في وقائعه، وصادقا في حكايته للأمم التي تبتلى بالهزيمة كيف يتفرق أمرها وتذهب وحدتها، وكيف تفعل الهزيمة في قلوب الأكثرين منها، وبيان أن الطريق لجمعها قيادة حكيمة رشيدة، ونفر قليل أو فئة قليلة لم تذهب الهزيمة بنخوتها، ولم يضعف اليأس من بأسها وعزمها.

2. اختار الله سبحانه وتعالى لقصصه الذي جعله عبرة للمعتبرين بنى إسرائيل؛ لأنهم اتصلوا بالعرب، ولأن النبوات المعروفة للعالم في عصر نزول القرآن كانت فيهم، ولأنهم يلتقون مع قريش في إبراهيم أبى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ولأنه تتمثل فيهم الطبائع البشرية في عزتها وانتصارها، وفى هزيمتها وانكسارها؛ وتتمثل فيهم الطبيعة البشرية في لجاجة القول والمغالبة به في حال الضعف والاستخذاء، ونقدهم كل شيء في تلك الحال، وبعدهم عن العمل إلى الخلاف في المقال؛ وتتمثل فيهم الطبائع البشرية للجماعات المغلوبة عندما يعمل على إنقاذها من لم تنل الهزيمة من قلوبهم، ومن لم يستول الخور على نفوسهم.

3. قص الله سبحانه وتعالى ذلك القصص، وقد قال سبحانه ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف‏]، فالمقصود من قصص القرآن العبرة والاعتبار لا سرد وقائع وإمتاع الناس بسردها وتفصيلها عبرة لأولى الألباب، ولذلك يقصد المولى الكريم إلى موضع العبرة فيجليه، وإلى مكان الاستبصار فيبينه وتلك أقوم السبل؛ التربية بالتاريخ، والتثقيف بأحوال السابقين.

4. إن الإنسان ابن الإنسان، فمن يريك صورة للماضي مع العبرة، فهو يريك نفسك مع العظة، والماضي دائما نور يضيء للمستقبل، فهو المصباح الذي يحمله من يبتغى الهداية ويرجوها.

5. إن في تلك القصة التي ذكرها القرآن الكريم، المنزل من حكيم عليم، عبرة للناس أجمعين، وخصوصا الأمم التي تبتلى بالهزيمة، وقبل أن نخوض في تفسير مفصل، نتكلم بكلام مجمل في القصة: هزم بنو إسرائيل من بعد موسى عليه السلام هزيمة شديدة سبى فيها نساؤهم وذراريهم وأخرجوا من ديارهم، وكان ذلك قبل مبعث داوود عليه السلام، كما يدل على ذلك اشتراك داوود عليه السلام في المعركة التي أشارت إليها الآية الكريمة، وقد بعث الله سبحانه وتعالى فيهم نبيا وهم في هذه الهزيمة، ولم يذكر سبحانه من هذا النبيّ الكريم، فلا نحاول معرفة من هو، وإن بعث النبيّ وهم في هذه الهزيمة ـ وقد أراد سبحانه وتعالى أن يفيقوا من هذه الضربة دليل على أن السبيل لإنقاذ الأمم من كبوتها وإنهاضها يكون بالرجوع إلى الدين؛ لأنه هو الذي يصهر القلوب ويملؤها بقوة الله، فتهون بجوارها قوة الناس، وقد كان الرجوع إلى الدين قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلم بنبي يرسل، وأما وقد ختمت النبوة بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم فقد أصبح الرجوع إلى الدين بالرجوع إلى كلام الله تعالى الخالد وهو القرآن الكريم؛ لأنه صوت الوحى الدائم إلى يوم القيامة ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر]، وبعد أن تعمر القلوب بالإيمان ويذهب عنها الخور بقوة اليقين، تتلاقى القلوب فيحاول الفضلاء أن يجمعوا الشمل تحت قيادة موحدة، وتحت إمرة قوية، وسلطان يصرف الأمور، ويدبر الشئون في السلم وفى الحرب؛ وذلك ما اتجهوا إليه: ﴿قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا﴾

6. فاختار الله سبحانه وتعالى ملكا لم يكن اختياره بالوراثة والسلالة، بل كان اصطفاؤه للمزايا التي تتفق مع الإمارة والسلطان، وهى قوة العقل وقوة الجسم، فاصطفى الله سبحانه وتعالى طالوت؛ لأنه زاده بسطة في العلم والجسم، وهما الصفتان اللازمتان للأمير، ولكن بنى إسرائيل وقد أرهق نفوسهم الذل، وتعودوا المراء والجدل، وعجبوا كيف يختار طالوت، وهو ليس بذي فضل عليهم في النسب، وليس ذا مال وفير؛ فبين الله لهم أن الغاية من الإمارة هي بسط السلطان، والخروج من ذل الهزيمة إلى عزة الانتصار، وأمارة استحقاق طالوت لهذه الإمرة أن يحقق ذلك الانتصار، وأن تأتى إليهم شارة عزهم ومجدهم وهى التابوت(2) .

7. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ قد ذكرنا ما في هذا التعبير من إثارة الاهتمام والتقرير، وتثبيت المعنى في نفس القارئ والسامع، وقد عبر هنا بالرؤية، وهى إما أن تكون بمعنى العلم كما ذكرنا من قبل، وهى تكون للعلم القلبي الذي يستيقن فيه الإنسان كما يستيقن بالعلم الحسى الذي يكون طريقه النظر والإبصار.. وإما أن يراد بالرؤية النظر أو البصر؛ وفى هذا تصوير للقصة المخبر عنها كأنها المرئية المحسوسة المشاهدة.

8. الملأ هم الكبراء وأشراف القوم، كأنهم ممتلئون شرفا، وقال الزجاج: سموا بذلك؛ لأنهم ممتلئون مما يحتاج إليه منهم، ويطلق الملأ ويراد به الجماعة، من قبيل إطلاق اسم الجزء وإرادة الكل؛ لأن ذلك الجزء له مزيد فضل وشرف على بقية الأجزاء، وقد فسر الراغب في مفرداته الملأ بأنه (الجماعة يجتمعون على رأى فيملئون العيون رواء ومنظرا، والنفوس بهاء وجلالا)، وما المراد بالملإ هنا؟ أهم كبراء بنى إسرائيل، أم القوم كلهم؟ أكثر المفسرين على أن المراد بنو إسرائيل وعلى هذا تكون (من) بيانية؛ فالمعنى أن بنى إسرائيل جميعا اجتمعوا وقالوا في عصر من العصور لنبي لهم ابعث لنا ملكا، وإني أرى أن كلمة الملأ هنا المراد بها الكبراء وأهل الرأي منهم، فإن الدهماء دائما في شغل شاغل حتى ينبههم كبراؤهم، وذوو الرأي والشأن فيهم، وخصوصا إذا كان الدهماء قد غلبت عليهم الشقوة والذلة، وكذلك يكونون دائما في حال الانهزام وتغلب الأجنبي على الأمة.

9. ﴿مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ بيان لزمان تلك الهزيمة، فذكر أنه من بعد موسى، ولم يبين الزمان بالتعيين، وذكر كونه من بعد موسى للإشارة إلى أن تلك الهزيمة كانت بعد أن أخرجهم موسى من ذل فرعون الذي كان يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم، وبعد أن ظهر منهم الاستخذاء والضعف، بعد أن خرجوا من ربق الذل، حتى إن موسى عليه السلام لما دعاهم لأن يدخلوا الأرض المقدسة ظهر خورهم وضعفهم فتاهوا في الأرض أربعين سنة استردوا فيها بأسهم وذهب عنهم خور العزيمة، ثم بعد ذلك نزل بهم ما نزل؛ فقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ فيه إشارة إلى تلك التجارب الشديدة التي كانت تنزل بهم، فهم ذلوا في مصر، ثم أعزهم الله بموسى فلم يقووا على حياة العزة وتكليفاتها من جهاد ونضال إلا بعد أن تعودوا حياة الشدة والبأس في الصحراء، ثم بعد هذه العزة دخلوا الأرض المقدسة، ثم أخرجوا منها بعد أن استناموا إلى الدعة والراحة؛ وفى هذه التجارب بيان لأطوار الأمم بأنها إن استنامت إلى الراحة واستمرأت الحياة الوادعة غلب على أمرها، ثم كان من وراء ذلك ذهاب سلطانها، حتى إذا أحست بمرارة الهزيمة، وذاقت وبال الراحة، استيقظت فيها القوى الكامنة، واستفاقت من سبات الغفلة وسكرة النعمة، فعملت على استرداد أمرها، ومقاومة عدوها.

10. ﴿إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فيه بيان موضع القصة ومكان الالتفات، والاتجاه بالنظر والقلب؛ فالمعنى: ألم تنظر وتتفكر وتعتبر في أمر نبيّ إسرائيل عندما قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله؟ لقد وجدوا أنهم قد تفككت وحدتهم، وضاعت كلمتهم، وفقدوا كونهم فاتجهوا إلى جمع الكلمة، ولم يجدوا السبيل إلا برئاسة تلمّ الشعث، وتجمع المتفرق، وكان بينهم نبيّ مبعوث، فعهدوا إليه أن يختار من بينهم ملكا، ليكون اختياره منزها عن الغرض، بعيدا عن الهوى، لا يقصد به إلا الخير، ولا يكون إلا في الخير، لا خطأ فيه؛ لأنه نبيّ لا ينطق عن الهوى، لقد قالوا لنبيهم: ابعث لنا ملكا، وأصل البعث الإثارة والإخراج، فمعنى‏ ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا﴾ يتضمن أنه يفحص‏ الجماعة بإثارة أحوال رجالها وتعرف خواصهم ومزاياهم وتخير أمثلهم، وإخراجه من بين صفوفهم ليكون ملكا عليهم، فلا يكون مفروضا عليهم، بل يكون متخيرا من بينهم بتخيّر من لا يشك في تخيره، وهو نبيّ مبعوث.

11. قالوا في طلبهم إن الغرض من طلبهم ملكا ينصب عليهم أن يقاتلوا في سبيل الله، وهو إعلاء كلمة التوحيد، ورد عزتهم المسلوبة، وأرضهم المغصوبة، وفى هذا الطلب منهم عبر وعظات:

أ. أولها: أنهم أحسوا بالضياع، إذ أصبحوا لا رئاسة من بينهم تجمعهم.

ب. ثانيها: أنهم آمنوا بأن القتال لا يكون إلا تحت إمرة حازمة تسير بهم نحو الهدى والرشاد، وأنه لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا رئاسة فيهم.

ج. ثالثها: أن القتال دفاعا عن الحوزة، واستردادا للحق المسلوب، والوطن المغصوب، قتال في سبيل الله.

12. طلبوا أن يكون الرئيس ملكا، لأن نظام الحكم الذي كان سائدا إبّان ذاك كان ملكيا، والمذموم منه هو الظالم، والممدوح منه هو العادل، وليس ذلك دليلا على أن النظام المطلوب في الشرائع السماوية هو الملكي على ما نعرفه وهو الوراثة بالسلالة؛ بل إن إجابة الله لطلبهم بهداية نبيهم لملك أي رئيس دولة قد اختاره الله، دليل على أن نظام الحكم هو ما يكون إجابة لداعى الشعب، وتكون فيه ملاءمة لحال الأمة وملابساتها وما يقترن بها، ولقد كانت حال بنى إسرائيل لا تسمح بأن يختاروا هم بأنفسهم رئيسا للدولة؛ لأنهم كانوا مغلوبين على أمرهم لا سلطان لهم، والاختيار يكون من ذوى السلطان، ولا يكون من مكره مغلوب على أمره، والملك الذي اختاره ليس ملكا بالمعنى الذي نعهده كما سنبين.

13. كانت حال بنى إسرائيل في أشد الاضطراب، وقد انخلعت منهم الإرادات الحازمة، إلا من قلوب ربط الله عليها بالإيمان؛ ولذلك توقع نبيهم ألا يصبروا على القتال إذا حمى الوطيس واشتد البلاء؛ ولذلك حكى الله سبحانه ذلك الشعور الذي خالج قلب نبيهم، فقال تعالى: ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ توقع نبيهم إن كتب عليهم القتال ألا يقاتلوا فيجمعوا بين ذلة الهزيمة، والفرار يوم الزحف، والنكوص في مقام الإقدام وعصيان الله سبحانه وتعالى؛ فبين لهم العقبى إن كتب عليهم القتال أي فرض ولزم بإلزام الشارع، ثم جاؤوا بعد ذلك ونكصوا على أعقابهم، وفى هذا القول من النبيّ الكريم تنبيه إلى أمرين:

أ. أحدهما: أن يفكروا في أنفسهم وفى حالهم، وفى قوة أعدائهم، وفى عاقبة القتال، فإن رأوا في أنفسهم القدرة على اللقاء، في ميدان القتال مع أعدائهم مهما يتكاثف جمعهم، أصروا على طلب فرضية القتال، واختيار ملك يتولى قيادتهم، ويكون قطبا تدور رحى الحرب به وبتدبيره.

ب. ثانيهما: أخذهم الأهبة والاستعداد للقتال إن أصروا عليه، فإن فيه الفصل، وليس بالهزل؛ حتى لا تكون عقبى القتال أسوأ مما هم عليه.

14. هنا بحث لفظي نشير إليه، وهو قوله تعالى: ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ فالاستفهام هنا للتنبيه إلى مخاطر القتال وحالهم من الاضطراب، وتحلل الإرادة وتفكك العزائم، وأن حالهم هذه لا يصلح لقتال، فعليهم أن يغيروها، فالمعنى: أتتوقعون إذا كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا، فتبوؤوا بإثم الهزيمة، وإثم الفرار، وإثم العصيان!.

15. (عسى) معناها هنا توقع وقارب، فمعنى فهل عسيتم أي: فهل توقعتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؛ أي تومئ حالكم التي يبدو أنكم لا تحاولون تغييرها، مع أن الاستعداد للقتال يوجب تغيير الحال، وأنكم إذ توقعتم ذلك عالجتم حالكم، و(عسى) لها استعمالان:

أ. أحدهما: أن تكون بمعنى لعل، مثل قوله تعالى: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾ [المائدة]، فالمعنى: لعل الله أن يأتي بالفتح أو أمر، ويكون ما بعدها اسمها، وما يليه خبرها.

ب. ثانيهما: أن تكون في معنى الفعل توقع أو قارب، وما بعدها يكون في معنى الفاعل، ويصح أن يكون في مقام الاسم إعرابا، وهى هنا بهذا المعنى، كما هي في قوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد]

16. ﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ أجابوا نبيهم بأنهم قدروا حالهم، وعالجوا ضعف نفوسهم، وبينوا أن بواعث القتال قد توافرت، فحق علينا أن نقاتل؛ إننا قد أخرجنا من ديارنا باستيلاء العدو عليها، وأخرجنا من أبنائنا بسبيهم، وفصلهم عنا، وجعل قوتهم لأعدائنا وليست لنا، فساغ لنا القتال، بل وجب علينا؛ أي أننا في حال توجب القتال علينا، فما الذي يمنع منه؟ لقد توافر الباعث، وزال المانع فحق الجهاد، فإما فناء في طلب العزة، وإما بقاء في ظلها؛ بل إن حالنا شر أنواع الفناء؛ لأنه موت الأحياء!

17. هنا بحث لفظي نشير إليه، وهو في موضعين:

أ. أولهما: في قوله تعالى: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فالاستفهام هنا للنفي، والجار والمجرور (لنا) متعلق بفعل محذوف تقديره: ما سوغ لنا ألا نقاتل وقد أخرجنا من ديارنا! أي أنه لا مسوغ قط لعدم القتال بعد خراب الديار وذهاب الأبناء إن المرء يدافع عن أرضه وعن ولده، وقد أخرجنا من الاثنين، فأرضنا ليست بيدنا، وأنفسنا ليست بأيدينا؛ إذ أخرجنا عن فلذات أكبادنا، وقطع عنا من هم قطع من نفوسنا.

ب. الثاني:قوله تعالى: ﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ الواو هنا واو الحال، ولكن ما حقيقة الإخراج؟ أهو الإخراج الحسى بطردهم من بلادهم، والفصل بينهم وبين أبنائهم، فطردوا الكبار من الديار، وأبقوا الصغار عبيدا في الأرض وعسفاء فيها، أم المراد الخروج المعنوي بأن يكونوا في أرضهم وليس لهم من أمرها شيء، وأن يروا أولادهم وليس لهم من أمرهم شيء بأن يسبيهم عدوهم، أو يتخذهم قوة له بكل الوسائل المادية والنفسية؟.

18. تحتمل كلمة الإخراج المعنيين؛ فيحتمل أنهم أخرجوا الكبار، وأبقوا الصغار لينشئوهم عبيدا لهم أو أدوات عمل؛ ويحتمل أنهم أبقوهم أذلاء قد ألصقوا بالأرض وليس بصاحب بيت من لا يديره، ولا بصاحب البلد من لا يكون له أمره؛ وأولادهم لا سلطان لهم عليهم، فهم ليسوا لهم، بل لعدوهم.

19. ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ قال بنو إسرائيل الحق، وفعلوا الباطل؛ قالوا إنه لا مسوغ للقعود عن القتال، لأنه منا جهاد عن النفس، والمال والولد، والأهل والديار؛ ولكنهم عندما اشتدت الشديدة والتقى الجمعان، تولى الكثير منهم، وصبر القليل؛ وذلك عندما اختبروا بالنهر كما بيّنا؛ وهذا ما يذكره قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ أي فلما فرض عليهم وكانت القيادة الحكيمة القادرة، وانتظمت الصفوف، وتولوا عن القتال أي أعرضوا عنه؛ والتولي عن القتال والإعراض عنه يتضمن معنى الفرار في الزحف بأن يولوهم أدبارهم، وبألا يسلحوا نفوسهم بالصبر، والضبط، فلا يجعلوا لشهواتهم سلطانا على إرادتهم، وبأن يتمردوا على القيادة، ولا يطيعوها في وقت لا يجدى فيه إلا الطاعة المطلقة.

20. إن بنى إسرائيل بتوالي الهزائم عليهم، وسيطرة الشهوات على إرادتهم، وتفكك وحدتهم، كشأن كل الأمم المغلوبة على أمرها، قد تحقق في الكثيرين منهم كل أسباب الإعراض عن القتال، أو الفرار في الزحف، أو التمرد وقت الحاجة إلى الطاعة المطلقة، وتحكم الشهوة في أشد أوقات الحاجة إلى ضبط النفس والصبر؛ وإن هذه الحال كما قلنا تلازم الأمم المغلوبة على أمرها، حتى تتجه عزائم أهلها إلى التغيير من هذه الحال، أو يكون منهم فئة قادرة تتولى في أول الأمر لقاء العدو بنفسها، ثم يسرى الخلق القوى شيئا فشيئا في سائر الأمة، فتكون العزة بعد الذلة، ويبدلهم الله من بعد خوفهم أمنا.

21. إن الله سبحانه وتعالى قد ذيل الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ وفى هذا التذييل إشارات إلى معان جليلة:

أ. منها: الإشارة إلى علم الله السابق بأن هؤلاء الكثيرين سيكون منهم ما كان؛ لأن حالهم كانت تؤدى إليها، ومنها أن الله يميز الخبيث من الطيب ويعلم الصالح والطالح، ويضع كلا في موضعه الذي يليق به عند الناس وعنده يوم القيامة.

ب. ومنها أن الذين نكصوا على أعقابهم والبلاء بلاء ظالمون؛ ظلموا أنفسهم بالرضا بالذل، وبالمنزل الهون، وبأدنى معيشة؛ وظلموا إخوانهم بعدم معاونتهم في الشديدة؛ وكانوا ظالمين بعصيان أوامر القيادة الحكيمة، ثم ظالمين أكبر الظلم بعصيان الله رب العالمين؛ ثم كانوا ظالمين للذراري والأخلاف من بعدهم، لولا توفيق الله للفئة القليلة.

22. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ لقد ذكر الله سبحانه وتعالى حالهم عند القتال عندما طلبوه، ليبين سبحانه الفارقة بين القول والعمل عند الذين غلبت عليهم الذلة، واستولت عليهم شهواتهم؛ ثم أخذ سبحانه يذكر بقية القصة والعبرة فيها ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ أي أن الله سبحانه قد أخرج من صفوفكم ـ وهو العليم الحكيم الخبير بأحوالكم ـ شخصا قد استوفى كل أسباب الرئاسة وجعله ملكا عليكم، وفى التعبير إشارة إلى أنه أمثلهم وأقواهم على تحمل أعباء الحكم؛ لأن (بعث) تتضمن معنى الإثارة والفحص ثم الإخراج.

23. الملك المراد به هنا فيما يظهر مالك أمرهم، والمتولى ملكهم، وليس المراد منه المعنى المتعارف، وهو من يتولى بالسلالة، فإنه سيتبين أنه لم يختر لسلالته، بل اختير لعلمه وحكمته وقوته؛ ولم يستمر الملك في ذريته، بل آل من بعده لنبي الله داوود كما تدل على ذلك أخبار داوود التي ذكرها القرآن الكريم؛ فقد آتاه الله الملك والحكم، وإنه اختير باختيار الله تعالى بما أوحى به لنبيه، ولم يكن باختيارهم حتى لا يتنافسوا فيكون بأسهم بينهم شديدا، بدل أن يكون على عدوهم.

24. ليس في الآية دلالة على أن النظام الملكي الذي نعرفه في عصرنا مطلوب لا بالعبارة ولا بالإشارة؛ لأنها ليست ملكية الوراثة والسلالة، بل رئاسة العلم والقدرة والحكمة، فما اختير طالوت لسلالته ونسبه بل اختير لمعان شخصية فيه.

25. لقد كان مقتضى ما طلبوه من نبيهم من أن يختار ملكا أن ينفذوا من غير تردد الأمر فيما اختاره بهداية الله ووحيه؛ لأنهم فوضوا الأمر إلى نبيهم؛ ولأن الله سبحانه وتعالى هو الذي اختاره، وما كان لهم الخيرة بعد اختيار الله سبحانه وتعالى، ولأن الله قد اختاره لأجلهم ولمصلحتهم؛ ولذا عبر سبحانه وتعالى بقوله: ﴿بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ﴾ فالتعبير ب ﴿لَكُمْ﴾ [الكافرون: 6] إشارة إلى أنه في مصلحتكم، وأنكم ستنتفعون بقوته، وستكون قوته لكم على أعداكم.

26. لكنهم بدل أن يطيعوا ويأخذوا الأهبة أثاروا اللجاجة التي تعودوها؛ ولذلك قال سبحانه حكاية عنهم ﴿قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ تمردوا على نبيهم بذلك الاعتراض؛ لقد أبدوا اعتراضهم بعد أن فوضوا الأمر فناقضوا أنفسهم، وبنوا الاعتراض على أسباب جعلوها مناط الملك، وليست هي السبب للرئاسة الصالحة والملك القوى؛ ظنوا أن سبب الملك أحد أمرين: إما سعة من المال وثروة طائلة، وإما سلالة ملكية توارثها، فقالوا ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ﴾ من أي جهة استمد الملك، أي أنه ليس في عروقه دم ملكي يستحق به الملك، وليس هو ذا نسب رفيع، بل أي واحد منا أحق بالملك منه؛ لأنه ليس من الأشراف، ولئن تجاوزنا شرف النسب وكرم الولادة لنجدن أنه فقير ليس في سعة من المال، فقد سلب منه سببا السيادة، وهما النسب والمال.

27. كذلك يكون تفكير الجماعات التي سيطرت عليها الأهواء، وغلبت على أمرها، تتجه إلى الماديات فتحكمها، وتفقد تقدير المعنويات؛ وبذلك تختل مقاييس التقدير؛ فأول ما تبتلى به الجماعات الضعيفة أن تختل مقاييس العظمة فيها؛ فإنه إذا اختل مقياس العظمة غمر العظماء، ولم يظهروا إلا بالمصادفات أو القوى الخارقة، والعظماء في الأمم هم القمم العالية التي تهدى إلى مواطن القوة، وتثير العزة من مكامنها.

28. إن أردت أن تعرف مقياسا ضابطا لرقى أمة من الأمم فخذه من مقياس العظمة فيها، وقد كان بنو إسرائيل في وقت هذه القصة في أشد الانهيار الخلقي كما يدل على ذلك مقياسهم للعظمة بالسلالة والمال.

29. فى هذه الجملة الكريمة مباحث لفظية نشير إليها:

أ. أولها: قوله تعالى: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ﴾ أنّى، قد تستعمل بمعنى كيف، وقد تستعمل بمعنى من أين، وهى هنا يجوز أن تكون بمعنى كيف، ويكون المعنى: كيف يكون له الملك علينا، على أي حال يسوغ ذلك ويمكن؟ فهو استفهام المقصود منه الاستبعاد المطلق، أي أنه لا يتصور أن يكون مثله ملكا؟ أي أنه ليس فيه من الصفات، ولا في بيته من المحتد، ما يسوغ معه أن يكون ملكا، فالمقصود من الاستفهام استبعاد أن يكون فيه سبب من الأسباب المسوغة للملك.

ب. ثانيها: قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾ المتكلم بهذا الملأ من بنى إسرائيل أي كبراء بنى إسرائيل؛ فكل واحد منهم يقرر أنه أحق بالملك، ومجموعهم يقرر أنه دونهم، وأحقيتهم من ناحية النسب وناحية الجاه في بنى إسرائيل، وناحية الأنصار والعصبية.

ج. ثالثها: قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ أصل السعة أن تكون في المكان وفى الفعل وفى الحال، والسعة في الحال أن يكون على حال من القدرة أو المال بحيث لا يكون مضيقا عليه أو لا يكون في ضيق، فلما كنّى عن قلة المال بالضيق كنّى عن كثرته بالسعة.

30. ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ لقد اعترضوا على اختيار طالوت بأنه ليس خيرا منهم سلالة ومحتدا، وأنه ليس ذا مال وفير؛ فرد نبيهم قولهم:

أ. أولا: بأن الله اصطفاه أي اختاره من الصفوة وأهل الهمة والنبل؛ وقال: ﴿اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾ ولم يقل منكم مع أنه منهم، للإشارة إلى فضله عليهم واستعلائه بما منحه الله من خواص وصفات؛ وإنه كان يكفى اصطفاء الله له ليسكتوا ولا يعترضوا؛ لأنه ليس فوق إرادة الله إرادة، وليس لهم الخيرة فيما اختاره الله؛ ولأنهم فوضوا أمر اختيار الملك إلى النبيّ وقد اختاره الله ربهم ورب النبيّ.

ب. ثانيا: وردّ نبيهم اعتراضهم ببيان المقياس الصحيح لعظم الرجال واستعدادهم لقيادة الشعوب إلى مواطن العزة والشرف؛ لقد حسبوا النسب والمال مقياس العظمة، فبين لهم مقياسها، فقال: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ أي أنه أعظم منكم جميعا؛ لأن الله سبحانه زاده عليكم في الأمرين اللذين هما سبب للقيادة الحكيمة، وهما:

أولا: قوة العقل وسعة العلم وكثرة التجارب.

وثانيا: قوة الجسم وعظم المنّة.

31. فى ذلك فوق التنبيه إلى مقاييس العظمة الحقيقية، إشارة إلى الأهلية للمنصب في الدولة، فالأهلية للمنصب ليس الحسب والنسب والمال، ولكن الأهلية للمنصب بالكفاية فيه، فإذا كان الملك أعلى المناصب، وإذا كانت الرئاسة الكبرى أعظم الأعمال تبعات، فليس الذي يؤهل للمناصب السعة والمال، بل الكفاية لها والقدرة عليها؛ ففي الآية الكريمة إشارة إلى مقياس العظمة، وإلى مقياس الاختيار للأعمال والمناصب:

أ. والبسطة في العلم معناها الاتساع في الأفق والتجارب، وقوة العقل والتدبير والإحكام في التفكير، فالبسطة معناها الاتساع، وإذا أضيفت إلى العلم فمعناها الاتساع والإحاطة بكل ما يوجه العقل إلى التفكير المستقيم مع سلامة العقل نفسه.

ب. وبسطة الجسم اتساعه، لا بمعنى كثرة اللحم والشحم، بل بأن يكون سبط العظام مديد القامة بعيد ما بين المنكبين؛ وقد يراد ببسطة الجسم تلك الحقيقة، وهو بذلك فوق قوة المنة، يلقى بالرعب منظره في قلوب الأعداء، وبالهيبة في قلوب الأولياء؛ أو يراد ببسطة الجسم مطلق القوة؛ لأن طويل العظام عريض ما بين المنكبين يكون في غالب الأحوال قوى الجسم، فأطلق ذلك وأريد مطلق القوة.

32. يلاحظ أنه قُدمت بسطة العلم على بسطة الجسم للإشارة إلى أنها في الرئاسة أقوى تأثيرا، وأنها الأصل وغيرها التابع، وأنه ليست الحاجة إلى قوة الجسم بمقدار الحاجة إلى قوة الرأي والتدبير وسعة العلم وكثرة التجارب.

33. ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ذيل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بهذه الجملة السامية؛ للدلالة على أمرين:

أ. أولهما: أن الأمور كلها بيده سبحانه وتعالى، وأنه فعال لما يريد، وأن ما يشاء في هذا الكون يقع، وما لا يشاء لا يقع، وأنه سبحانه يؤتى الملك في الدنيا لمن يشاء، وأنه إذ يعطيه هو المسيطر عليه؛ ولذلك أضيف الملك إليه إذ قال: ﴿مُلْكَهُ﴾ فهو إذ يعطيه لمن يعطيه هو الغالب على أمره يستطيع أن يسلبه في أي وقت شاء، فهو مالك الملك، يؤتى الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وهو القاهر فوق عباده.

ب. ثانيهما: أن كل شيء في الوجود تحت سلطان الله تعالى، وهذا معنى أن الله واسع، أي محيط بكل شيء، قد وسع كل شيء برحمته وقدرته، وأنه يدبر الأمور على مقتضى العلم الواسع الشامل؛ فهو يربط الأسباب والمسببات، وهو يعطى لحكمة يعلمها، ويمنع لحكمة يعلمها، يبتلى الأمم بالقوة والضعف والعزة والذلة، والهزيمة والانتصار، والبأساء والضراء، ثم النعماء والسراء، كما قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء] وعلى الأمم المغلوبة أن تتخذ الأسباب بجمع الكلمة، وتأليف القلوب، وتحرير النفوس من ربقة الأهواء والشهوات، ولا تستسلم للضعف، ولا تستخذى للقوى، وتناضل وتكافح وتصابر، وتتوكل على الله، وإلى الله مصير الأمور.

34. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: 248] الآية.. انتهينا في قصة بنى إسرائيل الذين أخرجوا من ديارهم وأبنائهم إلى أنهم أرادوا أن يتخذوا الأسباب لإعادة ملكهم وإخراج العدو من ديارهم، فوجدوا أنه لا بد من رئاسة تقود إلى موطن العزة، وميدان الشرف والجهاد، فطلبوا من نبيهم أن يختار لهم قائدا يكون رئيسهم ويكون له ملكهم؛ وسموه ملكا؛ لأنهم لم يعرفوا الرئيس المالك للسلطان إلا باسم الملك؛ وقد اختار الله لهم طالوت، ولم يكن من ذي النسب فيهم، أو على الأقل لم يكن من أعلى الأنساب فيهم وكان في المال قلا؛ وما علموا أن الملك يكون في غير ذي المال والنسب؛ فبين الله سبحانه أن مناط الاختيار للسلطان القدرة على تحمل أعباء الملك؛ وذلك يتحقق بقدرة الجسم، وسعة المعرفة والعلم، وهما أمران قد تحققا في طالوت الذي اختاره الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى يبين أن أساس الولاية قدرة الوالي على تحمل الأعباء الجسام بالتزود بالعلم الكثير والتجارب الواسعة، والجسم القوى الذي لا يخذله في ميدان الجهاد؛ وهم يرون الولاية بالوراثة وبين ذوى الأموال؛ فالمناط عندهم المال الوفير والنسب، ولا عبرة بشيء وراء ذلك، والله سبحانه وتعالى يبين لهم أن الاعتبار للقدرة، ولا عبرة بما وراء ذلك، فسكتوا، ثم أراد رب العالمين أن يثبت قلوبهم، ويزيل شكهم، فذكر لهم علامة ملكه، وأمارة السلطان الذي أفاضه الله سبحانه وتعالى على ذلك الحاكم المختار، فأوحى إلى نبيهم المبعوث أن يسوق إليهم البشرى.

35. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ لقد خضعوا لقول نبيهم ولحكم الله باختيار طالوت وليا لأمرهم، متوليا قيادتهم، ولكنه خضوع القلق المضطرب الذي لم يصب السكون قلبه، فلم تطمئن قلوبهم، فساق الله إليهم آية تدل على سلطان الله، إذ لا بد من أمارة تثبت القلوب، وخصوصا أنهم مقدمون على حرب فيها تشتد الشديدة وتبتلى القلوب، فلا بد من نفوس ملتفة حول قائد لا يرين عليها شيء من الريب؛ ولا يمسها شيء من ظلمة الشك، بل يكون الخضوع الكامل، والاتحاد الشامل، والتآلف بين الجيش والقائد.

36. كانت آية ملك طالوت، أي أمارة سلطانه المتقرر الثابت، أن يأتيهم التابوت فيه سكينة من ربهم، والتابوت على وزن فعلوت، كما قال الزمخشري ورجحه، على اعتبار أنه من تاب بمعنى رجع وآب؛ لأن نفوسهم كانت تئوب إليه وتثوب، وتسكن وتطمئن، ويرون فيه شارة عزهم، ورمز مجدهم، وصلة حاضرهم بماضيهم، والتابوت الذي ارتبطت به قلوبهم ذلك الارتباط صندوق فيه آثار من آثار آل موسى وآل هارون، وقد فقدوه وقت أن ضربت عليهم الذلة، وأخرجوا من ديارهم، فكانت الذلة مقارنة لذلك الفقد، والعزة مقارنة للبقاء.

37. وصف الله تعالى التابوت بأن فيه سكينة أي أن فيه اطمئنانا لهم، من حيث إنهم يرون في عودته بشرى بالسلطان والعزة والقوة، وقال سبحانه: ﴿سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ إشارة إلى أن السكينة والاطمئنان فيض من فيوض الله سبحانه وتعالى يرحم به الناس؛ وإن اقترنت تلك السكينة بأسباب فليست تلك الأسباب العادية هي المؤثرة في وجودها، بل الذي يوجدها هو رب العالمين، ومن حكمته سبحانه أن جعلها مقترنة بتلك الأسباب الدنيوية، وإن كانت غير مؤثرة فيها بالإيجاد، بدليل أنه قد توجد تلك الأسباب ولا توجد معها السكينة، ولا يكون معها الاطمئنان قط، واقتران السكينة والاطمئنان بالأسباب ليطلب الناس الأسباب، ويرجو الرحمة منه، وكل شيء عند الله بمقدار.

38. فى التابوت كما ذكرنا بقية من آل موسى وآل هارون، أي آثارهم، وتلك الآثار هي سبب الاعتزاز به والتيمن واعتباره أمارة عزهم، والصلة بين حاضرهم وماضيهم؛ وفى تقديم السكينة على (بقية) إشارة إلى أن السكينة هي الغاية المطلوبة، والاطمئنان هو الأمر المرغوب، فتلك الآثار ليست في ذاتها الغاية، إنما الغاية هي السكينة، وقد اقترنت بوجودها لتكون علامة ومظهرا، وإن المؤثر بالإيجاد هو رب العالمين كما ذكرنا.

39. سؤال وإشكال: كيف كان إتيان التابوت؟ أجاء بأمر خارق للعادة، أم جاء بأمر عادى، وكان التنبؤ بمجيئه أمارة سلطان طالوت واختيار الله سبحانه له؟ ثم كيف كانت تحمله الملائكة؟ أهو الحمل الحقيقي أم هي القوة الروحية الغيبية التي كانت بأمر الله تعالى من غير أن تعرف أسبابها ومظاهرها؛ كما ذكر الله سبحانه من أن الله كان يؤيد المسلمين بالملائكة في غزوة بدر، وما كانت إلا القوى الروحية؟ والجواب: للإجابة عن هذا السؤال نقرر أن الباحثين في المسائل الدينية، والمعنيين بالدراسات القرآنية فريقان:

أ. فريق يتجه إلى تفسيره بما يقرب معانيه من الأسباب العادية، ولا يفسره بالخوارق إلا إذا لم يكن مناص، من غير أن يؤول الألفاظ بما يناقض ظاهرها، ولا يتفق مع أسلوب القرآن ومنهاجه البياني.

ب. وفريق لا يحرص على تفسير القرآن بالأسباب العادية، بل يفسره بالخوارق ما دام ظاهره يؤدى إلى ذلك من غير محاولة تقريب؛ لأنه كتاب يتحدث عن الله، والأسباب إنما يقيد بها العباد، والله خالق كل شيء فهو فوق الأسباب والمسببات، وهو الفعال لما يريد، وكل محاولة لتقريب الألفاظ التي يدل ظاهرها على خرق للعادات إنما هو لتحكيم الأسباب العادية في الإرادة الإلهية، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

40. لقد كانت العبارة السامية ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ هذه العبارة الكريمة موضع نظر أولئك الباحثين على اختلاف منهاجهم:

أ. فالذين لا يحكمون العبارات بالأسباب العادية قالوا: إنه قد أتاهم التابوت تحمله الملائكة حقا، وإن كان هذا بطريقة لم يفصلها القرآن، فهي واضحة الدلالة بينة المعنى؛ ويرشحون قولهم بأن الآية الإلهية التي تدل على اختيار طالوت يجب أن تكون أمرا خارقا للعادة، لتكون الدلالة على اصطفاء الله له قائدا ومدبرا واضحة بينة؛ فالملائكة حملته حقا، وهم جنود الله الذين لا نراهم وإن كنا نؤمن بهم.

ب. والفريق الثاني الذي يفسر القرآن بالأسباب العادية ما وسعت العبارات ذلك قالوا: إن التابوت قد جاء إلى بنى إسرائيل:

إما بأنهم عثروا عليه، وقد غيب عنهم أمدا طويلا من غير أن يعلموا له مكانا، والآية هي إخبار نبيهم لهم بذلك قبل وقوعه، وحمل الملائكة له هو بالقوة الروحية التي وفقتهم له بعد طول فقدهم كالقوى الروحية التي أيدت المسلمين في غزوة بدر وغيرها من الغزوات الإسلامية.

وإما أن يقال: إن إعادة التابوت في جولات الحرب التي كللت بالانتصار هي العلامة على إمرة طالوت التي كانت باختيار إلهى، وأمر لدنى؛ والمعنى على ذلك: إن آية ملكه وأمارته أنه سيقودكم إلى مواطن الظفر ومواضع الفخار وستعود إليكم في حروبه شارة عزتكم، وأمارة مجدكم التليد، وعزكم الغابر وهى التابوت، وإنه سيعود إليكم مكرما معززا تحمله ملائكة الله، والقوى الروحية، وفى هذا إشارة إلى أن أمارة السلطان العمل المنتج المثمر.

41. أخطأ بعض المفسرين المحدثين، فذكر أنه يحتمل أن المراد من‏ ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ أن التابوت كان في شكل صندوق تحمله تماثيل كانوا يسمونها الملائكة من حيث إنها صورة ملائكة في خيالهم، إن ذلك خطأ مبين، وإن ذكر في التوراة الحاضرة! لأن القرآن الكريم الذي حارب الوثنية وذرائعها لا يتفق مع منطقه أن تسمى التماثيل ملائكة، ولو كان في ذلك مجاراة لتعبيراتهم، ولا يصح أن يفسر القرآن بما لا يتفق مع منطقه ويخالف اتجاهاته ومراميه.

42. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذه العبارة السامية، لبيان أن عليهم أن يخضعوا لإمرة طالوت بعد أن تبين لهم اختيار الله له، واصطفاؤه؛ والمعنى:

أ. إن في عناية الله سبحانه وتعالى بكم، من إعادته التابوت شارة عزكم ـ لآية لكم وعلامة توجب عليكم أن تخضعوا، ولا تتململوا، ولا تتمردوا إن كنتم مؤمنين، أي إن كان شأنكم أن تؤمنوا بالحق، وتذعنوا إذا علمتموه، وهذا التخريج على اعتبار أن هذه الجملة السامية من كلام بنى إسرائيل لهم، فهي تبين وجوب الطاعة عليهم بعد هذه البينات.

ب. ويحتمل أن الخطاب في هذه الجملة السامية للمؤمنين من أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، ويكون المعنى: إن ذلك القصص الحكيم، وتلك العظات البالغة لآية، أي لأمارة تدل على صدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلم فيما يدعوكم إليه، وأنه يتحدث عن ربه؛ لأنه وهو النبيّ الأمي الذي لم يقرأ كتابا، ولم يجلس إلى معلم ولم يلقن أي علم من أي طريق قد ساق إليكم تلك الأخبار الصادقة، فهي آية من آيات نبوته إن كان من شأنكم الإذعان للحق إن بدت آياته وظهرت بيناته.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/880.

(2) ذكر هنا تتمة القصة كمقدمة لتفسير الآيات الكريمة، وقد نقلناها إلى محلها من الفصل التالي لارتباطها بها

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. القرآن كتاب هدى ودين، وأخلاق وشريعة، لا كتاب قصص وتاريخ، وفلسفة وعلوم طبيعية، وهو سبحانه إذا أشار الى حادثة تاريخية فإنما يشير اليها للعبرة والموعظة، ويكتفي منها بمحل الشاهد، وموضع الفائدة، ولا يأتي بها مفصلة من جميع جهاتها، وقد جاء التنبيه الى ذلك في العديد من الآيات منها ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، ومنها ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.. قال الشيخ محمد عبده: (ان محاولة جعل قصص القرآن ككتب التاريخ بإدخال ما يروون فيها على انه بيان لها هي مخالفة لسنة القرآن، وصرف للقلوب عن موعظته، واضاعة لمقصده وحكمته، فالواجب أن نفهم ما فيه، ونعمل أفكارنا في استخراج العبر منه، وننزع من نفوسنا ما ذمه وقبحه، ونحملها على التحلي بما مدحه واستحسنه)

2. أشار سبحانه الى قصة طالوت في الآية 246 ـ 252، ونذكرها نحن كما دلت عليها ألفاظ هذه الآيات، ثم نشير الى موضع العبرة والعظة(2).

3. كان لموسى عليه السلام بعد موته خلفاء من الأنبياء يقيمون أمر الله في بني إسرائيل الواحد تلو الآخر، ومن هؤلاء الخلفاء نبي ذكره القرآن، ولم يسمه، ولكنه كان في عهد داوود عليه السلام، كما يستفاد من الآيات، وقال كثير من المفسرين: انه صمويل، وفي ذات يوم أتاه جماعة من بني إسرائيل، وقالوا له: أقم علينا أميرا نصدر عن رأيه في تدبير الحرب، ونقاتل معه في سبيل الله، فقال لهم نبيهم ـ وكان قد سبر أحوالهم ـ اني أتوقع تخاذلكم إذا كتب عليكم القتال، ودعيتم الى الجهاد، قالوا: كيف نتخاذل، وقد أخرجنا العدو من ديارنا، وحال بيننا وبين أبنائنا!؟، فاستخار الله نبيهم فيمن يصلح للقيادة، فأوحى الله سبحانه: اني قد اخترت عليهم طالوت ملكا، وقيل انه سمي طالوت لطوله، ولما أخبرهم النبي بأن الله قد اختار طالوت، قالوا: كيف يكون له الملك علينا، وهو غير عريق النسب، وفارغ اليد من المال!؟.. فقال النبي: ان زعامة الجيش لا تحتاج الى نسب ونشب، وإنما تحتاج الى الشجاعة، والمعرفة بتصريف الأمور، والله سبحانه قد منح طالوت الكفاءة العلمية والخلقية، والقدرة الجسمية، وسائر مؤهلات الزعامة والرئاسة.. فقالوا: نريد معجزة تدل على مكانته هذه.. قال آية ذلك أن يعود إليكم التابوت، تأتيكم به الملائكة بأمر الله تعالى.. قيل: ان هذا التابوت كان فيه بقية ألواح موسى وعصاه، وثيابه وشيء من التوراة، وكان قد سلبهم إياه الفلسطينيون في بعض المعارك الحربية.. وقيل: بل رفعه الله الى السماء بعد وفاة موسى.. ولما جاء التابوت بمعجزة من الله سبحانه صحت عندهم العلامة، وأقروا لطالوت بالسلطان والقيادة.

4. أما العبرة من الاشارة الى هذه القصة وتدبرها فهي ان الذي تجب له القيادة من يتمتع بالكفاءة العلمية والخلقية، لا صاحب الحسب والنسب، والجاه والمال، وان النصر والغلبة تكون بالصبر والايمان، لا بكثرة العدد، وان السبيل الى معرفة الطيب والخبيث هي التجربة والابتلاء.

5. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾، ألم تر خطاب في ظاهره موجه الى النبي، وفي المعنى الى جميع السامعين.. وهذه الصيغة يخاطب بها العالم بالقصة، وغير العالم بها، فتقول له: ألم تر إلى فلان أي شيء فعل، وأنت تريد أن تعرفه بما فعل، والملأ اسم جمع، لا واحد له من لفظه، كالقوم والجيش والرهط، ﴿إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، قيل: ان النبي الذي قالوا له هذا القول هو صمويل.

6. ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾، هل هنا للتقرير، وعسيتم بالفتح، ومعناها المقاربة، والمراد بها التوقع، أي هل الأمر كما أتوقعه أنا منكم من التخاذل وترك القتال إذا فرض عليكم!؟

7. ﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾، أنكروا أن يكون لهم أي داع لترك الجهاد، وبينوا السبب الذي يدعوهم للقتال، وهو طردهم من ديارهم، وبعدهم عن أبنائهم.

8. ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾، وأكثر الناس على هذا الوصف، يقررون ويصممون على الاقدام والعمل، حتى إذ جد الجد تواروا في جحورهم، وأبلغ ما قيل في ذلك كلمة لسيد الشهداء الحسين بن علي عليه السلام: الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون.

9. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾، هذا المنطق لا يختص ببني إسرائيل، فلقد كان الناس، وما زال أكثرهم يزعمون ان المناصب العالية يجب أن تكون لأهل المال والجاه ﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا﴾

10. ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾، أي ان الرئاسة لا تكون بالمال والنسب، بل بالعلم والإخلاص، والمراد ببسطة الجسم السلامة من الأمراض، لأن المرض يمنع من القيام بواجبات الرئاسة، وقيل: ان طالوت كان أطول من الرجل المعتاد بمقدار ذراع اليد.

11. ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾، ان الله سبحانه مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير.. ما في ذلك ريب، ولكنه جلت حكمته عادل‏ لا يظلم أحدا، وحكيم لا يفعل عبثا، كيف وهو القائل ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾، أي بنظام وسبب، لا بالصدفة والفوضى، حتى المال الحرام، والسلطان القائم على الظلم والاستبداد لهما أسبابهما الاجتماعية من نظام جائر، ومجتمع فاسد، وجهل قاتل، وما اليه.

12. سؤال وإشكال: هل يستند سلطان الجور، والثراء المغتصب الى مشيئة الله؟ والجواب: كلا، لأن الله سبحانه قد حرم الظلم، والغصب!؟، أجل، انه تعالى لا يتدخل بإرادته التكوينية في الأمور الاجتماعية على طريقة (كن فيكون)، انه سبحانه لا يردع الظالم عن ظلمه بقوة قاهرة، وإنما ينهاه بإرادة التشريع والإرشاد، ويحذره من الظلم، ويتوعده عليه، فإذا خالف عاقبه يوم الجزاء الأكبر.. ولو شاء أن يمنعه لفعل، ولكنه يترك الأمور تجري على أسبابها وسننها.. وربما كان هذا هو الوجه المسوغ لنسبة التمليك اليه بوجه عام، وعليه يكون معنى يؤتي الملك من يشاء انه سبحانه لو أراد أن يمنع الملك بقوة قاهرة عمن لا يستحقه لفعل، ولم يصل الملك الى الظالم برغم وجود أسبابه العادية، وكيف كان، فان ثراء المرء وسلطانه يأتيان نتيجة للمجتمع الذي يعيش فيه، أما نسبتهما الى مشيئة الله مباشرة، وبدون توسط سبب من الأسباب الخارجية فخطأ محض.

13. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾، التابوت هو الصندوق الذي كان موسى يضع التوراة فيه، وكان الله قد رفعه الى السماء بعد وفاة موسى سخطا على بني إسرائيل ـ كما قيل ـ ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، أي تسكن اليه نفوسكم، وتطمئن به قلوبكم، حيث كان للتابوت شأن ديني عظيم عند بني إسرائيل.

14. ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾، لم يبين الله البقية ما هي؟ وآل موسى وهارون هم الأنبياء الذين توارثوا التابوت، ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾، أي بمعجزة خارقة للعادة.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/377.

(2) نقلنا بعض ما ذكره من ملخص القصة إلى محله من الفصل التالي لارتباطه به

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، الملأ كما قيل: الجماعة من الناس على رأي واحد، سميت بالملإ لكونها تملأ العيون عظمة وأبهة، وقولهم لنبيهم‏ ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، على ما يعطيه السياق يدل على أن الملك المسمى بجالوت كان قد تملكهم، وسار فيهم بما افتقدوا به جميع شئون حياتهم المستقلة من الديار و الأولاد بعد ما كان الله أنجاهم من آل فرعون، يسومونهم سوء العذاب ببعثة موسى وولايته وولاية من بعده من أوصيائه، وبلغ من اشتداد الأمر عليهم ما انتبه به الخامد من قواهم الباطنة، وعاد إلى أنفسهم العصبية الزائلة المضعفة فعند ذلك سأل الملأ منهم نبيهم أن يبعث لهم ملكا ليرتفع به اختلاف الكلمة من بينهم وتجتمع به قواهم المتفرقة الساقطة عن التأثير، ويقاتلوا تحت أمره في سبيل الله.

2. ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾، كان بنو إسرائيل سألوا نبيهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله وليس ذلك للنبي بل الأمر في ذلك إلى الله سبحانه، ولذلك أرجع نبيهم الأمر في القتال وبعث الملك إلى الله تعالى، ولم يصرح باسمه تعظيما لأن الذي أجابهم به هو السؤال عن مخالفتهم وكانت مرجوة منهم ظاهرة من حالهم بوحيه تعالى فنزه اسمه تعالى من التصريح به بل إنما أشار إلى أن الأمر منه وإليه تعالى بقوله: إن كتب، والكتابة ـ وهي الفرض إنما تكون من الله تعالى.

3. كانت المخالفة والتولي عن القتال مرجوا منهم لكنه أورده بطريق الاستفهام‏ ليتم الحجة عليهم بإنكارهم فيما سيجيبون به من قولهم: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾

4. قالوا: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا﴾، ـ الإخراج ـ من البلاد لما كان ملازما للتفرقة بينهم وبين أوطانهم المألوفة، ومنعهم عن التصرف فيها والتمتع بها، كني به عن مطلق التصرف والتمتع، ولذلك نسب الإخراج إلى الأبناء أيضا كما نسب إلى البلاد.

5. ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾، تفريع على قول نبيهم: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ﴾ الآية، وقولهم: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ﴾، وفي قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾، دلالة على أن قول نبيهم لهم: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾، إنما كان لوحي من الله سبحانه: أنهم سيتولون عن القتال.

6. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿مِنَ الْمَالِ﴾ في جوابه عليه السلام هذا حيث نسب بعث الملك إلى الله تنبيه بما فات منهم إذ قالوا لنبيهم ابعث لنا ملكا نقاتل ولم يقولوا: اسأل الله أن يبعث لنا ملكا ويكتب لنا القتال.

7. بالجملة التصريح باسم طالوت هو الذي أوجب منهم الاعتراض على ملكه وذلك لوجود صفتين فيه كانتا تنافيان عندهم الملك، وهما ما حكاهما الله تعالى من قولهم:‏ ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾، ومن المعلوم أن قولهم هذا لنبيهم، ولم يستدلوا على كونهم أحق بالملك منه بشيء يدل على أن دليله كان أمرا بينا لا يحتاج إلى الذكر، وليس إلا أن بيت النبوة وبيت الملك في بني إسرائيل وهما بيتان مفتخران بموهبة النبوة والملك كانتا غير البيت الذي كان منه طالوت، وبعبارة أخرى لم يكن طالوت من بيت الملك ولا من بيت النبوة ولذلك اعترضوا على ملكه بأنى، وهم أهل بيت الملك أو الملك والنبوة معا، أحق بالملك منه لأن الله جعل الملك فينا فكيف يقبل الانتقال إلى غيرنا، وهذا الكلام منهم من فروع قولهم بنفي البداء وعدم جواز النسخ والتغيير حيث قالوا ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾، وقد أجاب عنه نبيهم بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾ فهذه إحدى الصفتين المنافيتين للملك عندهم، والصفة الثانية ما في قولهم ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ وقد كان طالوت فقيرا، وقد أجاب عنه نبيهم بقوله: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ الآية.

8. ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾، الاصطفاء والاستصفاء ـ الاختيار وأصله الصفو، والبسطة ـ هي السعة والقدرة، وهذان جوابان عن اعتراضهم:

أ. أما اعتراضهم بكونهم أحق بالملك من طالوت لشرف بيتهم، فجوابه: أن هذه مزية كان الله سبحانه خص بيتهم بها وإذا اصطفى عليهم غيرهم كان أحق بالملك منهم، وكان الشرف والتقدم لبيته على بيوتهم ولشخصه على أشخاصهم، فإنما الفضل يتبع تفضيله تعالى.

ب. أما اعتراضهم بأنه لم يؤت سعة من المال، فجوابه: أن الملك وهو استقرار السلطة على مجتمع من الناس حيث كان الغرض الوحيد منه أن يتلاءم الإرادات المتفرقة من الناس وتجتمع تحت إرادة واحدة وتتحد الأزمة باتصالها بزمام واحد فيسير بذلك كل فرد من أفراد المجتمع طريق كماله اللائق به فلا يزاحم بذلك فرد فردا، ولا يتقدم فرد من غير حق، ولا يتأخر فرد من غير حق، وبالجملة الغرض من الملك أن يدبر صاحبه المجتمع تدبيرا يوصل كل فرد من أفراده إلى كماله اللائق به، ويدفع كل ما يمانع ذلك، والذي يلزم وجوده في نيل هذا المطلوب أمران:

أحدهما: العلم بجميع مصالح حياة الناس ومفاسدها،.

ثانيهما: القدرة الجسمية على إجراء ما يراه من مصالح المملكة، وهما اللذان يشير إليهما قوله تعالى: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾، وأما سعة المال فعده من مقومات الملك من الجهل.

9. ثم جمع الجميع تحت حجة واحدة ذكرها بقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾، وهو أن الملك لله وحده ليس لأحد فيه نصيب إلا ما آتاه الله سبحانه منه وهو مع ذلك لله كما يفيده الإضافة في قوله تعالى، ﴿يُؤْتِي مُلْكَهُ﴾، وإذا كان كذلك فله تعالى التصرف في ملكه كيف شاء وأراد، ليس لأحد أن يقول: لماذا أو بما ذا (أي أن يسأل عن علة التصرف لأن الله تعالى هو السبب المطلق، ولا عن متمم العلية وأداة الفعل لأن الله تعالى تام لا يحتاج إلى متمم) فلا ينبغي السؤال عن نقل الملك من بيت‏ إلى بيت، أو تقليده أحدا ليس له أسبابه الظاهرة من الجمع والمال.

10. الإيتاء والإفاضة الإلهية وإن كانت كيف شاء ولمن شاء غير أنها مع ذلك لا تقع جزافا خالية عن الحكم والمصالح، فإن المقصود من قولنا: إنه تعالى يفعل ما يشاء، ويؤتي الملك من يشاء ونظائر ذلك ليس أن الله سبحانه لا يراعي في فعله جانب المصلحة أو أنه يفعل فعلا فإن اتفق أن صادف المصلحة فقد صادف وإن لم يصادف فقد صار جزافا ولا محذور لأن الملك له فله أن يفعل ما يشاء هذا، فإن هذا مما يبطله الظواهر الدينية والبراهين العقلية، بل المقصود بذلك: أن الله سبحانه حيث ينتهي إليه كل خلق وأمر فالمصالح وجهات الخير مثل سائر الأشياء مخلوقة له تعالى، وإذا كان كذلك لم يكن الله سبحانه في فعله مقهورا لمصلحة من المصالح محكوما بحكمها، كما أننا في أفعالنا كذلك، فإذا فعل سبحانه فعلا أو خلق خلقا ولا يفعل إلا الجميل، ولا يخلق إلا الحسن كان فعله ذا مصلحة مرعيا فيه صلاح العباد غير أنه تعالى غير محكوم ولا مقهور للمصلحة.

11. من هنا صح اجتماع هذا التعليل مع ما تقدمه، أعني اجتماع قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾، مع قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾، فإن الحجة الأولى مشتملة على التعليل بالمصالح والأسباب، والحجة الثانية على إطلاق الملك الذي يفعل ما يشاء، ولولا أن إطلاق الملك وكونه تعالى يفعل ما يشاء لا ينافي كون أفعاله مقارنة للمصالح والحكم لم يصح الجمع بين الكلامين فضلا عن تأييد أحدهما أو تتميمه بالآخر.

12. أوضح هذا المعنى أحسن الإيضاح تذييل الآية بقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ فإن الواسع يدل على عدم ممنوعيته تعالى عن فعل وإيتاء أصلا والعليم يدل على أن فعله تعالى فعل يقع عن علم ثابت غير مخطئ فهو سبحانه يفعل كل ما يشاء ولا يفعل إلا فعلا ذا مصلحة، والوسعة والسعة في الأصل حال في الجسم به يقبل أشياء أخر من حيث التمكن كسعة الإناء لما يصب فيه، والصندوق لما يوضع فيه، والدار لمن يحل فيها ثم أستعير للغني ولكن لا كل غني ومن كل جهة، بل من جهة إمكان البذل معه كان المال يسع‏ بذل ما أريد بذله وبهذا المعنى يطلق عليه سبحانه، فهو سبحانه واسع أي غني لا يعجزه بذل ما أراد بذله بل يقدر على ذلك.

13. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، التابوت ـ هو الصندوق، وهو على ما قيل فعلوت من التوب بمعنى الرجوع لأن الإنسان يرجع إلى الصندوق رجوعا بعد رجوع.

14. السكينة من السكون خلاف الحركة وتستعمل في سكون القلب وهو استقرار الإنسان وعدم اضطراب باطنه في تصميم إرادته على ما هو حال الإنسان الحكيم (من الحكمة باصطلاح فن الأخلاق) صاحب العزيمة في أفعاله، والله سبحانه جعلها من خواص الإيمان في مرتبة كماله، وعدها من مواهبه السامية.

15. بيان ذلك: أن الإنسان بغريزته الفطرية يصدر أفعاله عن التعقل، وهو تنظيم مقدمات عقلية مشتملة على مصالح: الأفعال، وتأثيرها في سعادته في حياته والخير المطلوب في اجتماعه، ثم استنتاج ما ينبغي أن يفعله وما ينبغي أن يتركه، وهذا العمل الفكري إذا جرى الإنسان على أسلوب فطرته ولم يقصد إلا ما ينفعه نفعا حقيقيا في سعادته يجري على قرار من النفس وسكون من الفكر من غير اضطراب وتزلزل، وأما إذا أخلد الإنسان في حياته إلى الأرض واتبع الهوى اختلط عليه الأمر، وداخل الخيال بتزييناته وتنميقاته في أفكاره وعزائمه فأورث ذلك انحرافه عن سنن الصواب تارة، وتردده واضطرابه في عزمه وتصميم إرادته وإقدامه على شدائد الأمور وهزاهزها أخرى:

أ. والمؤمن بإيمانه بالله تعالى مستند إلى سناد لا يتحرك وركن لا ينهدم، بانيا أموره على معارف حقة لا تقبل الشك والريب، مقدما في أعماله عن تكليف إلهي لا يرتاب فيها، ليس إليه من الأمر شيء حتى يخاف فوته، أو يحزن لفقده، أو يضطرب في تشخيص خيره من شره.

ب. وأما غير المؤمن فلا ولي له يتولى أمره، بل خيره وشره يرجعان إليه نفسه فهو واقع في ظلمات هذه الأفكار التي تهجم عليه من كل جانب من طريق الهوى والخيال والإحساسات المشؤومة، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وقال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾، وقال: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾، وقال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، وقال: ﴿ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾، وقال: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً﴾، وقال: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ ـ إلى أن قال ـ ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾، وقال: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، والآيات كما ترى تضع كل خوف وحزن واضطراب وغرور في جانب الكفر، وما يقابلها من الصفات في جانب الإيمان.

16. بين الأمر أوضح من ذلك بقوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾، فدل على أن خبط الكافر في مشيه لكونه واقعا في الظلمات لا يبصر شيئا، لكن المؤمن له نور إلهي يبصر به طريقه، ويدرك به خيره وشره، وذلك لأن الله أفاض عليه حياة جديدة على حياته التي يشاركه فيها الكافر، وتلك الحياة هي المستتبعة لهذا النور الذي يستنير به، وفي معناه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾، ثم قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾، فأفاد أن هذه الحياة إنما هي بروح منه، وتلازم لزوم الإيمان واستقراره في القلب فهؤلاء المؤمنون مؤيدون بروح من الله تستتبع استقرار الإيمان في قلوبهم، والحياة الجديدة في قوالبهم، والنور المضيء قدامهم.

17. هذه الآية كما ترى قريبة الانطباق على قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الفتح: 4]، فالسكينة في هذه الآية تنطبق على الروح في الآية السابقة وازدياد الإيمان على الإيمان في هذه على كتابة الإيمان في تلك، ويؤيد هذا التطبيق قوله تعالى في ذيل الآية ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، فإن القرآن يطلق الجند على مثل الملائكة والروح، ويقرب من هذه الآية سياقا قوله تعالى: ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾، وكذا قوله تعالى: ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا﴾

18. ظهر مما مر أنه يمكن أن يستفاد من كلامه تعالى أن السكينة روح إلهي أو تستلزم روحا إلهيا من أمر الله تعالى يوجب سكينة القلب واستقرار النفس وربط الجأش، ومن المعلوم أن ذلك لا يوجب خروج الكلام عن معناه الظاهر واستعمال السكينة التي هي بمعنى سكون القلب وعدم اضطرابه في الروح الإلهي، وبهذا المعنى ينبغي أن يوجه ما ورد من الروايات.

19. ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ الآية، آل‏ الرجل خاصته من أهله ويدخل فيهم نفسه إذا أطلق، فآل موسى وآل هارون هم موسى وهارون وخاصتهما من أهلهما، وقوله تعالى: ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾، حال عن التابوت، وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، كسياق صدر الآية دلالة على أنهم سألوا نبيهم آية على صدق ما أخبر به ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/286.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ إشارة إلى أن ما يذكره عجيب، والملأ كبار القوم ﴿إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ هذا القول منهم دليل على قلة المعرفة أو قلة الدين لأن الذي يبعث لهم ملكاً هو الله سبحانه، وإنما يملك النبي إن أذن الله له أن يدعو الله لهم بأن يبعث لهم ملكاً؛ ولذا قال لهم نبيهم ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ﴾ الآية، ولم يقل: (قد بعثت لكم)

2. طلبوا ملكاً ليجمع كلمتهم ويلم شعثهم ويوحد صفهم حتى يستطيعوا الجهاد؛ لأن الجهاد لا يصلح بلا أمير له هيبته ونفوذ الأمر في قومه كما قال أمير المؤمنين: (وإنه لا بد للناس من أمير يقاتَل به العدوّ) وقالوا: ﴿نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ليساعدهم النبي على ما طلبوا، لأنهم لو طلبوا ملكاً لاسترجاع أرضهم وطرد عدوهم عنها لكان هذا غرضاً دنيوياً، والنبي لا يدرون لعله لا يساعدهم على ذلك، أما إذا كان الغرض الجهاد في سبيل الله فهو غرض صالح مظنة أن يوافقهم عليه نبيهم.

3. ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ هل الأقرب منكم أنكم لن تقاتلوا إن كتب عليكم القتال بوجود الملك، وفائدة هذا الكلام: الإشعار بأنه لم يغتر بكلامهم ولم يصدق وعدهم؛ وإن أسعدهم إلى ما طلبوا وفيه بعث للحميّة وصدق النيّة وتأكيد الوعد بالجهاد.

4. ﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ أي لأي سبب لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا لأن القتال قد جمع لنا الغرضين؛ الديني والدنيوي، فكيف لا نقاتل لنسترجع أرضنا ونرجع إلى ديارنا وأبنائنا ولننصر الله.

5. ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ لما كان لهم ملك ووجب عليهم القتال ﴿تَوَلَّوْا﴾ عن طاعة الله وعن الجهاد ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ منهم الذين يأتي ذكرهم ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ العصاة الذين تولوا، وفيه دليل على أن العاصي المتمرد ظالم؛ وذلك لأنه حاف ومال عن العدل والإنصاف، لأن الحق على العبد طاعة المالك المنعم، فمعصيته حيف وجور فهو ظلم، وإنما سمي الضرر العاري عن جلب نفع أو دفع ضرر أو استحقاق ظلماً، لأنه مخالف للعدل حيف وجور، فالظلم مخالفة العدل والإساءة بغير حق وإن لم تكن ضراً، وأما كون ذلك ظلماً للنفس فهو معنى آخر.

6. ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ كما طلبتم لتقاتلوا في سبيل الله ﴿قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾ من أين يكون له الملك علينا كأنهم توهموا أن الملك يثبت بالوراثة أو بالثروة ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾ لشرفنا في قومنا ومكانتنا عندهم لأنا نحن الملأ ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ ليميل الناس إليه ويرغبوا في نصرته، لأجل تحصيل المال منه.

7. ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾ اختاره صفوة وخيرة، فبطل قولكم: ﴿نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾ لأن الذي يصطفيه الله أحق؛ لأن الحكم لله والولاية له على عباده، وبطل قولكم ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ أيضاً لأن الحكم لله لا للناس؛ فله أن يختار من شاء، وليس الخيار للناس فلا تشترط رغبتهم ولذلك فلا يشترط أن يؤت سعة من المال ترغِّبهم فيه

8. ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ فكماله بتوسعه في العلم والقوة وكمال البنية خير من سعة المال، وزيادته عليكم في ذلك كله يوجب له أنه أحق منكم، وفي الآية دليل على أن أحق المسلمين بالقيادة والملك عليهم هو أعلمهم وأقواهم على هذا الشأن كما قال أمير المؤمنين: (أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بحكم الله فيه)، فالقول: بجواز (إمامة المفضول مع وجود الأفضل) ضعيف إلا أن يكون وجود الفاضل كلا وجود.. كالمحبوس الميؤوس منه، بشرط كمال المفضول في علمه بما يجب في هذا الأمر، وعلم الدين كله، وكماله في قدرته على القيام بواجبات هذا الأمر، وفضله في ذلك على بقية من في زمانه لدلالة الآية الكريمة على أن صاحب الزيادة أولى، وعلى أنه يجب أن يكون صفوة وخيرة.

9. ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ لأنه المالك للناس كلهم وهم كلهم عباده فليس لهم شيء من الأمر وليس لهم أن يولوا من شاءوا فَلَو أجمعوا على رجل غير مرضي عند الله ما كان له الحكم ولا صحت له ولاية، فما يجري من الانتخابات التي تستعمل فيها الدعايات المضللة أو المغريات من الأموال والوعود لا حكم لها.

10. ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ففضله واسع، فلذلك يكمل من يشاء، ويزيده بسطة في العلم والجسم، ويجعله صفوة ولو كان فقيراً لا يراه الناس مظنة لذلك، أو لا يرغبون في ولا يته؛ وهو عليم بموضع الاختيار والإصطفاء وحيث يجعل ملكه والأهلية لملكه.

11. ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾ إن علامة ملكه، زادهم دليلاً على الدليل الأول ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ يدل عليه بما فيه من السكينة والبقية، قال في (الكشاف): (التابوت: صندوق التوراة) فقال: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ فإذا كان معكم في الجهاد نزلت السكينة عليكم من ربكم، وقويتم على عدوكم، فمعنى ﴿فِيهِ﴾ بسببه؛ كما قال الشاعر:

çففي الشك تفريط، وفي الحزم قوة... ويخطئ في الحزم الفتى ويصيبé

12. ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ من كتب العلم كالتوراة، أو منها ومن آثار، إما تذكّر بموسى وهارون فتبعث الحمية على القتال في نصرة دينهما، وإما أن كرامتها وعزتها عليهم تبعثهم على الجد في القتال لحفظها ودفع العدو عنها.

13. ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ حال من ﴿يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ أي يأتيكم تحمله الملائكة فتلك معجزة لطالوت تدل على أن الله جعله ملكاً ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ فقد قطع علتهم ولم يبق لهم عذر في ترك الجهاد معه ولم يبق إلا أن يتمردوا؛ لعدم الإيمان في من تمرد منهم.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/364.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه قصة أخرى من القصص القرآني، الذي أريد به التأكيد على بعض المفاهيم التربوية العامة في الحياة العملية للإنسان، وقد أفاض المفسرون فيها بما رووه من التفاصيل المتعلقة بالأشخاص والأحداث والأشياء، ولكننا نتبع الأسلوب القرآني في طريقة تناولنا للقصة، فنجمل في ما أجمل ونفصل في ما فصّل فيه الحديث، لأن القضية في هذه القصة ـ وفي غيرها من القصص ـ هي قضية الفكرة التي توحي بالهدف، لا السرد الذي يدفع إلى أجواء الملهاة، فلا بد من أن نتناول منها الإنسان النموذج والحدث النموذج، في ما نتناوله من تفاصيلها.، إنها قصة نبي من أنبياء بني إسرائيل مع قومه، ولا يهمنا معرفة اسمه، لأن ذلك لا قيمة له في ما نحن بصدده من الانفتاح على الفكرة التي نريد أن نخرج بها من الحوار القصصي في هذه القصة القرآنية.

2. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ الذين كانوا يشعرون بالفراغ في جانب الواقع الاجتماعي من حولهم، فقد ابتعدوا عن حركة الصراع، وأصبحوا على هامش مواقع القوة في الناس، لأن الذي يربح الموقع المتقدم، هو الذي يقاتل الآخرين الذين يملكون السيطرة الكبيرة بين الناس، فيفرضون‏ كلمتهم ورأيهم وسلطتهم على الفئات المستضعفة في المجتمع ـ كما هو واقعهم آنذاك ـ ولهذا جاؤوا إلى نبيهم الذي أرسله الله إليهم ـ في سلسلة النبوات الرسالية ـ ليتحدثوا معه حول المستقبل الذي يتطلعون إليه في حركة القوة كأصحاب رسالة مفتوحة على قضايا الإنسان والحياة، فقد انطلقت التوراة في عهد موسى، لتكون قاعدة للتشريع والحكمة والحركة والقوة، مما يجعل القائمين عليها في موقع الامتياز الكبير على المستوى المادي والروحي.

3. ﴿إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ﴾ اختلف المفسرون في اسمه، فقال بعضهم: إنه صموئيل وهو بالعربية إسماعيل، وقيل شمعون، وقيل يوشع وغير ذلك مما لا جدوى من الحديث فيه، ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وقد جاء عن الإمام الصادق عليه السّلام ـ كما في المجمع ـ كان الملك في ذلك الزمان هو الذي يسير بالجنود، والنبي يقيم له أمره ويثبته بالخير من عند ربه‏، ولعل هذا ما دعاهم إلى طلب تعيين الملك، لأن النبي لم يكن في هذا الموقع من الناحية الفعلية، وقد أعطوا حركتهم المبتغاة عنوان القتال في سبيل الله، لأن هذا العنوان هو الذي يمنح الصراع قدسيته ويخرجه من ماديته إلى عنوان الروح، وهو الذي يستثير النفوس ويحولها إلى طاقة عظيمة منفتحة على الإيمان بالله ومنطلقة في سبيله، فكأنها تؤدي واجبا دينيا في الحرب الدفاعية، لا حاجة ذاتية في الواقع.

4. إن الظاهر ـ في هذه المرحلة أو في ما قبلها من مراحل النبوة في بني إسرائيل ـ هو توزيع الأدوار، بين النبوة والملك، فللنبي دور التوجيه والتربية والدعوة إلى الله والإشراف على تعيين المراكز القيادية، وللملك دور الحرب والقتال والممارسة العملية للقيادة، ولهذا لم يطلب هؤلاء القوم من نبيّهم أن يقودهم للقتال، كما هو الحال في الإسلام عندما كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أو الإمام هو الذي يقود الجيوش في المعارك الكبيرة، بل طلبوا منه أن يعيّن لهم ملكا، يشعر الجميع بأن له حق الأمر، ليكون عليهم حق الطاعة.

5. ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ وكان هذا النبي في شك من جدية هذا الطلب، فقال لهم: إنه يخشى أن لا يستجيبوا للقتال إذا فرضه الله عليهم، ﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فأعلنوا ـ في جوابهم له ـ تصميمهم على القتال‏ ﴿وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ انطلاقا من واقع الاضطهاد الذي تعرّضوا له، من إخراج الظالمين لهم من ديارهم وأهاليهم، مما يجعل من قضية القتال قضية ترتبط بالذات من جهة، وبالعقيدة من جهة أخرى، ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ الذين ينكصون عهدهم.

6. بدأت التجربة ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ فقد عين النبي القائد، وأوضح لهم أن التعيين من الله لا منه، ﴿قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾ ولم يخفوا اعتراضهم على ذلك، لما يحسبونه أساسا للملك أو للقيادة، ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ وهي القدرة المالية الواسعة التي لا يملكها هذا القائد المعين، في الوقت الذي كانوا يأملون أن يكون القائد أحدهم، لأنهم يرون أنفسهم حائزين على هذا الامتياز، مما يجعلهم أحق منه بالملك.

7. ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ ووقف النبي ليشرح لهم أن المال لا يمثل قيمة مميزة في الملك القائد، لأن القيادة تحتاج إلى قوة يقاتل بها، وعلم يخطط به خطط الحرب والقتال، وكلاهما موجودان في هذا الإنسان الذي زاده الله بسطة في العلم والجسم، ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ فالقضية، أولا وأخيرا، قضية الإرادة الإلهية التي تتحرك من موقع الحكمة.

8. ثم شرح لهم علامة ملكه ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وهي أن يأتي حاملا الصندوق الذي فيه السكينة، وهي الإيمان في ما روي عن الإمام محمد الباقر عليه السّلام، ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى﴾ من مواريث العلم والحكمة.

9. هذا درس للعاملين في سبيل الله أن يقفوا موقف الحذر من كثير من المتحمسين والمندفعين الذين يطرحون الشعارات الحادة، ويعلنون ـ في حماس زائد ـ استعدادهم للجهاد والقتال في ما إذا حصلت لهم القيادة الحكيمة الصالحة وهم يظنون أو يأملون في أنفسهم أن لا تحصل، إن علينا أن نستفيد من هذه القصة، بالطريقة التي يمكننا ـ فيها ـ التفاهم معهم، من أجل اكتشاف ما هم عليه من جدّية وتصميم، لتتميز العناصر المخلصة من العناصر المزيفة سواء في وضعهم أمام التجربة العملية في ما يريدون، أم في إدارة الحوار معهم في بعض القضايا التي توضح لنا الفرق بين الجوانب المرتبطة بالذات وبين الجوانب المرتبطة بالعقيدة.

10. إن إيتاء الله الملك لمن يشاء، لا تعني رضى الله عن كل هؤلاء الذين يملكون زمام الأمور في الحياة، فإن فيهم الكافرين والظالمين والمنحرفين، بل قد تعني خضوع الحوادث في الكون لمشيئة الله التي قد تتعلق بالأشياء بطريقة مباشرة، كما في الأمور التي يحدثها الله من خلال إرادته التكوينية المباشرة، كما في خلقه للكون في ابتداء الخلق، وقد تتعلق بالأشياء بطريقة غير مباشرة، وذلك من خلال القوانين العامة التي أودعها في حدوث الأشياء وحركة المجتمعات وسير التاريخ، انطلاقا من حكمته النوعية في ما يصلح أمر الحياة ويبنيها على أساس متين، وقد جعل إرادة الإنسان، فردا أو جماعة، قانونا طبيعيا يحرك الحياة في اتجاه النمو والتطور والاستقامة والانحراف، وفي ضوء ذلك، لا مانع من أن نلتزم بأن الله لا يرضى عن ملك كثير من الأشخاص في ما يمارسونه من أعمال الكفر والانحراف، ولذلك نهاهم عنها أشد النهي، ولكنه ـ في الوقت نفسه ـ ليس بعيدا عن سلطة الله وإرادته في الكون، فإن من الممكن لله أن ينزع ملكه قهرا بإرادته التكوينية، ولكن حكمته اقتضت أن يملي للإنسان في ما يعيش وما يعمل، ليقرر مصيره بإرادته واختياره.

11. إن الآية تؤكد بأن الإخراج من الديار والأموال يشكّل عدوانا على الإنسان الفرد والمجتمع، وذلك لو قام بها إنسان فرد أو جماعة، وبذلك يعتبر مبررا للدخول في قتال ضد المعتدي، بحيث يعتبر ذلك شرعيا عند الله، وهذا ما نستظهره من خلال التركيز على هذا المبرر، مما يعطينا الفكرة الواضحة بتقرير النبي لهم على ذلك، ولا بد لنا، في هذا المجال، في أن نحدد الموضوع في نطاق الإيمان الذي يتعرض لعدوان الكفر، كما حدث في المبررات التي سبقت الإذن للمسلمين بالقتال، لأنهم‏ ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40]

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/384.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. من الضروري وقبل الشروع في تفسير هذه الآيات الشريفة التعرض لجانب من تاريخ بني إسرائيل المنظور في هذه الآيات: اليهود الذين كانوا قد استضعفوا تحت سلطة الفراعنة استطاعوا أن ينجوا من وضعهم المأساوي بقيادة موسى عليه السّلام الحكيمة حتى بلغوا القوّة والعظمة، لقد أنعم الله على اليهود ببركة نبيّهم الكثير من النعم بما فيها (صندوق العهد) الذي حمله اليهود أمام الجند فأضفى عليهم الطمأنينة والمعنوية العالية، وظلّت هذه الروحية فيهم بعد رحيل موسى عليه السّلام مدّة من الزمن، إلّا أنّ تلك النعم‏ والانتصارات أثارت في اليهود الغرور شيئا فشيئا، وأخذوا بمخالفة القوانين، وأخيرا اندحروا على أيدي الفلسطينيين وخسروا قوّتهم ونفوذهم بخسارتهم صندوق العهد، فكان أن تشتّتوا وضعفوا ولم يعودوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم حتّى أمام أتفه أعدائهم، بحيث إنّ هؤلاء الأعداء طردوا الكثيرين منهم من أرضهم وأسروا أبناءهم.

2. استمرّت حالهم على هذا سنوات طوالا، إلى أن أرسل إليهم الله نبيّا اسمه (اشموئيل) لإنقاذهم وهدايتهم، فتجمّع حوله اليهود الذين كانوا قد ضاقوا ذرعا بالظلم وكانوا يبحثون عن ملجأ يأوون إليه، وطلبوا منه أن يختار لهم قائدا وأميرا لكي يتوحّدوا تحت لوائه، ويحاربوا العدوّ متّحدين يدا ورأيا، لاستعادة عزّتهم الضائعة.

3. اشموئيل الذي كان يعرف ضعفهم وتهاونهم وهبوط معنويّاتهم قال لهم: أخشى إن اخترت لكم قائدا أن تخذلوه عندما يدعوكم إلى الجهاد ومحاربة العدو، فقالوا: كيف يمكن أن نعصي أوامر أميرنا ونرفض القيام بواجبنا، مع أنّ العدوّ قد شرّدنا من أوطاننا واستولى على أرضنا وأسر أبناءنا! فرأى اشموئيل أنّ هؤلاء القوم قد شخّصوا داءهم وها هم قد اتجهوا للمعالجة، ولعلّهم أدركوا سبب تخلّفهم، فتوجّه إلى الله يعرض عليه ما يطلبه القوم فأوحى إليه: أن اخترنا (طالوت) ملكا عليهم، فقال اشموئيل: ربّ إني لا أعرف طالوت ولم أره حتّى الآن، فجاءه الوحي: سنرسله إليك فأعطه قيادة الجيش ولواء الجهاد.

4. كان طالوت رجلا طويل القامة، ضخما، حسن التركيب، متين الأعصاب قويّها، ذكيّا، عالما، مدبّرا، ويقول بعض: إنّ اختيار اسم (طالوت) له كان لطوله، ولكنّه مع كلّ ذلك لم يكن معروفا، حيث كان يعيش مع أبيه في قرية على أحد الأنهر، ويرعى ماشية أبيه ويشتغل بالزراعة، أضاع يوما بعض ماشيته في الصحراء، فراح يبحث عنها مع صاحب له بضعة أيّام حتّى اقتربا من مدينة صوف، قال له صاحبه: لقد اقتربنا من صوف مدينة النبيّ اشموئيل، فتعال نزوره لعلّه يدلّنا بما له من اتصال بالوحي وحصانة في الرأي على ضالّتنا، والتقيا باشموئيل عند دخولهما المدينة، ما أن تبادل اشموئيل وطالوت النظرات حتّى تعارف قلباهما، وعرف اشموئيل طالوت وأدرك أنّ هذا الشاب هو الذي أرسله الله ليقود الجماعة، وعندما انتهى طالوت من قصّته عن ضياع ماشيته، قال له اشموئيل: أمّا ماشيتك الضائعة فهي الآن على طريق القرية تتّجه إلى بستان أبيك فلا تقلق بشأنها، ولكني أدعوك لأمر أكبر من ذلك، إنّ الله قد أختارك لنجاة بني إسرائيل، فأصاب العجب طالوت من هذا الأمر في البداية، ولكنّه قبل المهمّة مسرورا فقال اشموئيل لقومه: لقد اختار الله طالوت لقيادتكم، فعليكم جميعا أن تطيعوه، وأن تتهيّأوا للجهاد ومحاربة الأعداء.

5. كان بنو إسرائيل يعتقدون أنّ قائدهم يجب أن تتوفّر فيه بعض المميّزات من حيث نسبه وثروته، ممّا لم يجدوا منها شيئا في طالوت، فانتابتهم حيرة شديدة لهذا الاختيار، فطالوت لم يكن من أسرة لاوي التي ظهر منها الأنبياء، ولا كان من أسرتي يوسف أو يهودا اللتين سبق لهما الحكم، بل كان من أسرة بنيامين المغمورة الفقيرة، فاعترضوا قائلين: كيف يمكن لطالوت أن يحكمنا، ونحن أحقّ منه بالحكم! فقال اشموئيل ـ الذي رآهم على خطأ كبير ـ: إنّ الله هو الذي اختاره أميرا عليكم، والقيادة تحتاج إلى كفاءة جسمية وروحية وهي متوفّرة في طالوت، وهو يفوقكم فيها، إلّا أنّهم لم يقبلوا بهذا القول، وطلبوا دليلا على أنّ هذا الاختيار إنّما كان من الله سبحانه، فقال اشموئيل: الدليل هو أنّ التابوت ـ صندوق العهد ـ الذي هو أثر مهمّ من آثار أنبياء بني إسرائيل، وكان مدعاة لثقتكم واطمئنانكم في الحروب، سيعود إليكم يحمله جمع من الملائكة، ولم يمض وقت طويل حتّى ظهر الصندوق، وعلى أثر رؤيته وافق بنو إسرائيل على قيادة طالوت لهم.

6. تسلّم طالوت قيادة الجيش، وخلال فتره قصيرة أثبت لياقته وجدارته للاضطلاع بمهامّ إدارة الملك وقيادة الجيش، ثمّ طلب من بني إسرائيل أن يعدّوا العدّة لمحاربة عدوّ كان يهدّدهم من كلّ جانب، قال لهم مؤكّدا إنّه لا يريد أن يسير معه للقتال إلّا الّذين ينحصر كلّ تفكيرهم في الجهاد، أمّا الّذين لهم عمارة لم تتم، أو معاملة لم تكمل، وأمثالهم، فليس لهم الاشتراك في الجهاد، وسرعان ما اجتمع حوله جمع تظهر عليه الكثرة والقوّة، وتحرّكوا صوب العدو.

7. في المسيرة الطويلة وتحت أشعة الشمس المحرقة أصابهم العطش، فأراد طالوت ـ بأمر من الله ـ أن يختبرهم ويصفيهم، فقال لهم: سوف نصل قريبا إلى نهر في مسيرتنا، وأنّ الله يريد أن يمتحنكم به، فمن شرب منكم منه وارتوى فليس منّي، ومن لا يشرب إلّا قليلا منه فهو منّي، ولكنّهم ما أن وقعت أنظارهم على النهر حتّى فرحوا وهرعوا إليه وشربوا منه حتّى ارتووا، إلّا نفر قليل منهم ظلّوا على العهد، أدرك طالوت أنّ أكثرية جيشه يتألّف من أناس ضعفاء الإرادة وعديمي العهد، ما خلا بعض الأفراد المؤمنين، لذلك فقد تخلّى عن تلك الأكثرية واتّجه مع‏ النفر المؤمن القليل خارجا من المدينة إلى ميادين الجهاد.

8. إلّا أنّ هذا الجيش الصغير انتابه القلق من قلّته، فقالوا لطالوت: إننا لا طاقة لنا بمقابلة جيش قويّ كثير العدد، غير أنّ الذين كان لهم إيمان راسخ بيوم القيامة، وكانت محبّة الله قد ملأت قلوبهم، لم يرهبوا كثرة العدوّ وقلّة عددهم، فخاطبوا طالوت بكلّ شجاعة قائلين: قرّر ما تراه صالحا، فنحن معك حيثما ذهبت، ولسوف نجالدهم بهذا العدد القليل بحول الله وقوّته، ولطالما انتصر جيش صغير بعون الله على جيش كبير، والله مع الصابرين.

9. فاستعدّ طالوت بجماعته القليلة المؤمنة للحرب، ودعوا الله أن يمنحهم الصبر والثبات، وعند التقاء الجيشين خرج جالوت من بين صفوف عسكره وطلب المبارزة بصوت قوي أثار الرعب في القلوب، فلم يجرأ أحد على منازلته، في تلك اللحظة خرج شاب اسمه داوود من بين جنود طالوت، ولعلّه لصغر سنّه، لم يكن قد خاض حربا من قبل، بل كان قد جاء إلى ميدان المعركة بأمر من أبيه ليكون بصحبة اخوته في صفوف جيش طالوت، ولكنّه كان سريع الحركة خفيفها، وبالمقلاع الذي كان بيده رمى جالوت بحجرين ـ بمهارة شديدة ـ فأصابا جبهته ورأسه، فسقط على الأرض ميّتا وسط تعجّب جيشه ودهشتهم، وعلى أثر ذلك استولى الرعب والهلع على جيش جالوت، ولم يلبثوا حتّى ركنوا إلى الفرار من أمام جنود طالوت وانتصر بنو إسرائيل‏.

10. نعود إلى تفسير الآيات محلّ البحث في أوّل آية يخاطب الله تعالى نبيّه الكريم ويقول: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، (الملأ) هم الجماعة يجتمعون على رأي فيملئون العيون رواء ومنظرا والنفوس بهاء وجلالا ولذلك يقال لأشراف كلّ قوم (الملأ) لأنّهم بما لهم من مقام ومنزلة يملأون العين.

11. هذه الآية تشير إلى جماعة كبيرة من بني إسرائيل طلبوا بصوت واحد من نبيّهم أن يختار لهم أميرا وقائدا ليحاربوا بقيادته (جالوت) الّذي كان يهدّد مجتمعهم ودينهم واقتصادهم بالخطر، وعلى الرّغم من أنّ الجماعة المذكورة كانت تريد أن تدفع العدو المعتدي الذي أخرجهم من أرضهم ويعيدوا ما أخذ منهم، فقد وصفت تلك الحرب بأنّها في سبيل الله، وبهذا يتبيّن أنّ ما يساعد على تحرّر النّاس وخلاصهم من الأسر ورفع الظّلم والعدوان يعتبر في سبيل الله.

12. ذكر البعض أنّ اسم ذلك النبي هو (شمعون) وذكر آخرون بأنّه (إشموئيل) وبعض (يوشع) ولكنّ المشهور بين المفسّرين أنّه (إشموئيل) أي إسماعيل بلغة العرب، وبهذا وردت رواية عن الإمام الباقر عليه السّلام أيضا.

13. لمّا كان نبيّهم يعرف فيهم الضعف والخوف قال لهم: يمكن أن يصدر إليكم الأمر للجهاد فلا تطيعون:‏ ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾، لكنّهم قالوا: كيف يمكن أن نتملّص من محاربة العدو الذي أجلانا عن أوطاننا وفرّق بيننا وبين أبنائنا ﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ وبذلك أعلنوا وو تمسّكهم بالعهد.

14. مع ذلك فإنّ هذا الجمع من بني إسرائيل لم يمنعهم اسم الله ولا أمره ولا الحفاظ على استقلالهم والدفاع عن وجودهم ولا تحرير أبناءهم من نقض العهد، ولذلك يقول القرآن مباشرة بعد ذلك ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾، وذكر بعض المفسّرين أنّ عدّة من بقي مع طالوت (313 نفر) بعدد جيش الإسلام يوم بدر.

15. على كلّ حال فإنّ نبيّهم أجابهم على طلبهم التزاما منه بواجبه وجعل عليهم طالوت ملكا بأمر من الله تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾، ويتّضح من هذه الآية أنّ الله هو الذي اختار طالوت ليكون ملكا على بني إسرائيل وقائدا لعسكرهم، ولعلّ استعمال كلمة (قد بعث) يشير إلى ما ذكرنا في القصّة من الحوادث غير المتوقّعة الذي جاءت بطالوت إلى مدينة ذلك النبي والحضور في مجلسه، فكذلك يظهر من كلمة (ملكا) أنّ طالوت لم يكن قائدا للجيش فحسب، بل كان ملكا على ذلك المجتمع‏.

16. من هنا بدأت المخالفات والاعتراضات وقال بعضهم: ﴿قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾، وهذا هو أوّل اعتراض ونقض في العهد من قبل بني إسرائيل لنبيّهم مع أنّه قد صرّح لهم أنّ الله هو اختار طالوت، وفي الواقع أنّهم اعترضوا على الله تعالى بقولهم: (إنّنا أجدر من طالوت بالحكم لأنّ الحكم لا بدّ فيه من شرطين لا يتوفّران في طالوت وهما: الحسب والنسب من جهة، والمال والثروة من جهة أخرى، وقد ذكرنا في القصّة أنّ طالوت كان من قبيلة مغمورة من قبائل بني إسرائيل، ومن حيث الثروة لم يكن سوى مزارع فقير.

17. غير أنّ القرآن الكريم يشير إلى الجواب القاطع على هذا الاعتراض إذ يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾، فأفهمهم بذلك أنّ اختيار الله طالوت ملكا وقائدا لما يتمتّع به من علم وحكمة وعقل، ومن الناحية البدنيّة فهو قوي ومقتدر، وهذا يعني:

أ. أوّلا، أنّ هذا الاختيار هو اختيار الله تعالى.

ب. وثانيا: إنّكم على خطأ كبير في تشخيص شرائط القيادة، لأنّ النسب الرّفيع والثروة الكبيرة ليستا امتيازين للقائد إطلاقا، لأنّهما من الامتيازات الاعتبارية الخارجيّة، أمّا العلم والمعرفة وكذلك القوّة الجسميّة فهما امتيازان واقعيّان ذاتيان حيث يلعبان دورا مهمّا في شخصيّة القائد.

18. إنّ قائد العالم يعرف طريق سعادة المجتمع ويرسم الخطط للوصول إليه بعلمه وحنكته، وكذلك يرسم الأسلوب الصحيح في مواجهة الأعداء، ثمّ يقوم بقوّته الجسمانيّة بتمثيل هذا المخطّط على أرض الواقع.

19. كلمة (بسطة) إشارة إلى اتساع وجود الإنسان في أنوار العلم والقوّة، أي أنّ الإنسان بالعلم والحكمة والقوّة الجسميّة الكافية يزداد سعة في وجوده، وهنا نلحظ أنّ البسطة في العلم تقدّمت على القوّة الجسميّة، لأنّ الشرط الأوّل هو العلم والمعرفة.

20. يستفاد ضمنا من هذا التعبير أنّ مقام الإمامة والقيادة من الأحكام الإلهيّة وأنّ الله تعالى هو الذي يشخّص اللّائق لها، فلو رأى اللّياقة الكافية في أولاد الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم لجعل الإمامة عندهم، ولو توفّرت عند أشخاص آخرين لجعلها فيهم، وهذا هو ما يعتقد به علماء الشيعة ويدافعون عنه.

21. ثمّ تضيف الآية ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، هذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى شرط ثالث للقائد، وهو توفير الله‏ تعالى الإمكانيّات وآليات القيادة ووسائل الحكم، لأنّه من الممكن أن يكون قائدا كاملا من حيث العلم والقوّة ولكنّه محاط بظروف لا تمنحه أيّ استعداد للوصل إلى أهدافه المقدّسة، ولا شكّ أنّ قائدا مع هذه الظّروف لا يمكن أن ينتصر وينجح في قيادته، ولذلك يقول القرآن هنا أنّ الله تعالى يمنح الحكومة الإلهيّة لمن يشاء، أي أنّه يهيّا الظروف اللازمة لنجاحه.

22. الآية التالية تبيّن أنّ بنى إسرائيل لم يكونوا قد اطمأنوا كلّ الاطمئنان إلى أنّ طالوت مبعوث من الله تعالى لقيادتهم على الرّغم من أن نبيّهم صرّح ذلك لهم، ولهذا طلبوا منه الدّليل، فكان جوابه أنّ الدليل سيكون مجيء التابوت أو صندوق العهد إليهم‏ ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾

23. ما هو تابوت بني إسرائيل أو صندوق العهد؟ ومن الذي صنعه؟ وما هي محتوياته؟ فإنّ في تفاسيرنا وأحاديثنا، وكذلك في العهد القديم ـ التوراة ـ كلاما كثيرا عنه، إلّا أنّ أوضحها هو ما جاءنا في أحاديث أهل البيت عليهم السّلام وأقوال بعض المفسّرين من أمثال ابن عبّاس، حيث قالوا إنّ التابوت هو الصندوق الذي وضعت فيه أمّ موسى ابنها موسى وألقته في اليمّ، وبعد أن انتشل أتباع فرعون الصندوق من البحر وأتوا به إليه وأخرجوا موسى منه، ظلّ الصندوق في بيت فرعون ثمّ وقع بأيدي بني إسرائيل، فكانوا يحترمونه ويتبرّكون به، موسى عليه السّلام وضع فيه الألواح المقدّسة ـ التي تحمل على ظهرها أحكام الله ـ ودرعه وأشياء أخرى تخصّه وأودع كلّ ذلك في أواخر عمره لدى وصيّه يوشع ابن نون، وبهذا ازدادت أهميّة هذا الصندوق عند بني إسرائيل فكانوا يحملونه معهم كلّما نشبت حرب بينهم وبين الأعداء، ليصعّد معنوياتهم، لذلك قيل: إنّ بني إسرائيل كانوا أعزّة كرماء ما دام ذلك الصندوق بمحتوياته المقدّسة بينهم، ولكن‏ بعد هبوط التزاماتهم الدينية وغلبة الأعداء عليهم سلب منهم الصندوق، واشموئيل ـ كما تذكر الآية ـ وعدهم بإعادة الصندوق باعتباره دليلا على صدق قوله.

24. ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾، هذه الفقرة من الآية تبيّن أنّ الصندوق كما قلنا كان يحتوي على أشياء تضفي السكينة على بني إسرائيل وترفع معنوياتهم في الحوادث المختلفة ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، ثمّ إنّ محتويات الصندوق كانت تضمّ آثارا ممّا خلف آل موسى وآل هارون أضيفت إلى ما كان فيه من قبل، وممّا يجدر ذكره هو أنّ (السكينة) بمعنى الهدوء، ويقصد بها هنا هدوء النفس والقلب، قال لهم اشموئيل: إنّ الصندوق سوف يعود إليكم لتستعيدوا الهدوء الذي فقدتموه، وفي الحقيقة أنّ هذا الصندوق بطابعه المعنوي والتاريخيّ كان أكثر من مجرّد لواء لبني إسرائيل وشعار لهم، كان يمثّل رمز استقلالهم ووجودهم وبرؤيته كانوا يسترجعون ذكرى عظمتهم السابقة، لذلك كان الوعد بعودته بشارة عظيمة لهم.

25. ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾، كيف جاء الملائكة بصندوق العهد؟ في هذا أيضا للمفسّرين كلام كثير أوضحها قولهم: جاء في التاريخ أنّه عندما وقع صندوق العهد بين عبدة الأصنام في فلسطين وأخذوه إلى حيث يعبدون فيه أصنامهم، أصابتهم على أثر ذلك مصائب كثيرة، فقال بعضهم: ما هذه المصائب إلّا بسبب هذا الصندوق، فعزموا على إبعاده عن مدينتهم وديارهم، ولمّا لم يرض أحد بالقيام بالمهمّة اضطّروا إلى ربط الصندوق ببقرتين وأطلقوهما في الصحراء، واتّفق هذا في الوقت الذي تمّ فيه نصب طالوت ملكا على بني إسرائيل، وأمر الله الملائكة أن يسوقوا الحيوانين نحو مدينة اشموئيل، وعند ما رأى بنو إسرائيل الصندوق بينهم، اعتبروه إشارة من الله على اختيار طالوت ملكا عليهم، وعليه نسب حمل الصندوق إلى الملائكة، لأنّهم هم الذين ساقوا البقرتين إلى بني إسرائيل.

26. في الحقيقة أنّ للملائكة معنى واسعا في القرآن والروايات، يشمل فضلا عن الكائنات الروحية العاقلة، مجموعة من القوى الغامضة الموجودة في هذا العالم.

27. يستفاد ممّا تقدّم أنّه بالرّغم من ثبوت مسألة القيادة الإلهيّة لطالوت بالأدلّة والمعاجز الإلهيّة، فهناك بعض الأفراد لضعف إيمانهم لم يسلّموا إلى هذا الحقّ، وقد ظهرت هذه الحقيقة على أعمالهم العباديّة ومن ذلك تشير الجملة الأخيرة في هذه الآية ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/214.

116. طالوت والابتلاء والنصر

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈116⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ [البقرة: 249-250]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ غازيا إلى جالوت(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ غازيا إلى جالوت، قال طالوت لبني اسرائيل: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ قال بين فلسطين والأردن، نهر عذب الماء طيبه(1).

3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ قال النهر الذي ابتلي به بنو إسرائيل: نهر فلسطين(2).

4. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾، فشرب كل إنسان كقدر الذي في قلبه، فمن اغترف غرفة وأطاعه روي بطاعته، ومن شرب فأكثر عصى، فلم يرو لمعصيته(3).

5. روي أنّه قال: ﴿بِنَهَرٍ﴾: وهو نهر الأردن(4).

6. روي أنّه قال: كانوا ثلاثمائة ألف وثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، فشربوا منه كلهم إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا؛ عدة أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، فردهم طالوت، ومضى في ثلاثمائة وثلاثة عشر(5).

7. روي أنّه قال: لما جاوزه هو والذين آمنوا معه؛ قال الذين شربوا: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾(6).

8. روي أنّه قال: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾: الذين اغترفوا(7).

9. روي أنّه قال: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، فأثبت الله الإيمان لهؤلاء الذين قالوا: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾(8).

10. روي أنّه قال: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ يعني: يؤمنون ويوقنون بالبعث: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(9).

11. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾: أن الله تعالى أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة، ورأسها عند صومعته، قوتها قوة الحديد، ولونها لون النار، وحلقها مستديرة مفصلة بالجواهر، مدسرة بقضبان اللؤلؤ الرطب، فلا يحدث في الهواء حدث إلا صلصلت السلسلة، فعلم داوود ذلك الحدث، ولا يمسها ذو عاهة إلا برئ، وكانوا يتحاكمون إليها بعد داوود عليه السلام إلى أن رفعت(10).

12. روي أنّه قال: كنت عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وعنده أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية، إذ أقبل علي، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لمعاوية: (أتحب عليا؟) قال نعم قال (إنها ستكون بينكم هنيهة، قال معاوية: فما بعد ذلك، يا رسول الله؟ قال (عفو الله ورضوانه) قال رضينا بقضاء الله ورضوانه، فعند ذلك نزلت هذه الآية: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ (11).، وهو غير صحيح النسبة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم(12).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٨٤.

(2) ابن جرير: ٤/٤٨٤ ـ: ٤٨٥.

(3) ابن جرير: ٤/٤٨٨.

(4) ابن أبي حاتم: ٢/٤٧٣.

(5) ابن عساكر: ٢٤/٤٤٢ ـ: ٤٤٣.

(6) ابن جرير: ٤/٤٩٢.

(7) الدرّ المنثور: ابن جرير.

(8) ابن أبي حاتم: ٢/٤٧٦.

(9) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ٢٤/٤٤٢.

(10) تفسير الثعلبي: ٢/٢٢٣.

(11) ابن عساكر: ٥٩/١٣٩ ـ: ١٤٠.

(12) قال ابن حجر في العجاب في بيان الأسباب: 1/607: 152: بسند فيه راوٍ ضعيفٌ جِدًّا، وفيه نكارة.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ الذين شروا أنفسهم لله، ووطنوها على الموت(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٧٦.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: خرج بهم طالوت، وجدوا في حرب عدوهم، ولم يتخلف عنه إلا كبير وضرير ومعذور، ورجل في صنعة لا بد له من التخلف(1).

2. روي أنّه قال: قالوا لبعضهم: إن الجباب والآبار لا تحملنا، فادع الله لنا أن يجري لنا نهرا، فدعا ربه، فأجرى لهم نهرا من الأردن، يقال له: سهم أشمويل(2).

3. روي أنّه قال: ملك داوود بعد قتل جالوت بسبع سنين(3).

__________

(1) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ٢٤/٤٤١ – ٤٤٢.

(2) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ٢٤/٤٤١ ـ: ٤٤٢.

(3) تفسير الثعلبي: ٧/٣٣.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: كان طالوت أميرا على الجيش، فبعث أبو داوود مع داوود بشيء إلى إخوته، فقال داوود لطالوت: ماذا لي وأقتل جالوت؟ فقال: لك ثلث ملكي، وأنكحك ابنتي، فأخذ مخلاة، فجعل فيها ثلاث مروات، ثم سمى إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ثم أدخل يده، فقال: بسم الله إلهي، وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فخرج على إبراهيم، فجعله في مرجمته، فرمى بها جالوت، فخرق ثلاثة وثلاثين بيضة على رأسه، وقتلت مما وراءه ثلاثين ألفا(1).

__________

(1) تفسير مجاهد: ص٢٤١.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قيل له: أليس القوم جميعا كانوا مؤمنين؛ الذين جاوزوا؟ قال بلى، ولكن تفاضلوا بما شحت أنفسهم من الجهاد في سبيله(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٤٨.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه سئل: أخبرني عن شيء قليله حلال وكثيره حرام، ذكره الله عز وجل في كتابه؟ قال (نهر طالوت قال الله عز وجل: ﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾)(1).

__________

(1) الاحتجاج: 329.

منبه:

روي عن وهب بن منبه (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لما برز طالوت لجالوت قال جالوت: أبرزوا لي من يقاتلني، فإن قتلني فلكم ملكي، وإن قتلته فلي ملككم، [فأتي بداود إلى طالوت، فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته، وأن يحكمه في ماله، فألبسه طالوت سلاحا، فكره داوود أن يقاتله بسلاح، وقال: إن الله لم ينصرني عليه لم يغن السلاح شيئا، فخرج إليه بالمقلاع ومخلاة فيها أحجار، ثم برز له، فقال له جالوت: أنت تقاتلني!؟ قال داوود: نعم قال ويلك، ما خرجت إلا كما تخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة! لأبددن لحمك، ولأطعمنه اليوم للطير والسباع، فقال له داوود: بل أنت ـ عدو الله ـ شر من الكلب، فأخذ داوود حجرا، فرماه بالمقلاع، فأصابت بين عينيه، حتى نفذت في دماغه، فصرخ جالوت، وانهزم من معه، واحتز رأسه(1).

2. روي أنّه قال: ثم انهزم جنده أي: جالوت، وقال الناس: قتل داوود جالوت، وخلع طالوت، وأقبل الناس على داوود مكانه، حتى لم يسمع لطالوت بذكر، إلا أن أهل الكتاب يزعمون أنه لما رأى انصراف بني إسرائيل عنه إلى داوود هم بأن يغتال داوود، وأراد قتله، فصرف الله ذلك عنه وعن داوود، وعرف خطيئته، والتمس التوبة منها إلى الله(2).

3. روي أنّه قال: خرج بهم طالوت حين استوسقوا له، ولم يتخلف عنه إلا كبير ذو علة، أو ضرير معذور، أو رجل في ضيعة لا بد له من تخلف فيها(3).

4. روي أنّه قال: لما فصل طالوت بالجنود قالوا: إن المياه لا تحملنا، فادع الله لنا يجري لنا نهرا، فقال لهم طالوت: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ الآية(4).

__________

(1) عبد الرزاق: ١/١٠٣ ـ: ١٠٤.

(2) ابن جرير: ٤/٥٠٢، وعند عبد الرزاق: ١/١٠٣ ـ: ١٠٤.

(3) ابن جرير: ٤/٤٨٢.

(4) ابن جرير: ٤/٤٨٣.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ﴾ إن الله يبتلي خلقه بما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾، فشرب القوم على قدر يقينهم، أما الكفار فجعلوا يشربون فلا يروون، وأما المؤمنون فجعل الرجل يغترف غرفة بيده فتجزيه وترويه(2).

3. روي أنّه قال: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ويكون ـ والله ـ المؤمنون بعضهم أفضل جدا وعزما من بعض، وهم مؤمنون كلهم(3).

4. روي أنّه قال: ذكر لنا: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه يوم بدر: (أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي)، وكان الصحابة يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا(4).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٨٣.

(2) ابن جرير: ٤/٤٨٧.

(3) ابن جرير: ٤/٤٩٤.

(4) ابن جرير في تاريخه: ٢/٤٣٣.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: (﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ معناه مختبركم.. والنّهر: بين الأردن وفلسطين(1).

2. روي أنّه قال: (﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ معناه ليس معي على عدوّي(1).

3. روي أنّه قال: (﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ فالغرفة: ملء الكف.. وتجمع غرفا وغرفات، وغرفة، وغرفات(1).

4. روي أنّه قال: (﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ فالقليل ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وكان عدّة أصحاب بدر من المسلمين مثل ذلك(1).

5. روي أنّه قال: (﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾ فالفئة: الجماعة وجمعها فئات، وفئون(1).

6. روي أنّه قال: (﴿أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ معناه أنزله علينا(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 102.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان جالوت من أعظم الناس وأشدهم بأسا، فخرج يسير بين يدي الجند، فلا تجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي، فلما خرجوا قال لهم طالوت: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾، فشربوا منه هيبة من جالوت(1).

2. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ الذين يستيقنون(2).

3. روي أنّه قال: ملك داوود بعد ما قتل طالوت، وجعله الله نبيا، وذلك قوله تعالى: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ الحكمة هي النبوة، آتاه نبوة شمعون، وملك طالوت(3).

4. روي أنّه قال: عبر يومئذ النهر مع طالوت أبو داوود في من عبر، مع ثلاثة عشر ابنا له، وكان داوود أصغر بنيه، وإنه أتاه ذات يوم، فقال: يا أبتاه، ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته قال أبشر؛ فإن الله قد جعل رزقك في قذافتك، ثم أتاه يوما آخر، فقال: يا أبتاه، لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا، فركبت عليه، وأخذت بأذنيه، فلم يهجني، فقال: أبشر يا بني؛ فإن هذا خير يعطيكه الله، ثم أتاه يوما آخر، فقال: يا أبتاه، إني لأمشي بين الجبال فأسبح، فما يبقى جبل إلا سبح معي قال أبشر، يا بني؛ فإن هذا خير أعطاكه الله، وكان داوود راعيا، وكان أبوه خلفه، يأتي إليه وإلى إخوته بالطعام، فأتى النبي بقرن فيه دهن، وبثوب من حديد، فبعث به إلى طالوت، فقال: إن صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا القرن على رأسه، فيغلي حين يدهن منه، ولا يسيل على وجهه، يكون على رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل في هذا الثوب، فيملؤه، فدعا طالوت بني إسرائيل، فجربهم به، فلم يوافقه منهم أحد، فلما فرغوا قال طالوت لأبي داوود: هل بقي لك ولد لم يشهدنا؟ قال نعم، بقي ابني داوود، وهو يأتينا بطعامنا، فلما أتاه داوود مر في الطريق بثلاثة أحجار، فكلمنه، وقلن له: يا داوود، خذنا تقتل بنا جالوت، فأخذهن، فجعلهن في مخلاته، وقد كان طالوت قال من قتل جالوت زوجته ابنتي، وأجريت خاتمه في ملكي، فلما جاء داوود وضعوا القرن على رأسه، فغلى حتى ادهن منه، ولبس الثوب فملأه، وكان رجلا مسقاما مصفارا، ولم يلبسه أحد إلا تقلقل فيه، فلما لبسه داوود تضايق عليه الثوب حتى تنقض، ثم مشى إلى جالوت، وكان جالوت من أجسم الناس وأشدهم، فلما نظر إلى داوود قذف في قلبه الرعب منه، وقال له: يا فتى، ارجع، فإني أرحمك أن أقتلك، فقال داوود: لا، بل أنا أقتلك، وأخرج الحجارة، فوضعها في القذافة، كلما رفع حجرا سماه، فقال: هذا باسم أبي إبراهيم، و الثاني باسم أبي إسحاق، و الثالث باسم أبي إسرائيل، ثم أدار القذافة، فعادت الأحجار حجرا واحدا، ثم أرسله، فصك به بين عيني جالوت، فنقبت رأسه، فقتله، ثم لم تزل تقتل، كل إنسان تصيبه تنفذ منه، حتى لم يكن بحيالها أحد، فهزموهم عند ذلك، وقتل داوود جالوت، ورجع طالوت فأنكح داوود ابنته، وأجرى خاتمه في ملكه(4).

5. روي أنّه قال: ورجع طالوت، فأنكح داوود ابنته، وأجرى خاتمه في ملكه، فمال الناس إلى داوود وأحبوه، فلما رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وحسده، فأراد قتله، فعلم به داوود، فسجى له زق خمر في مضجعه، فدخل طالوت إلى منام داوود، وقد هرب داوود، فضرب الزق ضربة فخرقه، فسالت الخمر منه، فقال: يرحم الله داوود، ما كان أكثر شربه للخمر، ثم إن داوود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم، فوضع سهمين عند رأسه، وعند رجليه وعن يمينه وعن شماله سهمين، فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام، فعرفها، فقال: يرحم الله داوود، هو خير مني، ظفرت به فقتلته، وظفر بي فكف عني، ثم إنه ركب يوما، فوجده يمشي في البرية، وطالوت على فرس، فقال طالوت: اليوم أقتل داوود، وكان داوود إذا فزع لا يدرك، فركض على أثره طالوت، ففزع داوود، فاشتد، فدخل غارا، وأوحى الله إلى العنكبوت فضربت عليه بيتا، فلما انتهى طالوت إلى الغار نظر إلى بناء العنكبوت، فقال: لو دخل ههنا لخرق بيت العنكبوت، فتركه، وملك داوود بعد ما قتل طالوت، وجعله الله نبيا(4).

6. روي أنّه قال: فخرجوا معه، وهم ثمانون ألفا، وكان جالوت من أعظم الناس، وأشدهم بأسا، فخرج يسير بين يدي الجند، فلا يجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي(5).

7. روي أنّه قال: فعبر منهم أربعة آلاف، ورجع ستة وسبعون ألفا، فمن شرب منه عطش، ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي، ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ فنظروا إلى جالوت رجعوا أيضا، وقالوا: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾، فرجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون، وخلص في ثلاثمائة وبضعة عشر، عدة أهل بدر(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٨٨.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٧٦.

(3) ابن جرير: ٤/٥١٤.

(4) ابن جرير: ٤/٥٠٧ ـ: ٥٠٩.

(5) ابن جرير: ٤/٤٨٢.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾، يعني: المؤمنين منهم، وكان القوم كثيرا، ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ يعني: المؤمنين منهم، كان أحدهم يغترف الغرفة، فيجزيه ذلك ويرويه(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٨٧.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: (القليل الذين لم يشربوا ولم يغترفوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، فلما جاوزوا النهر ونظروا إلى جنود جالوت قال الذين شربوا منه: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ وقال الذين لم يشربوا: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، فجاء داوود حتى وقف بحذاء جالوت، وكان جالوت على الفيل، وعلى رأسه التاج، وفي جبهته ياقوتة، يلمع نورها، وجنوده بين يديه، فأخذ داوود من تلك الأحجار حجرا، فرمى به في ميمنة جالوت، فمر في الهواء ووقع عليهم فانهزموا، وأخذ حجرا آخر، فرمى به في ميسرة جالوت، فوقع عليهم فانهزموا، ورمى جالوت بحجر ثالث فصك الياقوتة في جبهته، ووصل إلى دماغه، ووقع إلى الأرض ميتا)(1).

__________

(1) تفسير القمّي: 1/83.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: فرد عليهم أصحاب الغرفة، ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ يعني: الذين يعلمون ـ كقوله سبحانه: ﴿وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ﴾ [القيامة: ٢٨]، يعني: وعلم، وكقوله تعالى: ﴿فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾ [الكهف: ٥٣]، وكقوله تعالى: ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ﴾ [المطففين: ٤]، أي: ألا يعلم ـ ﴿أنهم ملاقو الله﴾ لأنهم قد طابت أنفسهم بالموت ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ﴾ يعني: جند قليلة عددهم ﴿غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾ عددهم ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ يعني: بني إسرائيل في النصر على عدوهم، فرد طالوت العصاة، وسار بأصحاب الغرفة، حتى عاينوا العدو(1).

2. روي أنّه قال: قال ثم إن طالوت تجهز لقتال جالوت، وقال النبي إسماعيل لطالوت: إن الله تعالى سيبعث رجلا من أصحابك فيقتل جالوت، وأعطاه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم درعا، فقال لطالوت: من صلحت هذه الدرع عليه ـ لم تقصر عليه ولم تطل ـ فإنه قاتل جالوت، فاجعل لقاتله نصف ملكك، ونصف مالك، فبلغ ذلك داوود النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وهو يرعى الغنم في الجبل، فاستودع غنمه ربه تعالى، فقال: آتي الناس، وأطالع إخوتي وهم سبعة من طالوت، وأنظر ما هذا الخبر، فمر داوود عليه السلام على حجر، فقال: يا داوود، خذني؛ فأنا حجر هارون الذي قتل به كذا وكذا، فارم بي جالوت الجبار، فأقع في بطنه فأنفذ من جانبه الآخر، فأخذه، فألقاه في مخلاته، ثم مر بحجر آخر، فقال له: يا داوود، خذني؛ فأنا حجر موسى الذي قتل بي كذا وكذا، فارم بي جالوت، فأقع في قلبه فأنفذ من الجانب الآخر، فألقاه في مخلاته، ثم مر بحجر آخر، فقال: يا داوود، خذني؛ فأنا الذي أقتل جالوت الجبار، فأستعين بالريح، فتلقي البيضة، فأقع في دماغه، فأقتله، فأخذه، فألقاه في مخلاته، ثم انطلق حتى دخل على طالوت، فقال: أنا قاتل جالوت ـ بإذن الله ـ، وكان داوود عليه السلام رث المنظر، هبير دوير؛ فأنكر طالوت أن يقتله داوود عليه السلام، فقال داوود: تجعل لي نصف ملكك ونصف مالك إن قتلت جالوت الجبار؟ قال طالوت: لك ذلك عندي، وأزوجك ابنتي، ولن يخفى علي إن كنت أنت صاحبه، قد أتاني قومي، كلهم يزعم أنه يقتله، وقد أخبرني إسماعيل أن الله يبعث له رجلا من أصحابي فيقتله، فالبس هذا الدرع، فلبسها داوود عليه السلام، فطالت عليه، فانتفض فيها، فتقلص منها، وجعل داوود يدعو الله تعالى، ثم انتفض فيها، فتقلص منها، ثم انتفض فيها الثالثة، فاستوت عليه، فعلم طالوت أنه يقتل جالوت.. فلما التقى الجمعان، وطالوت في قلة، وجالوت في كثرة؛ عمد داوود عليه السلام فقام بحيال جالوت، لا يقوم ذلك المكان إلا من يريد قتال جالوت، فجعل الناس يسخرون من داوود حين قام بحيال جالوت، وكان جالوت من قوم عاد، عليه بيضة فيها ثلاثمائة رطل، فقال جالوت: من أين هذا الفتى؟ ارجع، ويحك؛ فإني أراك ضعيفا، ولا أرى لك قوة، ولا أرى معك سلاحا، ارجع؛ فإني أرحمك، فقال داوود عليه السلام: أنا أقتلك ـ بإذن الله تعالى، فقال جالوت: بأي شيء تقتلني، وقد قمت مقام الأشقياء، ولا أرى معك سلاحا إلا عصاك هذه!؟ هلم، فاضربني بها ما شئت، وهي عصاه التي كان يرد بها غنمه، قال داوود: أقتلك ـ بإذن الله ـ بما شاء الله، فتقدم جالوت ليأخذه بيده مقتدرا عليه في نفسه، وقد صارت الحجارة الثلاثة حجرا واحدا، فلما دنا جالوت من داوود أخرج الحجر من مخلاته، وألقت الريح البيضة عن رأسه، فرماه، فوقع الحجر في دماغه، حتى خرج من أسفله، وانهزم الكفار، وطالوت ومن معه وقوف ينظرون، فذلك قوله سبحانه: ﴿فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت﴾ بحذافة فيها حجر واحد، وقتل معه ثلاثون ألفا(2).

3. روي أنّه قال: قال وطلب داوود نصف مال طالوت، ونصف ملكه؛ فحسده طالوت على صنيعه، وأخرجه، فذهب داوود حتى نزل قرية من قرى بني إسرائيل، وندم طالوت على صنيعه، فقال في نفسه: عمدت إلى خير أهل الأرض، بعثه الله تعالى لقتل جالوت، فطردته، ولم أف له، وكان داوود عليه السلام أحب إلى بني إسرائيل من طالوت، فانطلق في طلب داوود، فطرق امرأة ليلا من قدماء بني إسرائيل تعلم اسم الله الأعظم وهي تبكي على داوود، فضرب بابها، فقالت: من هذا؟ قال أنا طالوت، فقالت: أنت أشقى الناس وأشرهم، هل تعلم ما صنعت!؟ طردت داوود النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وكان أمره من الله تعالى، وكانت لك آية فيه من أمر الدرع، وصفة أشماويل، وظهوره على جالوت، وقتل الله تعالى [به] أهل الأوثان فانهزموا، ثم غدرت بداود وطردته! هلكت، يا شقي، فقال لها: إنما أتيتك لأسالك: ما توبتي؟ قالت: توبتك أن تأتي مدينة بلقاء، فتقاتل أهلها وحدك، فإن افتتحتها فهي توبتك، فانطلق طالوت، فقاتل أهل بلقاء وحده، فقتل، وعمدت بنو إسرائيل إلى داوود عليه السلام، فردوه، وملكوه، ولم يجتمع بنو إسرائيل لملك قط غير داوود عليه السلام، فكانوا اثني عشر سبطا، لكل سبط ملك بينهم، فذلك قوله ـ تبارك وتعالى ـ: ﴿فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت﴾(3).

4. روي أنّه قال: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾، وهم مائة ألف إنسان، فسار في حر شديد(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٠٨.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٠٧ ـ: ٢٠٨.

(3) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢١٠.

ابن إسحاق:

روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ سألوه أن يثبّت أقدامهم، ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ قال استنصروه على القوم الكافرين(1).

2. روي أنّه قال: ﴿عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ بالصدق(2).

3. روي أنّه قال: ﴿عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ بالفضل(2).

4. روي أنّه قال: زعم أهل الكتاب أن طالوت لما رأى انصراف بني إسرائيل عنه إلى داوود همّ بأن يغتال داوود، فصرف الله ذلك عنه، وعرف طالوت خطيئته، والتمس التنصل منها والتوبة، فأتى إلى عجوز كانت تعلم الاسم الذي يدعى به، فقال لها: إني قد أخطأت خطيئة لن يخبرني عن كفارتها إلا اليسع، فهل أنت منطلقة معي إلى قبره، فداعية الله ليبعثه حتى أسأله؟ قالت: نعم، فانطلق بها إلى قبره، فصلت ركعتين، ودعت، فخرج اليسع إليه، فسأله، فقال: إن كفارة خطيئتك أن تجاهد بنفسك وأهل بيتك حتى لا يبقى منكم أحد، ثم رجع اليسع إلى موضعه، وفعل ذلك طالوت حتى هلك وهلك أهل بيته، فاجتمعت بنو إسرائيل على داوود، فأنزل الله عليه، وعلمه صنعة الحديد، فألانه له، وأمر الجبال والطير أن يسبحن معه إذا سبح، ولم يعط أحدا من خلقه مثل صوته، وكان إذا قرأ الزبور ترنو إليه الوحش حتى يؤخذ بأعناقها، وإنها لمصغية تستمع له، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والنوح إلا على أصناف صوته(3).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٧٨.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٨٢.

(3) ابن عساكر: ٢٤/٤٤٥.

ابن عبد العزيز:

روي عن سعيد بن عبد العزيز (ت 167 هـ): ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ هو النهر الذي عند قنطرة أم حكيم بنت الحارث بن هشام.. وفيه غسل يحيى لعيسى(1).

__________

(1) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ١٧/٨٠ ـ: ٨١.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لما قال لهم ـ يعني: النبي لبني إسرائيل ـ: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾، قالوا: فمن لنا بأن الله هو آتاه هذا؟ ما هو إلا لهواك فيه قال إن كنتم قد كذبتموني واتهمتموني فإن: ﴿آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ الآية قال فنزلت الملائكة بالتابوت نهارا، ينظرون إليه عيانا، حتى وضعوه بين أظهرهم، فأقروا غير راضين، وخرجوا ساخطين، وقرأ حتى بلغ: ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ألقى الله على لسان طالوت حين فصل بالجنود، فقال: لا يصحبني أحد إلا أحد له نية في الجهاد، فلم يتخلف عنه مؤمن، ولم يتبعه منافق، رجعوا كفارا، فلما رأى قلتهم قالوا: لن نمس هذا الماء؛ غرفة ولا غيرها، وذلك أنّه قال لهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ الآية، فقالوا: لن نمس هذا؛ لا غرفة، ولا غير غرفة، وأخذ البقية الغرفة، فشربوا منه حتى كفتهم، وفضل منهم، والذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوها(2).

3. روي أنّه قال: الذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوا، وهم الذين قالوا: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(3).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٤٧٨.

(2) ابن جرير: ٤/٤٨٨.

(3) ابن جرير: ٤/٤٩٥.

الرضا:

روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنّه قال: السكينة ريح من الجنة، فكان إذا وضع التابوت بين يدي المسلمين والكفار فإن تقدم التابوت رجل لا يرجع حتى يقتل أو يغلب، ومن رجع عن التابوت كفر، وقتله الإمام، فأوحى الله إلى نبيهم: أن جالوت يقتله من تستوي عليه درع موسى، وهو رجل من ولد لاوي بن يعقوب اسمه داوود بن آسي، وكان آسي راعيا، وكان له عشرة بنين أصغرهم داوود، فلما بعث طالوت إلى بني إسرائيل، وجمعهم لحرب جالوت، بعث إلى آسي: أن أحضر ولدك، فلما حضروا دعا واحدا واحدا من ولده، فألبسه الدرع، درع موسى، فمنهم من طالت عليه، ومنهم من قصرت عنه، فقال لآسي: هل خلفت من ولدك أحدا؟ قال نعم، أصغرهم تركته في الغنم راعيا، فبعث إليه ابنه فجاء به، فلما دعي أقبل ومعه مقلاع ـ قال ـ فنادته ثلاث صخرات في طريقه، قالت: يا داوود، خذنا، فأخذها في مخلاته، وكان شديد البطش، قويا في بدنه، شجاعا، فلما جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى فاستوت عليه، ففصل طالوت بالجنود، وقال لهم نبيهم: يا بني إسرائيل، إن الله مبتليكم بنهر، في هذه المفازة، فمن شرب منه فليس من حزب الله، ومن لم يشرب فإنه من حزب الله إلا من اغترف غرفة بيده، فلما وردوا النهر، أطلق الله لهم أن يغرف كل واحد منهم غرفة بيده، فشربوا منه إلا قليلا منهم، فالذين شربوا منه كانوا ستين ألفا، وهذا امتحان امتحنوا به، كما قال الله)(1).

__________

(1) تفسير القمّي: 1/82.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ أي من المدينة:

أ. قيل‏: هم سبعون ألفا.

ب. وقيل: كانوا مائة ألف.

2. سار بهم في حر شديد، فنزلوا في قفرة من الأرض، فأصابهم عطش شديد، فسألوا طالوت الماء، فقال لهم طالوت: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾:

أ. قيل‏: نهر بين الأردن وفلسطين.

ب. وقيل‏: هو نهر فلسطين.

ج. وقيل: إنما قال لهم: إن الله مبتليكم بنهر نبيهم.

3. ﴿فَمَنْ شَرِبَ﴾ غرفة كفاه، ومن شرب أكثر منه لم يروه؛ لأنهم عصوه، واختلفوا:

أ. قيل: ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ [البقرة: 249] أي: ليس معي على عدوي، أي: لا يخرج معي.

ب. ويجوز ﴿فَلَيْسَ مِنِّي﴾ [البقرة: 249] من أتباعي وشيعتي.

ج. وجائز أن يكون به ظهور النفاف والصدف ﴿مَنِيٍّ﴾ [القيامة: 37] في الدِّين.

4. ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ [البقرة: 249]، يقول: ﴿مَنِيٍّ﴾ [القيامة: 37]، أي معي على عدوي، فيه دليل أن يسمى الشراب باسم الطعام، والطعام باسمه.

5. ﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ [البقرة: 249] استثنى ﴿الْغُرْفَةَ﴾ [الفرقان: 75]، كأنه قال: من شرب منه فليس مني إلا غرفة، ففيه جواز الثنيا من الكلام المتقدم وإن كان دخل بين حرف الثنيا وحرف الأول شيء آخر. وهو يدل لأصحابنا (2)، حيث قالوا: فيمن أقر، فقال: (لفلان على كرّ حنطة وكر شعير إلا نصف كر حنطة)، أنه يصدق ويلزمه من الحنطة نصف كر، ويحتمل‏ على ما يليه قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً﴾ وقيل: شرب شرب الدواب، و(الغرفة) هي شرب.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾:

أ. قيل‏: (القليل) هم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا اغترفوا غرفة واحدة بأيديهم، وكانت الغرفة يشرب منها هو وخدمه ودوابه.

ب. وقيل: إنما استثنى الغرفة باليد لئلا يكرعوا كراع الدواب، ففعل بعضهم ذلك، فرد طالوت العصاة منهم، فلم يقطعوا معه، وقطع معه الثلاثمائة والثلاثة عشر رجلا وهو قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ [البقرة: 249]

ج. قيل: هو قول بعضهم لبعض: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ لأنهم أكثر منا، وكانوا مائة ألف، وهو ثلاثمائة وثلاثة عشر، والله أعلم بذلك العدد.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾:

أ. قيل‏: الذين يعلمون ويقرون بالبعث، ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي عددهم.

ب. وقيل: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ يعنى يخشون أنهم يقتلون؛ لأنهم وطنوا أنفسهم على الموت، فطابت أنفسهم بالموت.

8. ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ قال بعضهم: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي بأمر الله، لكنه لا يحتمل الغلبة بالأمر، ولكن‏ ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ عندنا: بنصر الله، ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ بالنصر والمعونة لهم.

9. ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ يعنى لقتالهم، ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ يقول: اصبب، ويقال: أتمم علينا صبرا، وهكذا الواجب على كل من لقى العدو أن يدعو بمثل هذا، وعلى قول المعتزلة لا معنى لهذا الدعاء، لأنه قد كان فعل بهذا الأصلح.

10. فاستجاب الله دعاءهم، وهزم عدوهم؛ وهو قوله تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾:

أ. قال بعضهم: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ بأمر الله، لكن لا يحتمل؛ لأنهم كانوا يقاتلون بالأمر، ولا يهزمون بالأمر.

ب. وقال آخرون: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ بعلم الله، كان في علمه في الأزل أنهم يهزمونهم.

ج. وقيل: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ بنصر الله، وهو أقرب.

11. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بقوله: والقصة طويلة فلا ندرى كيف كانت القصة وليس لنا إلى معرفتها حاجة.

12. قوله تعالى: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ يحتمل وجوها:

أ. الملك يحتمل: علم الحرب، وسياسة القتال؛ إذ لم يكونوا يقاتلون إلا تحت أيدى الملوك، وهو كقوله تعالى: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ [ص: 20]

ب. ويحتمل: ﴿الْمُلْكُ﴾ بما عقد له من الخلافة؛ كقوله تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: 26]

13. ذكر الله تعالى ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ الأمرين لما كان من قرب زمانه على ما عليه ابتداء الآية أن الملك يكون غير نبيّ فجمعا جميعا له فيكون على ذلك تأويل الحكمة أنها النبوة.

14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾:

أ. قيل: هي الفقه.

ب. وقيل‏: هي النبوة، وقد تقدم ذكره.

15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾:

أ. قيل‏: صنعة الدروع، كقوله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ﴾ [الأنبياء: 80]

ب. وقيل‏: كلام الطير، وتسبيح الجبال، كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ [سبأ: 10]، وذلك مما خص به داوود دون غيره من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام.

ج. ويحتمل: ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ أشياء أخر.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/227.

(2) يقصد الحنفية

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ قيل: معناه ولا من اغترف غرفة بيده، فقامت الألف مقام الواو، ولأن الله حرم طعمه فكيف بشرب غرفة باليد.

2. ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ وإنما أراد الله أن يبين لنبيه أنه لا ينصح ولا يؤمن بالله إلا القليل، ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ﴾: أي قطعه، ﴿هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾: هذا قول الأوباش من قوم طالوت حكى الله جبنهم وكفرهم ومعصيتهم وكذبهم من أول دهرهم إلى آخره، ليحذر أولياءه بعده أن يغتروا أو يقبلوا نفاق أعدائه إذا تشبهوا ـ في حسن القول والتمني ـ بأوليائه، كما تسمعون اليوم في عصرنا هذا من حسن كلام هؤلاء الأوباش، وتمنيهم للجهاد، وهم غير مفلحين ولا وامقين للرشاد، بل هم معرضون عن ذي العزة والأياد، ومقبلون على اللعب والمجون والفساد.

3. ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾: أي قال الذين يوقنون أنهم ملاقو الله، والظن قد يكون يقيناً في بعض القرآن، فأخبر عن صبر الموقنين في الجهاد، وعن جبن هؤلاء الرعاع الأوغاد، الجهلة الذين لا يعقلون من العباد.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 288.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ هو جمع جند والأجناد القليل وقيل إنهم كانوا مائتين ألف مقاتل ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ وهو بين الأردن وفلسطين من أرض بيت المقدس، والسبب الذي ابتلوا به شكايتهم قلة الماء وخوف العطش.

2. ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ أي من أهل ولايتي ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ وقرئ (غَرفة) بنصب الغين وغُرفة بضمها فمن ضمها فإنما المراد به المشروب ومن نصب فإنما أراد الفعل ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ قال الإمام الناصر لدين الله: كل من استكثر من ذلك الماء ازداد عطشاً وكان المؤمنون عدد أهل بدر ثلاثمائة وبضع عشر رجلاً وجاوز معهم عدة من الكافرين غير أنهم انجزلوا وقالوا: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ أي يستيقنون كما قال دريد بن الصمة:

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج... سرابهم في الفارسي المسرد

3. و﴿مُلَاقُو اللَّهِ﴾ أي ملاقو ثوابه ورحمته ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ والفئة الفرقة، بإذن الله: أي بنصر الله؛ لأن الله عز وجل إذا أذن في القتال نصر، والله مع الصابرين: أي بالمعونة والنصر.

4. ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾ وروينا عن أمير المؤمنين علي أن جالوت خرج يطلب البراز فخرج إليه داوود فرماه بحجر فوقع بين عينيه وخرج من قفاه ثم أصاب جماعة كثيرة من عسكره فقتلهم وانهزم القوم عن آخرهم.

5. ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ يعني داوود أراد بالملك السلطان وبالحكمة النبوة ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ هو صنعة الدروع والتقدير في السرد ﴿وَلَوْلَا دفاع اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ روينا عن أمير المؤمنين علي أنّه قال إن الله عز وجل يدفع عن البر بالفاجر.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/121.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ وهو جمع جند، والأجناد للقليل، وقيل: إنهم كانوا ثمانين ألف مقاتل.

2. ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ اختلفوا في النهر:

أ. فحكي عن ابن عباس والربيع أنه نهر بين الأردن وفلسطين.

ب. وقيل إنه نهر فلسطين.

3. ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ أي ليس من أهل ولايتي، ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو بالفتح، وقرأ الباقون (غرفة) بالضم، والفرق بينهما أن الغرفة بالضم اسم للماء المشروب، والغرفة بالفتح اسم للفعل.

4. ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ قال عكرمة: جاز معه النهر أربعة آلاف، ونافق ستة وسبعون ألفا، فكان داوود ممن خلص لله تعالى، قال ابن عباس: إن من استكثر منه عطش، ومن اغترف غرفة منه روي.

5. ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [البقرة: 249] قيل: كان المؤمنون ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا عدة أهل بدر، واختلفوا، هل تجاوزه معهم كافر أم لا؟

أ. فحكي عن البراء، والحسن، وقتادة: أنه ما تجاوزه إلا مؤمن.

ب. وقال ابن عباس، والسدي: تجاوزه الكافرون، إلا أنهم انخذلوا عن المؤمنين.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ على قولين:

أ. أحدهما: أنّه قال ذلك من قلّت بصيرته من المؤمنين، وهو قول الحسن، وقتادة، وابن زيد.

ب. الثاني: أنهم أهل الكفر الذين انخذلوا، وهو قول ابن عباس، والسدي.

7. ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ وهم المؤمنون الباقون من الأربعة الآلاف، وفي الظن هاهنا قولان:

أ. أحدهما: أنه بمعنى اليقين، ومعناه الذين يستيقنون أنهم ملاقو الله كما قال دريد بن الصّمّة:

çفقلت لهم ظنّوا بألفي مدجج‏...سراتهم في الفارسيّ المسرّدé

أي تيقنوا.

ب. الثاني: بمعنى الذين يظنون أنهم ملاقو الله بالقتل في الوقعة.

8. ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾ والفئة: الفرقة ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ قال الحسن: بنصر الله، وذلك لأن الله إذا أذن في القتال نصر فيه على الوجه الذي وقع الإذن فيه، ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ يعني بالنصرة والمعونة.

9. هذا تفسير الآية عند جمهور المفسرين، وذكر بعض من يتعاطى غوامض المعاني، أن هذه الآية مثل ضربه الله للدنيا يشبهها بالنهر، والشارب منه بالمائل إليها والمستكثر منها، والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهد فيها، والمغترف منه غرفة بيده بالآخذ منها قدر حاجته، وأحوال الثلاثة عند الله مختلفة.

10. في الهزيمة في قوله تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنها ليست من فعلهم وإنما أضيفت إليهم مجازا.

ب. الثاني: أنهم لما ألجئوا إليها صاروا سببا لها، فأضيفت إليهم لمكان الإلجاء.

يحتمل قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ وجهين:

أ. أحدهما: بأمر الله لهم بقتالهم.

ب. الثاني: بمعونة الله لهم على قتالهم.

11. ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾ حكي أن جالوت خرج من صفوف عسكره يطلب البراز؟ فلم يخرج إليه أحد، فنادى طالوت في عسكره: من قتل جالوت فله شطر ملكي.. إلى آخر الأثر سبق ذكره.

12. إن طالوت ندم على ما بذله لداود من مشاطرته ملكه وتزويجه ابنته، واختلفوا هل كان ندمه قبل تزويجه ومشاطرته، أم بعد، على قولين(2):

أ. أحدهما: أن طالوت وفّى بشرطه، وزوج داوود بابنته، وخلطه في ملكه بنفسه ثم حسده، فندم، وأراد قتله، فعلمت بنته بأنه يريد قتل زوجها، وكانت من أعقل النساء، فنصبت له زق خمر بالمسك، وألقت عليه ليلا ثياب داوود، فأقبل طالوت، وقال لها: أين زوجك؟ فأشارت إلى الزق، فضربه بالسيف، فانفجر منه الخمر وسطع ريح المسك، فقال يرحمك الله يا داوود طبت حيا وميتا، ثم أدركته الندامة، فجعل ينوح عليه ويبكي، فلما نظرت الجارية إلى جزع أبيها، أخبرته الخبر، ففرح، وقاسم داوود على شطر ملكه، وهذا قول الضحاك، فعلى هذا يكون طالوت على طاعته حين موته، لتوبته من معصيته.

ب. الثاني: أنه ندم قبل تزويجه على شرطه وبذله، وعرّض داوود للقتل، وقال له إن بنات الملوك لا بد لهن من صداق أمثالهن، وأنت رجل جريء، فاجعل صداقها قتل ثلاثمائة من أعدائنا، وكان يرجو بذلك أن يقتل، فغزا داوود وأسر ثلاثمائة، فلم يجد طالوت بدا من تزويجه، فزوجه بها، وزاد ندامة فأراد قتله، وكان يدس عليه حتى مات، وهذا قول وهب بن منبه، فعلى هذا مات طالوت على معصيته لأنه لم يتب من ذنبه، وروى مكحول، عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الملوك قد قطع الله أرحامهم فلا يتواصلون حبّا للملك حتّى إنّ الرّجل منهم ليقتل الأب والابن والأخ والعمّ، إلّا أهل التّقوى وقليل ما هم، ولزوال جبل عن موضعه أهون من زوال ملك لم ينقض)

13. ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ يعني داوود، يريد بالملك السلطان وبالحكمة النبوة ـ وكان ذلك عند موت طالوت بعد سبع سنين من قتل جالوت على ما حكاه ابن السائب، ويحتمل وجها ثانيا: أن الملك الانقياد إلى طاعته، والحكمة: العدل في سيرته ويكون ذلك بعد موت طالوت عند تفرده بأمور بني إسرائيل.

14. في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ وجهان:

أ. أحدهما: صنعة الدروع والتقدير في السرد.

ب. الثاني: كلام الطير وحكمة الزبور.

ج. ويحتمل ثالثا: أنه فعل الطاعات والأمر بها، واجتناب المعاصي والنهي عنها، فيكون على الوجه الأول.

15.﴿مِمَّا يَشَاءُ﴾ داوود، وعلى الثاني: ﴿مِمَّا يَشَاءُ﴾ الله، وعلى الثالث‏ ﴿مِمَّا يَشَاءُ﴾ الله ويشاء داوود.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/317.

(2) لا نرى صحة هذا، لأنه يعطي الذريعة لبني إسرائيل في موقفهم منه

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا فَصَلَ﴾ معناه قطع، والفصل: القطع، يقال فصل اللحم عن العظم أي قطعه فأبانه عنه، وفصل الصبي فصلًا: إذا قطعه عن اللبن، وقول فصل أي يفصل بين الحق والباطل.

2. الجنود جمع جند قال السدي: كانوا ثمانين ألف مقاتل، والأجناد جمع القلة، وجنّد الجنود تجنيداً أي جمعهم، والجند الأرض الغليظة وكل صنف من الخلق: جند على حدة، وفي الحديث: الأرواح جنود مجندة، وأصل الباب الجند: الغليظ من الأرض.

3. ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ فمعنى الابتلاء هاهنا تمييز الصادق من الكاذب في قولهـ على قول الحسن ـ، وقال وهب بن منية: السبب الذي لأجله ابتلوا بالنهر شكايتهم قلة المياه، وخوف التلف من العطش، والنهر الذي ابتلوا به، قال ابن عباس، والربيع، وقتادة: هو نهر بين الأردن، وفلسطين، وروي عن ابن عباس‏ أيضاً أنه نهر فلسطين، وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ﴾ الهاء عائدة على النهر في اللفظ، وهو في المعنى الماء.

4. ﴿فَلَيْسَ مِنِّي﴾ معناه ليس على ديني، ولا من أهل ولايتي، فحذف ودلت من عليه.

5. طعم: ويقال: طعم الماء كما يقال طعم الطعام وأنشدوا: (وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا)

6. الغرفة بالفتح المرة من الغرف، والغرفة بالضم ملء الكف من الماء، فالغرفة اسم للماء المغروف والغرفة اسم للفعل، وقال بعضهم الاختيار الضم لأنه لو جاء على معنى المرة، لكان اغترافة، وهذا ليس بشيء، لأنه إذا كان المعنى واحداً جاز اغترافة، لأنه الأصل وجاز غرفة، لأنه أخف، وكلاهما حسن، ويقال غرف يغرف غرفاً واغترف اغترافاً والمغرفة الآلة التي يغرف بها، وغرف غروف أي كبير والغريف: ماء في الاجمة، لأنه يغرف من بين القصب، ومزادة غرفية مدبوغة بالغرف: وهو جنس من الدباغ، والغريف شجر مجتمع من أي شجر كان، والغرفة العلية، وأصل الباب الغرف.

7. قال ابن عباس، وقتادة، والربيع: من استكثر من ذلك الماء عطش، ومن لم يشرب إلا غرفة روي، وقال الفراء، والحسن، وقتادة، والربيع: والذين جازوا النهر مع طالوت كان عددهم مثل عدد أهل بدر، وهم ثلاثة وبضعة عشر، وهم المؤمنون خاصة، وقال ابن عباس، والسدي: جاوزه الكافر، والمؤمن إلا أن الكافرين انخزلوا عنهم، وبقي المؤمنون على عدد أهل بدر، وهذا قوي، لقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [البقرة: 249]، فلما رأوا كثرة جنود جالوت قال الكفار منهم‏ ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ﴾ وقال المؤمنون حينئذ الذين عدتهم عدّة أهل‏ بدر ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ قال البلخي: ويجوز أن يكونوا كلهم مؤمنين، غير أن بعضهم أشد إيقاناً وأقوى اعتقاداً، وهم الذين قالوا: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾

8. جاز الشيء يجوزه: إذا قطعه، وأجازه إجازة: إذا استصوبه، والشيء يجوز: إذا لم يمنع منه دليل، واجتاز فلان اجتيازاً، واستجاز فعل كذا استجازة، وتجوّز في كلامه تجوّزاً، وتجاوز عن ذنبه تجاوزاً، وجاوزه في الشيء تجاوزه، وجوّزه تجويزاً، وجوز كل شيء وسطه بمجاز الطريق، وهو وسطه الذي يجاز فيه: وقيل هذا اشتقاق الجوزاء، لأنها تعرض جوز السماء أي وسطها، وأما الجوز المعروف، ففارسي معرّب، والجواز الصك للمسافر، والمجاز في الكلام، لأنه خروج عن الآجل الى ما يجوز في الاستعمال، وأصل الباب الجواز: المرور من غير شيء يصد، ومنه التجاوز عن الذنب، لأن المرور عليه بالصفح.

9. في قوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: قال الذين يستيقنون، ذهب إليه السدي قال دريد بن الصمة:

çفقلت لهم ظنوا بألفي مدجج‏...سراتهم في الفارسي المسردé

أي أيقنوا وقيل إنه استعارة فيما يكفي فيه الظن حتى يلزم العمل، فكيف المعرفة، فجاء على وجه المبالغة في تأكد لزوم العمل.

ب. الثاني:يحدثون نفوسهم وهو أصل الظن، لأن حديث النفس بالشيء قد يكون مع الشك ومع العلم إلا أنه قد على ركبت ما كان مع الشك.

ج. الثالث: يظنون أنهم ملاقو الله بالقتل في تلك الواقعة.

10. ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ﴾ الفئة: الطائفة من الناس، والجمع: فئين وفئات، ولا يجوز في عدة إلا عادات، لأن نقص عدة من أوله، وليس كذلك فئة، وما نقص‏ من أوله يجري في الباب على اطراد بمنزلة غير المنقوص، فأما فئة ومائة، وثبة وعزة، فان النقص فيه على غير اطراد، كما يكون في عدة، وصلة، وزنة، وصفة، وجهة، وتقول فأوت رأسه بالسيف إفاءة فأواً: إذا قطعته وانفاء الشيء إنفاءً: إذا تقطع وأصل الباب القطع، فمنه الفئة، لأنهم قطعة من الناس.

11. ﴿غُلِبَتِ﴾ [الروم: 2] تقول: غلب يغلب غلباً وغالبه مغالبة وتغالبوا تغالباً، وتغّلب تغلباً وغلبه تغليباً، وأشد أغلب: إذا كان غليظ العنق، ورجل أغلب كذلك، لأنه من إمارة الغلب، واغلولب العشب إذا كثر لأنه غلب على غيره بكثرته، وأصل الباب الغلب: القهر.

12. ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ معناه بنصر الله على قول الحسن، لأن الله إذا أذن في القتال نصر فيه على الوجه الذي أذن فيه ويجوز في (كم) الجر والنصب وإن كان على معنى الخبر في قول الفراء، وفي الآية حذف لدلالة ما بقي عليه وهو فأتاهم التابوت بالصفة التي وعدوا بها، فصدّقوا لأن قوله‏ ﴿فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ بعد تلك المنازعة منهم ينبئ أن الآية أتتهم، فانقادوا لأجلها.

13. البروز الظهور للقتال، ومنه البراز، وهي الأرض: الفضاء، تقول: برز يبرز بروزاً، وبارزه مبارزة، وتبارز تبارزاً، وبرَّز تبريزاً، وتبرّز تبرزاً، ورجل‏ برز، وامرأة برزة أي ذو عفة وفضل، لظهور ذاك فيها، والجنود الجموع التي تعدّ للقتال واحدها جند، مأخوذ من الجند وهو الغلظ.

14. ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ﴾ فالافراغ: صب السيال على جهة اخلاء المكان منه‏ وأصله الخلو، وإنما قيل‏ ﴿أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ تشبيهاً بتفريغ الإناء من جهة أنه نهاية ما توجبه الحكمة، كما أنه نهاية ما في الواحد من الآنية، وتقول فرغ يفرغ فراغا، وأفرغ إفراغاً، وفرّغ تفريغاً وتفرّغ تفرغاً، واستفرغ استفراغا، وافترغت افتراغاً: إذا صببت عليك الماء، وقوله تعالى: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾ معناه سنعمد، لأنه عمل مجرد من غير شاغل، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا﴾ أي خالياً من الصبر والفرغ مفرغ الدلو، وهو خرقة الذي يأخذ الماء، لأنه يفرغ منه الماء (و ﴿أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ أي صبّ، ودرهم مفرغ أي مصبوب في قالب، وضربة فريغة: واسعة، وفرغ الإناء، وفرغ الرجل من عمله، وأصل الباب الفراغ الخلوّ.

15. ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ تثبيت الأقدام يكون بشيئين: أحدهما: بتقوية قلوبهم، و الثانية: بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم حتى يظهر منهم الخور في قتالهم وقيل باختلاف كلمتهم حتى يقع التخاذل منهم، وكذلك الصبر، لأنه من فعل العبد كما أن الثبوت في الحرب من فعله، لأنه يجازى عليه، فأما النصر، ففعل الله تعالى، والصبر: حبس النفس عما تنازع إليه من الفعل، وهاهنا حبسها عما تنازع إليه من الفرار من القتال، والتثبيت تمكين الشيء في مكانه بلزومه إياه، وقد يقال ثبت يثبت ثبوتاً، وأثبته إثباتاً وتثبت تثبتاً، واستثبت استثباتاً، وثبته تثبيتاً، ورجل ثبت المقام: إذا كان شجاعاً لا يبرح موقفه، وطعنه فأثبت فيه الرمح أي نفذ فيه، لأنه يلزم فيه، وأثبت حجته إذا أقامها، والقول الثابت الصحيح يلزم العمل عليه، ومنه قوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ أي يؤدبهم به ليلزموا طريق‏ الحق فيه، وفلان ثبت أي ثقة مأمون فيما روى، وأثبت الحسنات في الدفتر، لأنك ضبطه، وأصل الباب اللزوم.

16. ﴿فَانْصُرْنَا﴾ [البقرة: 286] النصر: هو المعونة على العدوّ، ويكون ذلك بأشياء منها بزيادة القوة، ومنها الرعب من الملاقاة، ومنها الاطلاع على العورة، ومنها تخيل الكثرة، ومنها اختلاف الكلمة التي تقع بلطف في إعطاء النصر، والفرق بين النصر، واللطف: أن كل نصر من الله، فهو لطف، وليس كل لطف نصراً، لأن اللطف يكون في إحدى طاعاته بدلا من معصيته، وقد يكون في فعل طاعة من النوافل فأما العصمة فلا تكون إلا من معصية.

17. ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 251] في الآية حذف وتقديره فاستجاب لهم ربهم، فهزموهم بنصره لهم، لأن ذكر الهزيمة بعد سؤال النصرة دليل على أنه كان على معنى الاجابة.

18. الهزم: الدفع، تقول: هزم القوم في الحرب يهزمهم هزماً: إذا دفعهم بالقتال هرباً منه، وانهزموا انهزاماً، وتهزم السقاء: إذا يبس، فتصدّع لاندفاع بعضه على بعض، والاهتزام الذبح تقول العرب: اهتزموا شاتكم قبل أن تهزل فتهلك لدفع صاعها بتذكيتها، والهزمة: دفعك الشيء بقوة حتى تدخل عن موضعه في الجسد، وزمزم هزمة، جبرئيل لإسماعيل عليه السلام والمهزم خشبة يحرك بها الجمر، لأنها يرفع بها بعضه عن بعض، وهزمة الرعد صوته، وأصابتهم هازمة من هوازم الدهر أي داهية كاسرة، لأنها كهازمة الجيش في البلية، وهزمت عليك أي عطفت عليك.

19. الأولى أن يكون القوم هزموهم حقيقة لأنهم سنوا الهزيمة بأن فعلوا ما يلجئهم اليها وقال الجبائي: ذلك مجاز، لأنهم لم يفعلوا هزيمتهم، كما يقال: أخرجه من منزله إذا ألجأه الى الخروج، ولم يفعل خروجه، وهذا ليس بصحيح، لأنه ليس معنى هزمه فعل هزيمته، ليكون إذا صرف عن ذلك الى معنى غيره يكون مجازاً في العبارة بل معناه ما قلناه.

20. قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ يحتمل أمرين:

أ. أحدهما: بأمر الله.

ب. الثاني بعلم الله.

21. قيل: إن سبب قتل داوود جالوت كان أن جالوت طلب البراز، فخرج إليه داوود عليه السلام فرماه بحجر مقلاع فوقع بين عينيه وخرج من قفاه، فأصاب جماعة كثيرة من أهل عسكره فقتلهم، وانهزم القوم عن آخرهم، ذكر ذلك وهب بن منبه وغيره من المفسرين.

22. في قوله تعالى: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه جمع له الملك والنبوة في حالة واحدة.

ب. الآخر: أنه اختصه من علم السمع بحكمة لم يؤتها غيره.

23. ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ معناه أنه علمه أمور الدين وما يشاء من أمور الدنيا، منها صنعة الدرع وعمل السرد، ذكره الزجاج، والطبري.

24. سؤال وإشكال: ما الفائدة في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ إذا كنا لا ندري ما الذي شاء من ذلك؟ والجواب: الله تعالى وإن لم يشرح لنا ما علمه فقد بين لنا أنه خصه من العلم بعد علم الدين بما لم يؤته غيره، لأن غيره من المؤمنين إنما نعلم ما دله الله عليه من أمر دينه‏ ودنياه، وكان داوود مساوياً لهم في ذلك إن لم يكن أكثرهم علماً فيه، لأنه كان مؤمناً مثلهم، وكان معهم في أمورهم، فلما بين لنا أنه‏ ﴿آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ﴾ بعد قتل جالوت، علمنا أنه كان خصه بما ذكره من الملك والحكمة، وخصه منه بما لم يخصّ به أحداً سواه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/294.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الفصل: مصدر فصلت الشيء فصلاً، والفصل أصله القطع، وفصل عن المكان كأنه قطعه وجاوزه.

ب. الجنود: جمع جند للكثير، والأجناد للقليل، وجَنَّدَ الجنود: جَمَعَهُم، وأصل الباب: الجند الغليظ من الأرض، وسمي الجند؛ لأنه يعتصم به من غلظ الأمر.

ج. الغرف مصدر غرفت الماء بيدي، وبالغرفة غَرْفًا بالفتح، والغرفة المرة، والغرفة الاسم منها.

د. الابتلاء والامتحان والاختبار نظائر.

هـ. النهر: مجرى الماء وجمعه نهر وأنهار، وأصله من السعة، ويقال: نَهْرٌ ونَهَرٌ بسكون الهاء وفتحها.

و. المجاوزة: من الجواز وهو المرور من غير شيء يصد يقال: جاوز مجاوزة، وجوز الشيء وسطه، ومنه: الجوزاء، ومجاوزة الذنب: المرور عليه بالتصفح.

ز. الطاقة: القوة.

ح. الفئة: الطائفة من الناس والجمع فِئُون وفئات، وفأوت رأسه بالسيف: إذا قطعته، وأصله القطع، وسميت الفرقة فئة؛ لأنها قطعة من الناس.

ط. الغلبة: القهر.

ي. البروز: أصله الظهور، وبرزوا معناه صاروا بالبَرَاز من الأرض، وهو ما ظهر.

ك. الإفراغ: صب السيال على جهة إخلاء المكان منه؛ لأن أصله الخلو، ومنه: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا﴾ أي خاليًا.

ل. الثبات: أصله اللزوم، ومنه: القول الثابت الذي يؤيدهم به ليلزموا طريق الحق، وإنه السهم في القرطاس الرمية فيه.

م. الصبر: حبس النفس عما تنازع إليه.

ن. النصرة: المعونة نصره ينصره نصرًا.

س. الهَزْمُ: الدفع، والهزم: الكسر.

2. ثم بَيَّنَ تعالى انقياد من انقاد لطالوت وخروجه إلى القتال فقال تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ﴾ قيل: في الكلام حذف، كأنه قيل: فآتاهم التابوت بالصفة التي وعدوا، فانقادوا لطالوت، وفصل: خرج عن مكانه، قطعه بالمجاوزة، وقيل: خرجوا من بيت المقدس بالجنود بالعساكر، أي خرج مع العساكر للقتال، واختلفوا:

أ. قيل: كانوا ثلاثين ألف مقاتل، عن السدي.

ب. وقيل: سبعين ألفًا، عن مقاتل.

3. ذلك أنهم لما رأوا التابوت أيقنوا بالنصرة فسارعوا إلى الجهاد ﴿قَالَ﴾ يعني طالوت: ﴿إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ﴾ أي يكلفكم، وكان سبب الابتلاء:

أ. قيل: شكايتهم قلة المياه وخوف القتل وخوف التلف من العطش، عن وهب.

ب. وقيل: أراد تثقيل التكليف لمصلحة لهم، عن أبي علي.

ج. وقيل: ابتلاهم ليميزوا الصادق من الكاذب.

د. وقيل: ابتلاهم ليتعودوا الصبر على الشدائد.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِنَهَرٍ﴾:

أ. وقيل: هو نهر فلسطين، عن ابن عباس والسدي.

ب. وقيل: نهر بين الأردن وفلسطين، عن قتادة والربيع.

5. ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ﴾ الهاء كناية عن النهر في اللفظ، وهو في المعنى للماء يقال: شربت من نهر كذا ويراد به الماء: ﴿فَلَيْسَ مِنِّي﴾ أي ليس من أهل ديني وطاعتي، ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ﴾ أي لم يشربه.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ مِنِّي﴾:

أ. قيل: أي من أهلٍ ديني وطاعتي.

ب. وقيل: مني: من حزبي وأوليائي، عن أبي علي.

7. ﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ يعني مرة أو ملء الكف على اختلاف القراءة، ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾، وروي أن من استكثر منه عطش، ومن اغترف غرفة، روي عن ابن عباس وقتادة والربيع، وأما القليل الذي لم يشرب منه:

أ. فقيل: أربعة آلاف، عن السدي.

ب. وقيل: كانوا عدد أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر وهم المؤمنون، عن الحسن وجماعة.

8. ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ﴾ يعني جاوزوا النهر، واختلفوا:

أ. قيل: جاوزه المؤمنون على عدد أهل بدر، عن الحسن وقتادة والربيع والبراء ابن عازب.

ب. وقيل: جاوزه المؤمنون والكافرون، إلا أن الكافرين انخذلوا، وبقي المؤمنون على عدد أهل بدر، عن ابن عباس والسدي.

9. ﴿هُوَ﴾ يعني طالوت ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ﴾، واختلفوا:

أ. قيل: القائل من أهل الإيمان مَنْ ضعفت بصيرتهم عن منزلة غيرهم، عن الحسن وقتادة وابن زيد.

ب. وقيل: هم أهل الكفر الَّذِينَ انخذلوا ولم يشهدوا الفتح، عن ابن عباس والسدي.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾:

أ. قيل: يعلمون ويستيقنون، عن السدي.

ب. وقيل: يحدثون أنفسهم، وهو على معنى العلم؛ لأن حديث النفس قد يكون مع الظن، وقد يكون مع الشك.

ج. الثالث: ﴿يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُوالله﴾ بالقتل في تلك الوقعة، عن الأصم.

د. ﴿مُلاَقُوالله﴾ قيل: ملاقو جزائه.

11. ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ﴾ أي فرقة قليلة ﴿غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله﴾ قيل: بنصره، عن الحسن: ﴿وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ بالنصرة والحفظ والعلم.

12. ثم أخبر عن خبر المؤمنين بما قالوا عند لقاء العدو، فقال تعالى: ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾، يعني: ﴿طَالُوتُ﴾ والمؤمنين معه خرجوا إلى محاربة جالوت وجنوده ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ قيل: وفقنا للصبر على الجهاد، ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ أي وفقنا للثبوت حتى لا نفر، ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ أي على جهادهم.

13. نصره تعالى يكون بوجهين:

أ. بالألطاف تقوِّي قلوب المؤمنين، ويوهن قلوب الكافرين، ورعب يدخل عليهم، واختلاف كلمة يؤدي إلى فشل.

ب. بإمداد الملائكة كما فعله يوم بدر.

14. ثم بَيَّنَ تعالى تمام القصة فقال تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُمْ﴾ ولا بد من محذوف كأنه لما قالوا: ربنا أفرغ علينا صبرًا قال: فاستجاب لهم ربهم فهزموهم بنصره، دفعوهم وكسروهم، وهو توسع، ومعناه سببوا لهزيمتهم، وإلا فالهزيمة فعلهم.

15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِ الله﴾:

أ. قيل: بأمره.

ب. وقيل: بنصره.

16. ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾ وروي أن جالوت طلب البراز فخرج إليه داوود، وكان في عسكر طالوت لم يكن نبيًّا بعد، فرماه بحجر من مقلاعه فوقع بين عينيه، وخرج من قفاه فأصاب جماعة من أهل عسكره فقتلهم، وانهزم القوم عن آخرهم، عن وهب، ﴿وَآتَاهُ الله﴾ أعطاه الله، ﴿الْمُلْكُ﴾ قيل: مَلَكَ بعد قتل جالوت بسبع سنين، عن الضحاك.

17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾:

أ. قيل: النبوة، ولم يكن نبيًّا قبل قتله جالوت.

ب. وقيل: العلم والفقه.

18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾:

أ. قيل: صنعة الدروع وكلام الطير والنمل.

ب. وقيل: أمور الدنيا، عن أبي علي.

ج. وقيل: الزبور والحكم بين الناس، عن الأصم.

د. وقيل: الصوت الطيب والألحان.

19. في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ عدة أقوال:

أ. الأول: لولا دفع الله بجنود المسلمين الكفار ومعرتهم لغلبوا وخربوا البلاد، عن ابن عباس ومجاهد وأبي علي وأبي مسلم، ثم اختلفوا:

فقيل: المراد به المؤمنون وأهل الحق.

وقيل: أراد المؤمن والكافر.

ب. الثاني: لولا دفع الله بِالبَرِّ الهلاكَ عن الفاجر لهلكت الأرض ومن فيها، عن علي ومجاهد وقتادة وجماعة من المفسرين.

ج. الثالث: لولا دفع الله باللطف للمؤمن والرعب في قلب الكافر لعمت الأرض بالفساد.

د. الرابع: يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، عن الحسن، فدفعه بالسلطان.

هـ. الخامس: ببعثة الرسل فيدعوهم إلى الحق ومعناه أنه يبعثه على دفع الأشرار عن ظلم الناس ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ﴾ ونعمة في دينهم ودنياهم: ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ على الخلق.

20. ثم لما تقدم من أنباء الرسل ومعجزاتهم عقبه بالتنبيه على نبوة نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلم فقال تعالى: ﴿تِلْكَ﴾ يعني ما مضى من الأخبار من حديث الألوف وجمع طالوت، وحديث التابوت وغيره ﴿آيَاتِ الله﴾ أي حججه ﴿نَتْلُوهَا﴾ نقرؤها ﴿عَلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿بِالْحَقِّ﴾ بالصدق، ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، وإنما ذكر أنه من المرسلين لوجوه:

أ. منها: أن فيما تقدم تنبيهًا على نبوته ومعجزة له، حيث أخبر عن جميع ذلك بأوضح بيان من غير أن قرأ كتابًا وخالط أحدًا ممن هو من أهل المعرفة.

ب. ومنها: أن نبوتهم والتصديق بتلك الأنباء إنما يجب لنبوته؛ لأن أخبارهم ومعجزاتهم قد اندرست، فإنما صح بنبوته وإخباره.

ج. ومنها: أنه إنما صح نبوتهم لمكان الوحي، وقد أوحي إليه كما أوحي إليهم فلا معنى للفرق.

د. ومنها: الاستدعاء إلى القيام وبما أرسل به بعد قيام الحجة.

هـ. ومنها: أنه نصب تلك الآيات حكمة وحجة ومصلحة، كذلك جعلك رسولاً لما فيه عن المصلحة والحكمة.

21. تدل الآيات الكريمة على:

أ. ابتلاء وقع بذلك النهر، ولا بد أن ذلك كان بأمر الله تعالى.

ب. قولنا(2) في اللطف أن المراد به بإذن الله ما يفعله المؤمن من تثبيت قلبه وإلقاء الرعب في قلوب الكفار.

ج. عظيم موقع الصبر، وأنه معهم بالنصر والتأييد، ولا دليل للمشبهة فيه؛ لأن هذا اللفظ يستعمل في غير المكان، تقول: أنا معك، ولا تريد المكان، والله تعالى ليس بجسم، ولا يجوز عليه المكان.

د. معجزة لذلك النبي؛ لأنه إخبار عن الغيب.

هـ. حسن سؤال المعونة من الله تعالى، والتوفيق على المصابرة والانقطاع إليه تعالى، وهذا هو الواجب على العبد إذا حزّ به أمر.

و. أن الواجب علينا أن نقتدي بهم في ذلك، فنتكل على الله في جميع أمورنا، فهذا فائدة اقتصاص أخبار مَنْ تقدم.

ز. أن جالوت تولى قَتْلَهُ داودُ، وأنه كان في جند طالوت، فيدل على أن المرشح للنبوة قبل البعثة قد يكون تابعًا لغيره ممن ليس بنبي.

ح. أنه صار إليه النبوة ومُلْكُ طالوت.

ط. يدل قوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ﴾ على بطلان الجبر؛ لأنه تعالى لو خلق الخلق للنار لما كان منعمًا إليهم، بل كان فَعَلَ بهم غاية الإساءة، ومن وجه آخر إذا جاز أن يفعل القبيح فما الذي يَأْمَنُ أن جميع ما فعل إنما فعل على وجه يقبح، وما الذي يؤمن أن خبره بخلاف مخبره.

22. قراءات وحجج:

أ. قرأ: ﴿غُرْفَةً﴾ بفتح الغين ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو، وقرأ الباقون بالضم، والفرق بينهما أن الغرفة بالفتح للمرة من الغرف، والغرفة بالضم ملء الكف من الماء، وبالضم اسم للماء، وبالفتح اسم للفعل، وكلاهما حسن.

ب. القراءة الظاهرة: ﴿قَلِيلًا﴾ بالنصب، وعن ابن مسعود بالرفع.

ج. قراءة العامة ﴿نَهَر﴾ بفتح الهاء، وعن بعضهم بالجزم، وكلاهما لغتان.

د. قرأ أبو جعفر ونافع ويعقوب وأبان عن عاصم (دفاع) بالألف، وفي الحج مثله، وقرأ الباقون بغير ألف، ووجه ذلك ما قاله أبو عبيد: إن الله تعالى لا يغالبه أحد فهو الرافع وحده، والمفاعلة تكون بين اثنين، وقال أبو حاتم: المفاعلة قد تكون من واحد كقولهم: عافاك الله، وقيل: لما أعان أولياءه على دفع أعدائهم حتى قهروهم حسن إضافة الدفاع إليه حين كان بنصره وإرادته.

هـ. ﴿مَعَ﴾ للمصاحبة والمقاربة، و﴿قَلِيلًا﴾ نصبا على الاستثناء، وتقديره: فشربوا استثني القليل، فنصب بوقوع الفعل عليه.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/57.

(2) يقصد الزيدية، ومن وافقهم

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الفصل: القطع، وفصل بالجنود أي: سار بهم وقطعهم عن موضعهم، وفصل الصبي فصالا: قطعه عن اللبن.

ب. الجنود: جمع جند، وجند الجنود أي: جمعهم، وفي الحديث: الأرواح جنود مجندة، وأصل الباب الجند الغليظ من الأرض، يقال: طعم الماء كما يقال طعم الطعام، وأنشدوا:

çفإن شئت حرمت النساء سواكم... وإن شئت لم أطعم نقاخا، ولا برداé

أراد لم أذق، والنقاخ: العذب.

ج. غرف الماء يغرف غرفا، واغترف بمعنى، والمغرفة: الآلة التي يغرف بها، وغرب غروف: كبير.

د. المجاوزة من الجواز، يقال: جاز الشيء يجوزه: إذا قطعه، وأجازه إجازة: إذا استصوبه، والشيء يجوز: إذا لم يمنع منه دليل، وجوز الشيء: وسطه مشبه بمجاز الطريق: وهو وسطه الذي يجاز فيه، وقيل: إن اشتقاق الجوزاء منه، لأنها تعترض جوز السماء، والمجاز في الكلام: لأنه خروج عن الأصل إلى ما يجوز في الاستعمال، وأصل الباب: الجواز وهو المرور من غير شيء يصدر منه التجاوز عن الذنب، لأنه المرور عليه بالصفح.

هـ. الطاقة: القوة، يقال: أطقت الشيء إطاقة وطاقة وطوقا، مثل أطعته إطاعة وطوعا.

و. الفئة: الطائفة من الناس، والجمع فئون وفئات، ولا يجوز في عدة الا عدات لأن نقص عدة من أوله وليس كذلك فئة، وما نقص من أوله يجري في الباب على اطراد بمنزلة غير المنقوص، وأما فئة ومائة وعزة، فإن النقص فيه على غير اطراد، وتقول: فأوت رأسه بالسيف: إذا قطعته، وانفاء الشيء انفياء: إذا انقطع، وأصل الباب: القطع، ومنه الفئة: لأنهم قطعة من الناس.

ز. الهزم: الدفع، يقال هزم القوم في الحرب يهزمهم هزما: إذا دفعهم بالقتال هربا منه، فانهزموا انهزاما، وتهزم السقاء: إذا يبس فتصدع لاندفاع بعضه عن بعض، والاهتزام: الذبح، يقال: اهتزم شاتك قبل أن تهزم فتهلك لدفع ضياعها بتذكيتها.

ح. أصل الدفع: الصرف عن الشيء، والدفاع: السيل، والدفعة: اندفاع الشيء جملة.

ط. البروز: أصله الطهور، ومنه البراز: وهي الأرض الفضاء، ورجل برز، وامرأة برزة أي: ذو عفة وفضل، لظهور ذلك منهما.

ي. الإفراغ: الصب للسيال على جهة إخلاء المكان منه يقال: فرغ يفرغ فراغا، وأفرغ أفراغا، وأصبح فؤاد أم موسى فارغا أي: خاليا من الصبر، وأصل الفراغ: الخلو.

ك. التثبيت: تمكين الشيء في مكانه للزومه إياه، وقد يقال: ثبته بمعنى حكم بوجوده، ورجل ثبت المقام: إذا كان شجاعا لا يبرح موقفه، وطعنه فأثبت فيه الرمح أي: نفذ فيه، لأنه يلزم فيه، وأثبت حجته أي: أقامها، ورجل ثبت أي: ثقة مأمون فيما روى.

ل. النصر: هو المعونة على العدو، ويكون ذلك بأشياء منها بزيادة القوة، ومنها بالرعب عن الملاقاة، ومنها بالاطلاع على العورة، ومنها بتخيل الكثرة، ومنها باختلاف الكلمة، والفرق بين النصر واللطف أن كل نصر من الله فهو لطف، وليس كل لطف نصرا، لأن اللطف يكون في أخذ طاعة بدلا من معصية، وقد يكون في فعل طاعة من النوافل، والنصر: فعل الله، والصبر من فعل العبد، لأنه يجازى عليه، وهو حبس النفس عما تنازع إليه من الفعل، وهو هاهنا حبسها عما تنازع إليه من الفرار من القتال.

2. ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ في الكلام حذف لدلالة ما بقي عليه، وهو فآتاهم التابوت بالصفة التي وعدوا بها، فصدقوا وانقادوا لطالوت، فلما فصل طالوت أي: خرج من مكانه، وقطع الطريق بالجنود أي: العساكر، واختلف في عددهم:

أ. فقيل: كانوا ثمانين ألف مقاتل، عن السدي.

ب. وقيل: سبعين ألفا، عن مقاتل.

3. وذلك أنهم لما رأوا التابوت، أيقنوا بالنصر فبادروا إلى الجهاد ﴿قَالَ﴾ يعني طالوت ﴿إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ أي: مختبركم وممتحنكم، ومعنى الابتلاء ههنا: تمييز الصادق عن الكاذب في قوله، عن الحسن، وكان سبب ابتلائهم بالنهر:

أ. قيل: شكايتهم قلة الماء، وخوف التلف من العطش، عن وهب.

ب. وقيل: إنما ابتلوا بذلك ليصبروا عليه، فيكثر ثوابهم، ويستحقوا به النصر على عدوهم، وليتعودوا الصبر على الشدائد فيصبروا عند المحاربة، ولا ينهزموا.

4. اختلف في النهر الذي ابتلوا به:

أ. فقيل: هو نهر بين الأردن وفلسطين، عن قتادة والربيع.

ب. وقيل: هو نهر فلسطين، عن ابن عباس والسدي.

5. ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ﴾ الهاء كناية عن النهر في اللفظ، وهو في المعنى للماء، ويقال: شربت من نهر كذا ويراد به الماء ﴿فَلَيْسَ مِنِّي﴾ معناه: ليس من أهل ولايتي، وليس من أصحابي، وممن يتبعني، ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ﴾ أي: ومن لم يطعم من ذلك الماء ﴿فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ أي: من أهل ولايتي وأوليائي، وهو من الطعم: الذي هو ما يؤديه الذوق أي: لم يجد طعمه لا من الطعام والطعم يوجد في الماء، وفي الطعام جميعا.

6. ﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ إلا من أخذ الماء مرة واحدة باليد، ومن قرأ بالضم فمعناه إلا من شرب مقدار ملء كفه ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ﴾ أي: شربوا كلهم أكثر من غرفة.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾:

أ. قيل: إن الذين شربوا منه غرفة، كانوا ثلاث مائة وبضعة عشر رجلا، عن الحسن وقتادة وجماعة.

ب. وقيل: أربعة آلاف رجل، ونافق ستة وسبعون ألفا، ثم نافق الأربعة الآلاف إلا ثلاثمائة وبضعة عشر، عن السدي.

ج. وقيل: من استكثر من ذلك الماء عطش، ومن لم يشرب إلا غرفة، روي وذهب عطشه.

8. ورد طالوت عند ذلك العصاة منهم فلم يقطعوا معه النهر، ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ معناه: فلما تخطى النهر طالوت والمؤمنون معه، وهم أصحابه، واختلفوا:

أ. روي عن البراء بن عازب وقتادة والحسن أنه إنما جاوز معه المؤمنون خاصة، كانوا مثل عدد أهل بدر.

ب. وقيل: بل جاوز المؤمنون والكافرون إلا أن الكافرين انعزلوا، وبقي المؤمنون على عدد أهل بدر، عن ابن عباس، والسدي، وهذا أقوى لقوله سبحانه ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾

9. فلما رأوا كثرة جنود جالوت ﴿قَالُوا﴾ أي: قال الكفار منهم: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ فقال المؤمنون حينئذ الذين عددهم عدة أهل بدر: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله﴾ قال أبو القاسم البلخي: ويجوز أن يكونوا كلهم مؤمنين، غير أن بعضهم أشد إيقانا، وأقوى اعتقادا، وهم الذين قالوا: كم من فئة قليلة إلى آخره.

10. ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ [البقرة: 249] أي: راجعون إلى الله، وإلى جزائه، قيل في يظنون ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: إن معنى يظنون يستيقنون، عن السدي، كقول دريد بن الصمة:

çفقلت لهم: ظنوا بألفي مدجج... سراتهم في الفارسي المسردé

أي: أيقنوا.

ب. الثاني: إن معناه يحدثون نفوسهم، وهو أصل الظن، لأن حديث النفس بالشيء قد يكون مع الشك، وقد يكون مع العلم، إلا أنه قد كثر على ما كان مع الشك.

ج. الثالث: يظنون أنهم ملاقو الله بالقتل في تلك الوقعة.

11. ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ﴾ أي: فرقة ﴿قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾ أي: قهرت فرقة كثيرة ﴿بِإِذْنِ الله﴾ أي: بنصره، عن الحسن، لأنه إذا أذن الله في القتال، نصر فيه على الوجه الذي أذن فيه ﴿وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ بالنصرة لهم على أعدائهم.

12. ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ﴾ أي: ظهر طالوت والمؤمنون معه لمحاربة جالوت ﴿وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ﴾ أي أصبب ﴿عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ أي: وفقنا للصبر على الجهاد، وشبهه بتفريغ الإناء من جهة أنه نهاية ما توجبه الحكمة، كما أنه نهاية ما في الواحد من الآنية ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ أي: وفقنا للثبوت على الأمر ﴿وَانْصُرْنَا﴾ أعنا ﴿عَلَى﴾ جهاد ﴿الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ قوم جالوت.

13. ثم ذكر سبحانه تمام القصة، فقال: ﴿فَهَزَمُوهُمْ﴾ ولا بد من حذف هنا كأنه لما قالوا: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ قال: فاستجاب لهم ربهم فهزموهم بنصره أي: دفعوهم وكسروهم، لأن ذكر الهزيمة بعد سؤال النصرة دليل على معنى الإجابة.

14. اختلف في معنى (هزموهم):

أ. قيل: سببوا لهزيمتهم، بأن فعلوا ما ألجأهم إليها، فعلى هذا يكون حقيقة، وهو الصحيح.

ب. وقال أبو علي الجبائي: ذلك مجاز لأنهم لم يفعلوا هزيمتهم، كما يقال: أخرجه من منزله: إذا ألجأه إلى الخروج، ولم يفعل خروجه.

15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِ الله﴾:

أ. قيل: أي: بأمر الله.

ب. وقيل: بعلم الله(2).

16. ﴿وَآتَاهُ الله الْمُلْكَ﴾ أي: وأعطاه الملك بعد قتل داوود جالوت بسبع سنين، عن الضحاك ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾، واختلفوا:

أ. قيل: النبوة، ولم يكن نبيا قبل قتل جالوت، فجمع الله له الملك والنبوة عند موت طالوت في حالة واحدة، لأنه لا يجوز أن يترأس من ليس بنبي، لأنه قلب ما توجبه الحكمة، لأن النبي يوثق بظاهره وباطنه، ولا يخبر إلا بحق، ولا يدعو إلا إلى حق، فليس كذلك من ليس بنبي، عن الحسن.

ب. وقيل: يجوز ذلك إذا كان يفعل ما يفعل بأمره ومشورته.

17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾:

أ. قيل: معناه: وعلمه أمور الدين، وما شاء من أمور الدنيا، منها صنعة الدروع، فإنه كان يلين له الحديد كالشمع.

ب. وقيل: الزبور، والحكم بين الناس، وكلام الطير، والنمل.

ج. وقيل: الصوت الطيب، والألحان.

18. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأهل المدينة ﴿غُرْفَةً﴾ بالفتح، والباقون بالضم، قال أبو علي: من فتح الغين عدى الفعل إلى المصدر والمفعول في قوله محذوف، والمعنى إلا من اغترف ماء غرفة، ومن ضم الغين، عدى الفعل إلى المفعول به، ولم يعده إلى المصدر، لأن الغرفة العين المغترفة، فهو بمنزلة إلا من اغترف ماء، والبغداديون يجعلون هذه الأسماء المشتقة من المصادر بمنزلة المصادر، ويعملونها كما يعملون المصادر، فيقولون: عجبت من دهنك لحيتك، وقد جاء من العرب ما يدل عليه، وهو قول الشاعر: (وبعد عطائك المائة الرتاعا) وأشياء غير هذا، فعلى هذا يجوز أن ينصب الغرفة نصب الغرفة، وقد قال سيبويه في نحو الجلسة والركبة إنه قد يستغنى بها عن المصادر، أو قال: تقع مواقعها، وهذا كالمقارب لقولهم، ولو قيل: إن الضم هنا أوجه لقوله ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ﴾ والمشروب منه الغرفة، لكان قولا.

19. مسائل نحوية:

أ. ﴿بِيَدِهِ﴾: من فتح فاء غرفة، جاز أن يتعلق بالمصدر عنده، وجاز أن يعلقه بالفعل أيضا، ومن أعمل الغرفة إعمال المصدر، جاز أن يتعلق الباء بها في قوله، وكلا الأمرين مذهب.

ب. ﴿مَنِ اغْتَرَفَ﴾: في موضع نصب بالاستثناء، و ﴿كَمْ﴾: خبرية وهي في موضع رفع بالابتداء.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/616.

(2) ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في قصة داود عليه السلام

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ﴾، أي: خرج وشخص، وفي عدد من خرج معه ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: سبعون ألفا، قاله ابن عباس .

ب. الثاني: ثمانون ألفا، قاله عكرمة والسّدّيّ.

ج. الثالث: مائة ألف، قاله مقاتل، قال وساروا في حرّ شديد، فابتلاهم الله بالنّهر، والابتلاء: الاختبار.

2. في النّهر لغتان:

أ. إحداهما: تحريك الهاء، وهي قراءة الجمهور.

ب. الثانية: تسكينها، وبها قرأ الحسن ومجاهد.

3. في هذا النّهر قولان:

أ. أحدهما: أنه نهر فلسطين، قاله ابن عباس والسّدّيّ .

ب. الثاني: نهر بين الأردن وفلسطين، قاله عكرمة، وقتادة، والرّبيع بن أنس.

4. وجه الحكمة في ابتلائهم أن يعلم طالوت من له نيّة في القتال منهم، ومن ليس له نيّة.

5. ﴿فَلَيْسَ مِنِّي﴾ أي ليس من أصحابي.

6. ﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً﴾، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (غرفة) بفتح الغين، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائيّ بضمّها، قال الزجّاج: من فتح الغين أراد المرّة الواحدة باليد، ومن ضمّها أراد ملء اليد، وزعم مقاتل أن الغرفة كان يشرب منها الرجل ودابّته وخدمه ويملأ قربته، وقال بعض المفسّرين: لم يرد به غرفة الكفّ، وإنما أراد المرّة الواحدة بقربة أو جرّة أو ما أشبه ذلك.

7. في عدد القليل الذين لم يشربوا إلا غرفة قولان:

أ. أحدهما: أنهم أربعة آلاف، قاله عكرمة والسّدّيّ .

ب. الثاني: ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وهو الصحيح، لما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال لأصحابه يوم بدر: (أنتم بعدّة أصحاب طالوت يوم لقاء جالوت)، وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر.

8. ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا﴾، أي: لا قوّة لنا، قال الزجّاج: أطقت الشيء، إطاقة وطاقة، وطوقا، مثل قولك: أطعته إطاعة وطاعة وطوعا، واختلفوا في القائلين لهذا على ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنهم الذين شربوا أكثر من غرفة، فإنهم انصرفوا ولم يشهدوا، وكانوا أهل شكّ ونفاق، قاله ابن عباس، والسّدّيّ .

ب. الثاني: أنهم الذين قلّت بصائرهم من المؤمنين، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد.

ج. الثالث: أنه قول الذين جاوزوا معه، وإنما قال ذلك بعضهم لبعض، لما رأوا من قلّتهم، وهذا اختيار الزجّاج.

9. ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ في هذا الظّنّ قولان:

أ. أحدهما: أنه بمعنى اليقين، قاله السّدّيّ في آخرين .

ب. الثاني: أنه الظنّ الذي هو التّردّد، فإن القوم توهّموا لقلّة عددهم أنهم سيقتلون فيلقون الله، قاله الزجّاج في آخرين.

10. في الظّانين هذا الظّن قولان:

أ. أحدهما: أنهم الثلاثمائة والثلاثة عشر، قالوا للراجعين: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة، قاله السّدّيّ .

ب. الثاني: أنهم أولو العزم والفضل من الثلاثمائة والثلاثة عشر.

11. الفئة: الفرقة، قال الزجّاج: وإنما قيل لهم: فئة من قولهم: فأوت رأسه بالعصا، وفأيته: إذا شققته.

12. ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، قال الحسن: بنصر الله، قوله تعالى ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾: أي بالنصر والإعانة.

13. ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا﴾، أي: صاروا بالبراز من الأرض، وهو ما ظهر واستوى، و﴿أفْرِغْ﴾ بمعنى: اصبب‏ ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ أي: قوّ قلوبنا لتثبيت أقدامنا، وإنما تثبت الأقدام عند قوة القلوب، قال مقاتل: كان جالوت وجنوده يعبدون الأوثان.

14. ﴿فَهَزَمُوهُمْ﴾ أي: كسروهم وردّوهم، قال الزجّاج: أصل الهزم في اللغة: كسر الشيء، وثني بعضه على بعض، يقال: سقاء منهزم ومهزم إذا كان بعضه قد ثني على بعض مع جفاف، وقصب منهزم: قد كسر وشقق، والعرب تقول: هزمت على زيد، أي: عطفت عليه، قال الشاعر:

çهزمت عليك اليوم يا ابنة مالك‏...فجودي علينا بالنّوال وأنعمي‏é

ويقال: سمعت هزمة الرّعد، قال الأصمعيّ: كأنه صوت فيه تشقّق.

15. داوود: هو نبيّ الله أبو سليمان، وهو اسم أعجميّ، وقيل: إن إخوة داوود كانوا مع طالوت، فمضى داوود لينظر إليهم، فنادته أحجار: خذني، فأخذها، وجاء إلى طالوت، فقال: ما لي إن قتلت جالوت؟ قال ثلث ملكي، وأنكحك ابنتي، فقتل جالوت.

16. ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾، يعني: آتى داوود ملك طالوت، وفي المراد بـ (الحكمة) هاهنا قولان:

أ. أحدهما: أنها النبوّة، قاله ابن عباس .

ب. الثاني: الزّبور، قاله مقاتل.

17. في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾، فيه ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنها صنعة الدّروع .

ب. الثاني: الزّبور.

ج. الثالث: منطق الطّير.

__________

(1) زاد المسير: 1/226.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وجه اتصال هذه الآية بما قبلها يظهر بتقدير محذوف يدل عليه باقي الكلام، والتقدير أنه لما أتاهم بآية التابوت أذعنوا له، وأجابوا إلى المسير تحت رايته، فلما فصل بهم أي فارق بهم حد بلده وانقطع عنه.

2. ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ معنى الفصل القطع، يقال: قول فصل، إذا كان يقطع بين الحق والباطل وفصلت اللحم عن‏ العظم فصلا وفاصل الرجل شريكه وامرأته فصالا، ويقال للفطام فصال، لأنه يقطع عن الرضاع، وفصل عن المكان قطعه بالمجاوزة عنه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ﴾ [يوسف: 94] قال الزمخشري قوله: فصل عن موضع كذا أصله فصل نفسه، ثم لأجل الكثرة في الاستعمال حذفوا المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي كما يقال انفصل والجنود جمع جند وكل صنف من الخلق جند على حدة، يقال للجراد الكثيرة إنها جنود الله، ومنه‏ قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (الأرواح جنود مجندة)

3. روي‏ أن طالوت قال لقومه: لا ينبغي أن يخرج معي رجل يبني بناء لم يفرغ منه ولا تاجر مشتغل بالتجارة، ولا متزوج بامرأة لم يبن عليها ولا أبغي إلا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع إليه ممن اختار ثمانون ألفا.

4. ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ اختلفوا في أن هذا القائل من كان:

أ. فقال الأكثرون: إنه هو طالوت وهذا هو الأظهر لأن قوله لا بد وأن يكون مسندا إلى مذكور سابق، والمذكور السابق هو طالوت، ثم على هذا يحتمل أن يكون القول من طالوت لكنه تحمله من نبي الوقت، وعلى هذا التقدير لا يلزم أن يكون طالوت نبيا ويحتمل أن يكون من قبل نفسه فلا بد من وحي أتاه عن ربه، وذلك يقتضي أنه مع الملك كان نبيا.

ب. الثاني: أن قائل هذا القول هو النبي المذكور في أول الآية، والتقدير: فلما فصل طالوت بالجنود قال لهم نبيهم ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ ونبي ذلك الوقت هو اشمويل عليه السلام.

5. في حكمة هذا الابتلاء وجهان:

أ. الأول: قال القاضي: كان مشهورا من بني إسرائيل أنهم يخالفون الأنبياء والملوك مع ظهور الآيات الباهرة فأراد الله تعالى إظهار علامة قبل لقاء العدو يتميز بها من يصبر على الحرب ممن لا يصبر لأن الرجوع قبل لقاء العدو لا يؤثر كتأثيره حال لقاء العدو، فلما كان هذا هو الصلاح قبل مقاتلة العدو لا جرم قال ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾

ب. الثاني: أنه تعالى ابتلاهم ليتعودوا الصبر على الشدائد.

6. في النهر أقوال:

أ. أحدها: وهو قول قتادة والربيع، أنه نهر بين الأردن وفلسطين.

ب. الثاني: وهو قول ابن عباس والسدي: أنه نهر فلسطين، قال القاضي: والتوفيق بين القولين أن النهر الممتد من بلد قد يضاف إلى أحد البلدين.

ج. الثالث: وهو الذي رواه الزمخشري: أن الوقت كان قيظا فسلكوا مفازة فسألوا الله أن يجري لهم نهرا فقال: إن الله مبتليكم بما اقترحتموه من النهر.

7. ﴿مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ أي ممتحنكم امتحان العبد كما قال: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ﴾ [الإنسان: 2] ولما كان الابتلاء بين الناس إنما يكون لظهور الشيء، وثبت أن الله تعالى لا يثبت، ولا يعاقب على علمه، إنما يفعل ذلك بظهور الأفعال بين الناس، وذلك لا يحصل إلا بالتكليف لا جرم سمي التكليف ابتلاء، وفيه لغتان بلا يبلو، وابتلى يبتلي، قال الشاعر:

çولقد بلوتك وابتليت خليفتي‏...ولقد كفاك مودتي بتأدب‏é

فجاء باللغتين.

8. نهر ونهر بتسكين الهاء وتحريكها لغتان، وكل ثلاثي حشوه حرف من حروف الحلق فإنه يجيء على هذين، كقولك: صخر وصخر، وشعر وشعر، وقالوا: بحر وبحر، وقال الشاعر:

çكأنما خلقت كفاه من حجر...فليس بين يديه والندى عمل‏

يرى التيمم في بر وفي بحر...مخافة أن يرى في كفه بلل‏é

9. ﴿فَلَيْسَ مِنِّي﴾ كالزجر، يعني ليس من أهل ديني وطاعتي، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ ثم قال قبل هذا: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾ وأيضا نظيره‏ قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا)، أي ليس على ديننا ومذهبنا.

10. قال أهل اللغة ﴿لَمْ يَطْعَمْهُ﴾ أي لم يذقه، وهو من الطعم، وهو يقع على الطعام والشراب هذا ما قاله أهل اللغة، وعندي إنما اختير هذا اللفظ لوجهين من الفائدة:

أ. أحدهما: أن الإنسان إذا عطش جدا، ثم شرب الماء وأراد وصف ذلك الماء بالطيب واللذة قال إن هذا الماء كأنه الجلاب، وكأنه عسل فيصفه بالطعوم اللذيذة، فقوله تعالى ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ﴾ معناه أنه وإن بلغ به العطش إلى حيث يكون ذلك الماء في فمه كالموصوف بهذه الطعوم الطيبة فإنه يجب عليه الاحتراز عنه، وأن لا يشربه.

ب. الثاني: أن من جعل الماء في فمه وتمضمض به ثم أخرجه من الفم، فإنه يصدق عليه أنه ذاقه وطعمه، ولا يصدق عليه أنه شربه، فلو قال ومن لم يشربه فإنه مني كان المنع مقصورا على الشرب، أما لما قال ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ﴾ كان المنع حاصلا في الشرب وفي المضمضة، ومعلوم أن هذا التكليف أشق، وأن الممنوع من شرب الماء إذا تمضمض به وجد نوع خفة وراحة.

11. قال الله تعالى في أول الآية: ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ ثم قال بعده: ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ﴾ وكان ينبغي أن يقال: ومن لم يطعم منه ليكون آخر الآية مطابقا أولها، إلا أنه ترك ذلك اللفظ، واختير هذا لفائدة، وهي أن الفقهاء اختلفوا في أن من حلف لا يشرب من هذا النهر كيف يحنث؟

أ. قال أبو حنيفة لا يحنث إلا إذا كرع من النهر، حتى لو اغترف بالكوز ماء من ذلك النهر وشربه لا يحنث، لأن الشرب من الشيء هو أن يكون ابتداء شربه متصلا بذلك الشيء، وهذا لا يحصل إلا بأن يشرب من النهر.

ب. وقال الباقون إذا اغترف الماء بالكوز من ذلك النهر وشربه يحنث، لأن ذلك وإن كان مجازا إلا أنه مجاز معروف مشهور.

12. ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ ظاهره أن يكون النهي مقصورا على الشرب من النهر، حتى لو أخذه بالكوز وشربه لا يكون داخلا تحت النهي، فلما كان هذا الاحتمال قائما في اللفظ الأول ذكر في اللفظ الثاني ما يزيل هذا الإبهام، فقال: ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ أضاف الطعم والشرب إلى الماء لا إلى النهر إزالة لذلك الإبهام.

13. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ﴿غُرْفَةً﴾ بفتح الغين، وكذلك يعقوب وخلف، وقرأ عاصم‏ وابن عامر وحمزة والكسائي بالضم.

14. ﴿غُرْفَةً﴾ قال أهل اللغة الغرفة بالضم الشيء القليل الذي يحصل في الكف، والغرفة بالفتح الفعل، وهو الاغتراف مرة واحدة، ومثله الأكلة والأكلة، يقال: فلان يأكل في النهار أكلة واحدة، وما أكلت عندهم إلا أكلة بالضم أي شيئا قليلا كاللقمة، ويقال: الحزة من اللحم بالضم للقطعة اليسيرة منه، وحززت اللحم حزة أي قطعته مرة واحدة، ونحوه: الخطوة والخطوة بالضم مقدار ما بين القدمين، والخطوة أن يخطو مرة واحدة، وقال المبرد: غرفة بالفتح مصدر يقع على قليل ما في يده وكثيره والغرفة بالضم اسم مل‏ء/ الكف أو ما اغترف به.

15. ﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ﴾ استثناء من قوله تعالى ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ وهذه الجملة في حكم المتصلة بالاستثناء، إلا أنها قدمت في الذكر للعناية.

16. قول ابن عباس: (كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه، ويحمل منها) يحتمل وجهين.

أ. أحدهما: أنه كان مأذونا أن يأخذ من الماء ما شاءه مرة واحدة، بغرفة واحدة، بحيث كان المأخوذ في المرة الواحدة يكفيه ولدوابه وخدمه، ولأن يحمله مع نفسه.

ب. الثاني: أنه كان يأخذ القليل إلا أن الله تعالى يجعل البركة فيه حتى يكفي لكل هؤلاء، وهذا كان معجزة لنبي ذلك الزمان، كما أنه تعالى كان يروي الخلق العظيم من الماء القليل في زمان محمد صلّى الله عليه وآله وسلم.

17. ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ قرأ أبي والأعمش إلا قليل قال الزمخشري: وهذا بسبب ميلهم إلى المعنى، وإعراضهم عن اللفظ، لأن قوله تعالى ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ﴾ في معنى: فلم يطيعوه، لا جرم حمل عليه كأنه قيل: فلم يطيعوه إلا قليل منهم.

18. ذكرنا أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز الصديق عن الزنديق، والموافق عن المخالف، فلما ذكر الله تعالى أن الذين يكونون أهلا لهذا القتال هم الذين لا يشربون من هذا النهر، وأن كل من شرب منه فإنه لا يكون مأذونا في هذا القتال، وكان في قلبهم نفرة شديدة عن ذلك القتال، لا جرم أقدموا على الشرب، فتميز الموافق عن المخالف، والصديق عن العدو، ويروى أن أصحاب طالوت لما هجموا على النهر بعد عطش شديد، وقع أكثرهم في النهر، وأكثروا الشرب، وأطاع قوم قليل منهم أمر الله تعالى، فلم يزيدوا على الاغتراف، وأما الذين شربوا وخالفوا أمر الله فاسودت شفاههم وغلبهم العطش ولم يرووا، وبقوا على شط النهر، وجبنوا على لقاء العدو، وأما الذين أطاعوا أمر الله تعالى، فقوي قلبهم وصح إيمانهم، وعبروا النهر سالمين.

19. اختلف في القليل الذي لم يشرب:

أ. قيل: إنه أربعة آلاف.

ب. والمشهور وهو قول الحسن أنهم كانوا على عدد أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر وهم المؤمنون، والدليل عليه أن‏ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه يوم بدر: (أنتم اليوم على عدة أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاز معه إلا مؤمن)، قال البراء بن عازب: وكنا يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا.

20. ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ [البقرة: 249] لا خلاف بين المفسرين أن الذين عصوا الله وشربوا من النهر رجعوا إلى بلدهم ولم يتوجه معه إلى لقاء العدو إلا من أطاع الله تعالى في باب الشرب من النهر، وإنما اختلفوا في أن رجوعهم إلى بلدهم كان قبل عبور النهر أو بعده، وفيه قولان:

أ. الأول: أنه ما عبر معه إلا المطيع، واحتج هذا القائل بأمور:

الأولى: أن الله تعالى قال: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [البقرة: 249] فالمراد بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ الذين وافقوه في تلك الطاعة، فلما ذكر الله تعالى كل العسكر، ثم خص المطيعين بأنهم عبروا النهر، علمنا أنه ما عبر النهر أحد إلا المطيعين.

الثانية: الآية المتقدمة وهي قوله تعالى حكاية عن طالوت:‏ ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ أي ليس من أصحابي في سفري، كالرجل الذي يقول لغيره: لست أنت منا في هذا الأمر، قال ومعنى‏ ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ﴾ أي ليتسببوا به إلى الرجوع، وذلك لفساد دينهم وقلبهم.

الثالثة: أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز المطيع عن العاصي والمتمرد، حتى يصرفهم عن نفسه ويردهم قبل أن يرتدوا عند حضور العدو، وإذا كان المقصود من هذا الابتلاء ليس إلا هذا المعنى كان الظاهر أنه صرفهم عن نفسه في ذلك الوقت وما أذن لهم في عبور النهر.

ب. الثاني: أنه استصحب كل جنوده وكلهم عبروا النهر، واعتمدوا في إثبات هذا القول على قوله تعالى حكاية عن قوم طالوت‏ ﴿قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾، ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالمؤمن المنقاد لأمر ربه، بل لا يصدر إلا عن المنافق أو الفاسق، وهذه الحجة ضعيفة، وبيان ضعفها من وجوه:

أحدها: يحتمل أن يقال: إن طالوت لما عزم على مجاوزة النهر وتخلف الأكثرون ذكر المتخلفون أن عذرنا في هذا التخلف أنه لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده فنحن معذورون في هذا التخلف، أقصى ما في الباب أن يقال: إن الفاء في قوله تعالى ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ﴾ تقتضي أن يكون قولهم ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ﴾ إنما وقع بعد المجاوزة، إلا أنا نقول يحتمل أن يقال: إن طالوت والمؤمنين لما جاوزوا النهر ورأوا القوم تخلفوا وما جاوزوه، سألهم عن سبب التخلف فذكروا ذلك، وما كان النهر في العظم بحيث يمنع من المكالمة، ويحتمل أن يكون المراد بالمجاوزة قرب حصول المجاوزة، وعلى هذا التقدير فالإشكال أيضا زائل.

الثاني: أنه يحتمل أن يقال: المؤمنون الذين عبروا النهر كانوا فريقين: بعضهم ممن يحب الحياة ويكره الموت وكان الخوف والجزع غالبا على طبعه، ومنهم من كان شجاعا قوي القلب لا يبالي بالموت في طاعة الله تعالى، فالقسم الأول: هم الذين قالوا ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ﴾، والقسم الثاني: هم الذين أجابوا بقولهم ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾

الثالث: يحتمل أن يقال: القسم الأول من المؤمنين لما شاهدوا قلة عسكرهم قالوا: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ فلا بد أن نوطن أنفسنا على القتل، لأنه لا سبيل إلى الفرار من أمر الله، والقسم الثاني قالوا: لا نوطن أنفسنا بل نرجو من الله الفتح والظفر، فكان غرض الأولين الترغيب في الشهادة والفوز بالجنة، وغرض الفريق الثاني الترغيب في طلب الفتح والنصرة، وعلى هذا التقدير لا يكون في واحد من القولين ما ينقض الآخر.

21. الطاقة مصدر بمنزلة الإطاقة، يقال: أطقت الشيء إطاقة وطاقة، ومثلها أطاع إطاعة، والاسم الطاعة، وأغار يغير إغارة والاسم الغارة، وأجاب يجيب إجابة والاسم الجابة وفي المثل: أساء سمعا فأساء جابة، أي جوابا.

22. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ لم الله تعالى جعلهم ظانين ولم يجعلهم حازمين؟ والجواب: أن السبب فيه أمور:

أ. الأول: وهو قول قتادة: أن المراد من لقاء الله الموت، قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)، وهؤلاء المؤمنون لما وطنوا أنفسهم على القتل، وغلب على ظنونهم أنهم لا يتخلصون من الموت، لا جرم قيل في صفتهم: إنهم يظنون أنهم ملاقو الله.

ب. الثاني ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ أي ملاقو ثواب الله بسبب هذه الطاعة، وذلك لأن أحدا لا يعلم عاقبة أمره، فلا بد أن يكون ظانا راجيا وإن بلغ في الطاعة أبلغ الأمر، إلا من أخبر الله بعاقبة أمره، وهذا قول أبي مسلم وهو حسن.

ج. الثالث: أن يكون المعنى: قال الذين يظنون أنهم ملاقو طاعة الله، وذلك لأن الإنسان لا يمكنه أن يكون قاطعا بأن هذا العمل الذي عمله طاعة، لأنه ربما أتى فيه بشيء من الرياء والسمعة، ولا يكون بنية خالصة فحينئذ لا يكون الفعل طاعة، إنما الممكن فيه أن يظن أنه أتى به على نعت الطاعة والإخلاص.

د. الرابع: أنا ذكرنا في تفسير قوله تعالى: ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أن المراد بالسكينة على قول بعض المفسرين أنه كان في التابوت كتب إلهية نازلة على الأنبياء المتقدمين، دالة على حصول النصر والظفر لطالوت وجنوده، ولكنه ما كان في تلك الكتب أن النصر والظفر يحصل في المرة الأولى أو بعدها، فقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ يعني الذين يظنون أنهم ملاقو وعد الله بالظفر، وإنما جعله ظنا لا يقينا لأن حصوله في الجملة وإن كان قطعا إلا أن حصوله في المرة الأولى ما كان إلا على سبيل حسن الظن.

هـ. الخامس: قال كثير من المفسرين: المراد بقوله تعالى: ﴿يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ أنهم يعلمون ويوقنون، إلا أنه أطلق لفظ الظن على اليقين على سبيل المجاز لما بين الظن واليقين من المشابهة في تأكد الاعتقاد.

23. ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ المراد منه تقوية قلوب الذين قالوا: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾، والمعنى أنه لا عبرة بكثرة العدد إنما العبرة بالتأييد الإلهي، والنصر السماوي، فإذا جاءت الدولة فلا مضرة في القلة والذلة، وإذا جاءت المحنة فلا منفعة في كثرة العدد والعدة.

24. الفئة: الجماعة، لأن بعضهم قد فاء إلى بعض فصاروا جماعة، وقال الزجاج: أصل الفئة من قولهم: فأوت رأسه بالسيف، وفأيت إذا قطعت، فالفئة الفرقة من الناس، كأنها قطعة منهم، قال الفراء: لو ألغيت من هاهنا جاز في فئة الرفع والنصب والخفض، أما النصب فلأن (كم) بمنزلة عدد فنصب ما بعده نحو عشرين رجلا، وأما الخفض فبتقدير دخول حرف (من) عليه، وأما الرفع فعلى نية تقديم الفعل كأنه قيل: كم غلبت فئة.

25. ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ لا شبهة أن المراد المعونة والنصرة، ثم يحتمل أن يكون هذا قولا للذين قالوا ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ﴾ ويحتمل أن يكون قولا من الله تعالى، وإن كان الأول أظهر.

26. ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ المبارزة في الحروب، هي أن يبرز كل واحد منهم لصاحبه وقت القتال، والأصل فيها أن الأرض الفضاء التي لا حجاب فيها يقال لها البراز، فكان البروز عبارة عن حصول كل واحد منهما في الأرض المسماة بالبراز، وهو أن يكون كل واحد منهما بحيث يرى صاحبه.

27. العلماء والأقوياء من عسكر طالوت لما قرروا مع العوام والضعفاء أنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، وأوضحوا أن الفتح والنصرة لا يحصلان إلا بإعانة الله، لا جرم لما برز عسكر طالوت إلى عسكر جالوت ورأوا القلة في جانبهم، والكثرة في جانب عدوهم، لا جرم اشتغلوا بالدعاء والتضرع، فقالوا ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ ونظيره ما حكى الله عن قوم آخرين أنهم قالوا حين الالتقاء مع المشركين: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ [آل عمران: 146] إلى قوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 147] وهكذا كان يفعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في كل المواطن، وروي عنه في قصة بدر أنه عليه السلام لم يزل يصلي ويستنجز من الله وعده، وكان متى لقي عدوا قال (اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم) وكان يقول: (اللهم بك أصول وبك أجول)

28. الإفراغ الصب، يقال: أفرغت الإناء إذا صببت ما فيه، وأصله من الفراغ، يقال: فلان فارغ معناه أنه خال مما يشغله، والإفراغ إخلاء الإناء مما فيه، وإنما يخلو بصب كل ما فيه.

29. قوله تعالى ﴿أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ يدل على المبالغة في طلب الصبر من وجهين:

أ. أحدهما: أنه إذا صب الشيء في الشيء فقد أثبت فيه بحيث لا يزول عنه، وهذا يدل على التأكيد.

ب. الثاني: أن إفراغ الإناء هو إخلاؤه، وذلك يكون بصب كل ما فيه، فمعنى: أفرغ علينا صبرا: أي أصبب علينا أتم صب وأبلغه.

30. الأمور المطلوبة عند المحاربة مجموع أمور ثلاثة:

أ. فأولها: أن يكون الإنسان صبورا على مشاهدة المخاوف والأمور الهائلة، وهذا هو الركن الأعلى للمحارب فإنه إذا كان جبانا لا يحصل منه مقصود أصلا، وهي المراد من قوله تعالى ﴿أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾

ب. ثانيها: أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات والاتفاقات الحسنة مما يمكنه أن يقف ويثبت ولا يصير ملجأ إلى الفرار، وهي المراد بقوله تعالى: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾

ج. ثالثها: أن تزداد قوته على قوة عدوه حتى يمكنه أن يقهر العدو، وهي المراد بقوله تعالى: ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾

31. احتج الأصحاب(2) على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى بقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ وذلك لأنه لا معنى للصبر إلا القصد على الثبات، ولا معنى للثبات إلا السكون والاستقرار وهذه الآية دالة على أن ذلك القصد المسمى بالصبر من الله تعالى، وهو قوله تعالى ﴿أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ وعلى أن الثبات والسكون الحاصل عند ذلك القصد أيضا بفعل الله تعالى، وهو قوله تعالى ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ وهذا صريح في أن الإرادة من فعل العبد وبخلق الله تعالى، أجاب القاضي عنه بأن المراد من الصبر وتثبيت القدم تحصيل أسباب الصبر، وأسباب ثبات القدم، وتلك الأسباب أمور:

أ. أحدها: أن يجعل في قلوب أعدائهم الرعب والجبن منهم فيقع بسبب ذلك منهم الاضطراب فيصير ذلك سببا لجراءة المسلمين عليهم، ويصير داعيا لهم إلى الصبر على القتال وترك الانهزام،.

ب. ثانيها: أن يلطف ببعض أعدائهم في معرفة بطلان ما هم عليه فيقع بينهم الاختلاف والتفرق ويصير ذلك سببا لجراءة المؤمنين عليهم.

ج. ثالثها: أن يحدث تعالى فيهم وفي ديارهم وأهاليهم من البلاء مثل الموت والوباء، وما يكون سببا لاشتغالهم بأنفسهم، ولا يتفرغون حينئذ للمحاربة فيصير ذلك سببا لجراءة المسلمين عليهم.

د. رابعها: أن يبتليهم بمرض وضعف يعمهم أو يعم أكثرهم، أو يموت رئيسهم ومن يدبر أمرهم فيعرف المؤمنون ذلك فيصير ذلك سببا لقوة قلوبهم، وموجبا لأن يحصل لهم الصبر والثبات، هذا كلام القاضي.

32. جواب أهل السنة، ومن وافقهم عما ذكره المعتزلة، ومن وافقهم من وجهين:

أ. الأول: أنا بينا أن الصبر عبارة عن القصد إلى السكوت والثبات عبارة عن السكون، فدلت هذه الآية على أن إرادة العبد ومراده من الله تعالى وذلك يبطل قولكم وأنتم تصرفون الكلام عن ظاهره وتحملونه على أسباب الصبر وثبات الأقدام، ومعلوم أن ترك الظاهر بغير دليل لا يجوز.

ب. الثاني: في الجواب أن هذه الأسباب التي سلمتم أنها بفعل الله تعالى إذا حصلت ووجدت فهل لها أثر في الترجيح الداعي أو ليس لها أثر فيه وإن لم يكن لها أثر فيه لم يكن لطلبها من الله فائدة وإن كان لها أثر في الترجيح فعند صدور هذه الأسباب المرجحة من الله يحصل الرجحان، وعند حصول الرجحان يمتنع الطرف المرجوح، فيجب حصول الطرف الراجح، لأنه لا خروج عن طرفي النقيض وهو المطلوب.

33. ثم إن الله تعالى استجاب دعاءهم، وأفرغ الصبر عليهم، وثبت أقدامهم، ونصرهم على القوم الكافرين: جالوت وجنوده وحقق بفضله ورحمته ظن من قال: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾

34. ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أصل الهزم في اللغة الكسر، يقال سقاء منهزم إذا تشقق مع جفاف، وهزمت العظم أو القصبة هزما، والهزمة نقرة في الجبل، أو في الصخرة، قال سفيان بن عيينة في زمزم: هي هزمة جبريل يريد هزمها برجله فخرج الماء، ويقال: سمعت هزمة الرعد كأنه صوت فيه تشقق، ويقال للسحاب: هزيم، لأنه يتشقق بالمطر، وهزم الضرع وهزمه ما يكسر منه.

35. ثم أخبر تعالى أن تلك الهزيمة كانت بإذن الله وبإعانته وتوفيقه‏ وتيسيره، وأنه لولا إعانته وتيسيره لما حصل ألبتة.

36. ثم قال: ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾ قال ابن عباس: إن داوود عليه السلام كان راعيا وله سبعة إخوة، إلى آخر الأثر سبق ذكره.

37. قوله تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾ يدل على أن هزيمة عسكر جالوت كانت من طالوت وإن كان قتل جالوت ما كان إلا من داوود ولا دلالة في الظاهر على أن انهزام العسكر كان قبل قتل جالوت أو بعده، لأن الواو لا تفيد الترتيب.

38. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾:

أ. قال بعضهم: آتاه الله الملك والنبوة جزاء على ما فعل من الطاعة العظيمة، وبذل النفس في سبيل الله، مع أنه تعالى كان عالما بأنه صالح لتحمل أمر النبوة، والنبوة لا يمتنع جعلها جزاء على الطاعات كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ﴾ [الدخان: 32، 33]، وقال: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124] وظاهر هذه الآية يدل أيضا على ذلك لأنه تعالى لما حكى عن داوود أنه قتل جالوت، قال بعده: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾، والسلطان إذا أنعم على بعض عبيده الذين قاموا بخدمة شاقة، يغلب على الظن أن ذلك الإنعام لأجل تلك الخدمة.

ب. وقال الأكثرون: إن النبوة لا يجوز جعلها جزاء على الأعمال، بل ذلك محض التفضل والإنعام، قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: 75]

39. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾:

أ. قال بعضهم: ظاهر الآية يدل على أن داوود حين قتل جالوت آتاه الله الملك والنبوة، وذلك لأنه تعالى ذكر إيتاء الملك والنبوة عقيب ذكره لقتل داوود جالوت، وترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، وبيان المناسبة أنه عليه السلام لما قتل مثل ذلك الخصم العظيم بالمقلاع والحجر، كان ذلك معجزا، لا سيما وقد تعلقت الأحجار معه وقالت: خذنا فإنك تقتل جالوت بنا، فظهور المعجز يدل على النبوة، وأما الملك فلأن القوم لما شاهدوا منه قهر ذلك العدو العظيم المهيب بذلك العمل القليل، فلا شك أن النفوس تميل إليه وذلك يقتضي حصول الملك له ظاهرا.

ب. وقال الأكثرون: إن حصول الملك والنبوة له تأخر عن ذلك الوقت بسبع سنين على ما قاله الضحاك، قالوا والروايات وردت بذلك، قالوا: لأن الله تعالى كان قد عين طالوت للملك فيبعد أن يعزله عن الملك حال حياته، والمشهور في أحوال بني إسرائيل كان نبي ذلك الزمان أشمويل، وملك ذلك الزمان طالوت، فلما توفي أشمويل أعطى الله تعالى النبوة لداود، ولما مات طالوت أعطى الله تعالى الملك لداود، فاجتمع الملك والنبوة فيه.

40. الحكمة هي وضع الأمور مواضعها على الصواب والصلاح، وكمال هذا المعنى إنما يحصل بالنبوة، فلا يبعد أن يكون المراد بالحكمة هاهنا النبوة، قال تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 54] وقال فيما بعث به نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [آل عمران: 146]

41. سؤال وإشكال: إذا كان المراد من الحكمة النبوة، فلم قدم الملك على الحكمة؟ مع أن الملك أدون حالا من النبوة، والجواب: لأن الله تعالى بين في هذه الآية كيفية ترقي داوود عليه السلام إلى المراتب العالية، وإذا تكلم المتكلم في كيفية الترقي، فكل ما كان أكثر تأخرا في الذكر كان أعلى حالا وأعظم رتبة.

42. في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ وجوه:

أ. أحدها: أن المراد به ما ذكره في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ﴾ [الأنبياء: 80] وقال: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ [سبأ: 10، 11]

ب. ثانيها: أن المراد كلام الطير والنمل، قال تعالى حكاية عنه ﴿عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾ [النمل: 16]

ج. ثالثها: أن المراد به ما يتعلق بمصالح الدنيا وضبط الملك، فإنه ما ورث الملك من آبائه، لأنهم ما كانوا ملوكا بل كانوا رعاة.

د. رابعها: علم الدين، قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ [النساء: 163] وذلك لأنه كان حاكما بين الناس، فلا بد وأن يعلمه الله تعالى كيفية الحكم والقضاء.

هـ. خامسها: الألحان الطيبة، ولا يبعد حمل اللفظ على الكل.

43. سؤال وإشكال: إنه تعالى لما ذكر إنه آتاه الحكمة، وكان المراد بالحكمة النبوة، فقد دخل العلم في ذلك، فلم ذكر بعده‏ ﴿عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ﴾؟ والجواب: المقصود منه التنبيه على أن العبد قط لا ينتهي إلى حالة يستغني عن التعلم، سواء كان نبيا أو لم يكن، ولهذا السبب قال لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114]

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/509.

(2) يقصد أهل السنة، ومن وافقهم

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ معناه خرج بهم، فصلت الشيء فانفصل، أي قطعته فانقطع، قال وهب بن منبه: فلما فصل طالوت قالوا له إن المياه لا تحملنا فادع الله أن يجري لنا نهرا، فقال لهم طالوت: إن الله مبتليكم بنهر، وكان عدد الجنود ـ في قول السدي ـ ثمانين ألفا، وقال وهب: لم يتخلف عنه إلا ذو عذر من صغر أو كبر أو مرض، والابتلاء الاختبار، والنهر والنهر لغتان، واشتقاقه من السعة، ومنه النهار وقد تقدم، قال قتادة: النهر الذي ابتلاهم الله به هو نهر بين الأردن وفلسطين.

2. معنى هذا الابتلاء أنه اختبار لهم، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه مطيع فيما عدا ذلك، ومن غلبته شهوته في الماء، وعصى الأمر فهو في العصيان في الشدائد أحرى، فروي أنهم أتوا النهر وقد نالهم عطش وهو في غاية العذوبة والحسن، فلذلك رخص للمطيعين في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال، وبين أن الغرفة كافة ضرر العطش عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين همهم في غير الرفاهية، كما قال عروة: (واحسوا قراح الماء والماء بارد)، ومن هذا المعنى قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (حسب المرء لقيمات يقمن صلبه)

3. قال بعض من يتعاطى غوامض المعاني: (هذه الآية مثل ضربه الله للدنيا فشبهها الله بالنهر والشارب منه والمائل إليها والمستكثر منها، والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهد فيها، والمغترف بيده غرفة بالآخذ منها قدر الحاجة، وأحوال الثلاثة عند الله مختلفة)، ما أحسن هذا لولا ما فيه من التحريف في التأويل والخروج عن الظاهر، لكن معناه صحيح من غير هذا.

4. استدل من قال إن طالوت كان نبيا بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ﴾ وأن الله أوحى إليه بذلك وألهمه، وجعل الإلهام ابتلاء من الله لهم، ومن قال لم يكن نبيا قال: أخبره نبيهم شمويل بالوحي حين أخبر طالوت قومه بهذا، وإنما وقع هذا الابتلاء ليتميز الصادق من الكاذب، وقد ذهب قوم إلى أن عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إنما أمر أصحابه بإيقاد النار والدخول فيها تجربة لطاعتهم، لكنه حمل مزاحه على تخشين الأمر الذي كلفهم.

5. ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ شرب قيل معناه كرع، ومعنى ﴿فَلَيْسَ مِنِّي﴾ أي ليس من أصحابي في هذه الحرب، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان، قال السدي: كانوا ثمانين ألفا، ولا محالة أنه كان فيهم المؤمن والمنافق والمجد والكسلان، وفي الحديث: ( من غشنا فليس منا) أي ليس من أصحابنا ولا على طريقتنا وهدينا، قال:

çإذا حاولت في أسد فجورا... فإني لست منك ولست منيé

وهذا مهيع في كلام العرب، يقول الرجل لابنه إذا سلك غير أسلوبه: لست مني.

6. ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ يقال: طعمت الشيء أي ذقته، وأطعمته الماء أي أذقته، ولم يقل ومن لم يشربه لأن من عادة العرب إذا كرروا شيئا أن يكرروه بلفظ آخر، ولغة القرآن أفصح اللغات، فلا عبرة بقدح من يقول: لا يقال طعمت الماء.

7. استدل علماؤنا بهذا على القول بسد الذرائع، لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم، ولهذه المبالغة لم يأت الكلام ومن لم يشرب منه)

8. لما قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ﴾ دل على أن الماء طعام وإذا كان طعاما كان قوتا لبقائه واقتيات الأبدان به فوجب أن يجري فيه الربا، قال ابن العربي: وهو الصحيح من المذهب، قال أبو عمر قال مالك: لا بأس ببيع الماء على الشط بالماء متفاضلا وإلى أجل، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد بن الحسن: هو مما يكال ويوزن، فعلى هذا القول لا يجوز عنده التفاضل، وذلك عنده فيه ربا، لأن علته في الربا الكيل والوزن، وقال الشافعي: لا يجوز بيع الماء متفاضلا ولا يجوز فيه الأجل، وعلته في الربا أن يكون مأكولا جنسا.

9. قال ابن العربي قال أبو حنيفة: من قال إن شرب عبد ى فلان من الفرات فهو حر فلا يعتق إلا أن يكرع فيه، والكرع أن يشرب الرجل بفيه من النهر، فإن شرب بيده أو اغترف بالإناء منه لم يعتق، لأن الله سبحانه فرق بين الكرع في النهر وبين الشرب باليد، قال: وهذا فاسد، لأن شرب الماء يطلق على كل هيئة وصفة في لسان العرب من غرف باليد أو كرع بالفم انطلاقا واحدا، فإذا وجد الشرب المحلوف عليه لغة وحقيقة حنث، فاعلمه، قلت: قول أبي حنيفة أصح، فإن أهل اللغة فرقوا بينهما كما فرق الكتاب والسنة، قال الجوهري وغيره: وكرع في الماء كروعا إذا تناوله بفيه من موضعه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء، وفيه لغة أخرى (كرع) بكسر الراء يكرع كرعا، والكرع: ماء السماء يكرع فيه، وأما السنة فذكر ابن ماجه في سننه عن ابن عمر قال: مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا فيها فإنه ليس إناء أطيب من اليد) وهذا نص، وليث بن أبي سليم خرج له مسلم وقد ضعف.

10. ﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ الاغتراف: الأخذ من الشيء باليد وبآلة، ومنه المغرفة، والغرف مثل الاغتراف.. وقال بعض المفسرين: الغرفة بالكف الواحد والغرفة بالكفين، وقال بعضهم: كلاهما لغتان بمعنى واحد، وقال علي: الأكف أنظف الآنية، ومنه قول الحسن:

çلا يدلفون إلى ماء بآنية... إلا اغترافا من الغدران بالراحé

الدليف: المشي الرويد.

11. من أراد الحلال الصرف في هذه الأزمان دون شبهة ولا امتراء ولا ارتياب فليشرب بكفيه الماء من العيون والأنهار المسخرة بالجريان آناء الليل وآناء النهار، مبتغيا بذلك من الله كسب الحسنات ووضع الأوزار واللحوق بالأئمة الأبرار، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من شرب بيده وهو يقدر على إناء يريد به التواضع كتب الله له بعدد أصابعه حسنات وهو إناء عيسى بن مريم عليه السلام إذا طرح القدح فقال أف هذا مع الدنيا)، خرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر قال: (نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أن نشرب على بطوننا وهو الكرع، ونهانا أن نغترف باليد الواحدة، وقال: لا يلغ أحدكم كما يلغ الكلب ولا يشرب باليد الواحدة كما يشرب القوم الذين سخط الله عليهم ولا يشرب بالليل في إناء حتى يحركه إلا أن يكون إناء مخمرا ومن شرب بيده وهو يقدر على إناء) الحديث كما تقدم، وفي إسناده بقية بن الوليد، قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال أبو زرعة: إذا حدث بقية عن الثقات فهو ثقة.

12. ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ قال ابن عباس: شربوا على قدر يقينهم، فشرب الكفار شرب الهيم وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفا وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا وأخذ بعضهم الغرفة، فأما من شرب فلم يرو، بل برج به العطش، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة.

13. ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ﴾ الهاء تعود على النهر، و﴿هُوَ﴾ توكيد، ﴿وَالَّذِينَ﴾ في موضع رفع عطفا على المضمر في ﴿جَاوَزَهُ﴾ يقال: جاوزت المكان مجاوزة وجوازا، والمجاز في الكلام ما جاز في الاستعمال ونفذ واستمر على وجهه، قال ابن عباس والسدي: جاز معه في النهر أربعة آلاف رجل فيهم من شرب، فلما نظروا إلى جالوت وجنوده وكانوا مائة ألف كلهم شاكون في السلاح رجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون، فعلى هذا القول قال المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله تعالى عند ذلك وهم عدة أهل بدر: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، وأكثر المفسرين: على أنه إنما جاز معه النهر من لم يشرب جملة، فقال بعضهم: كيف نطيق العدو مع كثرتهم! فقال أولو العزم منهم: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، قال البراء بن عازب: كنا نتحدث أن عدة أهل بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ـ وفي رواية: وثلاثة عشر رجلا ـ وما جاز معه إلا مؤمن.

14. ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ والظن هنا بمعنى اليقين، ويجوز أن يكون شكا لا علما، أي قال الذين يتوهمون أنهم يقتلون مع طالوت فيلقون الله شهداء، فوقع الشك في القتل.

15. ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾ الفئة: الجماعة من الناس والقطعة منهم، من فأوت رأسه بالسيف وفأيته أي قطعته، وفي قولهم: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ﴾ الآية، تحريض على القتال واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق ربه، وهكذا يجب علينا نحن أن نفعل؟ لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا! وفى البخاري: وقال أبو الدرداء: (إنما تقاتلون بأعمالكم)، وفيه مسند أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم)، فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة، قال الله تعالى: ﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ وقال: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا﴾ وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾، وقال: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ وقال: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد حتى استولى العدو شرقا وغربا برا وبحرا، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم.‌‌

16. ﴿بَرَزُوا﴾ صاروا في البراز وهو الأفيح من الأرض المتسع، وكان جالوت أمير العمالقة وملكهم ظله ميل، ويقال: إن البربر من من نسله، وكان فيما روي في ثلاثمائة ألف فارس، وقال عكرمة: في تسعين ألفا.

17. لما رأى المؤمنون كثرة عدوهم تضرعوا إلى ربهم، وهذا كقوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ الآية، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذا لقي العدو يقول في القتال: (اللهم بك أصول وأجول) وكان صلّى الله عليه وآله وسلم يقول إذا لقي العدو: (اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم)، ودعا يوم بدر حتى سقط رداؤه عن منكبيه يستنجز الله وعده.

18. ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي فأنزل الله عليهم النصر ﴿فَهَزَمُوهُمْ﴾: فكسروهم، والهزم: الكسر، ومنه سقاء متهزم، أي انثنى بعضه على بعض مع الجفاف، ومنه ما قيل في زمزم: إنها هزمة جبريل، أي هزمها جبريل برجله فخرج الماء، والهزم: ما تكسر من يابس الحطب.

19. ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾ وذلك أن طالوت الملك اختاره من بين قومه لقتال جالوت، وكان رجلا قصيرا مسقاما مصفارا أصغر أزرق.. إلى آخر الأثر سبق ذكره.

20. أكثر الناس في قصص هذه الآي، وقد ذكرت لك منها المقصود والله المحمود.

21. في قول طالوت: (من يبرز له ويقتله فإني أزوجه ابنتي وأحكمه في مالي) (2) معناه ثابت في شرعنا، وهو أن يقول الإمام: من جاء برأس فله كذا، أو أسير فله كذا، وفيه دليل على أن المبارزة لا تكون إلا بإذن الإمام، كما يقوله أحمد وإسحاق وغيرهما، واختلف فيه عن الأوزاعي فحكي عنه أنه قال: لا يحمل أحد إلا بإذن إمامه، وحكي عنه أنه قال: لا بأس به، فإن نهى الإمام عن البراز فلا يبارز أحد إلا بإذنه، وأباحت طائفة البراز ولم تذكر بإذن الإمام ولا بغير إذنه، هذا قول مالك، سئل مالك عن الرجل يقول بين الصفين: من يبارز؟ فقال: ذلك إلى نيته إن كان يريد بذلك الله فأرجو ألا يكون به بأس، قد كان يفعل ذلك فيما مضى، وقال الشافعي: لا بأس بالمبارزة، قال ابن المنذر: المبارزة بإذن الإمام حسن، وليس على من بارز بغير إذن الإمام حرج، وليس ذلك بمكروه لأني لا أعلم خبرا يمنع منه.

22. ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ قال السدي: أتاه الله ملك طالوت ونبوة شمعون، والذي علمه هو نعة الدروع ومنطق الطير وغير ذلك من أنواع ما علمه صلّى الله عليه وآله وسلم، وقال ابن عباس: هو أن الله أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة والفلك ورأسها عند صومعة داوود فكان لا يحدث في الهواء حدث إلا صلصلت السلسلة فيعلم داوود ما حدث، ولا يمسها ذو عاهة إلا برئ، وكانت علامة دخول قومه في الدين أن يمسوها بأيديهم ثم يمسحون أكفهم على صدورهم، وكانوا يتحاكمون إليها بعد داوود صلّى الله عليه وآله وسلم إلى أن رفعت.

23. ﴿مِمَّا يَشَاءُ﴾ أي مما شاء، وقد يوضع المستقبل موضع الماضي، وقد تقدم.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/251.

(2) نرى أن هذا معارض لما ورد من الثناء عليهم في القرآن الكريم

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. فصل: معناه: خرج بهم، فصلت الشيء فانفصل، أي: قطعته فانقطع، وأصله متعد، يقال فصل نفسه ثم استعمل استعمال اللازم كانفصل؛ وقيل: إن فصل يستعمل لازما ومتعديا، يقال: فصل عن البلد فصولا، وفصل نفسه فصلا.

2. النهر: قيل هو بين الأردن وفلسطين، وقرأه الجمهور: بنهر بفتح الهاء، وقرأ حميد، ومجاهد والأعرج بسكون الهاء.

3. المراد بهذا الابتلاء اختبار طاعتهم، فمن أطاع في ذلك الماء أطاع فيما عداه، ومن عصى في هذا وغلبته نفسه فهو بالعصيان في سائر الشدائد أحرى، ورخص لهم في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع، وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال، وفيه أن الغرفة تكف سورة العطش عند الصابرين على شظف العيش، الدافعين أنفسهم عن الرفاهية.

4. المراد بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ﴾ أي: كرع ولم يقتصر على الغرفة، (ومن) ابتدائية، ومعنى قوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ مِنِّي﴾ أي: ليس من أصحابي، من قولهم: فلان من فلان، كأنه بعضه لاختلاطهما وطول صحبتهما، وهذا مهيع في كلام العرب معروف، ومنه قول الشاعر:

çإذا حاولت في أسد فجورا...فإنّي لست منك ولست منّي‏é

5. ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ﴾ يقال: طعمت الشيء، أي: ذقته، وأطعمته الماء، أي: أذقته، وفيه دليل على أن الماء يقال له: طعام.

6. الاغتراف: الأخذ من الشيء باليد أو بآلة، والغرف: مثل الاغتراف، والغرفة: المرة الواحدة، وقد قرئ بفتح الغين وضمها، فالفتح للمرة، والضم اسم للشيء المغترف؛ وقيل: بالفتح: الغرفة بالكف الواحدة، وبالضم: الغرفة بالكفين؛ وقيل: هما لغتان بمعنى واحد، ومنه قول الشاعر:

çلا يدلفون إلى ماء بآنية...إلا اغترافا من الغدران بالرّاح‏é

7. ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ قرئ: إلا قليل ولا وجه له إلا ما قيل من أنه من هجر اللفظ إلى جانب المعنى، أي: لم يطعه إلا قليل، وهو تعسف.

8. ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ﴾ أي: جاوز النهر طالوت‏ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ وهم القليل الذين أطاعوه، ولكنهم اختلفوا في قوّة اليقين، فبعضهم قال قوله: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا﴾

9. ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ أي: يتيقنون‏ ﴿أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾، والفئة: الجماعة، والقطعة منهم، من فأوت رأسه بالسيف، أي: قطعته.

10. ﴿بَرَزُوا﴾ أي: صاروا في البراز، وهو المتسع من الأرض، وجالوت: أمير العمالقة، قالوا: أي: جميع من معه من المؤمنين، والإفراغ: يفيد معنى الكثرة.

11. ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ هذا عبارة عن القوّة وعدم الفشل، يقال: ثبت قدم فلان على كذا؛ إذا استقرّ له ولم يزل عنه، وثبت قدمه في الحرب: إذا كان الغلب له والنصر معه.

12. ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ هم جالوت وجنوده، ووضع الظاهر موضع المضمر إظهارا لما هو العلة الموجبة للنصر عليهم، وهي كفرهم، وذكر النصر بعد سؤال تثبيت الأقدام لكون الثاني هو غاية الأوّل.

13. ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ الهزم: الكسر، ومنه سقاء منهزم، أي: انثنى بعضه على بعض مع الجفاف؛ ومنه ما قيل في زمزم: إنها هزمة جبريل، أي: هزمها برجله فخرج الماء، والهزم: ما يكسر من يابس الحطب؛ وتقدير الكلام: فأنزل الله عليهم النصر ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي: بأمره وإرادته.

14. ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾ هو داوود بن إيشا، بكسر الهمزة ثم تحتية ساكنة بعدها معجمة؛ ويقال: داوود بن زكريا ابن بشوى، من سبط يهوذا بن يعقوب، جمع الله له بين النبوة والملك بعد أن كان راعيا، وكان أصغر إخوته، اختاره طالوت لمقاتلة جالوت فقتله، والمراد بالحكمة هنا: النبوّة، وقيل: هي تعليمه صنعة الدروع ومنطق الطير؛ وقيل: هي إعطاؤه السلسلة التي كانوا يتحاكمون إليها.

15. ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ قيل: إن المضارع هنا موضوع موضع الماضي، وفاعل هذا الفعل هو الله تعالى؛ وقيل: داوود، وظاهر هذا التركيب أن الله سبحانه علمه مما قضت به مشيئته، وتعلقت به إرادته؛ وقد قيل: إن من ذلك ما قدّمنا من تعليمه صنعة الدروع وما بعده.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/305.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ [البقرة: 249]، أي خرج بالجيش، لمّا رد إليهم التابوت وقبلوا ملكه، وخرجوا معه، وكان طالوت أخذ بهم في أرض قفرة فأصابهم حرّ وعطش شديد ﴿قَالَ﴾ [المطففين: 13] لهم طالوت ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ [البقرة: 249]، أي من أشياعي الذين يقاتلون معي عدوي، ولا يجاوزه ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ [البقرة: 249]، أي لم يذقه، من (طعم كعلم الشيء، إذا ذاقه مأكولا كان أو مشروبا) وفي إيثاره على (لم يشربه) إشعار بأنه محظور تناوله ولو مع الطعام، ذكره (2).

2. ﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ [البقرة: 249] الواحدة فإنه لا يخرج بذلك عن كونه مني، لأنه في معنى من لم يذقه، قال الحراليّ في قراءة فتح الغين إعراب عن معنى إفرادها، آخذة ما أخذت من قليل أو كثير، وفي الضم، إعلام بملئها.

3. ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ﴾ [البقرة: 249]، أي إلى حد الارتواء ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 13] لم يشربوا إلا كما أذن الله تعالى ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ﴾ [البقرة: 249]، أي النهر ﴿هُوَ﴾ [الإخلاص: 1] أي طالوت ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا﴾ [البقرة: 249]، أي المفرطون في الشرب ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ [البقرة: 249] لأنه سلبت شجاعتهم‏، وجاء في التوراة تسميته بجليات، على ما سنذكره ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ [البقرة: 249]، أي يعلمون ﴿أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ﴾ يرجعون إليه بعد الموت ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 249].

4. ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا﴾ [البقرة: 250] ظهروا ﴿لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ [البقرة: 250] إذ دنوا منه ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ [البقرة: 250]، أي أفضه علينا وأكرمنا به لقتالهم فلا نجزع للجراحات، وإنما طلبوه أولا لأنه ملاك الأمر ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ [آل عمران: 147] في ميدان الحرب فلا نهرب منه ﴿وَانْصُرْنَا﴾ [آل عمران: 147] لأنا مؤمنون بك ﴿عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 68] بك، وهم جالوت وجنوده، وهذه الآية تدل على أن من حزبه أمر فإنه ينبغي له سؤال المعونة من الله، والتوفيق، والانقطاع إليه تعالى.

5. ﴿فَهَزَمُوهُمْ﴾ [البقرة: 251]، أي هؤلاء القليلون، أولئك الكثيرين ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [التغابن: 11] بنصره إذ شجع القليلين وجبّن الكثيرين ﴿وقَتَلَ داوُدُ﴾ وكان في جيش طالوت ﴿جَالُوتَ﴾ [البقرة: 251] الذي هو رأس الأقوياء ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾ [البقرة: 251] أي أعطى الله داوود ملك بني إسرائيل ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ [الجمعة: 2]، أي الفهم والنبوة ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ [البقرة: 251] من صنعة الدروع وغيرها.

6. في هذه القصص معتبر لهذه الأمة في احتمال الشدائد في الجهاد كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة، كما أن فيها تسلية للرسول صلّى الله عليه وآله وسلم من الكفار والمنافقين، فكأنه قيل: قد عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء عليهم السلام في بني إسرائيل من الخلاف عليهم والرد لقولهم، فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك وخلاف من خالف عليك لأنك مثلهم، وإنما بعث الكل لتأدية الرسالة ولامتثال الأمر على سبيل الاختيار والطوع، لا على سبيل الإكراه، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم، والوبال في ذلك يرجع عليهم؛ وقوله ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [البقرة: 252] كالتنبيه على ذلك، أشار له الرازيّ.

7. قال البقاعيّ: (ولعل ختام قصص بني إسرائيل بهذه القصة، لما فيها للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم من واضح الدلالة على صحة رسالته، لأنه مما لا يعلمه إلا القليل من حذاق علماء بني إسرائيل)، يرحم الله البقاعيّ فإنه لم يطلع على هذه القصة من التوراة مع أنها مسوقة في الإصحاح السابع عشر من سفر صموئيل الأول ونصّه: (وجمع الفلسطينيون جيوشهم للحرب فاجتمعوا في سوكوه التي ليهوذا ونزلوا بين سوكوه وعريقة في أفس دمّيم، واجتمع شاول ورجال إسرائيل ونزلوا في وادي البطم واصطفوا للحرب للقاء الفلسطينيين، وكان الفلسطينيون وقوفا على جبل من هنا وإسرائيل وقوفا على جبل من هناك والوادي بينهم، فخرج رجل مبارز من جيوش الفلسطينيين اسمه جليات من جتّ طوله ست أذرع وشبر، وعلى رأسه خوذة من نحاس وكان لابسا درعا حرشفيّا ووزن الدرع خمسة آلاف شاقل نحاس، وجرموقا نحاس على رجليه ومزراق نحاس بين كتفيه، وقناة رمحه كنول النسّاجين وسنان رمحه ست مائة شاقل حديد وحامل الترس كان يمشي‏ قدامه، فوقف ونادى صفوف إسرائيل وقال لهم: لماذا تخرجون لتصطفوا للحرب، أما أنا الفلسطينيّ وأنتم عبيد لشاول، اختاروا لأنفسكم رجلا ولينزل إليّ، فإن قدر أن يحاربني ويقتلني نصير لكم عبيدا، وإن قدرت أنا عليه وقتلته تصيرون أنتم عبيدا وتخدموننا، وقال الفلسطينيّ أنا عيّرت صفوف إسرائيل هذا اليوم، أعطوني رجلا فنتحارب معا ولما سمع شاول وجميع إسرائيل كلام الفلسطينيّ هذا ارتاعوا وخافوا جدا، وداوود هو ابن ذلك الرجل الأفراتيّ من بيت لحم يهوذا الذي اسمه يسّى وله ثمانية بنين، وكان الرجل في أيام شاول قد شاخ وكبر بين الناس، وذهب بنو يسّى الثلاثة الكبار وتبعوا شاول إلى الحرب، وأسماء بنيه الثلاثة الذين ذهبوا إلى الحرب أليآب البكر وأبيناداب ثانيه وشمّة ثالثهما، وداوود هو الصغير والثلاثة الكبار ذهبوا وراء شاول، وأما داوود فكان يذهب ويرجع من عند شاول ليرعى غنم أبيه في بيت لحم، وكان الفلسطينيّ يتقدم ويقف صباحا ومساء أربعين يوما، فقال يسّى لداود ابنه خذ لإخوتك إيفة من هذا الفريك وهذه العشر الخبرات واركض إلى المحلة إلى إخوتك، وهذه العشر القطعات من الجبن قدمها لرئيس الألف وافتقد سلامة إخوتك وخذ منهم عربونا، وكان شاول وهم وجميع رجال إسرائيل في وادي البطم يحاربون الفلسطينيين، فبكّر داوود صباحا وترك الغنم مع حارس وحمّل وذهب كما أمره يسّى وأتى إلى المتراس والجيش خارج إلى الاصطياف وهتفوا للحرب، واصطف إسرائيل والفلسطينيون صفّا مقابل صف، فترك داوود الأمتعة التي معه بيد حافظ الأمتعة وركض إلى الصف وأتى وسأل عن سلامة إخوته، وفيما هو يكلمهم إذا برجل مبارز اسمه جليات الفلسطينيّ من جتّ صاعد من صفوف الفلسطينيين وتكلم بمثل هذا الكلام فسمع داوود، وجميع رجال إسرائيل لما رأوا الرجل هربوا منه وخافوا جدا، فقال رجال إسرائيل أرأيتم هذا الرجل الصاعد، ليعيّر إسرائيل هو صاعد، فيكون أن الرجل الذي يقتله يغنيه الملك غنى جزيلا ويعطيه بنته ويجعل بيت أبيه حرّا في إسرائيل، فكلم داوود الرجال الواقفين معه قائلا ماذا يفعل للرجل الذي يقتل ذلك الفلسطينيّ ويزيل العار عن إسرائيل، لأنه من هو هذا الفلسطينيّ الأغلف حتى يعيّر صفوف الله الحيّ، فكلمه الشعب بمثل هذا الكلام قائلين كذا يفعل بالرجل الذي يقتله وسمع أخوه الأكبر أليآب كلامه مع الرجال فحمي غضب أليآب على داوود وقال لماذا نزلت وعلى من تركت تلك الغنيمات القليلة في البريّة، أنا علمت كبرياءك وشر قلبك لأنك نزلت لكي ترى الحرب، فقال داوود ماذا عملت الآن، أما هو كلام، وتحول من عنده نحو آخر وتكلم بمثل هذا الكلام فردّ له الشعب جوابا كالجواب الأول، وسمع الكلام الذي تكلم به داوود وأخبروا به أمام شاول، فاستحضره، فقال داوود لشاول: لا يسقط قلب أحد بسببه، عبدك يذهب ويحارب هذا الفلسطينيّ، فقال شاول لداود لا تستطيع أن تذهب إلى هذا الفلسطينيّ لتحاربه لأنك غلام وهو رجل حرب منذ صباه، فقال داوود لشاول كان عبدك يرعى لأبيه غنما فجاء أسد مع دبّ وأخذ شاة من القطيع، فخرجت وراءه وقتلته وأنقذتها من فيه ولما قام عليّ أمسكته من ذقنه وضربته فقتلته، قتل عبدك الأسد والدب جميعا، وهذا الفلسطينيّ الأغلف يكون كواحد منهما لأنه قد عيّر صفوف الله الحيّ، وقال داوود الربّ الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب هو ينقذني من يد هدا الفلسطينيّ، فقال شاول لداود: اذهب وليكن الرب معك، وألبس شاول داوود ثيابه وجعل خوذة من نحاس على رأسه وألبسه درعا، فتقلد داوود بسيفه فوق ثيابه وعزم أن يمشي لأنه لم يكن قد جرّب، فقال داوود لشاول لا أقدر أن أمشي بهذه لأني لم أجربها، ونزعها داوود عنه، وأخذ عصاه بيده وانتخب له خمسة حجارة ملس من الوادي وجعلها في كنف الرعاة الذي له أي في الجراب ومقلاعه بيده وتقدم نحو الفلسطينيّ، وذهب الفلسطينيّ ذاهبا واقترب إلى داوود والرجل حامل الترس أمامه، ولما نظر الفلسطينيّ ورأى داوود استحقره لأنه كان غلاما وأشقر جميل المنظر، فقال الفلسطينيّ لداود العلّي أنا كلب حتى أنك تأتي إليّ بعصيّ، ولعن الفلسطينيّ داوود بآلهته، وقال الفلسطينيّ لداود تعال إليّ فأعطي لحمك لطيور السماء ووحوش البريّة، فقال داوود للفلسطينيّ أنت تأتي إلي بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيّرتهم هذا اليوم يحبسك الرب في يدي فأقتلك وأقطع رأسك، وأعطي جثث جيش الفلسطينيين هذا اليوم لطيور السماء وحيوانات الأرض فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل، وتعلم هذه الجماعة كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يخلّص الرب لأن الحرب الرب وهو يدفعكم ليدنا، وكان لما قام الفلسطينيّ وذهب وتقدم للقاء داوود أن داوود أسرع وركض نحو الصف للقاء الفلسطينيّ، ومدّ داوود يده إلى الكنف وأخذ منه حجرا ورماه بالمقلاع وضرب الفلسطيني في جبهته فارتزّ الحجر في جبهته وسقط على وجهه إلى الأرض، فتمكن داوود من الفلسطينيّ‏ بالمقلاع والحجر وضرب الفلسطينيّ وقتله، ولم يكن سيف بيد داوود، فركض داوود ووقف على الفلسطينيّ وأخذ سيفه واخترطه من غمده وقتله وقطع به رأسه، فلما رأى الفلسطينيون أن جبارهم قد مات هربوا، فقام رجال إسرائيل ويهوذا وهتفوا ولحقوا الفلسطينيين حتى مجيئك إلى الوادي وحتى أبواب عقرون).. إلخ.. وتتمة شأن داوود بعد ذلك إلى أن آتاه الله الملك مذكور في الفصول بعد هذا الفصل من التوراة، فانظره إن شئت.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/183.

(2) الكلام هنا للراغب

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا فَصَلَ﴾ اِنفصل ﴿طَالُوتُ﴾ عن البلد لقتال جالوت، وهو لازم، ومصدره: فصول، كـ (رَجَعَ) اللازم مصدره: الرجوع، أو متعدٍّ كثر حذف مفعوله، أي: فَصَل نفسَه فصلاً كـ (رجع) المتعدِّي، مصدره: الرَّجْع.

2. ﴿بِالْجُنُودِ﴾ في شدَّة الحرِّ، وشكوا إلى طالوت قلَّة الماء بينهم وبين عدوِّهم، وقالوا: لا تحمِّلنا المياه فادع الله أن يجري لنا نهرًا، فدعا فأجابه الله، وهو نبيء في قول، أو على لسان شمويل أو غيره، على ما مرَّ.

3. ﴿قَالَ﴾ بوحي من الله، وهو نبيء في قول، أو بإخبار ملك أو نبيء له، ﴿إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ﴾ نهر فلسطين، أو نهر بين فلسطين والأردنِّ، فجَّره الله في ذلك الوقت، يظهر به لهم المنافق والمخلص، وفلسطين ـ بفتح الفاء وكسرها وفتح اللام وإسكان السين، وضمِّ همزة الأردن وداله وشدِّ نونه ـ موضع ذو رمل قريب من بيت المقدس ومن البحر الملح.

4. ﴿فَمَن شَرِبَ مِنْهُ﴾ من مائه، فحذف المضاف، أو استعمل النَّهر بمعنى ماء الموضع فلا حذف ﴿فَلَيْسَ مِنِّي﴾ ليس من أتباعي أو أشياعي، أو ليس متَّصلاً بي، ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ﴾ لا قليلاً ولا كثيرًا، أي: لم يذقه، واستعمال الطعم في الماء مجاز، وقيل: حقيق؛ لأنَّ معناه الذَّوق لا الأكل، قال الجوهريُّ: الطعم ما يؤدِّيه الذَّوق وليس نفس الذَّوق إِلَّا توسُّعًا، وطَعِم الماء بمعنى ذاقه جائز، ولا يجوز طعم الماء بمعنى شربه، والقول بأنَّ طالوت كان نبيئا بعد أن كان ملكا بعيد مردود، ﴿فَإِنَّهُ مِنِّيَ إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غَرْفَةً بِيَدِهِ﴾ واكتفى بها شربًا فإنَّه منِّي أيضًا، وهو استثناء من قوله: ﴿فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ منقطع إن فُسِّر الشرب بالكرع، وإلَّا فمتَّصلٌ، وهو بفتح الغين مصدر للوحدة، يتضمَّن وحدة الغُرفة ـ بضمِّها ـ وهو ما يغرف.

5. ﴿فَشَرِبُواْ مِنْهُ﴾ فمنهم من شرب ملء بطنه بفيه من النَّهر، ومنهم من شرب بيده غرفة، ويقال: أخذوا غرفة فكفتهم لهم ولِدوابِّهم، ﴿إِلَّا قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ لم يشربوا ولو غرفة كما قال: ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾، وقيل: شربوا ملء بطونهم إِلَّا قليلا فشربوا غرفة، ومن لم يذقه غير موجود ولو قاله طالوت قبل وصول النَّهر، وإذا قلنا: إِلَّا قليلا هم من شربوا الغرفة فمن لم يذقه مفهوم بالأولى، أي: شربوا من النَّهر بأفواههم والقليل شربوا مِن غرفة أيديهم لا من النَّهر.

6. ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ﴾ من لم يذقه ومن اقتصر على الغرفة ﴿قَالُواْ﴾ قال من شرب ملء بطنه وقد عبروا النَّهر مع طالوت ورأوا جالوت وجنوده ورجعوا منهزمين، كما قال الله تعالى : ﴿قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا﴾ للفشل بالشرب وللقلَّة، قيل: قالوا ذلك أيضًا خذلانا، ﴿الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ مائة ألف رجل شاكي السلاح، وقيل: إنَّ الذين شربوا ملء بطونهم لم يعبروا النَّهر بل وقفوا بساحله، وقالوا: معتذرين عن التخلُّف منادين مسمعين لطالوت والذين معه: ﴿لَا طَاقَةَ﴾، وقد شربوا كثيرًا، واسودَّت شفاههم، وغلبهم العطش ولم يرووا، وجبنوا، أو المراد: قال بعض لبعض، ويبعد أن يقولوا كلّ لكلٍّ، وهو خلاف المعتاد، وأمَّا من اغترف غرفة ومن لم يذقه ـ على قَولِ وُجُوده ـ فقلوبهم قويَّة، وقويٌّ إيمانهم، وعبروا النَّهر سالمين.

7. ﴿قَالَ﴾ ردًّا على المتخلِّفين ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ يوقنون، وكلُّ مؤمن موقن بالبعث ولكن المراد العمل بمقتضى الإيقان، فمن لم يعمل فكأنَّه غير موقن، كما يقال: (مات من علم أنَّه سيموت)، أي: عمل بمقتضى علمه بالموت، (ومات من لم يعلم أنَّه يموت)، أي: علم بالموت ولم يعمل بمقتضاه، وهم جميع من عبر النَّهر ولم يخالف، ﴿أنَّهُمْ مُّلَاقُواْ اللهِ﴾ بالموت وبالبعث للجزاء، أو يظنُّون، أي: يوقنون بالوحي إلى نبيئهم، أو بما شاء الله أنَّهم يموتون في هذه الغزوة، وهم بعض الذين لم يخالفوا؛ لأنَّه لم يمت الذين لم يخالفوا كلُّهم، ووجه استعمال الظَّنِّ في العلم الشَّـبَه.

8. ﴿كَم مِّن فِئَةٍ﴾ فرقة، مِن (فَأَوْتُ رأسه): شققتُه، والفئة: قطعة من النَّاس، فحذف آخره ووزنه (فِعَة)، أو مِن (فَاءَ) بمعنى رجع، فحذف وسطه ووزنه (فِلَةٌ)، والفرقة يرجع إليهم، و(مِنْ) زائدة و(فِئَةٍ) تمييز، أو غير زائدة تتعلَّق بمحذوف نعتٌ لـ (كَمْ).

9. ﴿قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ﴾ حُكْمِهِ وتَيسيره، ﴿وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ بالنَّصر والثَّواب ولو غلبهم الكفَّار؛ لأنَّهم المحقُّون والفائزون بالجنَّة، أو مع الغلبة في الدُّنيا، فنصبر لنَغلبهم في القتال ولو قللنا وكثروا لاعتمادنا على الله وإعجابِهم بكثرتهم، ويجوز أن يكون من كلام الله تعالى تصديقًا لقولهم: إنَّ الغلبة بإذن الله لا بالكثرة.

10. ﴿وَلَمَّا بَرَزُواْ﴾ ظهروا وتصافّوا للقتال، أو صاروا في الأرض البراز، أي: الخالية من الشَّجر، المستوية، ﴿لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ ودنوا منه ومن جنوده، وهو كافر من العمالقة، وهم برابرة، قيل: برزوا كلّهم من شرب ملء بطنه وغيرهم، وقيل: بقوا قبل النهر ولم يجاوزوه ولم يحضروا القتال، وقد وصفهم الله بالتولِّي، فإن صحَّ حضورهم القتال فمعنى تولِّيهم فرارُهم من الزحف.

11. ﴿قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتَ اَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ جالوت وجنودِه، صرَّح باسم كفرهم ولم يضمر لهم وهو علَّة النصر عليهم، هذا كلامُ مَن لم يطعمه أو طعم غرفة، وزعم بعض أنَّهم كلَّهم وطَّنوا أنفسهم على القتال وتقوَّوا بقول من لم يطعمه أو طعم غرفة: ﴿رَبَّنَآ أَفْرِغْ﴾ الآية.

12. وإفراغ الصبر: صبُّه في القلوب بالكمال على شدائد الحرب، والقلب ملاك الجسد فلذا قدَّمه، وتثبيت الأقدام: نَفيُ الفرار والضعف في القتال، وتثبيت أقدامهم فيه لمصلحة النجاة من العدو والكرِّ عليه، وذلك مسبِّب للصبر ولازم له ولذا عَقَّبَه للصبر، وسألوا النصر بعدهما لترتُّبه عليهما وأشاروا بأنَّ قتالهم بغض للكفر وأهله.

13. ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللهِ﴾ غلبوهم بأمر الله أو بنصره، وأصل الهزم دفع الشيء بقوَّة حتَّى يدخل بعضه في بعض، وفي الغلبة ذلك، لتحاطمهم في فرارهم، وذلك إجمال وذَكَرَ أوَّلَه، وبَعضَ تفصيله بقوله: ﴿وَقَتَلَ دَاوُدُ﴾ النبيء ابن أيشى من جيش طالوت لم يبلغ الحلم سقيما أصفر يرعى غنما أصغر ولد أيشى، وهم ثلاثة عشر، حضر القتال منهم معه سبعة، أحدهم داود؛ وقيل: كلُّهم.

14. ﴿جَالُوتَ﴾ جبَّار من العمالقة من ولد عمليق بن عاد، في بيضته ثلاثمائة رطل حديد، وظلُّه ميل، وقيل: طوله، روي أنَّ جالوت قال: أَبرِزُوا لي من يقاتلني، فإن قتلني فلكم ملكي، وإن قتلته فلي ملككم، أوحى الله إلى نبيئهم أنَّ الذي يقتله داود، فطلبه طالوت من أبيه، ومرَّ إلى جالوت داودُ على ثلاثة أحجار واحد بعد واحد، كلٌّ يقول: يا داود تقتل جالوت بي، فحملهنَّ، وقيل: قال له الأوَّل: احملني فإنِّي حجر هارون، والثاني: احملني فإنِّي حجر موسى، والثالث: احملني فإنِّي حجرك الذي تقتل بي جالوت، وحملهنَّ في مخلاته، وصارت حجرًا، ولعلَّ الثالث هو الذي يتَّصل بجالوت ويخرقه، والآخران متَّصلان به كعصًا، وعرض عليه طالوت سلاحًا أو ألبسه سلاحًا فامتنع فقال: أقاتله بنصر ربِّي، فلمَّا قابل جالوت بالحجارة والمقلاع، قال: تقاتلني كالكلب؟ قال: أنت شرٌّ منه لكفرك بربِّي، فقال: لأطعمنَّك الطير، روي أنَّه امتنع بنو إسرائيل من مقابلة جالوت لعظم جسمه وطوله، فنادى طالوت في عسكره: من قتل جالوت زوَّجته ابنتي وناصفته في ملكي، فلم يجبه أحد، فسأل طالوت نبيئهم شمويل ـ أو غيره على ما مرَّ ـ وهو معهم فدعا الله، فأتى طالوت بقرن فيه دهن القدس، وقيل له: يقتله الذي إذا وضع القرن على رأسه سال الدهن حتَّى يدهن رأسه، ولا يسيل على وجهه، فجرَّبه على بني إسرائيل، فلم يسل إِلَّا على داود، فقال: اقتله وأزوِّجك بنتي وأناصفك ملكي، وجعل الحجارة الثالثة في مقلاعه، فقصد جالوت، ودخل الرعب في قلب جالوت، وروي أنَّه قال: (باسم إله إبراهيم)، وأخرج حجرًا وقال: (باسم إله إسحاق)، وأخرج حجرًا وقال: (باسم إله يعقوب)، وأخرج حجرًا آخر، ووضعهنَّ في مقلاعه فصرن حجرًا واحدًا، فرمى به جالوت، فحملته الريح حتَّى أصاب أنف البيضة فخرق دماغه وخرج من قفاه، وقيل: مكث في دماغه، وقيل: أصاب صدره وقتل ثلاثين رجلاً خلفه، وقيل: قال داود: ما تفعلون بمن قتل هذا الأقلف، فزجره إخوته فأتى من الجهة الأخرى، فقيل له ابنة طالوت ونصف ملكه، فقتله داود فجرَّه بإعانة الله مع طوله وثقله حتَّى ألقاه بين يدي طالوت فزوَّجه بنته وناصفه ملكه، ومكث معه أربعين سنة واستقلَّ بعد موته داود بالملك سبع سنين كما قال الله جلَّ وعلا: ﴿وَءَاتَاهُ﴾ أي: داود، ﴿اللهُ الْمُلْكَ﴾ في بني إسرائيل.

15. ووفَّى طالوت لداود بما وعد له، وظهر شأن داود فحسده فأراد قتله، وعلم به داود فسجَّى له زقَّ خمر في فراشه، فضربه فسالت، فقال: رحم الله أخي داود ما أكثر شربه للخمر!، ووضع داود عند نومه في القائلة سهمين عند رأسه ورجليه وجنبيه، فلمَّا يقظ قال: رحم الله أخي داود قدر على قتلي ولم يقتلني، وقدرت على قتله ولم أعف، ووجده طالوت في برِّيـَّة على رجليه، فقال: اليوم أقتله على فرسي، فهرب، وكان لا يدركه الفرس ودخل غارًا ونسج عليه العنكبوت، وَلَمَّا بلغ طالوت الغار قال: لو دخله لانفسخ، وقتل كثيرًا من العلماء وغيرهم على نهيهم له عن قتل داود، ثمَّ تاب وخلَّى الملك، وجاهد مع بنيه العشرة حتَّى مات معهم كفَّارة، فخلص الملك لداود عليه السلام .

16. ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ النبوءة بعد موت شمويل وطالوت، ومات شمويل قبل طالوت، ولم يجتمع الملك والنبوءة لأحد من بني إسرائيل قبل داود، وكان داود من سبط الملك، وكذا اجتمعا لابنه سليمان وهما من أولاد يهوذا بن يعقوب وفيهم الملك، وأمَّا النبوءة ففي أولاد لاوي بن يعقوب.

17. ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ﴾ كصنع الدروع من الحديد يلين في يده كالطين، وفهم صوت الطير وسائر ما له صوت من الحيوان، وقد يعلم صوت الريح والماء والجمادات كصرير الباب والقلم، فإنَّ التحقيق أنَّ تسبيح الجمادات بلسان القال لا بلسان الحال، والله يخلق التمييز لمن يشاء.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/103.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. علم من السياق أن الغرض الأول من طلب القوم نصب الملك عليهم أن يتولى قيادتهم للقتال في سبيل الله، ويثأر من أولئك الوثنيين الذين أخرجوهم من ديارهم وأبنائهم، فكان المتوقع بعد بيان نصب الملك أن يذكر ما كان من شأنه في القتال وذلك ما بينه تعالى ذكره بقوله: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾

2. فصل بالجنود: انفصل بهم من مقامهم وقادهم لقتال أعدائهم، وأصله: فصل نفسه عنه مصاحبا لهم، والجنود: جمع جند بالضم وهو العسكر وأصله الأرض الغليظة ذات الحجارة ثم قيل لكل مجتمع قوي جند، والشرب: تناول المائع بالفم وابتلاعه، وطعم الشيء من غذاء وشراب ذاقه، قال الشاعر: (وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا)، والغرفة ـ بالفتح: المرة، من غرف الشيء إذا رفعه من محله وتناوله، وبها قرأ ابن كثير وأبو عمرو والحجازيون، والغرفة ـ بالضم: ما يغترف، وبها قرأ ابن عامر والكوفيون.

3. لما كان بنو إسرائيل من قبل كارهين لملك طالوت عليهم، ثم أذعنوا من بعد، وكان إذعان الجميع ورضاهم مما لا يمكن العلم به إلا بالاختبار والابتلاء أراد الله أن يبتلي هذا القائد جنده ليعلم المطيع والعاصي والراضي والساخط، فيختار المطيع الذي يرجى بلاؤه في القتال، وثباته في معامع النزال، وينفي من يظهر عصيانه، ويخشى في الوغى خذلانه، فإن طاعة الجيش للقائد وثقته به من شروط الظفر، وأحوج القواد إلى اختبار الجيش من ولي على قوم وهم له كارهون، أو كان فيهم من يكرهه، فإذا وجد في الجيش من ليس متحدا معه يخشى أن يوضعوا خلاله يبغونه الفتنة ويسمونه بالفشل، أخبر طالوت جنوده بأن سيمرون على نهر يمتحنهم به بإذن الله، فمن شرب منه فلا يعد من أشياعه المتحدين معه في أمر القتال إلا أن يكون ما يشربه قليلا وهو غرفة تؤخذ باليد، فإن هذا مما يتسامح فيه ولا يراه مانعا من الاتحاد به والاعتصام بحبله، ومن لم يطعمه أي يذقه بالمرة فإنه منه، وهو الذي يركن إليه ويوثق به تمام الثقة.

4. الابتلاء سيكون على ثلاث مراتب:

أ. مرتبة من يشرب فيروى لا يبالي بالأمر، وحكمه أن يتبرأ منه.

ب. ومرتبة من يأخذ بيده غرفة يبل بها ريقه وهو مقبول في الجملة.

ج. ومرتبة من لا يذوقه ألبتة، وهو الولي النصير الذي يوثق باتحاده، ويعول على جهاده.

5. ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ ذلك أن القوم كانوا قد فسد بأسهم وتزلزل إيمانهم، واعتادوا العصيان فسهل عليهم عصيانهم، وشق عليهم مخالفة الشهوة وإن كان فيها هوانهم، ولم يبق فيهم من أهل الصدق في الإيمان والغيرة على الملة والأمة إلا نفر قليل ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ والعدد القليل من أهل العزائم يفعل ما لا يفعل الكثير من ذوي المآثم، كما يعلم من قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ أي فلما جاوز النهر طالوت هو والذين آمنوا معه ﴿قَالُوا﴾ وهم أولئك الذين شربوا منه إلا قليلا منهم ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ الطاقة أدنى درجات القوة كما تقدم في تفسير آية الصيام.

6. جالوت هو أشهر أبطال أعدائهم الفلسطينين، وعربه النصارى الذين ترجموا سفر صموئيل الذي فيه القصة (جليات) ولا اعتداد بتعريبهم، والعبارة تشعر بأن جنود الفلسطينيين كانوا أكثر من الإسرائيليين؛ أي: قال جمهور الجنود: ليس لنا أدنى شيء من جنس الطاقة بلقاء جالوت وجنوده.

7. ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ وهؤلاء الذين يظنون أنهم ملاقو الله في الآخرة هم الذين آمنوا وجاوزوا النهر مع طالوت، وقد توهم بعض الناس أن الآخرين الذين شربوا من النهر لم يجاوزوه؛ لأنه تعالى لم يذكرهم، وظنوا أن القولين من المؤمنين الذين جاوزوا النهر، قال ضعافهم: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، وقال أقوياؤهم: كم من فئة قليلة إلخ، ثم اشتد بعضهم بعزيمة بعض، وكان من أمر انتصارهم ما يأتي في الآية التي بعد هذه، والعبارة لا تدل على أن الذين شربوا من النهر لم يجاوزوه، وإنما خص بالذكر الذين لم يشربوا لأنهم لم يتخلفوا عن طالوت لأجل الشرب، فهم الذين جاوزوه معه مقترنين وهم الذين يعتدهم منه، ويتبرأ من المتخلفين العاصين كما علم من قوله في الابتلاء.

8. سياق الكلام فيمن فصل بهم من الجنود وابتلوا بالنهر، وقد قال فيهم: إنهم شربوا منه إلا قليلا، ثم أعلمنا أن فريقا منهم وصفهم بالمؤمنين جاوزوا النهر مع طالوت، فعلمنا أنهم هم الذين أطاعوا ولم يشربوا، ثم أخبرنا بقولين يصلح أحدهما لمعارضة الآخر ورده:

أ. الأول: أسنده إلى ضمير الجماعة المحكي عنهم الذين قال فيهم: إنهم شربوا منه إلا قليلا منهم ومثله يصدر ممن خالف القائد وجبن عن القتال.

ب. الثاني: أسنده إلى الذين يظنون أنهم ملاقو الله وهو ينطبق على الذين أطاعوا القائد واتحدوا معه فلم يعصوا، ويتفق مع وصف الإيمان الذي سبقه، فعلمنا أن الجميع جاوزوا النهر، وأن هذين القولين كانا بعد مجاوزته، وأن التصريح بمجاوزة المؤمنين منهم لا يجعل المجاوزة للحصر وإنما هي لبيان المعية والمصاحبة، فإن القوم افترقوا عند النهر فسبق من لم يشرب والتف حول القائد وجاوزوا النهر معه، وتخلف الآخرون قليلا للشرب والارتفاق بالماء، ثم جاوزوا ولحقوا بالآخرين كما علم من محاورتهم معهم بما ظهر به أثر ما في نفس كل فريق منهما على لسانه، ومن بديع إيجاز القرآن أن يحذف الشيء ويأتي في السياق بما يدل عليه، وأن يذكر القوم بوصف غير ما دل عليه الكلام أو يجعله في مكان الضمير لإفادة أن هذا الوصف المذكور هو السبب في الفعل أو الوصف الذي سيق الكلام لتقريره، كما وصف الذين لم يشربوا بالإيمان مرة وباعتقاد لقاء الله تعالى مرة أخرى، فأعلمنا أن هذا الإيمان والاعتقاد هما سبب طاعة القائد وترك الشرب، وسبب الشجاعة والإقدام على لقاء العدو الذي يفوقهم عددا.

9. هذا ما ظهر لي في بيان هذه العبارة ويؤيده ما رواه ابن جرير عن ابن عباس قال: لما جاوزه هو والذين آمنوا معه قال الذين شربوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده (قال ابن جرير): وأولى القولين في ذلك بالصواب ما روي عن ابن عباس وقاله السدي وهو أنه جاوز النهر مع طالوت المؤمن الذي لم يشرب من النهر إلا الغرفة، والكافر الذي شرب منه الكثير، ثم وقع التمييز بينهم بعد ذلك برؤية جالوت ولقائه وانخذل عنه أهل الشرك والنفاق إلخ، وفيه ذكر قول كل من الفريقين ووسم من يقول بأنه لم يجاوز مع طالوت النهر إلا أهل الإيمان بالغفلة ورد عليه قوله.

10. في كتب اليهود أن الابتلاء بترك شرب الماء كان على يد جدعون قبل قصة طالوت، ويوردون ذلك بما لا يليق بالله تعالى، ولكنه يوافق ما بنيت عليه حوادث تاريخهم من كونها كلها عجائب وخوارق عادات لا شيء منها مبني على سنن الله تعالى في الاجتماع البشري، ففي الفصل السابع من سفر القضاة ما نصه: (وقال الرب لجدعون: إن الشعب الذي معك كثير علي لأدفع المديانيين بيدهم لئلا يفتخر على إسرائيل قائلا: يدي خلصتني، والآن ناد في آذان الشعب قائلا: من كان خائفا ومرتعدا فليرجع وينصرف من جبل جلعاد، فرجع من الشعب اثنان وعشرون ألفا، وبقي عشرة آلاف، وقال الرب لجدعون: لم يزل الشعب كثيرا، انزل بهم إلى الماء فأنقيهم لك هناك، ويكون أن الذي أقول لك عنه هذا يذهب معك فهو يذهب معك، وكل من أقول لك عنه لا يذهب معك فهو لا يذهب، فنزل بالشعب إلى الماء، وقال الرب لجدعون: كل من يلغ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب فأوقفه وحده، وكذا كل من جثا على ركبتيه للشرب، وكان عدد الذين ولغوا بيدهم إلى فمهم ثلاثمائة رجل، وأما باقي الشعب جميعا فجثوا على ركبهم لشرب الماء؛ فقال الرب لجدعون: بالثلاثمائة رجل الذين ولغوا أخلصكم وأدفع المديانيين ليدك، وأما سائر الشعب فليذهبوا كل واحد إلى مكانه)، وقد علمت أن القوم خلطوا في تاريخهم، وأن أكثره لا يعرف كاتبوه، ومنه سفر صموئيل الذي فيه قصة طالوت، وعبارته تدل على أنه كتب بعد حدوث وقائعه؛ فإن الكاتب يذكر بعض الأشياء ويقول: إنها لا تزال إلى الآن كأن الزمن كان كافيا لأن تندرس فيه جميع الرسوم والمعالم التي عهدت عند وقوع تلك الوقائع وهم لا يعرفون كاتبه، وإننا نرى المؤرخين في زماننا يغلطون بما يقع في عهدهم غلطا أبعد من هذا الغلط في إسناد الشيء إلى غير فاعله، وتقديمه أو تأخيره عن زمنه، وكما فات مؤرخي بني إسرائيل تحرير الوقائع والحوادث بالتدقيق فاتهم ما فيها من العبر والحكم، فأين ما نقلناه في تفسير هذه القصة عنهم مما تجده في عبارة القرآن من صنوف العبرة؟ فالحق ما قاله الله تعالى في مسألة النهر وغيرها، ولا يعتبر ما خالفه من أقوال سائر الكتب معارضا له فيحتاج إلى التوفيق أو الجواب كما تقدم في مقدمة تفسير هذه القصة، والله أعلم وأحكم.

11. ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا﴾ أي: لما ظهر طالوت وجنوده بالبراز، وهي بالفتح ما استوى من الأرض ﴿لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ وهم أعداؤه الفلسطينيون ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ أي: لجأ قوم طالوت المؤمنون إلى الله تعالى يدعونه بأن يفرغ على قلوبهم الصبر، ويثبت أقدامهم في مواقع القتال بثبات قلوبهم واطمئنانها بالإيمان والثقة به، وينصرهم على القوم الكافرين عبدة الأوثان، الذين تعلقت قلوبهم بالأوهام، وهذه الأمور الثلاثة بعضها مرتب على بعض بحسب الأسباب الغالبة، فالصبر سبب للثبات الذي هو سبب من أسباب النصر، وأجدر الناس بالصبر المؤمنون بالله عز وجل الغالب على أمره، كما سنوضحه بعد تمام تفسير هذه الآيات.

12. ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي: فاستجاب لهم ربهم ما سألوا ببركة التوجه إليه، وتذكرهم ما يؤمنون به من قوته التي لا تغالب فهزموهم، أي كسروهم كسرة انتهت بدفعهم من المعركة، وهربهم منها بإرادته المنفذة لسنته في نصر المؤمنين الصابرين الثابتين، على الكافرين ﴿وقتل داود جالوت﴾ قالوا: إن جالوت جبار الفلسطينيين طلب البراز فلم يجرؤ أحد من بني إسرائيل على مبارزته حتى إن طالوت جعل لمن يقتله أن يزوجه ابنته، ويحكمه في ملكه، ثم برز له داود بن يسى، وكان غلاما يرعى الغنم، ولم يقبل أن يلبس درعا ولا أن يحمل سلاحا، بل حمل مقلاعه وحجارته، فسخر منه جالوت واحتمى عليه إذا لم يستعد له، وقال: هل أنا كلب فتخرج إلي بالمقلاع؟ فرماه داود بمقلاعه فأصاب الحجر رأسه فصرعه فدنا منه فاحتز رأسه، وجاء به فألقاه إلى طالوت فعرف داود، وكان له الشأن الذي ورث به ملك إسرائيل، كما قال تعالى: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ فسروا الحكمة هنا بالنبوة، والأظهر عندي أن تفسر بالزبور الذي أوحاه الله إليه، كما قال في آية أخرى: ﴿وآتينا داود زبورا﴾ وبه كان نبيا، وأما تعليمه مما يشاء فهو صنعة الدروع، كما قال تعالى في سورة الأنبياء: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾

13. أذكر ما يظهر لي من السنن والأحكام الاجتماعية في آيات هذه القصة مفصلة معدودة لعلها توعى وتحفظ فلا تنسى إن شاء الله تعالى:

أ. الأولى: أن الأمم إذا اعتدي على استقلالها وأوقع الأعداء بها فهضموا حقوقها تتنبه مشاعرها لدفع الضيم وتفكر في سبيله، فتعلم أنها الوحدة التي يمثلها الزعيم العادل والقائد الباسل، فتتوجه إلى طلبه حتى تجده كما وقع من بني إسرائيل بعد تنكيل أهل فلسطين بهم.

ب. الثانية: أن شعور الأمة بوجوب حفظ حقوقها وصيانة استقلالها إنما يكون على حقيقته وكماله في خواصها، فمتى كثر هؤلاء الخواص في أمة فإنهم هم الذين يطلبون الرئيس الذي يملك عليهم، كما علمت من إسناد طلب الملك إلى الملأ من بني إسرائيل وهم شيوخهم وأهل الفضل فيهم.

ج. الثالثة: متى عظم الشعور في نفوس خواص الأمة بوجوب حفظ استقلالها ودفع ضيم الأعداء عنها فإنه لا يلبث أن يسري إلى عامتها، فيظن الناقص أن عنده من النعرة والحمية للأمة ما عند الكامل، حتى إذا خرجت من طور الفكر والشعور إلى طور العمل والظهور انكشف عجز الأدعياء المدعين، ولم ينفع إلا صدق الصادقين، كما علم من قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾

د. الرابعة: أن من شأن الأمم الاختلاف في اختيار الرئيس الذي يكون له الملك عليها، والاختلاف مدعاة التفرق، فيجب أن يكون هناك مرجح يقبله الجمهور من الأمة؛ لذلك لجأ الملأ من بني إسرائيل إلى نبيهم وطلبوا منه أن يختار لهم رجلا يكون ملكا عليهم، وقد جعل الإسلام المرجح لاختيار إمام المسلمين مبايعة أولي الأمر لمن يختارونه من أنفسهم، وهم أهل الحل والعقد والمكانة في الأمة الذين هم عون السلطان وقوته باحترام الأمة لهم وثقتها بهم؛ ولذلك لم ينصب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إماما للمسلمين في أمر الزعامة والحكم(2)، ولكن استنبط بعض العظماء من الصحابة رضاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بإمامة أبي بكر الدنيوية بإنابته عنه في الإمامة الدينية، وهي إمامة الصلاة، إذ أمر عند ما اشتد مرضه بأن يصلي أبو بكر بالناس مكانه، ومع هذا قال عمر: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها، أي إن الشورى في انتخابه لم تكن تامة، وإنما كان هو الذي عجل بالبيعة خوفا من عاقبة طول أمد الخلاف مع إجماعهم على عدم دفن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قبل نصب الخليفة له، ولكن خلافته وإمامته لم تثبت بالفعل إلا بمبايعة الأمة له.

هـ. الخامسة: أن الناس لا يتفقون على التقليد أو الاتباع فيما يرونه مخالفا لمصلحتهم الاجتماعية؛ ولذلك اختلف بنو إسرائيل على نبيهم في جعل طالوت ملكا عليهم، واحتجوا على ذلك بما لا ينهض حجة إلا في ظن المنكرين، ومن عجيب أمر الناس أن كلا منهم يحسب أنه يعرف الصواب في السياسة ونظام الاجتماع في الأمم والدول، فلا تعرض مسألة على عامي إلا ويبدي فيها رأيا يقيم عليه دليلا على أن هذا العلم هو أعلى من سائر العلوم التي يعترف الجاهلون بها بجهلهم، فلا يحكمون فيها كما يحكمون في علم السياسة والاجتماع وما يعقله إلا الأفراد من الناس، ومن فروع هذه القاعدة أن عامة المسلمين لهذا العهد يرون أن الدعوة إلى جعل الخلافة موافقة للقواعد الشرعية التي يعتقدونها مخالفة لمصلحتهم، وكثير منهم يعد الداعي إلى ذلك عدوا لهم بل للإسلام نفسه.

و. السادسة: أن الأمم في طور الجهل ترى أن أحق الناس بالملك والزعامة أصحاب الثروة الواسعة كما علم من قول المنكرين على ملك طالوت في تأييد إنكارهم ﴿وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ وأصحاب الأنساب الشريفة، كما علم مما فسر به العلماء قولهم له ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾ فهذا الاعتقاد من السنن العامة في الأمم الجاهلة خاصة، فإنها هي التي تخضع لأصحاب العظمة الوهمية، وهي التي ليست صفة لنفس صاحبها كالمال والانتساب إلى بعض العظماء في عرفهم، سواء كانت عظمتهم بحق أو بغير حق، هذا موضع الخطأ في تعظيم ذي النسب، ويشتد خطره إذا صار الأنساب يستعلون على الناس بأنسابهم دون علومهم وأعمالهم، والقرآن لم يصرح بأن ذلك هو وجه قولهم أنهم أحق بالملك، وفي المسألة نظر لا محل هنا لبسطه، ولكن نقول بالإجمال: إن الانتساب إلى أهل الشرف الحقيقي، وهم أصحاب المعارف الصحيحة والأخلاق الفاضلة والنفوس الكريمة العزيزة، له أثر في النفس عظيم؛ فإن سليل الشرفاء جدير بأن يحافظ على كرامة نفسه فلا يدنسها بالخيانة، ثم إنه لا بد أن يرث شيئا من فضائلهم النفسية فيكون استعداده للخير أعظم في الغالب، وإنك لتجد الأمم الراقية في العلم والاجتماع تختار ملوكها من سلالة الملوك والأمراء وتحافظ على قوانين الوراثة في ذلك، وما ارتقى عن هذا إلا أصحاب الحكومة الجمهورية، وقد جاء حكم الإسلام في هذه المسألة وسطا فلم يغفل أمر النسب بالمرة لئلا تتسع دائرة الخلاف بطمع كل قبيلة في الإمامة الكبرى، ولم يجعل الأمر في بيت معين لما في ذلك من الغوائل، بل جعله في قبيلة عظيمة كثيرة العدد لا تخلو ممن هو أهل للإمامة(3) ـ وهي محترمة في نفسها ـ كانت محترمة في العصر الأول، ويرجى أن يدوم احترامها ما دام الإسلام الذي أتم الله نعمته على البشر بجعل رسول الله وخاتم النبيين منها ألا وهي قريش، فمن الحكمة في ذلك أن تظل الرياسة العليا للأمة مرتبطة بتاريخ ماضيها وقوم مؤسسها كارتباط دينها بوطنه في عبادتها الشخصية والاجتماعية وهما الصلاة والحج.

ز. السابعة: أن الشروط التي تعتبر في اختيار الرجل في الملك هي ما استفدناه من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ الآية، كما تقدم.

ح. الثامنة: هي ما أفاده قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ كما بيناه معززا بالشواهد من الكتاب العزيز، على أن مشيئته تعالى إنما تنفذ بمقتضى سننه العامة في تغيير أحوال الأمم بتغييرهم ما في أنفسهم، وفي سلب ملك الظالمين وإيراث الأرض للصالحين، وتأويل هذه الآيات وأمثالها مشاهد في كل زمان، وأين المبصرون؟! ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ أو لم يسمعوا دعوة الأنبياء بقوله تعالى في سورة الشعراء ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ أيظن المسلم الغافل أن مشيئة الله تعالى في قوله: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ هي عبارة عن مخالفة سننه التي بينتها الآيات التي ذكرناها وما في معناها مما لم نذكره؟ بل أقول ولا أخشى في الحق لومة لائم: أيظن المسلمون أن تنازع الأمم والدول على ممالكهم وسلبها من أيديهم مخالف لعدل الله العام وسننه الحكيمة التي جاء بها القرآن؟ كلا إنه تعالى ما فرط في الكتاب من شيء، ولكنهم هم الذين فرطوا فذاقوا جزاء تفريطهم، فإن تابوا وأصلحوا تاب الله عليهم، وإلا فقد مضت سنة الأولين.

ط. التاسعة: أن طاعة الجنود للقائد في كل ما يأمر به وينهى عنه شرط في الظفر واستقامة الأمر، وقوانين الجندية في هذا الزمان مبنية على طاعة الجيش لقواده في المنشط والمكره والمعقول وغير المعقول، فإذا أمر القائد بتسليم الديار أو الأموال أو الأنفس للأعداء وجب تسليمها في قانون كل دولة، نعم؛ إنهم قرنوا بهذا الحق للقائد إيجابهم عليه أن يبرم الأمور باستشارة أهل الرأي في الفنون العسكرية، وهم الذين يسمونهم أركان الحرب، ولكن هؤلاء ورئيسهم مقيدون بدستور الدولة العام، وبموافقة مجلس نواب الأمة على ما نص الدستور على وجوب موافقتهم عليه، ومن خالف ذلك يحاكم ويعاقب.

ي. العاشرة: أن الفئة القليلة قد تغلب ـ بالصبر والثبات وطاعة القواد ـ الفئة الكثيرة التي أعوزها الصبر والاتحاد، مع طاعة القواد؛ لأن نصر الله مع الصابرين؛ أي جرت سنته بأن يكون النصر أثرا للثبات والصبر، وأن أهل الجزع والجبن هم أعوان لعدوهم على أنفسهم، وهذا مشاهد في كل زمان، وهو كثير لا مطرد كما جاء في الآية الكريمة.

ك. الحادية عشرة: أن الإيمان بالله تعالى والتصديق بلقائه من أعظم أسباب الصبر والثبات في مواقف الجلاد؛ فإن الذي يؤمن بأن له إلها غالبا على أمره يمده بمعونته الإلهية كما أمده بالقوى الروحية والجسدية، فإذا ظفر بإذنه كان مصلحا في الأرض مستعمرا فيها، وإذا قبضه إليه بانتهاء أجله المسمى كان في رحمته ناعما فيها، لهو جدير بأن يستخف بالأهوال، ويثبت في القتال ثبات الأجبال، وقد وافقنا كتاب الإفرنج في هذه المسألة، فصرحوا بأن من أسباب ثبات البوير وبلائهم في حربهم للإنجليز كونهم أقوى إيمانا وأرسخ عقيدة، وجميع الأمم تشهد بأن الجيش العثماني أثبت جيوش العالم وأصبره وأشجعه، وقد تمنى قائد ألماني يعد من أشهر قواد الأرض لو أن له مائة ألف من هذا الجيش ليملك بها العالم، ذلك بأنه جيش يؤمن بلقاء الله تعالى إيمانا قويا يقل في قواده من يساويه فيه.

ل. الثانية عشرة: أن التوجه إلى الله تعالى بالدعاء مفيد في القتال كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ إذ عطفها بالفاء على آية الدعاء، وذلك معقول المعنى؛ فإن الدعاء هو آية ذلك الإيمان الذي بينا فائدته آنفا؛ ولذلك قال عز وجل في سورة الأنفال: ﴿ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون﴾

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/487.

(2) لا نرى صحة هذا

(3) نرى أن الوصية بالعترة لا بقريش، خاصة مع جرائمها الكثيرة في حق الإسلام

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ أي فلما خرج طالوت من البلد يصحبه هؤلاء الجند قال لهم هذه المقالة، وقد روى أنهم لما رأوا التابوت لم يشكّوا في النصر، فسارعوا إلى الجهاد، فقال لهم طالوت: لا يخرج معي شيخ ولا مريض، ولا رجل بنى بناء ولم يفرغ منه، ولا صاحب تجارة مشتغل بها، ولا رجل عليه دين، ولا رجل تزوج امرأة لم يبن بها، ولا أبتغى إلا الشاب النشيط الفارغ، فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا، وكان الوقت قيظا (شديد الحر) وسلكوا مفازة فشكوا قلة الماء، وسألوا الله أن يجرى لهم‏ نهرا، فقال لهم: إن الله سيختبر حالكم ويعلم المطيع منكم من العاصي، والراضي من الساخط، وستقابلون نهرا فمن شرب منه فليس من أشياعي المؤمنين، إلا أن يكون ما يتناوله قليلا وهو غرفة تؤخذ باليد، ومن لم يذقه فهو الذي يوثق به ويركن إليه عند الشدائد.

2. حكمة هذا الابتلاء أن يختار المطيع الذي يرجى بلاؤه في القتال وثباته حين النزال، ويبعد من يظهر عصيانه، ويخشى في الوغى خذلانه، فطاعة الجيش لقائده من أهم أسباب الظفر، وأحوج القواد إلى ذلك من ولّى على قوم وهم له كارهون.

3. الخلاصة ـ أن مراتب الاختبار ثلاث:

أ. من يشرب فيروى ولا يبالى بمخالفة الأمر، وهذا يتبرّأ منه.

ب. من يأخذ بيده غرفة يبلّ بها ريقه، وهو مقبول على ما به من نقص في الجملة.

ج. من لا يذوق الماء أبدا، وهذا هو المولى والنصير الذي يوثق باتحاده ويعوّل على جهاده.

4. ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ لأنهم كانوا قد اعتادوا العصيان وفسد بأسهم وتزلزل إيمانهم، ولم يبق فيهم من أهل الإيمان والغيرة على الدين إلا النفر القليل، والقليل من ذوى العزائم الصادقة والنفوس التي أشربت حب الإيمان وامتلأت غيرة عليه ـ يفعل ما لا يفعله الكثير من ذوى الأهواء المختلفة، والنزعات المتضاربة ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ [الحشر: 14].

5. ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ [البقرة: 249] أي فلما تخطى طالوت النهر هو ومن آمن معه وهم القليل الذين أطاعوه، ولم يخالفوه فيما ندبهم إليه، قال بعض ممن آمن معه من المؤمنين لبعض آخر منهم، وهم الذين يظنون أنهم ملاقو الله، لا قدرة لنا على محاربة جالوت وجنوده، فضلا عن أن يكون لنا الغلب عليهم، لما شاهدوا من كثرتهم وقوتهم، فردّ عليهم الفريق الثاني لوثوقه‏ بنصر الله وقوة أهل الحق على قلتهم، وخذلان أهل الباطل على كثرتهم، كما حكى الله عنهم.

6. ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي قال الذين يستيقنون بلقاء ربهم بالبعث، ويتوقعون ما عنده من الجزاء والثواب: كثيرا ما رأينا الجماعات القليلة غلبت الجماعات الكثيرة حين يكتب الله لهم الترفيق بمشيئته وقدرته، والله لا يذلّ من نصره وإن قلّ عدده، ولا يعزّ من خذله وإن كثرت آلاته وعدده وهذا دليل منهم على ثقتهم بنصر الله وتوفيقه.

7. ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ فهو ينصرهم على عدوهم، ويثبتهم عند لقائه، وفي هذا حضّ على الصبر المؤدى إلى الغلبة، والثقة بالله عند الشدائد، ومدلهمات الحوادث، والرجوع إليه إذا فدح الخطب، وعظم الأمر، فهو القادر على النصر والتأييد لمن أخلص له من عباده.

8. ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ أي ولما ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين لأعدائه الفلسطينيين جالوت وجنوده، وشاهدوا ما هم عليه من كثرة العدد والعدد لجئوا جميعا إلى الله يدعونه أن يفرغ على قلوبهم الصبر، ويثبت أقدامهم في القتال، ويملأ نفوسهم ثقة واطمئنانا، وينصرهم على أولئك القوم الكافرين عبدة الأوثان الذين أشربوا حبّ الدنيا وامتلأت قلوبهم بالترهات والأباطيل.

9. لقد راعوا الترتيب الطبيعي في الدعاء بحسب الأسباب الغالبة، إذ الصبر سبب الثبات، والثبات سبب النصر، وأولى الناس بنصر الله المؤمنون.

10. ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي فاستجاب الله دعاءهم، فصبروا وثبتوا ونصروا فهزموهم وانتهى أمرهم بالهرب من المعركة وفاقا لسنته تعالى في نصر أهل الحق المؤمنين الصابرين على أهل الباطل الضالين.

11. ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ كان جالوت جبار الفلسطينيين طلب البراز فلم يجرؤ أحد من بنى إسرائيل على مبارزته، حتى جعل طالوت مكافأة لمن يقتله أن يزوجه ابنته ويحكّمه في ملكه، فبرز له داوود وكان صغير السن ولم يلبس درعا ولم يحمل سلاحا، بل حمل حجارته ومقلاعه الذي كان من عادته أن يقاتل به الذئب والأسد، فسخر منه جالوت وقال: ما خرجت إلا كما تخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة، لأبدّدن لحمك، ولأطعمنّه اليوم للطير والسباع، فرماه داوود بمقلاعه، فأصاب الحجر رأسه فصرعه، ودنا منه فاحتزّ رأسه، وجاء به فألقاه بين يدى طالوت، وانهزم من كان معه، وشهر داوود بين الناس، وكان له من الصيت والسمعة ما ورث به ملك بنى إسرائيل، وآتاه الله النبوّة وأنزل عليه الزبور وعلّمه صنعة الدروع، ومعرفة منطق الطير، وعلوم الدين وفصل الخصومات كما قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله؛ إذ كان من أحوالهم أن يبعث الله إليهم نبيا ويملّك عليهم ملكا يأتمر بأمر ذلك النبي، وكان نبيّ هذا العصر شمويل والملك طالوت، فلما توفّيا صار له الملك والنبوة.

12. من العبر المرتبطة بهذه القصص‏:

أ. إن الأمم إذا سيمت الخسف تتنبه أفكارها إلى دفع الضيم، فتعلم أن لا سبيل إلى ذلك إلا بانضوائها تحت لواء زعيم عادل باسل كما وقع من بنى إسرائيل حين نكل بهم أهل فلسطين.

ب. إن أول من يشعر بالحاجة إلى ذلك هم خواصها وأشرافها كما حدث من الملأ من بنى إسرائيل، ثم تنتقل الفكرة من ذلك إلى عامتهم، حتى إذا وصلت إلى حيز العمل نكص ضعفاء العزائم على أعقابهم كما يدل عليه قوله: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)

ج. إن من شأن الأمم الاختلاف في اختيار الملك، ومن ثم لجأ الملأ من بنى إسرائيل إلى نبيهم ليختار لهم ملكا، وقد جاء الإسلام وجعل المرجح اختيار أرباب المكانة في الأمة، وهم أهل الحل والعقد، وعون الحاكم وقوته، لاحترام الأمة لهم وثقتها بهم.

د. إن الأمم زمن الجهل ترى أن أحق الناس بالملك والزعامة هم أصحاب الجاه والثروة كما يدل على ذلك قول المنكرين لملك طالوت (ولَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) مع أن الأجدر بهذا الاختيار أهل الشرف بمعارفهم وعلومهم وأخلاقهم الفاضلة، ونفوسهم الكريمة.

هـ. إن الأمم إذا رقيت في علومها ومعارفها وحضارتها اختارت ملوكها من سلائل الملوك والأمراء، وحافظت على قوانين الوراثة، ولم يشذ عن ذلك إلا أصحاب الحكومات الجمهورية التي تختار رئيسها بالانتخاب.

و. إن الظفر لا يتم للقائد إلا إذا أطاعه جنده في كل ما يأمر وينهى، وعلى هذا بنيت قوانين الجندية في العصر الحديث.

ز. إن الفئة القليلة قد تغلب الفئة الكثيرة إذا صبرت وثبتت وأطاعت رؤساءها والتجارب والمشاهدة تدل على صدق هذا.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/223.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم أعد طالوت جيشه ممن لم يتولوا عن فريضة الجهاد، ولم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم من أول الطريق.. والسياق القرآني على طريقته في سياقة القصص‏ يترك هنا فجوة بين المشهدين، فيعرض المشهد التالي مباشرة وطالوت خارج بالجنود: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾

2. هنا يتجلى لنا مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل.. إنه مقدم على معركة؛ ومعه جيش من أمة مغلوبة، عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة، وهو يواجه جيش أمة غالبة فلا بد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة، هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة، الإرادة التي تضبط الشهوات والنزوات، وتصمد للحرمان والمشاق، وتستعلي على الضرورات والحاجات، وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها، فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء.. فلا بد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه، وصموده وصبره: صموده أولا للرغبات والشهوات، وصبره ثانيا على الحرمان والمتاعب.. واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات عطاش، ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه، ويؤثر العافية.. وصحت فراسته: ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾.. شربوا وارتووا، فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده، تبل الظمأ ولكنها لا تشي بالرغبة في التخلف! وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم، انفصلوا عنه لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم، وكان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف، لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة، والجيوش ليست بالعدد الضخم، ولكن بالقلب الصامد، والإرادة الجازمة، والإيمان الثابت المستقيم على الطريق.

3. دلت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي؛ ولا بد من التجربة العملية، ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها، ودلت كذلك على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزه تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى.. بل مضى في طريقه.

4. وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت ـ إلى حد ـ ولكن التجارب لم تكن قد انتهت بعد: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ [البقرة: 249].. لقد صاروا قلة، وهم يعلمون قوة عدوهم وكثرته: بقيادة جالوت، إنهم مؤمنون لم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم، ولكنهم هنا أمام الواقع الذي يرونه بأعينهم فيحسون أنهم أضعف من مواجهته، إنها التجربة الحاسمة، تجربة الاعتزاز بقوة أخرى أكبر من قوة الواقع المنظور، وهذه لا يصمد لها إلا من اكتمل إيمانهم، فاتصلت بالله قلوبهم؛ وأصبحت لهم موازين جديدة يستمدونها من واقع إيمانهم، غير الموازين التي يستمدها الناس من واقع حالهم! وهنا برزت الفئة المؤمنة، الفئة القليلة المختارة، والفئة ذات الموازين الربانية: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾

5. هكذا.. ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾.. بهذا التكثير، فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقو الله، القاعدة: أن تكون الفئة المؤمنة قليلة لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار، ولكنها تكون الغالبة لأنها تتصل بمصدر القوى؛ ولأنها تمثل القوة الغالبة، قوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، محطم الجبارين، ومخزي الظالمين وقاهر المتكبرين، وهم يكلون هذا النصر لله ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.. ويعللونه بعلته الحقيقية ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.. فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل.

6. ونمضي مع القصة، فإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله، التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء، وتستمد قوتها كلها من إذن الله، وتستمد يقينها كله من الثقة في الله، وأنه مع الصابرين.. إذا هذه الفئة القليلة الواثقة الصابرة، الثابتة، التي لم تزلزلها كثرة العدو وقوته، مع ضعفها وقلتها.. إذا هذه الفئة هي التي تقرر مصير المعركة، بعد أن تجدد عهدها مع الله، وتتجه بقلوبها إليه، وتطلب النصر منه وحده، وهي تواجه الهول الرعيب: ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾

7. هكذا.. ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾.. وهو تعبير يصور مشهد الصبر فيضا من الله يفرغه عليهم فيغمرهم، وينسكب عليهم سكينة وطمأنينة واحتمالا للهول والمشقة، ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾.. فهي في يده ـ سبحانه ـ يثبتها فلا تتزحزح ولا تتزلزل ولا تميد، ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.. فقد وضح الموقف.. إيمان تجاه كفر، وحق إزاء باطل، ودعوة إلى الله لينصر أولياءه المؤمنين على أعدائه الكافرين، فلا تلجلج في الضمير، ولا غبش في التصور، ولا شك في سلامة القصد ووضوح الطريق.

8. وكانت النتيجة هي التي ترقبوها واستيقنوها ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.. ويؤكد النص هذه الحقيقة: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.. ليعلمها المؤمنون أو ليزدادوا بها علما، وليتضح التصور الكامل لحقيقة ما يجري في هذا الكون، ولطبيعة القوة التي تجريه.. إن المؤمنين ستار القدرة؛ يفعل الله بهم ما يريد، وينفذ بهم ما يختار.. بإذنه.. ليس لهم من الأمر شيء، ولا حول لهم ولا قوة؛ ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته، فيكون منهم ما يريده بإذنه.. وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين.. إنه عبد الله، اختاره الله‏ لدوره، وهذه منة من الله وفضل، وهو يؤدي هذا الدور المختار، ويحقق قدر الله النافذ، ثم يكرمه الله ـ بعد كرامة الاختيار ـ بفضل الثواب.. ولولا فضل الله ما فعل، ولولا فضل الله ما أثيب.. ثم إنه مستيقن من نبل الغاية وطهارة القصد ونظافة الطريق.. فليس له في شيء من هذا كله أرب ذاتي، إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة قائم بما يريد، استحق هذا كله بالنية الطيبة والعزم على الطاعة والتوجه إلى الله في خلوص.

9. ويبرز السياق دور داوود: ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾.. وداوود كان فتى صغيرا من بني إسرائيل، وجالوت كان ملكا قويا وقائدا مخوفا.. ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها، إنما تجري بحقائقها، وحقائقها يعلمها هو، ومقاديرها في يده وحده، فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم، ويفوا الله بعهدهم، ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده، وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم.. وكانت هنالك حكمة أخرى مغيبة يريدها الله، فلقد قدر أن يكون داوود هو الذي يتسلم الملك بعد طالوت، ويرثه ابنه سليمان، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل؛ جزاء انتفاضة العقيدة في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾.. وكان داوود ملكا نبيا، وعلمه الله صناعة الزرد وعدة الحرب مما يفصله القرآن في مواضعه في سور أخرى.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/269.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ أما والقوم قد أبوا أن يصدّقوا إلا أن يروا بأعينهم، فقد ابتلاهم الله، ووضعهم أمام تجربة حسيّة يدعوهم إليها (طالوت) الذي جاءهم بالآيات ليحملهم على التصديق به.. وليس لهم بعد ذلك أن يخرجوا عن طاعته، بعد أن استيقنوا أن الله قد اصطفاه عليهم.. وها هو ذا يدعوهم إلى محنة قاسية، لم يكن لهم أن يتحللوا منها بحال أبدا.. إنها من طالوت، وإن طالوت من الله، وشاهده في يده! ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾

2. هذه هي التجربة، وهذا هو الابتلاء،! فالقوم عطشى والماء بين أيديهم، وكلمة الله إليهم: (ألّا يشربوا من هذا الماء وألا يرووا ظمأهم)، وفى هذا:

أ. أولا: امتحان لإيمانهم، واستجابتهم لما يدعون إليه، وهم في وجه تجربة أقسى وأمر، هي لقاء العدوّ الذي عرفوه وعرفوا بأسه وجبروته وبطشه بهم، وبآبائهم من قبل!

ب. وثانيا: أن ذلك رياضة لهم وتدريب على احتمال مكاره الحرب وأهوالها، وربما كان الظمأ أهون شيء فيها.

3. هذا بعض ما تنطوي عليه التجربة في كيانها، ولكن القوم لا يرون إلا ما يطفو على ظاهرها، وأنها ليست إلا تحكما من طالوت، لا يمليه عليه إلا حبّ التسلط والاستبداد، وهذا ما يضاعف من كمدهم وحقدهم.. ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم.. إنهم يحومون حول الماء ولا يردونه، وتحترق أكبادهم ظمأ ويحرم عليهم أن يشربوا منه.. ﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ﴾

4. وإن القوم لعلى ما هم عليه من فساد طوية واعتلال نية.. فخرجوا عن أمر نبيهم، وشربوا من النهر وعبّوا، إلا قليلا منهم ممن عافاه الله من هذه المحنة، فتجنّب النهر ولم يشرب منه! وقد اعتزل طالوت أولئك الذين شربوا، وخلص بالذين لم يشربوا أو اغترفوا غرفة بأيديهم.

5. وحين رأى القوم عدوّهم يقودهم قائدهم الجبار (جالوت) فزعوا واضطربوا وقالوا: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ ولكن قلة قليلة منهم ممن آمن بالله، ووثق بما أعده في الآخرة لعباده المؤمنين، فآثروا الآخرة على الدنيا، وزهدوا بما في أيديهم طمعا بما في يد الله ـ هؤلاء لم يلتفوا إلى ما وراءهم من أهل وولد ومال، ولم يخفهم الموت الراصد لهم في يد أعدائهم، فلم يهابوا العدوّ وكثرته وقوته، وأطمعهم هذا الشعور في عدوّهم، ورأوا أنهم في قلتهم المؤمنة الصابرة أقوى من عدوّهم الذي لا يؤمن بالله ولا يصبر على المكروه، إلا طمعا في مغانم الدنيا ومتاعها.. وإذ قال غيرهم ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ قالوا هم ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾

6. ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وثَبِّتْ أَقْدامَنا وانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ﴾ تلك عاقبة الصابرين في مواقع الحق، المجاهدين في سبيل الله، على بصيرة وهدى، لا يخطئهم النصر أبدا.

7. واضح من الآية الكريمة أن داوود عليه السلام كان في هذه الحرب جنديا من جنود طالوت، وأنه ببسالته وشجاعته قد تولى قتل قائد العدو جالوت، وبفعله هذا كان النصر والغلب.. ثم كان من فضل الله على داوود بعد هذا أن أتاه الله الملك والحكمة، وعلمه مما يشاء من علمه، فألان له الحديد، وعلمه صنعة الدروع للحرب، وجعل لصوته من حسن النغم ما جعل الحياة كلها من حوله تنسجم معه، وتستجيب له، وإذا هي معه صوت واحد، يسبح بحمد الله رب العالمين!

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/309.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. عطفت الفاء جملة: (لما فصل)، على جملة ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ﴾ [البقرة: 248] ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ﴾ [البقرة: 247] لأن بعث الملك لأجل القتال، يترتب عليه الخروج للقتال الذي سألوا لأجله بعث النبي، وقد حذف بين الجملتين كلام كثير مقدر: وهو الرضا بالملك، ومجيء التابوت، وتجنيد الجنود؛ لأن ذلك مما يدل عليه جملة فصل طالوت بالجنود.

2. معنى فصل بالجنود: قطع وابتعد بهم، أي تجاوزوا مساكنهم وقراهم التي خرجوا منها وهو فعل متعد لأن أصله فصل الشيء عن الشيء ثم عدوه إلى الفاعل فقالوا فصل نفسه حتى صار بمعنى انفصل، فحذفوا مفعوله لكثرة الاستعمال، ولذلك تجد مصدره‏ الفصل بوزن مصدر المتعدي، ولكنهم ربما قالوا فصل فصولا نظرا لحالة قصوره، كما قالوا صده صدا، ثم قالوا صد هو صدا، ثم قالوا صد صدودا، ونظيره‏ في حديث صفة الوحي‏ (أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال أي فيفصل نفسه عني، والمعنى فينفصل عني.

3. ضمير ﴿قَالَ﴾ راجع إلى ﴿طَالُوتُ﴾ [البقرة: 249]، ولا يصح رجوعه إلى نبيئهم لأنه لم يخرج معهم، وإنما أخبر طالوت عن الله تعالى بأنه مبتليهم، مع أنه لم يكن نبيئا، يوحى إليه: إما استنادا لإخبار تلقاه من صمويل، وإما لأنه اجتهد أن يختبرهم بالشرب من النهر لمصلحة رآها في ذلك، فأخبر عن اجتهاده، إذ هو حكم الله في شرعهم فأسنده إلى الله، وهذا من معنى قول علماء أصول الفقه إن المجتهد يصح له أن يقول فيما ظهر له باجتهاده إنه دين الله أو لأنه في شرعهم أن الله أوجب على الجيش طاعة أميرهم فيما يأمرهم به، وطاعة الملك فيما يراه من مصالحهم، وكان طالوت قد رأى أن يختبر طاعتهم ومقدار صبرهم بهذه البلوى فجعل البلوى من الله؛ إذ قد أمرهم بطاعته بها، وعلى كل فتسمية هذا التكليف ابتلاء تقريب للمعنى إلى عقولهم لأن المقصود إظهار الاعتناء بهذا الحكم، وأن فيه مرضاة الله تعالى على الممتثل، وغضبه على العاصي، وأمثال هذه التقريبات في مخاطبات العموم شائعة، وأكثر كلام كتب بني إسرائيل من هذا القبيل.

4. الظاهر أن الملك لما علم أنه سائر بهم إلى عدو كثير العدد، وقوي العهد أراد أن يختبر قوة يقينهم في نصرة الدين، ومخاطرتهم بأنفسهم وتحملهم المتاعب وعزيمة معاكستهم نفوسهم فقال لهم: إنكم ستمرون على نهر، وهو نهر الأردن، فلا تشربوا منه فمن شرب منه فليس مني، ورخص لهم في غرفة يغترفها الواحد بيده يبل بها ريقه، وهذا غاية ما يختبر به طاعة الجيش، فإن السير في الحرب يعطش الجيش، فإذا وردوا الماء توافرت دواعيهم إلى الشرب منه عطشا وشهوة، ويحتمل أنه أراد إبقاء نشاطهم: لأن المحارب إذا شرب ماء كثيرا بعد التعب، انحلت عراه ومال إلى الراحة، وأثقله الماء، والعرب تعرف ذلك قال طفيل يذكر خيلهم:

çفلما شارفت أعلام طي‏...وطيّ في المغار وفي الشعاب‏

سقيناهنّ من سهل الأداوى‏...فمصطبح على عجل وآبي‏é

يريد أن الذي مارس الحرب مرارا لم يشرب؛ لأنه لا يسأم من الركض والجهد، فإذا كان حاجزا كان أخفّ له وأسرع، والغر منهم يشرب لجهله لما يراد منه، ولأجل هذا رخص لهم في اغتراف غرفة واحدة.

5. النهر بتحريك الهاء وبسكونها للتخفيف، ونظيره في ذلك شعر وبحر وحجر فالسكون ثابت لجميعها.

6. ﴿فَلَيْسَ مِنِّي﴾ أي فليس متصلا بي ولا علقة بيني وبينه، وأصل (من) في مثل هذا التركيب للتبعيض، وهو تبعيض مجازي في الاتصال، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾ [آل عمران: 28] وقال النابغة:

çإذا حاولت في أسد فجورا...فإني لست منك ولست مني‏é

وسمى بعض النحاة (من) هذه بالاتصالية، ومعنى قول طالوت ﴿ليس مني﴾ يحتمل أنه أراد الغضب عليه والبعد المعنوي، ويحتمل أنه أراد أنه يفصله عن الجيش، فلا يكمل الجهاد معه، والظاهر الأول لقوله‏: ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ لأنه أراد به إظهار مكانة من ترك الشرب من النهر وولائه وقربه، ولو لم يكن هذا مراده لكان في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ غنية عن قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾؛ لأنه إذا كان الشارب مبعدا من الجيش فقد علم أن من لم يشرب هو باقي الجيش.

7. الاستثناء في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ من قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ﴾ لأنه من الشاربين، وإنما أخره عن هذه الجملة، وأتى به بعد جملة ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ﴾ ليقع بعد الجملة التي فيها المستثنى منه مع الجملة المؤكدة لها؛ لأن التأكيد شديد الاتصال بالمؤكد، وقد علم أن الاستثناء راجع إلى منطوق الأولى ومفهوم الثانية، فإن مفهوم ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ [البقرة: 249] أن من طعمه ليس منه، ليعلم السامعون أن المغترف غرفة بيده هو كمن لم يشرب منه شيئا، وأنه ليس دون من لم يشرب في الولاء والقرب، وليس هو قسما واسطة، والمقصود من هذا الاستثناء الرخصة للمضطر في بلال ريقه، ولم تذكر كتب اليهود هذا الأمر بترك شرب الماء من النهر حين مرور الجيش في قصة شاول، وإنما ذكرت قريبا منه إذ قال في سفر صمويل لما ذكر أشد وقعة بين اليهود وأهل فلسطين: (وضنك رجال إسرائيل في ذلك اليوم؛ لأن شاول حلف القوم قائلا ملعون من يأكل خبزا إلى المساء حتى أنتقم من أعدائي) وذكر في سفر القضاة في الإصحاح السابع مثل واقعة النهر، في حرب جدعون قاضي إسرائيل للمديانيين، والظاهر أن الواقعة تكررت لأن مثلها يتكرر فأهملتها كتبهم في أخبار شاول.

8. ﴿لَمْ يَطْعَمْهُ﴾ بمعنى لم يذقه، فهو من الطعم بفتح الطاء، وهو الذوق أي اختبار المطعوم، وكان أصله اختبار طعم الطعام أي ملوحته أو ضدها، أو حلاوته أو ضدها، ثم توسع فيه فأطلق على اختبار المشروب، ويعرف ذلك بالقرينة، قال الحارث بن خالد المخزومي وقيل العرجي:

çفإن شئت حرّمت النساء سواكم‏...وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا برداé

9. الغرفة بفتح الغين في قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي جعفر، المرّة من الغرف وهو أخذ الماء باليد، وقرأه حمزة وعاصم والكسائي ويعقوب وخلف، بضم الغين، وهو المقدار المغروف من الماء، ووجه تقييده بقوله تعالى: ﴿بِيَدِهِ﴾ مع أن الغرف لا يكون إلّا باليد لدفع توهم أن يكون المراد تقدير مقدار الماء المشروب، فيتناوله بعضهم كرها، فربما زاد على المقدار فجعلت الرخصة الأخذ باليد.

10. دل قوله تعالى: ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ﴾ على قلة صبرهم، وأنهم ليسوا بأهل لمزاولة الحروب، ولذلك لم يلبثوا أن صرحوا بعد مجاوزة النهر فقالوا: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ فيحتمل أن ذلك قالوه لما رأوا جنود الأعداء، ويحتمل أنهم كانوا يعلمون قوة العدو، وكانوا يسرون الخوف، فلما اقترب الجيشان، لم يستطيعوا كتمان ما بهم.

11. في الآية انتقال بديع إلى ذكر جند جالوت والتصريح باسمه، وهو قائد من قواد الفلسطينيين اسمه في كتب اليهود جليات كان طوله ستة أذرع وشبرا، وكان مسلحا مدرعا، وكان لا يستطيع أن يبارزه أحد من بني إسرائيل، فكان إذا خرج للصف عرض عليهم مبارزته وعيرهم بجنبهم.

12. ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ الآية، أي الذين لا يحبون الحياة ويرجون الشهادة في سبيل الله، فلقاء الله هنا كناية عن الموت في مرضاة الله شهادة وفي الحديث‏ (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)، فالظن على بابه.

13. في قوله تعالى: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ﴾ خبرية لا محالة إذ لا موقع للاستفهام فإنهم قصدوا بقولهم هذا تثبيت أنفسهم وأنفس رفقائهم، ولذلك دعوا إلى ما به النصر وهو الصبر والتوكل فقالوا: ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾

14. الفئة: الجماعة من الناس مشتقة من الفيء وهو الرجوع، لأن بعضهم يرجع إلى بعض، ومنه سميت مؤخرة الجيش فئة، لأن الجيش يفيء إليها.

15. ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ هذا دعاؤهم حين اللقاء بطلب الصبر من الله، وعبروا عن إلهامهم إلى الصبر بالإفراغ استعارة لقوة الصبر فإن القوة والكثرة يتعاوران الألفاظ الدالة عليهما، كقول أبي كبير الهذلي: (كثير الهوى شتّى النوى والمسالك)، وقد تقدم نظيره، فاستعير الإفراغ هنا للكثرة مع التعميم والإحاطة وتثبيت الأقدام استعارة لعدم الفرار شبه الفرار والخوف بزلق القدم، فشبه عدمه بثبات القدم في المأزق.

16. أشارت الآية في قوله تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُمْ﴾ الآية إلى انتصار بني إسرائيل على الفلسطينيين، وهو انتصار عظيم كان به نجاح بني إسرائيل في فلسطين وبلاد العمالقة، مع قلة عددهم فقد قال مؤرخوهم إن طالوت لما خرج لحرب الفلسطينيين جمع جيشا فيه ثلاثة آلاف رجل، فلما رأوا كثرة الفلسطينيين حصل لهم ضنك شديد واختبأ معظم الجيش في جبل افرايم في المغارات والغياض والآبار، ولم يعبروا الأردن، ووجم طالوت واستخار صمويل، وخرج للقتال فلما اجتاز نهر الأردن عد الجيش الذي معه فلم يجد إلّا نحو ستمائة رجل، ثم وقعت مقاتلات كان النصر فيها لبني إسرائيل، وتشجع الذين جبنوا واختبئوا في المغارات وغيرها فخرجوا وراء الفلسطينيين وغنموا غنيمة كثيرة، وفي تلك الأيام من غير بيان في كتب اليهود لمقدار المدد بين الحوادث ولا تنصيص على المتقدم‏ منها والمتأخر ومع انتقالات في القصص غير متناسبة، ظهر داوود بن يسى اليهودي إذ أوحى الله إلى صمويل أن يذهب إلى بيت يسى في بيت لحم ويمسح أصغر أبناء يسى ليكون ملكا على إسرائيل بعد حين، وساق الله داوود إلى شاول (طالوت) بتقدير عجيب فحظى عند شاول، وكان داوود من قبل راعي غنم أبيه، وكان ذا شجاعة ونشاط وحسن سمت، وله نبوغ في رمي المقلاع، فكان ذات يوم التقى الفلسطينيون مع جيش طالوت وخرج زعيم من زعماء فلسطين اسمه جليات كما تقدم، فلم يستطع أحد مبارزته فانبرى له داوود ورماه بالمقلاع فأصاب الحجر جبهته وأسقطه إلى الأرض واعتلاه داوود واخترط سيفه وقطع رأسه، فذهب به إلى شاول وانهزم الفلسطينيون، وزوج شاول ابنته المسماة ميكال من داوود، وصار داوود بعد حين ملكا عوض شاول، ثم آتاه الله النبوءة فصار ملكا نبيئا، وعلمه مما يشاء، ويأتي ذكر داوود عند قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ في سورة الأنعام.

17. ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251] ذيلت هذه الآية العظيمة كل الوقائع العجيبة التي أشارت بها الآيات السالفة لتدفع عن السامع المتبصر ما يخامره من تطلب الحكمة في حدثان هذه الوقائع وأمثالها في هذا العالم ولكون مضمون هذه الآية عبرة من عبر الأكوان وحكمة من حكم التاريخ، ونظم العمران التي لم يهتد إليها أحد قبل نزول هذه الآية، وقبل إدراك ما في مطاويها، عطفت على العبر الماضية كما عطف قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ﴾ [البقرة: 247] وما بعده من رؤوس الآي، وعدل عن المتعارف في أمثالها من ترك العطف، وسلوك سبيل الاستئناف.

18. قرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب (ولولا دفاع الله الناس) بصيغة المفاعلة، وقرأه الجمهور (دفع) بصيغة المجرد، والدفاع مصدر دافع الذي هو مبالغة في دفع لا للمفاعلة، كقول موسى بن جابر الحنفي:

çلا أشتهي يا قوم إلّا كارها...باب الأمير ولا دفاع الحاجب‏é

وإضافته إلى الله مجاز عقلي كما هو في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحج: 38] أي يدفع لأن الذي يدفع حقيقة هو الذي يباشر الدفع في متعارف الناس وإنما أسند إلى الله لأنه الذي قدره وقدر أسبابه، ولذلك قال: ﴿بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ فجعل سبب الدفاع بعضهم وهو من باب‏ ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال: 17] وأصل معنى الدفع الضرب باليد للإقصاء عن المرام، قال فدفعتها فتدافعت‏ وهو ذب عن مصلحة الدافع، ومعنى الآية: أنه لولا وقوع دفع بعض الناس بعضا آخر بتكوين الله وإيداعه قوة الدفع وبواعثه في الدافع لفسدت الأرض، أي من على الأرض، واختل نظام ما عليها، ذلك أن الله تعالى لما خلق الموجودات التي على الأرض من أجناس وأنواع وأصناف، خلقها قابلة للاضمحلال، وأودع في أفرادها سننا دلت على أن مراد الله بقاؤها إلى أمد أراده، ولذلك نجد قانون الخلفية منبثا في جميع أنواع الموجودات فما من نوع إلّا وفي أفراده قوة إيجاد أمثالها لتكون تلك الأمثال أخلافا عن الأفراد عند اضمحلالها، وهذه القوة هي المعبر عنها بالتناسل في الحيوان، والبذر في النبت، والنضح في المعادن، والتولد في العناصر الكيماوية، ووجود هذه القوة في جميع الموجودات أول دليل على أن موجدها قد أراد بقاء الأنواع، كما أراد اضمحلال الأفراد عند آجال معينة، لاختلال أو انعدام صلاحيتها، ونعلم من هذا أن الله خالق هذه الأكوان لا يحب فسادها، وقد تقدم لنا تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: 205]

19. ثم إن الله تعالى كما أودع في الأفراد قوة بها بقاء الأنواع، أودع في الأفراد أيضا قوى بها بقاء تلك الأفراد بقدر الطاقة، وهي قوى تطلّب الملائم ودفع المنافي، أو تطلّب البقاء وكراهية الهلاك، ولذلك أودع في جميع الكائنات إدراكات تنساق بها، بدون تأمل أو بتأمل، إلى ما فيه صلاحها وبقاؤها، كانسياق الوليد لالتهام الثدي، وأطفال الحيوان إلى الأثداء والمراعي، ثم تتوسع هذه الإدراكات، فيتفرع عنها كل ما فيه جلب النافع الملائم عن بصيرة واعتياد، ويسمى ذلك بالقوة الشاهية، وأودع أيضا في جميع الكائنات إدراكات تندفع بها إلى الذب عن أنفسها، ودفع العوادي عنها، عن غير بصيرة، كتعريض اليد بين الهاجم وبين الوجه، وتعريض البقرة رأسها بمجرد الشعور بما يهجم عليها من غير تأمل في تفوق قوة الهاجم على قوة المدافع، ثم تتوسع هاته الإدراكات فتتفرع إلى كل ما فيه دفع المنافر من ابتداء بإهلاك من يتوقع منه الضر، ومن طلب الكن، واتخاذ السلاح، ومقاومة العدو عند توقع الهلاك، ولو بآخر ما في القوة وهو القوة الغاضبة ولهذا تزيد قوة المدافعة اشتدادا عند زيادة توقع الأخطار حتى في الحيوان، وما جعله الله في كل أنواع الموجودات من أسباب الأذى لمريد السوء به أدل دليل على أن الله خلقها لإرادة بقائها، وقد عوّض الإنسان عما وهبه إلى الحيوان العقل والفكرة في التحيل على النجاة ممن يريد به ضررا، وعلى إيقاع الضر بمن يريده به قبل أن يقصده به، وهو المعبر عنه بالاستعداد.

20. ثم إنه تعالى جعل لكل نوع من الأنواع، أو فرد من الأفراد خصائص فيها منافع لغيره ولنفسه ليحرص كل على إبقاء الآخر، فهذا ناموس عام، وجعل الإنسان بما أودعه من العقل هو المهيمن على بقية الأنواع، وجعل له العلم بما في الأنواع من الخصائص، وبما في أفراد نوعه من الفوائد، فخلق الله تعالى أسباب الدفاع بمنزلة دفع من الله يدفع مريد الضر بوسائل يستعملها المراد إضراره، ولولا هذه الوسائل التي خولها الله تعالى أفراد الأنواع، لاشتد طمع القوي في إهلاك الضعيف، ولاشتدت جراءة من يجلب النفع إلى نفسه على منافع يجدها في غيره، فابتزها منه، ولأفرطت أفراد كل نوع في جلب النافع الملائم إلى أنفسها بسلب النافع الملائم لغيرها، مما هو له، ولتناسى صاحب الحاجة حين الاحتياج ما في بقاء غيره من المنفعة له أيضا، وهكذا يتسلط كل ذي شهوة على غيره، وكل قوي على ضعيفه، فيهلك القوي الضعيف، ويهلك الأقوى القويّ، وتذهب الأفراد تباعا، والأنواع كذلك حتى لا يبقى إلّا أقوى الأفراد من أقوى الأنواع، وذلك شيء قليل، حتى إذا بقي أعوزته حاجات كثيرة لا يجدها في نفسه، وكان يجدها في غيره من أفراد نوعه، كحاجة أفراد البشر بعضهم إلى بعض، أو من أنواع أخر، كحاجة الإنسان إلى البقرة، فيذهب هدرا.

21. لما كان نوع الإنسان هو المهيمن على بقية موجودات الأرض وهو الذي تظهر في أفراده جميع التطورات والمساعي، خصته الآية بالكلام فقالت: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ إذ جعل الله في الإنسان القوة الشاهية لبقائه وبقاء نوعه، وجعل فيه القوة الغاضبة لرد المفرط في طلب النافع لنفسه، وفي ذلك استبقاء بقية الأنواع؛ لأن الإنسان يذب عنها لما في بقائها من منافع له، وبهذا الدفاع حصلت سلامة القوي، وهو ظاهر، وسلامة الضعيف أيضا لأن القوي إذا وجد التعب والمكدرات في جلب النافع سئم ذلك، واقتصر على ما تدعو إليه الضرورة، وإنما كان الحاصل هو الفساد، لولا الدفاع، دون الصلاح، لأن الفساد كثيرا ما تندفع إليه القوة الشاهية بما يوجد في أكثر المفاسد من اللذات العاجلة القصيرة الزمن، ولأن في كثير من النفوس أو أكثرها الميل إلى مفاسد كثيرة، لأن طبع النفوس الشريرة ألا تراعي مضرة غيرها، بخلاف النفوس الصالحة، فالنفوس الشريرة أعمد إلى انتهاك حرمات غيرها، ولأن الأعمال الفاسدة أسرع في حصول آثارها وانتشارها، فالقليل منها يأتي على الكثير من الصالحات، فلا جرم لولا دفاع الناس بأن يدافع صالحهم المفسدين، لأسرع ذلك في فساد حالهم، ولعم الفساد أمورهم في أسرع وقت.

22. أعظم مظاهر هذا الدفاع هو الحروب؛ فبالحرب الجائرة يطلب المحارب غصب منافع غيره، وبالحرب العادلة ينتصف المحق من المبطل، ولأجلها تتألف العصبيات والدعوات إلى الحق، والإنحاء على الظالمين، وهزم الكافرين.

23. ثم إن دفاع الناس بعضهم بعضا يصد المفسد عن محاولة الفساد، ونفس شعور المفسد بتأهب غيره لدفاعه يصده عن اقتحام مفاسد جمة.

24. معنى فساد الأرض: إما فساد الجامعة البشرية كما دل عليه تعليق الدفاع بالناس، أي لفسد أهل الأرض، وإما فساد جميع ما يقبل الفساد فيكون في الآية احتباك، والتقدير: ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض وبقية الموجودات بعضها ببعض لفسدت الأرض أي من على الأرض ولفسد الناس.

25. الآية مسوقة مساق الامتنان، فلذلك قال تعالى: ﴿لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ لأنا لا نحب فساد الأرض، إذ في فسادها ـ بمعنى فساد ما عليها ـ اختلال نظامنا وذهاب أسباب سعادتنا، ولذلك عقبه بقوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251] فهو استدراك مما تضمنته (لولا) من تقدير انتفاء الدفاع؛ لأن أصل لولا لو مع لا النافية، أي لو كان انتفاء الدفاع موجودا لفسدت الأرض وهذا الاستدراك في هذه الآية أدل دليل على تركيب (لولا) من (لو) و(لا)، إذ لا يتم الاستدراك على قوله تعالى: ﴿لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ لأن فساد الأرض غير واقع بعد فرض وجود الدفاع، إن قلنا (لولا) حرف امتناع لوجود، وعلق الفضل بالعالمين كلهم لأن هذه المنة لا تختص.

26. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ الإشارة إلى ما تضمنته القصص الماضية وما فيها من العبر، ولكن الحكم العالية في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: 251]، وقد نزّلها منزلة المشاهد لوضوحها وبيانها وجعلت آيات لأنها دلائل على عظم تصرف الله تعالى وعلى سعة علمه.

27. ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ خطاب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلم تنويها بشأنه وتثبيتا لقلبه، وتعريضا بالمنكرين رسالته، وتأكيد الجملة بإنّ للاهتمام بهذا الخبر، وجيء بقوله (من المرسلين) دون أن يقول: وإنك لرسول الله، للرد على المنكرين بتذكيرهم أنه ما كان بدعا من الرسل، وأنه أرسله كما أرسل من قبله، وليس في حاله ما ينقص عن أحوالهم.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/473.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. حمل طالوت الملك راية الجند إلى ميدان الجهاد، وكذلك يكون الملك حقا؛ ولكنه قبل أن يتقدم للقاء عدوهم، أراد أن يختبر قوة إرادتهم وصدق عزيمتهم، وذلك بمعرفة مقدار استيلائهم على أنفسهم، فمن استولى على نفسه فهو معه في الجهاد، ومن لم يستطع جهاد نفسه، فهو عن لقاء العدو أعجز: قال لهم ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ فإنه منى، ولكن النتيجة ظهرت في هذا الامتحان مبينة أن القليل هم الذين استطاعوا أن يجاهدوا أنفسهم وينتصروا عليها ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ وهم الذين اجتاز بهم النهر، وترك الآخرين مخلفين مع نفوسهم التي لم يستطيعوا التغلب عليها.

2. أصبح جند طالوت قليلي العدد، وليس فيهم إلا مجاهد مجالد مصابر، ولكن اعتراهم شيء من رهبة الموقف؛ إذ رأوا عدوهم كثير العدد عظيم العدد يعتز بكثرته وعدته وسابق غلبته، فقالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، ولكن الصفوة من تلك الصفوة لم تعترها تلك الرهبة ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، فتقدم الجميع مستعينين بقوة الله‏ ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، وبالإيمان القوى، والعزيمة الصادقة، والتفويض المطلق لرب القدرة والعزة، انتصرت الفئة القليلة على الفئة الكثيرة ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾

3. آل الأمر من بعد طالوت إلى داوود ومعه عزة بنى إسرائيل‏ ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251]

4. هذه قبسة من قصص الذكر الحكيم في جهاد بنى إسرائيل، وإن العبر فيه لكثيرة، فهي تشير إلى الشدة كيف تصهر النفوس فتجعلها تتجه نحو المعالى‏ فتطلبها، وكيف يكون الدين أساس العزة لمن غلبت عليهم الشقوة، وأنه لا سلطان من غير إمرة يعمل تحت سلطانها البر، ويزجر بها الفاجر، وأن الأمير يجب أن يكون له من قوة العقل وقوة الجسم وسعة العلم وكمال التجربة ما يقود به الشعب إلى صالح الأمور، وأن أساس الانتصار السيطرة على النفس فلا يغلب خصمه من لا يغلب نفسه، ولا يقمع عدوه من لا يقمع شهوته، وإنه بعد أخذ الأهبة يفوض المجاهد أمره إلى الله، ويتوكل عليه، بعد هذا نتجه إلى تتبع الآيات الكريمة آية آية، مستنبطين العبر من ثناياها كما تلوح العبر في مجموعها.

5. ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ تولى طالوت إمرة بنى إسرائيل، وقيادة جيوشهم، وتقدم بهم للانتصاف ممن أرهقوهم وأذلوهم؛ فخرج بهم من هدوء الاستخذاء والاستكانة إلى ميدان الجهاد، و(فصل) معناها انفصل، وقد قال في ذلك الزمخشري (فصل عن موضع كذا إذا انفصل عنه وجاوزه، وأصله فصل نفسه، ثم كثر حذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدى ك (انفصل)، وقيل فصل عن البلد فصولا، ويجوز أن يكون فصله فصلا، وفصل فصولا، كوقف وصد، ونحوهما؛ والمعنى انفصل عن بلده) ويستفاد من هذا النقل أن فصل تستعمل لازمة ومتعدية عند بعض اللغويين، وعند الأكثرين هي متعدية أجريت مجرى اللازم لكثرة حذف المفعول.

6. لما خرج طالوت بجند بنى إسرائيل قال لهم: إن الله مبتليكم أي مختبركم (بنهر) وهو بالفتح والسكون لغتان فيه؛ والنهر: المجرى الواسع الذي يجرى فيه الماء، مأخوذ من نهر الأرض بمعنى شقها شقا واسعا.

7. يحتمل الابتلاء هنا وجهين:

أ. ابتلاء لمعرفة مقدار طاعة جنده؛ لأنهم بايعوه وما أرادوا، وقبلوا ملكه وما كادوا يفعلون، فأراد قبل أن يخوض غمار الحرب أن يعرف من أذعن ورضى فيقاتل به؛ لأنه يكون كنفسه، ومن كان في قلبه ذرة من التمرد أو عدم الإذعان القلبي، فإنه ليس له به حاجة، والنصرة في الجيش باتحاد القلوب والقوة المعنوية، وحسن الطاعة للقيادة، فجند قليل متحدة أهواؤهم ينتصرون بعون الله، على ذلك جمهور المفسرين.

ب. ويصح أن يكون المراد بابتلاء الله لهم أنهم يفصل بينهم وبين أعدائهم نهر، وقد وصلوا إليه مجهدين من العطش والتعب، فخشى أنهم إن مكثوا حوله، وملئوا مزاداتهم وبطونهم واستراحوا واستجموا، أحس بهم أعداؤهم، فاجتازوا النهر إليهم، وأبعدوهم عنه؛ فأراد طالوت أن يأخذ عدوه بالجولة الأولى المفاجئة، فيجتاز النهر قبل أن يحسوا به، وإن اجتازوه صار النهر في قبضتهم يشربون منه ما شاءوا من غير حاجة إلى التزود، وكانوا هم على الماء، وعدوهم أسفل منه، هذا احتمال قريب لا ينافيه نسق القرآن الكريم، ويتحقق فيه معنى الابتلاء الشديد؛ لأن كونهم بجوار الماء بعد جهد وعطش، ولا يأخذون منه إلا غرفات تذهب بالعطش من غير شبع وتزود منه، هذا بلا شك ابتلاء من الله، ويتحقق فيه أيضا معنى الاختبار للطاعة، وهو يتفق مع الخطط الحربية؛ لأن الفجاءة في الحروب‏ سلاح يقتل ويفرق الجمع، ثم فيه اختبار لعزائمهم وقوة إرادتهم فوق اختبار طاعتهم.

8. ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ أي فمن شرب منه متزودا مستجما حوله مستبردا بمائه مستمتعا به مستنيما إلى الراحة بجواره‏ ﴿فَلَيْسَ مِنِّي﴾ أي فليس في قيادتي، بل هو خارج على طاعتي، وليس معنا في هذا الجهاد المتعب في أوله، والمثمر في آخره؛ ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ﴾ أي لم يذقه‏ ﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ أي أنه لم يذق من ماء النهر إلا بقدر اغترافه بيده ما يبل عطشه، وينقع غلته، ويدفع حاجته العاجلة من الماء أي فمن لم ينل من ماء النهر إلا بهذا القدر ﴿فَإِنَّهُ ﴿مَنِيٍّ﴾ أي معي في جندي، وهو في سلطان قيادتي، وله معي غب النصرة وفخار الانتصار، والاغتراف هو الأخذ من الشيء باليد، والغرفة مقدار الماء الذي يغترف باليد.

9. هنا بحث لفظي نبه إليه الزمخشري وهو تقديم جواب الشرط على الاستثناء من الشرط، فقد قال: ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً﴾ وكان التأليف المعهود للناس أن يقال: (ومن لم يطعمه إلا من اغترف غرفة بيده فإنه منى) ولكن النص السامي جاء بتقديم الجواب على مستثنى الشرط لحكمة بليغة، وهى المسارعة إلى الحكم بالاتصال؛ وإثبات أن أساس الصلة التي تربطهم ألا ينالوا من الماء، ثم رخص لهم في الغرفة بيد لنقع الغلة، وذلك ليقللوا ما كان في طاقتهم التقليل؛ لأنهم إن استرسلوا في أخذ الماء لا يقفوا عند القليل، بل ينالوا منه الكثير.

10. ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ لم تكن نتيجة ذلك الامتحان الذي اختبرت فيه حكمتهم، وطاعتهم، وعزيمتهم تتفق مع رغبتهم في العزة بدل الذلة، فلم ينظروا إلى المآل بدل الحال، لم يصبروا على التعب الوقتي بالعطش ليفاجئوا عدوهم في عقر داره، وما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا؛ ولم يطيعوا قائدهم الحكيم، والطاعة أساس الجندية؛ ولم يستحصدوا بعزائمهم فلا يستنيموا إلى الراحة قبل وقتها، ولذا قال تعالى: ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ أي فشربوا منه وكرعوا واستراحوا حوله واستجموا قبل أن يجيء وقت الاستجمام، إلا قليلا منهم ربط الله على قلوبهم؛ وبذلك لم يطيعوا ولم يصبروا، ولم يجمعوا عزمهم متحملين التعب العاجل، في نظير النصر والظفر الآجل.

11. قرأ أبى والأعمش (إلا قليل) ومن المعروف أن المستثنى بعد الكلام التام الموجب يكون المستثنى منه منصوبا، فما وجه الرفع هنا؟ قالوا: إن معنى ﴿فَشَرِبُوا﴾ [البقرة: 249] أنهم ليسوا منه؛ لأنه تبين الارتباط اللازم بين الشرب، وكونهم ليسوا منه، فقد قال تعالى: ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ فالمعنى إذن (فليسوا منه إلا قليل منهم) فقراءة الرفع إيماء بليغ بمقتضى المنهاج العربي إلى تضمن فشربوا معنى فليسوا منه المصرح بها سابقا، ولقد قال في ذلك الزمخشري (قرأ أبى والأعمش إلا قليل بالرفع، وهذا مع ميلهم إلى المعنى، وإعراض عن اللفظ جانبا، وهو باب جليل من علم العربية، فلما كان معنى فشربوا منه: فلم يطيعوه، حمل عليه، كأنه قيل فلم يطيعوه إلا قليل منهم)، وإن لذلك فائدة بلاغية هي أنه كما قلنا إيماء إلى النتيجة المقررة للشرب، وكأنه تصريح بها، وهى أنهم ليسوا منه وقد انقطعت الصلة بينهم وبينه، فصاروا في ضفة من النهر مستريحين مستنيمين إلى هوى النفس، وطالوت ومن معه قد صاروا في الضفة الأخرى، قد فاجئوا العدو وحالوا بينه وبين الماء.

12. ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ [البقرة: 249] اجتاز طالوت النهر مع الذين صبروا على العطش والتعب، ولم ينالوا من الماء إلا ما يدفع العطش المميت؛ ولقد عبر سبحانه عن أولئك الصابرين الطائعين المدركين بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ للإشارة إلى أن الإيمان بالله والإذعان له سبحانه هو السبب في طلبهم العزة، وتحملهم المشاق في سبيلها، والصبر على المتاعب لنيلها، والطاعة لمن اصطفاه الله وليا لأمرهم، ومدبرا لشئونهم، وقائدا لهم في ميدان العزة والكرامة.

13. الضمير في قوله تعالى: ﴿قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ يحتمل أن يعود على بعض الذين اجتازوا النهر، ويحتمل أن يعود على الذين استناموا للراحة ولم يجتازوا النهر.

أ. وعلى الأول يكون المعنى: إن الذين اجتازوا النهر، وهم الطائعون الصابرون المعتزمون كانوا فريقين: فريق هاله العدو وكثرته، فاعتراهم الخوف، وقالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت (وهو قائد جيش العدو) وجنوده؛ وفريق آخر لم تأخذ فؤاده الكثيرة ولم يذهب قلبه شعاعا، وهم الذين قال سبحانه وتعالى عنهم ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، وكأنه على هذا التخريج يكون بنو إسرائيل مراتب ثلاثا:

أولاها وأدناها: أولئك الذين ارتضوا بالعصيان وخالفوا أمر قائدهم.

الثانية: أولئك الذين اجتازوا النهر وأطاعوا، ولكن هالتهم الكثرة الكاثرة، وحسبوها الكارثة.

والمرتبة العليا هم أولئك الذين آمنوا بلقاء الله تعالى، وفضلوا الباقية على الفانية، وباعوا أنفسهم لله سبحانه وتعالى.

ب. وعلى أن الضمير في (قالوا) يعود على الذين لم يجتازوا النهر، يكون المعنى: إن الذين استناموا للراحة، وآثروا العصيان تقاولوا فيما بينهم وقالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، أي أننا في حاجة إلى الراحة اليوم وإذا نلنا حظنا من الاستجمام والماء فقد يكون اللقاء، وأما الفريق الذين اجتازوا النهر، فقد وجدوا أنفسهم قلة قليلة أمام جموع كثيرة، وقد تخلف من إخوانهم الأكثرون، وقعدوا في الضفة الأخرى مخالفين، ولكنهم مطمئنون إلى نصر الله وتأييدهم وقد آمنوا بالآخرة فطلبوا الموت لينالوا الحياة، كما قال بعضهم: (اطلب الموت توهب لك الحياة)، وقالوا ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾

14. معنى ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ [البقرة: 249]: لا قدرة لنا اليوم على ملاقاة جالوت وجنوده، ولو بتحمل أقصى المشقة؛ إذ الطاقة معناها أقصى ما يبذل من مشقة لحمل الأمر، وإذ انتفى ذلك فمعناه أن الأمر مستحيل بالنسبة لقدرهم، وهذا هو ما يصوره الضعف والاستخذاء، واستمراء الذلة والضعة والهوان، ولأن القائلين لذلك القول فيهم هذه الصفات، نرجح أن الضمير يعود على الذين لم يجتازوا النهر ورضوا بالمقام مع العصيان.

15. هذا قول الذين عصوا وذلوا، أما قول الآخرين فقد حكاه الله تعالى بقوله: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ الظن هنا بمعنى العلم القطعي الجازم؛ لأن شأن المؤمن أن يؤمن بالله ورسله واليوم الآخر إيمانا قاطعا جازما لا شك فيه، وإنما عبر عن العلم اليقيني في هذا المقام بلفظ الظن لسببين:

أ. أحدهما: أن اليوم الآخر مغيب غير محسوس.

ب. ثانيهما: أن الظن يتضمن معنى الرجاء، ورجاء لقاء الله سبحانه وتعالى راضيا عن فعل العبد يدفعه إلى العمل والجهاد في سبيله، وبيع النفس في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى.

وصف الله تعالى أولئك الثابتين الصابرين الذين أرادوا العزة فافتدوها بأنفسهم وأعظموا الفداء بأنهم الذين يظنون أنهم ملاقو الله، بيان للباعث القوى الدافع للرضا بالفداء، والصبر على البلاء؛ وذلك لأن الإيمان بلقاء الله يجعل المرء يستهين بكل ما ينزل به في الدنيا؛ لأنه مهما يكن مقداره، تعب ضئيل في مقابل نعيم مقيم يوم القيامة، ولأنه مهما يكن ما يلقاه من عنت في الدنيا لا يعد شيئا مذكورا في نظير لقاء الله تعالى راضيا عنه، متقبلا لأعماله، فذلك الرضوان دونه الدنيا كلها بحذافيرها.

16. إذا كان المؤمن بلقاء الله المستشعر لعظمته يستهين بكل ما في الدنيا ومن فيها، فهو مستهين بعدوه مهما تكن كثرته؛ ولذلك قالوا ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ الفئة: الجماعة المتعاونة المتساندة التي يفيء بعضها إلى بعض، ويظاهر بعضها بعضا، والمعنى كم من مرات كثيرة غلبت جماعة متعاضدة قليلة العدد جماعة كثيرة العدد، لقوة إيمانهم بالله وبحقهم.

17. فى هذا إشارة إلى أن من أسباب النصر ألا يؤخذ الخصم بقوة خصمه بأكثر من أن يستعد له ويأخذ الأهبة للقائه؛ أما إن هاله أمره فإنه لا محالة مغلوب؛ لأن القوة المعنوية ذخيرة فوق العدة والسلاح، ولا تكون القوة المعنوية لقوم يرهبون لقاء عدو الله وعدوهم، بعد أن اتخذوا الأهبة، واختار الله سبحانه وتعالى لهم القيادة الرشيدة، ذات الرأي السديد؛ والمنهج الحميد.

18. ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ختم الله سبحانه وتعالى الآيات التي تفيد الاستعداد للقتال بتهيئة النفوس، واتخاذ سلاح المفاجأة أول سلاح يرفع ضد الأعداء ـ ببيان سلاح آخر هو أمضى الأسلحة التي تغالب الزمان، وتناضل الحدثان، وهو الصبر، فقال سبحانه ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ أي أن على الذين يتقدمون للجهاد في سبيل الله أن يدرعوا بالصبر، ويجعلوه أخص صفاتهم، ويستمسكوا به؛ فإن الله سبحانه وتعالى مع الصابرين، والمصاحبة الكريمة التي أفاض الله بها على الصابرين فقال: ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ هي مصاحبة النصرة والتأييد والتوفيق، فالله جل جلاله، وعظمت قدرته، مع الصابرين، ومن كان الله معه فهو منصور، فإنه هو نعم المولى ونعم النصير.

19. ثم ذكر الله تعالى اجتياز المؤمنين الصابرين النهر، وأنهم جمعوا عزائمهم في عزيمة واحدة، وقدروا النصر مع قلتهم وكثرة عدوهم؛ لأن الإيمان بالحق وحده عدة هي أقوى عدد الجهاد، وبهذه النفوس المؤمنة المتوثبة المفوضة أمورها لرب العالمين، تقدموا للقاء الأعداء، ولم يغرهم بالله الغرور ولم يفرضوا أن قوة البدن والسلاح والشعور بالحق وحدها كافية للنصر بل لا بد من تأييد الله؛ ولذا قال سبحانه في وصفهم في ميدان القتال: ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ أي أنهم خرجوا إلى الأرض الفضاء المتسعة التي تتلاقى فيها القوى المناضلة، (فبرزوا) معناها خرجوا إلى البراز، أي الفضاء المتسع المترامي الأطراف، وكان بروزهم وظهورهم لقوى جبار غالب، ومعه جند مدرب تعوّد الانتصار في الماضي وأذاق بنى إسرائيل من الذل أكؤسا؛ ذلك هو جالوت وجنوده.

20. ذكره الله تعالى بالاسم ومعه جنوده للإشعار بأن المؤمنين لاقوا جماعة موحدة منظمة، لها فوق كثرة العدو والعدد قوة النظام وتوحيد القيادة وقوة الانتصار في الماضي والغلب عليهم، ولكن التعبير يشعر مع ذلك بأمر آخر قد يكون من أسباب الضعف مع هذه القوة وهو أنهم جند لشخص واحد، يعملون لغايته بمصلحته وسلطانه، بل شهواته ورغباته، فهم لا يعملون لأنفسهم وجماعتهم، بل يعملون لملكهم، وكأنهم مع دربتهم وقوتهم وغلبهم مسخرون لإرادة شخص وهواه، وذلك من أسباب ضعف الإرادات، وعدم الصبر عند الشدائد، وهكذا حكم الواحد المستبد، يحمل في داخله دائما عوامل ضعفه مهما يكن فيه من توحيد وتنظيم للقوى وجمع للقيادة، وذلك يكون إذا كان حكم الفرد صالحا، ولم يكن فسادا غاشما وطغيانا آثما.

21. عندما التقى المؤمنون الصابرون من بنى إسرائيل بعدوهم، هالهم أمره، وهالهم أمر قائده، ولكنهم كانوا مستولين على قلوبهم، مؤمنين بالنصر أن أخلصوا في أمرهم، وشروا أنفسهم لربهم؛ ولذلك اتجهوا إليه بعد أن أخذوا الأهبة، فدعوه ضارعين بثلاث عبارات مفوضة تفيد إدراك أسباب النصر:

أ. أما الدعاة الأول فهو ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ يقال أفرغ الإناء: صب ما فيه من ماء، وأفرغ الدلو على نفسه: صب ما فيه من ماء على نفسه، فمعنى أفرغ علينا: أفض علينا صبرا يعمنا في ظاهر جمعنا، وفى خاصة نفوسنا، فالتعبير بـ ﴿أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ فيه استعارة تمثيلية شبه فيه حالهم والله سبحانه وتعالى يفيض عليهم بالصبر يظهر في جماعتهم مجتمعة وفى الأفراد منفردين بحال الماء يفرغ على الجسم فيعبه كله، يعم ظاهره ويتسرب إلى باطنه، فيلقى في القلوب بردا وسلاما، وهدوءا واطمئنانا، وصدروا الدعاء بالنداء (ربنا) أي خالقنا ومنشئنا ومربينا ومميتنا، وفى ذلك إشعار بأنهم دعوا مجيبا، وضرعوا إلى قادر غالب، وإلى منشئ موجد، فهو قادر على أن يأويهم بالصبر، ويغنيهم به عن نقص العدد، وابتدؤوا بالدعاء بالصبر؛ لأن الصبر هو عدة القتال الأولى، وهو ذخيرة المؤمنين وبه ضبط النفس فلا تفزع، وبه يجتمع قلب الشجاع فلا يجزع، والانتصار في القتال بصبر ساعة، والصبر عند اللقاء الأول هو الذي تتبدد به قوى العدو مهما تكاثرت؛ ولذا قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى)

ب. والدعاء الثاني الذي ضرعوا إلى ربهم فيه قولهم ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ وهذا كناية عن أن يمنحهم سبحانه وتعالى الثبات في الزحف وعدم الفرار في النزال، فمعنى ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ أي ثبتنا، ومكنا من عدونا، ولا تمكن عدونا منا، ولا تجعل للفرار سبيلا إلى قلوبنا، فالتعبير بقوله تعالى: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ تعبير بالجزء وإرادة الكل؛ لأن الأقدام هي التي يكون بها الفرار، فتثبيتها إبعاد للفرار بثبات أداته وعدم تحركها إلا إلى الأمام، وأن الثبات مظهر الصبر، وذريعة النصر بل مظهر القوة، وعنده تتحطم قوى العدو، وتتفرق كلمته إذا لم يكن محاربا في سبيل حق، بل كان يقيم الظلم ويؤيد الباطل.

ج. والدعاء الثالث، وهو قولهم ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ وإن إجابة هذا الدعاء هو تحقيق لثمرة الصبر والثبات، وكان الدعاء بتحقيقه للإشارة إلى أن الأمور كلها بيد الله، وإن أولئك المؤمنين الصابرين الثابتين كانوا يأخذون بالأسباب، ثم يفوضون الأمور إلى الله مسبب الأسباب معتقدين أنه مهما يتحقق السبب ولا تكون المعونة الإلهية، والتوفيق الربانى، والتأييد من القوى الجبار ـ فلن يكون الانتصار، وأن الجيش القوى مهما يكن عنده من صبر وثبات يجب أن يؤمن بأن النصر من عند الله العزيز الحكيم القوى الغالب على كل شيء، وقد رأينا في العصور الحديثة قادة عظاما يأخذون بالأسباب ثم ينهزمون، مع أن تحت سلطانهم جنودا مدربين طائعين صابرين ولكنهم لم يقولوا: المستقبل بيد الله، بل قالوا: المستقبل بأيدينا، فكف الله أيديهم عن الناس، وكانوا عبرة المعتبرين.

22. ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ الفاء هنا للسببية، أي أنه بسبب قوة عزائمهم، وحسن صبرهم واتجاههم إلى ربهم ضارعين أن يلهمهم الصبر عند اللقاء، والثبات عند الزحف، والنصر في النهاية لأنه المالك لكل شيء، بسبب كل هذا هزموهم بإذن الله، أي بتوفيقه سبحانه وإرادته وهدايته، وإمداده سبحانه بعونه بعد اتخاذهم الأسباب كلها، وأصل الهزم معناه الكسر، وكثر استعماله في كسر الأعداء، وتشتيت شملهم، وذلك لأن العدو في هجومه يشبه الصخرة المنقضة في تجمعه وصلابته وحدة صدمته، فإذا رد على أعقابه تكون حاله كالتكسر بعد الاجتماع والتقطع بعد الاتصال.

23. ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ في هذا التعبير السامي بيان لسبب من أسباب الانتصار الدنيوي بعد أن وهبهم الانتصار اللدني، ذلك أن طاغيتهم قد قتل، وهو الذي كان يفرض أهواءه وشهواته عليهم فيجعل‏ منهم جندا طائعين له يسيرون مع رغبته في السلطان والقهر والغلب بالحق وبالباطل، وكذلك الشأن دائما في أهل الباطل يجتمعون على رجل ويسيرون وراءه، فليست لهم إرادة غير إرادته، ولا روح جماعية تجعل لهم كيانا قائما بذاته، مظهره قائدهم، بل يكون الطاغية هو المسلط عليهم، يملى إرادته على أحدهم، ولا إرادة لأحد وراء إرادته، فإذا قتل ذلك الطاغية أو قضى على سلطانه تفرق الجمع وذهبت الوحدة الرابطة، وعملت السيوف في أقفيتهم.

24. كذلك كان أمر أعداء الله، جمعهم جالوت تحت إمرته، وفرض عليهم إرادته بحكم القهر، أو بالاستهواء، أو التبعية الشخصية، فمكّن الله أولياءه منه، حتى إذا قتل تفرق الجمع وولى الأدبار، ولا يكون الأمر كذلك إذا كانت الجماعة تحس بالوحدة الجامعة التي تربط آحادها، وقائدها مظهر توحد الإرادة وجمع الكلمة، وليس موجد هذه الوحدة لتسخر لإرادته؛ فإنه في هذه الحال إذا ذهب القائد، قام مقامه من يماثله أو على الأقل يقاربه؛ لأن الجماعة لها إرادة موحدة، وليست خاضعة لإرادة مسلطة وهى الموجدة لقائدها، وليس قائدها هو الموجد لإرادته، والإرادة التي أقامته تقيم غيره مقامه إذا خلا مكانه.

25. كان القاتل لجالوت رأس العدو هو داوود عليه السلام، وقد رشحته قوته الجسمية، وإحكامه للقتال وعلمه وحكمته لأن يتولى الملك من بعد طالوت والملك الذي تولاه ليس هو الملك الوراثي الذي يؤول فيه السلطان إلى أحد من أسرة الملك السابق بالوراثة القانونية؛ لأن داوود لم يكن من أسرة طالوت، وما رشحته للملك وراثة قانونية، بل رشحه للملك انتخاب طبيعي، وإرادة إلاهية آتته الحكم والنبوة، فليس الملك الذي آل لداود هو الملك الوراثي، بل السلطان الحكم ذلك الانتخاب.

26. ذكر سبحانه العناصر التي ترشح للسلطان وحكم الناس، فكانت قوة الجسم، والحكمة والعلم؛ ولذا قال سبحانه بعد ذكر قتله لجالوت ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها والتدبير المحكم على وفق العلم، فالحكمة تقتضى صفتين ذاتيتين في الشخص: عقلا مدركا نافذا بصيرا يرى بواطن الأمور ويتغلغل في أعماقها، وإرادة محكمة تجعل العمل يتلاقى مع الفكر الصحيح والإدراك السليم، فلا يكون سلطان يعارض دواعي العقل، وأحكام الفكر السليم، فليس بحكيم من يبادر بالحكم على الأشياء من غير دراسة عميقة مستقصية وليس بحكيم من يكون عمله على غير ما تقتضيه قواعد الفكر المستقيم.

27. ذكر سبحانه أنه علّم داوود مما يشاء أي علّمه علما كثيرا واسعا مما شاء أن يعلمه، فقوله تعالى: ﴿مِمَّا يَشَاءُ﴾ يشير إلى سعة العلم، وأنه كثير متشعب لا تحده إلا مشيئة الله وإرادته، فعلّمه سبحانه سياسة الملك، وأحوال الناس، ومنازع النفوس، وأحوال البلدان وما تنتجه من خيرات، وغير ذلك، وكان تعليم الله سبحانه وتعالى له بالنبوة التي أفاضها سبحانه وتعالى عليه، والتجارب التي ساقها الله إليه، والذخيرة التي بين يديها من أحوال الحاكمين السابقين، والهداة المرشدين، وما أوتيه من علم التوراة، والأخبار الصحاح عن النبيين السابقين، وفى كل ذلك هداية وإرشاد إلى أقوم مناهج الحكم الصحيح.

28. تلك هي عناصر الحكم الصالح:

أ. لا بد أن يكون الحاكم قويا في جسمه، بحيث لا يخذل جسمه إرادته، فكثيرا ما يكون ضعف الإرادة من ضعف الجسم، وضعف التدبير من تخاذل القوى البدنية عن الاحتمال، ولكن قد تكون الإرادة القوية والعزيمة الماضية في جسم ضعيف، وفى هذه الحال قد يستغنى عن ذلك العنصر إن لم يوجد شخص تتوافر فيه قوة النفس وقوة الجسم معا، فالاعتبار الأول لقوة النفس، وقوة الجسم خادمة لقوة النفس وليست مقصودة لذاتها.

ب. والعنصر الثاني هو الحكمة: وهى كما رأيت جعل العمل يسير مع العقل فلا تتحكم الأهواء والشهوات، وآفة الحكم الصالح هوى الحاكم، فإن غلبت رغبته عقله غلب الفساد حكمه، فليختبر كل حاكم نفسه، فإن رأى أهواءه هي المسيطرة فليعلم أن الشر قد استحكم، وأنه أولى به ثم أولى أن يعتزل وإن وجد عقله هو المسيطر فليعلم أن الله أجرى عليه التوفيق.

ج. والعنصر الثالث الإحاطة التامة بمصالح الناس وأحوالهم: فإن الحكم عمل للمصلحة، وليس سيطرة وتحكما، ومن ظنه سيطرة وتحكما فهو ممن طمس الله بصيرته، وغلبت عليه شهوته، ثم غلبت عليه شقوته.

29. إن فرق ما بين الحكم الصالح وغير الصالح دقيق في معناه، وإن كان الأثر كبيرا في مبناه، فالحكم الصالح أساسه أن يكون الحكم لمصلحة المحكوم وإجابة لرغبته، والحكم غير الصالح أساسه أن يكون الحكم تحكما في المحكوم، فمن تحكم في الرعية ولو باسم مصلحتها، فقد سلك سبيل الفساد؛ لأن التحكم ينبعث من الرغبة في السيطرة، ولو لبس لبوس المصلحة، والسيطرة تسلط، والتسلط في ذاته فساد يؤدى لا محالة إلى فساد، ويؤدى إلى موت الإرادات في الجماعة، وفى ذلك إضعاف لقوتها، وأما الحكم المنبعث من إرادة الجماعة الذي يقودها لمصلحتها، فهو يؤدى إلى الصلاح لا محالة، وإن تعثر في أخطاء أحيانا؛ لأنه من الخطأ يتعلم الناس الصواب، ومن الخط المعوج يعرف الخط المستقيم.

30. هذه قصة بنى إسرائيل الذين غلبوا على أمرهم ثم بدلوا من الذلة عزة، وهى قصة تكشف عن سنن الاجتماع والحروب، وأمثل طرق الحكم:

أ. فمن سنن الله في الجماعات التي أشارت إليها الآيات أن الجماعة إن غلبت على أمرها، وسامها الغالب الخسف والهوان تحفزت قوى آحاد منها للحياة، فطلبوها عزيزة كريمة، فإذا طالبوا اتجهوا إلى قيادة تجمع أمرهم، وتنظم شئونهم، ثم ساروا تحت لواء تلك القيادة، وقد تصارعت عوامل الضعف مع دوافع العزة، فإن كان الصبر كان معه النصر وإن ضاقوا بأمرهم كان الخذلان، وضربت عليهم الذلة إلى يوم القيامة.

ب. ومن سنن الله في الحروب التي استبانت من القصة أن النصر يكون عند اتحاد العزائم وتلاقى القلوب، وأخذ الأهبة، والصبر والثبات، وأن النصر ليس بكثرة العدد، وإنما هو بالعزيمة الماضية والثبات والصبر، والمعونة من الله العلى القدير، وأن الحق في ذاته قوة إن آمن به صاحبه، وأراده عزيزا كريما غير ذليل.

ج. ولقد سن سبحانه في هذا القصص الطريق لاختيار الحكام، فبين أن الحاكم لا يختار لنسب رفيع، ولا يختار لمال وغير، ولكن يختار لقدرته على القيام بأعباء الحكم من قوة في نفسه، وقدرة على الاستيلاء على أهوائه وشهواته، وعلم غزير بشئون الاجتماع وأحوال الناس، ومن تجارب هادية إلى الحق في الأمور، وإخلاص ينير الطريق والبصائر، وليس الحكم عطاء يعطى، ولكنه ابتلاء وأعباء، وإن الحاكم الذي تجتمع القلوب حوله هو حكم الجماعة، والحاكم مظهرها، وأن قتل الحاكم أو مات أقامت الجماعة مثله، أو خيرا منه، أما الحاكم المتسلط المتجبر فإنه جامع للناس على رغباته، فإن قتل أو مات تفرق الجمع وولى الأدبار، وهذه إشارات إلى العبر في ذلك القصص الحكيم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/899.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قادهم طالوت الى جهاد عدوهم، وأخبرهم بأنهم سيمرون على نهر يمتحن به اخلاص المخلصين منهم، فمن كان صابرا محتسبا فلا ينهل منه الا بمقدار ما يأخذه باليد، فمن امتثل فهو المخلص الذي يوثق به، أما الذي ينهل، حتى يرتوي فلا معول عليه في الحرب والجهاد، ولما مروا على النهر عصوا كعادتهم، وشربوا الا نفرا قليلا ثبتوا على الصدق والايمان.

2. لما التقى الجمعان: بنو إسرائيل بقيادة طالوت، والفلسطينيون بقيادة جالوت خاف أكثر الاسرائيليين، وقالوا لطالوت: لا طاقة لنا بجالوت وجنوده، وقال المؤمنون القليلون منهم الذين لم يشربوا من النهر: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، ودعوا الله سبحانه أن يمنحهم الصبر والثبات، والنصر على العدو، فاستجاب لهم ربهم بعد أن علم منهم العزم والصدق في النية، وقتل داوود جالوت، وانهزم العدو شر هزيمة، وصار لداود بقتل جالوت من الصيت والسمعة ما ورث به ملك بني إسرائيل، وآتاه الله بعد ذلك النبوة، وأنزل عليه الزبور، وعلمه صنعة الدروع، وعلوم الدين، وفصل الخطاب كما قال تعالى: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾

3. هذا ملخص ما دلت عليه الآيات الكريمة، أما زواج داوود ببنت طالوت، ومحاولة هذا الغدر بزوج ابنته، ومقلاع داوود وأحجاره، وقصته مع السبع والدب، أما هذه وما اليها مما جاء في كتب التفاسير فلا سند لها الا الاسرائيليات.

4. ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾، روي ان طالوت قال لبني إسرائيل: لا يخرج معي الى الجهاد شيخ ولا مريض، ولا من بنى بناء لم يفرغ منه، ولا صاحب تجارة مشتغل بها، ولا رجل تزوج امرأة لم يبن بها، فاجتمع جماعة ممن وصف، وكان الوقت قيظا شديد الحر، وسلكوا مفازة لا ماء فيها، ولما شكوا قلة الماء قال طالوت لهم: الله سيختبر حالكم في الطاعة والمعصية بنهر تمرون عليه، فمن شرب منه فليس من أشياعي المؤمنين الا أن يتناول قليلا، وهو غرفة تؤخذ باليد.

5. ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾، قيل: كان عدد هؤلاء المؤمنين 313 على عدد أهل بدر.. ولقد كان، وما زال، ولن يزال الطيبون المخلصون أندر من كل نادر.

6. ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ [البقرة: 249]، سار طالوت هو والذين أطاعوه فيما ندبهم اليه بعد أن تخطوا النهر، حتى التقوا بجالوت وجنوده، ولما شاهدوا كثرة عدوهم انقسموا فريقين: فريق قال لا طاقة لنا بمحاربتهم، وفريق قال: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ الذين ثبتوا وجاهدوا وضحوا من أجل حياة أفضل، وهي أن يعيشوا أحرارا في وطن حر، ومكتفين في مجتمع لا جائع فيه، وعلماء في بلد العلم والحضارة، أما الصبر على الذلة والمسكنة فإنه رجس من عمل الشيطان.

7. ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، لما رأى المؤمنون القلة في جانبهم، والكثرة في جانب عدوهم لجأوا اليه سبحانه داعين متضرعين بإخلاص، فاستجاب لهم‏ ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾ ونصر الله المؤمنين على الكافرين، وحقق بفضله ورحمته ظن من قال: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾

8. ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾، أي ان الله سبحانه منح داوود الملك، لأنه تولى منصب طالوت بعد وفاته، والحكمة اشارة الى الزبور، قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾، وعلمه صنع الدروع، قال تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ﴾

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/382.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ إلى قوله‏ ﴿مِنْهُمْ﴾، الفصل هاهنا مفارقة المكان كما في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ﴾، وربما استعمل بمعنى القطع وهو إيجاد المفارقة بين الشيئين كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ [الأنعام: 57]، فالكلمة مما يتعدى ولا يتعدى، والجند المجتمع الغليظ من كل شيء وسمي العسكر جندا لتراكم الأشخاص فيه وغلظتهم، وفي جمع الجند في الكلام دلالة على أنهم كانوا من الكثرة على حد يعتنى به‏ وخاصة مع ما فيه المؤمنين من القلة بعد جواز النهر وتفرق الناس، ونظير هذه النكتة موجود في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾

2. في مجموع الكلام إشارة إلى حق الأمر في شأن بني إسرائيل وإيفائهم بميثاق الله، فإنهم سألوا بعث الملك جميعا وشدوا الميثاق، وقد كانوا من الكثرة بحيث لما تولوا إلا قليلا منهم عن القتال كان ذلك القليل الباقي جنودا وهذه الجنود، أيضا لم تغن عنهم شيئا بل تخلفوا بشرب النهر ولم يبق إلا القليل من القليل مع شائبة فشل ونفاق بينهم من جهة المغترفين، ومع ذلك كان النصر للذين آمنوا وصبروا مع ما كان عليه جنود طالوت من الكثرة.

3. الابتلاء الامتحان، والنهر مجرى الماء الفائض، والاغتراف والغرف‏ رفع الشيء وتناوله، يقال: غرف الماء غرفة واغترفه غرفة إذا رفعه ليتناوله ويشربه، وفي استثناء قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ عن مطلق الشرب دلالة على أنه كان المنهي عنه هو الشرب على حالة خاصة، وقد كان الظاهر أن يقال: فمن شرب منه فليس مني إلا من اغترف غرفة بيده غير أن وضع قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾، في الكلام مع تبديل الشرب بالطعم ومعناه الذوق أوجب تحولا في الكلام من جهة المعنى إذ لو لم تضف الجملة الثانية كان مفاد الكلام أن جميع الجنود كانوا من طالوت، والشرب يوجب انقطاع جمع منه والاغتراف يوجب الانقطاع من المنقطع أي الاتصال وأما لو أضيفت الجملة الثانية، أعني قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ إلى الجملة الأولى كان مفاد الكلام أن الأمر غير مستقر بحسب الحقيقة بعد إلا بحسب الظاهر فالجنود في الظاهر مع طالوت لكن لم يتحقق بعد أن الذين هم مع طالوت من هم، ثم النهر الذي سيبتليهم الله به سيحقق كلا الفريقين ويشخصهما فيعين به من ليس منه وهو من شرب من النهر، ويتعين به من هو منه وهو من لم يطعمه، وإذا كان هذا هو المفاد من الكلام لم يفد قوله في الاستثناء إلا من اغترف غرفة بيده كون المغترفين من طالوت لأن ذلك إنما كان مفادا لو كان المذكور هناك الجملة الأولى فقط، وأما مع وجود الجملتين فيتعين الطائفتان: أعني الذين ليسوا منه وهم الشاربون، والذين هم منه وهم غير الطاعمين، ومن المعلوم أن الإخراج من الطائفة الأولى إنما يوجب الخروج منها لا الدخول في الثانية، ولازم ذلك أن الكلام يوجب وجود ثلاث طوائف: الذين ليسوا منه، والذين هم منه، والمغترفون، وعلى هذا فالباقون معه بعد الجواز طائفتان: الذين هم منه، والذين ليسوا من الخارجين، فجاز أن يختلف حالهم في الصبر والجزع والاعتماد بالله والقلق والاضطراب.

4. ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [البقرة: 249] إلى آخر الآية، الفئة القطعة من الناس، والتدبر في الآيات يعطي أن يكون القائلون: لا طاقة لنا، هم المغترفون، والمجيبون لهم هم الذين لم يطعموه أصلا، والظن بلقاء الله إما بمعنى اليقين به وإما كناية عن الخشوع، ولم يقولوا: يمكن أن تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة بإذن الله، بل قالوا ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ﴾ الآية، أخذا بالواقع في الاحتجاج بآرائه المصداق ليكون أقنع للخصم.

5. ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ الآية، البروز هو الظهور، ومنه البراز وهو الظهور للحرب، والإفراغ‏ صب نحو المادة السيالة في القالب والمراد إفاضة الله سبحانه الصبر عليهم على قدر ظرفيتهم فهو استعارة بالكناية لطيفة، وكذا تثبيت الأقدام كناية عن الثبات وعدم الفرار، ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ الآية، الهزم‏ الدفع.

6. في الكافي، عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: وقال الله ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ ـ فشربوا منه إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، منهم من اغترف، ومنهم من لم يشرب، فلما برزوا لجالوت قال الذين اغترفوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، وقال الذين لم يغترفوا: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللهـ والله مع الصابرين.. وأما كون الباقين مع طالوت ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا بعدد أهل بدر فقد كثر فيه الروايات من طرق الخاصة والعامة، وأما كون القائلين ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا﴾، هم المغترفين، وكون القائلين‏ ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ﴾ الآية، هم الذين لم يشربوا أصلا فيمكن استفادته من نحو الاستثناء في الآية على ما بيناه: من معنى الاستثناء.

7. في الكافي، بإسناده عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيوب عن يحيى الحلبي عن عبد الله بن سليمان عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله تعالى: ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾ ـ إلى قوله‏ ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ ـ قال كانت تحمله في صورة البقرة.. الوجه في ذكر سند هذا الحديث مع أنه ليس من دأب الكتاب ذلك‏ لأن إسقاط الأسانيد فيه إنما هو لمكان موافقة القرآن ومعه لا حاجة إلى ذكر سند الحديث، أما فيما لا يطرد فيه الموافقة ولا يتأتى التطبيق فلا بد من ذكر الإسناد، ونحن مع ذلك نختار للإيراد روايات صحيحة الإسناد أو مؤيدة بالقرائن(2).

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/292.

(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ فقد اضطروا ـ لغلبة الحجة عليهم ـ إلى إظهار الطاعة والانقياد وفيهم الأخيار الأبرار الصادقون، فالجنود قد جمعت من يصلح ومن لا يصلح فكان من الحكمة التمييز بين الخبيث والطيّب والاكتفاء بالطّيّب وإن قل.

2. ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ فاختبرهم بهذا النهر من الماء؛ لأن من صبر على العطش صبر على القتال، ودل امتناعه من الشرب على صدق نيته في الجهاد، ومن شرب دل ذلك على فساده، وقلة صبره، وضعف نيته، وكانت الغرفة الواحدة مستثناة؛ لأنها لا تنافي صدق النية ورحمة للعطشان ليخف عنه العطش؛ حتى يصير إلى مكان آخر يرخص لهم فيه في الشرب.

3. ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ وهنا تميز الخبيث من الطيب، ورجع الجمهور الفاسد عن المسيرة، ولعل الحكمة في ذلك أنهم لو خرجوا معه ما كانوا إلا مفسدين، كما قال تعالى في المنافقين ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ الآية [التوبة:47]

4. ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ [البقرة: 249] يعنون أنهم قليل؛ لأنهم قد خلفوا الجماهير الذين شربوا من النهر أكثر من غرفة للواحد، وقد تبين: أن المتقي المطيع مؤمن، وأن العاصي ظالم من الآيتين هذه و الأولى ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ فكل فريق يختص باسمه فلا الظالم مؤمن، ولا المؤمن ظالم، كما فهم من سياق الآيتين.

5. ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ [البقرة: 249] أهل الأمل القصير في الحياة فهم لذلك راغبون في الشهادة، راغبون في الجهاد في سبيل الله، ليختموا به البقية الباقية من أعمارهم ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ قالوه تشجيعاً لأصحابهم وتثبيتاً لهم، والإذن بوقوع الشيء يلزم معه إزالة الصارف والمانع من وقوعه، ولذلك فقوة جالوت تنهار مع الإذن من الله بأن يكون هو المغلوب وحزب الله هم الغالبون، فقولهم ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ تنبيه على أن النصر من عند الله وأنه إن ينصرهم فلا غالب لهم.

6. ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ولذلك إذا صبرنا عند لقاء العدو كان الله معنا، وإذا كان معنا كانت القوة معنا.. الغالبة على كل قوة وكنا نحن الغالبين، وبناءً على ذلك بطل قولهم ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ ولم يبق إلا العزم والثبات والصبر ليفوزوا بالنصر وعظيم الأجر.

7. ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ فاستعملوا السلاح الذي هو سلاح المؤمن قبل استعمال السيوف ونحوها، ومعنى ﴿بَرَزُوا لِجَالُوتَ﴾ ظهروا له ولم يبق بينه وبينهم حاجز من جبل أو غيره ولا بعد مسافة بل أشرفوا على الشروع في القتال، فاستعانوا بالله، وطلبوه أن يفرغ عليهم ﴿صَبْرًا﴾ أي يصب عليهم صبراً، ولعل اختيار الصبّ ليشمل الأعضاء فتتحمل ما يلحقها من الضرب ونحوه.

8. ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ عند اللقاء؛ لأن المقاتل قوي ما لم تزل قدماه عند مصاولة العدو فيسقط، وتلك الحال مظنة زلل الأقدام لما يكون من المراوغة القوية واختلاف اتجاه حركات الأقدام ووجود ما يتعثر فيه في الأرض مع اشتغال الذهن والبصر بالعدوّ، ومن تثبيت الأقدام الإعانة على البقاء في المعركة وترك الفرار؛ كما قال أمير المؤمنين عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية: (تِد في الأرض قدمك) يعني أثبت مكانك حتى كأن قدميك موتدتان على الأرض.

9. ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ الذين هم أعداؤك وأعداء دينك، وفي هذا الدعاء دلالة على أن مهمتهم نصر دين الله وكبت أعداء الله حيث قالوا ﴿عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ ولم يقولوا مكانها وانصرنا على أعدائنا.

10. ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ الذي بيده قلوب العباد؛ يقوي منها ما يشاء، ويرعب ما يشاء، وبيده ملكوت كل شيء؛ فأعز جنده، وهزم عدوه، وجعله المغلوب المقهور ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾ وتحقق النصر من الله؛ بقتل قائد الجيش وأميره وتمت النعمة لطالوت ومن آمن معه بما صبروا ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ أي آتى داوود عليه السلام، وكأنها كانت جائزة له على إقدامه وقتله لجالوت لعظم فعل ذلك وعموم نفعه؛ كما روي في فضل قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لعمرو بن عبد ودّ.

11. ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ كتعليمه صناعة الدروع الجيدة الجامعة بين القوة وحسن تقدير السرد؛ فلا تثقل أكثر مما يلزم ولا يخرقها السلاح.

12. في قصة الملأ من بني إسرائيل ونبيهم وطالوت ونخبته فوائد عسكرية مع كونها دينية:

أ. فقد أفادت أن كبار الناس وأشرافهم قد يطلبون الجهاد باسم الدين وغرضهم الدنيا والحصول على المناصب.

ب. ومنها: أنه لا يوثق بهم للجهاد لأن من همه ونيته الدنيا يكون حريصاً على الحياة، فليس مظنة الثبات للموت وإن كانوا أبطالاً فإن حبهم للحياة يمنعهم من المغامرة في مظانِّ الهلاك؛ ولأن حرصهم على المناصب يؤدي إلى إفساد نياتهم إذا لم تحصل لهم المناصب.

ج. ومنها: أن الجدال على المناصب علامة حب الدنيا الذي ليس من شأن من يقاتل في سبيل الله.

د. ومنها: انتخاب القائد القوي الكامل في كفاءته ودينه الذي لا إشكال في أنه أصلح للقيادة ليقتنع به أهل النفوس البريئة من فساد النية ويصدقوا في الكون معه، وطاعته ونصحه، ولأن القائد الزاهد في الحياة الدنيا أشجع وأثبت في المهالك وأصبر على الشدائد وأحسن رعاية لأصحابه لصدق نيته وسلامته من الأنانية والتكبر وحبه لهم ورحمته لهم وسلامته من الاستبداد والغش للأصحاب، ولأن القائد الديني أقوى رغبة في الجهاد والشهادة فهو أشد إقداماً وثباتاً.

هـ. ومنها: انتخاب القائد الذكي المدبر السليم من الجبن المعارض لحسن الرأي والسليم من البخل الذي هو من أعظم أسباب الذلة وتفرق الأصحاب مع معارضته لحسن الرأي في الإنفاق.

و. ومنها: انتخاب الأعلم في علم الدين ليكون أعلم بالحق في تصرفاته وتصرفات أصحابه وأثبت على الحق لعلمه أنه على حق.

ز. ومنها: انتخاب الأقوى في بدنه ليتحمل شدائد القتال وما يكون معه من الحر والبرد والمطر والجوع والعطش فيكون ثابت الصحة بعيداً من المرض وليحمل ما حُمِّلَ من التكاليف بجدارة وقدرة كاملة ويستطيع الثبات على القتال والاستمرار عليه ومصابرة العدو، ويتحمل التعب والسهر وأذى الأصحاب مع العناء في الجهاد.

ح. ومنها: أن يكون واسع الصدر حليماً يصبر على الأذى، ويتحمل السب والاتهامات التي تعرض من جهلة الأصحاب، ولا يضيق صدره عنهم أو يضيع عليه الرأي لأجل ضيقه منهم أو يصير في شقاق بينه وبينهم، وليستطيع حسن البيان لهم حتى يردهم عن الغلط برفق ولين، وتكون معاملته لهم كلها ترغيب وسبب لحبهم إياه وثباتهم معه.

ط. ومنها: أن يكون له شجاعة طبيعية ورباطة جأش ليستطيع القيادة في المعارك واقتحام المهالك؛ لأنه إذا كان ضعيف القلب والأعصاب لا يستطيع ذلك وإن كان دينياً زاهداً في الحياة، فهذا ما حضر من صفات القائد المشار إليها بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ فأما من جهة الجند فقد ظهر منه اختياره ما تيسر من الصالحين الصادقين إذا اجتمع له جند منهم، وقد قيل: أن أصحاب طالوت الذين ثبتوا معه كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر، وهذا النصاب نص عليه الإمام زيد بن علي عليهما السلام في (المجموع)، وذلك لأنه إذا لم يكن له من يثق به ويعتمد عليه من الصالحين؛ كان على خطر من أصحابٍ مظنةِ الهزيمة أو الخلاف له أو الاختلاف، ولم يكونوا مظنة الصبر الذي هو سبب النصر، ولا اللجوء إلى الله في طلب الصبر، ولم يكن له يد عليهم في أمرهم بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بل يحتاج إلى مداراتهم في دين الله، فليسوا مظنة النصر بالطريقة التي انتصر بها أصحاب طالوت بل يكون معهم بين الرجاء واليأس إن صدقت نياتهم:

ومن تدبير الجند: دفع أهل النيات الفاسدة عن صحبته، وردهم عن الخروج معه بحيلة يحتال لها القائد الذكي، بحيث لا يؤدي ردهم بالعنف إلى أن يصيروا مع العدوّ، أو ينظموا منظّمة ضده أو غير ذلك من فسادهم كالإرجاف على من بعدهم والدعايات المضللة.

ومن تدبير الجند: إعداد ما يحتاج إليه من الطعام والشراب وغيره بواسطة عمال لهذا العمل، فإن كانت نفقاتهم من عنده تولى تحصيل عمال لتحصيل ما يحتاجونه وعمال لأخذه وإيصاله إليهم وعمال أمناء لتوزيعه عليهم وإن كانت نفقاتهم منهم فإعداد من يشترون منهم إذا نفد ما بأيديهم من الزاد.. لكن هذا الأخير وإن لم تدل الآيات عليه من حيث انتخاب الجند فقد دلت عليه من حيث اصطفاء القائد فهي من جملة صفاته التي تقدمت وهي حسن الرأي.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/368.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ وانطلق طالوت، وهذا هو اسم الملك الذي عيّنه النبي، ومضى معه جنوده، ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ وبدأت التجربة بين القائد وجنوده، فقد أعلن لهم أن الله قد ابتلاهم وامتحنهم ـ ليختبر انقيادهم ـ بالنهر الذي يمرّون به، ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ فعليهم أن لا يشربوا منه إلا بمقدار غرفة مهما بلغ عطشهم، وسقط الأكثرون في الامتحان، ووهنت عزائمهم، ودبّ الضعف فيهم، ووقف المؤمنون المخلصون، ليكون النصر لهم في نهاية المطاف.

2. إن قضية النصر والهزيمة ليست بالقلة والكثرة، بل هي بالإيمان والتخطيط والتنظيم، والأخذ بأسباب القوة، مما يجعل النصر في جانب القلة المؤمنة المنظمة، على الكثرة التي تفقد الإيمان والتنظيم والتخطيط، انطلاقا من الشعار الذي طرحه هؤلاء المؤمنون الذين واجهوا المعركة بقلوب مؤمنة واثقة بالله ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، الأمر الذي يجعل العاملين في موقع الثقة، مهما كانت قوة الخصوم كبيرة.

3. إن قيمة الحوار، في هذه القصة، هو أننا استطعنا أن نتمثل كل المشاعر والأجواء التي كان يعيشها هؤلاء من خلال مواقفهم القلقة في جانب، والثابتة في جانب آخر، مما لا يتسنى لنا معرفته لو كانت القضية تعيش في إطار التقرير العادي للقصة، إنه الفرق بين أن يحكى لك الموقف من خلال الآخرين، أو ينقل لك الموقف بنفسه وتتمثله بنفسك.

4. أن يبقى المؤمن المجاهد في موقف الاستعانة بالله، والشعور بالحاجة إليه في ما يحصل عليه من قوة، وما يحتاج إليه من مواقف الصبر والصمود والثبات، وما يتطلع إليه من نصر لاعتقاده بأن النصر من عند الله أولا وأخيرا، فلا يدفعه الشعور بالقوة إلى الغرور والتعالي ونسيان الله، ولا يمنعه الشعور بالضعف من التماسك إزاء قوة الله، كما يحصل لكثيرين من الذين ينسون الله في مواقف الحرب والسلم، فينسيهم أنفسهم، فيخيّل إليهم أنهم على شيء، وليسوا بشيء، إنه الفرق بين المؤمن الذي يشعر بالقوة الروحية والمعنوية التي تمتد من الأرض إلى السماء فلا تقف عند حد، فيتحوّل إلى قوة تدمّر كل قوة تقف أمامها، وبين غير المؤمن الذي يستمد قوته من الأرض، ومما يحوطه من إمكانيات محدودة، فيبقى حيث هو في إطار محدود.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/389.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثمّ أنّ بني إسرائيل رضخوا لقيادة طالوت فصنع منهم جيوشا كثيرة وساروا إلى القتال، وهنا تعرّض بني إسرائيل لاختبار عجيب، ومن الأفضل أن نجمع تلك الأحداث ومجريات الأمور من القرآن نفسه حيث يقول: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾

2. يتّضح في هذه الموارد الامتحان الكبير الذي تعرّض له بنو إسرائيل وهو المقاومة الشديدة للعطش، وكان هذا الامتحان ضروريّا لجيش طالوت وخاصّة مع السّوابق السيّئة لهذا الجيش في بعض الحروب السابقة، لأنّ الانتصار يتوقّف على مقدار الانضباط وقدرة الإيمان والاستقامة في مقابل الأعداء والطّاعة لأوامر القيادة.

3. طالوت الذي كان يتّجه بجنوده للجهاد، كان لا بدّ له أن يعلم إلى أيّ مدى يمكن الاعتماد على طاعة هؤلاء الجنود، وعلى الأخصّ أولئك الذين ارتضوه واستسلموا له على مضض متردّدين، ولكنّهم في الباطن كانت تراودهم الشكوك بالنّسبة لإمرته، لذلك يؤمر طالوت أمرا إلهيّا باختبارهم، فيخبرهم أنّهم سوف يصلون عمّا قريب إلى نهر، فعليهم أن يقاوموا عطشهم، وألّا يشربوا إلّا قليلا، وبذلك يستطيع أن يعرف إن كان هؤلاء الذين يريدون أن يواجهوا سيوف الأعداء البتّارة يتحمّلون سويعات من العطش أم لا.

4. وشرب الأكثرية كما قلنا في سرد الحكاية، وكما جاء بإيجاز في الآية، وهكذا جرت التصفية الثانية في جيش طالوت، وكانت التصفية الأولى عندما نادى المنادي للاستعداد للحرب وطلب الجميع بالاشتراك في الجهاد إلّا الذين كانت لهم التزامات تجارية أو عمرانية أو نظائرها.

5. ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ [البقرة: 249]، تفيد هذه الآية أنّ تلك القلّة التي نجحت في الامتحان هي وحدها التي تحرّكت معه، ولكن عندما خطر لهؤلاء القلّة أنهم مقدمون على مواجهة جيش جرّار وقوي، ارتفعت أصواتهم بالتباكي على قلّة عددهم، وهكذا بدأت المرحلة الثالثة في التصفية.

6. ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، (الفئة) أصلا من (الفيء) بمعنى الرجوع، ويقصد بها الجماعة الملتحمة التي يرجع بعضهم إلى بعض ليعضده، تقول الآية: إنّ الذين كانوا يؤمنون بيوم القيامة إيمانا راسخا قالوا للآخرين: ينبغي ألّا تلتفتوا إلى (الكم) بل إلى (الكيف) إذ كثيرا ما يحدث أنّ الجماعة الصغيرة المتحلّية بالإيمان والعزم والتصميم تغلب الجماعة الكبيرة بإذن الله.

7. ينبغي أن ننتبه إلى أنّ (يظنّون) هنا تعني يعلمون، أي أنّهم على يقين من قيام يوم القيامة، ولا يعني الظنّ هنا الاحتمال، وظنّ هذه تعني اليقين في كثير من الحالات، حتّى لو اعتبرناها بمعنى الاحتمال، فإنّها هنا تناسب المقام أيضا، إذ في هذه الحالة يكون المعنى أنّ مجرّد احتمال قيام يوم القيامة يكفي، فكيف باليقين به حيث يحمل الإنسان على اتّخاذ قرار بالنسبة للأهداف الربّانية، إنّ من يحتمل النجاح في حياته ـ في الزراعة أو التجارة أو الصناعة أو السياسة ـ يمضي في مسيرته بكلّ عزم وتصميم.

8. في الآية التالية يذكر القرآن الكريم موضوع المواجهة الحاسمة بين الجيشين ويقول: ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، (برزوا) من مادّة (بروز) بمعنى الظّهور، فعند ما يستعد المحارب للقتال ويتّجه إلى الميدان يقال أنّه برز للقتال، وإذا طلب القتال من الأعداء يقال أنّه طلب مبارزا.

9. تقول هذه الآية أنّه عندما وصل طالوت وجنوده إلى حيث ظهر لهم جالوت وجيشه القوي ووقفوا في صفوف أمامه رفعوا أيديهم بالدّعاء، وطلبوا من الله العليّ القدير ثلاثة أمور:

أ. الأوّل: الصّبر والاستقامة إلى آخر حد، ولذا جاءت الجملة تقول ﴿أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾، و(الإفراغ) تعني في الأصل صبّ السائل بحيث يخلو الإناء ممّا فيه تماما، ومجيء (صبر) بصيغة النكرة يؤكّد هذا المعنى بشكل أكبر، والاعتماد على ربوبيّة الخالق جلّ وعلا بقولهم (ربّنا) وكذلك عبارة (إفراغ) مضافا إلى كلمة (على) التي تبيّن أنّ النزول من الأعلى، وكذلك عبارة (صبرا) في صيغة النكرة كلّ هذه المفردات تدلّ على نكات عميقة لمفهوم هذا الدعاء وأنّه دعاء عميق المغزى وبعيد الأفق.

ب. الثاني: أنّهم طلبوا من الله تعالى أن يثبّت أقدامهم‏ ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ حتّى لا يرجّح الفرار على القرار، والواقع أنّ الدعاء الأوّل اتّخذ سمة الطلب النفسي والباطني، وهذا الدعاء له جنبة ظاهريّة وخارجيّة، ومن المسلّم أنّ ثبّات القدم هو من نتائج روح الاستقامة والصبر.

ج. الثالث: من الأمور التي طلبها جيش طالوت هو ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ وهو في الواقع الهدف الأصلي من الجهاد وينفّذ النتيجة النهائيّة للصبر والاستقامة وثبات الأقدام.

10. من المسلّم أنّ الله تعالى سوف لا يترك عبادة هؤلاء لوحدهم أمام الأعداء مع قلّة عددهم وكثرة جيش العدو، ولذلك تقول الآية التالية ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾، وكان داوود في ذلك الوقت شابّا صغير السن وشجاعا في جيش طالوت، ولا تبيّن الآية كيفيّة قتل ذلك الملك الجبّار بيد داوود الشاب اليافع، ولكن كما تقدّم في شرح هذه القصّة أنّ داوود كان ماهرا في قذف الحجارة بالقلّاب حيث وضع في قلّابه حجرا أو اثنين ورماه بقوّة وبمهارة نحو جالوت، فأصاب الحجر جبهته بشدّة فصرعه في الوقت، فتسرب الخوف إلى جميع أفراد جيشه، فانهزموا بسرعة أمام جيش طالوت، وكأنّ الله تعالى أراد أن يظهر قدرته في هذا المورد وأنّ الملك العظيم والجيش الجرّار لا يستطيع الوقوف أمام شاب مراهق مسلّح بسلاح ابتدائي لا قيمة له.

11. تضيف الآية ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ الضّمير في هاتين الجملتين يعود على داوود الفاتح في هذه الحرب، وعلى الرّغم من أنّ الآية لا تقول أنّ داوود هذا هو داوود النبي والد سليمان عليهما السّلام ولكنّ جملة ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ تدلّ على أنّه وصل إلى مقام النبوّة، لأنّ هذا ممّا يوصف به الأنبياء عادة، ففي الآية 20 من سورة ص نقرأ عن داوود ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ﴾ كما أنّ الأحاديث الواردة في ذيل هذه الآية تشير إلى أنّه كان داوود النبي نفسه.

12. هذه العبارة يمكن أن تكون إشارة إلى العلم الإداري وتدبير البلاد وصنع الدّروع ووسائل الحرب وأمثال ذلك حيث كان داوود عليه السّلام يحتاج إليها في حكومته العظيمة، لأنّ الله تعالى لا يعطي منصبا ومقاما لأحد العباد إلّا ويؤتيه أيضا الاستعداد الكامل والقابليّة اللّازمة لذلك.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/225.

117. التدافع والفساد والفضل الإلهي

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈117⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [البقرة: 251-252]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ﴾ يدفع الله بمن يصلي عمن لا يصلي، وبمن يحج عمن لا يحج، وبمن يزكي عمن لا يزكي(1).

2. روي أنّه قال: ولولا دفع الله بجنود المسلمين وسراياهم ومرابطيهم؛ لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المؤمنين، وخربوا المساجد والبلاد(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٨٠.

(2) تفسير الثعلبي: ٢/٢٢٤.

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء)، ثم قرأ ابن عمر: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾(1).

__________

(1) الطبراني في الأوسط: ٤/٢٣٩.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ﴾ ولولا دفاع الله بالبر عن الفاجر، ودفعه ببقية أخلاف الناس بعضهم عن بعض؛ لفسدت الأرض بهلاك أهلها(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٥١٥ ـ: ٥١٦.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ يبتلي الله المؤمن بالكافر، ويعافي الكافر بالمؤمن(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٤٩.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ لهلك من في الأرض(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٥١٦.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: (إن الله ليدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي، ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج، ولو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا وهو قول الله تعالى: ﴿وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ﴾، فو الله ما نزلت إلا فيكم، ولا عنى بها غيركم)(1).

__________

(1) الكافي: 2/326.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ يقول الله سبحانه: لولا دفع الله المشركين بالمسلمين لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المسلمين، وخربوا المساجد والبيع والكنائس والصوامع، فذلك قوله سبحانه: ﴿لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ يقول: لهلكت الأرض ـ نظيرها: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا﴾ [النمل: ٣٤]، يعني: أهلكوها ـ، ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ في الدفع عنهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ في الدفع عنهم(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢١١.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ لولا القتال والجهاد(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٨١.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾:

أ. قال بعضهم: دفع بالكفار بعضهم ببعض شرهم عن المسلمين، لما شغل بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض أعداء إلى أن لم يتفرغوا عن أنفسهم للمسلمين، وإلا كان‏ في ذلك فساد الأرض.

ب. وقال آخرون: دفع بالرسل والأنبياء شرهم عن المسلمين، وكفاهم بهم.

ج. وقال غيرهم‏: دفع بالمؤمنين بعضهم عن بعض ـ دفع بالمجاهدين في سبيل الله عن القاعدين عن الجهاد، وإلا لغلب المشركون على الأرض.

د. وقيل‏: بدفع بالمصلى عمن لا يصلى، وبالمزكى عمن لا يزكى، وبالحاج عمن لا يحج، وبالصائم عمن لا يصوم.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾:

أ. قيل: لو لم يدفع بعضهم ببعض لقتل بعضهم بعضا، وأهلك فريق فريقا، وفى ذلك تفانيهم وفسادهم، وفى ذلك فساد الأرض.

ب. وقال آخرون: لو لم يدفع لفسدت الأرض، أراد بفساد الأرض فساد أهلها؛ لأنه لو لم يدفع لغلب المشركون على أراضى‏ لقوة أنفسهم، ولكنهم بالله وبنصره إياهم.

3. من آيات وحدانيته: قتل داوود جالوت مع ضعف داوود وقوة عدوه.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/227.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله عز وجل: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أي لولا دفاع الله الظالمين بأوليائه المؤمنين، وجهادهم مع الأئمة الطاهرين، لفسدت الأرض بالبدع التي تجبر بها الجبارون، والسير التي تسير بها الكفرة الجائرون، ولكن الله تفضل بذلك على العالمين، ليبين لهم دين الحق ويهلك دين المبطلين، فنسأل الله أن يبلغنا ما نأمل من نصر الدين، وإرغام هؤلاء الشياطين، ونسأله أن يستجيب دعاءنا فيما دعونا إليه، وأن يعيننا برحمته فيما عزمنا عليه، من نصر عباده المستضعفين، وذل من رام هلاك دينه من المشركين(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 288.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الدفع في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن الله يدفع الهلاك عن البر بالفاجر، قاله عليّ كرم‏ الله وجهه.

ب. الثاني: يدفع بالمجاهدين عن القاعدين قاله ابن عباس.

2. في قوله تعالى: ﴿لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ وجهان:

أ. أحدهما: لفسد أهل الأرض.

ب. الثاني: لعم الفساد في الأرض.

3. في هذا الفساد وجهان:

أ. أحدهما: الكفر.

ب. الثاني: القتل.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/317.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: يدفع الله بالبر عن الفاجر الهلاك، هذا قول علي عليه السلام وهو المروي عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام، وبه قال مجاهد.

ب. الثاني:يدفع باللطف للمؤمن والرعب في قلب الفاجر، أن يعم الأرض الفساد.

ج. الثالث: قال الحسن، والبلخي: يزغ الله بالسلطان فلا يزغ بالقرآن، لأنه يغنيه على دفع الأشرار عن ظلم الناس، لأنه يريد منه المنع من الظلم والفساد، كان مؤمناً أو فاسقاً.

2. أصل الدفع: الصرف عن الشيء، دفع دفعاً، ودافع مدافعة ودفاعاً، واندفع اندفاعاً، وتدافع تدافعاً، وتدفع تدفعاً، ودفعه تدفيعاً، واستدفع استدفاعاً، والضيف المدفع، لتدافع الحي به لاحتقاره، والدفاع السيل لتدافع بعضه على بعض، والدفعة اندفاع الشيء جملة، ورجل مدفع أي عن نسبه.

3. قال الحسن: لم يكن داوود نبياً قبل قتله جالوت، لأنه لا يجوز أن يترأس من ليس بنبي على نبي لأنه قلب ما يوجبه تدبير الحكماء، لأن النبي يوثق بظاهره وباطنه ولا يخبر إلا بالحق ولا يدعو إلا الى حق، وليس كذلك من ليس بنبي من أهل العقل.

4. من قرأ (دفاع) بألف فوجهه: أن الله لما أعان أولياءه على مدافعة أعدائه حتى هزموهم، حسن إضافة الدفاع إليه، لما كان من معونته، وإرادته له.

5. في الآية دلالة على فساد قول المجبرة: إنه ليس لله على الكافر نعمه، لأنه قال ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ [غافر: 61] فعم الجميع بالنعمة ولم يخص، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ ويفسد به أيضاً قولهم: في الارادة وأن جميع ما أعطى الله الكفار إنما هو ليكفروا لا ليؤمنوا.

6. ما روي أن طالوت همّ بقتل داوود لما رأى أن وجوه الناس أقبلت عليه بقتله جالوت رواية شاذة، فان صحت دلت على أن طالوت لم يكن نبياً، ولا إماماً، لأن النبي أو الامام لا بد أن يكون معصوماً.

7. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ الآيات المذكورة في هذه الآية المراد بها ما تقدم ذكره من إماتة ألوف من الناس دفعة واحدة بخلاف ما جرت به العادة ثم أحياهم في مقدار ساعة، ومن تمليك طالوت وقد كان من الخاملين الذين لا تنقاد لهم النفوس بما جعله له من الآية علماً على تمليكه، ومن نصرة أصحاب طالوت مع قلة عددهم، وضعفهم على جالوت وجنوده مع قوتهم وكثرة عددهم وشدة بطشهم حتى قهروهم واستعلوا عليهم، وكل ذلك مما لا يقدر عليه غير الله تعالى فهو دلالة عليه.

8. ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ دليل على نبوته على وجوه:

أ. منها ما في الأحياء بما تقدم من الدلالة على النبوة.

ب. ومنها أنه يجب التصديق بتلك الأمور لنبوته عليه السلام.

ج. ومنها أنه أوحي إليه به، كما أوحي الى المرسلين، لأنه سنة الله عزّ وجل في مثله.

د. ومنها الاستدعاء الى القيام بما أرسل به بعد قيام الحجة عليه.

هـ. ومنها أنه كما نصب تلك الآيات جعلك من المرسلين لما في ذلك من الحكمة التي تدعو الى صلاح المكلفين، وإنما صارت الأخبار بذلك دلالة على النبوة من جهة أنها أخبار عن عيون لم تشهدها ولا خالط أهل المعرفة بها، ومتى قال قائل: إنه أخذها عن أهل العلم بالأخبار، فان قوله يبطل، لأنه لو كان كذلك لم يتكلم لخروجه عن العادة كخروج أن يصير انسان من أعلم الناس بصناعة لم يشهدها ولا خالط أهلها، ولأن في أنبيائه تثبت معجزة من غير تلك الجهة، وهو المنع من الازاحة مع توفر الأسباب الداعية الى الحديث به، ولا نشر له وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى.

9. الرسالة تحمل جملة من الكلام لها فائدة الى المقصود بالدلالة، والحق هو وقوع الشيء موقعه الذي هو له من غير تغيير عنه بما لا يجوز فيه.

10. التلاوة: ذكر الكلمة بعد الكلمة من غير فاصلة، لأن التالي للشيء يليه من غير فصل بغيره، والأصل: التلوّ وهو إيقاع الشيء بعد الشيء الذي يليه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/294.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الدفع: مصدر دفع دفعًا، وأصله الصرف عن الشيء.

ب. الآيات: جمع آية، وهي الحجج.

ج. التلاوة: القراءة، وهو ذكر الكلمة بعد الكلمة من غير فاصل؛ لأن التالي للشيء يليه من غير فصل، وأصله التُّلُوُّ.

د. الحق: وقوع الشيء موقعه.

2. في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ عدة أقوال:

أ. الأول: لولا دفع الله بجنود المسلمين الكفار ومعرتهم لغلبوا وخربوا البلاد، عن ابن عباس ومجاهد وأبي علي وأبي مسلم، ثم اختلفوا:

فقيل: المراد به المؤمنون وأهل الحق.

وقيل: أراد المؤمن والكافر.

ب. الثاني: لولا دفع الله بِالبَرِّ الهلاكَ عن الفاجر لهلكت الأرض ومن فيها، عن علي ومجاهد وقتادة وجماعة من المفسرين.

ج. الثالث: لولا دفع الله باللطف للمؤمن والرعب في قلب الكافر لعمت الأرض بالفساد.

د. الرابع: يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، عن الحسن، فدفعه بالسلطان.

هـ. الخامس: ببعثة الرسل فيدعوهم إلى الحق ومعناه أنه يبعثه على دفع الأشرار عن ظلم الناس ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ﴾ ونعمة في دينهم ودنياهم: ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ على الخلق.

3. ثم لما تقدم من أنباء الرسل ومعجزاتهم عقبه بالتنبيه على نبوة نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلم فقال تعالى: ﴿تِلْكَ﴾ يعني ما مضى من الأخبار من حديث الألوف وجمع طالوت، وحديث التابوت وغيره ﴿آيَاتِ الله﴾ أي حججه ﴿نَتْلُوهَا﴾ نقرؤها ﴿عَلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿بِالْحَقِّ﴾ بالصدق، ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، وإنما ذكر أنه من المرسلين لوجوه:

أ. منها: أن فيما تقدم تنبيهًا على نبوته ومعجزة له، حيث أخبر عن جميع ذلك بأوضح بيان من غير أن قرأ كتابًا وخالط أحدًا ممن هو من أهل المعرفة.

ب. ومنها: أن نبوتهم والتصديق بتلك الأنباء إنما يجب لنبوته؛ لأن أخبارهم ومعجزاتهم قد اندرست، فإنما صح بنبوته وإخباره.

ج. ومنها: أنه إنما صح نبوتهم لمكان الوحي، وقد أوحي إليه كما أوحي إليهم فلا معنى للفرق.

د. ومنها: الاستدعاء إلى القيام وبما أرسل به بعد قيام الحجة.

هـ. ومنها: أنه نصب تلك الآيات حكمة وحجة ومصلحة، كذلك جعلك رسولاً لما فيه عن المصلحة والحكمة.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/57.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. التلاوة: ذكر الكلمة بعد الكلمة من غير فاصلة، لأن التالي للشيء يليه من غير فصل بغيره، وأصل التلو: إيقاع الشيء بعد الشيء الذي يليه.

ب. الحق هو وقوع الشيء موقعه الذي هو له من غير تغيير عنه، بما لا يجوز فيه.

ج. الرسالة: تحميل جملة من الكلام لها فائدة إلى المقصود بالدلالة.

2. في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: لولا دفع الله بجنود المسلمين الكفار ومعرتهم، لغلبوا وخربوا البلاد، عن ابن عباس ومجاهد.

ب. الثاني: معناه يدفع الله بالبر عن الفاجر الهلاك، عن علي وقتادة وجماعة من المفسرين، ومثله ما رواه جميل، عن أبي عبد الله قال: إن الله يدفع بمن يصلي من شيعتنا، عمن لا يصلي منهم، ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يزكي من شيعتنا، عمن لا يزكي منهم، ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا، عمن لا يحج منهم، ولو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا، وقريب من معناه ما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لولا عباد الله ركع، وصبيان رضع، وبهائم رتع، لصب عليكم العذاب صبا)، وروى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: (إن الله يصلح بصلاح الرجل المسلم ولده، وولد ولده، وأهل دويرته، ودويرات حوله، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم)

ج. الثالث: إن في معنى قول الحسن ما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن، لأن من يمتنع عن الفساد لخوف السلطان، أكثر ممن يمتنع منه لأجل الوعد والوعيد الذي في القرآن.

3. ﴿وَلَكِنَّ الله ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أي: ذو نعمة عليهم في دينهم ودنياهم.

4. ﴿تِلْكَ﴾ إشارة إلى ما تقدم ذكره من إماتة ألوف من الناس دفعة واحدة، وإحيائهم دفعة واحدة، بدعاء نبيهم، ومن تمليك طالوت، وهو من أهل الخمول الذي لا ينقاد لمثله الناس، لما جعل الله له من الآية، علما على تمليكه، ونصرة أصحاب طالوت مع قلة عددهم وضعفهم، على جالوت وأصحابه مع قوتهم وشوكتهم ﴿آيَاتِ الله﴾ أي: دلالات الله على قدرته ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ﴾ نقرؤها عليك يا محمد ﴿بِالْحَقِّ﴾ بالصدق، وقيل: يقرأها جبريل عليك بالحق بأمرنا.

5. ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ معناه: وإنك لمن المرسلين بدلالة إخبارك بهذه الآيات مع أنك لم تشاهدها، ولم تخالط أهلها، ولا تعلم ذلك مع عدم المشاهدة، ومخالطة أهلها إلا بوحي من جهة الله، والله لا يوحي إلا إلى أنبيائه.

6. قرأ أبو جعفر ونافع ويعقوب: (دفاع الله) بالألف، وفي الحج مثله، وقرأ الباقون بغير ألف، قال أبو علي: دفاع يحتمل أمرين:

أحدهما: أن يكون مصدر الفعل كالكتاب واللقاء ونحو ذلك.

الثاني: أن يكون مصدرا لفاعل، ويدل عليه قراءة من قرأ ﴿إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وكان معنى دفع ودافع سواء، ألا ترى إلى قوله:

çولقد حرصت بأن أدافع عنهم... فإذا المنية أقبلت لا تدفعé

كأن المعنى حرصت بأن أدفع عنهم المنية، والمنية لا تدفع، فوضع أدافع موضع أدفع، فإذا كان كذلك فيدفع ويدافع متقاربان.

7. ﴿نَتْلُوهَا﴾: جملة في موضع الحال، والعامل فيه معنى الإشارة في تلك وذو الحال ﴿آيَاتِ الله﴾ أي: متلوة عليك والباء في ﴿بِالْحَقِّ﴾: يتعلق بنتلو أيضا.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/616.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ قرأ الجمهور ﴿دَفْعُ﴾ بغير ألف هاهنا، وفي (الحج) (إن الله يدفع)، وقرأ نافع، ويعقوب، وأبان (ولولا دفاع الله)، قال أبو عليّ: المعنيان متقاربان، قال الشاعر:

çولقد حرصت بأن أدافع عنهم‏...فإذا المنيّة أقبلت لا تدفع‏é

2. في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن معناه: لولا أن الله يدفع بمن أطاعه عن من عصاه، كما دفع عن المتخلّفين عن طالوت بمن أطاعه، لهلك العصاة بسرعة العقوبة، قاله مجاهد.

ب. الثاني: أن معناه، لولا دفع الله المشركين بالمسلمين، لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المسلمين، وخرّبوا المساجد، قاله مقاتل.

3. معنى ﴿لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾: لهلك أهلها.

4. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ﴾، أي: نقصّ عليك من أخبار المتقدّمين، ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ حكمك حكمهم، فمن صدّقك، فسبيله سبيل من صدّقهم، ومن عصاك، فسبيله سبيل من عصاهم.

__________

(1) زاد المسير: 1/226.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم إنه تعالى لما بين أن الفساد الواقع بجالوت وجنوده زال بما كان من طالوت وجنوده، وبما كان من داوود من قتل جالوت بين عقيب ذلك جملة تشتمل كل تفصيل في هذا الباب، وهو أنه تعالى يدفع الناس بعضهم ببعض لكي لا تفسد الأرض، فقال: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾

2. قرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ﴾ بغير ألف، وكذلك في سورة الحج‏ ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ﴾ [الحج: 40] وقرءا جميعا ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحج: 38] بغير ألف ووافقهما عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر اليحصبي على دفع الله بغير ألف إلا أنهم قرؤوا ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالألف، وقرأ نافع ولولا دفاع الله و﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ﴾ بالألف، أما من قرأ ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ﴾، ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ﴾ فوجهه ظاهر، وأما من‏ قرأ: ولولا دفاع الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فوجه الإشكال فيه أن المدافعة مفاعلة، وهي عبارة عن كون كل واحد من المدافعين دافعا لصاحبه ومانعا له من فعله، وذلك من العبد في حق الله تعالى محال، وجوابه أن لأهل اللغة في لفظ دفاع قولين:

أ. أحدهما: أنه مصدر لدفع، تقول: دفعته دفعا ودفاعا، كما تقول: كتبته كتبا وكتابا، قالوا: وفعال كثيرا يجيء مصدرا للثلاثي من فعل وفعل، تقول: جمح جماحا، وطمح طماحا، وتقول: لقيته لقاء، وقمت قياما، وعلى هذا التأويل كان قوله: ولولا دفاع الله معناه ولولا دفع الله.

ب. الثاني: قول من جعل دفاع من دافع، فالمعنى أنه سبحانه إنما يكف الظلمة والعصاة عن ظلم المؤمنين على أيدي أنبيائه ورسله وأئمة دينه وكان يقع بين أولئك المحقين وأولئك المبطلين مدافعات ومكافحات، فحسن الإخبار عنه بلفظ المدافعة، كما قال: ﴿يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المائدة: 33]، و﴿شَاقُّوا اللَّهَ﴾ [الأنفال: 13] وكما قال: ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ [التوبة: 30] ونظائره.

3. ذكر الله تعالى في هذه الآية المدفوع والمدفوع به، فقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ﴾ إشارة إلى المدفوع، وقوله تعالى: ﴿بِبَعْضٍ﴾ إشارة إلى المدفوع به، فأما المدفوع عنه فغير مذكور في الآية، فيحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين، ويحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدنيا، ويحتمل أن يكون مجموعهما، أما القسم الأول: وهو أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين، فتلك الشرور إما أن يكون المرجع بها إلى الكفر، أو إلى الفسق، أو إليهما، فلنذكر هذه الاحتمالات:

أ. الاحتمال الأول: أن يكون المعنى: ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض، وعلى هذا التقدير فالدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدى فإنهم الذين يمنعون الناس عن الوقوع في الكفر بإظهار الدلائل والبراهين والبينات قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [إبراهيم: 1]

ب. الاحتمال الثاني: أن يكون المراد: ولولا دفع الله بعض الناس عن المعاصي والمنكرات بسبب البعض، وعلى هذا التقدير فالدافعون هم القائمون بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على ما قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: 110] ويدخل في هذا الباب: الأئمة المنصوبون من قبل الله تعالى لأجل إقامة الحدود وإظهار شعائر الإسلام ونظيره قوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ [المؤمنون: 96] وفي موضع آخر: ﴿وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ [الرعد: 22]

ج. الاحتمال الثالث: ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج والمرج وإثارة الفتن في الدنيا بسبب البعض، واعلم أن الدافعين على هذا التقدير هم الأنبياء عليهم السلام، ثم الأئمة والملوك الذابون عن شرائعهم، وتقريره: أن الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده، لأنه ما لم يخبز هذا لذاك ولا يطحن ذاك لهذا، ولا يبني هذا لذاك، ولا ينسج ذاك لهذا، لا تتم مصلحة الإنسان الواحد، ولا تتم إلا عند اجتماع جمع في موضع واحد، فلهذا قيل: الإنسان مدني بالطبع، ثم إن الاجتماع بسبب المنازعة المفضية إلى المخاصمة أولا، والمقاتلة ثانيا، فلا بد في الحكمة الإلهية من وضع شريعة بين الخلق، لتكون الشريعة قاطعة للخصومات والمنازعات، فالأنبياء عليهم السلام الذين أوتوا من عند الله بهذه الشرائع هم الذين دفع الله بسببهم وبسبب شريعهم الآفات عن الخلق‏ فإن الخلق ما داموا يبقون متمسكين بالشرائع لا يقع بينهم خصام ولا نزاع، فالملوك والأئمة متى كانوا يتمسكون بهذه الشرائع كانت الفتن زائلة، والمصالح حاصلة فظهر أن الله تعالى يدفع عن المؤمنين أنواع شرور الدنيا بسبب بعثة الأنبياء عليهم السلام واعلم أنه كما لا بد في قطع الخصومات والمنازعات من الشريعة فكذا لا بد في تنفيذ الشريعة من الملك، ولهذا قال صلّى الله عليه وآله وسلم‏ (الإسلام والسلطان أخوان توأمان)، وقال أيضا: (الإسلام أمير، والسلطان حارس، فما لا أمير له فهو منهزم، وما لا حارس له فهو ضائع)، ولهذا يدفع الله تعالى عن المسلمين أنواع شرور الدنيا بسبب وضع الشرائع وبسبب نصب الملوك وتقويتهم، ومن قال بهذا القول قال في تفسير قوله تعالى: ﴿لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ أي لغلب على أهل الأرض القتل والمعاصي، وذلك يسمى فسادا قال الله تعالى: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: 205] وقال: ﴿أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ﴾ [القصص: 19] وقال: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ [غافر: 26] وقال: ﴿أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [الأعراف: 127] وقال: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الروم: 41] وهذا التأويل يشهد له قوله في سورة الحج: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ﴾ [الحج: 40]

د. الاحتمال الرابع: ولولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار، لفسدت الأرض ولهلكت بمن فيها، وتصديق هذا ما روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (يدفع بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي، وبمن يزكي عمن لا يزكي، وبمن يصوم عمن لا يصوم، وبمن يحج عمن لا يحج، وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين) ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم هذه الآية على صحة هذا القول من القرآن‏ قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ [الكهف: 82] وقال تعالى: ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ﴾ [الفتح: 25] إلى قوله تعالى: ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفتح: 25] وقال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: 33] ومن قال بهذا القول قال في تفسير قوله تعالى: ﴿لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ أي لأهلك الله أهلها لكثرة الكفار والعصاة.

هـ. الاحتمال الخامس: أن يكون اللفظ محمولا على الكل، لأن بين هذه الأقسام قدرا مشتركا وهو دفع المفسدة، فإذا حملنا اللفظ عليه دخلت الأقسام بأسرها فيه.

4. قال المعتزلة، ومن وافقهم(2): هذه الآية من أقوى ما يدل على بطلان الجبر، لأنه إذا كان الفساد من خلقه فكيف يصلح أن يقول تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ ويجب أن لا يكون على قولهم لدفاع الناس بعضهم ببعض تأثير في زوال الفساد وذلك لأن على قولهم الفساد إنما لا يقع بسبب أن لا يفعله الله تعالى ولا يخلقه لا لأمر يرجع إلى الناس، والجواب(3): أن الله تعالى لما كان عالما بوقوع الفساد، فإذا صح مع ذلك العلم أن لا يفعل الفساد كان المعنى أنه يصح من العبد أن يجمع بين عدم الفساد وبين العلم بوجود الفساد، فيلزم أن يكون قادرا على الجمع بين النفي والإثبات وهو محال.

5. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251] فالمقصود منه أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس‏ كلهم، واحتج أهل السنة، ومن وافقهم بهذه الآية على أن الكل بقضاء الله تعالى، فقالوا: لو لم يكن فعل العبد خلقا لله تعالى، لم يكن دفع المحققين شر المبطلين فضلا من الله تعالى على أهل الدنيا لأن المتولي لذلك الدفع إذا كان هو العبد من قبل نفسه وباختياره ولم يكن لله تعالى‏ ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251] عقيب قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ يدل على أنه تعالى ذو فضل على العالمين بسبب ذلك الدفع، فدل هذا على أن ذلك الدفع الذي هو فعلهم هو من خلق الله تعالى ومن تقديره، فإن قالوا: يحمل هذا على البيان والإرشاد والأمر، قلنا: كل ذلك قائم في حق الكفار والفجار ولم يحصل منه الدفع، فعلمنا أن فضل الله ونعمته علينا إنما كان بسبب نفس ذلك الدفع وذلك يوجب قولنا.

6. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، ﴿تِلْكَ﴾ إشارة إلى القصص التي ذكرها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت، وإظهار الآية التي هي نزول التابوت من السماء، وغلب الجبابرة على يد داوود وهو صبي فقير، ولا شك أن هذه الأحوال آيات باهرة دالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ورحمته.

7. سؤال وإشكال: لم قال: ﴿تِلْكَ﴾ ولم يقل: (هذه) مع أن تلك يشار بها إلى غائب لا إلى حاضر؟ والجواب: قد بينا في تفسير قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: 2] أن تلك وذلك يرجع إلى معنى هذه وهذا، وأيضا فهذه القصص لما ذكرت صارت بعد ذكرها كالشيء الذي انقضى ومضى، فكانت في حكم الغائب فلهذا التأويل قال: ﴿تِلْكَ﴾

8. ﴿نَتْلُوهَا﴾ يعني يتلوها جبريل عليه السلام عليك لكنه تعالى جعل تلاوة جبريل عليه السلام تلاوة لنفسه، وهذا تشريف عظيم لجبريل عليه السلام، وهو كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح: 10]

9. في قوله تعالى: ﴿بِالْحَقِّ﴾ وجوه:

أ. أحدها: أن المراد من ذكر هذه القصص أن يعتبر بها محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وتعتبر بها أمته في احتمال الشدائد في الجهاد، كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة.

ب. ثانيها: ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب، لأنه في كتبهم، كذلك من غير تفاوت أصلا.

ج. ثالثها: إنا أنزلنا هذه الآيات على وجه تكون دالة في نبوتك بسبب ما فيها من الفصاحة والبلاغة.

د. رابعها: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ أي يجب أن يعلم أن نزول هذه الآيات عليك من قبل الله تعالى، وليس بسبب إلقاء الشياطين، ولا بسبب تحريف الكهنة والسحرة.

10. ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ إنما ذكر هذا عقيب ما تقدم لوجوه:

أ. أحدها: أنك أخبرت عن هذه الأقاصيص من غير تعلم ولا دراسة، وذلك يدل على أنه صلّى الله عليه وآله وسلم إنما ذكرها وعرفها بسبب الوحي من الله تعالى.

ب. ثانيها: أنك قد عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء عليهم السلام في بني إسرائيل من الخوف عليهم والرد لقولهم، فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك، وخلاف من خالف عليك، لأنك مثلهم، وإنما بعث الكل لتأدية الرسالة ولامتثال الأمر على سبيل الاختيار والتطوع، لا على سبيل الإكراه، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم والوبال في ذلك يرجع عليهم فيكون تسلية للرسول صلّى الله عليه وآله وسلم فيما يظهر من الكفار والمنافقين، ويكون قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ كالتنبيه على ذلك.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/509.

(2) الكلام هنا للقاضي

(3) لأهل السنة، ومن وافقهم

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ كذا قراءة الجماعة، إلا نافعا فإنه قرأ (دفاع) ويجوز أن يكون مصدرا لفعل كما يقال: حسبت الشيء حسابا، وآب إيابا، ولقيته لقاء، ومثله كتبه كتابا، ومنه ﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾، النحاس: وهذا حسن، فيكون دفاع ودفع مصدرين لدفع وهو مذهب سيبويه، وقال أبو حاتم: دافع ودفع بمعنى واحد، مثل طرقت النعل وطارقت، أي خصفت إحداهما فوق الأخرى، والخصف: الخرز، واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ﴾، وأنكر أن يقرأ (دفاع) وقال: لأن الله تعالى لا يغالبه أحد، قال مكي: هذا وهم توهم فيه باب المفاعلة وليس به، واسم ﴿اللَّهُ﴾ في موضع رفع بالفعل، أي لولا أن يدفع الله، و(دفاع) مرفوع بالابتداء عند سيبويه، ﴿النَّاسِ﴾ مفعول، ﴿بَعْضُهُمْ﴾ بدل من الناس، ﴿بِبَعْضٍ﴾ في موضع المفعول الثاني عند سيبويه، وهو عنده مثل قولك: ذهبت بزيد، فزيد في موضع مفعول فاعلمه.

2. اختلف العلماء في الناس المدفوع بهم الفساد من هم؟

أ. فقيل: هم الأبدال وهم أربعون رجلا كلما مات واحد بدل الله آخر، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم، اثنان وعشرون منهم بالشام وثمانية عشر بالعراق، وروي عن علي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلا كلما مات منهم رجل أبدل الله مكانه رجلا يسقى بهم الغيث وينصر بهم على الأعداء ويصرف بهم عن أهل الأرض البلاء) ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول)، وخرج أيضا عن أبي الدرداء قال: (إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوما من أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم يقال لهم الأبدال، لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بحسن الخلق وصدق الورع وحسن النية وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله بصبر وحلم ولب وتواضع في غير مذلة، فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله لنفسه واستخلصهم بعلمه لنفسه، وهم أربعون صديقا منهم ثلاثون رجلا على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن، يدفع الله بهم المكاره عن أهل الأرض والبلايا عن الناس، وبهم يمطرون ومن يرزقون، لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه)

ب. وقال ابن عباس: ولولا دفع الله العدو بجنود المسلمين لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين وخربوا البلاد والمساجد.

ج. وقال سفيان الثوري: هم الشهود الذين تستخرج بهم الحقوق.

د. وحكى مكي أن أكثر المفسرين على أن المعنى: لولا أن الله يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يتقي عمن لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم، وكذا ذكر النحاس والثعلبي أيضا.

هـ. وقال الثعلبي: وقال سائر المفسرين: ولولا دفاع الله المؤمنين الأبرار عن الفجار والكفار لفسدت الأرض، أي هلكت، وذكر حديثا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله يدفع العذاب بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما أنظرهم الله طرفة عين)، ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: 251]، وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (إن لله ملائكة تنادي كل يوم لولا عباد ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا) خرجه أبو بكر الخطيب بمعناه من حديث الفضيل بن عياض، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لولا فيكم رجال خشع وبهائم رتع وصبيان رضع لصب العذاب على المؤمنين صبا)، أخذ بعضهم هذا المعنى، فقال:

لولا عباد للإله ركع... وصبية من اليتامى رضع

ومهملات في الفلاة رتع... صب عليكم العذاب الأوجع

وروى جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله ليصلح بصلاح الرجل ولده وولد ولده واهلة دويرته ودويرات حوله ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم)، وقال قتادة: يبتلي الله المؤمن بالكافر ويعافي الكافر بالمؤمن، وقال ابن عمر قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة من أهل بيته وجيرانه البلاء)، ثم قرأ ابن عمر ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾

و. وقيل: هذا الدفع بما شرع على ألسنة الرسل من الشرائع، ولولا ذلك لتسالب الناس وتناهبوا وهلكوا، وهذا قول حسن فإنه عموم في الكف والدفع وغير ذلك فتأمله.

ز. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾، بين سبحانه أن دفعه بالمؤمنين شر الكافرين فضل منه ونعمة.

3. ﴿تِلْكَ﴾ ابتداء ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾ خبره، وإن شئت كان بدلا والخبر ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾، ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، خبر إن أي وإنك لمرسل، نبه الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم أن هذه الآيات التي تقدم ذكرها لا يعلمها إلا نبي مرسل.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/251.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ قرأه الجماعة ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ﴾ وقرأ نافع: دفاع وهما مصدران لدفع، كذا قال سيبويه، وقال أبو حاتم: دافع ودفع واحد مثل:طرقت نعلي وطارقته، واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور وأنكر قراءة دفاع، قال: لأن الله عزّ وجلّ لا يغالبه أحد، قال مكي: يوهم أبو عبيدة أن هذا من باب المفاعلة وليس به، وعلى القراءتين فالمصدر مضاف إلى الفاعل: أي ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ﴾ وبعضهم: بدل من الناس، وهم الذين يباشرون أسباب الشرّ والفساد ببعض آخر منهم، وهم الذين يكفونهم عن ذلك، ويردونهم عنه.

2. ﴿لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ لتغلب أهل الفساد عليها وإحداثهم للشرور التي تهلك الحرث والنسل، وتنكير فضل للتعظيم.

3. آيات الله: هي ما اشتملت عليه هذه القصة من الأمور المذكورة، والمراد ﴿بِالْحَقِّ﴾ هنا: الخبر الصحيح الذي لا ريب فيه عند أهل الكتاب والمطلعين على أخبار العالم، وقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ إخبار من الله سبحانه بأنه من جملة رسل الله سبحانه، تقوية لقلبه، وتثبيتا لجنانه، وتشييدا لأمره.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/305.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ﴾ [الحج: 40] من أهل الشر ﴿بِبَعْضٍ﴾ [محمد: 4] من أهل الخير ﴿لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: 251]، أي بغلبة الكفار وظهور الشرك والمعاصي كما قال تعالى: ﴿ولَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وبِيَعٌ وصَلَواتٌ ومَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً﴾ [الحج: 40] الآية.

2. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251]، أي منّ عليهم بالدفع، ولذلك قوّى سبحانه هؤلاء الضعفاء وأعطى بعضهم الملك والحكمة ومن سائر العلوم، ليدفع فساد الأقوياء بالسيف.

3. ﴿تِلْكَ﴾ [النازعات: 12]، أي المذكورات من إماتة الألوف وإحيائهم وتمليك طالوت وإتيان التابوت وانهزام جالوت وقتل داوود إياه وتملكه ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾ [الطلاق: 11] إذ هي أخبار غيوب تدل على كمال قدرته سبحانه وحكمته ولطفه ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ﴾ [الجاثية: 6]، أي ننزل عليك جبريل بها ﴿بِالْحَقِّ﴾ [العصر: 3]، أي اليقين الذي لا يرتاب فيه ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [البقرة: 252] بما دلت عليه هذه الآيات من علمك بها من غير معلم من البشر، ثم بإعجازها الباقي على مدى الدهر.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/183.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَوْلَا دِفَاعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم﴾ أي: المشركين والفسَّاق ﴿بِبَعْضٍ﴾ أي: المؤمنين، ويكون الدفاع أيضًا بالفسَّاق أو بالمشركين يدفعون ظلم الظالم، كالسلطان الجائر وسلاطين الفرس، ولا مشرك الآن يدفع ظلمًا إِلَّا وهو يفعل من الظلم أكثر مِمَّا يدفع.

2. ﴿لَّفَسَدَتِ الَارْضُ﴾ هذا الجنس السفليُّ آدميُّوه وجنُّه، بالشرك والظلم، وقتل المسلمين، وتخريب المساجد، وتعطيل أمور الدين، وأرضُه وجباله بالقحط والوباء والمضارِّ، فتموت الحيوانات ويقلُّ نفعها، والحرث والشجر.

3. وفي الآية تعظيم شأن الملك، فيقال: الدين والملك توأمان، وذهاب أحدهما ذهاب للآخر، والملك حارس والدين أسٌّ، وما لا أسَّ له مهدوم، وما لا حارس له فهو ضائع، ولا يصحُّ أن يقال: لولا دفاع الله الناس بَرَّهم وفاجرهم بطاعة البَرِّ وتقواه؛ لأنَّ الآية في الدفع بالبعض عن البعض، لا في دفع نقمات الله عنهم ببعض، ولو فسَّر أحمد الآية بذلك واستأنس له بقول ابن عمر عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنَّ اللهَ يَدفَعُ بالمسلم الصالِح عن مائة أهل بيتٍ من جيرانه البلاء) ثمَّ قرأ: ﴿وَلَوْلَا دِفَاعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الَارْضُ﴾، وذلك أولى من تفسير فساد الأرض بفساد دين أهلها.

4. ﴿وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ ومن فضله الدفع عنهم، ﴿تِلْكَ﴾ ما تقدَّم من قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ﴾ إلى هنا ﴿ءَايَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا﴾ نقصُّها بالقراءة بلسان جبريل، والجملة حال من (آيَاتُ)؛ لأنَّ المبتدأ اسم إشارة، أو مستأنفة، ﴿عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ المطابق للواقع بحيث لا يرتاب فيه صاحب التواريخ المحقِّق وقارئ الكتب الأولى، متعلِّق بـ (نَتلُوهَا)، أو بحال خاصَّة من ضمير (نَتْلُو) أو من (ها) أو من الكاف.

5. ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ لدلالة ما تقصُّ، مع أنَّك في أبعد أرض عن أهل الكتاب، وأنَّك لا تقرأ كتابًا ولا تكتبه، وأنَّك لا تجالس القصَّاص ولا تصاحبهم.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/109.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم بين تعالى حكمة الإذن بالقتال الذي قررته الآيات فقال: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ قرأ نافع (دفاع الله) والباقون ﴿دَفْعُ اللَّهِ﴾) أي: لولا أن الله تعالى يدفع أهل الباطل بأهل الحق، وأهل الفساد في الأرض بأهل الإصلاح فيها لغلب أهل الباطل والإفساد في الأرض، وبغوا على الصالحين وأوقعوا بهم حتى يكون لهم السلطان وحدهم، فتفسد الأرض بفسادهم، فكان من فضل الله على العالمين وإحسانه إلى الناس أجمعين أن أذن لأهل دينه الحق المصلحين في الأرض بقتال المفسدين فيها من الكافرين والبغاة المعتدين، فأهل الحق حرب لأهل الباطل في كل زمان، والله ناصرهم ما نصروا الحق وأرادوا الإصلاح في الأرض، وقد سمى هذا دفعا على قراءة الجمهور باعتبار أنه منه سبحانه، إذ كان سنة من سننه في الاجتماع البشري، وسماه دفاعا في قراءة نافع باعتبار أن كلا من أهل الحق المصلحين وأهل الباطل المفسدين يقاوم الآخر ويقاتله.

2. ثم بين الله تعالى أن إيتاء النبي الأمي أمثال هذه القصص من دلائل نبوته فقال: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ﴾ يشير إلى قصة الذين خرجوا من ديارهم وقصة بني إسرائيل التي بعدها ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ فيه تعريض بأن ما يقوله بنو إسرائيل مخالف لهذا فهو باطل ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ إذ لولا الرسالة لما عرفت شيئا من هذه القصص وأنت لم تكن في أزمنة وقوعها ولا تعلمت شيئا من التاريخ، ولو تعلمته لجئت بها على النحو الذي عند أهل الكتاب أو غيرهم من القصاصين.

3. قرر تعالى هذه الحجة على نبوته صلى الله عليه وسلم في سورة القصص بعد ذكر قصة موسى في مدين، وذكر نبوته بقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ [القصص: 44-45]

4. دفع الله الناس بعضهم ببعض من السنن العامة، وهو ما يعبر عنه علماء الحكمة في هذا العصر بتنازع البقاء، ويقولون: إن الحرب طبيعية في البشر؛ لأنها من فروع سنة تنازع البقاء العامة، وأنت ترى أن قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: 251] ليس نصا فيما يكون بالحرب والقتال خاصة، بل هو عام لكل نوع من أنواع التنازع بين الناس الذي يقتضي المدافعة والمغالبة، ويظن بعض المتطفلين على علم السنن في الاجتماع البشري أن تنازع البقاء الذي يقولون إنه سنة عامة هو من أثرة الماديين في هذا العصر، وأنه جور وظلم، هم الواضعون له والحاكمون به، وأنه مخالف لهدي الدين، ولو عرف من يقولون هذا معنى الإنسان أو لو عرفوا أنفسهم، أو لو فهموا هذه الآية وما في معناها من سورة الحج لما قالوا ما قالوا.

5. قوله تعالى: ﴿لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ يؤيد السنة التي يعبر عنها علماء الاجتماع بالانتخاب الطبيعي أو بقاء الأمثل، ووجه ذلك جعل هذا من لوازم ما قبله؛ فإنه تعالى يقول: إن ما فطر عليه الناس من مدافعة بعضهم بعضا عن الحق والمصلحة هو المانع من فساد الأرض، أي: هو سبب بقاء الحق وبقاء الصلاح، ويعزز ذلك قوله تعالى في بيان حكمة الإذن للمسلمين بالقتال في سورة الحج ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾، فهذا إرشاد إلى تنازع البقاء والدفاع عن الحق، وأنه ينتهي ببقاء الأمثل وحفظ الأفضل، ومما يدل على هذه القاعدة من القرآن المجيد قوله تعالى في سورة الرعد ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ فهو يفيد أن سيول الحوادث ونيران التنازع تقذف زبد الباطل الضار في الاجتماع وتدفعه، وتبقي إبليز الحق النافع الذي ينمو فيه العمران، وإبريز المصلحة التي يتحلى بها الإنسان، وهناك آيات أخرى في أن الحق يزهق الباطل، وسيأتي بيان ذلك ودفع الشبه عنه في تفسيرها إن أمهلنا الزمان.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/487.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم بين سبحانه الحكمة في الأمر بالقتال الذي استفيد من الآيات السالفة فقال: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251] أي ولولا دفع الله أهل البغي والجور والشرور والآثام بأهل الإصلاح والخير، لغلب أهل الفساد وبغوا على الصالحين، وأوقعوا بهم وصار لهم السلطان في الأرض، فكان من رحمة الله لعباده وفضله عليهم، أن أذن للمصلحين بقتال البغاة المفسدين وهو سبحانه جعل أهل الحق حربا لأهل الباطل، وهو ناصرهم ما نصروه وأصلحوا في الأرض.

2. نسب عز اسمه الدفع إلى نفسه، لأنه سنة من سننه في المجتمع البشرى، وعليه بنى نظام هذا العالم حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

3. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [البقرة: 252] أي هذه القصص السالفة من حديث الألوف الذين خرجوا من ديارهم، وتمليك طالوت، وإتيان التابوت، وانهزام الجبابرة، وقتل داوود جالوت ـ آيات الله نقصها عليك على وجه لا يشك فيه أهل الكتاب، إذ هم يجدونه مطابقا لما جاء في كتبهم الدينية والتاريخية فأنت من المرسلين لما دلت عليه هذه الآيات، ولو كنت قد تعلمتها لجئت بها على النهج الذي عند أهل الكتاب أو غيرهم من القصّاص، ولم تشاهد أزمنة وقوعها حتى تراها رأى العين، وقد أشار سبحانه إلى مثل هذه الحجة للدلالة على نبوّته صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: ﴿وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى‏ مُوسَى الْأَمْرَ وما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، ولكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، ولكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾

ح. إن من سنن الله في خلقه دفع الناس بعضهم بعضا وهو المعبر عنه في العصر الحديث (بنظرية تنازع البقاء) ومن ثم قالوا إن الحرب طبيعية في البشر، إذ بها يبقى الأصلح والأمثل، وإلى هذا يشير سبحانه بقوله: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) أي إن سنة الله أن يقذف زبد الباطل الضار بالمجتمع ويمحوه من الوجود، ويبقى إبليز الحق النافع الذي ينمو فيه عمران العالم، ويحفظ به الخلق من أعاصير الظلم والفساد، حتى يتغلب الخير على الشر، والحق على الباطل، ولا يزال هذا سنة الوجود ما بقي الإنسان على ظهر البسيطة.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/223.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أما في هذا الموضع فإن السياق يتجه إلى هدف آخر من وراء القصة جميعا.. وحين ينتهي إلى هذه الخاتمة، ويعلن النصر الأخير للعقيدة الواثقة لا للقوة المادية، وللإرادة المستعلية لا للكثرة العددية.. حينئذ يعلن عن الغاية العليا من اصطراع تلك القوى.. إنها ليست المغانم والأسلاب، وليست الأمجاد والهالات.. إنما هو الصلاح في الأرض، وإنما هو التمكين للخير بالكفاح مع الشر: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251].

2. وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض من اصطراع القوى وتنافس الطاقات وانطلاق السعي في تيار الحياة المتدفق الصاخب الموار، وهنا تتكشف على مد البصر ساحة الحياة المترامية الأطراف تموج بالناس، في تدافع وتسابق وزحام إلى الغايات.. ومن ورائها جميعا تلك اليد الحكيمة المدبرة تمسك بالخيوط جميعا، وتقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق، إلى الخير والصلاح والنماء، في نهاية المطاف.. لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، ولولا أن في طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع، فتنفض عنها الكسل والخمول، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة، وتظل أبدا يقظة عاملة، مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة.. وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء.. يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة، تعرف الحق الذي بينه الله لها، وتعرف طريقها إليه واضحا، وتعرف أنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض، وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله‏ إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل، وإلا أن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله وابتغاء لرضاه.

3. وهنا يمضي الله أمره، وينفذ قدره، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا، ويجعل حصيلة الصراع والتنافس والتدافع في يد القوة الخيرة البانية، التي استجاش الصراع أنبل ما فيها وأكرمه، وأبلغها أقصى درجات الكمال المقدر لها في الحياة.

4. من هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر، ذلك أنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض، وتمكين الصلاح في الحياة، إنها تنتصر لأنها تمثل غاية عليا تستحق الانتصار.

5. في النهاية يجيء التعقيب الأخير على القصة: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾.. تلك الآيات العالية المقام البعيدة الغايات‏ ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ﴾.. الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الذي يتلوها وهو أمر هائل عظيم حين يتدبر الإنسان حقيقته العميقة الرهيبة.. ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾.. تحمل معها الحق، ويتلوها من يملك حق تلاوتها وتنزيلها، وجعلها دستورا للعباد، وليس هذا الحق لغير الله سبحانه، فكل من يسن للعباد منهجا غيره إنما هو مفتات على حق الله، ظالم لنفسه وللعباد، مدع ما لا يملك، مبطل لا يستحق أن يطاع، فإنما يطاع أمر الله، وأمر من يهتدي بهدى الله.. دون سواه.. ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾.. ومن ثم نتلو عليك هذه الآية؛ ونزودك بتجارب البشرية كلها في جميع أعصارها؛ وتجارب الموكب الإيماني كله في جميع مراحله، ونورثك ميراث المرسلين أجمعين.

6. بهذا ينتهي هذا الدرس القيم الحافل بذخيرة التجارب، وبهذا ينتهي هذا الجزء الذي طوّف بالجماعة المسلمة في شتى المجالات وشتى الاتجاهات؛ وهو يربيها ويعدها للدور الخطير، الذي قدره الله لها في الأرض، وجعلها قيمة عليه، وجعلها أمة وسطا تقوم على الناس بهذا المنهج الرباني ـ إلى آخر الزمان.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/269.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ولكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ﴾، يبيّن أن هذا التدافع بين الناس.. بين الخير والشر.. بين الحق والباطل.. بين الأقوياء والضعفاء.. بين الأغنياء والفقراء.. بين الأفراد والأفراد.. وبين الجماعات والجماعات.. وبين الأمم والأمم ـ هذا التدافع في كل موقع من مواقع الحياة، وفى كل متجه فيها، وعلى كل مورد مواردها ـ هو الذي يحرك دولاب العمل على هذه الأرض، ويبعث الحياة في كل جانب منها.. ولو كان النّاس متجها واحدا، ومذهبا واحدا، وشعورا واحدا، وتفكيرا واحدا، ومنزعا واحدا ـ لكانوا شيئا واحدا.. كانوا كتلة باردة متضخمة، أشبه بجبل من الجليد، لا تطلع عليه الشمس أبدا! فسبحان من خالف بين النّاس فجعل من هذا التخالف مادة الحياة والبناء والعمران، ولولا ذلك لفسدت الأرض وضاع الناس: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251].

2. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ هذه الآيات التي يتلقّاها النبيّ الكريم صلّى الله عليه وآله وسلم إنما هي كلمات الله، يتلوها عليه رسول كريم من رسل الله، وإنها لحقّ من ربّ العالمين، تقرر الحق بأنه من المرسلين الذين أنعم الله عليهم، واصطفاهم للسفارة بينه بين خلقه، يحملون بين أيديهم وعلى ألسنتهم النور والهدى.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/309.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ بعد ذكر تلك القصة المرشدة الهادية لكل مستبصر معتبر، بين الله سبحانه أن هذه الآيات المتلوة هي من عند الله، وهى تتلى بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنها تتلى على الرسول الكريم وهى معجزته وآية رسالته، وإنما ذلك بعد هذه القصة لما فيها من الدلائل الواضحة البينة التي تثبت رسالة النبيّ الكريم؛ لأن ذلك القصص الصادق جاء على لسان أميّ لا يقرأ ولا يكتب، لم يجلس إلى معلم، ولم يأته علم لا بطريق كتاب يقرؤه؛ لأنه ليس بقارئ، ولا بطريق معلم يعلمه، ولا بتلقين من أي جهة كان التلقين، إذ كان صلّى الله عليه وآله وسلم من أمة أمية ليس فيها علم مدون في كتب، ولا علماء يتدارسون، ولم يكن جو علمي ينال منه الأريب بالخلطة والاتصال، ولم يكن محمد صلّى الله عليه وآله وسلم في حياته ذا نجعة وأسفار، بل لم ينتقل من مكة إلا مرتين كانت أولاهما وهو غلام، وكانت الثانية وهو يقارب الخامسة والعشرين.

2. فإذا كانت حال النبيّ كذلك والقصص جاء على ذلك النحو من الأحكام والإرشاد والتعليم وبيان سنن الاجتماع والحكم الأمثل والقيادة الرشيدة مع صدقه في ذاته، فهو دليل على أنه من عند الله.

3. الإشارة في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ﴾ إلى الآيات المتلوة من قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ إلى آخر القصة وكانت الإشارة للبعيد، لما في ذلك من معنى الاستقصاء للآيات من أولها إلى آخرها ولعلو شأنها، وكمال معانيها والوفاء في مقاصدها، وإضافة الآيات إلى الله لأنها جزء من القرآن وكله من عند الله، فالإضافة لتقرير هذا المعنى وتوكيده، وتنبيه الأذهان دائما إليه ليعطوه حقه من الفهم والتدبير والاسترشاد به، والاعتبار بما اشتمل عليه من مواعظ وقصص وعبر.

4. قوله تعالى: ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ يفيد أمرين:

أ. أولهما: أن القرآن كان يتلى على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم ويتلقاه بالروح الأمين، وإسناد التلاوة إلى الله العلى القدير مع أن الذي كان يلقى القرآن على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم هو جبريل ـ للإشارة إلى أن تلاوة جبريل هي تلاوة الله فهو رسوله الأمين إلى رسله المكرمين.

ب. الثاني: أن ما في القرآن حق دائما، أي أمر ثابت لا يقبل التغيير فليس لأحد أن يقول إن القرآن صالح لزمان دون زمان؛ لأنه الحق الثابت المستقر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فعلى العقول أن تتفهمه وتتدبره ثم تخضع لأحكامه المستقرة الثابتة من غير محاولة للتغيير أو التبديل.

5. التلاوة هي القراءة المتتابعة المفسرة الواضحة التي تتصل فيها المعاني وتتسابق فيها الألفاظ بحيث يكون الأداء ممثلا للمعنى مصورا له، وقد قال الراغب في مفرداته إن مادة (تلا) أصلها بمعنى تبع متابعة ليس بينها ما ليس منها، وذلك يكون تارة بالجسم، وتارة بالاقتداء في الحكم ومصدره تلوّ وتلوّ، وتارة بالقراءة وتدبر المعنى، ومصدره تلاوة.. ثم قال: (والتلاوة تختص باتباع كتب الله المنزلة تارة بالقراءة، وتارة بالارتسام لما فيها من أمر ونهى وترغيب وترهيب، وهى أخص من القراءة فكل تلاوة قراءة وليس كل قراءة تلاوة)، فالتلاوة خاصة بقراءة كلام الله سبحانه وتعالى بمقتضى التخصيص القرآني.

6. ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، وإن ذلك كالنتيجة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يتلو عليه آياته بالحق والصدق، فإن تلك الآيات برهان النبوة ومعجزة الرسالة، وقد أكد الله سبحانه وتعالى رسالة رسولنا محمد صلّى الله عليه وآله وسلم بثلاثة مؤكدات:

أ. أولها: (إن)، فإنها في أصل معناها للتأكيد، وهو يصحبها في دلالتها دائما.

ب. ثانيها: (اللام) في قوله تعالى: ﴿لِمَنْ﴾

ج. ثالثها: (الجملة الاسمية)، وإدخاله صلّى الله عليه وآله وسلم في عداد المرسلين.

7. قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ يدل على أمر آخر، وهو أن إرسال رسول من قبل رب العالمين أمر مقرر ثابت معروف عند أهل العلم فلم تكن رسالة محمد وهو من البشر بدعا، ولا أمرا غير مألوف أو معروف فلا يمارى في أصل الرسالة إلا جهول، أو جحود، وإن القرآن وحده حقا هو الدلالة على رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فهو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض.

8. ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251] بيّن الله سبحانه وتعالى قصة بنى إسرائيل، وهى قصة يتجلى فيها استخذاء الضعفاء، إن خافوا الموت، وجهلوا أن البقاء على الذل هو حقيقة الفناء، ثم بيّن كيف تتحفز بعض العزائم لرفع نير الظلم وكف يد الظالم، ثم بين كيف يقوم في المغلوب عليهم نزاع بين دعاة التردد والهزيمة ودعاة الإقدام، وكيف تخضع النفوس لخواطر الرغبة في العزة والإقدام على التغيير، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ثم بين حال الجيوش القوية في وجوب توحد قيادتها تحت سلطان قائد قوى عالم مفكر مجرب، وكيف تضعف العزائم عند الذين ألفوا الذل فيستنيمون إلى الراحة الذليلة، بدل الشدة العزيزة، ثم بين سبحانه كيف تغلب فئة قليلة مسلحة بالإيمان القوى والتصميم على طلب العزة، مستعينة بالصبر، معتمدة على الله جلت قدرته.

9. بيّن سبحانه كل ذلك في عبارة جلية، أو إشارة واضحة، ثم بين سبحانه أن سنة الله في خلقه أن يدفع الخير والشر، وأن تكون المدافعة بينهما مستمرة، حتى لا تفسد الأرض، فإنه إن غلب الشر كان الخراب والدمار.

10. إن الله سبحانه قد قدّر أن يبتلى الناس من يوم أن هبط آدم وحواء إلى الأرض، فقد ابتلاهم بإبليس وإخوانه، فكان النزاع بين الخير والشر والحق والباطل، والظلم والعدل، والله دائما يسخر للحق أنصارا يعملون لنصرته، ويتخذون الأسباب والأهبة، ثم يؤيدهم بنصره وتوفيقه فإن الأرض لا تخلو من قائم للحجة ظاهرا مشهورا، أو مستورا مغمورا، حتى لا تذهب بينات الله كما قال على، ولذا قال سبحانه: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ أي لولا دفع الله سبحانه بعض الناس الأشرار ببعض الناس الأخيار لفسدت الأرض، لأنهم إن تركوا من غير أن يدافعوا عمّ الفساد وعمّ الدمار، وإن دفع الشر بالخير يكون في داخل الأمم وبين الآحاد، وبين الأمم بعضها مع بعض، فالأمة الواحدة يكون من آحادها الأخيار والأشرار، ويدفع الله بعمل الأخيار وبال عمل الأشرار.

11. دفع ذلك يكون بطرق مختلفة:

أ. منها: أن يكون الشر في خفاء، والخير في جلاء، فيكون انزواء الشر دفعا له وفى ظهور الخير دعوة إليه، وحثا عليه.

ب. ومنها: أن يقل عدد الأشرار الظاهرين ويكثر عدد الأخيار البارزين فيدفع الله سبحانه بتلك الكثرة الظاهرة شر تلك القلة الفاجرة.

ج. ومنها: أن عمل الأبرار في الأمة يصلح الله به ما أفسده الأشرار مهما يكن عدد هؤلاء، ففي بعض الآثار عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال (إن الله يدفع العذابـ أي الدنيوي ـ بمن يصلى من أمتي عمن لا يصلى وبمن يزكى عمن لا يزكى، وبمن يصوم عمن لا يصوم، وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الفرائض ما أنظرهم الله طرفة عين، ثم تلا قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾

12. أما دفع الله بعض الناس الأشرار ببعض الناس الأخيار في الأمم بعضها مع بعض فإن ذلك بجهاد الأمم التي تعمل للحق للأمم التي يناصر أكثرها الباطل، أو تسكت عن ظلم حكامها لغيرهم من الأمم، ولقد روى أن ابن عباس قال في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ (لولا دفع الله العدو بجنود المسلمين لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين وخربوا البلاد والمساجد)، وفى الجملة أنه لا بد للحق من قوة تدفع الباطل، وأن الله قد أمد الأخيار بقوته، ليدفعوا الشر ويكفكفوا من حدته.

13. فى العبارة السامية إشارة إلى أن تلك المغالبة هي في طبيعة البشر بمقتضى خليقتهم وفطرتهم، إذ قال سبحانه: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ فهو سبحانه قد حكم بأن دفعه للناس أجمعين، ثم أردف القول بالبدل بقوله تعالى: ﴿بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ وفى ذلك إشارة إلى أن تلك المدافعة بين الناس مستمرة، وأنها ليست في جيل دون جيل، ولا زمان دون زمان، ولا يتعين أن يكون قوم بأعيانهم للشر، وآخرون للخير، فقد يكون بعض الناس فيه خير في بعض نواحيه، فيدفع شر غيره في هذه الناحية، ويكون في الآخر ما يدفع به شرا في بعض نواحي الأول، وقد يكون بعض الأقوام في جانب الحق ينصرونه لغايات في نفوسهم، وإن لم يكونوا فضلاء في عامة أحوالهم، فالشر يدفع بالبر والفاجر، وينصر الحق بالأخيار والأشرار؛ ولذا لم يقل سبحانه وتعالى: ولولا دفع الله الأشرار بالأخيار، بل قال سبحانه ﴿بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ ليعم تلك الأحوال، وذلك من فضل الله على عباده.

14. لذا ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251]، وقد دل ذلك الختام الكريم على ثلاثة أمور:

أ. أولها: أن ذلك التنظيم الحكيم هو من فضل الله ورحمته، وإنعامه على خلقه، وليس ذلك بواجب عليه سبحانه؛ وذلك لأنه خلق الناس، وخلق معهم عقولا يعرفون بها خيرهم وشرهم، فإن ساروا في طريق الخير والفلاح فلهم ما قصدوا إليه، وإن ساروا في طريق الشر والفساد فإلى الهاوية يسيرون، وعليهم وبال أمرهم، وعاقبة عملهم إنما هو من فضله، وقد دل على ذلك الاستدراك بقوله تعالى: ﴿ولكِنَّ اللهَ ذُوفَضْلٍ‏﴾ ووصف ذلك بأنه فضل من رب العالمين خالق الناس أجمعين.

ب. الثاني: فضل الله سبحانه وتعالى الكثير، ووصفه سبحانه بأنه ذو فضل، وقد دل على كثرة الفضل التنكير في قوله تعالى: ﴿ذُوفَضْلٍ‏﴾ أي ذو فضل كثير، لا يدرك الناس قدره، ولا يعرف كنهه، ولا يحد بمقدار حتى يعرف ويعين بالتعريف.

ج. الثالث: أن النعمة التي أنعم الله بها على خلقه من دفع الفساد ينعم بها المؤمنون والمشركون، والأشرار والأبرار؛ لأن الفساد إذا عم لا يسلم منه أحد، والخير إذا تحقق عم الجميع، وقد دل على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ فلم يقل على المؤمنين أو المتقين، بل عم الخير على الناس أجمعين للإشارة إلى ذلك المعنى الجليل.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/899.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿ولولا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ولكِنَّ اللهَ ذُوفَضْلٍ‏ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾، تشير الآية الكريمة الى ان أي مجتمع لا تقوم فيه هيئة قوية رادعة لا بد أن تسوده الفوضى والانحلال.. وان العقل والشرع من غير قوة تنفيذية لا يحققان الأمن والنظام، قال الإمام علي عليه السلام: (السلطان وزعة الله في أرضه..) ولكن طالما أفسد السلطان الأرض وأهلها.. وعلى الرغم من ذلك لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم.

2. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، لقد تلى الله آياته على نبيه الكريم، وتلاها النبي علينا، لنتدبر حقيقتها، ونتخذها دستورا في مقاصدنا، وجميع أفعالنا، لنحيا حياة طيبة هادئة.. ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ﴾

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/382.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ إلى آخر الآية، من المعلوم أن المراد بفساد الأرض فساد من على الأرض أي فساد الاجتماع الإنساني ولو استتبع فساد الاجتماع فسادا في أديم الأرض فإنما هو داخل في الغرض بالتبع لا بالذات، وهذه حقيقة من الحقائق العلمية ينبه لها القرآن.

2. بيان ذلك: أن سعادة هذه النوع لا تتم إلا بالاجتماع والتعاون، ومن المعلوم أن هذا الأمر لا يتم إلا مع حصول وحدة ما في هيكل الاجتماع بها تتحد أعضاء الاجتماع وأجزاؤه بعضها مع بعض بحيث يعود الجميع كالفرد الواحد يفعل وينفعل عن نفس واحدة وبدن واحد، والوحدة الاجتماعية ومركبها الذي هو اجتماع أفراد النوع حالهما شبيه حال الوحدة الاجتماعية التي في الكون ومركبها الذي هو اجتماع أجزاء هذا العالم المشهود، ومن المعلوم أن وحدة هذا النظام أعني نظام التكوين إنما هي نتيجة التأثير والتأثر الموجودين بين أجزاء العالم فلولا المغالبة بين الأسباب التكوينية وغلبة بعضها على بعض واندفاع بعضها الآخر عنه ومغلوبيتها له لم يرتبط أجزاء النظام بعضها ببعض بل بقي كل على فعليته التي هي له، وعند ذلك بطل الحركات فبطل عالم الوجود.

3. كذلك نظام الاجتماع الإنساني لو لم يقم على أساس التأثير والتأثر، والدفع والغلبة لم يرتبط أجزاء النظام بعضها ببعض، ولم يتحقق حينئذ نظام وبطلت سعادة النوع، فإنا لو فرضنا ارتفاع الدفع بهذا المعنى، وهو الغلبة وتحميل الإرادة من البين كان كل فرد من أفراد الاجتماع فعل فعلا ينافي منافع الآخر (سواء منافعه المشروعة أو غيرها) لم يكن للآخر إرجاعه إلى ما يوافق منافعه ويلائمها وهكذا، وبذلك تنقطع الوحدة من بين الأجزاء وبطل الاجتماع، وهذا البحث هو الذي بحثنا عنه فيما مر: أن الأصل الأول الفطري للإنسان المكون للاجتماع هو الاستخدام، وأما التعاون والمدنية فمتفرع عليه وأصل ثانوي، وقد مر تفصيل الكلام في تفسير قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾

4. في الحقيقة معنى الدفع والغلبة معنى عام سار في جميع شئون الاجتماع الإنساني وحقيقته حمل الغير بأي وجه أمكن على ما يريده الإنسان، ودفعه عما يزاحمه ويمانعه عليه، وهذا معنى عام موجود في الحرب والسلم معا، وفي الشدة والرخاء، والراحة والعناء جميعا، وبين جميع الأفراد في جميع شعوب الاجتماع، نعم إنما يتنبه الإنسان له عند ظهور المخالفة ومزاحمة بعض الأفراد بعضهم في حقوق الحياة أو في الشهوات والميول ونحوها، فيشرع الإنسان في دفع الإنسان المزاحم الممانع عن حقه أو عن مشتهاه ومعلوم أن هذا على مراتب ضعيفة وشديدة، والقتال والحرب إحدى مراتبه.

5. هذه الحقيقة أعني كون الدفع والغلبة من الأصول الفطرية عند الإنسان أصل فطري أعم من أن يكون هذا الدفع دفعا بالعدل عن حق مشروع أو بغير ذلك، إذ لو لم يكن في فطرة الإنسان أصل مسلم على هذه الوتيرة لم يتحقق منه، لا دفاع مشروع على الحق لا غيره، فإن أعمال الإنسان تستند إلى فطرته كما مر بيانه سابقا فلولا اشتراك الفطرة بين المؤمن والكافر لم يمكن أن يختص المؤمن بفطرة يبني عليها أعماله.

6. هذا الأصل الفطري ينتفع به الإنسان في إيجاد أصل الاجتماع على ما مر من البيان، ثم ينتفع به في تحميل إرادته على غيره وتمالك ما بيده تغلبا وبغيا، وينتفع به‏ في دفعه واسترداد ما تملكه تغلبا وبغيا، وينتفع به في إحياء الحق بعد موته جهلا بين الناس وتحميل سعادتهم عليهم، فهو أصل فطري ينتفع به الإنسان أكثر مما يستضر به.

7. هذا الذي ذكرناه (لعله) هو المراد بقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾، ويؤيد ذلك تذييله بقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251]:

أ. وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد بالدفع في الآية دفع الله الكافرين بالمؤمنين كما أن المورد أيضا كذلك وربما أيده أيضا قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ﴾، وفيه أنه في نفسه معنى صحيح لكن ظاهر الآية أن المراد بصلاح الأرض مطلق الصلاح الدائم المبقي للاجتماع دون الصلاح الخاص الموجود في أحيان يسيرة كقصة طالوت وقصص أخرى يسيرة معدودة.

ب. وربما ذكر آخرون: أن المراد بها دفع الله العذاب والهلاك عن الفاجر بسبب البر، وقد وردت فيه من طرق العامة والخاصة روايات كما في المجمع، والدر المنثور، عن جابر، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يصلح بصلاح الرجل المسلم ولدهـ وولد ولده وأهل دويرته ودويرات حوله، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم‏)، وفي الكافي، وتفسير العياشي، عن الصادق عليه السلام، قال: (إن الله ليدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا ـ ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي ـ ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج ـ ولو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا) الحديث، ومثلهما غيرهما، وفيه: أن عدم انطباق الآيتين على معنى الحديثين مما لا يخفى إلا أن تنطبق عليهما من جهة أن موردهما أيضا من مصاديق دفع الناس.

ج. وربما ذكر بعضهم: أن المراد دفع الله الظالمين بالظالمين، وهو كما ترى.

8. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ﴾ الآية، كالخاتمة يختم بها الكلام والقصة غير أن آخر الآية ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، لا يخلو عن ارتباط بالآية التالية.

9. ذكر هنا بعض المباحث الاجتماعية المرتبطة بما سماه تنازع البقاء، والانتخاب الطبيعي، ومثله بحث في التاريخ وما يعتني به القرآن منه.. ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/292.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ فالجهاد مصلحة ضرورية، والمسئولية في سفك الدماء على أعداء الله الذين لو خلوا وشأنهم لفسدت الأرض؛ لأنهم يدعون إلى الباطل، ويصدون عن سبيل الله، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، ويحرقون الكتب الدينية، ويسعون في الأرض فساداً؛ والله لا يحب المفسدين.

2. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251] فمن فضله أن يجعل أولياءه يدفعون أعداءه عن الفساد في الأرض، ومن فضله أوجب الجهاد، ودل عباده على أسباب النصر، وأمرهم بإعداد القوة، وأمر بالكون مع الصادقين، وأمر بالتعاون على البر والتقوى، وأمر بتكوين أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الصف: 10-11] [الصف:10 ـ 11] فدل على أن الجهاد خير للذين آمنوا، وأن من الدعوة إلى الخير الدعوة إلى الجهاد.

3. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ تلك إشارة إلى الآيات السابقة من قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ﴾ أو من قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ﴾ فهي آيات أنزلها الله مطابقة لما عند أهل الكتاب من ذلك القصص، ولذلك فهي دليل من حيث هي إخبار بغيب بالنسبة إلى المبلغ لها؛ لأنه لم يقرأ في الكتب بل هو أمي من الأميين في بلد الأميين نشأ ولم يخالط أهل الكتاب، فتبين أن الله يتلو عليه هذه الآيات وأنه من المرسلين صلّى الله عليه وآله وسلم.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/368.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251]، ربما نستوحي من هذه الفقرة من الآية، أن هناك قانونا طبيعيا فطريا في حركة الحياة الاجتماعية التي يعيشها الناس، في ما أودعه الله في الحياة من قوانين تنظّم لها سيرها، وتدفع بها إلى المجالات الكبيرة التي تحقق لها أهدافها العليا.. وخلاصته: إن كل إنسان منا يعمل في اتجاه الأشياء التي يألفها ويريدها ويؤمن بها، وفي اتجاه مقاومة الأشياء التي يكرهها ويرفضها أو يكفر بها، لأنها تعطله عن الحصول على ما يريد.. وربما يتحقق ذلك في الأفكار، وربما يتحقق في الأشياء العامة، وقد يحصل في القوى التي تحيط به، فإذا لا حظ أن هناك فكرا يقاوم فكره، أو شيئا يواجه بعض الأشياء التي يحبها، أو قوة تريد أن تصادم قوته فتصرعها وتهزمها.. فإنه يبادر إلى الوقوف أمام تلك الأفكار والأشياء والقوى، ليحمي فكره وأشياءه وقوّته.. وهكذا تسير الحياة في أجواء الصراع، فيتولد من ذلك الفكر المتنوع المتحرك، والقوة المتجددة بما تملك من أساليب الحرب وأدواتها، والأوضاع المختلفة المحيطة بالأشياء في وجوهها المختلفة.

2. إن الله يريد أن يشير إلى هذا القانون الفطري الذي سارت عليه الحياة، ولا تزال تسير، في حركتها الاجتماعية، فيقرر لنا قيمة هذا القانون ودوره في إصلاح الحياة، فلولاه لفسدت الأرض، لأن الإنسان الذي يبلغ مقدارا كبيرا من القوة، يستطيع من خلاله أن يفرض رأيه وموقفه وذاته على الآخرين، لا بد له من ممارسة السيطرة عليهم من خلال قوته، فإذا وقفوا منه موقفا سلبيا ضعيفا وتركوه يفعل ما يشاء، كانت النتيجة أن يمتد في قوته وفساده، ولا يفسح المجال للخير وللحق أن ينمو أو يعيش، ولما كان الله يريد للحياة أن تزدهر وتصلح، كان الصراع في عملية دفع الناس بعضهم ببعض يفسح المجال لقوى الخير أن تؤكد وجودها، ولو في نهاية المطاف، عندما تتحرك نحو أهدافها لتقاوم كل الموانع والقوى التي تقف ضد الأهداف، فيحصل من خلاله ما يصلح الأرض من قوى جديدة تنشأ بفعل الصراع، وأفكار كبيرة تندفع من خلال النزاع، وخطوات عملية تنطلق في حياة الناس، وتلك هي قصة الصراع، في ما يريد أن يوحيه لنا القرآن الكريم، فهو لا يمثل مزاجا للتحكم وللسيطرة، وإنما يمثل دفع سيطرة الشر على الخير، والحق على الباطل، والعدل على الظلم والطغيان.. من أجل أن تعيش الأرض في بعض مراحلها، أو المرحلة الأخيرة منها، الجو الإنساني المنفتح الذي يحصل فيه الإنسان على ما يوجب له الطمأنينة والراحة والكرامة.. وتلك هي قصة الدوافع الفطرية التي أودعها الله في تكوين الفرد والمجتمع، فهي التي تقود الإنسان إلى ما يبني له حياته ويصلحها ويرفع مستواها في جميع مجالاتها، وذلك هو فضل الله على العالمين.

3. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ ويختم الله هذا الفصل، وهذا الجزء، بالإشارة إلى آيات الله في الكون وفي الوحي لتكون دليلا للإنسان على الله الذي يفتح له آفاق الوعي في ما يفتح له من آفاق المعرفة بالحق، فلا بد للإنسان من أن ينفتح عليها ويسير في هداها ليحصل على المصير السعيد، ثم يؤكد للنبي، بعد ذلك أنه من المرسلين، ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ ليؤكد في نفسه الشعور بالرسالة بعمق من أجل تعميق الشعور بالمسؤولية تجاهها، وليؤكد في نفوس الناس الشعور الحي بضرورة اتباع الرسول في ما بلغهم وما دعاهم إليه، عندما يعرفون أنها رسالة الله على لسان رسول الله، مما يجعل طاعته طاعة لله ومعصيته معصية لله.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/389.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في ختام الآية إشارة إلى قانون كلّي فتقول: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251]، فالله سبحانه وتعالى رحيم بالعباد ولذلك يمنع من تشرّي الفساد وسرايته إلى المجتمع البشري قاطبة.

2. صحيح أنّ سنّة الله تعالى في هذه الدنيا تقوم على أصل الحريّة والإرادة والاختيار وأنّ الإنسان حرّ في اختيار طريق الخير أو الشر، ولكن عندما يتعرّض العالم إلى الفساد والاندثار بسبب طغيان الطواغيت، فإنّ الله تعالى يبعث من عباده المخلصين من يقف أمام هذا الطغيان ويكسر شوكتهم، وهذه من ألطاف الله تعالى على عباده، وشبيه هذا المعنى ورد في آية 40 من سورة الحج‏ ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ﴾

3. هذه الآيات في الحقيقة بشارة للمؤمنين الّذين يقفون في مواقع إماميّة من مواجهة الطّواغيت والجبابرة فينتظرون نصرة الله لهم.

4. سؤال وإشكال: هذه الآية هل تشير إلى مسألة تنازع البقاء التي تعتبر أحد الأركان الأربعة لفرضية دارون في مسألة تكامل الأنواع؟ تقول الفرضيّة أنّ الحرب والنّزاع ضروريّ بين البشر، وإلّا فالسّكون والفساد سيعم الجميع، فتعود الأجيال البشريّة إلى حالتها الأولى، فالتّنازع والصّراع الدائمي يؤدّي إلى بقاء الأقوى وزوال الضعفاء وانقراضهم، وهكذا يتمّ البقاء للأصلح بزعمهم، والجواب: إنّ هذا التفسير يصح فيما إذا قطعنا صله هذه الآية لما قبلها تماما، وكذلك الآية المشابهة لها في سورة الحجّ ولكنّنا إذا أخذنا بنظر الاعتبار هذه الآيات رأيناها تدور حوّل محاربة الظّالمين والطّغاة، فلولا منع الله تبارك وتعالى لملؤوا الأرض ظلما وجورا، فعلى هذا لا تكون الحرب أصلا كليّا مقدّسا في حياة البشريّة، ثمّ إنّ ما يقال عن قانون (تنازع البقاء) المبني على المبادئ الأربعة لنظريّة دارون في (تطوّر الأنواع) ليست قانونا علميّا مسلّما، به بل هو فرضيّة أبطلها العلماء، وحتّى الّذين كانوا يؤيّدون نظريّة تكامل الأنواع لم يعدّ أيّا منهم يعوّل عليها ويعتبرون تطوّر الأحياء نتيجة الطفرة، وإذا ما تجاوزنا عن كلّ ذلك واعتبرنا فرضيّة تنازع البقاء مبدأ علميّا فإنّه يمكن أن يكون كذلك فيما يتعلّق بالحيوان دون الإنسان، لأنّ حياة الإنسان لا يمكن أن تتطوّر وفق هذا المبدأ أبدا، لأنّ تكامل الإنسان يتحقّق في ضوء التّعاون على البقاء لا تنازع البقاء، ويبدو أنّ تعميم فرضيّة تنازع البقاء على عالم الإنسان انّما هو ضرب من الفكر الاستعماري الّذي يؤكّده بعض علماء الاجتماع في الدول الرأسمالية لتسويغ حروب حكوماتهم الدمويّة البغيضة وإطفاء الطّابع العلمي على سلوكياتهم‏ وجعل الحرب والنزاع ناموسا طبيعيا لتطوّر المجتمعات الإنسانية وتقدّمها، أمّا الأشخاص الّذين وقعوا دون وعي تحت تأثير أفكار هؤلاء اللّاإنسانيّة وراحوا يطبّقون هذه الآية عليها فهم بعيدون عن تعاليم القرآن، لأنّ القرآن يقول بكلّ صراحة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾

5. من العجب أنّ بعض المفسّرين المسلمين مثل صاحب المنار وكذلك (المرائي) في تفسيره وقعوا تحت تأثير هذه الفرضيّة إلى الحدّ الذي اعتبروها أحد السنن الإلهيّة، ففسّروا بها الآية محلّ البحث وتصوّروا أنّ هذه الفرضيّة من إبداعات القرآن لا من ابتكارات واكتشافات دارون، ولكن كما قلنا أنّ الآية المذكورة ليست ناظرة إلى هذه الفرضيّة، ولا أنّ هذه الفرضيّة لها أساس علمي متين، بل أنّ الأصل الحاكم على الروابط بين البشر هو التعاون على البقاء لا تنازع البقاء.

6. آخر آية في هذا البحث تقول ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، تشير هذه الآية إلى القصص الكثيرة التي وردت في القرآن بشأن بني إسرائيل وأنّ كلّا منها دليلا على قدرة الله وعظمته ومنزّهة عن كلّ خرافة وأسطورة (بالحقّ) حيث نزلت على نبيّ الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلم وكانت إحدى دلائل صدق نبوّته وأقواله.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/225.

118. درجات الرسل واختلاف الأتباع

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈118⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة: 253]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي عن الأصبغ بن نباتة، قال: جاء رجل إلى الإمام علي، فقال: يا أمير المؤمنين، إن أناسا زعموا أن العبد لا يزني وهو مؤمن، ولا يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن، ولا يأكل الربا وهو مؤمن، ولا يسفك الدم الحرام وهو مؤمن، فقد ثقل علي هذا، وحرج منه صدري حين أزعم أن العبد يصلي صلاتي، ويدعو دعائي، ويناكحني وأناكحه، ويوارثني وأوارثه، وقد خرج من الإيمان لأجل ذنب يسير أصابه، فقال الإمام علي: صدقت، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقوله، والدليل عليه كتاب الله جل وعز: خلق الله الناس على ثلاث طبقات، وأنزلهم ثلاث منازل وذلك قول الله تعالى: ﴿فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾، فأما ما ذكر من أمر السابقين، فإنهم أنبياء مرسلون وغير مرسلين، جعل الله فيهم خمسة أرواح: روح القدس، وروح الإيمان، وروح القوة، وروح الشهوة، وروح البدن، فبروح القدس بعثوا أنبياء مرسلين وغير مرسلين، وبها علموا الأشياء، وبروح الإيمان عبدوا الله، ولم يشركوا به شيئا، وبروح القوة جاهدوا عدوهم، وعالجوا معاشهم، وبروح الشهوة أصابوا لذيذ الطعام، ونكحوا الحلال من شباب النساء، وبروح البدن دبوا ودرجوا فيها، فهؤلاء مغفور لهم، مصفوح عن ذنوبهم)، ثم قال (قال الله عز وجل ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ ثم قال في جماعتهم ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ يقول: أكرمهم بها، وفضلهم على من سواهم، فهؤلاء مغفور لهم، مصفوح عن ذنوبهم)(1).

2. روي عن الأصبغ بن نباتة، قال جاء رجل إلى علي، فقال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء القوم الذين نقاتلهم الدعوة واحدة، والرسول واحد، والصلاة واحدة، والحج واحد، فبم نسميهم؟ فقال: (بما سماهم الله تعالى في كتابه)، فقال: ما كل ما في كتاب الله أعلمه، قال: (أما سمعت الله تعالى يقول في كتابه ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾، فلما وقع الاختلاف كنا نحن أولى بالله عز وجل: وبالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وبالكتاب، وبالحق، فنحن الذين آمنوا، وهم الذين كفروا، وشاء الله قتالهم بمشيئته وإرادته)(2).

3. روي عن الأصبغ بن نباتة، قال كنت واقفا مع الإمام علي يوم الجمل، فجاء رجل حتى وقف بين يديه، فقال: يا أمير المؤمنين، كبر القوم وكبرنا، وهلل القوم وهللنا، وصلى القوم وصلينا، فعلام نقاتلهم؟ فقال: على هذه الآية ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾، فنحن الذين من بعدهم ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ فنحن الذين آمنا، وهم الذين كفروا)، فقال الرجل: كفر القوم، ورب الكعبة، ثم حمل فقاتل حتى قتل(3).

__________

(1) الكافي: 2/214.

(2) الأمالي: 1/200.

(3) تفسير العيّاشي: 1/136.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿دَرَجَاتٍ﴾، يعني: فضائل(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٨٣.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ كلم الله موسى، وأرسل محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم إلى الناس كافة(1).

__________

(1) تفسير مجاهد: ص٢٤٢.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، يعني: بما آتاهم الله من النبوة والرسالة(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٤٩.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: إن الأنبياء بعثوا خاصة وعامة، فأما نوح فإنه ارسل إلى من في الارض بنبوة عامة ورسالة عامة، وأما هود فإنه ارسل إلى عاد بنبوة خاصة، وأما صالح فإنه ارسل إلى ثمود قرية واحدة وهي لا تكمل أربعين بيتا على ساحل البحر صغيرة وأما شعيب فإنه ارسل إلى مدين وهي لا تكمل أربعين بيتا، وأما إبراهيم نبوته بكوني ويا، وهي قرية من قرى السواد فيها مبدأ أول أمره، ثم هاجر منها، وليست بهجرة قتال، وذلك قوله تعالى: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: 99] فكانت هجرة إبراهيم عليه السلام بغير قتال، وأما إسحاق فكانت نبوته بعد إبراهيم، وأما يعقوب فكانت نبوته في أرض كنعان ثم هبط إلى أرض مصر فتوفي فيها، ثم حمل بعد ذلك جسده حتى دفن بأرض كنعان، والرؤيا التي رأى يوسف الاحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين، فكانت نبوته في أرض مصر بدؤها، ثم كانت الاسباط اثني عشر بعد يوسف، ثم موسى وهارون إلى فرعون وملئه إلى مصر وحدها، ثم إن الله تعالى أرسل يوشع بن نون إلى بني إسرائيل من بعد موسى، نبوته بدؤها في البرية التي تاه فيها بنو إسرائيل.. ثم كانت أنبياء كثيرون: منهم من قصه الله عزوجل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، ومنهم من لم يقصه عليه.. ثم إن الله عزوجل أرسل عيسى بن مريم إلى بني إسرائيل خاصة فكانت نبوته ببيت المقدس، وكان من بعده الحواريون اثني عشر، فلم يزل الايمان يستسر في بقية أهله منذ رفع الله عيسى عليه السلام، وأرسل الله تبارك وتعالى محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم إلى الجن والانس عامة، وكان خاتم الانبياء، وكان من بعده الاثني عشر الاوصياء، منهم من أدركنا ومنهم من سبقنا، ومنهم من بقي، فهذا أمر النبوة والرسالة، وكل نبي ارسل إلى بني إسرائيل خاص أو عام له وصي جرت به السنة، وكان الاوصياء الذين بعد محمد صلّى الله عليه وآله وسلم على سنة أوصياء عيسى، وكان أمير المؤمنين على سنة المسيح، وهذا تبيان السنة وأمثال الاوصياء بعد الانبياء)(1).

__________

(1) كمال الدين: 122 ـ: 127.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ اتخذ الله إبراهيم خليلا، وكلّم الله موسى تكليما، وجعل عيسى كمثل آدم؛ خلقه من تراب، ثم قال له: كن، فيكون، وهو عبد الله وكلمته وروحه، وآتى داوود زبورا، وآتى سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وغفر لمحمد ما تقدم من ذنبه وما تأخر(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ يقول: من بعد موسى، وعيسى(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٨٢.

(2) ابن جرير: ٤/٥٢٢.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾ الحلال والحرام(1).

2. روي أنّه قال: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ من بعد ما جاءكم محمد صلّى الله عليه وآله وسلم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٨٤.

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾: بالعلم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٨٣.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: (بالزيادة بالإيمان يتفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله)، قيل: وإن للإيمان درجات ومنازل يتفاضل بها المؤمنون عند الله؟ قال: (نعم)، قيل: صف لي ذلك ـ رحمك الله ـ حتى أفهمه، قال (ما فضل الله به أولياءه بعضهم على بعض فقال: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾، الآية، وقال: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾، وقال: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ﴾، وقال: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾، فهذا ذكر درجات الإيمان ومنازله عند الله)(1).

__________

(1) تفسير العياشي: 1/135.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾، وهو موسى صلّى الله عليه وآله وسلم، ومنهم من اتخذه خليلا، وهو إبراهيم عليه السلام، ومنهم من أعطي الزبور وتسبيح الجبال والطير، وهو داوود صلّى الله عليه وآله وسلم، ومنهم من سخرت له الريح والشياطين، وعلم منطق الطير، وهو سليمان صلّى الله عليه وآله وسلم، ومنهم من يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين طيرا، وهو عيسى صلّى الله عليه وآله وسلم، فهذه الدرجات، يعني: الفضائل، قال تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ على بعض(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا﴾، فصاروا فريقين في الدين، فذلك قوله سبحانه ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾، يعني: أراد ذلك(2).

4. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ يعني: من بعد عيسى وموسى، وبينهما ألف نبي، أولهم موسى، وآخرهم عيسى، ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ يعني: العجائب التي كان يصنعها الأنبياء(2).

5. روي أنّه قال: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ﴾ يعني: صدق بتوحيد الله تعالى، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾ بتوحيد الله(2).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢١١.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢١٢.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل: تفضيل بعضهم على بعض ما ذكر ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ ومنهم من اتخذه خليلا، ومنهم من سخر له الريح والطير، ما كان في الأنبياء مثله.

ب. ويحتمل ﴿بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ في الحجاج، والحجج على القوم؛ لأن فيهم من كان أكثر محاجة لقومه وأعظم حججا، وهو إبراهيم، صلوات الله عليه وسلامه، وموسى.

ج. ويحتمل: (التفضيل) التمكين في الأرض، مكن لبعضهم ما لم يكن للباقين.

د. ويحتمل: ذلك في الآخرة في الشفاعة، ورفع الدرجات.

هـ. ويحتمل ﴿بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ في الرسالة؛ لأن منهم من أرسل إلى الإنس والجن جميعا، ومنهم من أرسل إلى الإنس خاصة، ومنهم من أرسل إلى قومه خاصة ما عليه أن يفعل، وكل من فعل ما عليه أن يفعل، فإنه لا يوصف بالفضل والإفضال؛ دل أنه ليس على ما يقولون ويذهبون إليه.

2. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ هذه الآية والآيتان من بعدها ـ قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ على المعتزلة، ومن وافقهم، لأنه أخبر أنه لو شاء ألا يقتتلوا ما اقتتلوا، وهم يقولون: شاء ألا يقتتلوا، ولكن اقتتلوا، والاقتتال هو فعل اثنين، وفيهم من اقتتل ظالما، وفيهم من اقتتل غير ظالم، دليله قوله تعالى: ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾ ثم قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ أخبر أنه لو شاء ألا يقتتلوا ما اقتتلوا وأخبر أنه يفعل ما يريد ثبت الفعل في الإرادة وهم يقولون لا يفعل ما يريد، وكذلك قوله‏ ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ أخبر أنه لو شاء ما اختلفوا وهم يقولون: شاء ألا يختلفوا ولكن اختلفوا.

3. ثم لا يجوز صرف الآية إلى مشيئة القسر والجبر؛ لأن المشيئة التي ذكرها الله تعالى معروفة في الناس فلا يجوز صرفها إلى غير المشيئة المعروفة إلا بعد تقدم ذكر أو بيان أنها هي المرادة وقوله تعالى: ﴿مَا اقْتَتَلُوا﴾ ولا اختلفوا فجعلهم على أمر واحد ودين واحد كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [هود: 118] والمعتزلة يقولون: شاء أن يصيروا أمة واحدة ولكن لم يصيروا فنعوذ بالله من السرف في القول والقول في الله بما لا يليق به.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/233.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾: أي لو شاء لمنعهم من القتال، ولكنه يفعل ما أراد من قتال أهل الفساد، والأجر الذي أراده لمن صبر في الجهاد(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 289.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ وجهان:

أ. أحدهما: في الآخرة، لتفاضلهم في الأعمال، وتحمل الأثقال.

ب. الثاني: في الدنيا بأن جعل بعضهم خليلا، وبعضهم كليما، وبعضهم ملكا، وسخّر لبعضهم الريح والشياطين، وأحيا ببعضهم الموتى، وأبرأ الأكمه، والأبرص.

ج. ويحتمل وجها ثالثا: بالشرائع، فمنهم من شرع، ومنهم من لم يشرع.

2. في قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ وجهان:

أ. أحدهما: أن أوحى إلى بعضهم في منامه، وأرسل إلى بعضهم الملائكة في يقظته.

ب. الثاني: أن بعث بعضهم إلى قومه، وبعث بعضهم إلى كافة الناس.

3. في قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ وجهان:

أ. أحدهما: الحجج الواضحة، والبراهين القاهرة.

ب. الثاني: أن خلقه من ذكر.

4. في قوله تعالى: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ وجهان:

أ. أحدهما: بجبريل.

ب. الثاني: بأن نفخ فيه من روحه.

5. في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ وجهان:

أ. أحدهما: ولو شاء الله ما أمر بالقتال بعد وضوح الحجة.

ب. الثاني: ولو شاء الله لاضطرهم إلى الإيمان، ولما حصل فيهم خيار.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/322.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1): آية 253]

1. إنما ذكر الله تعالى تفضيل بعضهم على بعض، لأمور:

أ. منها أن لا يغلط غالط منهم، فيسوَّي بينهم في الفضل، كما استووا في الرسالة.

ب. وثانيها: أن يبين أن تفضيل محمد صلّى الله عليه وآله وسلم كتفضيل من مضى من الأنبياء بعضهم على بعض.

ج. وثالثها: أن الفضيلة قد تكون بعد أداء الفريضة.

2. المراد الفضيلة المذكورة هاهنا:

أ. ما خص كل واحد منهم من المنازل الجليلة التي هي أعلى من منزلة غيره، نحو كلامه لموسى بلا سفير، وإرساله محمداً صلّى الله عليه وآله وسلم الى الكافة من الناس المكلفين والجن المتعدين، هذا قول مجاهد.

ب. ويحتمل فضلناهم بأعمالهم التي استحقوا بها الفضيلة على غيرهم.

3. الفرق بين الابتداء بالفضيلة وبين المحاباة ان المحاباة اختصاص البعض بالنفع على ما توجبه الشهوة دون الحكمة، وليس كذلك الابتداء بالفضيلة، لأنه قد يكون للمصلحة التي لولاها لفسد التدبير وأدى الى حرمان الثواب للجميع، فمن حسن النظر لهذا الإنسان تفضيل غيره عليه إذا كان في ذلك مصلحة له فهذا وجه تدعو إليه الحكمة وليس كالوجه الأول الذي انما تدعو إليه الشهوة.

4. ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ معناه قويناه:

أ. والروح: جبريل، والقدس الله ـ على قول الحسن ـ

ب. وقال ابن عباس: روح القدس: الاسم الذي كان يحيي به الموتى.

5. الضمير في قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾:

أ. قيل: عائد على الرسل.

ب. وقال قتادة، والربيع: على عيسى وموسى عليه السلام، وجاز بلفظ الجميع، لأن ذكرهم قد يغني عن ذكر المتبعين لهم، كما يقال: خرج الأمير فانكوا في العدّو نكاية عظيمة.

6. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ إخبار عن قدرته على إلجائهم على الامتناع من الاقتتال، أو بأن يمنعهم من ذاك، هذا قول الحسن وغيره، وجملته انه أخبر انه قادر على أن يحول بينهم، وبين الاقتتال بالإلجاء والاضطرار، ومثله‏ ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ [السجدة: 13] ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا﴾ [يونس: 99] فان جميع ذلك دلالة على قدرته عليهم.

7. لا يدل قوله:‏ ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ على أنه قد شاء اقتتالهم، لأنه إذا احتمل الكلام وجهين: أحدهما: يجوز عليه والآخر لا يجوز عليه، وجب حمله على ما يجوز عليه، دون ما لا يجوز عليه، فلذلك كان تقدير الكلام ولو شاء الله امتناعهم بالإلجاء ما اقتتلوا، ونظيره قول القائل ولو شاء السلطان الأعظم، لم يشرب النصارى الخمر في سلطانه ولا نكحت المجوس الأمهات والبنات وليس في ذلك دليل على أنه قد شاءه.

8. إنما كرر قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ لاختلاف المعنى:

أ. فمعنى الأول لو شاء الله ما اقتتلوا قتالهم، ويجوز أن يكون لتأكيد البينة على هذا المعنى.

ب. وقال قوم: الأول معناه لو شاء الله ما اقتل‏ المحقون، والمبطلون بأن يحول، بينهم، وبينهم، و الثاني لو شاء الله ما اقتتل المحقون فيما بينهم والمبطلون فيما بينهم.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/304.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الدرجات: جمع درجة.

ب. الأَيْدُ: القوة.

ج. الروح: أصله من الروح، والروح ما يعيش به الإنسان، ثم يستعمل في غيره توسعًا، فسمي جبريل رُوحًا، والقرآن رُوحًا.

د. القدس: الطهر، والأرض المقدسة المطهرة، والقادسية منه، دعا لها إبراهيم بالقدس.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾:

أ. قيل: يعني من تقدم ذكرهم من الأنبياء في الكتاب، عن أبي علي وأبي مسلم.

ب. وقيل: تلك الذي دفع بهم الفساد الرسل الَّذِينَ أرسلهم، عن الأصم.

ج. وقيل: فيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن تلك الرسل نالهم من قومهم مثل الذي نالك من الأذى، عن أبي مسلم.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾:

أ. قيل: لئلا يتوهم أحد أن التسوية في النبوة تقتضي التسوية في الفضل.

ب. وقيل: كما فضلناك عليهم فضلنا بعضهم على بعض، وهذه الفضيلة ما خص به بعضهم من المنازل ككلامه مع موسى وإرساله محمدًا إلى الكافة الجن والإنس.

4. ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ الله﴾ يعني كلمه الله كقوله: (تشتهي الأنفس) أي تشتهيه، ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ يعني منازل لبعضهم فوق بعض على قدر أعمالهم، وعلى قدر المصالح ﴿وَآتَيْنَا﴾ أعطينا ﴿عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ الحجج وهو ما آتاه من المعجزات والكتاب ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ قويناه.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾

أ. قيل: الروح جبريل والقدس الله تعالى، عن الحسن.

ب. وقيل: روح القدس الاسم الذي كان يحيي به عيسى الموتى، عن ابن عباس.

ج. وقيل: هو الروح الطاهرة التي نفخت فيها فأتت به من بين سائر بني آدم، عن أبي مسلم

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ﴾:

أ. قيل: إنه مشيئة الإكراه أي لو شاء أن يجبرهم ويمنعهم عن القتل لفعل، ولكن خيرهم وكلفهم ولم يجبرهم، عن الحسن.

ب. وقيل: لو شاء لما أمر المؤمنين بقتال الكفار فلم يكن قتال.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾:

أ. قيل: من بعد موسى وعيسى وأتباعهم، عن قتادة والربيع.

ب. وقيل: من بعد الرسل.

ج. وقيل: أمم الرسل.

د. وقيل: اليهود والنصارى.

8. ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا﴾ في الديانات ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُوا﴾ كرر ذلك:

أ. قيل: تأكيدًا وتنبيهًا.

ب. وقيل: الأول مشيئة الإكراه أي لو شاء اضطرهم إلى حال يرتفع معها التكليف، ومعنى الثاني: بالأمر للمؤمنين أن يكفوا عن قتالهم.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾:

أ. قيل: مما هو مصلحة توجبه الحكمة.

ب. وقيل: يفعل ما يريد بأن يأمر بالقتال.

ج. وقيل: بأن خَيَّرَ وخَلَّى، ولم يجبر ولم يكره.

10. تدل الآيات الكريمة على:

أ. أن بعض الأنبياء أفضل من بعض، وأن التساوي في النبوة لا يمنع اختلافهم في التفضيل، ولا شبهة في أن نبينا صلّى الله عليه وآله وسلم أفضل الأنبياء، وما عداه مجوز غير مقطوع في أحد بعينه، وإنما قطعنا في تفضيل نبينا صلّى الله عليه وآله وسلم للإجماع، وإن كان من مشايخنا مَنْ ذكر فيه وجوهًا كثيرة نحو بعثه إلى الكافة، ولكثرة مستجيبيه، ولأنه خاتم الأنبياء إلى غير ذلك.

ب. يدل قوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ الله﴾ أن يقع هناك مفاضلة ثم يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون المذكور نفس ما وقع به المفاضلة.

الثاني: أن يكون دلالة المفاضلة.

ج. أنه لو شاء منع الكفار عن القتال بالإلجاء، وتدل على أن الإلجاء لم يقع.

د. أنه يفعل ما يريد؛ لأنه قادر لذاته، لا يتعذر عليه مقدور، وتدل أنه مريد خلاف ما تقوله البغدادية.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/65.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿تِلْكَ﴾ بمعنى أولئك، إلا أنه أراد به الإشارة إلى الجماعة، فأتى بلفظ الإفراد الذي يكون للمؤنث المفرد، كما يقال: القوم خرجت أي: أولئك الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء في الكتاب.

2. ﴿الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ إنما ذكر الله تفضيل بعض الرسل على بعض لأمور:

أ. أحدها: لأن لا يغلط غالط، فيسوي بينهم في الفضل، كما استووا في الرسالة.

ب. ثانيها: أن يبين أن تفضيل محمد عليهم، كتفضيل من مضى من الأنبياء بعضهم على بعض.

ج. ثالثها: إن الفضيلة قد تكون بعد أداء الفريضة.

3. اختلف في الفضيلة المذكورة ههنا:

أ. قيل: هي ما خص كل واحد منهم من المنازل الجليلة، نحو كلامه لموسى بلا سفير، وكإرساله محمدا إلى الكافة من الجن والإنس.

ب. وقيل: أراد التفضيل في الآخرة، لتفاضلهم في الأعمال، وتحمل الأثقال.

ج. وقيل: بالشرائع فمنهم من شرع، ومنهم من لم يشرع.

الفرق بين الابتداء بالفضيلة، وبين المحاباة أن المحاباة اختصاص البعض بالنفع على ما يوجبه الشهوة دون الحكمة، وليس كذلك الابتداء بالفضيلة، لأنه قد يكون للمصلحة التي لولاها لفسد التدبير، وأدى إلى حرمان الثواب للجميع، فمن حسن النظر لهذا الانسان تفضيل غيره عليه، إذا كان في ذلك مصلحة له، فهذا وجه تدعو إليه الحكمة، وليس كالوجه الأول الذي إنما تدعو إليه الشهوة.

4. ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ الله﴾ أي: كلمه الله، وهو موسى ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ قال مجاهد: أراد به محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم، فإنه تعالى فضله على جميع أنبيائه، بأن بعثه إلى جميع المكلفين من الجن والإنس، وبأن أعطاه جميع الآيات التي أعطاها من قبله من الأنبياء، وبأن خصه بالقرآن الذي لم يعطه غيره، وهو المعجزة القائمة إلى يوم القيامة بخلاف سائر المعجزات، فإنها قد مضت وانقضت، وبأن جعله خاتم النبيين، والحكمة تقتضي تأخير أشراف الرسل لأعظم الأمور.

5. ﴿وآتينا عيسى بن مريم البينات﴾ أي: الدلالات كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، والإخبار عما كانوا يأكلونه ويدخرونه في بيوتهم ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ قد مر تفسيره في الآية الخامسة والثمانين من هذه السورة.

6. ﴿وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ أي: من بعد الرسل، وقال قتادة والربيع: من بعد موسى وعيسى، وأتى بلفظ الجمع، لأن ذكرهما يغني عن ذكر المتبعين لهما، كما يقال: خرج الأمير فنكوا في العدو نكاية عظيمة، واختلفوا في معناه:

أ. ولو شاء الله لم يقتتل الذين من بعد الأنبياء، بأن يلجئهم إلى الإيمان، ويمنعهم عن الكفر، إلا أنه لم يلجئهم إلى ذلك، لأن التكليف لا يحسن مع الضرورة والإلجاء، والجزاء لا يحسن إلا مع التخلية والاختيار، عن الحسن.

ب. وقيل: معناه لو شاء الله ما أمرهم بالقتال ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ من بعد وضوح الحجة، فإن المقصد من بعثه الرسل قد حصل بايمان من آمن قبل القتال ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ﴾ بتوفيق الله ولطفه، وحسن اختياره، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾ بسوء اختياره.

7. ﴿وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُوا﴾:

أ. قيل: كرر ذلك تأكيدا وتنبيها.

ب. وقيل: الأول مشيئة الإكراه أي: لو شاء الله اضطرهم إلى حال يرتفع معها التكليف، والثاني: الأمر للمؤمنين بالكف عن قتالهم.

8. ﴿وَلَكِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ ما تقتضيه المصلحة، وتوجبه الحكمة.

9. ﴿دَرَجَاتٍ﴾: منصوب على الحال، والعامل فيه ﴿رَفَعَ﴾، وذو الحال ﴿بَعْضُهُمْ﴾ وتقديره: رفع بعضهم ذوي درجات، فحذف المضاف، ويجوز أن يكون حالا بعد الفراغ من الفعل، تقديره: ورفع بعضهم، فإذا هم ذوو درجات، ويجوز أن يكون ظرف مكان، ويجوز أن يكون اسما وضع موضع المصدر، تقديره: ورفع بعضهم رفعا.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/623.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ﴾، يعني: موسى عليه السلام، وقرأ أبو المتوكّل، وأبو نهيك‏، وابن السّميفع: (منهم من كالم الله) بألف خفيفة اللام، ونصب اسم (الله)

2. في المراد بقوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ قولان:

أ. أحدهما: عنى بالمرفوع درجات، محمّدا عليه السلام، فإنه بعث إلى الناس كافة، وغيره بعث إلى أمّته خاصة، هذا قول مجاهد.

ب. الثاني: أنه عنى تفضيل بعضهم على بعض فيما آتاه الله، هذا قول مقاتل.

3. قال ابن جرير الطّبريّ: والدّرجات: جمع درجة، وهي المرتبة، وأصل ذلك: مراقي السّلّم ودرجه، ثم يستعمل في ارتفاع المنازل والمراتب، وقد تقدم تفسير (البينات) و(روح القدس)

4. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾، أي: من بعد الأنبياء، وقال قتادة: من بعد موسى وعيسى، قال مقاتل: وكان بينهما ألف نبيّ.

5. ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا﴾ يعني: الأمم.

__________

(1) زاد المسير: 1/229.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿تِلْكَ﴾ ابتداء، وإنما قال: ﴿تِلْكَ﴾ ولم يقل أولئك الرسل، لأنه ذهب إلى الجماعة، كأنه قيل: تلك الجماعة الرسل بالرفع، لأنه صفة لتلك وخبر الابتداء ﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾

2. في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾ أقوال:

أ. أحدها: أن المراد منه: من تقدم ذكرهم من الأنبياء عليهم السلام في القرآن، كإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وغيرهم صلوات الله عليهم.

ب. الثاني: أن المراد منه من تقدم ذكرهم في هذه الآية كأشمويل وداوود وطالوت على قول من يجعله نبيا.

ج. الثالث: وهو قول الأصم: تلك الرسل الذين أرسلهم الله لدفع الفساد، الذين إليهم الإشارة بقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: 251]

3. وجه تعليق هذه الآية بما قبلها ما ذكره أبو مسلم وهو أنه تعالى أنبأ محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم من أخبار المتقدمين مع قومهم، كسؤال قوم موسى‏ ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء: 153]، وقولهم: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: 138] وكقوم عيسى بعد أن شاهدوا منه إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله فكذبوه وراموا قتله، ثم أقام فريق على الكفر به وهم اليهود، وفريق زعموا أنهم أولياؤه وادعت على اليهود من قتله وصلبه ما كذبهم الله تعالى فيه كالملإ من بني إسرائيل حسدوا طالوت ودفعوا ملكه بعد المسألة، وكذلك ما جرى من أمر النهر، فعزى الله رسوله عما رأى من قومه من التكذيب والحسد، فقال: هؤلاء الرسل الذين كلم الله تعالى بعضهم، ورفع الباقين درجات وأيد عيسى بروح القدس، قد نالهم من قومهم ما ذكرناه بعد مشاهدة المعجزات، وأنت رسول مثلهم فلا تحزن على ما ترى من قومك، فلو شاء الله لم تختلفوا أنتم وأولئك، ولكن ما قضى الله فهو كائن، وما قدره فهو واقع وبالجملة فالمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم على إيذاء قومه له.

4. أجمعت الأمة على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض، وعلى أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم أفضل من الكل، ويدل عليه وجوه من الحجج (2):

أ. أحدها: قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107] فلما كان رحمة لكل العالمين لزم أن يكون أفضل من كل العالمين.

ب. الثانية: قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ فقيل فيه لأنه قرن ذكر محمد بذكره في كلمة الشهادة وفي الأذان وفي التشهد ولم يكن ذكر سائر الأنبياء كذلك.

ج. الثالثة: أنه تعالى قرن طاعته بطاعته، فقال: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: 80] وبيعته ببيعته فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10] وعزته بعزته فقال: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ﴾ [المنافقون: 8] ورضاه برضاه فقال: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: 62] وإجابته بإجابته فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ﴾ [الأنفال: 24]

د. الرابعة: أن الله تعالى أمر محمدا بأن يتحدى بكل سورة من القرآن فقال: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: 23] وأقصر السور سورة الكوثر وهي ثلاث آيات، وكان الله تحداهم بكل ثلاثة آيات من القرآن، ولما كان كل القرآن ستة آلاف آية، وكذا آية، لزم أن لا يكون معجز القرآن معجزا واحدا بل يكون ألفي معجزة وأزيد، وإذا ثبت هذا فنقول: إن الله سبحانه ذكر تشريف موسى بتسع آيات بينات، فلأن يحصل التشريف لمحمد بهذه الآيات الكثيرة كان أولى.

هـ. الخامسة: أن معجزة رسولنا صلّى الله عليه وآله وسلم أفضل من معجزات سائر الأنبياء فوجب أن يكون رسولنا أفضل من سائر الأنبياء، بيان الأول‏ قوله عليه السلام: (القرآن في الكلام كآدم في الموجودات)، وبيان الثاني أن الخلعة كلما كانت أشرف كان صاحبها أكرم عند الملك.

و. السادسة: أن معجزته عليه السلام هي القرآن وهي من جنس الحروف والأصوات وهي أعراض غير باقية وسائر معجزات سائر الأنبياء من جنس الأمور الباقية ثم إنه سبحانه جعل معجزة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم باقية إلى آخر الدهر، ومعجزات سائر الأنبياء فانية منقضية.

ز. السابعة: أنه تعالى بعد ما حكى أحوال الأنبياء عليهم السلام قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90] فأمر محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم بالاقتداء بمن قبله، فإما أن يقال: إنه كان مأمورا بالاقتداء بهم في أصول الدين وهو غير جائز لأنه تقليد، أو في فروع الدين وهو غير جائز، لأن شرعه نسخ سائر الشرائع، فلم يبق إلا أن يكون المراد محاسن الأخلاق، فكأنه سبحانه قال إنا أطلعناك على أحوالهم وسيرهم، فاختر أنت منها أجودها وأحسنها وكن مقتديا بهم في كلها، وهذا يقتضي أنه اجتمع فيه من الخصال المرضية ما كان متفرقا فيهم، فوجب أن يكون أفضل منهم.

ح. الثامنة: أنه صلّى الله عليه وآله وسلم بعث إلى كل الخلق وذلك يقتضي أن تكون مشقته أكثر، فوجب أن يكون أفضل، أما إنه بعث إلى كل الخلق فلقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾ [سبأ: 28] وأما أن ذلك يقتضي أن تكون مشقته أكثر فلأنه كان إنسانا فردا من غير مال ولا أعوان وأنصار، فإذا قال لجميع العالمين: يا أيها الكافرون صار الكل أعداء له، وحينئذ يصير خائفا من الكل، فكانت المشقة عظيمة، وكذلك فإن موسى عليه السلام لما بعث إلى بني إسرائيل فهو ما كان يخاف أحدا إلا من فرعون وقومه، وأما محمد صلّى الله عليه وآله وسلم فالكل كانوا أعداء له، يبين ذلك أن إنسانا لو قيل له: هذا البلد الخالي عن الصديق والرفيق فيه رجل واحد ذو قوة وسلاح فاذهب إليه اليوم وحيدا وبلغ إليه خبرا يوحشه ويؤذيه، فإنه قلما مسحت نفسه بذلك، مع أنه إنسان‏ واحد، ولو قيل له: اذهب إلى بادية بعيدة ليس فيها أنس ولا صديق، وبلغ إلى صاحب البادية كذا وكذا من الأخبار الموحشة لشق ذلك على الإنسان، أما النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فإنه كان مأمورا بأن يذهب طول ليله ونهاره في كل عمره إلى الجن والإنس الذين لا عهد له بهم، بل المعتاد منهم أنهم يعادونه ويؤذونه ويستخفونه، ثم إنه عليه السلام لم يمل من هذه الحالة ولم يتلكأ، بل سارع إليها سامعا مطيعا، فهذا يقتضي أنه تحمل في إظهار دين الله أعظم المشاق، ولهذا قال تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾ [الحديد: 10] ومعلوم أن ذلك البلاء كان على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، فإذا عظم فضل الصحابة بسبب تلك الشدة فما ظنك بالرسول، وإذا ثبت أن مشقته أعظم من مشقة غيره وجب أن يكون فضله أكثر من فضل غيره‏ لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (أفضل العبادات أحمزها)

ط. التاسعة: أن دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلم أفضل الأديان، فيلزم أن يكون محمد صلّى الله عليه وآله وسلم أفضل الأنبياء، بيان الأول أنه تعالى جعل الإسلام ناسخا لسائر الأديان، والناسخ يجب أن يكون أفضل‏ لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)، فلما كان هذا الدين أفضل وأكثر ثوابا، كان واضعه أكثر ثوابا من واضعي سائر الأديان، فيلزم أن يكون محمد صلّى الله عليه وآله وسلم أفضل من سائر الأنبياء.

ي. العاشرة: أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم أفضل الأمم، فوجب أن يكون محمد أفضل الأنبياء، بيان الأول قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110] بيان الثاني أن هذه الأمة إنما نالت هذه الفضيلة لمتابعة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 31] وفضيلة التابع توجب فضيلة المتبوع، وأيضا أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم أكثر ثوابا لأنه مبعوث إلى الجن والإنس، فوجب أن يكون ثوابه أكثر، لأن لكثرة المستجيبين أثرا في علو شأن المتبوع.

ك. الحادية عشرة: أنه صلّى الله عليه وآله وسلم خاتم الرسل، فوجب أن يكون أفضل، لأن نسخ الفاضل بالمفضول قبيح في المعقول.

ل. الثانية عشرة: أن تفضيل بعض الأنبياء على بعض يكون لأمور منها: كثرة المعجزات التي هي دالة على صدقهم وموجبة لتشريفهم، وقد حصل في حق نبينا عليه السلام ما يفضل على ثلاثة آلاف، وهي بالجملة على أقسام، منها ما يتعلق بالقدرة، كإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، وإروائهم من الماء القليل، ومنها ما يتعلق بالعلوم كالإخبار عن الغيوب، وفصاحة القرآن، ومنها اختصاصه في ذاته بالفضائل، نحو كونه أشرف نسبا من أشراف العرب، وأيضا كان في غاية الشجاعة، كما روي أنّه قال بعد محاربة علي لعمرو بن ود: كيف وجدت نفسك يا علي، قال وجدتها لو كان كل أهل المدينة في جانب وأنا في جانب لقدرت عليهم فقال: تأهب فإنه يخرج من هذا الوادي فتى يقاتلك، الحديث إلى آخره‏ وهو مشهور، ومنها في خلقه وحلمه ووفائه وفصاحته وسخائه، وكتب الحديث ناطقة بتفصيل هذه الأبواب.

م. الثالثة عشرة: قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة)، وذلك يدل على أنه أفضل من آدم ومن كل أولاده، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا يدخل الجنة أحد من النبيين حتى أدخلها أنا، ولا يدخلها أحد من الأمم حتى تدخلها أمتي) وروى أنس قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على‏ ربي ولا فخر)، وعن ابن عباس قال جلس ناس من الصحابة يتذاكرون فسمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حديثهم فقال بعضهم: عجبا إن الله اتخذ إبراهيم خليلا، وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليما، وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه، وقال آخر: آدم اصطفاه الله فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وقال: قد سمعت كلامكم وحجتكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى نجى الله وهو كذلك، وعيسى روح الله وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأنا أول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح لي فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر.

ن. الرابعة عشرة: روى البيهقي في (فضائل الصحابة) أنه ظهر علي بن أبي طالب من بعيد فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: هذا سيد العرب فقالت عائشة: ألست أنت سيد العرب؟ فقال: أنا سيد العالمين وهو سيد العرب، وهذا يدل على أنه أفضل الأنبياء عليهم السلام.

س. الخامسة عشرة: روى مجاهد عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ولا فخر، بعثت إلى الأحمر والأسود وكان النبي قبلي يبعث إلى قومه، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت بالرعب أمامي مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تكن لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة فادخرتها لأمتي، فهي نائلة إن شاء الله تعالى لمن لا يشرك بالله شيئا)، ووجه الاستدلال أنه صريح في أن الله فضله بهذه الفضائل على غيره.

ع. السادسة عشرة: قال محمد بن عيسى الحكيم الترمذي في تقرير هذا المعنى: إن كل أمير فإنه تكون مؤنته على قدر رعيته، فالأمير الذي تكون إمارته على قرية تكون مؤنته بقدر تلك القرية، ومن ملك الشرق والغرب احتاج إلى أموال وذخائر أكثر من أموال أمير تلك القرية فكذلك كل رسول بعث إلى قومه فأعطي من كنوز التوحيد وجواهر المعرفة على قدر ما حمل من الرسالة، فالمرسل إلى قومه في طرف مخصوص من الأرض إنما يعطي من هذه الكنوز الروحانية بقدر ذلك الموضع، والمرسل إلى كل أهل الشرق والغرب إنسهم وجنهم لا بد وأن يعطي من المعرفة بقدر ما يمكنه أن يقوم بسعيه بأمور أهل الشرق والغرب، وإذا كان كذلك كانت نسبة نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم إلى نبوة سائر الأنبياء كنسبة كل المشارق والمغارب إلى ملك بعض البلاد المخصوصة، ولما كان كذلك لا جرم أعطي من كنوز الحكمة والعلم ما لم يعط أحد قبله، فلا جرم بلغ في العلم إلى الحد الذي لم يبلغه أحد من البشر قال تعالى في حقه ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم: 10] وفي الفصاحة إلى أن‏ قال (أوتيت جوامع الكلم)، وصار كتابه مهيمنا على الكتب وصارت أمته خير الأمم.

ف. السابعة عشرة: روى محمد بن الحكيم الترمذي في كتاب (النوادر): عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (إن الله اتخذ إبراهيم خليلا، وموسى نجيا، واتخذني حبيبا، ثم قال وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي)

ص. الثامنة عشرة: في (الصحيحين) عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتا فأحسنها وأجملها وأكملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها، فجعل الناس يطوفون به ويعجبهم البنيان فيقولون: ألا وضعت هاهنا لبنة فيتم بناؤك؟ فقال محمد: كنت أنا تلك اللبنة)

ق. التاسعة عشرة: أن الله تعالى كلما نادى نبيا في القرآن ناداه باسمه‏ ﴿يَا آدَمُ اسْكُنْ﴾ [البقرة: 35]، ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ [الصافات: 104]، ﴿يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ [طه: 10، 11] وأما النبي عليه السلام فإنه ناداه بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ وذلك يفيد الفضل.

5. احتج المخالف لأفضلية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بوجوه من الحجج(3):

أ. الأولى: أن معجزات الأنبياء كانت أعظم من معجزاته، فإن آدم عليه السلام كان مسجودا للملائكة، وما كان محمد صلّى الله عليه وآله وسلم كذلك، وإن إبراهيم عليه السلام ألقي في النيران العظيمة فانقلبت روحا وريحانا عليه، وأن موسى عليه السلام أوتي تلك المعجزات العظيمة، ومحمد ما كان له مثلها، وداوود لان له الحديد في يده، وسليمان كان الجن والإنس والطير والوحش والرياح مسخرين له، وما كان ذلك حاصلا لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وعيسى أنطقه الله في الطفولية وأقدره على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وما كان ذلك حاصلا لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم.

ب. الثانية: أنه تعالى سمى إبراهيم في كتابه خليلا، فقال: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النساء: 125] وقال في موسى عليه السلام‏ ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 164] وقال في عيسى عليه السلام: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا﴾ [التحريم: 12] وشيء من ذلك لم يقله في حق محمد صلّى الله عليه وآله وسلم.

ج. الثالثة: قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا تفضلوني على يونس بن متى) وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا تخيروا بين الأنبياء)

د. الرابعة: روي عن ابن عباس قال: كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء فذكرنا نوحا بطول عبادته، وإبراهيم بخلته، وموسى بتكليم الله تعالى إياه، وعيسى برفعه إلى السماء، وقلنا: رسول الله أفضل منهم، بعث إلى الناس كافة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو خاتم الأنبياء، فدخل رسول الله فقال: فيم أنتم؟ فذكرنا له فقال: (لا ينبغي لأحد أن يكون خيرا من يحيى بن زكريا) وذلك أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها.

6. أجاب القائلون بأفضلية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن هذه الوجوه بما يلي:

أ. كون آدم عليه السلام مسجودا للملائكة لا يوجب أن يكون أفضل من محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، بدليل‏ قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة)، وقال: (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين)، ونقل أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج، وهذا أعظم من السجود، وأيضا أنه تعالى صلى بنفسه على محمد، وأمر الملائكة والمؤمنين بالصلاة عليه، وذلك أفضل من سجود الملائكة، ويدل عليه وجوه:

الأول: أنه تعالى أمر الملائكة بسجود آدم تأديبا، وأمرهم بالصلاة على محمد صلّى الله عليه وآله وسلم تقريبا.

الثاني: أن الصلاة على محمد صلّى الله عليه وآله وسلم دائمة إلى يوم القيامة، وأما سجود الملائكة لآدم عليه السلام ما كان إلا مرة واحدة.

الثالث: أن السجود لآدم إنما تولاه الملائكة، وأما الصلاة على محمد صلّى الله عليه وآله وسلم فإنما تولاها رب العالمين ثم أمر بها الملائكة والمؤمنين.

الرابع: أن الملائكة أمروا بالسجود لآدم لأجل أن نور محمد صلّى الله عليه وآله وسلم في جبهة آدم.

ب. كون آدم عليه السلام خص بالعلم في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: 31] وأما محمد صلّى الله عليه وآله وسلم فقال في حقه: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾ [الشورى: 52] وقال: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضحى: 7] وأيضا فمعلم آدم هو الله تعالى، قال: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ﴾ ومعلم محمد صلّى الله عليه وآله وسلم جبريل‏ عليه السلام لقوله تعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم: 5]، فالجواب: أنه تعالى قال في علم محمد صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113] وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)، وقال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن: 2] وكان صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (أرنا الأشياء كما هي)، وقال تعالى لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114] وأما الجمع بينه وبين قوله تعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ فذاك بحسب التلقين، وأما التعليم فمن الله تعالى، كما أنه تعالى قال: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ﴾ [السجدة: 11] ثم قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر: 42]

ج. قولهم أن نوحا عليه السلام قال:‏ ﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 114] وقال الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ [الأنعام: 52] وهذا يدل على أن خلق نوح أحسن، والجواب: إنه تعالى قال: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [نوح: 1] فكان أول أمره العذاب، وأما محمد صلّى الله عليه وآله وسلم فقيل فيه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: 128] إلى قوله: ﴿رَؤُوف رَحِيمٌ‏﴾ فكان عاقبة نوح أن قال: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح: 26] وعاقبة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم الشفاعة ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79]

د. أما سائر المعجزات فقد ذكر في (كتب دلائل النبوة) في مقابلة كل واحد منها معجزة أفضل منها لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وهذا الكتاب لا يحتمل أكثر مما ذكرناه.

7. ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ المراد منه من كلمه الله تعالى، والهاء تحذف كثيرا كقوله تعالى: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ﴾ [الزخرف: 71]، وقرئ كلم الله بالنصب، والقراءة الأولى أدل على الفضل، لأن كل مؤمن فإنه يكلم الله على ما قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (المصلي مناج ربه) إنما الشرف في أن يكلمه الله تعالى، وقرأ اليماني: كالم الله من المكالمة، ويدل على قولهم: كليم الله بمعنى مكالمه.

8. اختلفوا في أن من كلمه الله فالمسموع هو الكلام القديم الأزلي، الذي ليس بحرف ولا صوت أم غيره؟

أ. فقال الأشعري وأتباعه: المسموع هو ذلك فإنه لما لم يمتنع رؤية ما ليس بمكيف، فكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف.

ب. وقال الماتريدي: سماع ذلك الكلام محال، وإنما المسموع هو الحرف والصوت.

9. اتفقوا على أن موسى عليه السلام مراد بقوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ قالوا وقد سمع من قوم موسى السبعون المختارون وهم الذين أرادهم الله بقوله تعالى: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا﴾ [الأعراف: 155] وهل سمعه محمد صلّى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج؟ اختلفوا فيه، منهم من قال نعم بدليل قوله تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم: 10]

10. سؤال وإشكال: إن قوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ المقصود منه بيان غاية منقبة أولئك الأنبياء الذين كلم الله‏ تعالى، ولهذا السبب لما بالغ في تعظيم موسى عليه السلام، قال: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾، ثم جاء في القرآن مكالمة بين الله وبين إبليس، حيث قال: ﴿فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ [ص: 79 ـ 81] إلى آخر هذه الآيات وظاهر هذه الآيات يدل على مكالمة كثيرة بين الله وبين إبليس فإن كان ذلك يوجب غاية الشرف فكيف حصل لإبليس الذم وإن لم يوجب شرفا فكيف ذكره في معرض التشريف لموسى عليه السلام حيث قال: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾؟ والجواب: أن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى قال تلك الجوابات معه من غير واسطة فلعل الواسطة كانت موجودة.

11. في قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ قولان:

أ. الأول: أن المراد منه بيان أن مراتب الرسل متفاوتة، وذلك لأنه تعالى اتخذ إبراهيم خليلا، ولم يؤت أحدا مثله هذه الفضيلة، وجمع لداود الملك والنبوة ولم يحصل هذا لغيره، وسخر لسليمان الإنس والجن والطير والريح، ولم يكن هذا حاصلا لأبيه داوود عليه السلام، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلم مخصوص بأنه مبعوث إلى الجن والإنس وبأن شرعه ناسخ لكل الشرائع، وهذا إن حملنا الدرجات على المناصب والمراتب، أما إذا حملناها على المعجزات ففيه أيضا وجه، لأن كل واحد من الأنبياء أوتي نوعا آخر من المعجزة لائقا بزمانه فمعجزات موسى عليه السلام، وهي قلب العصا حية، واليد البيضاء، وفلق البحر، كان كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه وهو السحر، ومعجزات عيسى عليه السلام وهي إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، كانت كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه، وهو الطب، ومعجزة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وهي القرآن كانت من جنس البلاغة والفصاحة والخطب والأشعار، وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة، وبالبقاء وعدم البقاء، وبالقوة وعدم القوة، وفيه وجه ثالث، وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات ما يتعلق بالدنيا، وهو كثرة الأمة والصحابة وقوة الدولة، فإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم كان مستجمعا للكل فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى وأقوى وقومه أكثر ودولته أعظم وأوفر.

ب. الثاني: أن المراد بهذه الآية محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، لأنه هو المفضل على الكل، وإنما قال: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل فعلا عظيما فيقال له: من فعل هذا فيقول أحدكم أو بعضكم ويريد به نفسه، ويكون ذلك أفخم من التصريح به، واسأل الحطيئة عن أشعر الناس، فذكر زهيرا والنابغة، ثم قال ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه، ولو قال ولو شئت لذكرت نفسي لم يبق فيه فخامة.

12. سؤال وإشكال: المفهوم من قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ هو المفهوم من قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، فما الفائدة في التكرير؟ وأيضا قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ كلام كلي، وقوله بعد ذلك: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ شروع في تفضيل تلك الجملة، وقوله بعد ذلك، ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ إعادة لذلك الكلي، ومعلوم أن إعادة الكلام بعد الشروع في تفصيل جزئياته يكون مستدركا، والجواب: أن قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض، فأما أن يدل على أن ذلك التفضيل حصل بدرجات كثيرة أو بدرجات قليلة فليس فيه دلالة عليه فكان قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ فيه فائدة زائدة فلم يكن تكريرا.

13. سؤال وإشكال: قال الله تعالى في أول الآية: ﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ ثم عدل عن هذا النوع من الكلام إلى المغايبة فقال: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ ثم عدل من المغايبة إلى النوع الأول فقال: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ فما الفائدة في العدول عن المخاطبة إلى المغايبة ثم عنها إلى المخاطبة مرة أخرى؟، والجواب: أن قوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ أهيب وأكثر وقعا من أن يقال منهم من كلمنا، ولذلك قال: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ فلهذا المقصود اختار لفظة الغيبة، وأما قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ فإنما اختار لفظ المخاطبة، لأن الضمير في قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا﴾ ضمير التعظيم وتعظيم المؤتى يدل على عظمة الإيتاء.

14. سؤال وإشكال: لم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟ وهل يدل ذلك على أنهما أفضل من غيرهما؟ والجواب: سبب التخصيص أن معجزاتهما أبر وأقوى من معجزات غيرهما وأيضا فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزمان وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطعن في أمتهما، كأنه قيل: هذان الرسولان مع علو درجتهما وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما، بل نازعوا وخالفوا، وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا.

15. سؤال وإشكال: تخصيص عيسى بن مريم بإيتاء البينات، يدل أو يوهم أن إيتاء البينات ما حصل في غيره، ومعلوم أن ذلك غير جائز فإن قلتم: إنما خصهما بالذكر لأن تلك البينات أقوى؟ فنقول: إن بينات موسى عليه السلام كانت أقوى من بينات عيسى عليه السلام، فإن لم تكن أقوى فلا أقل من المساواة؟ والجواب: المقصود منه التنبيه على قبح أفعال اليهود، حيث أنكروا نبوة عيسى عليه السلام مع ما ظهر على يديه من البينات اللائحة.

16. سؤال وإشكال: البينات جمع قلة، وذلك لا يليق بهذا المقام، والجواب: لا نسلم أنه جمع قلة.

17. ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ القدس تثقله أهل الحجاز وتخففه تميم، وفي تفسيره أقوال:

أ. الأول: قال الحسن: القدس هو الله تعالى، وروحه جبريل عليه السلام، والإضافة للتشريف، والمعنى أعناه بجبريل عليه السلام في أول أمره وفي وسطه وفي آخره، أما في أول الأمر فلقوله تعالى: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا﴾ [التحريم: 12] وأما في وسطه فلأن جبريل عليه السلام علمه العلوم، وحفظه من الأعداء، وأما في آخر الأمر فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل عليه السلام ورفعه إلى السماء والذي يدل على أن روح القدس جبريل عليه السلام قوله تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ﴾ [النحل: 102]

ب. الثاني: وهو المنقول عن ابن عباس أن روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى عليه السلام الموتى.

ج. الثالث: وهو قول أبي مسلم: أن روح القدس الذي أيد به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه، وأبانه بها عن غيره ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى.

18. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ تعلق هذه بما قبلها هو أن الرسل بعد ما جاءتهم البينات، ووضحت لهم الدلائل والبراهين، اختلفت أقوامهم، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا وتحاربوا.

19. احتج القائلون بأن كل الحوادث بقضاء الله وقدره بهذه الآية، وقالوا تقدير الآية: ولو شاء الله أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا، والمعنى أن عدم الاقتتال لازم لمشيئة عدم الاقتتال، وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم، فحيث وجد الاقتتال علمنا أن مشيئة عدم الاقتتال مفقودة، بل كان الحاصل هو مشيئة الاقتتال، ولا شك أن ذلك الاقتتال معصية، فدل ذلك على أن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان بقضاء الله وقدره ومشيئته، وعلى أن قتل الكفار وقتالهم للمؤمنين بإرادة الله تعالى.

20. أجاب المعتزلة، ومن وافقهم عن هذا الاستدلال، وقالوا: المقصود من الآية بيان أن الكفار إذا قتلوا فليس ذلك بغلبة منهم لله تعالى وهذا المقصود يحصل بأن يقال: إنه تعالى لو شاء لأهلكهم وأبادهم أو يقال: لو شاء لسلب القوى والقدر منهم أو يقال: لو شاء لمنعهم من القتال جبرا وقسرا وإذا كان كذلك فقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ المراد منه هذه الأنواع من المشيئة، وهذا كما يقال: لو شاء الإمام لم يعبد المجوس النار في مملكته، ولم تشرب النصارى الخمر، والمراد منه المشيئة التي ذكرناها، وكذا هاهنا، ثم أكد القاضي هذه الأجوبة وقال: إذا كانت المشيئة تقع على وجوه وتنتفي على وجوه لم يكن في الظاهر دلالة على الوجه المخصوص، لا سيما وهذه الأنواع من المشيئة متباينة متنافية.

21. أجاب القائلون بأن كل الحوادث بقضاء الله وقدره: أن أنواع المشيئة وإن اختلفت وتباينت إلا أنها مشتركة في عموم كونها مشيئة، والمذكور في الآية في معرض الشرط هو المشيئة من حيث إنها مشيئة، لا من حيث إنها مشيئة خاصة، فوجب أن يكون هذا المسمى حاصلا، وتخصيص المشيئة بمشيئة خاصة، وهي إما مشيئة الهلاك، أو مشيئة سلب القوى والقدر، أو مشيئة القهر والإجبار، تقييد للمطلق وهو غير جائز، وكما أن هذا التخصيص على خلاف ظاهر اللفظ فهو على خلاف الدليل القاطع، وذلك لأن الله تعالى إذا كان عالما بوقوع الاقتتال، والعلم بوقوع الاقتتال حال عدم وقوع الاقتتال جمع بين النفي والإثبات، وبين السلب والإيجاب، فحال حصول العلم بوجود الاقتتال لو أراد عدم الاقتتال لكان قد أراد الجمع بين النفي والإثبات وذلك محال، فثبت أن ظاهر الآية على ضد قولهم، والبرهان القاطع على ضد قولهم.

22. ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾ ذكرنا في أول الآية أن المعنى: ولو شاء لم يختلفوا، وإذا لم يختلفوا لم يقتتلوا، وإذا اختلفوا فلا جرم اقتتلوا، وهذه الآية دالة على أن الفعل لا يقع إلا بعد حصول الداعي، لأنه بين أن الاختلاف يستلزم التقاتل، والمعنى أن اختلافهم في الدين يدعوهم إلى المقاتلة، وذلك يدل على أن المقاتلة لا تقع إلا لهذا الداعي، وعلى أنه متى حصل هذا الداعي وقعت المقاتلة، فمن هذا الوجه يدل على أن الفعل ممتنع الوقوع عند عدم الداعي، وواجب عند حصول الداعي، ومتى ثبت ذلك ظهر أن الكل بقضاء الله وقدره، لأن الدواعي تستند لا محالة إلى داعية يخلقها الله في العبد دفعا للتسلسل، فكانت الآية دالة أيضا من هذا الوجه على صحة مذهبنا.

23. سؤال وإشكال: ما الفائدة في تكرير قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾؟ والجواب: قال الواحدي: إنما كرره تأكيدا للكلام وتكذيبا لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ولم يجر به قضاء ولا قدر من الله تعالى.

24. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ فيوفق من يشاء ويخذل من يشاء لا اعتراض عليه في فعله واحتج أهل السنة، ومن وافقهم بهذه الآية على أنه تعالى هو الخالق لإيمان المؤمنين، وقالوا: لأن الخصم يساعد على أنه تعالى يريد الإيمان من المؤمن، ودلت الآية على أنه يفعل كل ما يريد، فوجب أن يكون الفاعل لإيمان المؤمن هو الله تعالى، وأيضا لما دل على أنه يفعل كل ما يريد فلو كان يريد الإيمان من الكفار لفعل فيهم الإيمان، ولكانوا مؤمنين، ولما لم يكن كذلك دل على أنه تعالى لا يريد الإيمان منهم، فكانت هذه الآية دالة على مسألة خلق الأعمال، وعلى مسألة إرادة الكائنات والمعتزلة، ومن وافقهم يقيدون المطلق ويقولون: المراد يفعل كل ما يريد من أفعال نفسه، وهذا ضعيف لوجوه:

أ. أحدها: أنه تقييد للمطلق.

ب. الثاني: أنه على هذا التقييد تصير الآية بيانا للواضحات فإنه يصير معنى الآية أنه يفعل ما يفعله.

ج. الثالث: أن كل أحد كذلك فلا يكون في وصف الله تعالى بذلك دليلا على كمال قدرته وعلو مرتبته.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/522.

(2) مع اتفاقنا معه في أفضلية نبينا الأكرم إلا أننا نختلف معه في بعض ما ذكره من وجوه الحجج، وخاصة إن تنافت مع العدالة الإلهية، أو فضل الأنبياء عليهم السلام، فتفضيل نبينا الأكرم لا يعني الحط من شأن غيره من الأنبياء

(3) ذكرها ليجيب عليها، ولم ينسبها لأي قائل، فربما يكون غرضه من إيرادها هو للجواب عنها كعادة المتكلمين

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾ قال: ﴿تِلْكَ﴾ ولم يقل: ذلك مراعاة لتأنيث لفظ الجماعة، وهي رفع بالابتداء، و﴿الرُّسُلُ﴾ نعته، وخبر الابتداء الجملة، وقيل: الرسل عطف بيان، و﴿فَضَّلَنَا﴾ الخبر.

2. هذه آية مشكلة والأحاديث ثابتة بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تخيروا بين الأنبياء) (ولا تفضلوا بين أنبياء الله)، رواها الأئمة الثقات، أي لا تقولوا: فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان، وقد اختلف العلماء في تأويل هذا المعنى:

أ. فقال قوم: إن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وقبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، وإن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل، وقال ابن قتيبة: إنما أراد بقوله: (أنا سيد ولد آدم) يوم القيامة، لأنه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض، وأراد بقوله: (لا تخيروني على موسى) على طريق التواضع، وكذلك معنى قوله: (لا يقل أحد أنا خير من يونس بن متى) على معنى التواضع، وفي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ ما يدل على أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أفضل منه، لأن الله تعالى يقول: ولا تكن مثله، فدل على أن قوله: (لا تفضلوني عليه) من طريق التواضع، ويجوز أن يريد لا تفضلوني عليه في العمل فلعله أفضل عملا مني، ولا في البلوى والامتحان فإنه أعظم محنة مني، وليس ما أعطاه الله لنبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلم من السودد والفضل يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل بعمله بل بتفضيل الله إياه واختصاصه له، وهذا التأويل اختاره المهلب.

ب. ومنهم من قال: إنما نهى عن الخوض في ذلك، لأن الخوض في ذلك ذريعة إلى الجدال وذلك يؤدي إلى أن يذكر منهم ما لا ينبغي أن يذكر ويقل احترامهم عند المماراة، قال شيخنا: فلا يقال: النبي أفضل من الأنبياء كلهم ولا من فلان ولا خير، كما هو ظاهر النهي لما يتوهم من النقص في المفضول، لان النهى اقتضى منه إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى، فإن الله تعالى أخبر بأن الرسل متفاضلون، فلا تقول: نبينا خير من الأنبياء ولا من فلان النبي اجتنابا لما نهي عنه وتأدبا به وعملا باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل، والله بحقائق الأمور عليم.

ج. وأحسن من هذا قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها، ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلا، ومنهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾، وقال: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، وهذا قول حسن، فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ.

3. القول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما منح من الفضائل وأعطي من الوسائل، وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال: (إن الله فضل محمدا على الأنبياء وعلى أهل السماء، فقالوا: بم يا ابن عباس فضله على أهل السماء؟ فقال: إن الله تعالى قال: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾، وقال لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾، قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ وقال الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾ فأرسله إلى الجن والإنس) ذكره أبو محمد الدارمي في مسنده، وقال أبو هريرة: (خير بني آدم نوح وإبراهيم وموسى ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وهم أولو العزم من الرسل)، وهذا نص من ابن عباس وأبي هريرة في التعيين، ومعلوم أن من أرسل أفضل ممن لم يرسل، فإن من أرسل فضل على غيره بالرسالة واستووا في النبوة إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أممهم وقتلهم إياهم، وهذا مما لا خفاء فيه، إلا أن ابن عطية أبا محمد عبد الحق قال: (إن القرآن يقتضي التفضيل، وذلك في الجملة دون تعيين أحد مفضول، وكذلك هي الأحاديث، ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (أنا أكرم ولد آدم على ربي) وقال: (أنا سيد ولد آدم) ولم يعين، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى) وقال: (لا تفضلوني على موسى)، وقال ابن عطية: وفي هذا نهي شديد عن تعيين المفضول، لأن يونس صلّى الله عليه وآله وسلم كان شابا وتفسخ تحت أعباء النبوة، فإذا كان التوقيف لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم فغيره أحرى)

4. ما اخترناه أولى إن شاء الله تعالى، فإن الله تعالى لما أخبر أنه فضل بعضهم على بعض جعل يبين بعض المتفاضلين ويذكر الأحوال التي فضلوا بها فقال: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ وقال: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ وقال تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ﴾، ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ﴾، وقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ وقال: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ﴾، فعم ثم خص وبدأ بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وهذا ظاهر، وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى، اشتركوا في الصحبة ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب والوسائل، فهم متفاضلون بتلك مع أن الكل شملتهم الصحبة، وحسبك بقوله الحق: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ إلى آخر السورة، وقال: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ ثم قال: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾ وقال: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ فعم وخص.

5. ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ المكلم موسى عليه السلام، وقد سئل رسوله الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن آدم أنبي مرسل هو؟ فقال: (نعم نبي مكلم)، قال ابن عطية: وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصية موسى، وحذفت الهاء لطول الاسم، والمعنى من كلمه الله.

6. ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ قال النحاس: بعضهم هنا على قول ابن عباس والشعبي ومجاهد محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم وأعطيت الشفاعة)، ومن ذلك القرآن وانشقاق القمر وتكليمه الشجر وإطعامه الطعام خلقا عظيما من تميرات ودرور شاة أم معبد بعد جفاف، وقال ابن عطية معناه، وزاد: وهو أعظم الناس أمة وختم به النبيون إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه الله، ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وغيره ممن عظمت آياته، ويكون الكلام تأكيدا، ويحتمل أن يريد به رفع إدريس المكان العلي، ومراتب الأنبياء في السماء كما في حديث الإسراء، وسيأتي، وبينات عيسى هي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير من الطين كما نص عليه في التنزيل، ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ قويناه، ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ جبريل عليه السلام، وقد تقدم.

7. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ أي من بعد الرسل، وقيل: الضمير لموسى وعيسى، والاثنان جمع، وقيل: من بعد جميع الرسل، وهو ظاهر اللفظ، وقيل: إن القتال إنما وقع من الذين جاءوا بعدهم وليس كذلك المعنى، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبي، وهذا كما تقول: اشتريت خيلا ثم بعتها، فجائز لك هذه العبارة وأنت إنما اشتريت فرسا وبعته ثم آخر وبعته ثم آخر وبعته، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبي فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغيا وحسدا وعلى حطام الدنيا، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى، ولو شاء خلاف ذلك لكان ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك الفعل لما يريد، وكسرت النون من ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا﴾ لالتقاء الساكنين، ويجوز حذفها في غير القرآن، وأنشد سيبويه:

çفلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضلé

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/262.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾ قيل: هو إشارة إلى جميع الرسل، فتكون الألف واللام للاستغراق، وقيل: هو إشارة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة؛ وقيل: إلى الأنبياء الذين بلغ علمهم إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم.

2. المراد بتفضيل بعضهم على بعض: أن الله سبحانه جعل لبعضهم من مزايا الكمال فوق ما جعله للآخر، فكان الأكثر مزايا فاضلا والآخر مفضولا، وكما دلت هذه الآية على: أن بعض الأنبياء أفضل من بعض، كذلك دلت الآية الأخرى، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾

3. استشكل جماعة من أهل العلم الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: (لا تفضّلوني على الأنبياء)، وفي لفظ آخر: (لا تفضّلوا بين الأنبياء) وفي لفظ: (لا تخيّروا بين الأنبياء):

أ. فقال قوم: إن هذا القول منه صلّى الله عليه وآله وسلم كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل.

ب. وقيل: إنه قال صلّى الله عليه وآله وسلم ذلك على سبيل التواضع كما قال: (لا يقل أحدكم أنا خير من يونس بن متّى) تواضعا، معه علمه أنه أفضل الأنبياء، كما يدلّ عليه قوله: (أنا سيد ولد آدم)

ج. وقيل: إنما نهى عن ذلك قطعا للجدال والخصام في الأنبياء، فيكون مخصوصا بمثل ذلك، إلا إذا كان صدور ذلك مأمونا.

د. وقيل: إن النهي إنما هو من جهة النبوة فقط، لأنها خصلة واحدة لا تفاضل فيها، ولا نهي عن التفاضل بزيادة الخصوصيات والكرامات.

هـ. وقيل: إن المراد: النهي عن التفضيل لمجرد الأهواء والعصبية.

4. في جميع هذه الأقوال ضعف، وعندي أنه لا تعارض بين القرآن والسنة، فإن القرآن دلّ على أن الله فضل بعض أنبيائه على بعض، وذلك لا يستلزم أنه يجوز لنا أن نفضل بعضهم على بعض، فإن المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله لا تخفى عليه منها خافية؛ وليست بمعلومة عند البشر، فقد يجهل أتباع نبيّ من الأنبياء بعض مزاياه وخصوصياته فضلا عن مزايا غيره، والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع الأسباب التي يكون بها هذا فاضلا وهذا مفضولا، لا قبل العلم ببعضها أو بأكثرها أو بأقلها، فإن ذلك تفضيل بالجهل، وإقدام على أمر لا يعلمه الفاعل له وهو ممنوع منه، فلو فرضنا أنه لم يرد إلا القرآن في الإخبار لنا بأن الله فضل بعض أنبيائه على بعض لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أن يفضلوا بين الأنبياء، فكيف وقد وردت السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك؟

5. إذا عرفت هذا علمت أنه لا تعارض بين القرآن والسنة بوجه من الوجوه، فالقرآن فيه الإخبار من الله بأنه فضل بعض أنبيائه على بعض، والسنة فيها النهي لعباده أن يفضلوا بين أنبيائه، فمن تعرّض للجمع بينهما زاعما أنهما متعارضان فقد غلط غلطا بينا.

6. ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ وهو موسى، ونبينا سلام الله عليهما، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال في آدم: (إنه نبي مكلم)، وقد ثبت ما يفيد ذلك في صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر.

7. ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ هذا البعض يحتمل أن يراد به من عظمت منزلته عند الله سبحانه من الأنبياء، ويحتمل أن يراد به نبينا صلّى الله عليه وآله وسلم لكثرة مزاياه المقتضية لتفضيله، ويحتمل أن يراد به إدريس؛ لأن الله سبحانه أخبرنا بأنه رفعه مكانا عليا؛ وقيل: إنهم أولو العزم؛ وقيل: إبراهيم، ولا يخفاك أن الله سبحانه أبهم هذا البعض المرفوع، فلا يجوز لنا التعرّض للبيان له إلا ببرهان من الله سبحانه، أو من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، ولم يرد ما يرشد إلى ذلك، فالتعرّض لبيانه هو من تفسير القرآن الكريم بمحض الرأي، وقد عرفت ما فيه من الوعيد الشديد مع كون ذلك ذريعة إلى التفضيل بين الأنبياء وقد نهينا عنه؛ وقد جزم كثير من أئمة التفسير أنه نبينا صلّى الله عليه وآله وسلم، وأطالوا في ذلك، واستدلوا لما خصه الله به من المعجزات، ومزايا الكمال، وخصال الفضل، وهم ـ بهذا الجزم بدليل لا يدل على المطلوب ـ قد وقعوا في خطرين، وارتكبوا نهيين، وهما: تفسير القرآن بالرأي، والدخول في ذرائع التفضيل بين الأنبياء، وإن لم يكن ذلك تفضيلا صريحا؛ فهو ذريعة إليه بلا شك ولا شبهة.. لأن من جزم بأن هذا البعض المرفوع درجات هو النبيّ الفلاني انتقل من ذلك إلى التفضيل المنهيّ عنه، وقد أغنى الله نبينا المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك بما لا يحتاج معه إلى غيره من الفضائل والفواضل، فإياك أن تتقرّب إليه صلّى الله عليه وآله وسلم بالدخول في أبواب نهاك عن دخولها فتعصيه، وتسيء، وأنت تظن أنك مطيع محسن.

8. ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ أي: الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة من إحياء الأموات وإبراء المرضى وغير ذلك، ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ هو جبريل، وقد تقدّم الكلام على هذا.

9. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ أي: من بعد الرسل؛ وقيل: من بعد موسى وعيسى ومحمد، لأن الثاني مذكور صريحا، و الأول و الثالث وقعت الإشارة إليهما بقوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ أي: لو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا، فمفعول المشيئة محذوف على القاعدة.

10. ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا﴾ استثناء من الجملة الشرطية، أي: ولكن الاقتتال ناشئ عن اختلافهم اختلافا عظيما، حتى صاروا مللا مختلفة ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ عدم اقتتالهم بعد هذا الاختلاف‏ ﴿مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ لا رادّ لحكمه، ولا مبدّل لقضائه، فهو يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/309.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾، إشارة إلى من ذكر منهم في هذه السورة أو المعلومة للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم‏ ﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ بأن خص بمنقبة ليست لغيره‏ ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ تفصيل التفضيل أي منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام‏ ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ كإبراهيم اتخذه الله خليلا، وداوود آتاه الله النبوّة والخلافة والملك، قال الزمخشريّ: أي ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة.

2. الظاهر أنه أراد محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم لأنه هو المفضل عليهم حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية أو أكثر، ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفا على سائر ما أوتي الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات، وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشبّه والمتميز الذي لا يلتبس؛ يقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم أو بعضكم، تريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال، فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه، وسئل الحطيئة عن أشعر الناس؟ فذكر زهيرا والنابغة، ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه، ولو قال:ولو شئت لذكرت نفسي، لم يفخم أمره، ثم قال: ويجوز أن يريد إبراهيم ومحمدا وغيرهما من أولي العزم.

3. ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى‏ ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ سبق الكلام فيه.

4. سؤال وإشكال: لم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟ والجواب: قال الزمخشريّ: لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة، ولقد بين الله وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات، فلما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات، خصّا بالذكر في باب التفضيل، وهذا دليل بيّن أن من زيد تفضيلا بالآيات منهم فقد فضل على غيره، ولما كان نبينا صلّى الله عليه وآله وسلم هو الذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها، كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع.

5. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾، أي من بعد الرسل لاختلافهم في الدين وتشعب مذاهبهم وتكفير بعضهم بعضا ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾، قال الزمخشريّ: كرره للتأكيد، قال الناصر في حواشيه: ووراء التأكيد سر أخص منه، وهو أن العرب متى ثبت أول كلامهم على مقصد، ثم اعترضها مقصد آخر وأرادت الرجوع إلى الأول، قصدت ذكره إما بتلك العبارة أو بقريب منها، وذلك عندهم مهيع من الفصاحة مسلوك، وفي كتاب الله تعالى مواضع في هذا المعنى، منها قوله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾ [النحل: 106]، ومنها قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ﴾ [الفتح: 25]، وهذه الآية من هذا النمط، لما صدر الكلام بأن اقتتالهم كان على وفق المشيئة، ثم طال الكلام وأريد بيان أن مشيئة الله تعالى كما نفذت في هذا الأمر الخاص وهو اقتتال هؤلاء، فهي نافذة في كل فعل واقع، وهو المعنى المعبر عنه في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ طرأ ذكر تعلق المشيئة بالاقتتال لتلوه عموم تعلق المشيئة لتناسب الكلام ويعرف كل بشكله، فهذا سر ينشرح له الصدر، ويرتاح له السر.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/188.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾ المذكورة العامَّة في قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، وهذا أولى من أن يجعل المراد الرسل المذكورين في السورة، أو معلوميهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أو الاستغراق، هكذا بلا نظر إلى ذكرهم في قوله: ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾.

2. ﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ بخصائل حميدة بمحض فضلنا، فيفضل بالحسنات أيضًا، ومن ذلك أنَّه شرع لبعض، وأجرى بعضًا على شرعِ مَن قبْلَه، وليس التخصيص باستعداد وقابليَّة كما زعم بعض الحكماء.

3. ﴿مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ﴾ موسى ليلة الاختيار، وفي الطور، ومحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة الإسراء على أنَّ الإسراء بالجسد، وآدم عليه السلام .

4. ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ على درجات أو بدرجات، أو في درجات، كذا قيل، أو مفعول مطلق؛ لأنَّ الدرجة رفعة، كأنَّه قال: (ورفعنا بعضهم رفعات)، أو حال، أي: ذا درجات، أو مفعول ثان لـ (رَفَعْنَا) على تضمين معنى: (بلَّغنا)، بشدِّ اللام، وذلك بتفضيله على غيره بمراتب متعدِّدة، وهو محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، كبعثه صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الخلق كلِّهم الإنس والجنِّ والملائكة وغيرهم بعثةً لا تنسخ، وتفضيل أمَّته، وما أوتي نبيء درجة إِلَّا أوتي صلّى الله عليه وآله وسلّم مثلها، زيادة على ما خصَّ به، وقد أطلت في شرح نونيَّة المديح ما شاء الله، وأمَّا آدم فأرسل إلى أولاده وأولادهم، لكن لم يكن في الدنيا سواهم، ولم يرسل إلى الجنِّ، وأمَّا نوح فعمَّ بعد الغرق الناسَ ولم يبعث للجنِّ، ولم يكن له العموم في زمن البعثة، وقيل: التكليم لموسى خاصَّة، ولا ينافي أنَّ محمَّدًا أفضل منه، لأنَّه يوجد في المفضول ما لم يكن في الفاضل، وقيل: البعض المرفوعُ درجاتٍ إبراهيم، إذ خصَّ بالخلَّة وهي أعلى المراتب سوى الحبيبيَّة، ومحمَّد حبيب الله، والحبيبيَّة أعلى رتبة من الخلَّة، إذ الخليل محبٌّ لحاجته، والحبيب محبٌّ لا لغرض، والخليل يكون فعله برضا الله، والحبيب يكون فعل الله برضاه، والحبيب مرتبته في مرتبة اليقين، والخليل مرتبته في حدِّ الطمع، وروي أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم خليل أيضًا، وقيل: إدريس، لقوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم: 57]، وفي القولين ضعف لجمع (الدرجات)، إِلَّا أن يقال: جُمعت تعظيمًا، أو باعتبار ما يترتَّب، وقيل: أولو العزم، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليهم، وزيد يعقوب ويوسف وأيُّوب وداود عليهم السلام.

5. ﴿وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، والتنبئة بما يُؤكل وما يُدَّخر وسائر آياته، ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ قوَّيناه ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ جبريل، يسير معه حيث سار حتَّى رفع إلى السماء، وخصَّه بالذكر لإفراط اليهود في تحقيره والنصارى في تعظيمه، وجعل معجزاته سبب تفضيله لأنَّها محسوسات، ولا خلاف أنَّ سيِّدنا محمَّدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم أفضل من كلِّ نبيء على حدة، وأمَّا أن يكونوا كلُّهم دفعة دونه ففيه التوقُّف، وجزم بعض بأنَّهم دونه لقوله تعالى: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90]، فإنَّه إذا اقتدى بهم كلِّهم فقد عمل عملهم كلِّهم؛ فهو أفضل منهم مجموعين، ويبحث بأنَّ الأنبياء لم يذكروا كلُّهم في الآية بل بعضهم، وبأنَّه أمر بالاِفتداء بهم في الأصول وما لا يختلف، وكيف يتصوَّر أن يعمل بما تخالفوا فيه؟، وقيل: أفضل من مجموعهم من حيث إنَّ أعمال أمَّته كلَّها ما نووه له وما لم ينووه راجعة إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، مع ما يقصد به من الصلاة والسلام عدد التراب والأنفاس وذرَّات الأجسام والأعراض وغير ذلك.

6. ﴿وَلَوْ شَآءَ اللهُ﴾ قدَّر بعضٌ: (لو شاء الله عدم الاقتتال)، وهذا التقدير هو الأنسب بالقاعدة من تقدير مفعول المشيئة بعد (لَوْ) من جنس جوابها، ويقبل من جهة المعنى تقدير: (لو شاء الله أن لا يختلفوا) أو: (أن لا يؤمروا بالقتال)، أو (يهتدوا كلُّهم)، وأشكل بأنَّ الأعدام الأزليَّة لا تتعلَّق بها الإرادة وإلَّا كانت حادثة، فلا يقدَّر: (لو شاء الله عدم الاقتتال) أو (أن لا يختلفوا) أو (أن لا يؤمروا)، ﴿مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهم﴾ بعد الرسل، أي: ما اقتتلت كلُّ أمَّة بعد موت رسولها.

7. ﴿مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ المعجزات أو الآيات المتلوَّات، الهاء للرسل، جاءتهم البيِّنات من الله ليعلم الناس أنَّهم رسل الله تعالى ، أو للذين من بعدهم، أي: جاءتهم من جهة الرسل، و(من بعدِ) متعلِّق بـ (اقتَتَلَ)، أو بدل من قوله: (من بعدِ).

8. والمراد بالاقتتال: الاختلاف لأنَّه سبب الاقتتال؛ ولذا قال: ﴿وَلَكِنِ اِخْتَلَفُواْ﴾ وهذا أولى من ردِّ (اختلفوا) إلى معنى اقتتلوا، عكس ما مرَّ، أي: لم يشأ عدم اقتتالهم، بل شاء اقتتالهم لاختلافهم.

9. ﴿فَمِنْهُم مَّنَ ـ امَنَ﴾ ثبت على إيمانه السابق، ﴿وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ﴾ كالنصارى بعد المسيح، ﴿وَلَوْ شَآءَ اللهُ مَا اَقْتَتَلُواْ﴾ تأكيد، وهو من باب البلاغة، أو تأسيس أي: ولو شاء الله عدم اقتتالهم بعد هذه المرتبة من الاختلاف والشقاق، والمستتبعين للاقتتال بحسب العادة ما اقتتلوا، ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ من توفيق وخذلان، فاختلفوا إيمانًا وكفرًا، ونقول من خارجٍ: الله يفعل بإرادته ما يشاء لا بقهر قاهر، وهو مستقلٌّ بالفعل ولو جعل له أسبابًا، وكلُّ شيء مستأنف منه.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/110.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان الكلام(2) إلى هنا في طلب بذل المال والنفس في سبيل الله تعالى، وقد ضرب له مثل الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف فماتوا بجبنهم ولم تغن عنهم كثرتهم، ثم أحياهم الله تعالى أي أحيا أمتهم بنفر منهم غيروا ما بأنفسهم، ومثل الملأ من بني إسرائيل بعد أن غلب الفلسطينيون أمتهم على أمرها وأخرجوها من ديارها وأبنائها، ثم نصرها الله تعالى بفئة قليلة مؤمنة بلقائه، صابرة في بلائه، بعد هذا أراد ـ سبحانه ـ أن يقوي النفوس على القيام بذلك، فذكر الأنبياء المرسلين الذين كانوا أقطاب الهداية، ومحل التوفيق منه والعناية، الذين بين الدليل في آخر السياق الماضي على أن المخاطب بهذا القرآن الذي فيه سيرتهم منهم، وكان قد ذكر قبل ذلك داود وما آتاه الله من الملك والنبوة، ذكرهم مبينا تفضيل بعضهم على بعض، وخص بالذكر أو الوصف من بقي لهم أتباع، وذكر ما كان من أمر أتباعهم من بعدهم في الاختلاف والاقتتال، ثم عاد إلى الموضوع الأول وهو الإنفاق وبذل المال في سبيل الله، لكن بأسلوب آخر كما ترى في الآية التي تلي هذه الآية.

2. ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾ [البقرة: 253] أي المشار إليهم بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [البقرة: 252] في آخر الآية السابقة، ومنهم داود الذي ذكر في الآية التي قبلها، وهذا أظهر من قولهم: المراد بالرسل من ذكروا في هذه السورة، أو من قص الله على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قبل هذا من أنبائهم، أو المراد جماعة الرسل فضلنا بعضهم على بعض مع استوائهم في اختيار الله تعالى إياهم للتبليغ عنه وهداية خلقه إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.

3. التصريح بهذا التفضيل، وذكر بعض المفضلين يشبه أن يكون استدراكا مع ما ذكر في الآيات السابقة من إيتائه تعالى داود الملك والحكمة وتعليمه مما يشاء، فهو يقول: إنهم كلهم رسل الله، فهم حقيقون بأن يتبعوا ويقتدى بهداهم وإن امتاز بعضهم على بعض بما شاء الله من الخصائص في أنفسهم وفي شرائعهم وأممهم.

4. بين هذا التفضيل في بعض المفضلين فقال: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ [البقرة: 253] بصيغة الالتفات عن الضمير إلى التعبير بالظاهر لتفخيم شأن هذه المنقبة، والغرض من هذا الالتفات إلفات الأذهان إلى هذه المنقبة تفخيما لها وتعظيما لشأنها، وهذا التكليم كان من الله تعالى لسيدنا موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما قال تعالى في سورة النساء: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 164]، وفي سورة الأعراف: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ [الأعراف: 143]، وفي الآية التي بعدها: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾ [الأعراف: 144]، فهذه الآيات تدل على أن موسى قد خص بتكليم لم يكن لكل نبي مرسل، وإن كان وحي الله تعالى عاما لكل الرسل، ويطلق عليه كلام الله تعالى، وقد قال تعالى في سورة الشورى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: 51]، فجعل كلامه لرسله ثلاثة أنواع، والظاهر أن تكليم موسى كان من النوع الثاني في الآية، وكلها تسمى وحي الله وكلام الله، وقال بعضهم: إن هذا النوع من التكليم كان لنبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ في تجلي ليلة المعراج، فهو المراد بمن كلم الله هنا، والجمهور على القول الأول، وإن كان لفظ (من) يتناول أكثر من واحد.

5. خاض علماء العقائد في مسألة الكلام الإلهي والتكليم وتبعهم المفسرون، فقال بعضهم كالمعتزلة: إن التكليم فعل من أفعال الله تعالى كالتعليم والكلام ما يكون به، وقال الجمهور: إن كلام الله تعالى صفة من صفاته تتعلق بجميع ما في علمه، وتكليمه الرسل عبارة عن إعلامهم بما شاء من علمه، وما به الإعلام هو كلام الله، وهو كما قال محمد عبده في رسالة التوحيد: (شأن من شئونه قديم بقدمه، أي: إنه تعالى متصف في الأزل بالكلام، أي بالصفة التي يكون بها التكليم متى شاء، كما أنه متصف في الأزل بالقدرة التي بها يكون الخلق والتقدير متى شاء)، هذا أوضح ما يبين به مذهب أهل السنة والجماعة في كلام الله تعالى النفسي، وهو أن له صفة ذاتية، بها يعلم من يشاء من عباده بما شاء من علمه متى شاء، وهذا الإعلام هو التكليم والوحي، ولا يجوز لنا البحث عن كيفية كلامه القديم، ولا عن كيفية تكليمه رسله وإيحائه إليهم.

6. قال محمد عبده في الدرس: إن هذا الكلام مما لا يمكن أن يعرفه إلا النبي المكلم، فلا ينبغي لنا أن نبحث فيه ونحاول الوقوف على كنهه، حتى إن النبي المكلم نفسه لا يستطيع أن يفهمه لغيره؛ لأنه ليس له عبارة تدل عليه: يعني أن ما كان للرسل ـ عليهم السلام ـ من تكليم الله وما خصهم به من وحيه هو من قبيل الوجدان والشعور النفسي، كالشعور بالسرور واللذة والألم، فلا يمكن التعبير عن حقيقته، وليس هو من قبيل التصورات والخواطر، ولا نزيد على هذا البيان في هذا الكلام، فإنه من مزال الأقدام والأقلام، فنحن نؤمن بكلام الله تعالى ووحيه مع تنزيهه في ذاته وصفاته عن مشابهة خلقه، فإن وقع في كلامنا ما يوهم خلاف هذه العقيدة السلفية فهو من عثرات القلم الضعيف في البيان، لا من شذوذ عن صراط الله المستقيم في الإيمان.

7. أما قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ [البقرة: 253] فذهب جماهير المفسرين إلى أن المراد به نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو ما رواه ابن جرير عن مجاهد وأيده، وقال محمد عبده: إن الأسلوب يؤيده ويقتضيه؛ أي لأن السياق في بيان العبرة للأمم التي تتبع الرسل، والتشنيع على اختلافهم واقتتالهم مع أن دينهم واحد في جوهره، والموجود من هذه الأمم اليهود والنصارى والمسلمون، فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر، ولعل ذكر آخرهم في الوسط للإشعار بكون شريعته وكذا أمته وسطا.

8. من هذه الدرجات ما هو خصوصية في نفسه الشريفة، ومنها ما هو في كتابه وشريعته، ومنها ما هو في أمته، وآيات القرآن تنبئ بذلك كقوله تعالى في سورة القلم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، وقوله تعالى في أواخر سورة الأنبياء بعد ما ذكر نعمه على أشهرهم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107] ولم يقل مثل هذا في أحد منهم، وقوله في سورة سبأ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ: 28]، وقال تعالى في فضل القرآن: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9] الآيات، وقال فيها: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: 88]، وقال في سورة الزمر: ﴿الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله الآية﴾، وقال فيها: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الزمر: 55] الآية، وقال: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89] وقال: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38]، ووصفه بالحكيم وبالمجيد وبالعظيم وبالمبين وبالفرقان، وحفظه من التحريف والتغيير والتبديل، ووصف الشريعة بقوله تعالى في سورة الأعلى: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ [الأعلى: 8]، وقال في أمته، أي أمة الإجابة الذين اتبعوه حق الاتباع دون الذين لقبوا أنفسهم بلقب الإسلام ولم يهتدوا بهدي القرآن: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]، وقال فيها من سورة آل عمران: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110]، ولو أردت استقصاء الآيات في وجوه درجاته صلّى الله عليه وآله وسلم لأتيت بكثير، وهذا القليل لا يقال له قليل.

9. وفي الأحاديث من ذكر خصائصه ما أفرد بالتأليف وهي مما يصح أن تعد من درجاته، وإنك لترى العلماء مع هذا كله لم يتفقوا على أنه المراد في الآية:

أ. بل جوزوا أن يكون المراد بها إدريس عليه السلام لقوله تعالى في سورة مريم: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم: 57] على أن المكان ليس بمعنى الدرجات.

ب. وجوز بعضهم أن يكون المراد بمعنى رفع الله درجات غير واحد من الرسل وهو بمعنى التفضيل المطلق في قوله: ﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [الإسراء: 21]

ج. وجعل بعض المتأخرين حمل ورفع بعضهم درجات على نبينا صلّى الله عليه وآله وسلم من التفسير بالرأي، وبالغ في التحذير منه، وكيف يقبل هذا منه والآية جاءت بعد مطلق التفضيل بهذه الوجوه التي يمكن معرفتها بالدلائل على نحو ما قلنا، وتفسير المبهم بالدليل ليس من التفسير بالرأي، لا سيما إذا أيده السياق ورضي به الأسلوب، إنما التفسير بالرأي هو ما يكون من المقلدين ينتحلون مذهبا يجعلونه أصلا في الدين، ثم يحاولون حمل الآيات عليه، ولو بالتأويل والتحريف والأخذ ببعض الكتاب وترك بعض.

10. ثم قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: 253]:

أ. البينات: هي ما تبين به الحق من الآيات والدلائل كما قال في هذه السورة: ﴿ولقد جاءكم بالبينات﴾

ب. وروح القدس: هو روح الوحي الذي يؤيد الله به رسله كما قال لنبينا: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ [الشورى: 52] الآية، وقال له في سورة النحل: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 102] وقال أبو مسلم: إن روح القدس عبارة عن الروح الطيبة المقدسة التي أيد بها عيسى عليه السلام، وقد سبقت هذه العبارة في آية من هذه السورة فلا نطيل في إعادة تفسيرها، ولعل النكتة في ذكر اسم عيسى عليه الصلاة والسلام: أن ما آتاه لما كان مشتركا كان ذكره بالإبهام غير صريح في كونه ممن فضل به، أو الرد على الذين غلوا فيه، فزعموا أنه إله لا رسول مؤيد بآيات الله، ظهر لي هذا عند الكتابة، ثم راجعت تفسير أبي السعود فإذا هو يقول: وإفراده عليه السلام بما ذكر لرد ما بين أهل الكتابين في شأنه عليه السلام من التفريط والإفراط.

11. ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾ [البقرة: 253]، قال محمد عبده ما مثاله مبسوطا: إذ جرينا في فهم الآية على تفسير بعض المفسرين نكون جبرية لا نقبل دينا ولا شرعا، ولا يكون لنا في الكلام عبرة؛ لأنهم يقولون ما قصاراه: إن الله تعالى هو الذي غرس في قلوب هؤلاء الذين جاءوا من بعد الأنبياء بذور الخلاف والشقاق، وقضى عليهم بما ألزمهم العدوان والاقتتال، فإنه شاء أن يكونوا هكذا، فكانوا مضطرين في الباطن وإن كان لهم اختيار ما بحسب الظاهر، فلندع هذا ولننظر ما تدل عليه هذه الكلمات القليلة من اتفاق حكمة الله تعالى مع مشيئته في خلق الإنسان وسننه في شئونه الاجتماعية، لم يخلق الله الناس بقوى محدودة متساوية في أفرادهم لا تتجاوز طلب ما به قوام الحسم بالإلهام الفطري والإدراك الجزئي، كالأنعام السائمة والطيور الحائمة، بل خلق الإنسان كما نعرفه الآن، جعل له عقلا يتصرف في أنواع شعوره، وفكرا يجول في طرق حاجاته البدنية والنفسية، وجعل ارتقاءه في إدراكه وأفكاره كسبيا، ينشأ ضعيفا فيقوى بالتدريج حسب التربية التي يحاط بها، والتعليم الذي يتلقاه، وتأثير حوادث الزمان والمكان، والأسوة والتجارب فيه، وجعل هداية الدين له أمرا اختياريا لا وصفا اضطراريا، فهي معروضة أمامه يأخذ منها بقدر استعداده وفكره، كما هو شأنه في الأخذ بسائر أنواع الهداية والاستفادة من منافع الكون، هذه هي سنته تعالى في الإنسان وهي منشأ الاختلاف، فهو يقول: لو شاء الله ألا يجعل سنته في تبليغ الدين وعرضه على الناس هكذا ـ بأن يجعله من إلهاماتهم العامة وشعورهم الفطري، كشعور الحيوان وإلهامه ما فيه منفعته ـ لكانوا في هداية الدين سواء؛ يسعدون به أجمعين فتمنعهم بيناته أن يختلفوا فيقتتلوا، ولكنه خلق الإنسان على غير ما خلق عليه الحيوان، وكان ذلك سبب اختلاف أهل الأديان، فمنهم من آمن إيمانا صحيحا فأخذ الدين على وجهه؛ إذ فهمه حق فهمه، ومنهم من لبسه مقلوبا وحكم هواه في تأويله فكان كافرا به في الحقيقة ـ وإن كان غاليا فيما أحدث فيه من مذهب أو طريقة ـ وكان ذلك مدعاة التخاصم وسبب التنازع والتقاتل.

12. اختلف اليهود في دينهم فاقتتلوا، وأما النصارى فلم تختلف أمة اختلافهم، ولم يقتتل أهل المذاهب في دين من الأديان اقتتالهم، بل كان المذهب الواحد من مذاهبهم يتشعب إلى شعب يقاتل بعضها بعضا، وكان يجب أن يحذر المسلمون من هذا الاختلاف أشد الحذر لكثرة ما نهاهم الله عن الاختلاف وأنذرهم العذاب عليه في الدنيا والآخرة، وقد امتثلوا أمره تعالى بالاتحاد والاعتصام، وانتهوا عما نهاهم عنه من التفرق والاختلاف في عصر صاحب الرسالة وطائفة من الزمن بعده، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، ثم لم يلبثوا أن ذهبوا في الدين مذاهب، وفرقوا دينهم فكانوا في شريعته مشارب، فاقتتلوا في الدين قليلا وفي السياسة التي صبغوها بصبغة الدين كثيرا، وقد تمادوا في هذا الشقاق والاختلاف فانتهوا إلى زمن صاروا فيه أبعد الأمم عن الاتفاق والائتلاف.

13. ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ [البقرة: 253] قال محمد عبده: يمكن تفسير هذه الجملة بمثل ما فسرت به الجملة الأولى، والأولى أن تفسر بوجه آخر أخص، كأن يقال: لو شاء الله تعالى أن تكون سنته في الإنسان ـ على ما فطر عليه من الاختلاف ـ أن يعذر المختلفون من أفراده بعضهم بعضا، ويوطن كل فريق منهم نفسه على أن ينتصر لرأيه بالحجة، ويسعى إلى مصلحته بالفطنة لما اقتتلوا على ما يختلفون فيه، ولكنه جعلهم درجات في الفهم والحزم، وأودع في غرائزهم المدافعة عن حقيقتهم والنضال دون مصلحتهم بكل ما قدروا عليه من قول وعمل، فالقوي بالرأي يحارب بالرأي والقوي بالسيف يقاوم بالسيف، فكان الاختلاف في الرأي والمصالح معا مع عدم العذر مؤديا إلى الاقتتال لا محالة، قال: هكذا خلق الإنسان، فلا يقال: لم خلقه هكذا؟ لأن هذا بحث عن أسرار الخلقة ككبر أذني الحمار وصغر أذني الجمل ولذلك قال: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة: 253] أي إن اختصاص الناس بهذه المزايا هو أثر إرادته وتخصيصها فلا مرد له، فعلم بهذا أن لا تكرار في الآية وقد تقدم الكلام في اختلاف البشر وأسبابه مفصلا تفصيلا فيما كتبه محمد عبده في تفسير قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: 213]

14. عنّ لي الآن أن أختم تفسير الآية بسرد بعض الآيات الناهية عن الاختلاف والتفرق في الدين، الناعية على المتفرقين والمختلفين، قال تعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا﴾ إلى أن قال: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 105]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 159] الآية، ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم: 31-32]، ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنعام: 65]، ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ [الشورى: 13-15].. فهذه الآيات وأمثالها نصوص صريحة في أن دين الله تعالى الذي شرعه على ألسنة رسله ينافي الاختلاف والتفرق، وأن الله ورسوله بريء من المختلفين، وقد أرشدنا إلى المخرج مما فطر عليه الناس من الاختلاف في الفهم والتنازع في الأمر إذ قال في سورة النساء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59].

15. فإطاعة الله هي الأخذ بكتابه كله، وفيه ما رأيت من النهي عن الاختلاف والتفرق في الدين، وإطاعة رسوله بعد وفاته هي الأخذ بسنته، وإطاعة أولي الأمر هي العمل بما يتفق أهل الحل والعقد وأولو الشأن من علمائنا ورؤسائنا بعد المشاورة بينهم في أمر اجتهادي، على أنه هو الأصلح لنا الذي يستقيم به أمرنا، فإن وقع التنازع والاختلاف وجب رده إلى الله ورسوله، وتحكيم الكتاب والسنة فيه، ولا يجوز أن يتمادى المسلمون على التفرق والاختلاف بحال.

16. هذا حكم الله الذي أبطله التقليد بما جعل بين المسلمين وبين الكتاب والسنة واجتماع رأي أولي الأمر والشأن من الحجب حتى صار به المسلمون شيعا في أمر الدين، هذا خارجي وهذا شيعي، وهذا كذا وهذا كذا، وشيعا في أمر الدنيا، هذا يتبع سلطانه ويحارب لأجل هواه جماعة المسلمين، وهذا يتبع سلطانا يعصي في طاعته نصوص الدين، وقد أفضى الخلاف إلى غاية هي شر الغايات، وخاتمة هي سوأى الخواتم؛ وهي السكوت لكل مبتدع على بدعته، والرضا من كل مقلد بجهالته، واتفاق سواد الشيع كلها على الإنكار والتشنيع على من يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم، بل إنك لتجد في حملة العمائم، وسكنة الأثواب العباعب من لا ينكر على التلميذ المبتدئ أن يقرأ الكتب والصحف التي تطعن كبد الدين، وتحاول هدم بنائه المتين، وينكر أشد الإنكار عليه قراءة كتاب أو صحيفة تدعوه إلى كتاب ربه وهدي نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم، ويعد هذا الإنكار غيرة على الدين وخدمة له! ! فأي بعد عنه أشد من هذا البعد، وأي أثر للتقليد شر من هذا الأثر؟

17. أما الاقتتال بين المسلمين بسبب الاختلاف: فأوله ما كان بين علي ومعاوية، وكانت فئة الثاني هي الباغية، والله يقول فيمن سبقهم: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 14]، ثم كان ما كان من حروب الخوارج ثم الشيعة، وآخرها الاقتتال بين المصريين والوهابيين والله عليم بالظالمين.

18. من أراد تمام العبرة في ذلك فليرجع إلى كتب التاريخ لا سيما تاريخ بغداد وحادثة خروج التتر التي كانت أول حادثة زلزلت سلطان المسلمين في الأرض، ودمرت بلادهم تدميرا، فقد كان الخلاف بين الشافعية والحنفية من أسبابها.. والفتن التي كانت بين أهل السنة والشيعة في الشرق والغرب كثيرة، ومن ذلك قتل الأولين للآخرين في جميع بلاد أفريقية أول سنة سبع وأربعمائة، حتى إنهم كانوا يحرقونهم بالنار وينهبون دورهم، وتاريخ بغداد مملوء بالفتن بين الشيعة وأهل السنة، وبين الشافعية والحنابلة وكان أشد الخلاف بين هؤلاء على الجهر بالبسملة في الصلاة يسفكون الدماء لذلك، ولا ينسين الراجع إلى التاريخ الفتنة بين الشافعية والحنفية، إذ تقلد ابن السمعاني مذهب الشافعي، فقد كان ذلك من أسباب خراب مرو عاصمة خراسان.

19. إن الوجود قد كان وما زال مصدقا لما جاء به الكتاب العزيز من إهلاك الاختلاف في الدين للأمم وإفساده للدين نفسه، ولم يذكر كتاب الله هذا المرض الاجتماعي إلا وقد بين علاجه للمسلمين، وهو تحكيم الله تعالى فيما اختلفوا فيه ورد ما كان من المصالح الدنيوية والأمور السياسية إلى أولي الأمر، كما قال في الأمور الحربية في سورة النساء: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83]، ولكن هذا العلاج يتعذر على المسلمين في هذا العصر؛ لأن الاستبداد ذهب بأولي الأمر منهم، فليس لأحد منهم مع الأمراء والسلاطين رأي ولا مشورة، بل زعم بعضهم أن أولي الأمر في هذه الآية وغيرها هم الأمراء والسلاطين، مع أنها نزلت في أولي الأمر الذين كانوا على عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم ولم يكن هناك أمير ولا سلطان، ما كان هناك إلا أهل الرأي من كبراء الصحابة الذين يعرفون وجوه المصلحة مع فهم القرآن.

20. وهكذا يجب أن يكون في الأمة رجال أهل بصيرة ورأي في سياستها ومصالحها الاجتماعية وقدرة على الاستنباط يرد إليهم أمر الأمن والخوف وسائر الأمور الاجتماعية والسياسية، وهؤلاء هم الذين يسمون في عرف الإسلام أهل الشورى، وأهل الحل والعقد، ومن أحكامهم أن بيعة الخلافة لا تكون صحيحة إلا إذا كانوا هم الذين يختارون الخليفة ويبايعونه برضاهم وهم الذين يسمون عند الأمم الأخرى بنواب الأمة، لو وجد هؤلاء في بلاد إسلامية لتيسر له إخراج المسلمين من ظلمة الخلاف وإنجائهم من شروره، أما في الأمور القضائية والإدارية والسياسية فبإقامتها على القواعد الشرعية في حفظ المصالح ودرء المفاسد بحسب حال الزمان والمكان، وأما في الأمور الاعتقادية والتعبدية فبإرجاعهم إلى ما كان عليه السلف الصالح بلا زيادة ولا نقص، واعتبار ما أجمع عليه المسلمون في العصر الأول هو الدين الذي يدعى إليه، ويحمل كل مسلم عليه، وما عداه من المسائل الاجتهادية مما يعمل فيه صاحب الدليل بما يظهر له أنه الحق من غير أن يعادي أو يماري فيه من لم يظهر له دليله من إخوانه المسلمين الموافقين له في مسائل الإجماع، وأما العامي الذي لا قدرة له على الاستدلال فلا يذكر له شيء من أمر الخلاف، فإن عرض له أمر استفتى فيه من يثق بورعه وعلمه من علماء عصره، وذلك العالم يبين له حكم الله فيه بأن يذكر له ما عنده فيه من آية كريمة أو سنة قويمة، ويبين له المعنى بالاختصار، هكذا كان علماء الصحابة والسلف وعامتهم، وأنى للمسلمين اليوم أن يستقيموا على طريقتهم وهم فاقدو أولي الأمر الذين تفوض الأمة إليهم أمورها العامة وتجعلهم مسيطرين على حكامها وأحكامها؟

21. اهتدى الإمام الغزالي في آخر عمره إلى مضار الاختلاف في المسلمين وإلى أنه لا نجاة لهم منه إلا بحكم الله ورسوله، والعمل بما أجمع عليه السلف على مقربة مما قلنا، فقد ذكر في كتابه القسطاس المستقيم مناظرة دارت بينه وبين أحد الباطنية القائلين بأنه لا بد في كل زمن من إمام معصوم يرجع إليه ويطاع طاعة عمياء، وإننا نورد بعض كلامه في ذلك(3).

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/3.

(2) الكلام هنا لمحمد عبده

(3) نقل نصا مطولا في هذا من كتاب القسطاس المستقيم

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان الكلام قبل هذا في بيان سنة الله في خلقه، أن الحق لا بد أن ينتصر على الباطل، وأنه لا بد أن يقيّض له أعوانا يدافعون عنه، ويكتب لهم الغلبة والفوز مهما كان للباطل من صولة، وقد ضرب لذلك مثل جالوت جبّار الفلسطينيين الذي استولى على ملك بنى إسرائيل واستحوذ على خيرات بلادهم، فقام أولو الرأي فيهم وطلبوا من نبيهم صموئيل أن يختار لهم ملكا يقوم بأمرهم، ويعدّ لهم جيشا يقاوم به‏ عدوهم فاختار لهم طالوت ملكا، فجيّش الجيوش وذهب بهم إلى ساحة القتال، وكتب لهم الظفر على العدوّ بإذن الله، وقتل داوود ـ وكان في عسكر طالوت ـ جالوت وانهزم العدو وولّى الأدبار، وكان الفوز للمؤمنين على الوثنيين الكافرين، وما تمّ هذا إلا بفضل داوود الذي آتاه الله الملك والنبوة، وعلّمه كل ما ينفع من عتاد الحرب كالدروع والآلات الأخرى.

2. ثم ذكر الله تعالى بعد هذا أنه لولا فضل الله ورحمته وسابق حكمته بأن يدفع أهل الخير والإصلاح في الأرض أهل الفساد والشرور والآثام فيها لا ختل نظام العالم وفسد أمره، وبعدئذ ذكر أن ذلك القصص الذي تلاه على رسوله قصص أمم قد خلت لم يكن له سابق علم بحالها من قبل، فمعرفته إياها لم تكن إلا بوحي من لدن حكيم خبير، وهذا دليل على أنه من المرسلين.

3. وهنا ذكر أن أولئك المرسلين قد ميز الله بعضهم على بعض، فآتى بعضا مزايا ومناقب ليست لغيره كما فصل ذلك في الآية الكريمة، وقد خص بالذكر من بقي لهم أتباع، وذكر ما كان من أمر أتباعهم من بعدهم في الاختلاف والاقتتال.

4. ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ أي هؤلاء الرسل المشار إليهم بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ فضلنا بعضهم على بعض في مراتب الكمال، فخصصناه بمآثر جليلة خلا عنها غيره، مع استوائهم جميعا في اختياره تعالى لهم للتبليغ عنه وهداية خلقه إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، وخلاصة هذا: إنهم كلهم رسل الله، فهم جديرون أن يقتدى بهم ويهتدى بهديهم، وإن امتاز بعضهم عن بعض بخصائص في أنفسهم وفي شرائعهم وأممهم.

5. ثم بين هذا التفضيل في بعض المفضلين فقال: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ أي منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام، كما قال تعالى في سورة النساء ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ وفي سورة الأعراف‏ ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ وفي الآية بعدها ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾

6. ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ [البقرة: 253] أي ومنهم من رفعه الله على غيره من الرسل بمراتب متباعدة في الكمال والشرف، والمراد به محمد صلّى الله عليه وآله وسلم كما رواه ابن جرير عن مجاهد، ويؤيده السياق أيضا، فإن الكلام في بيان العبرة للأمم التي تتبع الرسل، والتشنيع عليهم في اختلافهم واقتتالهم، مع أن دينهم واحد في جوهره، والموجود من هذه الأمم اليهود والنصارى والمسلمون، فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر وقد ذكر موسى أولا وعيسى آخرا ومحمدا في الوسط، إشعارا بأن شريعته وأمته وسط:

أ. ومن هذه الدرجات ما هو خصوصية في أخلاقه الشريفة كما يرشد إلى ذلك قوله في سورة القلم‏ ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾

ب. ومنها ما هو في كتابه وشريعته كما يدل على ذلك قوله في فضل القرآن‏: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾

ج. ومنها ما هو في أمته الذين اتبعوه وعضوا على دينه بالنواجذ كما قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾

7. ولو لم يؤت من المعجزات إلا القرآن وحده لكفى به فضلا على سائر ما أوتى الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات، وقد روى البخاري أنه صلّى الله عليه وآله وسلم قال (ما من نبيّ من الأنبياء إلا وقد أعطى من الآيات ما آمن‏ على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلىّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة)، وروى عنه أنّه قال (فضّلت على الأنبياء بست: أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون)

8. ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ البينات هي ما يتبين به الحق من الآيات والدلائل كما قال: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ وأيدناه: أي قوّيناه، وروح القدس هو روح الوحى الذي يؤيد الله به رسله كما قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم:‏ ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾، وخصّ عيسى بإيتاء البينات تقبيحا لإفراط اليهود في تحقيره، إذ أنكروا نبوّته مع ما ظهر على يديه من البينات القاطعة الدالة على صدقه، ولإفراط النصارى في تعظيمه حيث أخرجوه من مرتبة الرسالة وزعموا أنه إله لا رسول مؤيد بآيات الله.

9. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾ قوله: ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [الحشر: 10] أي من بعد الرسل من الأمم المختلفة، أي ولو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على اتباع الرسل الذين جاؤوا بالحق من ربهم، وقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [النساء: 153]: أي من بعد ما جاءهم الرسل بالمعجزات الواضحة والآيات الظاهرة الدالة على الحق الموجبة لاتباعهم، والزاجرة عن الإعراض عن سننهم، وقوله: ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا﴾ [البقرة: 253]: أي إنه لم يشأ عدم اقتتالهم، لأنهم اختلفوا اختلافا كبيرا، فمنهم من آمن بما جاء به الرسل، ومنهم من كفر بذلك كفرانا لا أمل معه في هداية.

10. إيضاح هذا أن الله جعل للإنسان عقلا يتصرف به في أنواع شعوره، وفكرا يجول به في طرق معيشته ومعرفة ما يصلح له في شئونه النفسية والبدنية، وجعل ارتقاءه‏ في إدراكه وأفكاره كسبيا، فهو ينشأ ضعيف الإدراك ثم يقوى بالتربية والتعليم وتجارب السنين، كما جعل هداية الدين له أمرا اختياريا يأخذ منها بقدر استعداده وفكره كما هو شأنه في الاستفادة من منافع الكون، وهذا هو منشأ الاختلاف، ولو شاء الله أن يجعل الدين من إلهاماته العامة، وشعوره الفطري كشعور الحيوان وإلهامه لكان الناس في هدايته سواء يسعدون به أجمعين، فتمنعهم بيناته أن يختلفوا فيقتتلوا، لكنه خلق الإنسان على غير ما عليه الحيوان، وكان هذا سبب اختلاف أهل الأديان، فمنهم من آمن إيمانا صحيحا فأخذ الدين على وجهه وفهمه حق فهمه، ومنهم من حكّم هواه في تأويله فكان كافرا به في الحقيقة، وهذا هو منشأ التخاصم، وسبب التنازع والقتال، وقد اختلف اليهود في دينهم فاقتتلوا، والنصارى كانوا أشد منهم في ذلك، فتفرقوا طرائق قددا، وكان أهل المذهب الواحد يتشعبون شعبا يقاتل بعضها بعضا.

11. نهى الله المسلمين عن مثل هذا الخلاف، وأمرهم بالاتحاد والوئام، فامتثلوا أمره في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وزمنا قليلا بعده فكانوا خير أمة أخرجت للناس، ثم تفرّقوا في الدين مذاهب واقتتلوا فيه، وما زالت الحال تتفاقم حتى صاروا أبعد الأمم عن الاتفاق والائتلاف، وقد جرت سنة الله بأن أهل الدين الواحد يقاتل بعضهم بعضا باسم الدين، ولحماية الدين من طغيان الملحدين، ولله في خلقه شئون.

12. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ أي ولو شاء الله أن يعذر بعض المختلفين بعضا، ويقتصر كل فريق على الانتصار لرأيه بالحجة ـ لما اقتتلوا على ما يختلفون فيه، لكنه أودع في غرائزهم النضال عن مصلحتهم بكل ما قدروا عليه من قول أو فعل، فمنهم من يقارع الحجة بالحجة، ومنهم القوىّ الذي يقاوم بالسيف، فكان الاختلاف في الرأي والمصالح مع عدم العذر مؤديا إلى الاقتتال لا محالة، ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ أي إن اختصاص الناس بهذه المزايا أثر من آثار إرادته تعالى فلا مرد له، فإن أراد الله التوفيق لبعض عباده آمن به وأطاعه، وإن أراد الخذلان لبعض آخر كفر به وعصاه.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/4.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه البقية الباقية من سورة البقرة هي استطراد في موضوعها الرئيسي الذي شرحناه في مطلع الجزء الأول، والذي ظللنا نطالعه في سياق السورة حتى نهاية الجزء الثاني، وهو إعداد الجماعة المسلمة في المدينة لتنهض بتكاليف الأمة المسلمة.. تنهض بها وقد تهيأت لهذه الأمانة الضخمة بالتصور الإيماني الصحيح؛ وزودت بتجارب الأمة المؤمنة على مدار الرسالات السابقة؛ وعرفت زاد الطريق كما عرفت مزالق الطريق؛ وحذرت كيد أعدائها.. أعداء الله وأعداء الحق وأعداء الإيمان.. لتكون منهم على بينة في كل مراحل الطريق.

2. هذا الإعداد بكل وسائله، وبكل زاده وتجاربه، وبكل أهدافه وغاياته.. هو هو الذي يعالج به القرآن الكريم أجيال الجماعة المسلمة على مدار الزمان بعد الجيل الأول، فهو المنهج الثابت الواضح المستقر لإنشاء الجماعة المسلمة، ولقيادة الحركة الإسلامية في كل جيل، والقرآن من ثم أداة حية متحركة فاعلة، ودستور شامل عامل في كل وقت؛ بل هو قيادة راشدة لمن يطلب عندها الرشد والهدى والنصيحة في كل موقف وفي كل خطوة وفي كل جيل.

3. هذه البقية تأتي بعد قول الله لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلم في نهاية الجزء الثاني من السورة ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾.. وذلك تعقيبا على قصة الملإ ﴿مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.. والتي جاء في نهايتها ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾.. فنهاية الجزء الثاني كانت حديثا عن قوم موسى، وكانت حديثا عن داوود ـ عليهما السلام ـ وكانت كذلك إشارة إلى رسالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وإلى تزويده بتجارب‏ ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾

4. من ثم يبدأ الجزء الثالث بعد هذا حديثا ملتحما بما قبله عن الرسل، وتفضيل الله بعضهم على بعض، وخصائص بعضهم، ورفع بعضهم درجات.. وحديثا عن اختلاف من جاء بعدهم من أتباعهم، وقتال بعضهم لبعض: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾

5. ومناسبة هذا الاستطراد واضحة في الحديث عن الرسل بين أواخر الجزء الثاني وأوائل هذا الجزء الثالث.. والمناسبة كذلك واضحة في سياق السورة كله، فمعظم الجدل في السياق كان بين الجماعة المسلمة الناشئة في المدينة وبين بني إسرائيل ـ كما هو واضح من خلال الجزءين الأولين ـ ومن ثم يجيء الحديث هنا عن اختلاف أتباع الرسل من بعدهم واقتتالهم ـ بعد ما كفر منهم من كفر وآمن منهم من آمن ـ يجيء الحديث عن هذا الاختلاف والاقتتال في موضعه المناسب، لتمضي الأمة المسلمة في طريقها، تواجه بني إسرائيل وغيرهم وفق ما يقتضيه الموقف الواقعي بين أتباع الرسل: المستقيمين على الهدى والمنحرفين عن الطريق، ولتنهض هذه الأمة بتبعاتها، فهي الجماعة المهتدية التي ينبغي أن تكافح المنحرفين.

6. ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾.. لم يقل: هؤلاء الرسل، إنما استهل الحديث عنهم بهذا التعبير الخاص، الذي يشتمل على إيحاء قوي واضح، يحسن أن نقول عنه كلمة قبل المضي في مواجهة نصوص الدرس كله، ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾.. إنهم جماعة خاصة، ذات طبيعة خاصة، وإن كانوا بشرا من البشر.. فمن هم؟ ما الرسالة؟ ما طبيعتها؟ كيف تتم؟ لماذا كان هؤلاء وحدهم رسلا؟ وبما ذا؟ أسئلة طالما أشفقت أن أبحث لها عن جواب! إن حسي ليفعم بمشاعر ومعان لا أجد لها كفاء من العبارات! ولكن لا بد من تقريب المشاعر والمعاني بالعبارات! إن لهذا الوجود الذي نعيش فيه، والذي نحن قطعة منه؛ سننا أصيلة يقوم عليها، هذه السنن هي القوانين الكونية التي أودعها الله هذا الكون ليسير على وفقها، ويتحرك بموجبها، ويعمل بمقتضاها، والإنسان يكشف عن أطراف من هذه القوانين كلما ارتقى في سلم المعرفة، يكشف عنها ـ أو يكشف له عنها ـ بمقدار يناسب إدراكه المحدود، المعطى له بالقدر الذي يلزم لنهوضه بمهمة الخلافة في الأرض، في أمد محدود، ويعتمد الإنسان في معرفة هذه الأطراف من القوانين الكونية على وسيلتين أساسيتين ـ بالقياس إليه ـ هما الملاحظة والتجربة، وهما وسيلتان جزئيتان في طبيعتهما، وغير نهائيتين ولا مطلقتين في نتائجهما، ولكنهما تقودان أحيانا إلى أطراف من القوانين الكلية في آماد متطاولة من الزمان.. ثم يظل هذا الكشف جزئيا غير نهائي ولا مطلق؛ لأن سر التناسق بين تلك القوانين كلها، سر الناموس الذي ينسق بين القوانين جميعها، هذا السر يظل خافيا، لا تهتدي إليه الملاحظة الجزئية النسبية، مهما طالت الآماد.. إن الزمن ليس هو العنصر النهائي في هذا المجال، إنما هو الحد المقدور للإنسان ذاته، بحكم تكوينه، وبحكم دوره في الوجود، وهو دور جزئي ونسبي، ثم تجيء كذلك نسبية الزمن الممنوح للجنس البشري كله على وجه الأرض وهو بدوره جزئي ومحدود.. ومن ثم تبقى جميع وسائل المعرفة، وجميع النتائج التي يصل إليها البشر عن طريق هذه الوسائل، محصورة في تلك الدائرة الجزئية النسبية، هنا يجيء دور الرسالة، دور الطبيعة الخاصة التي آتاها الله الاستعداد اللدني لتتجاوب في أعماقها ـ بطريقة ما نزال نجهل طبيعتها وإن كنا ندرك آثارها ـ مع ذلك الناموس الكلي، الذي يقوم عليه الوجود.

7. هذه الطبيعة الخاصة هي التي تتلقى الوحي؛ فتطيق تلقيه، لأنها مهيأة لاستقباله.. إنها تتلقى الإشارة الإلهية التي يتلقاها هذا الوجود؛ لأنها متصلة اتصالا مباشرا بالناموس الكوني الذي يصرّف هذا الوجود.. كيف تتلقى هذه الإشارة؟ وبأي جهاز تستقبلها؟ نحن في حاجة ـ لكي نجيب ـ أن تكون لنا نحن هذه الطبيعة التي يهبها الله للمختارين من عباده! و﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾.. وهي أمر عظيم أعظم من كل ما يخطر على البال من عظائم الأسرار في هذا الوجود.

8. كل الرسل قد أدركوا حقيقة (التوحيد) وكلهم بعثوا بها، ذلك أن إيقاع الناموس الواحد في كيانهم كله، هداهم إلى مصدره الواحد الذي لا يتعدد ـ لا يتعدد وإلا لتعددت النواميس وتعدد إيقاعها الذي يتلقونه ـ وكان هذا الإدراك في فجر البشرية، قبل أن تنمو المعرفة الخارجية، المبنية على الملاحظة والتجربة، وقبل أن تتكشف بعض القوانين الكونية، التي تشير إلى تلك الوحدة.

9. وكلهم دعا إلى عبادة الله الواحد.. دعا إلى هذه الحقيقة التي تلقاها وأمر أن يبلغها.. وكان إدراكهم لها هو المنطق الفطري الناشئ من إيقاع الناموس الواحد في الفطرة الواصلة، كما كان نهوضهم لتبليغها هو النتيجة الطبيعية لإيمانهم المطلق بكونها الحقيقة؛ وبكونها صادرة إليهم من الله الواحد، الذي لا يمكن ـ وفق الإيقاع القوي الصادق الملزم الذي تلقته فطرتهم ـ أن يتعدد! وهذا الإلزام الملح الذي تستشعره فطرة الرسل يبدو أحيانا في كلمات الرسل التي يحكيها عنهم هذا القرآن، أو التي يصفهم بها في بعض الأحيان:

أ. نجده مثلا في حكاية قول نوح عليه السلام لقومه: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾

ب. ونجده في حكاية قول صالح عليه السلام: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾

ج. ونجده في سيرة ابراهيم عليه السلام: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾

د. ونجده في قصة شعيب عليه السلام: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾

هـ. ونجدها في قول يعقوب عليه السلام لبنيه: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾

10. وهكذا نجد في أقوال الرسل وأوصافهم أثر ذلك الإيقاع العميق الملح على فطرتهم، والذي تشي‏ كلماتهم بما يجدونه منه في أعماق الضمير! ويوما بعد يوم تكشفت للمعرفة الإنسانية الخارجية ظواهر تشير من بعيد إلى قانون الوحدة في هذا الوجود.

11. اطلع العلماء من البشر على ظاهرة وحدة التكوين ووحدة الحركة في هذا الكون العريض، وتكشف ـ في حدود ما يملك الإنسان أن يعلم ـ أن الذرة هي أساس البناء الكوني كله، وأن الذرة طاقة.. فالتقت المادة بالقوة في هذا الكون ممثلة في الذرة، وانتفت الثنائية التي تراءت طويلا، وإذا المادة ـ وهي مجموعة من الذرات ـ هي طاقة حين تتحطم هذه الذرات، فتتحول إلى طاقة من الطاقات!.. وتكشف كذلك ـ في حدود ما يملك الإنسان أن يعلم ـ أن الذرة في حركة مستمرة من داخلها، وأنها مؤلفة من إلكترونات ـ أو كهارب ـ تدور في فلك حول النواة أو النويات وهي قلب الذرة، وأن هذه الحركة مستمرة ومطردة في كل ذرة، وأن كل ذرة ـ كما قال فريد الدين العطار ـ شمس تدور حولها كواكب كشمسنا هذه وكواكبها التي ما تني تدور حولها باستمرار! وحدة التكوين ووحدة الحركة في هذا الكون هما الظاهرتان اللتان اهتدى إليهما الإنسان.. وهما إشارتان من بعيد إلى قانون الوحدة الشامل الكبير، وقد بلغت إليهما المعرفة البشرية بمقدار ما تطيق الملاحظة والتجربة البشرية أن تبلغ.. أما الطبائع الخاصة الموهوبة، فقد أدركت القانون الشامل الكبير كله في لمحة؛ لأنها تتلقى إيقاعه المباشر، وتطيق وحدها تلقيه.

12. إنهم لم يجمعوا الشواهد والظواهر على تلك الوحدة عن طريق التجارب العلمية، ولكن لأنهم وهبوا جهاز استقبال كاملا مباشرا، استقبلوا إيقاع الناموس الواحد استقبالا داخليا مباشرا؛ فأدركوا إدراكا مباشرا أن الإيقاع الواحد لا بد منبعث عن ناموس واحد، صادر من مصدر واحد، وكان هذا الجهاز اللدني في تلك الطبائع الخاصة الموهوبة أدق وأشمل وأكمل، لأنه أدرك في لمسة واحدة ما وراء وحدة الإيقاع من وحدة المصدر، ووحدة الإرادة والفاعلية في هذا الوجود، فقرر ـ في إيمان ـ وحدة الذات الإلهية المصرفة لهذا الوجود.

13. وما أسوق هذا الكلام لأن العلم الحديث يرى أنه قد أدرك ظاهرة أو ظاهرتين من ظواهر الوحدة الكونية، فالعلم يثبت أو ينفي في ميدانه، وكل ما يصل إليه من (الحقائق) نسبي جزئي مقيد؛ فهو لا يملك أن يصل أبدا إلى حقيقة واحدة نهائية مطلقة، فضلا على أن نظريات العلم قلّب، يكذب بعضها بعضا، ويعدّل بعضها بعضا، وما ذكرت شيئا عن وحدة التكوين ووحدة الحركة لأقرن إليهما صدق الاستقبال لوحدة الناموس في حس الرسل.. كلا.. إنما قصدت إلى أمر آخر، قصدت إلى تحديد مصدر التلقي المعتمد لتكوين التصور الصادق الكامل الشامل لحقيقة الوجود.

14. إن الكشف العلمي ربما يكون قد اهتدى إلى بعض الظواهر الكونية المتعلقة بحقيقة الوحدة الكبرى.. هذه الوحدة التي لمست حس الرسل من قبل في محيطها الواسع الشامل المباشر، والتي أدركتها الفطرة اللدنية إدراكا كاملا شاملا مباشرا، وهذه الفطرة صادقة بذاتها ـ سواء اهتدت نظريات العلم الحديث إلى بعض الظواهر أو لم تهتد ـ فنظريات العلم موضع بحث ومراجعة من العلم ذاته، وهي ليست ثابتة أولا، ثم إنها ليست نهائية ولا مطلقة أخيرا، فلا تصلح إذن أن تقاس بها صحة الرسالة، فالمقياس لا بد أن يكون ثابتا وأن يكون مطلقا، ومن هنا تكون الرسالة هي المقياس الثابت المطلق الوحيد، وينشأ عن هذه الحقيقة حقيقة أخرى ذات أهمية قصوى.

15. إن هذه الطبائع الخاصة الموصولة بناموس الوجود صلة مباشرة، هي التي تملك أن ترسم للبشرية اتجاهها الشامل، اتجاهها الذي يتسق مع فطرة الكون وقوانينه الثابتة وناموسه المطرد، هي التي تتلقى مباشرة وحي الله، فلا تخطئ ولا تضل، ولا تكذب ولا تكتم، ولا تحجبها عوامل الزمان والمكان عن الحقيقة؛ لأنها تتلقى هذه الحقيقة عن الله، الذي لا زمان عنده ولا مكان.

16. لقد شاءت الإرادة العليا أن تبعث بالرسل بين الحين والحين، لتصل البشرية بالحقيقة المطلقة، التي ما كانت ملاحظتهم وتجربتهم لتبلغ إلى طرف منها إلا بعد مئات القرون، وما كانت لتبلغ إليها كلها أبدا على مدار القرون، وقيمة هذا الاتصال هي استقامة خطاهم مع خطى الكون؛ واستقامة حركاتهم مع حركة الكون؛ واستقامة فطرتهم مع فطرة الكون.

17. ومن ثم كان هنالك مصدر واحد يتلقى منه البشر التصور الصادق الكامل الشامل لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني، ولغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني، ومن هذا التصور يمكن أن ينبثق المنهج الوحيد الصحيح القويم، الذي يتطابق مع حقيقة تصميم الكون وحقيقة حركته، وحقيقة اتجاهه، ويدخل به الناس في السلم كافة، السلم مع هذا الكون، والسلم مع فطرتهم وهي من فطرة هذا الكون، والسلم مع بعضهم البعض في سعيهم ونشاطهم ونموهم ورقيهم المهيأ لهم في هذه الحياة الدنيا، مصدر واحد هو مصدر الرسالات، وما عداه ضلال وباطل، لأنه لا يتلقى عن ذلك المصدر الوحيد الواصل الموصول.

18. إن وسائل المعرفة الأخرى المتاحة للإنسان، معطاة له بقدر، ليكشف بها بعض ظواهر الكون وبعض قوانينه وبعض طاقاته، بالقدر اللازم له في النهوض بعبء الخلافة في الأرض، وتنمية الحياة وتطويرها، وقد يصل في هذا المجال إلى آماد بعيدة جدا، ولكن هذه الآماد لا تبلغ به أبدا إلى محيط الحقيقة المطلقة التي هو في حاجة إليها ليكيف حياته ـ لا وفق الأحوال والظروف الطارئة المتجددة فحسب، ولكن وفق القوانين الكونية الثابتة المطردة التي قام عليها الوجود، ووفق الغاية الكبرى للوجود الإنساني كله، هذه الغاية التي يراها خالق الإنسان المتعالي عن ملابسات الزمان والمكان، ولا يراها الإنسان المحدود المتأثر بملابسات الزمان والمكان.

19. إن الذي يضع خطة الرحلة للطريق كله، هو الذي يدرك الطريق كله، والإنسان محجوب عن رؤية هذا الطريق، بل هو محجوب عن اللحظة التالية، ودونه ودونها ستر مسبل لا يباح لبشر أن يطلع وراءه! فأنى للإنسان أن يضع الخطة لقطع الطريق المجهول!؟ إنه إما الخبط والضلال والشرود، وإما العودة إلى المنهج المستمد من خالق الوجود، منهج الرسالات، ومنهج الرسل، ومنهج الفطر الموصولة بالوجود وخالق الوجود.

20. لقد مضت الرسالات واحدة إثر واحدة، تأخذ بيد البشرية وتمضي بها صعدا في الطريق على هدى وعلى نور، والبشرية تشرد من هنا وتشرد من هناك؛ وتحيد عن النهج، وتغفل حداء الرائد؛ وتنحرف فترة ريثما يبعث إليها رائد جديد، وفي كل مرة تتكشف لها الحقيقة الواحدة في صور مترقية؛ تناسب تجاربها المتجددة حتى إذا كانت الرسالة الأخيرة كان عهد الرشد العقلي قد أشرق، فجاءت الرسالة الأخيرة تخاطب العقل البشري بكليات الحقيقة كلها؛ لتتابع البشرية خطواتها في ظل تلك الخطوط النهائية العريضة، وكانت خطوط الحقيقة الكبرى من الوضوح بحيث لا تحتاج بعد إلى رسالة جديدة، ويحسبها المفسرون المجددون على مدار القرون.

21. وبعد فإما أن تسير البشرية داخل هذا النطاق الشامل الذي يسعها دائما، ويسع نشاطها المتجدد المترقي، ويصلها بالحقيقة المطلقة التي لا تصل إليها عن أي طريق آخر، وإما أن تشرد وتضل وتذهب بددا في التيه! بعيدا عن معالم الطريق!

22. ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾.. هذه الآية تلخص قصة الرسل والرسالات ـ كما أنها أفردت جماعة الرسل وميزتها من بين الناس ـ فهي تقرر أن الله فضل بعض الرسل على بعض؛ وتذكر بعض أمارات التفضيل ومظاهره، ثم تشير إلى اختلاف الذين جاؤوا من بعدهم من الأجيال المتعاقبة ـ من بعد ما جاءتهم البينات ـ وإلى اقتتالهم بسبب هذا الاختلاف، كما تقرر أن بعضهم آمن وبعضهم كفر، وأن الله قد قدر أن يقع بينهم القتال لدفع الكفر بالإيمان، ودفع الشر بالخير.. وهذه الحقائق الكثيرة التي تشير إليها هذه الآية تمثل قصة الرسالة وتاريخها الطويل.

23. ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾.. والتفضيل هنا قد يتعلق بالمحيط المقدر للرسول، والذي تشمله دعوته ونشاطه، كأن يكون رسول قبيلة، أو رسول أمة، أو رسول جيل، أو رسول الأمم كافة في جميع الأجيال.. كذلك يتعلق بالمزايا التي يوهبها لشخصه أو لأمته، كما يتعلق بطبيعة الرسالة ذاتها ومدى شمولها لجوانب الحياة الإنسانية والكونية.

24. ذكر النص هنا مثالين في موسى وعيسى ـ عليهما السلام ـ وأشار إشارة عامة إلى من سواهما: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾.. وحين يذكر تكليم الله لأحد من الرسل ينصرف الذهن إلى موسى عليه السلام ومن ثم لم يذكره باسمه، وذكر عيسى بن مريم عليه السلام وهكذا يرد اسمه منسوبا إلى أمه في أغلب المواضع القرآنية، والحكمة في هذا واضحة، فقد نزل القرآن وهناك حشد من الأساطير الشائعة حول عيسى عليه السلام وبنوته لله ـ سبحانه وتعالى ـ أو عن ازدواج طبيعته من اللاهوت والناسوت، أو عن تفرده بطبيعة إلهية ذابت فيها الطبيعة الناسوتية كالقطرة في الكأس! إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي غرقت الكنائس والمجامع في الجدل حولها؛ وجرت حولها الدماء أنهارا في الدولة الرومانية! ومن ثم كان هذا التوكيد الدائم على بشرية عيسى عليه السلام وذكره في معظم المواضع منسوبا إلى أمه مريم.

25. أما روح القدس فالقرآن يعني به جبريل عليه السلام فهو حامل الوحي إلى الرسل، وهذا أعظم تأييد وأكبره، وهو الذي ينقل الإشارة الإلهية إلى الرسل بانتدابهم لهذا الدور الفذ العظيم، وهو الذي يثبتهم على المضي في الطريق الشاق الطويل؛ وهو الذي يتنزل عليهم بالسكينة والتثبيت والنصر في مواقع الهول والشدة في ثنايا الطريق.. وهذا كله التأييد أما البينات التي آتاها الله عيسى عليه السلام فتشمل الإنجيل الذي نزله عليه، كما تشمل الخوارق التي أجراها على يديه، والتي ورد ذكرها مفصلة في مواضعها المناسبة من القرآن، تصديقا لرسالته في مواجهة بني إسرائيل المعاندين!

26. لم يذكر النص هنا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم لأن الخطاب موجه إليه، كما جاء في الآية السابقة في السياق ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ تِلْكَ الرُّسُلُ﴾.. إلخ، فالسياق سياق إخبار له عن غيره من الرسل، وحين ننظر إلى مقامات الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ من أية ناحية نجد محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم في القمة العليا، وسواء نظرنا إلى الأمر من ناحية شمول الرسالة وكليتها، أو من ناحية محيطها وامتدادها، فإن النتيجة لا تتغير.

27. إن الإسلام هو أكمل تصور لحقيقة الوحدة ـ وهي أضخم الحقائق على الإطلاق ـ وحدة الخالق الذي ليس كمثله شيء، ووحدة الإرادة التي يصدر عنها الوجود كله بكلمة: (كن)، ووحدة الوجود الصادر عن تلك الإرادة، ووحدة الناموس الذي يحكم هذا الوجود، ووحدة الحياة من الخلية الساذجة إلى الإنسان الناطق، ووحدة البشرية من آدم عليه السلام إلى آخر أبنائه في الأرض، ووحدة الدين الصادر من الله الواحد إلى البشرية الواحدة، ووحدة جماعة الرسل المبلغة لهذه الدعوة، ووحدة الأمة المؤمنة التي لبت هذه الدعوة، ووحدة النشاط البشري المتجه إلى الله وإعطائه كله اسم (العبادة)، ووحدة الدنيا والآخرة داري العمل والجزاء، ووحدة المنهج الذي شرعه الله للناس فلا يقبل منهم سواه، ووحدة المصدر الذي يتلقون عنه تصوراتهم كلها ومنهجهم في الحياة.، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلم هو الذي أطاقت روحه التجاوب المطلق مع حقيقة الوحدة الكبرى؛ كما أطاق عقله تصور هذه الوحدة وتمثلها؛ كما أطاق كيانه تمثيل هذه الوحدة في حياته الواقعة المعروضة للناس، كذلك هو الرسول الذي أرسل إلى البشر كافة، من يوم مبعثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ والذي اعتمدت رسالته على الإدراك الإنساني الواعي دون ضغط حتى من معجزة مادية قاهرة، ليعلن بذلك عهد الرشد الإنساني، ومن ثم كان هو خاتم الرسل، وكانت رسالته خاتمة الرسالات، ومن ثم انقطع الوحي بعده؛ وارتسمت للبشرية في رسالته تلك الوحدة الكبرى؛ وأعلن المنهج الواسع الشامل الذي يسع نشاط البشرية المقبل في إطاره؛ ولم تعد إلا التفصيلات والتفسيرات التي يستقل بها العقل البشري ـ في حدود المنهج الرباني ـ ولا تستدعي رسالة إلهية جديدة.

28. علم الله ـ سبحانه ـ وهو الذي خلق البشر؛ وهو الذي يعلم ما هم ومن هم؛ ويعلم ما كان من أمرهم وما هو كائن.. قد علم الله ـ سبحانه ـ أن هذه الرسالة الأخيرة، وما ينبثق عنها من منهج للحياة شامل، هي خير ما يكفل للحياة النمو والتجدد والانطلاق، فأيما إنسان زعم لنفسه أنه أعلم من الله بمصلحة عباده؛ أو زعم أن هذا المنهج الرباني لم يعد يصلح للحياة المتجددة النامية في الأرض؛ أو زعم أنه يملك ابتداع منهج أمثل من المنهج الذي أراده الله.. أيما إنسان زعم واحدة من هذه الدعاوى أو زعمها جميعا فقد كفر كفرا صراحا لا مراء فيه؛ وأراد لنفسه وللبشرية شر ما يريده إنسان بنفسه وبالبشرية؛ واختار لنفسه موقف العداء الصريح لله، والعداء الصريح للبشرية التي رحمها الله بهذه الرسالة، وأراد لها الخير بالمنهج الرباني المنبثق منها ليحكم الحياة البشرية إلى آخر الزمان.

29. وبعد فقد اقتتل أتباع‏ ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾، ولم تغن وحدة جماعة الرسل في طبيعتهم، ووحدة الرسالة التي جاؤوا بها كلهم.. لم تغن هذه الوحدة عن اختلاف أتباع الرسل حتى ليقتتلون من خلاف: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾

30. إن هذا الاقتتال لم يقع مخالفا لمشيئة الله، فما يمكن أن يقع في هذا الكون ما يخالف مشيئته ـ سبحانه ـ فمن مشيئته أن يكون هذا الكائن البشري كما هو، بتكوينه هذا واستعداداته للهدى وللضلال، وأن يكون موكولا إلى نفسه في اختيار طريقه إلى الهدى أو إلى الضلال، ومن ثم فكل ما ينشأ عن هذا التكوين وإفرازاته واتجاهاته داخل في اطار المشيئة؛ وواقع وفق هذه المشيئة.

31. كذلك فإن اختلاف الاستعدادات بين فرد وفرد من هذا الجنس سنة من سنن الخالق، لتنويع الخلق ـ مع وحدة الأصل والنشأة ـ لتقابل هذه الاستعدادات المختلفة وظائف الخلافة المختلفة المتعددة المتنوعة، وما كان الله ليجعل الناس جميعا نسخا مكررة كأنما طبعت على ورق (الكربون).. على حين أن الوظائف اللازمة للخلافة في الأرض وتنمية الحياة وتطويرها منوعة متباينة متعددة.. أما وقد مضت مشيئة الله بتنويع الوظائف فقد مضت كذلك بتنويع الاستعدادات، ليكون الاختلاف فيها وسيلة للتكامل، وكلف كل إنسان أن يتحرى لنفسه الهدى والرشاد والإيمان، وفيه الاستعداد الكامن لهذا، وأمامه دلائل الهدى في الكون، وعنده هدى الرسالات والرسل على مدار الزمان، وفي نطاق الهدى والإيمان يمكن أن يظل التنوع الخير الذي لا يحشر نماذج الناس كلهم في قالب جامد!

32. ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾.. وحين يصل الاختلاف إلى هذا المدى، فيكون اختلاف كفر وإيمان، يتعين القتال، يتعين لدفع الناس بعضهم ببعض، دفع الكفر بالإيمان، والضلال بالهدى، والشر بالخير، فالأرض لا تصلح بالكفر والضلال والشر.

33. لا يكفي أن يقول قوم: إنهم أتباع أنبياء إذا وصل الاختلاف بينهم إلى حد الكفر والإيمان، وهذه هي الحالة التي كانت تواجهها الجماعة المسلمة في المدينة يوم نزل هذا النص.. كان المشركون في مكة يزعمون أنهم على ملة إبراهيم! وكان اليهود في المدينة يزعمون أنهم على دين موسى، كما كان النصارى يزعمون أنهم على دين عيسى.. ولكن كل فرقة من هؤلاء كانت قد بعدت بعدا كبيرا عن أصل دينها، وعن رسالة نبيها، وانحرفت إلى المدى الذي ينطبق عليه وصف الكفر، وكان المسلمون عند نزول هذا النص يقاتلون المشركين من العرب، كما كانوا على وشك أن يوجهوا إلى قتال الكفار من أهل الكتاب، ومن ثم جاء هذا النص يقرر أن الاقتتال بين المختلفين على العقيدة إلى هذا الحد، هو من مشيئة الله وبإذنه: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾.. لكنه شاء، شاء ليدفع الكفر بالإيمان؛ وليقر في الأرض حقيقة العقيدة الصحيحة الواحدة التي جاء بها الرسل جميعا، فانحرف عنها المنحرفون، وقد علم الله أن الضلال لا يقف سلبيا جامدا، إنما هو ذو طبيعة شريرة، فلا بد أن يعتدي، ولا بد أن يحاول إضلال المهتدين، ولا بد أن يريد العوج ويحارب الاستقامة، فلا بد من قتاله لتستقيم الأمور.

34. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾، مشيئة مطلقة، ومعها القدرة الفاعلة، وقد قدر أن يكون الناس مختلفين في تكوينهم، وقدر أن يكونوا موكولين إلى أنفسهم في اختيار طريقهم، وقدر أن من لا يهتدي منهم يضل، وقدر أن الشر لا بد أن يعتدي ويريد العوج، وقدر أن يقع القتال بين الهدى والضلال، وقدر أن يجاهد أصحاب الإيمان لإقرار حقيقته الواحدة الواضحة المستقيمة؛ وأنه لا عبرة بالانتساب إلى الرسل من أتباعهم، إنما العبرة بحقيقة ما يعتقدون وحقيقة ما يعملون، وأنه لا يعصمهم من مجاهدة المؤمنين لهم أن يكونوا ورثة عقيدة وهم عنها منحرفون.. وهذه الحقيقة التي قررها الله للجماعة المسلمة في المدينة حقيقة مطلقة لا تتقيد بزمان، إنما هي طريقة القرآن في اتخاذ الحادثة المفردة المقيدة مناسبة لتقرير الحقيقة المطردة المطلقة.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/276.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لله سبحانه وتعالى أن يصطفى من يشاء من عباده.. والرسل عليهم الصلاة والسلام هم ممن اصطفاهم الله، لحمل رسالته إلى عباده، فجعلهم سفراءه إلى الناس بالرحمة والهدى.. وهؤلاء الرسل ـ على علوّ مقامهم وشرف منزلتهم ـ هم درجات عند الله في الفضل.. بعضهم أفضل من بعض، فكما اصطفى سبحانه وتعالى هؤلاء الرسل من بين خلقه، اصطفى منهم صفوة جعلها في الدرجة العليا من هؤلاء المصطفين الأخيار.. والإشارة إلى الرسل بالمؤنث، إنما هي إشارة إلى جملتهم، أو جماعتهم، باعتبارهم كيانا واحدا، يحملون شعلة الهدى، ويتجهون بها إلى غاية واحدة، هي هداية الناس واستنقاذهم من الضلال.

2. نوّه سبحانه بالنبيين الكريمين: موسى، وعيسى، بهذا الفضل الذي فضل به عليهما، إذ شرّف الله موسى بأن أسمعه كلامه سبحانه، من غير واسطة، وأكرم عيسى بأن جعل على لسانه الحكمة، وفى قلبه روح القدس، حيث كان نفخة من روح الله، فكان في قلبه شعاعة من نور الحق لا تخبو أبدا، ولا يستملى لسانه منها غير الحق أبدا!.

3. اختصاص هذين النبيّين الكريمين بهذا الذكر هنا دون سائر الأنبياء والمرسلين؛ لا يحصر الفضل فيهما وحدهما، ولا يعطيهما المنزلة العليا في الأنبياء جميعا، وإنما كان ذلك الذكر لاستحضار أتباعهما من اليهود والنصارى، وتذكيرهم بما حمل إليهم موسى وعيسى من الهدى والرحمة، وما كان من أتباعهما من خلاف وشقاق، ذهب بهم في الفرقة والعداوة كل مذهب.

4. هذا الخلاف بين أتباع موسى وعيسى ـ فيما بين كل فريق منهم، ثم فيما بين الفريقين، ثم فيما بينهم وبين المسلمين ـ هذا الخلاف هو مما تقتضيه طبيعة الحياة، وهو بعض مما أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله في الآية السابقة: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: 251].. فهناك حقّ وباطل، وهناك محقّون ومبطلون، وإنه لا بد أن يصطدم هؤلاء وهؤلاء، ويقتتل هؤلاء وهؤلاء، ولولا ذلك لتسلط الشر على الخير، وغلب الباطل على الحق، وكان في ذلك فساد كل شيء، وضياع كل شيء.

5. فى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ إشارة إلى أن هذا الخلاف الذي وقع بين أتباع الأنبياء، وأوقع القتال بينهم، إنما هو بتقدير الله وحكمته، ليكون في ذلك ابتلاء واختبار، وليميز الله به الخبيث من الطيب.. فالضمير في‏ ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ يرجع إلى أتباع الأنبياء الذين اختلفوا بعد أنبيائهم، الذين هم جميعا على دين واحد، هو دين الله، وهو الإسلام.

6. ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾ أي وقع الاختلاف بين أتباع الرسل، فكان منهم المؤمنون وكان منهم الكافرون، وكان من ذلك أن اقتتل المؤمنون والكافرون.. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ أي ولو شاء الله ما اقتتلوا مع وجود هذا الخلاف بينهم.. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ أي فوقع القتال بينهم لما أراد الله من حكمة يعلمها، ولما قضى به من خير وراء هذا الذي يحسبه الناس شرا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏2/314.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. موقع هذه الآية موقع الفذلكة لما قبلها والمقدمة لما بعدها:

أ. فأما الأول فإنّ الله تعالى لما أنبأ باختبار الرسل إبراهيم وموسى وعيسى وما عرض لهم مع أقوامهم وختم ذلك بقوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ [البقرة: 252]، جمع ذلك كلّه في قوله: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾ لفتا إلى العبر التي في خلال ذلك كلّه، ولما أنهى ذلك كلّه عقّبه بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [البقرة: 252] تذكيرا بأنّ إعلامه بأخبار الأمم والرسل آية على صدق رسالته، إذ ما كان لمثله قبل بعلم ذلك لولا وحي الله إليه، وفي هذا كلّه حجة على المشركين وعلى أهل الكتاب الذين جحدوا رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فموقع اسم الإشارة مثل موقعه في قول النابغة:

çبني عمه دنيا وعمرو بن عامر...أولئك قوم بأسهم غير كاذب‏é

والإشارة إلى جماعة المرسلين في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، وجيء بالإشارة لما فيها من الدلالة على الاستحضار حتى كأنّ جماعة الرسل حاضرة للسامع بعد ما مرّ من ذكر عجيب أحوال بعضهم وما أعقبه من ذكرهم على سبيل الإجمال.

ب. وأما الثاني فلأنّه لما أفيض القول في القتال وفي الحثّ على الجهاد والاعتبار بقتال الأمم الماضية عقب ذلك بأنّه لو شاء الله ما اختلف الناس في أمر الدين من بعد ما جاءتهم البيّنات ولكنّهم أساؤوا الفهم فجحدوا البيّنات فأفضى بهم سود فهمهم إلى اشتطاط الخلاف بينهم حتى أفضى إلى الاقتتال، فموقع اسم الإشارة على هذا الاعتبار كموقع‏ ضمير الشأن، أي هي قصة الرسل وأممهم، فضّلنا بعض الرسل على بعض فحسدت بعض الأمم أتباع بعض الرسل فكذّب اليهود عيسى ومحمدا عليهما الصلاة والسلام وكذب النصارى محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم.

2. قرن اسم الإشارة بكاف البعد تنويها بمراتبهم كقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة: 2]، واسم الإشارة مبتدأ والرسل خبر، وليس الرسل بدلا لأنّ الإخبار عن الجماعة بأنّها الرسل أوقع في استحضار الجماعة العجيب شأنهم الباهر خبرهم، وجملة ﴿فَضَّلَنَا﴾ [النمل: 15] حال.

3. المقصود من هذه الآية تمجيد سمعة الرسل عليهم السلام، وتعليم المسلمين أنّ هاته الفئة الطيّبة مع عظيم شأنها قد فضّل الله بعضها على بعض، وأسباب التفضيل لا يعلمها إلّا الله تعالى، غير أنّها ترجع إلى ما جرى على أيديهم من الخيرات المصلحة للبشر ومن نصر الحق، وما لقوه من الأذى في سبيل ذلك، وما أيّدوا به من الشرائع العظيمة المتفاوتة في هدى البشر، وفي عموم ذلك الهدي ودوامه، وإذا كان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (لأن يهدي الله بك رجلا خير لك ممّا طلعت عليه الشمس)، فما بالك بمن هدى الله بهم أمما في أزمان متعاقبة، ومن أجل ذلك كان محمد صلّى الله عليه وآله وسلم أفضل الرّسل، ويتضمن الكلام ثناء عليهم وتسلية للرسول عليه السلام فيما لقي من قومه.

4. خصّ الله من جملة الرسل بعضا بصفات يتعيّن بها المقصود منهم، أو بذكر اسمه، فذكر ثلاثة إذ قال منهم من كلّم الله، وهذا موسى عليه السلام لاشتهاره بهذه الخصلة العظيمة في القرآن، وذكر عيسى عليه السلام، ووسط بينهما الإيماء إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلم بوصفه، بقوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾

5. قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ يتعيّن أن يكون المراد من البعض هنا واحدا من الرسل معيّنا لا طائفة، وتكون الدرجات مراتب من الفضيلة ثابتة لذلك الواحد: لأنّه لو كان المراد من البعض جماعة من الرسل مجملا، ومن الدرجات درجات بينهم لصار الكلام تكرارا مع قوله فضّلنا بعضهم على بعض، ولأنّه لو أريد بعض فضّل على بعض لقال، ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما قال في الآية الأخرى ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ [الأنعام: 165]، وعليه فالعدول من التصريح بالاسم أو بالوصف المشهور به لقصد دفع الاحتشام عن المبلّغ الذي هو المقصود من هذا الوصف وهو محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، والعرب تعبّر بالبعض عن‏ النفس كما في قول لبيد:

çترّاك أمكنة إذا لم أرضها...أو يعتلق بعض النّفوس حمامهاé

أراد نفسه، وعن المخاطب كقولي أبي الطيّب:

çإذا كان بعض النّاس سيفا لدولة...ففي النّاس بوقات لها وطبول‏é

والذي يعيّن المراد في هذا كلّه هو القرينة كانطباق الخبر أو الوصف على واحد كقول طرفة:

çإذا القوم قالوا من فتى خلت أنّني‏...عنيت فلم أكسل ولم أتبلّدé

وقد جاء على نحو هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾ [الإسراء: 54، 55] عقب قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا﴾ ـ إلى أن قال ـ ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾ [الإسراء: 45، 55]

6. هذا إعلام بأن بعض الرسل أفضل من بعض على وجه الإجمال وعدم تعيين الفاضل من المفضول: ذلك أنّ كل فريق اشتركوا في صفة خير لا يخلون من أن يكون بعضهم أفضل من بعض بما للبعض من صفات كمال زائدة على الصفة المشتركة بينهم، وفي تمييز صفات التفاضل غموض، وتطرق لتوقّع الخطإ وعروض، وليس ذلك بسهل على العقول المعرّضة للغفلة والخطإ، فإذا كان التفضيل قد أنبأ به ربّ الجميع، ومن إليه التفضيل، فليس من قدر النّاس أن يتصدّوا لوضع الرسل في مراتبهم، وحسبهم الوقوف عندما ينبئهم الله في كتابه أو على لسان رسوله.

7. وهذا مورد الحديث الصحيح:‏ (لا تفضّلوا بين الأنبياء) يعني به النهى عن التفضيل التفصيلي، بخلاف التفضيل على سبيل الإجمال، كما نقول: الرسل أفضل من الأنبياء الذين ليسوا رسلا، وقد ثبت أنّ محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم أفضل الرّسل لما تظاهر من آيات تفضيله وتفضيل الدين الذي جاء به وتفضيل الكتاب الذي أنزل عليه، وهي متقارنة الدلالة تنصيصا وظهورا، إلّا أنّ كثرتها تحصل اليقين بمجموع معانيها عملا بقاعدة كثرة الظواهر تفيد القطع، وأعظمها آية ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ [آل عمران: 81] الآية.

8. أما قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا يقولنّ أحدكم أنا خير من يونس بن متّى) يعني بقوله: (أنا) نفسه على أرجح الاحتمالين، وقوله: (لا تفضّلوني على موسى)، فذلك صدر قبل أن ينبئه الله بأنّه أفضل الخلق عنده.

9. هذه الدرجات كثيرة عرفنا منها: عموم الرسالة لكافة الناس، ودوامها طول الدهر، وختمها للرسالات، والتأييد بالمعجزة العظيمة التي لا تلتبس بالسحر والشعوذة، وبدوام تلك المعجزة، وإمكان أن يشاهدها كل من يؤهّل نفسه لإدراك الإعجاز، وبابتناء شريعته على رعي المصالح ودرء المفاسد والبلوغ بالنفوس إلى أوج الكمال، وبتيسير إدانة معانديه له، وتمليكه أرضهم وديارهم وأموالهم في زمن قصير، وبجعل نقل معجزته متواترا لا يجهلها إلّا مكابر، وبمشاهدة أمته لقبره الشريف، وإمكان اقترابهم منه وائتناسهم به صلّى الله عليه وآله وسلم.

10. عطف الله تعالى ما دل على نبيئنا على ما دل على موسى ـ عليهما السلام ـ لشدة الشبه بين شريعتيهما، لأنّ شريعة موسى عليه السلام أوسع الشرائع، ممّا قبلها، بخلاف شريعة عيسى عليه السلام، وتكليم الله موسى هو ما أوحاه إليه بدون واسطة جبريل، بأن أسمعه كلاما أيقن أنّه صادر بتكوين الله، بأن خلق الله أصواتا من لغة موسى تضمنت أصول الشريعة، وسيجيء بيان ذلك عند قوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 164] في سورة النساء.

11. ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ البينات هي المعجزات الظاهرة البيّنة، وروح القدس هو جبريل، فإنّ الروح هنا بمعنى الملك الخاص كقوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾ [القدر: 4]، والقدس بضم القاف وبضم الدال عند أهل الحجاز وسكونها عند بني تميم بمعنى الخلوص والنزاهة، فإضافة روح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة، ولذلك يقال الروح القدس، وقيل القدس اسم الله كالقدّوس فإضافة روح إليه إضافة أصلية، أي روح من ملائكة الله، وروح القدس هو جبريل قال تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ [النحل: 102]، وفي الحديث: (إنّ روح القدس نفث في روعي أنّ نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها)، وفي الحديث أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال لحسان: (اهجهم ومعك روح القدس)

12. إنّما وصف عيسى عليه السلام بهذين مع أنّ سائر الرسل أيّدوا بالبيّنات وبروح القدس، للرد على اليهود الذين أنكروا رسالته ومعجزاته، وللرد على النصارى الذين غلوا فزعموا ألوهيته، ولأجل هذا ذكر معه اسم أمه ـ مهما ذكر ـ للتنبيه على أنّ ابن الإنسان لا يكون إلها، وعلى أنّ مريم أمة الله تعالى لا صاحبة لأنّ العرب لا تذكر أسماء نسائها وإنّما تكنى، فيقولون ربّة البيت، والأهل، ونحو ذلك ولا يذكرون أسماء النساء إلا في الغزل، أو أسماء الإماء.

13. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ اعتراض بين الفذلكة ـ المستفادة من جملة تلك الرسل إلى آخرها ـ وبين الجملة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 254]، فالواو اعتراضية: فإنّ ما جرى من الأمر بالقتال ومن الأمثال التي بيّنت خصال الشجاعة والجبن وآثارهما، المقصود منه تشريعا وتمثيلا قتال أهل الإيمان لأهل الكفر لإعلاء كلمة الله ونصر الحق على الباطل وبث الهدى وإزهاق الضلال، بيّن الله بهذا الاعتراض حجة الذين يقاتلون في سبيل الله على الذين كفروا: بأن الكافرين هم الظالمون إذ اختلفوا على ما جاءتهم به الرسل، ولو اتّبعوا الحق لسلموا وسالموا.

14. يجوز أن يكون الضمير المضاف إليه في قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾:

أ. مرادا به: جملة الرّسل أي ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعد أولئك الرسل من الأمم المختلفة في العقائد مثل اقتتال اليهود والنصارى في اليمن في قصة أصحاب الأخدود، ومقاتلة الفلسطينيّين لبني إسرائيل انتصارا لأصنامهم، ومقاتلة الحبشة لمشركي العرب انتصارا لبيعة القليس التي بناها الحبشة في اليمن، والأمم الذين كانوا في زمن الإسلام وناووه وقاتلوا المسلمين أهله، وهم المشركون الذين يزعمون أنّهم على ملة إبراهيم واليهود والنصارى، ويكون المراد بالبيّنات دلائل صدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فتكون الآية بأنحاء على الذين عاندوا النبي وناووا المسلمين وقاتلوهم، وتكون الآية على هذا ظاهرة التفرّع على قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا﴾ [البقرة: 244] إلخ.

ب. ويجوز أن يكون ضمير ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [الحشر: 10] ضمير الرسل على إرادة التوزيع، أي الذين من بعد كل رسول من الرسل، فيكون مفيدا أنّ أمة كل رسول من الرسل اختلفوا واقتتلوا اختلافا واقتتالا نشأ من تكفير بعضهم بعضا كما وقع لبني إسرائيل في عصور كثيرة بلغت فيها طوائف منهم في الخروج من الدّين إلى حد عبادة الأوثان، وكما وقع للنصارى في‏ عصور بلغ فيها اختلافهم إلى حد أن كفّر بعضهم بعضا، فتقاتلت اليهود غير مرة قتالا جرى بين مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل، وتقاتلت النصارى كذلك من جرّاء الخلاف بين اليعاقبة والملكية قبل الإسلام، وأشهر مقاتلات النصارى الحروب العظيمة التي نشأت في القرن السادس عشر من التاريخ المسيحي بين أشياع الكاثوليك وبين أشياع مذهب لوثير الراهب الجرماني الذي دعا الناس إلى إصلاح المسيحية واعتبار أتباع الكنيسة الكاثوليكية كفّارا لادّعائهم ألوهية المسيح، فعظمت بذلك حروب بين فرانسا وإسبانيا وجرمانيا وإنكلترا وغيرها من دول أوروبا.

15. المقصود تحذير المسلمين من الوقوع في مثل ما وقع فيه أولئك، وقد حذر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من ذلك تحذيرا متواترا بقوله في خطبة حجة الوداع: (فلا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض)، يحذّرهم ما يقع من حروب الردّة وحروب الخوارج بدعوى التكفير، وهذه الوصية من دلائل النبوءة العظيمة، وورد في (الصحيح) قوله: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، قيل يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول، قال (أما إنّه كان حريصا على قتل أخيه)، وذلك يفسّر بعضه بعضا أنّه القتال على اختلاف العقيدة.

16. المراد بالبينات على هذا الاحتمال أدلة الشريعة الواضحة التي تفرق بين متبع الشريعة ومعاندها والتي لا تقبل خطأ الفهم والتأويل لو لم يكن دأبهم المكابرة ودحض الدين لأجل عرض الدنيا، والمعنى أن الله شاء اقتتالهم فاقتتلوا، وشاء اختلافهم فاختلفوا، والمشيئة هنا مشيئة تكوين وتقدير لا مشيئة الرضا لأن الكلام مسوق مساق التمني للجواب والتحسير على امتناعه وانتفائه المفاد بلو كقول طرفة:

çفلو شاء ربي كنت قيس بن خالد...ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثدé

17. ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا﴾ استدراك على ما تضمنه جواب ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ [الشورى: 8]: وهو ما اقتتل، لكن ذكر في الاستدراك لازم الضد لجواب لو وهو الاختلاف لأنهم لما اختلفوا اقتتلوا ولو لم يختلفوا لما اقتتلوا، وإنما جيء بلازم الضد في الاستدراك للإيماء إلى سبب الاقتتال ليظهر أن معنى نفي مشيئة الله تركهم الاقتتال، هو أنه خلق داعية الاختلاف فيهم، فبتلك الداعية اختلفوا، فجرهم الخلاف إلى أقصاه وهو الخلاف في العقيدة، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فاقتتلوا لأن لزوم الاقتتال لهذه الحالة أمر عرفي شائع، فإن كان المراد اختلاف أمة الرسول الواحد فالإيمان والكفر في الآية عبارة عن خطأ أهل الدين فيه‏ إلى الحد الذي يفضي ببعضهم إلى الكفر به، وإن كان المراد اختلاف أمم الرسل كل للأخرى كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ﴾ [البقرة: 113]، فالإيمان والكفر في الآية ظاهر، أي فمنهم من آمن بالرسول الخاتم فاتّبعه ومنهم من كفر به فعاداه، فاقتتل الفريقان.

18. أيّا ما كان المراد من الوجهين فإن قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾ ينادي على أن الاختلاف الذي لا يبلغ بالمختلفين إلى كفر بعضهم بما آمن به الآخر لا يبلغ بالمختلفين إلى التقاتل، لأن فيما أقام الله لهم من بينات الشرع ما فيه كفاية الفصل بين المختلفين في اختلافهم إذا لم تغلب عليهم المكابرة والهوى أو لم يعمهم سوء الفهم وقلة الهدى.

19. لا جرم أن الله تعالى جعل في خلقة العقول اختلاف الميول والأفهام، وجعل في تفاوت الذكاء وأصالة الرأي أسبابا لاختلاف قواعد العلوم والمذاهب، فأسباب الاختلاف إذن مركوزة في الطباع، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾، ثم قال: ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا﴾ فصار المعنى لو شاء الله ما اختلفوا، لكنّ الخلاف مركوز في الجبلة، بيد أن الله تعالى قد جعل ـ أيضا ـ في العقول أصولا ضرورية قطعية أو ظنّية ظنا قريبا من القطع به تستطيع العقول أن تعيّن الحق من مختلف الآراء، فما صرف الناس عن اتباعه إلا التأويلات البعيدة التي تحمل عليها المكابرة أو كراهية ظهور المغلوبيّة، أو حب المدحة من الأشياع وأهل الأغراض، أو السعي إلى عرض عاجل من الدنيا، ولو شاء الله ما غرز في خلقة النفوس دواعي الميل إلى هاته الخواطر السيئة فما اختلفوا خلافا يدوم، ولكن اختلفوا هذا الخلاف فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، فلا عذر في القتال إلا لفريقين: مؤمن، وكافر بما آمن به الآخر، لأن الغضب والحمية الناشئين عن الاختلاف في الدين قد كانا سبب قتال منذ قديم، أما الخلاف الناشئ بين أهل دين واحد لم يبلغ إلى التكفير فلا ينبغي أن يكون سبب قتال، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء هو بها) لأنّه إذا نسب أخاه في الدين إلى الكفر فقد أخذ في أسباب التفريق بين المسلمين وتوليد سبب التقاتل، فرجع هو بإثم الكفر لأنّه المتسبب فيما يتسبب على الكفر، ولأنّه إذا كان يرى بعض أحوال الإيمان كفرا، فقد صار هو كافرا لأنّه جعل الإيمان كفرا، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (فلا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض)، فجعل القتال شعار التكفير.

20. صم المسلمون عن هذه النصيحة الجليلة فاختلفوا خلافا بلغ بهم إلى التكفير والقتال، وأوّله خلاف الردة في زمن أبي بكر، ثم خلاف الحرورية في زمن عليّ وقد كفّروا عليا في قبوله تحكيم الحكمي، ثم خلاف أتباع المقنّع بخراسان الذي ادعى الإلهية واتخذ وجها من ذهب، وظهر سنة 159 وهلك سنة 163، ثم خلاف القرامطة مع بقية المسلمين وفيه شائبة من الخلاف المذهبي لأنّهم في الأصل من الشيعة ثم تطرفوا فكفروا وادّعوا الحلول ـ أي حلول الرب في المخلوقات ـ واقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة وذهبوا به إلى بلدهم في البحرين، وذلك من سنة 293، واختلف المسلمون أيضا خلافا كثيرا في المذاهب جرّ بهم تارات إلى مقاتلات عظيمة، وأكثرها حروب الخوارج غير المكفّرين لبقية الأمة في المشرق، ومقاتلات أبي يزيد النكارى الخارجي بالقيروان وغيرها سنة 333، ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بالقيروان سنة 407، ومقاتلة الشافعية والحنابلة ببغداد سنة 475، ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بها سنة 445، وأعقبتها حوادث شر بينهم متكررة إلى أن اصطلحوا في سنة 502 وزال الشر بينهم.. وغير ذلك من المقاتلات الناشئة عن التكفير والتضليل، لا نذكر غيرها من مقاتلات الدول والأحزاب التي نخرت عظم الإسلام، وتطرّقت كل جهة منه حتى البلد الحرام.

21. الآية الكريمة تنادي على التعجيب والتحذير من فعل الأمم في التقاتل للتخالف حيث لم يبلغوا في أصالة العقول أو في سلامة الطوايا إلى الوسائل التي يتفادون بها عن التقاتل، فهم ملومون من هذه الجهة، ومشيرة إلى أنّ الله تعالى لو شاء لخلقهم من قبل على صفة أكمل مما هم عليه حتى يستعدّوا بها إلى الاهتداء إلى الحق وإلى التبصّر في العواقب قبل ذلك الإبّان، فانتفاء المشيئة راجع إلى حكمة الخلقة، واللوم والحسرة راجعان إلى التقصير في امتثال الشريعة، ولذلك قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ فأعاد ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ تأكيدا للأول وتمهيدا لقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ ليعلم الواقف على كلام الله تعالى أنّ في هدى الله تعالى مقنعا لهم لو أرادوا الاهتداء، وأنّ في سعة قدرته تعالى عصمة لهم لو خلقهم على أكمل من هذا الخلق كما خلق الملائكة، فالله يخلق ما يشاء ولكنّه يكمل حال الخلق بالإرشاد والهدى، وهم يفرّطون في ذلك.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/482.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآيات السابقة ذكر الله سبحانه وتعالى اصطراع الحق مع الباطل، وانتصار الحق في المآل؛ لأن غلبة الباطل فيها فساد الأرض‏ ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ وذكر في ختام الآيات السابقة أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم من المرسلين الذين بعثوا لينصروا الحق، وليعم نور الله في الآفاق، وفى هذه الآيات التالية يبين سبحانه أن الرسل، وإن كانوا جميعا مبعوثين من رب العالمين، ليسوا في درجة واحدة، وأن بعثهم ينصر الحق ولا يمحو الباطل، ويرفع منار الهدى، ولا يزيل الضلال، ولكنه يكون ضلالا بعد البينات، ولا يكون ضلالا عن جهالة، فلا يعذر فيه الضال؛ ولذلك كان القتال بعد الأنبياء بين المهتدين والضالين، وتلك إرادة الله؛ وقد ابتلى الخير بالشر، والمهتدين بالضالين‏ ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [آل عمران‏]

2. ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ الإشارة هنا إلى جماعة الرسل الحاضرة في ذهن التالي للقرآن الكريم، المستقرة في وعيه بما ختمت به الآيات‏ السابقة، وهو قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، والإشارة باللفظ الدال على البعيد، لبيان علو منزلتهم أجمعين، وأنهم المصطفون الأخيار، وأنهم مهما تتفاوت منازلهم في رسالاتهم، هم جميعا ليسوا كسائر الناس، فلهم شرف البعث والرسالة والاصطفاء.

3. التفضيل مشتق من الفضل وهو الزيادة؛ فمعنى‏ ﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ هو كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾ [الإسراء] أي جعلنا لبعضهم زيادة في بعض النواحي على البعض الآخر، والفضل هنا إضافي وليس بذاتي؛ أي أن هذا ليس من ذات الرسل، إنما هو بما يختص الله بعضهم من معجزات مغايرة لمعجزات الآخرين، ثم التفضيل إضافي لأنه يكون في ناحية من النواحي، وقد يكون هناك ناحية أخرى فضل بها المفضول غيره؛ فموسى فضل على عيسى بأنه كلمه الله، وعيسى فضّل على موسى بأنه أحيا الموتى؛ فالتفضيل إذن إضافي في موضوعه، وفى نوعه، وفى نواحيه.

4. تفسير التفضيل على ذلك النحو فيه توفيق بين الآيات الكريمات المثبتة للتفضيل بين الرسل وبين ما ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم من النهى عن التخيير بين الأنبياء، فقد روى الأئمة الثقات أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تخيروا بين الأنبياء)، (ولا تفضلوا بين أنبياء الله)، وفوق ذلك فإن النهى عن أن يجرى على ألسنة الناس تفضيل نبيّ بذاته على نبيّ آخر فتكون المشادة والملاحاة، وروى في الصحيحين عن أبى هريرة قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال اليهودي: والذى اصطفى موسى على العالمين؛ فرفع المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي وقال: أي خبيث! وعلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلم!؟ فاشتكى المسلم، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا تفضّلوني على الأنبياء)

5. النهى عن التفضيل منعا للمماراة لا ينفى حقيقة التفضيل المقررة، كما أن النهى عن سب الأوثان لا يثبت أنها واجبة الاحترام، إذ النهى لسد الذريعة، فلا يمنع ثبوت الحقيقة.

6. هذه الآية الكريمة سيقت لبيان فضل بعض النبيين على بعض لكيلا يندفع بعض الناس إلى الجحود، فيقولوا: إننا نتبع النبيّ موسى أو عيسى دون محمد، وما داموا جميعا أنبياء فأيهم نتبع يكون في اتباعه النجاة؛ فبين سبحانه أنه فضل بعض الرسل على بعض في الشريعة والزمان، فجعل محمدا شريعته عامة ناسخة لما عداها، ورسالته للناس كافة، وهو خاتم النبيين، وذلك من فضل الله؛ كما أن من فضله أنه كلم موسى تكليما، ومن فضله أن جعل عيسى يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخبر الناس بما في بيوتهم، فليس لأحد أن يرفض شريعة محمد لأنه اختار شريعة عيسى، إذ إن من فضل الله الذي اختص به محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم أن جعل شريعته ناسخة لغيرها؛ لأنها آخر الشرائع، ولأن محمدا خاتم النبيين، ورسالته عامة شاملة للناس كافة، وكانت رحمة للعالمين.

7. ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ في هذه الجملة السامية من الآية الكريمة بيان لبعض وجوه التفضيل التي اختص الله سبحانه وتعالى بها بعض النبيين، وهى في الحقيقة وجوه للتفضيل لا تتصل بأشخاصهم، بل تتصل برسالاتهم، وما تؤيده هذه المعجزات من شرائع، ومن تخاطبهم من أقوام تكون تلك المعجزات مناسبة لهم.

8. فى هذه الجمل ذكر الله نبيين من أولى العزم من الرسل، وأشار إلى ثالث، فأما الأول فهو موسى؛ قد أشير إليه بما يشبه النص بقوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ فإن ذلك هو موسى عليه السلام، فقد قال سبحانه وتعالى في شأن موسى عليه السلام: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء] وقال سبحانه: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾ [الأعراف‏] وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا﴾ [الأعراف‏]، فهذه الآيات الكريمات تدل على أن الله سبحانه وتعالى قد اختص موسى عليه السلام بكلامه، وهو إحدى طرق اتصال رب العالمين بالمبعوث من خلقه، فقد قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى‏] وكلام الله سبحانه وتعالى مع موسى كان من النوع الثاني، وهو الكلام من وراء حجاب.

9. كان خطاب الله سبحانه وتعالى بتكليمه من وراء حجاب مناسبا لأقوام موسى؛ لأنهم قد غلبت عليهم المادية، وغلب عليهم الجحود وإنكار الألوهية لرب السموات والأرض، حتى لقد قالوا ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء]؛ فكان المناسب لمثل هؤلاء الأقوام أن يكون كلام الله للمبعوث إليهم مباشرة ولا يكون وحيا يوحى، ولا برسول من الملائكة يرسله إليه، فما كان ذلك تشريفا فقط لموسى، بل كان مع ذلك التشريف مقصد يتفق مع حكمة الله سبحانه وتعالى، وهو العلى الحكيم.

10. ليس معنى ذلك الاختصاص أن الله سبحانه وتعالى قد رفع الله به موسى عليه السلام على كل الرسل، بل إن الله سبحانه رفع بعض الأنبياء درجات، وإن لم يكن لهم ذلك الاختصاص؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يرفع ويخفض، وهو الذي يختص برحمته واصطفائه من يشاء؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى بعد ذكر تكليم الله لبعض رسله‏ ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ فقرن هذه بكلام موسى لتدل على أن التكليم وإن كان شرفا عظيما لا يقتضى أن يكون الملك فوق الأنبياء منزلة، بل إن بعض من لم يكلمه الله رفعه الله درجات.

11. الدرجات جمع درجة، وهى المنزلة الرفعية السامية، وفى التعبير بالجمع إشارة إلى علو المنزلة، وكبر التفاوت بينه وبين غيره ممن لم يؤت ما آتاه الله، وما نيط به من تكليف هو عين التشريف، وإن الله سبحانه قد ذكر أنه رفع مقام بعض النبيين؛ فقد ذكر عن إدريس عليه السلام أنه رفعه مكانا عليا، فقال سبحانه ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم‏]، ولكن الرفع إلى مكان على غير الرفع درجات؛ لأن الرفع درجات يدل على التفاوت بينه وبين غيره كما قال تعالى في حقوق الرجال والنساء: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ أما الرفع إلى مكان على فلا يدل على هذا التفاوت.

12. ذلك الارتفاع درجات عن النبيين كان لنبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فهو ذو الدرجات الرفيعة؛ لمعجزته الباقية إلى يوم القيامة، ولشريعته الخالدة، ولعموم رسالته، ولأن أمته الآخذة بشرعه المتبعة له حقا وصدقا خير أمة أخرجت للناس، ولقد قال الزمخشري في ذلك المقام ما نصه: (الظاهر أنه أراد محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه هو المفضل عليهم، حيث أوتى ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة.. ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفا على سائر ما أوتى الأنبياء؛ لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات، وفى هذا الإبهام ـ (أي أنه لم يذكر اسم محمد) من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى؛ لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس، ويقال للرجل من فعل هذا؟ فيقال أحدكم أو بعضكم، يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال، فيكون أفخم من التصريح به، وأنوه بصاحبه، واسأل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيرا والنابغة، ثم قال ولو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه، ولو قال ولو شئت لذكرت نفسي لم يفخم أمره)

13. جاء في القرآن الكريم ما يدل على رفعة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم درجات بشريعته، فقد كانت شريعته رحمة للعالمين كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ] ورفعه سبحانه بمعجزته الكبرى وهى القرآن، فقد قال فيه سبحانه ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الزمر] ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة)

14. بعد أن أشار سبحانه إلى علو منزلة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، ذكر ما اختص به عيسى عليه السلام من فضل فقال: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ وكان ذكر فضل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم بين فضل النبيين قبله للمسارعة إلى أنه مهما يكن ما اختص كل واحد منهما من معجزات ترفعه فمقامه ليس أعلى من مقام النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، بل للنبي فوق ذلك درجات.

15. ذكر الله سبحانه ما اختص به عيسى من فضل‏ ﴿وَآتَيْنَا﴾ أي أعطينا ﴿عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ أي المعجزات المبينة لصدق رسالته، من إحياء للموتى، وإبراء للأكمه والأبرص، وتصوير للطين كهيئة الطير، ثم يصير طيرا بإذن الله، وإخبارهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وغير ذلك مما يدل على علو روحي، وأنه مؤيد من رب العالمين.

16. وقال سبحانه في فضله أيضا ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ والقدس أصل معناه الطهارة، وهو يطلق على الطهارة المعنوية؛ وروح القدس الذي أيد الله به عيسى عليه السلام هو جبريل الأمين، وهو في عبارات الإسلام وفى لغة القرآن يطلق عليه؛ فقد قال تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ﴾ [النحل‏] أي أن القرآن الكريم نزل به الروح القدس الأمين؛ ولذا قال سبحانه في آية أخرى‏ ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ [الشعراء]، وقد قيل إن روح القدس هو الإنجيل؛ وذلك لا يختلف في الجملة عن سابقة، إذ إن جبريل هو الذي نزل بالإنجيل والتأييد بروح المقدس حينئذ يكون مقصورا على نزول الإنجيل، ولكن إطلاق العبارة في التأييد يشمل نزول جبريل بالإنجيل وتأييده بغير ذلك، فتفسير روح القدس بالإنجيل تفسير يؤدى إلى تأييد جزئي، أما تفسيره بجبريل الأمين فهو تفسير يؤدى إلى تأييد أوسع شمولا.

17. سؤال وإشكال: لماذا خص سيدنا عيسى عليه السلام بأنه مؤيد بالروح القدس وهو جبريل، مع أن أكثر النبيين كانوا مؤيدين بنزول الشرائع من الله عليهم عن طريق جبريل؟ والجواب: أن السيد المسيح عليه السلام لم يكن محاربا لخصومه، بل عاش حياته كلها بين خصومه وأعدائه الذين يتربصون به الدوائر، من رومان ووثنيين‏ ويهود ماديين، ولم يؤذن له في القتال، حتى يتولى حماية نفسه بسيفه وسيوف أنصار الحق معه، كالشأن بالنسبة لموسى وداوود وسليمان، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فكان يتولى حمايته رب العالمين بملائكته الأطهار والأمين جبريل يعاونه، ولعله هو الذي أنقذه من بنى إسرائيل وقد بسطوا أيديهم لقتله، وأغروا به الرومان ليقتلوه، فرفعه الله سبحانه وتعالى إليه.

18. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾ أرسل الله سبحانه وتعالى رسله، وخص كل رسول بمعجزات قاطعة من شأنها أن تهدى إلى الصراط المستقيم إن استقامت الفطرة، ولم تنحرف العقول، ولم يطمس على القلوب؛ ولكن الدليل وحده لا يهدى، بل لا بد من نفوس متقبلة، واتجاه لطلب الحق اتجاها مستقيما؛ ولذلك لم يكن الناس متفقين في تلقى ما جاء به الرسل بل كان منهم من غلبت عليه شقوته، فحارب الحق وحارب النبيين معه، ومنهم من آمن واهتدى، فكانت المغالبة بين الحق والباطل، والهداية والضلالة؛ وكان الاقتتال بين أنصار الحق، وأنصار الباطل، وبين الضالين والمهتدين؛ لا يترك الضالون الحقّ يسير في مجراه، ويصل في القلوب إلى منتهاه، بل يقاومونه، وينزلون الأذى بأهله.

19. هنا يتساءل العقل البشرى: لماذا لم يكن الناس جميعا على شرع سواء؟ ولما ذا لم يكن الناس جميعا على الهداية؟ فبين سبحانه وتعالى أن تلك مشيئته، وهذا هو التكوين الذي كون الخلق عليه؛ ولذا قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ أي لو شاء ألا يقتتل الذين جاؤوا من بعد الرسل ما اقتتلوا، فالمفعول للفعل شاء محذوف دل عليه جواب الشرط؛ والمعنى أن الذين جاؤوا من بعد الرسل بعد أن بين لهم الرسل المحجة الواضحة البيضاء التي لا يضل فيها سالك، قد اقتتلوا حولها ما بين مؤيد لها، ومعاند كافر بها؛ ولو شاء الله سبحانه ألا يكون في كل نفس استعداد للطاعة، واستعداد للعصيان، ونزوع إلى الشر، واتجاه إلى الخير، كما قال تعالى في تكوين الإنسان ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد]، أي خلقناه وفى نفسه استعداد للسير في نجد الخير، واستعداد للسير في نجد الشر، وكما قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس‏]، وإذا كانت النفوس كذلك، فمنهم من يغلب عليه الخير فيطلب الحق ويهتدى به، ومنهم من يغلب عليه الشر فيعرض عن الخير فيطلب الحق ويهتدى به، ومنهم من يغلب عليه الشر فيعرض عن الخير وينأى بجانبه؛ فالأولون يؤمنون بما جاء به الرسل، والآخرون يكفرون بالحق الذي جاؤوا به؛ ولذا قال سبحانه بعد ذلك ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾ أي اختلفوا في النفوس والعقول والمدارك، واستقامة الفطرة وانحرافها؛ فترتب على ذلك أن كان منهم من آمن لأن قلبه يتجه إلى الحق اتجاها مستقيما، ومنهم من كفر لأن قلبه عمى عن إدراك الحق، واستولت عليه النزعات المردية، فاتخذ إلهه هواه.

20. هنا إشارات بيانية من أسرار إعجاز القرآن، فلنذكر بعضها مما أدركته مداركنا:

أ. من هذه الإشارات البيانية الرائعة، أن الله سبحانه وتعالى ذكر المسبب قبل أن يذكر السبب؛ لأن الاختلاف في الإيمان هو سبب الاقتتال؛ فذكر الله سبحانه وتعالى أولا الاقتتال الذي هو النتيجة لهذا الاختلاف، للإشارة إلى بيان أسوأ أحوال الاختلاف، ليبين للناس ما يتعرض له الدعاة إلى الحق من تعرضهم للقتل والقتال، وللإشارة إلى أنه سبحانه وتعالى قادر على إزالة الاقتتال في ذاته حتى مع وجود أسبابه؛ فالله سبحانه وتعالى لا يتقيد بالأسباب والمسببات؛ لأنه سبحانه وتعالى خالق الأسباب والمسببات، وهو الرابط بين الأشياء ونتائجها؛ وليقرن سبحانه وتعالى أسوأ النتائج بخير المقدمات، فيتبين الناس مقدار ضلال العقل البشرى إن انحرف عن فطرته.

ب. من الإشارات البيانية قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ ففي ذلك بيان مقدار ما في حيز الإنسان من حب المنازعة، وما استقر في ثنايا الإنسان من تنازع بين الخير والشر في أنفس الآحاد وأنفس الجماعات؛ لأن ذلك الاقتتال بعد أن جاءتهم البينات أي الأدلة الواضحة المعلنة للحق الكاشفة له، فليس اقتتالهم عن جهالة، بل هو بعد أن تبين الحق ووضحت معالمه؛ وذلك لأن الهوى يعمى، والأعمى لا يبصر ولو كانت الشمس مشرقة.

ج. الاستدراك في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا﴾ فإن هذا الاستدراك يشير إلى أمرين:

أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى لم يشأ أن يزيل القتال؛ لأنه سبحانه وتعالى خلق الناس مختلفي المنازع، منهم من يتقبل الحق ويصغى فؤاده إليه، ومنهم من يعرضون عنه‏ ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [النور]

الأمر الثاني الذي دل عليه هذا الاستدراك: أن مجيء البينات المعلنة الكاشفة كانت توجب أن يكونوا جميعا مجيبين، ولكنهم كانوا مختلفين، فالناس ليسوا سواء.

21. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ الاقتتال خالد إلى يوم القيامة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال لآدم وزوجه وإبليس: ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾، وقد كان القتال السابق بسبب الإيمان والكفر أو بسبب إجابة بعض الناس للأنبياء وجحود الآخرين لرسالات الرسل بعد أن قامت عليها البينات، وثبتت دعوة الحق بالأدلة؛ وهنا يبين بشكل عام أن الله سبحانه لو شاء لمنع الاقتتال سواء أكان الاختلاف على غرض من الأغراض؛ فإن المغالبة في طبيعة الإنسان؛ ذلك أن في الإنسان بطبعه حبا للعلو، والمنازع مختلفة، والقوى متباينة، والفرص قد تواتى فريقا، وتناوئ فريقا، وإذا اتحدت القوى والفرص فقد يحدث موانع لهذا لا تحدث لذاك، وبهذا يعلو فريق على فريق، فيكون النزاع، ويكون الغلاب ويكون الاصطراع، ويسرى ذلك التعالي في كل شيء في السلطان وفى التجارة، وفى الاقتصاد، بل في المذاهب الاجتماعية.

22. إذا وجد ذلك الصراع فسيكون من ورائه ـ إن اشتد ـ القتال، ولو شاء الله لجعل بنى آدم على طبيعة الملائكة لا يتنازعون، ولا يتقاتلون، ولكن الله الذي خلق‏ السموات والأرض فأتقن كل شيء خلقه، خلق طبيعة الإنسان تتأدى إلى ذلك النوع من المغالبة؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ فإنه لما وجد الاعتراض بقوله تعالى: ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا﴾ كرر مشيئة الله سبحانه؛ ليعقبها بقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾

23. نميل إلى تعميم الاقتتال بتعدد أسبابه من غير نظر إلى مجرد الاختلاف بسبب الإيمان والكفر، والاستدراك في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ فيه الإشارة إلى أنه سبحانه لم يشأ منع الاقتتال، بل أراد أن تكون هكذا طبيعة الإنسان، وهو العلى القدير، فعال لما يريد.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/918.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، خاطب الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم في آخر الآية السابقة بقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ وعقبه من غير فاصل بقوله: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ﴾ وعليه يتعين أن يكون المراد بالرسل جميع الرسل الذين منهم محمد، لا جماعة خاصة منهم، كما قال كثير من المفسرين، ومع العلم بأن الأنبياء جميعا مستوون في أصل النبوة، واختيار الله لهم لتبليغ رسالته، وهداية خلقه فإنهم يتفاوتون في الخصائص، وعلى الأصح ان بعض الأنبياء اشتهر ببعض الخصائص دون بعض لأن الله سبحانه قد نعته بها في كتابه.. فإبراهيم اشتهر بأنه خليل الله، لقوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾، واشتهر محمد صلّى الله عليه وآله وسلم بخاتم النبيين، لقوله عز وجل ﴿رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾

2. ذكر الله سبحانه بعض الأنبياء المفضلين، أو بعض الخصائص لبعض الأنبياء بقوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾، وهو موسى بن عمران بالاتفاق.

3. ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾، قال صاحب تفسير المنار: ذهب جمهور المفسرين الى أن المراد به نبينا.. وقال الرازي: أجمعت الأمة على ان محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم أفضل الأنبياء، واستدل على ذلك بتسعة عشر دليلا.. منها ان علي بن أبي طالب ظهر من بعيد، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: هذا سيد العرب، فقالت عائشة: ألست أنت سيد العرب؟، فقال: أنا سيد العالمين، وهو سيد العرب، وخير ما يستدل به على أفضلية الرسول على جميع الأنبياء والمصلحين شريعته في سعتها وسماحتها وانسانيتها.

4. ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾، البينات هنا الدلائل التي تظهر الحق، كإحياء الموتى، وشفاء المرضى، وخلق الطير من الطين، وما اليه.. والمراد بروح القدس هنا الروح الطيبة المقدسة، ومر تفسيرها في الآية 87.

5. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾، أي ان الرسل بعد أن جاؤوا بالبينات، واوضحوا الحقائق بالدلائل والبراهين اختلف أقوامهم من بعدهم‏ ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾

6. سؤال وإشكال: ان قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ يدل على ان الإنسان مسير غير مخير.. وان في تكرار هذه الجملة تأكيدا لنسبة الاقتتال الى مشيئته سبحانه؟ والجواب: ان الله سبحانه منح القدرة للعبد، وبيّن له الخير والشر، ونهاه عن هذا، وأمره بذاك، قال عز من قائل: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ فإذا سلك طريق الالفة والمحبة صح أن ينسب سلوكه هذا الى العبد، لأنه صدر عنه بإرادته واختياره، وفضّله على طريق الشقاق والنزاع، وأيضا يصح أن ينسب الى الله، لأنه أقدره عليه، وأمره به، أما إذا سلك طريق البغض والتناحر فان هذا السلوك ينسب اليه وحده، ولا ينسب الى الله، لأن العبد قد فعله برضاه وفضّله على طريق الاتفاق، ولا تجوز إطلاقا نسبته الى الله، لأنه نهاه عنه.

7. سؤال وإشكال: لماذا أقدر الله العبد على الشر والتفرقة، وكان ينبغي أن يرغمه ويلجئه الى عمل الخير والوفاق، ولا يمكّنه من الشر والاختلاف إطلاقا؟ والجواب: لو فعل الله هذا لم يبق للإنسان من فضل، ولم تتصف أفعاله بخير أو بشر، ولا بحسن أو قبح، لأن هذا الوصف منوط بإرادة الإنسان واختياره، بل لو ألجأه الله سبحانه إلجاء الى الفعل لم يبق من فرق بين الإنسان وبين الجماد، ولا بينه وبين ريشة في مهب الريح.. ومن أجل هذا، من أجل أن تبقى للإنسان انسانيته لم يشأ الله أن يكره الناس على الوفاق، ولو شاء ما اقتتلوا.

8. اختصارا ان الاقتتال الذي حصل بين الناس لم يقع مخالفا لمشيئة الله التكوينية المعبر عنها (بكن فيكون)، وإنما وقع مخالفا لمشيئته التشريعية التي هي عبارة عن مجرد البيان والإرشاد، وقد شاءت حكمته جل جلاله ان يمنح الإنسان الاستعداد الكافي لعمل الخير والشر معا، ليختار هو بنفسه لنفسه الهدى والخير، ويصبح باختياره إنسانا يفترق عن الجماد والحيوان.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/388.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سياق هاتين الآيتين لا يبعد كل البعد من سياق الآيات السابقة التي كانت تأمر بالجهاد وتندب إلى الإنفاق ثم تقص قصة قتال طالوت ليعتبر به المؤمنون، وقد ختمت القصة بقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ الآية، وافتتحت هاتان الآيتان بقوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، ثم ترجع إلى شأن قتال أمم الأنبياء بعدهم، وقد قال في القصة السابقة أعني: قصة طالوت‏ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾، فأتى بقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾، قيدا، ثم ترجع إلى الدعوة إلى الإنفاق من قبل أن يأتي يوم، فهذا كله يؤيد أن يكون هاتان الآيتان ذيل الآيات السابقة، والجميع نازلة معا.

2. بالجملة الآية في مقام دفع ما ربما يتوهم: أن الرسالة وخاصة من حيث كونها مشفوعة بالآيات البينات الدالة على حقية الرسالة ينبغي أن يختم بها بلية القتال: إما من جهة أن الله سبحانه لما أراد هداية الناس إلى سعادتهم الدنيوية والأخروية بإرسال الرسل وإيتاء الآيات البينات كان من الحري أن يصرفهم عن القتال بعد، ويجمع كلمتهم على الهداية فما هذه الحروب والمشاجرات بعد الأنبياء في أممهم وخاصة بعد انتشار دعوة الإسلام الذي يعد الاتحاد والاتفاق من أركان أحكامه وأصول قوانينه؟ وإما من جهة أن إرسال الرسل وإيتاء بينات الآيات للدعوة إلى الحق لغرض الحصول على إيمان القلوب، والإيمان من الصفات القلبية التي لا توجد في القلب عنوة وقهرا فماذا يفيده القتال بعد استقرار النبوة؟ وهذا هو الإشكال الذي تقدم تقريره والجواب عنه في الكلام على آيات القتال، الذي يجيب تعالى به: أن القتال معلول الاختلاف الذي بين الأمم إذ لولا وجود الاختلاف لم ينجر أمر الجماعة إلى الاقتتال، فعلة الاقتتال الاختلاف الحاصل بينهم ولو شاء الله لم يوجد اختلاف فلم يكن اقتتال رأسا، ولو شاء لأعقم هذا السبب بعد وجوده لكن الله سبحانه يفعل ما يريد، وقد أراد جري الأمور على سنة الأسباب، فوجد الاختلاف فوجد القتال فهذا إجمال ما تفيده الآية.

3. ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، إشارة إلى فخامة أمر الرسل وعلو مقامهم ولذلك جيء في الإشارة بكلمة تلك الدالة على الإشارة إلى بعيد، وفيه دلالة على التفضيل الإلهي الواقع بين الأنبياء عليه السلام ففيهم من هو أفضل وفيهم من هو مفضل عليه، وللجميع فضل فإن الرسالة في نفسها فضيلة وهي مشتركة بين الجميع، ففيما بين الرسل أيضا اختلاف في المقامات وتفاوت في الدرجات كما أن بين الذين بعدهم اختلافا على ما يدل عليه ذيل الآية إلا أن بين الاختلافين فرقا، فإن الاختلاف بين الأنبياء اختلاف في المقامات وتفاضل في الدرجات مع اتحادهم في أصل الفضل وهو الرسالة، واجتماعهم في مجمع الكمال وهو التوحيد، وهذا بخلاف الاختلاف الموجود بين أمم الأنبياء بعدهم فإنه اختلاف بالإيمان والكفر، والنفي والإثبات، ومن المعلوم أن لا جامع في هذا النحو من الاختلاف، ولذلك فرق تعالى بينهما من حيث التعبير فسمى ما للأنبياء تفضيلا ونسبه إلى نفسه، وسمى ما عند الناس بالاختلاف ونسبه إلى أنفسهم، فقال في مورد الرسل فضلنا، وفي مورد أممهم اختلفوا.

4. لما كان ذيل الآية متعرضا لمسألة القتال مرتبطا بها والآيات المتقدمة على الآية أيضا راجعة إلى القتال بالأمر به والاقتصاص فيه لم يكن مناص من كون هذه القطعة من الكلام أعني قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا﴾ إلى قوله: ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ مقدمة لتبيين ما في ذيل الآية من قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾، وعلى هذا فصدر الآية لبيان أن مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسل عليه السلام مقام تنمو فيه الخيرات والبركات، وتنبع فيه الكمال والسعادة ودرجات القربى والزلفى كالتكليم الإلهي وإيتاء البينات والتأييد بروح القدس، وهذا المقام على ما فيه من الخير والكمال لم يوجب ارتفاع القتال لاستناده إلى اختلاف الناس أنفسهم.

5. بعبارة أخرى محصل معنى الآية أن الرسالة على ما هي عليه من الفضيلة مقام تنمو فيه الخيرات كلما انعطفت إلى جانب منه وجدت فضلا جديدا، وكلما ملت إلى نحو من أنحائه ألفيت غضا طريا، وهذا المقام على ما فيه من البهاء والسناء والإتيان بالآيات البينات لا يتم به رفع الاختلاف بين الناس بالكفر والإيمان، فإن هذا الاختلاف إنما يستند إلى أنفسهم فهم أنفسهم أوجدوا هذا الاختلاف كما قال تعالى في موضع‏ قد مر بيانه في قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾، ولو شاء الله لمنع من هذا القتال الواقع بعدهم منعا تكوينيا، لكنهم اختلفوا فيما بينهم بغيا وقد أجرى الله في سنة الإيجاد سببية ومسببية بين الأشياء والاختلاف من علل التنازع، ولو شاء الله تعالى لمنع من هذا القتال منعا تشريعيا أو لم يأمر به؟ ولكنه تعالى أمر به وأراد بأمره البلاء والامتحان ليميز الله الخبيث من الطيب وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن الكاذبين.

6. بالجملة القتال بين أمم الأنبياء بعدهم لا مناص عنه لمكان الاختلاف عن بغي، والرسالة وبيناتها إنما تدحض الباطل وتزيل الشبه، وأما البغي واللجاج وما يشابههما من الرذائل فلا سبيل إلى تصفية الأرض منها، وإصلاح النوع فيها إلا القتال، فإن التجارب يعطي أن الحجة لم تنجح وحدها قط إلا إذا شفع بالسيف، ولذلك كان كلما اقتضت المصلحة أمر الله سبحانه بالقيام للحق والجهاد في سبيل الله كما في عهد إبراهيم وبني إسرائيل، وبعد بعثة رسول الله ص، وقد مر بعض الكلام في هذا المعنى في تفسير آيات القتال سابقا.

7. ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾، في الجملتين التفات من الحضور إلى الغيبة، والوجه فيه والله أعلم ـ أن الصفات الفاضلة على قسمين:

أ. منها ما هو بحسب نفس مدلول الاسم يدل على الفضيلة كالآيات البينات، وكالتأييد بروح القدس كما ذكر لعيسى عليه السلام فإن هذه الخصال بنفسها غالية سامية.

ب. ومنها: ما ليس كذلك، وإنما يدل على الفضيلة ويستلزم المنقبة بواسطة الإضافة كالتكليم، فإنه لا يعد في نفسه منقبة وفضيلة إلا أن يضاف إلى شيء فيكتسب منه البهاء والفضل كإضافته إلى الله عز اسمه، وكذا رفع الدرجات لا فضيلة فيه بنفسه إلا أن يقال: رفع الله الدرجات مثلا فينسب الرفع إلى الله، إذا عرفت هذا علمت: أن هذا هو الوجه في الالتفات من الحضور إلى الغيبة في اثنتين من الجمل الثلاث حيث قال تعالى: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾، فحول وجه الكلام من التكلم إلى الغيبة في الجملتين الأوليين حتى إذا استوفى الغرض عاد إلى وجه الكلام الأول وهو التكلم فقال تعالى: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾

8. اختلف المفسرون في المراد من الجملتين من هو؟

أ. فقيل المراد بمن كلم الله: موسى عليه السلام لقوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ وغيره من الآيات.

ب. وقيل المراد به رسول الله محمد صلّى الله عليه وآله وسلم لما كلمه الله تعالى ليلة المعراج حيث قربه إليه تقريبا سقطت به الوسائط جملة فكلمه بالوحي من غير واسطة، قال تعالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾

ج. وقيل المراد به الوحي مطلقا لأن الوحي تكليم خفي، وقد سماه الله تعالى تكليما حيث قال: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ الآية، وهذا الوجه لا يلائم من التبعيضية التي في قوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾

9. الأوفق بالمقام كون المراد به موسى عليه السلام لأن تكليمه هو المعهود من كلامه تعالى النازل قبل هذه السورة المدنية، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ إلى أن قال: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾، وهي آية مكية فقد كان كون موسى مكلما معهودا عند نزول هذه الآية.

10. كذا في قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾:

أ. قيل المراد به محمد صلّى الله عليه وآله وسلم لأن الله رفع درجته في تفضيله على جميع الرسل ببعثته إلى كافة الخلق كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾، وبجعله رحمة للعالمين كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾،وبجعله خاتما للنبوة كما قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾، وبإيتائه قرآنا مهيمنا على جميع الكتب وتبيانا لكل شيء ومحفوظا من تحريف المبطلين، ومعجزا باقيا ببقاء الدنيا كما قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾، وقال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾، وباختصاصه بدين قيم يقوم على جميع مصالح الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ﴾

ب. وقيل المراد به ما رفع الله من درجة غير واحد من الأنبياء كما يدل عليه قوله تعالى في نوح عليه السلام: ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾، وقوله تعالى في إبراهيم عليه السلام: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾، وقوله تعالى فيه‏ ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾، وقوله تعالى في إدريس عليه السلام: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾، وقوله تعالى في يوسف ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾، وقوله في داوود عليه السلام: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾، إلى غير ذلك من مختصات الأنبياء.

11. وكذا اختلفوا:

أ. قيل: إن المراد بالرسل في الآية هم الذين اختصوا بالذكر في سورة البقرة كإبراهيم وموسى وعيسى وعزير وأرميا وشموئيل وداوود ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكر موسى وعيسى من بينهم وبقي الباقون، فالبعض المرفوع الدرجة هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلم بالنسبة إلى الباقين.

ب. وقيل: لما كان المراد بالرسل في الآية هم الذين ذكرهم الله قبيل الآية في القصة وهم موسى وداوود وشموئيل ومحمد، وقد ذكر ما اختص به موسى من التكليم ثم ذكر رفع الدرجات وليس له إلا محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، ويمكن أن يوجه التصريح باسم عيسى على هذا القول: بأن يقال: إن الوجه فيه عدم سبق ذكره عليه السلام فيمن ذكر من الأنبياء في هذه الآيات.

12. الذي ينبغي أن يقال: إنه لا شك أن ما رفع الله به درجة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مقصود في الآية غير أنه لا وجه لتخصيص الآية به، ولا بمن ذكر في هذه الآيات أعني أرميا وشموئيل وداوود ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، ولا بمن ذكر في هذه السورة من الأنبياء فإن كل ذلك تحكم من غير وجه ظاهر، بل الظاهر من إطلاق الآية شمول الرسل لجميع الرسل عليه السلام وشمول البعض في قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾، لكل من أنعم الله عليه منهم برفع الدرجة.

13. ما قيل: إن الأسلوب يقتضي كون المراد به محمد صلّى الله عليه وآله وسلم لأن السياق في بيان العبرة للأمم التي تقتتل بعد رسلهم مع كون دينهم دينا واحدا، والموجود منهم اليهود والنصارى والمسلمون فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر، وقد ذكر منهم موسى وعيسى بالتفصيل في الآية، فتعين أن يكون البعض الباقي محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم فيه: أن القرآن يقضي بكون جميع الرسل رسلا إلى جميع الناس، قال تعالى: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾، فإتيان الرسل جميعا بالآيات البينات كان‏ ينبغي أن يقطع دابر الفساد والقتال بين الذين بعدهم لكن اختلفوا بغيا بينهم فكان ذلك أصلا يتفرع عليه القتال فأمر الله تعالى به حين تقتضيه المصلحة ليحق الحق بكلماته ويقطع دابر المبطلين، فالعموم وجيه في الآية.

14. قوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾، يدل على وقوع التكليم منه لبعض الناس في الجملة أي أنه يدل على وقوع أمر حقيقي من غير مجاز وتمثيل وقد سماه الله في كتابه بالكلام، سواء كان هذا الإطلاق إطلاقا حقيقيا أو إطلاقا مجازيا، فالبحث في المقام من جهتين:

أ. الجهة الأولى: أن كلامه تعالى يدل على أن ما خص الله تعالى به أنبياءه ورسله من النعم التي تخفى على إدراك غيرهم من الناس مثل الوحي والتكليم ونزول الروح والملائكة ومشاهدة الآيات الإلهية الكبرى، أو أخبرهم به كالملك والشيطان واللوح والقلم وسائر الآيات الخفية على حواس الناس، كل ذلك أمور حقيقية واقعية من غير مجاز في دعاويهم مثل أن يسموا القوى العقلية الداعية إلى الخير ملائكة، وما تلقيه هذه القوى إلى إدراك الإنسان بالوحي، والمرتبة العالية من هذه القوى وهي التي تترشح منها الأفكار الطاهرة المصلحة للاجتماع الإنساني بروح القدس والروح الأمين، والقوى الشهوية والغضبية النفسانية الداعية إلى الشر والفساد بالشياطين والجن، والأفكار الرديئة المفسدة للاجتماع الصالح أو الموقعة لسيئ العمل بالوسوسة والنزعة، وهكذا، فإن الآيات القرآنية وكذا ما نقل إلينا من بيانات الأنبياء الماضين ظاهرة في كونهم لم يريدوا بها المجاز والتمثيل، بحيث لا يشك فيه إلا مكابر متعسف ولا كلام لنا معه، ولو جاز حمل هذه البيانات إلى أمثال هذه التجوزات جاز تأويل جميع ما أخبروا به من الحقائق الإلهية من غير استثناء إلى المادية المحضة النافية لكل ما وراء المادة، وقد مر بعض الكلام في المقام في بحث الإعجاز، ففي مورد التكليم الإلهي لا محالة أمر حقيقي متحقق يترتب عليه من الآثار ما يترتب على التكلمات الموجودة فيما بيننا.

ب. الجهة الثانية: وهي البحث من جهة كيفية الاستعمال، فقد عرفت أن مفردات اللغة إنما انتقل الإنسان إلى معانيها ووضع الألفاظ بحذائها واستعملها فيها في المحسوسات من الأمور الجسمانية ابتداء ثم انتقل تدريجا إلى المعنويات، وهذا وإن أوجب كون استعمال اللفظ الموضوع للمعنى المحسوس في المعنى المعقول استعمالا مجازيا ابتداء لكنه سيعود حقيقة بعد استقرار الاستعمال وحصول التبادر.

15. توضيح الجهة الأولى هو أنه سبحانه عبر عن بعض أفعاله بالكلام والتكليم كقوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾، وقوله: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ الآية، وقد فسر تعالى هذا الإطلاق المبهم الذي في هاتين الآيتين وما يشبههما بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ﴾، فإن الاستثناء في قوله تعالى: ﴿إِلَّا وَحْيًا﴾ الآية، لا يتم إلا إذا كان التكليم المدلول عليه بقوله تعالى: ﴿أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ﴾، تكليما حقيقة، فتكليم الله تعالى للبشر تكليم لكن بنحو خاص، فحد أصل التكليم حقيقة غير منفي عنه.

16. الذي عندنا من حقيقة الكلام: هو أن الإنسان لمكان احتياجه إلى الاجتماع والمدنية يحتاج بالفطرة إلى جميع ما يحتاج إليه هذا الاجتماع التعاوني، ومنها التكلم وقد ألجأت الفطرة الإنسان أن يسلك إلى الدلالة على الضمير من طريق الصوت المعتمد على مخارج الحروف من الفم، ويجعل الأصوات المؤلفة والمختلطة أمارات دالة على المعاني المكنونة في الضمير التي لا طريق إليها إلا من جهة العلائم الاعتبارية الوضعية، فالإنسان محتاج إلى التكلم من جهة أنه لا طريق له إلى التفهيم والتفهم إلا جعل الألفاظ والأصوات المؤتلفة علائم جعلية وأمارات وضعية، ولذلك كانت اللغات في وسعتها دائرة مدار الاحتياجات الموجودة، أعني: الاحتياجات التي تنبه لها الإنسان في حياته الحاضرة، ولذلك أيضا كانت اللغات لا تزال تزيد وتتسع بحسب تقدم الاجتماع في صراطه، وتكثر الحوائج الإنسانية في حياته الاجتماعية.

17. من هنا يظهر: أن الكلام أعني تفهيم ما في الضمير بالأصوات المؤتلفة الدالة عليه بالوضع والاعتبار إنما يتم في الإنسان وهو واقع في ظرف الاجتماع، وربما لحق به بعض أنواع الحيوان مما لنوعه نحو اجتماع وله شيء من جنس الصوت، (على ما نحسب) وأما الإنسان في غير ظرف الاجتماع التعاوني فلا تحقق للكلام معه، فلو كان ثم إنسان واحد من غير أي اجتماع فرض لم تمس الحاجة إلى التكلم قطعا لعدم مساس الحاجة إلى التفهيم والتفهم، وكذلك غير الإنسان مما لا يحتاج في وجوده إلى التعاون الاجتماعي والحياة المدنية كالملك والشيطان مثلا.

18. فالكلام لا يصدر منه تعالى على حد ما يصدر الكلام منا أعني بنحو خروج الصوت من الحنجرة واعتماده على مقاطع النفس من الفم المنضمة إليه، الدلالة الاعتبارية الوضعية، فإنه تعالى أجل شأنا وأنزه ساحة أن يتجهز بالتجهيزات الجسمانية، أو يستكمل بالدعاوي الوهمية الاعتبارية وقد قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، لكنه سبحانه فيما مر من قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾، يثبت لشأنه وفعله المذكور حقيقة التكليم وإن نفي عنه المعنى العادي المعهود بين الناس، فالكلام بحده الاعتباري المعهود مسلوب عن الكلام الإلهي لكنه بخواصه وآثاره ثابت له، ومع بقاء الأثر والغاية يبقى المحدود في الأمور الاعتبارية الدائرة في اجتماع الإنسان نظير الذرع والميزان والمكيال والسراج والسلاح ونحو ذلك، وقد تقدم بيانه.

19. فقد: ظهر أن ما يكشف به الله سبحانه عن معنى مقصود إفهامه للنبي كلام حقيقة، وهو سبحانه وإن بين لنا إجمالا أنه كلام حقيقة على غير الصفة التي نعدها من الكلام الذي نستعمله، لكنه تعالى لم يبين لنا ولا نحن تنبهنا من كلامه أن هذا الذي يسميه كلاما يكلم به أنبياءه ما حقيقته؟ وكيف يتحقق؟ غير أنه على أي حال لا يسلب عنه خواص الكلام المعهود عندنا ويثبت عليه آثاره وهي تفهيم المعاني المقصودة وإلقاؤها في ذهن السامع.

20. على هذا فالكلام منه تعالى كالإحياء والإماتة والرزق والهداية والتوبة وغيرها فعل من أفعاله تعالى يحتاج في تحققه إلى تمامية الذات قبله لا كمثل العلم والقدرة والحياة مما لا تمام للذات الواجبة بدونه من الصفات التي هي عين الذات، كيف ولا فرق بينه وبين سائر أفعاله التي تصدر عنه بعد فرض تمام الذات! وربما قبل الانطباق على الزمان قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي﴾، وقال: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾، وقال: ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾، وقال: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾، وقال: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾، وقال: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾، فالآيات كما ترى تفيد زمانية الكلام كما تفيد زمانية غيره من الأفعال كالخلق والإماتة والإحياء والرزق والهداية والتوبة على حد سواء.

21. هذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى، والبحث التفسيري المقصور على الآيات القرآنية في معنى الكلام، أما ما يقتضيه البحث الكلامي على ما اشتغل به السلف من المتكلمين أو البحث الفلسفي فسيأتيك نبأه.

22. الكلام أو التكليم مما لم يستعلمه تعالى في غير مورد الإنسان، نعم الكلمة أو الكلمات قد استعملت في غير مورده، قال تعالى: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾، أريد به نفس الإنسان، وقال تعالى: ﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾، وقال: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾، وقال: ﴿مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾، وقد أريد بها القضاء أو نوع من الخلق على ما سيجيء الإشارة إليه.

23. أما لفظ القول فقد عم في كلامه تعالى الإنسان وغيره فقال تعالى في مورد الإنسان ﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ﴾، وقال تعالى في مورد الملائكة ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، وقال: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ﴾، وقال في مورد إبليس‏: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾، وقال في غير مورد أولي العقل: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾، وقال: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾، وقال: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾، ويجمع الجميع على كثرة مواردها وتشتتها قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، وقوله: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾

24. الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى (حيث يستعمل القول في الموارد المذكورة مما له سمع وإدراك بالمعنى المعهود عندنا كالإنسان مثلا، ومما سبيله التكوين وليس له سمع وإدراك بالمعنى المعهود عندنا كالأرض والسماء، وحيث إن الآيتين الأخيرتين بمنزلة التفسير لما يتقدمهما من الآيات) أن القول منه تعالى إيجاد أمر يدل على المعنى المقصود:

أ. فأما في التكوينيات فنفس الشيء الذي أوجده تعالى وخلقه هو شيء مخلوق‏ موجود، وهو بعينه قول له تعالى لدلالته بوجوده على خصوص إرادته سبحانه فإن من المعلوم أنه إذا أراد شيئا فقال له كن فكان ليس هناك لفظ متوسط بينه تعالى وبين الشيء، وليس هناك غير نفس وجود الشيء، فهو بعينه مخلوق وهو بعينه قوله، كن، فقوله في التكوينيات نفس الفعل وهو الإيجاد وهو الوجود وهو نفس الشيء.

ب. وأما في غير التكوينيات كمورد الإنسان مثلا فبإيجاده تعالى أمرا يوجب علما باطنيا في الإنسان بأن كذا كذا، وذلك إما بإيجاد صوت عند جسم من الأجسام، أو بنحو آخر لا ندركه، أو لا ندرك كيفية تأثيره في نفس النبي بحيث يوجد معه علم في نفسه بأن كذا كذا على حد ما مر في الكلام.

25. كذلك القول في قوله تعالى للملائكة أو الشيطان، لكن يختص هذان النوعان وما شابههما لو كان لهما شبيه بخصوصية، وهي أن الكلام والقول المعهود فيما بيننا إنما هو باستخدام الصوت أو الإشارة بضميمة الاعتبار الوضعي الذي يستوجبه فينا فطرتنا الحيوانية الاجتماعية، ومن المعلوم (على ما يعطيه كلامه تعالى) أن الملك والشيطان ليس وجودهما من سنخ وجودنا الحيواني الاجتماعي وليس في وجودهما هذا التكامل التدريجي العلمي الذي يستدعي وضع الأمور الاعتبارية.

26. يظهر من ذلك: أن ليس فيما بين الملائكة ولا فيما بين الشياطين هذا النوع من التفهيم والتفهم الذهني المستخدم فيه الاعتبار اللغوي والأصوات المؤلفة الموضوعة للمعاني، وعلى هذا فلا يكون تحقق القول فيما بينهم أنفسهم نظير تحققه فيما بيننا أفراد الإنسان بصدور صوت مؤلف تأليفا لفظيا وضعيا من فم مشقوق ينضم إليه أعضاء فعالة للصوت من واحد، والتأثر من ذلك بإحساس أذن مشقوق ينضم إليها أعضاء آخذة للصوت المقروع من واحد آخر وهو ظاهر، لكن حقيقة القول موجودة فيما بين نوعيهما بحيث يترتب عليه أثر القول وخاصته وهو فهم المعنى المقصود وإدراكه فبين الملائكة أو الشياطين قول لا كنحو قولنا، وكذا بين الله سبحانه وبينهم قول لا بنحو إيجاد الصوت واللفظ الموضوع وإسماعه لهم كما سمعت.

27. وكذلك القول في ما ينسب إلى نوع الحيوانات العجم من القول في القرآن الكريم كقوله تعالى: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾، وقال: ﴿فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾، وكذا ما يذكر فيه من قول الله تعالى ووحيه إليهم كقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾

28. هناك ألفاظ أخر ربما استعمل في معنى القول والكلام أو ما يقرب من معناهما كالوحي، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى الذين من قبلك﴾، والإلهام، قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾، قال تعالى: ﴿قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾، والقص، قال تعالى: ﴿يَقُصُّ الْحَقَّ﴾، والقول في جميع هذه الألفاظ من حيث حقيقة المعنى هو الذي قلناه في أول الكلام من لزوم تحقق أمر حقيقي معه يترتب عليه أثر القول وخاصته سواء علمنا بحقيقة هذا الأمر الحقيقي المتحقق بالضرورة أو لم نعلم بحقيقته تفصيلا، وفي الوحي خاصة كلام سيأتي التعرض له في سورة الشورى إن شاء الله.

29. أما اختصاص بعض الموارد ببعض هذه الألفاظ مع كون المعنى المشترك المذكور موجودا في الجميع كتسمية بعضها كلاما وبعضها قولا وبعضها وحيا مثلا لا غير فهو يدور مدار ظهور انطباق العناية اللفظية على المورد، فالقول يسمى كلاما نظرا إلى السبب الذي يفيد وقوع المعنى في الذهن ولذلك سمي هذا الفعل الإلهي في مورد بيان تفضيل الأنبياء وتشريفهم كلاما لأن العناية هناك إنما هو بالمخاطبة والتكليم، ويسمى قولا بالنظر إلى المعنى المقصود إلقاؤه وتفهيمه ولذلك سمي هذا الأمر الإلهي في مورد القضاء والقدر والحكم والتشريع ونحو ذلك قولا كقوله تعالى: ﴿قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ﴾، ويسمى وحيا بعناية كونه خفيا عن غير الأنبياء ولذلك عبر في موردهم عليه السلام بالوحي كقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا﴾ إلى الذين من قبلك.

30. الجهة الثانية: وهي البحث من جهة كيفية الاستعمال فقد عرفت أن مفردات اللغة إنما انتقل الإنسان إلى معانيها ووضع الألفاظ بحذائها واستعملها فيها في المحسوسات من الأمور الجسمانية ابتداء ثم انتقل تدريجا إلى المعنويات، وهذا وإن أوجب كون استعمال اللفظ الموضوع للمعنى المحسوس في المعنى المعقول استعمالا مجازيا ابتداء لكنه سيعود حقيقة بعد استقرار الاستعمال وحصول التبادر، وكذلك ترقي الاجتماع وتقدم‏ الإنسان في المدنية والحضارة يوجب التغير في الوسائل التي ترفع حاجته الحيوية، والتبدل فيها دائما مع بقاء الأسماء فالأسماء لا تزال تتبدل مصاديق معانيها مع بقاء الأغراض المرتبة، وذلك كما أن السراج في أول ما تنبه الإنسان لإمكان رفع بعض الحوائج به كان مثلا شيئا من الدهن أو الدهنيات مع فتيله متصلة بها في ظرف يحفظها فكانت تشتعل الفتيلة للاستضاءة بالليل، فركبته الصناعة على هذه الهيئة أولا وسماه الإنسان بالسراج، ثم لم يزل يتحول طورا بعد طور، ويركب طبقا عن طبق، حتى انتهت إلى هذه السرج الكهربائية التي لا يوجد فيها ومعها شيء من أجزاء السراج المصنوع أولا، الموضوع بحذائه لفظ السراج من دهن وفتيلة وقصعة خزفية أو فلزية، ومع ذلك نحن نطلق لفظ السراج عليها وعلى سائر أقسام السراج على حد سواء، ومن غير عناية، وليس ذلك إلا أن الغاية والغرض من السراج أعني الأثر المقصود منه المترتب على المصنوع أولا يترتب بعينه على المصنوع أخيرا من غير تفاوت، وهو الاستضاءة، ونحن لا نقصد شيئا من وسائل الحياة ولا نعرفها إلا بغايتها في الحياة وأثرها المترتب، فحقيقة السراج ما يستضاء بضوئه بالليل، ومع بقاء هذه الخاصة والأثر يبقى حقيقة السراج ويبقى اسم السراج على حقيقة معناه من غير تغير وتبدل، وإن تغير الشكل أحيانا أو الكيفية أو الكمية أو أصل أجزاء الذات كما عرفت في المثال، وعلى هذا فالملاك في بقاء المعنى الحقيقي وعدم بقائه بقاء الأثر المطلوب من الشيء على ما كان من غير تغير، وقلما يوجد اليوم في الأمور المصنوعة ووسائل الحياة ـ وهي ألوف وألوف ـ شيء لم يتغير ذاته عما حدث عليه أولا، غير أن بقاء الأثر والخاصة أبقى لكل واحد منها اسمه الأول الذي وضع له، وفي اللغات شيء كثير من القسم الأول وهو اللفظ المنقول من معنى محسوس إلى معنى معقول يعثر عليه المتتبع البصير، فقد تحصل أن استعمال الكلام والقول فيما مر مع فرض بقاء الأثر والخاصة استعمال حقيقي لا مجازي.

31. ظهر من جميع ما بيناه: أن إطلاق الكلام والقول في مورده تعالى يحكي عن أمر حقيقي واقعي، وأنه من مراتب المعنى الحقيقي لهاتين اللفظتين وإن اختلف من حيث المصداق مع ما عندنا من مصداق الكلام، كما أن سائر الألفاظ المشتركة الاستعمال بيننا وبينه تعالى كالحياة والعلم والإرادة والإعطاء كذلك.

32. القول في معنى رفع الدرجات من قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾، من حيث اشتماله على أمر حقيقي واقعي غير اعتباري كالقول في معنى الكلام بعينه فقد توهم أكثر الباحثين في المعارف الدينية: أن ما اشتملت عليه هذه البيانات أمور اعتبارية ومعاني وهمية نظير ما يوجد بيننا معاشر أهل الاجتماع من الإنسان من مقامات الرئاسة والزعامة والفضيلة والتقدم والتصدر ونحو ذلك، فلزمهم أن يجعلوا ما يرتبط بها من الحقائق كمقامات الآخرة من جنة ونار وسؤال وغير ذلك مرتبطة مترتبة نظير ترتب الآثار الخارجية على هذه المقامات الاجتماعية الاعتبارية، أي أن الرابطة بين المقامات المعنوية المذكورة وبين النتائج المرتبة عليها رابطة الاعتبار والوضع، ولزمهم ـ اضطرارا ـ كون جاعل هذه الروابط وهو الله تعالى وتقدس، محكوما بالآراء الاعتبارية ومبعوثا عن الشعور الوهمي كالإنسان الواقع في عالم المادة، والنازل في منزل الحركة والاستكمال، ولذلك تراهم يستنكفون عن القول باختصاص المقربين من أنبيائه وأوليائه بالكمالات الحقيقية المعنوية التي تثبتها لهم ظواهر الكتاب والسنة إلا أن تنسلخ عن حقيقتها وترجع إلى نحو من الاعتباريات.

33. ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾، رجوع إلى أصل السياق وهو التكلم دون الغيبة كما مر، والوجه في التصريح باسم عيسى مع عدم ذكر غيره من الرسل في الآية: أن ما ذكره له عليه السلام من جهات التفضيل وهو إيتاء البينات، والتأييد بروح القدس مشترك بين الرسل جميعا ليس مما يختص ببعضهم دون بعض، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾، وقال: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا﴾، لكنهما في عيسى بنحو خاص فجميع آياته كإحياء الموتى وخلق الطير بالنفخ وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار عن المغيبات كانت أمورا متكئة على الحياة مترشحة عن الروح، فلذلك نسبها إلى عيسى عليه السلام وصرح باسمه إذ لولا التصريح لم يدل على كونه فضيلة خاصة كما لو قيل: وآتينا بعضهم البينات وأيدناه بروح القدس، إذ البينات وروح القدس كما عرفت مشتركة غير مختصة، فلا يستقيم نسبتها إلى البعض بالاختصاص إلا مع التصريح باسمه ليعلم أنها فيه بنحو خاص غير مشترك تقريبا، على أن في اسم عيسى عليه السلام خاصة أخرى وآية بينة وهي‏ أنه ابن مريم لا أب له، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، فمجموع الابن والأم آية بينة إلهية وفضيلة اختصاصية أخرى.

34. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾، العدول إلى الغيبة ثانيا لأن المقام مقام إظهار أن المشية والإرادة الربانية غير مغلوبة، والقدرة غير باطلة، فجميع الحوادث على طرفي إثباتها ونفيها غير خارجة عن السلطنة الإلهية، وبالجملة وصف الألوهية هي التي تنافي تقيد القدرة وتوجب إطلاق تعلقها بطرفي الإيجاب والسلب فمست حاجة المقام إلى إظهار هذه الصفة المتعالية أعني الألوهية للذكر فقيل: ولو شاء الله ما اقتتل، ولم يقل: ولو شئنا ما اقتتل، وهذا هو الوجه أيضا في قوله تعالى في ذيل الآية ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾، وهو الوجه أيضا في العدول عن الإضمار إلى الإظهار.

35. ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾، نسب الاختلاف إليهم لا إلى نفسه لأنه تعالى ذكر في مواضع من كلامه: أن الاختلاف بالإيمان والكفر وسائر المعارف الأصلية المبينة في كتب الله النازلة على أنبيائه إنما حدث بين الناس بالبغي، وحاشا أن ينتسب إليه سبحانه بغي أو ظلم.

36. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾، أي ولو شاء الله لم يؤثر الاختلاف في استدعاء القتال ولكن الله يفعل ما يريد وقد أراد أن يؤثر هذا الاختلاف في سوقه الناس إلى الاقتتال جريا على سنة الأسباب.

37. محصل معنى الآية والله العالم: أن الرسل التي أرسلوا إلى الناس عباد لله مقربون عند ربهم، مرتفع عن الناس أفقهم وهم مفضل بعضهم على بعض على ما لهم من الأصل الواحد والمقام المشترك، فهذا حال الرسل وقد أتوا للناس بآيات بينات أظهروا بها الحق كل الإظهار وبينوا طريق الهداية أتم البيان، وكان لازمه أن لا ينساق الناس بعدهم إلا إلى الوحدة والألفة والمحبة في دين الله من غير اختلاف وقتال لكن كان هناك سبب آخر أعقم هذا السبب، وهو الاختلاف عن بغي منهم وانشعابهم إلى مؤمن وكافر، ثم التفرق بعد ذلك في سائر شئون الحياة والسعادة، ولو شاء الله لأعقم هذا السبب أعني الاختلاف فلم يوجب الاقتتال وما اقتتلوا، ولكن لم يشأ وأجرى هذا السبب كسائر الأسباب والعلل على سنة الأسباب التي أرادها الله في عالم الصنع والإيجاد، والله يفعل ما يريد.

38. في الكافي، عن الباقر عليه السلام: في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا﴾ الآية، في هذا ما يستدل به على أن أصحاب محمد ـ قد اختلفوا من بعده فمنهم من آمن ـ ومنهم من كفر، وفي تفسير العياشي، عن أصبغ بن نباتة، قال كنت واقفا مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يوم الجمل ـ فجاء رجل حتى وقف بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين ـ كبر القوم وكبرنا، وهلل القوم وهللنا، وصلى القوم وصلينا، فعلى ما نقاتلهم؟! فقال عليه السلام: على هذه الآية ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ ـ فنحن الذين من بعدهم ـ ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾) فنحن الذين آمنا ـ وهم الذين كفروا فقال الرجل: كفر القوم ورب الكعبة ـ ثم حمل فقاتل حتى قتل.. روى هذه القصة المفيد والشيخ في أماليهما، والقمي في تفسيره، والرواية تدل على أنه عليه السلام أخذ الكفر في الآية بالمعنى الأعم من الكفر الخاص المصطلح الذي له أحكام خاصة في الدين، فإن النقل المستفيض وكذا التاريخ يشهدان أنه عليه السلام ما كان يعامل مع مخالفيه من أصحاب الجمل وأصحاب صفين والخوارج معاملة الكفار من غير أهل الكتاب ولا معاملة أهل الكتاب ولا معاملة أهل الردة من الدين، فليس إلا أنه عدهم كافرين على الباطن دون الظاهر، وقد كان عليه السلام يقول: أقاتلهم على التأويل دون التنزيل، وظاهر الآية يساعد هذا المعنى، فإنه يدل على أن البينات التي جاءت بها الرسل لم تنفع في رفع الاقتتال من الذين من بعدهم لمكان الاختلاف المستند إليهم أنفسهم فوقوع‏ الاختلاف مما لا تنفع فيه البينات من الرسل بل هو مما يؤدي إليه الاجتماع الإنساني الذي لا يخلو عن البغي والظلم، فالآية في مساق قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾، وقوله: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ إلى أن قال: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾، وقوله: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾، كل ذلك يدل على أن الاختلاف في الكتاب ـ وهو الاختلاف في الدين ـ بين أتباع الأنبياء بعدهم مما لا مناص عنه، وقد قال تعالى في خصوص هذه الأمة: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، وقال تعالى حكاية عن رسوله ليوم القيامة: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾، وفي مطاوي الآيات تصريحات وتلويحات بذلك.

39. أما إن ذيل هذا الاختلاف منسحب إلى زمان الصحابة بعد الرحلة فالمعتمد من التاريخ والمستفيض أو المتواتر من الأخبار يدل على أن الصحابة أنفسهم كان يعامل بعضهم مع بعض في الفتن والاختلافات الواقعة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم هذه المعاملة، من غير أن يستثنوا أنفسهم من ذلك استنادا إلى عصمة أو بشارة أو اجتهاد أو استثناء من الله ورسوله، والزائد على هذا المقدار من البحث لا يناسب وضع هذا الكتاب.

40. آثار في معنى كلام الله:

أ. في أمالي المفيد، عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لم يزل الله جل اسمه عالما بذاته ولا معلوم، ولم يزل قادرا بذاته ولا مقدور، قلت: جعلت فداك ـ فلم يزل متكلما؟ قال الكلام محدث، كان الله عز وجل وليس بمتكلم ـ ثم أحدث الكلام.

ب. وفي الاحتجاج، عن صفوان بن يحيى، قال سأل أبو قرة المحدث عن الرضا عليه السلام فقال: أخبرني ـ جعلت فداك ـ عن كلام الله لموسى فقال: الله أعلم بأي لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية ـ فأخذ أبو قرة بلسانه فقال: إنما أسألك عن هذا اللسان ـ فقال أبو الحسن عليه السلام: سبحان الله عما تقول ومعاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلمون ولكنه سبحانه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11] ولا كمثله قائل فاعل، قال كيف؟ قال: كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق، لمخلوق ـ ولا يلفظ بشق فم ولسان، ولكن يقول له كن فكان، بمشيته ما خاطب به موسى من الأمر والنهي ـ من غير تردد في نفس ـ الخبر ـ

ج. وفي نهج البلاغة، في خطبة له عليه السلام: متكلم لا بروية، مريد لا بهمة، الخطبة.

د. وفي النهج، أيضا في خطبة له عليه السلام: الذي كلم موسى تكليما، وأراه من آياته عظيما، بلا جوارح ولا أدوات ولا نطق ولا لهوات، الخطبة.

41. الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت في هذا المعنى كثيرة، وهي مطبقة على أن كلامه تعالى الذي يسميه الكتاب والسنة كلاما صفة فعل لا صفة ذات.

42. ذكر الحكماء: أن ما يسمى عند الناس قولا وكلاما وهو نقل الإنسان المتكلم ما في ذهنه من المعنى بواسطة أصوات مؤلفة موضوعة لمعنى فإذا قرع سمع المخاطب أو السامع نقل المعنى الموضوع له الذي في ذهن المتكلم إلى ذهن المخاطب أو السامع، فحصل بذلك الغرض منه وهو التفهيم والتفهم، قالوا: وحقيقة الكلام متقومة بما يدل على معنى خفي مضمر، وأما بقية الخصوصيات ككونه بالصوت الحادث في صدر الإنسان ومروره من طريق الحنجرة واعتماده على مقاطع الفم وكونه بحيث يقبل أن يقع مسموعا لا أزيد عددا أو أقل مما ركبت عليه أسماعنا فهذه خصوصيات تابعة للمصاديق وليست بدخيلة في حقيقة المعنى الذي يتقوم بها الكلام.

43. فالكلام اللفظي الموضوع الدال على ما في الضمير كلام، وكذا الإشارة الوافية لإراءة المعنى كلام كما أن إشارتك بيدك: أن اقعد أو تعال ونحو ذلك أمر وقول، وكذا الوجودات الخارجية لما كانت معلولة لعللها، ووجود المعلول لمسانخته وجود علته وكونه رابطا متنزلا له يحكي بوجوده وجود علته، ويدل بذاته على خصوصيات ذات علته الكاملة في نفسها لولا دلالة المعلول عليها، فكل معلول بخصوصيات وجوده كلام لعلته تتكلم به عن نفسها وكمالاتها، ومجموع تلك الخصوصيات بطور اللف كلمة من كلمات علته، فكل واحد من الموجودات بما أن وجوده مثال لكمال علته الفياضة.

44. وكل مجموع منها، ومجموع العالم الإمكاني كلام الله سبحانه يتكلم به فيظهر المكنون من كمال أسمائه وصفاته، فكما أنه تعالى خالق للعالم والعالم مخلوقه كذلك هو تعالى متكلم بالعالم مظهر به خبايا الأسماء والصفات والعالم كلامه.

45. بل الدقة في معنى الدلالة على المعنى يوجب القول بكون الذات بنفسه دالا على نفسه فإن الدلالة بالآخرة شأن وجودي ليس ولا يكون لشيء بنحو الأصالة إلا لله وبالله سبحانه، فكل شيء دلالته على بارئه وموجده فرع دلالة ما منه على نفسه ودلالته لله بالحقيقة، فالله سبحانه هو الدال على نفس هذا الشيء الدال، وعلى دلالته لغيره.

46. فهو سبحانه هو الدال على ذاته بذاته وهو الدال على جميع مصنوعاته فيصدق على مرتبة الذات الكلام كما يصدق على مرتبة الفعل الكلام بالتقريب المتقدم، فقد تحصل بهذا البيان أن من الكلام ما هو صفة الذات وهو الذات من حيث دلالته على الذات، ومنه ما هو صفة الفعل، وهو الخلق والإيجاد من حيث دلالة الموجود على ما عند موجده من الكمال.

47. ما نقلنا عنهم على تقدير صحته لا يساعد عليه اللفظ اللغوي، فإن الذي أثبته الكتاب والسنة هو أمثال قوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾، وقوله تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى﴾، وقوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾، وقوله: ﴿نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾، ومن المعلوم أن الكلام والقول بمعنى عين الذات لا ينطبق على شيء من هذه الموارد.

48. بحث الكلام من أقدم الأبحاث العلمية التي اشتغلت به الباحثون من المسلمين (وبذلك سمي علم الكلام به) وهي أن كلام الله سبحانه هل هو قديم أو حادث:

أ. ذهبت الأشاعرة إلى القدم غير أنهم فسروا الكلام بأن المراد بالكلام هو المعاني الذهنية التي يدل عليه الكلام اللفظي، وتلك المعاني علوم الله سبحانه قائمة بذاته قديمة بقدمها، وأما الكلام اللفظي وهو الأصوات والنغمات فهي حادثة زائدة على الذات بالضرورة.

ب. وذهبت المعتزلة إلى الحدوث غير أنهم فسروا الكلام بالألفاظ الدالة على المعنى‏ التام دلالة وضعية فهذا هو الكلام عند العرف، قالوا: وأما المعاني النفسية التي تسميه الأشاعرة كلاما نفسيا فهي صور علمية وليست بالكلام، وبعبارة أخرى: إنا لا نجد في نفوسنا عند التكلم بكلام غير المفاهيم الذهنية التي هي صور علمية فإن أريد بالكلام النفسي ذلك كان علما لا كلاما، وإن أريد به أمر آخر وراء الصورة العلمية فإنا لا نجد وراءها شيئا بالوجدان هذا، وربما أمكن أن يورد عليه بجواز أن يكون شيء واحد بجهتين أو باعتبارين مصداقا لصفتين أو أزيد وهو ظاهر، فلم لا يجوز أن تكون الصورة الذهنية علما من جهة كونه انكشافا للواقع، وكلاما من جهة كونه علما يمكن إفاضته للغير؟.

49. الذي يحسم مادة هذا النزاع من أصله أن وصف العلم في الله سبحانه بأي معنى أخذناه أي سواء أخذ علما تفصيليا بالذات وإجماليا بالغير، أو أخذ علما تفصيليا بالذات وبالغير في مقام الذات، وهذان المعنيان من العلم الذي هو عين الذات، أو أخذ علما تفصيليا قبل الإيجاد بعد الذات أو أخذ علما تفصيليا بعد الإيجاد وبعد الذات جميعا، فالعلم الواجبي على جميع تصاويره علم حضوري غير حصولي، والذي ذكروه وتنازعوا عليه إنما هو من قبيل العلم الحصولي الذي يرجع إلى وجود مفاهيم ذهنية مأخوذة من الخارج بحيث لا يترتب عليها آثارها الخارجية فقد أقمنا البرهان في محله: أن المفاهيم والماهيات لا تتحقق إلا في ذهن الإنسان أو ما قاربه جنسا من أنواع الحيوان التي تعمل الأعمال الحيوية بالحواس الظاهرة والإحساسات الباطنة.

50. بالجملة فالله سبحانه أجل من أن يكون له ذهن يذهن به المفاهيم والماهيات الاعتبارية مما لا ملاك لتحقيقه إلا الوهم فقط نظير مفهوم العدم والمفاهيم الاعتبارية في ظرف الاجتماع، ولو كان كذلك لكان ذاته المقدسة محلا للتركيب، ومعرضا لحدوث الحوادث، وكلامه محتملا للصدق والكذب إلى غير ذلك من وجوه الفساد تعالى عنها وتقدس، وأما معنى علمه بهذه المفاهيم الواقعة تحت الألفاظ فسيجيء إن شاء الله بيانه في موضع يليق به‏.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/309.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ تلك إشارة إلى الرسل الذين قد ذكرهم فيما مرَّ، وهم: محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وعيسى، وموسى، وإبراهيم، وداوود، وسليمان، والتفضيل من الله زيادة خير لبعضهم على بعض كزيادة العلم، وعموم رسالة إبراهيم وجعله إماماً للعالمين واتخاذه خليلاً.

2. ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ فقد ﴿كَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء:164] وفي الكلام خلاف؛ فالحنابلة وغيرهم يجعلونه صفة، والأشاعرة يثبتون كلاماً نفسياً ويجعلونه صفة، وقيل بل كلام الله مخلوق من جملة أفعاله، ولا إشكال أن كلام الله في علمه أنشأه بلا رويّة ولا تفكر، وأوحاه إلى رسله وأنبيائه وكلم به موسى، كما لا شك في قدرته على الكلام وأنه يقول ولا يلفظ، فليس قوله يكون بآلة كآلة المخلوق التي هي اللسان وما إليه؛ بل يقول سبحانه بدون آلة كما يفعل بدون آلة، وقوله كلام مؤلف من الحروف والكلمات المرتبة التي يتقدم بعضها على بعض ويتأخر بعضها عن بعض، فهو محدث بلا إشكال، فأما تسميته مخلوقاً فلا ضرورة لها، وليس يوصف الكلام بالخلق إلا على معنى الكذب في لغة العرب، فالتعبير بأنه محدث أولى، كما لا ضرورة لجعله فعلاً من الأفعال فيوهم أنه تعالى لا يقدر على إيجاد الكلام بقدرة القول، أي لا يقدر على أن يقول وإنما يقدر على أن يخلق أعني لا نتوهم أنه لا يقدر على القول إلا من حيث قدرته على الخلق، وأنها لا تتعلق قدرته بالقول من حيث هو قول، وهذا أمر اعتباري والخلاف فيه لفظي، و الأولى في التعبير أن نقول: هو تعالى قادر على القول كما هو قادر على الفعل وإن كانت القدرة واحدة.

3. ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ مع تفضيله لأن الفضل يصدق بزيادة درجة واحدة فبين تعالى أنه فضل بعضهم ورفعه في الفضل درجات.

4. ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ الآيات الواضحات الدلالة على أنه رسول من الله إلى بني إسرائيل ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ قويناه ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ بجبريل عليه السلام و﴿الْقُدُسِ﴾ البعد من القبائح، وجبريل عليه السلام هو الروح الأمين؛ سماه الله روحاً، فقال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ [الشعراء:193] وقال تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ﴾ [النحل:102] وأضيف إلى القدس كما تقول: حاتم الجود؛ إضافة الموصوف إلى الصفة، ولعله سمي روحاً؛ لأنه حياة للدين كما سمي القرآن روحاً؛ لأنه حياة للإيمان في القلوب.

5. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ من بعد الرسل السابق ذكرهم ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ مع عيسى وموسى وإبراهيم وغيرهم ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾ فليس الخلاف لالتباس الحق أو خفائه، وإنما هو للهوى المؤدي إلى الكفر.

6. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ لأنه عزيز حكيم، فهو مع تخليته للكفار وتمكينهم للابتلاء، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ [محمد: 4] [محمد:4] وقال تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران:141] ينصر من ينصره ويعز جنده ويدافع الكفار بالمؤمنين، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دِفَاع اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾.

7. قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ ثم قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ لعل الأولى إشارة إلى أنه قادر على جعلهم أمة واحدة لا يختلفون، ولكن اقتضت حكمته تمكينهم وتخليتهم فاختلفوا، و الثانية إشارة إلى أنهم حين اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم كفر، هو قادر على إهلاك الكافرين دون أن يحتاج المؤمنون إلى قتالهم؛ ولكن اقتضت حكمته الابتلاء للفريقين بالتخلية والتمكين للكفار والمؤمنين والأمر للمؤمنين بقتال الكفار، فنظير الأولى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [المائدة:48] ونظير الثانية قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ﴾ [محمد:4]

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/375.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سؤال وإشكال: في الآية حديث عن تفضيل الله لبعض الرسل على بعض، وحديث عن اختلاف أممهم من بعدهم واقتتالهم، فكيف نفهم ذلك؟ والجواب: أما التفضيل، فقد يخطر في البال، أن المراد به تفضيل القيمة، لما توحي به الكلمة من الأفضليّة، ولكن التدبّر في الآية يوحي أنه بمعنى الميزة والخصوصية التي يمنحها الله لبعض الناس دون بعض الحكمة يراها، من دون أن تعني امتيازا ذاتيا، وهذا ما نستوحيه من الآيات التي تحدث عن تفضيل بني إسرائيل على العالمين، حيث إن البارز فيها هو تفضيل النعمة لا تفضيل القيمة، ولهذا لم يمنع لذلك من ذمّهم ولعنهم في آيات كثيرة من القرآن، وربما يؤكد ذلك، أن الله عندما فصّل التفضيل، جعل منه تكليم الله لبعضهم، وجعل منه رفعه لبعضهم درجات، الأمر الذي نستوحي منه، أن التفضيل قد يأتي بمعنى لا يفرض ارتفاع المنزلة، وبهذا نردّ على من تساءل أن فقرة ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ بمثابة تكرير لما تفيده كلمة التفضيل، فإن المعنى الذي أشرنا إليه يبتعد بالآية عن ذلك كما هو واضح، لكن ذلك لا ينفي انطلاق القيمة في التفضيل من تفاضل العناصر الذاتية الموجودة في كل واحد منهم، كما قد تكون من الألطاف الإلهية التي اختص بها الله بعضهم ببعض الامتيازات والمهمات، انطلاقا من الظروف الموضوعية المحيطة بالمرحلة الزمينة، والتحديات المتنوعة، والأوضاع الاجتماعية أو بعض القضايا الخفية التي اختص الله بعلمها، مما يفرض الحاجة إلى معجزة معينة في مجتمع ما، ومعجزة أخرى في مواجهة هذا التحدي، وصفات مميزة في هذا النبي أو ذاك تبعا للدور الذي أوكل إليه أو المهمة التي كلف بها.

2. سؤال وإشكال: كيف نوفق بين تفضيل بعض الرسل على بعض ورفع بعضهم درجات، وبين قوله تعالى: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ [البقرة: 258] التي قد يستوحي منها البعض المساواة؟ والجواب: أن تلك الآية واردة في مسألة الإيمان بالرسل، وأن الله يريد للمؤمنين أن يؤمنوا بجميع الرسل، فلا يؤمن أحدهم برسول لينكر الرسول الآخر، كما يحدث لدى اليهود الذين أنكروا رسالة عيسى عليه السّلام والنصارى الذي أنكروا رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وليست واردة في الحديث عن الخصائص النبوية في مسألة التفاصيل في المساواة أو الفضل.

3. سؤال وإشكال: لماذا تحدث القرآن عن تفضيل الرسل بعضهم على بعض ليتحدث بعد ذلك عن اختلاف أتباعهم واقتتالهم؟ والجواب: ربما يجاب عن ذلك بما أجاب به صاحب الميزان، بأن الآية في مقام دفع ما ربما يتوهم، أن الرسالة، خاصة من حيث كونها مشفوعة بالآيات البينات الدالة على حقية الرسالة، ينبغي أن يختم بها بليّة القتال:

أ. إمّا من جهة أن الله سبحانه لما أراد هداية الناس إلى سعادتهم الدنيوية والأخروية بإرسال الرسل وإيتاء البينات، كان من الحريّ أن يصرفهم عن القتال بعد ويجمع كلمتهم على الهداية، فما هذه الحروب والمشاجرات بعد الأنبياء في أممهم، وخاصة بعد انتشار دعوة الإسلام الذي يعد الاتحاد والاتفاق من أركان أحكامه وأصول قوانينه؟

ب. وإما من جهة أن إرسال الرسل وإيتاء بينات الآيات للدعوة إلى الحق لفرض الحصول على إيمان القلوب، والإيمان من الصفات القلبية التي لا توجد في القلب عنوة وقهرا، فماذا يفيده القتال بعد استقرار النبوّة؟ ويتابع السيد العلامة الطباطبائي الحديث، فيجيب عن هذا التوهم: إن الذي يجيب تعالى به: أن القتال معلول الاختلاف الذي بين الأمم، إذ لولا وجود الاختلاف لم ينجرّ أمر الجماعة إلى الاقتتال، فعلّة الاقتتال الاختلاف الحاصل بينهم، ولو شاء الله لم يوجد اختلاف فلم يكن اقتتال رأسا، ولو شاء لأعقم هذا السبب بعد وجوده، لكن الله سبحانه يفعل ما يريد، قد أراد جري الأمور على سنّة الأسباب، فوجد الاختلاف، فوجد القتال فهذا إجمال ما تفيده الآية، ويقول في سياق الحديث: وعلى هذا، فصدر الآية لبيان أن مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسل عليهم السّلام، مقام تنمو فيه الخيرات والبركات وينبع منه الكمال والسعادة ودرجات القربى والزلفى، كالتكليم الإلهي، وإيتاء البينات، والتأييد بروح القدس، وهذا المقام على ما فيه من الخير والكمال لم يوجب ارتفاع القتال لاستناده إلى اختلاف الناس أنفسهم‏.

4. هو توجيه متين، ولكن قد نستوحي من الآيات أن الله قد أرسل الرسل ليبلغوا الناس رسالات الله، التي ترجع ـ في عمق مضمونها ـ إلى رسالة واحدة وهي الإسلام لله، فلم تختلف رسالاتهم مع اختلاف خصائصهم التي يفضل بعضهم على بعض بها، سواء كانت متصلة بالذات في عناصرها المميزة أو بالدور، أو بالمعجزة، أو بالصلة المباشرة بالله أو نحلة الله له، أو بشمولية الرسالة وخاتميتها، ليكون الرسول خاتم النبيين الذي يجمع الكتاب كله والرسالة كلها في رسالته، فقد كانوا موحدين يصدق بعضهم بعضا ويبشر بعضهم ببعض، لأنهم انطلقوا من الروحية النقية الصافية المنفتحة على الله وعلى كل سننه، ومن إدراك الحاجة الإنسانية لكل رسالاتهم من خلال ارتباط مسيرة الإنسان بعضها ببعض، فإن لكل مرحلة حاجاتها وقضاياها وتحدياتها، الأمر الذي يفرض التكامل والتواصل، لتستقيم الحياة كلها في‏ الطريق الواحد الذي يصل بالإنسان إلى الله في كل مراحله المتنوعة، وقد عرّفوا الناس هذه الحقيقة الواحدة التي وحدت بينهم عندما التقى الخط عندهم على الدعوة إلى عبادة الله وحده التي تختصر كل تفاصيل الرسالات، فكان من المفروض لأتباعهم أن يستجيبوا لهم في حركة الوحدة الإنسانية على خط الرسالات التي جاء بها الرسل، وأن تكون وحدة الأتباع من خلال وحدة المتبوعين، ولكن المشكلة أن الله لم يخلق الناس على طريقة واحدة ومزاج واحد وذهنية واحدة، لأن طبيعة اختلافهم في مواقعهم ومؤثراتهم وأوضاعهم، تؤدي إلى اختلاف الأفكار، وتنوّع المصالح، وانحراف السلوك، وطغيان المنافع والمطامع، فلا تكون الرسالة هي العنوان الكبير لالتزاماتهم، بل تكون الذات هي الخلفية اللاشعورية أو الشعورية لتصرفاتهم، فيجعلون الدين وسيلة من وسائل تحقيق مآربهم، فتشتد الحساسيات وتصطدم المصالح وتضرى الأنانيات التي تطلّ بهم على ساحة القتال الذي يتحرك بضراوة، لأن ما يختلفون فيه، وهو الدين، يمثل معنى القداسة العميق في عمق الذات، مما يجعل حرارة التحرك باسمه أكثر تأثيرا من أيّ موقع أو فكر آخر، ولم يعطّل الله فيهم هذه الحالة الإنسانية المتحركة في اندفاع الغرائز الذاتية التي لا يخضع فيها الإنسان لعامل واحد، ولوجه واحد، بل يخضع لتأثيرات أكثر من عامل في أكثر من وجه، مما يدخل في تنوّع موارد الحياة ومصادرها في حركة الإنسان في داخلها وخارجها، ويحقق لها الإيجابيات الكبيرة إلى جانب السيئات، فإذا كان هذا الاختلاف سلبيا في جانب، فإن له أكثر من إيجابية في الجوانب الأخرى التي يتنوع فيها الإنسان تبعا لتنوع حاجاته ومطامعه وتطلعاته وأفكاره.

5. هكذا أراد الله للرسالات أن تنطلق من موقع الرسل الذين يبلغونها من‏ دون أن يفرضوها، لتتجه إلى مواقع الناس الذين ينطلقون في عملية الاختيار نحو الإيمان هنا، ونحو الكفر هناك، لتتطور الأمور إلى الاقتتال الذي يحاول فيه كل فريق أن تكون الساحة له من موقع القوّة الراغبة في السيطرة لمصلحة الإيمان أو لمصلحة الذات.

6. ربما حاول البعض من هؤلاء أن يجعلوا من تفضيل بعض الرسل على بعض وسيلة من وسائل الوقوف عند هذا الرسول، فلا يتعداه للإيمان بالرسول الآخر، بالإضافة إلى إيمانه به، فيثور الخلاف والنزاع الذي يعدّد الأديان ليدعي أحدهم أن دينه هو دين الحياة الأخير ويدعي الآخر الدعوى نفسها في دينه.

7. إنها إرادة الله في حركة التكوين في خضوعها للأسباب والمسببات الطبيعية التي أودعها في الكون، القائمة في الإنسان على أساس حرية الإرادة وحيوية الاختيار، في الوقت الذي كانت إرادته التشريعية تدعوه إلى أن يمتنع عن القيم السلبية ليلتزم بالقيم الإيجابية في الدين والحياة، لأن الله يريد لدينه ولشريعته ولحركة الحياة في الإنسان أن تنطلق من موقع الحرية لا من خلال الجبر، لأن المصلحة تقتضي ذلك في عمران الكون القائم على التنوع والصراع والتوازن.

8. استقرب المفسرون أن المراد بقوله تعالى: ﴿مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ موسى عليه السّلام بقرينة قوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 164] وأن المراد بقوله: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، لما ثبت من‏ تفضيله على جميع الأنبياء، وذكروا أنّ القرينة على ذلك ذكر عيسى عليه السّلام، مما يدلّ على أن الحديث كان يتركز على الأنبياء الثلاثة الذين لا يزال لهم أتباع يتقاتلون ويختلفون، ولكن هذه أمور لم يثبت الدليل عليها، لأن من الممكن أن يكون هناك ممن كلمهم الله كما يمكن أن يكون هناك ارتفاع في الدرجات لبعض الأنبياء على بعض، وليس في الآية ظهور في رفع الدرجة المطلقة على الأنبياء لينطبق ذلك على النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، الذي يملك الدرجة العليا التي تميزه عن الأنبياء في شمولية رسالته لجميع الخلق وفي جعله رحمة للعالمين وخاتم النبيين وامتداد معجزته إلى نهاية الحياة، وباليدين القيّم الذي يشمل صلاح الإنسان، في الدنيا والآخرة في انفتاح الشريعة على كل حاجاته وشؤونه وقضاياه وتطلعاته في امتداد نوعيّ وكليّ لم يسبق لنبي من قبله، فهذه هي الحقيقة البارزة في رسالته ودوره بالإضافة إلى صفاته المميزة في كل مواقع الكمال، لا سيما خلقه العظيم الذي انفتح فيه على كل الناس، ولكن إرادة هذا من الآية بالخصوص لا دليل عليه.

9. الظاهر من الآية أنها شاملة لكل الرسل ولا اختصاص لها بمن ذكر في القرآن، لأنها واردة في مورد إعطاء الفكرة العامة عن الرسل، مما لا يجعل لفريق منهم دون فريق خصوصية عن الفريق الآخر ما دامت مسألة التفضيل وارتفاع الدرجة سارية في كل مواقع الظاهرة الرسولية.

10. أما تخصيص عيسى عليه السّلام، فللتدليل على ميزته في ذاته من خلال كونه مظهرا لقدرة الله في خلقه في ما يوحي به اسمه، وللإيحاء بصفة الرسالة في شخصه من خلال البينات التي جاء بها من أجل أن يقيم الحجة على الناس في ذلك، من دون أن يكون في ذلك أيّ معنى إلهي يمكن في ذاته، بل هو منطلق من تأييد الله له بروح القدس، الذي قد يعني جبرائيل ـ فيما يفسره به البعض ـ وقد يعني اللطف الإلهي الذي يمنحه الله لعباده في ما يلهمهم إيّاه وفي ما يقدرهم عليه ويؤيدهم به من مواقف.. وتلك من ميزات عيسى عليه السّلام التي قد يشاركه فيها غيره من الأنبياء الذين أرسلهم الله بالبينات، وأنزل الملائكة بالروح عليهم وعلى غيرهم في ما حدثنا الله عنه في القرآن.

11. أفاض المفسرون وعلماء الكلام، الحديث حول كلام الله، لأن الكلام في ما يعنيه من مدلول، لا يتناسب مع الخالق، فلا بد من أن يراد به معنى آخر على نحو المجاز، ولكن الظاهر أن الكلمة واردة بمعناها الحقيقي، وهو التعبير عن المعنى باللفظ، من دون حاجة إلى صدوره من اللافظ بأدوات اللفظ المتعارفة من اللسان ونحوه، بدليل ما حدثنا الله عنه من تكلّم الأيدي يوم القيامة في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس: 65]، وفي ضوء ذلك، يكون نسبة الكلام إليه تعالى من خلال أنه يخلق أصواتا في ضمن ألفاظ بصيغة المتكلم بحيث يسمعها النبي أو غيره، ولهذا قيل بأن صفة التكلم من أفعال الله التي تتوقف على وجود الذات، وليست من صفاته التي توجد بوجود ذاته، لأنها عين ذاته، فإنه سبحانه يخلق الكلام، كما يخلق الإنسان والأرض والسماء والأشياء الأخرى، وهذا ما وردت به الأحاديث عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام:

أ. فقد جاء في أمالي المفيد عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله ـ جعفر الصادق ـ عليه السّلام يقول: لم يزل الله ـ جلّ اسمه ـ عالما بذاته ولا معلوم، ولم يزل قادرا بذاته ولا مقدور، قلت: جعلت فداك، فلم يزل‏ متكلما؟ قال: الكلام محدث، كان الله عز وجل وليس بمتكلم ثم أحدث الكلام‏.

ب. وفي الاحتجاج: عن صفوان بن يحيى قال سأل أبو قرّة المحدّث عن الرضا عليه السّلام فقال: أخبرني ـ جعلت فداك ـ عن كلام الله لموسى، فقال: الله أعلم بأي لسان كلّمه بالسريانية أم بالعبرانية، فأخذ أبو قرّة بلسانه فقال: إنما أسألك عن هذا اللسان، فقال أبو الحسن عليه السّلام: سبحان الله عما تقول ومعاذ الله أن يشبّه بخلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلمون، ولكنه ـ سبحانه ـ ليس كمثله شيء ولا كمثله قائل فاعل، قال كيف؟ قال كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق، ولا يلفظ بشق فم أو لسان، ولكن يقول له كن، فكان بمشيّته ما خاطب به موسى من الأمر والنهي من غير تردّد في نفس ـ الخبر ـ.

12. خلاصة الفكرة: أن الكلام هو التعبير عن المعنى باللفظ من دون أن يكون لوسائل التعبير وأدواته مدخل في طبيعة المدلول، فالاستعمال ـ على هذا ـ حقيقي لا مجازي.

13. سؤال وإشكال: ما هو مغزى هذا الحديث، هل هو مجرد تقرير الفكرة، أو هو تمهيد لفكرة أخرى؟ والجواب: الظاهر ـ بقرينة السياق ـ هو الثاني، فإن القضية هي حركة الرسالة في حياة الناس الذين عاشوا مع الرسل أو جاؤوا بعدهم، فاختلفوا وتقاتلوا حولهم وحول رسالتهم، في طريقة الإيمان بها، أو في أصل الإيمان بها.. فلعل الآية كانت تريد أن توحي بالتقاء الرسل على رسالة الله، باعتبارها سر شخصيتهم الرسالية، وبأن تفضيل الله لبعضهم على بعض لم يمنع من هذا اللقاء، لأن جهات التفضيل لا توجب الخلاف فيما بينهم ليختلف من بعدهم على هذا الأساس، بل هي من مميزات شخصيتهم ورسالتهم في ما تحتاج إليه من مميزات.

14. سؤال وإشكال: كيف حدث الاختلاف والتقاتل بين أمم الأنبياء ولماذا؟ والجواب: لقد قرر الله أنه كان قادرا على أن يمنع الاقتتال والاختلاف بين الأمم بالقوة القاهرة، التي تجعل من وحدة الإيمان عنصرا من العناصر الذاتية للإنسان كما هو لونه وصفات جسده الأخرى، ولكنه أراد للإنسان أن يتحرك نحو الإيمان أو الكفر بإرادته واختياره، من خلال السنّة الكونية التي أراد أن يربط فيها الأسباب بمسبباتها، مما قد يفرض الكفر إذا تحقق سببه كما يفرض الإيمان إذا تحقق سببه، الأمر الذي قد يؤدي إلى التقاتل والتنازع في الأجواء الحادّة التي تتجمع ظروفها الموضوعية في هذه الساحة أو تلك، وهذا ما جرت عليه سنة الحياة في ما سنّ الله للحياة من خطط أو قوانين، ولكن ذلك لا يعني أن الله يرضى به أو يريده في الإطار التشريعي، بل كان ينهى عنه في هذا الإطار من أجل أن يقود الإرادة الإنسانية للاختيار الأفضل من موقع القناعة الذاتية، وهذا هو معنى أن الله يفعل ما يريد، من دون أن يكون ذلك منطلقا من فكرة الجبر ومبتعدا عن فكرة الحرية والاختيار.

15. سؤال وإشكال: لماذا أقدر الله الإنسان على الشرّ وهو قادر على أن يشلّ قدرته عنه؟ والجواب: أن السرّ في ذلك، هو السرّ في خلق الإنسان على أساس الاختيار الذي قد يحصل من خلال المنفعة للإنسان أو للوجود أكثر مما يحصل له من مضرّة، وليس في ذلك أيّ قبح في فعل الله، ما دام الله ـ سبحانه ـ لا يعطي الإنسان قدرة عمياء لا تستطيع أن تعرف طريقها جيدا عند اختلاف الطرق، بل أعطاه قدرة مفتوحة الأعين على كل خير وعلى كل شرّ، واعية لكل ما حولها من خلال الفكر الذي تملكه ومن خلال الرسالات التي أرسل الله بها رسله ليوجهوا الناس إلى استخدام الإرادة الواعية المنفتحة على الحق والخير، في ما توعد الله عليه من عقاب في جانب السلب، وما وعد به من ثواب في جانب الإيجاب، ولذلك كان القرآن الكريم يكرر في أكثر من آية قوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ [هود: 101]

16. سؤال وإشكال: هل الدين أساس الحروب بين الناس؟ والجواب: ربما يثير الكثيرون من الناس أن الدين هو العنصر الحادّ السريع الاشتغال في الوجدان الإنساني لما يتضمنه من حسّ القداسة الغيبية التي تدفعه إلى التحرك من أجل إلغاء الآخر، لأن هذا الجوّ الغيبي المنفتح على الإيمان بالله يمنع الوصول إلى أيّة تسوية مع الكفر به ويجعل من الإنسان الكافر إنسانا لا يستحق الوجود، فلا بد من إزالته من الحياة ليبطل تأثيره في إضلال الناس عن خط الإيمان، لتكون مواجهته ثأرا لله وللرسول وللدين، فلا مجال للحوار معه، لأن القضية تفرض نفسها على الواقع الحيّ من خلال وضوحها الذي لا يلتقي بأيّة شبهة في احتمالات الخطأ، ليكون هناك مجال للجدل من خلالها، وبذلك يتحول المؤمن بالدين إلى شخصية عدوانية ساحقة ضد الإنسان الآخر الكافر، وإلى نار محرقة لكل وجوده، وهذا ما يجعل من الحروب الدينية أمرا طبيعيا أمام الخلافات الدينية، سواء كانت منطلقة من عمق الإيمان، أو من استغلال الشعار، ولهذا، بدأ البعض يدعو إلى إلغاء الدين من حياة الإنسانية لتستطيع الإنسانية أن تحصل على السلام، ونلاحظ على ذلك:

أ. أولا: إننا لا ننكر أن للدين تأثيرا على الوجدان الإنساني أكثر من أيّ فكر آخر، لأن القداسة التي يختزنها في مضمونه الإلهي والتي تجعل المؤمن في حالة ذوبان في الله وإخلاص عظيم له، قد تثير في النفس الكثير من المشاعر والانفعالات الحادّة التي تنطبع في السلوك العام والخاص في علاقته بنفسه أو بالآخر، ولكن، ليس معنى ذلك أن الروح الدينية تنطلق من فكرة إلغاء الآخر، بل هي، في مضمونها الرسالي، تدفع بأتباعها إلى الانفتاح على الآخر بالدعوة القائمة على الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن بالأسلوب الذي يعمل على الدخول إلى عقله وقلبه والنفاذ إلى واقع حياته، ومناقشة فكره باحترام في عملية أخذ وردّ، بالطريقة التي يملك فيها حرية المناقشة بلا حدود أمام الهدف الذي يحوّل الأعداء للرسالة والقضية والموقع والموقف إلى أصدقاء لها، وهذا هو شأن الواعين من المؤمنين الذين يعيشون الإيمان حركة دعوة منفتحة على الإنسان كله والحياة كلها من أجل هدايته وهداية الحياة في حركته ووجوده، ولكنّ الجهل والتخلف اللّذين يسيطران على بعض المجتمعات المتدينة أو الأشخاص المتدينين، هما اللذان يدفعان بالإنسان إلى مواجهة الفكر الآخر بالانفعال والحماس المضاد والأسلوب العاطفي الذي لا يفكر بعقل واتزان لأنه لا يملك العقل الذي يواجه العقل الآخر والاتزان الذي يلتقي من خلاله بالخلفيات التي تكمن في قناعات الفئات المضادّة، فلا يملك في هذا الجو شجاعة المجابهة العقلانية، فيحول الموقف إلى المجابهة العدوانية، ويمكن أن تتحرك الحرب من خلال الطرف الآخر الذي يعمل على العدوان على الموقع الديني، وذلك من خلال عملية احتلال عسكري أو سيطرة اقتصادية أو سياسية، مما يجعل القضية دفاعا عن النفس، أو وقاية من العدوان المحتمل، وذلك من خلال روحية منفتحة على القضايا الكبرى في عناوينها الحيوية التي يرى فيها المحاربون فريضة إلهيّة لا تحمل عقدة في الذات الطائفية، بل علاجا للواقع الصعب الذي يختزن الأخطار على مصير الدين والمستضعفين وعلى حرية المؤمنين في الدعوة إلى الله، وهكذا نجد أن الحرب الدينية ليست حركة عدوانية ضد الإنسان الآخر، بل هي حركة دفاعية أو وقائية من أجل المحافظة على الذات والموقع والإنسان.

ب. ثانيا: إننا لا نرى في الحديث عن مسئولية الدين عن الحرب في حياة الإنسان حديثا واقعيا دقيقا، بحيث يكون السبب الرئيسي في حركة الحرب في الواقع، فهناك الحروب العرقية والقومية والاقتصادية والسياسية التي قد تختبئ وراء الشعارات الدينية في بعض الحالات، وقد تكشف عن وجهها الحقيقي في حالات أخرى، مما يجعل من هذه الأمور أساسا للحرب الدائبة بشكل مباشر أو غير مباشر.

ج. ثالثا: إن الدين الذي ألغى الفروق العرقية والعنصرية والجغرافية، يمثل العنصر الحيوي في تجفيف منابع الحرب وإلغاء أسبابها، لأنها حرب قائمة على العصبية، وهي مرفوضة من الدين، لا سيّما في الإسلام، جملة وتفصيلا، فقد جاء في الحديث‏: من تعصب أو تعصب له، فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه‏، وعلى ضوء هذا، فإن الحروب ناشئة غالبا من انعدام الدين، لا من الدين نفسه.

د. رابعا: إن الدين قد طرح القضايا الإنسانية للطبقات المضطهدة أو المحرومة أو المستعبدة، كعناوين كبري لحركته في ساحة الصراع، مما يجعل من الحرب التي يخوضها المؤمنون حربا جهادية إنسانية لا دينية، بالمعنى المباشر التقليدي للدين وهذا ما نراه في الحرب التي يخوضها الإسلاميون في هذا العصر ضد المستكبرين والمستغلين والظالمين، بحيث نجدهم يتعاونون مع غير المسلمين من أتباع الديانات الأخرى أو التيارات الأخرى في مواقع اللقاء على طريق الأهداف المشتركة.

17. ما نستوحيه من ذلك، هو التأكيد على العاملين في الاستمرار على الخط الرسالي في الدعوة إلى الله من دون أن يقعوا في قبضة اليأس تحت تأثير الأجواء السلبية التي تواجههم في طريق العمل، عندما تواجههم الخلافات الدينية بين الأديان المتعددة، أو الخلافات المذهبية بين أبناء الدين الواحد، أو الخلافات الشخصية بين أتباع المذهب الواحد، أو غير ذلك من الأوضاع التي تدعو إلى التشنج وتقود إلى اليأس، وقد تؤدي إلى التشكيك في أصل الفكرة لدى بعض الناس، لأن قضية الاتفاق المطلق بين الناس في أيّ شأن من شؤون الحياة؛ دينا أو غيره، هو مما لم يتعهد به الله في ما تعهده من الأمور التكوينية التي تتعلق بطبيعة وجود الأشياء وخصائصها الذاتية، بل القضية بالعكس، وهي أن الله أجرى الحياة على أساس قد يدعو إلى الاختلاف والتنازع والتقاتل من خلال تنوع الإرادات وتمايز عناصر الاختيار، وهذا ما يفرض على العاملين أن يجاهدوا كما جاهد الأنبياء، من قبلهم في سبيل توفير الأجواء الملائمة للناس لكي تتحرك إرادتهم في طريق الخير بدلا من أن تتحرك في طريق الشر، سواء اتفقت خصائص العاملين أو درجاتهم أو اختلفت، ما دام الخط يسير على هدى الغاية المثلى، وهي إعلاء كلمة الله في الأرض، فإن الاختلاف في الخصائص قد يغني التجربة من خلال تنوع جوانبها إذا عرف العاملون كيف يثيرون ذلك كله في الساحة بصدق وأمانة.

18. هناك نقطة أخرى نستوحيها من الآية، هي أن الله قد تحدث عن اختلاف الخصائص والدرجات في هذه الآية من دون أن يثير أية حالة من حالات التحدي التي تربط القضية بالجانب الذاتي للنبي، بل اعتبرها أمورا واقعية يتميز بها الرسل في حركتهم الرسالية، وفي ضوء ذلك، لا بد لنا من أن نلتفت إلى الجهود الكلامية المضنية التي يبذلها علماء الكلام وغيرهم في إقامة البراهين، على أن هذا النبي ـ لا سيما نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلم ـ أفضل من هذا النبي أو ذاك أو من كل الأنبياء، كما لو كانت القضية من القضايا الأساسية التي تتعلق بالجانب الحيوي‏ للعقيدة، وقد يتصاعد الخلاف ويتجه اتجاهات غير دقيقة، ثم يتحول إلى أن يكون صفة لازمة للشخصية، بحيث يفرض على الفكر أن يلاحق كل الشخصيات الدينية أو السياسية أو الاجتماعية في نطاق عمليات التفضيل الذي يراد به إرضاء الزهو الذاتي الذي يرتاح إليه الإنسان تحت تأثير الشعور بأفضلية الشخص الذي ينتمي إليه، وقد يتطور الأمر، فينتقل إلى البحث عن النقائص والعيوب المتمثلة في شخصية الشخص الآخر، وقبول ما ينقل إليه منها، وإن لم يكن ثابتا بطريقة شرعية، وقد لا يكون لهذا كله أيّ أثر عملي في جانب العقيدة والعمل، كما هي القضية في فكرة تفضيل نبي على آخر، أو تفضيل إمام على نبي، كما قد يثأر ذلك لدى بعض الفرقاء، أو في ما يثأر من تفضيل فاطمة الزهراء عليها السّلام على مريم أو العكس.. فإن هذا حديث لا يجني منه الخائض فيه أية فائدة على مستوى الدين أو الدنيا، سوى إتعاب الفكر أو إرضاء الزهو الذاتي، فإن الأنبياء السابقين قد مضوا إلى ربهم بعد أن أدوا رسالتهم كاملة غير منقوصة؛ ونحن نؤمن بهم، كما أمرنا الله بذلك من دون أن يكون لنا أيّ تكليف خاص متعلق بشريعتهم، كما أننا ملزمون بالسير على شريعة الإسلام التي جاء بها نبيّنا محمد صلّى الله عليه وآله وسلم من دون أن يكون لمنزلته بالنسبة إلى بقية الأنبياء أيّ دخل في ذلك، وإن كنا نؤمن بالمنزلة العظمى التي جعلها الله له من خلال ملكاته وجهاده وامتداد رسالته، إنّ علينا أن نتعلم من القرآن أسلوب التعامل مع القضايا الفكرية والعملية وكيف نجمل الأشياء التي لا تحتاج إلى تفصيل، ونفصل الأمور التي تحتاج إلى ذلك في نطاق العقيدة والعمل.

19. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ إن هذه الفقرة من الآية تحمل الحقيقة العقيدية الإيمانية في النظرة إلى مقام الله في وعي الإنسان المؤمن، وموقعه منه، فإن الله الذي يملك العبد بكل وجوده، فله كل شيء فيه، وليس له من ربه شيء، ليس من شأنه أن يقدّم أيّ تفسير لأفعاله وأوامره ونواهيه أمام عباده، بل إن الواجب عليهم أن يخضعوا له في ذلك كله، فهم لا يملكون حرية الاختيار معه، وهذا هو قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36] وقوله تعالى: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23]، فهو الرب الخالق المهيمن على الكون كله والإنسان كله، الحكيم في ما يقول ويفعل، وهم المربوبون له، فعليهم أن يسلّموا له كل أمورهم في الوعي انسجاما مع حركة هذا الخط في التكوين، وهذا هو معنى الإيمان الحق في أصالة العقيدة في الذات والفكر والشعور، وليس معنى ذلك أن لا يتطلبوا المعرفة في أسرار أفعاله وأقواله المتعلقة بهم وبالحياة من حولهم، فإن الله قد وجههم ليعلموا علم ذلك، ولكن من باب المعرفة التي تبحث عن وعي الكون والحياة في تقدير الله وتدبيره وقضائه وقدره، لا من باب البحث عن أساس الشرعية في انسجامهم مع إرادات الله وأفعاله، فهو الذي يفعل ما يريد، لأن الوجود كله صنع إرادته، فله أن يصنع فيه ما يشاء لتكون مشيئته هي الأساس، بعيدا عن أية مشيئة أخرى، وهذه هي العبودية الحقة في موقف العبد أمام ربه، المتمثلة بالتسليم المطلق‏ ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ [هود: 118]، لأن حكمته اقتضت ذلك، وهو أعلم بأسرارها، ولأن إرادته فرضت ذلك.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏5/9.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية تشير إلى درجات الأنبياء ومراتبهم وجانبا من دورهم في حياة المجتمعات البشرية، تقول الآية ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، و﴿تِلْكَ﴾ [النازعات: 12] اسم إشارة للبعيد، والإشارة إلى البعيد ـ كما نعلم ـ تستعمل أحيانا لإضفاء الاحترام والتبجيل على مقام الشخص أو الشيء المشار إليه، هنا أيضا أشير إلى الرسل باسم الإشارة (تلك) لتبيان مقام الأنبياء الرفيع.

2. اختلف المفسّرون في المقصود بالرسل هنا، هل هم جميع الرسل والأنبياء؟ أم هم الرسل الذين وردت أسماؤهم أو ذكرت حكاياتهم في ما سبق من آيات هذه السورة فقط، مثل إبراهيم، موسى، عيسى، داوود، اشموئيل؟ أم هم جميع الرسل الذين ذكرهم القرآن حتّى نزول هذه الآية؟ لكن يبدو أنّ المقصود هم الأنبياء والمرسلون جميعا، لأنّ كلمة (الرسل) جمع حلّي بالألف واللام الدالّتين على الاستغراق، فتشمل الرسل كافّة.

3. ﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ يتّضح جليّا من هذه الآية أنّ الأنبياء ـ وإن كانوا من حيث النبوّة والرسالة متماثلين ـ هم من حيث المركز والمقام ليسوا متساوين لاختلاف مهمّاتهم، وكذلك مقدار تضحياتهم كانت مختلفة أيضا.

4. ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾، هذه إشارة إلى بعض فضائل الأنبياء، وواضح أنّ المقصود بالآية موسى عليه السّلام المعروف باسم (كليم الله)، كما أنّ الآية 163 من سورة النساء تقول عنه‏ ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾، أمّا القول بأنّ المقصود هو نبيّ الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلم وأنّ التكليم المنظور هنا هو التكليم الذي كان في ليله المعراج مع الرسول، أو أنّ المراد هو الوحي الإلهي الذي ورد في آية 51 من سورة الشورى‏ ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا﴾ حيث اطلق عليه عنوان التكلّم، فإنّه بعيد جدّا، لأنّ الوحي كان شاملا لجميع الأنبياء، فلا يتلاءم مع كلمة (منهم) لأنّ (من) تعبضيّة.

5. ثمّ تضيف الآية ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ ومع الالتفات إلّا أنّ الآية أشارت إلى التفاضل بين الأنبياء بالدّرجات والمراتب، فيمكن أن يكون المراد في هذا التكرار إشارة إلى أنبياء معيّنين وعلى‏ رأسهم نبيّ الإسلام الكريم لأنّ دينه آخر الأديان وأكملها، فمن تكون رسالته الإبلاغ أكمل الأديان لا بدّ أن يكون هو نفسه أرفع المرسلين، خاصّة وأنّ القرآن يقول فيه في الآية 41 من سورة النّساء: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾

6. الشاهد الآخر على هذا الموضوع، هو أنّ الآية السابقة تشير إلى فضيلة موسى عليه السّلام، والآية التالية تبيّن فضيلة عيسى عليه السّلام، فالمقام يتطلّب الإشارة إلى فضيلة رسول الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلم، لأنّ كلّ واحد من هؤلاء الأنبياء الثلاثة كان صاحب أحد الأديان الثلاثة العظيمة في العالم، فإذا كان اسم نبيّ الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلم قد جاء بين اسميهما، فلا عجب في ذلك، أو ليس دينه الحدّ الوسط بين دينيهما وأنّ كلّ شيء قد جاء فيه بصورة معتدلة ومتعادلة؟ ألا يقول القرآن ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ ! ومع ذلك، فإنّ العبارات المتقدّمة في هذه الآية تدلّ على أنّ المقصود من‏ ﴿رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ‏﴾ هم بعض الأنبياء السابقين، مثل إبراهيم إذ يقول سبحانه في الآية التالية ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ أي لو شاء الله ما أخذت امم هؤلاء الأنبياء تتقاتل فيما بينها بعد رحيل أنبيائها.

7. ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾، أي أنّنا وهبنا عيسى عليه السّلام براهين واضحة مثل شفاء المرضى المزمنين وإحياء الموتى والمعارف الدينيّة الساميّة، أمّا المراد من (روح القدس) هل هو جبرئيل حامل الوحي الإلهي، أو قوى أخرى غامضة موجودة بصورة متفاوتة لدى أولياء الله؟ تقدّم البحث مشروحا في الآية 87 من سورة البقرة، وعند ما تؤكّد هذه الآية على أنّ عيسى عليه السّلام كان مؤيّدا بروح القدس فلأنّه كان يتمتّع بسهم أوفر من سائر الأنبياء من هذه الرّوح المقدّسة.

8. تشير الآية كذلك إلى وضع الأمم والأقوام السالفة بعد الأنبياء والاختلافات التي جرت بينهم فتقول ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ فمقام الأنبياء وعظمتهم لن يمنعا من حصول الاختلافات والاقتتال والحرب بين أتباعهم لأنّها سنّة إلهيّة أن جعل الله الإنسان حرّا ولكنّه أساء الاستفادة من هذه الحريّة ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾

9. من الواضح أنّ هذا الاختلاف بين الناس ناشئ من اتّباع الأهواء والشّهوات وإلّا فليس هناك أيّ صراع واختلاف بين الأنبياء الإلهيّين حيث كانوا يتّبعون هدفا واحدا.

10. ثمّ تؤكّد الآية أنّ الله تعالى قادر على منع الاختلافات بين النّاس بالإرادة التكوينيّة وبالجبر، ولكنّه يفعل ما يريد وفق الحكمة المنسجمة مع تكامل الإنسان ولذلك تركه مختارا ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾

11. لا شكّ في أنّ بعض الناس أساء استخدام هذه الحريّة، ولكنّ وجود الحريّة في المجموع يعتبر ضروريّا لتكامل الإنسان، لأنّ التكامل الإجباري لا يعدّ تكاملا.

12. ضمنا يستفاد من هذه الآية الّتي تعرّضت إلى مسألة الجبر مرّة أخرى بطلان الاعتقاد بالجبر، حيث تثبت أنّ الله تعالى ترك الإنسان حرّا فبعض آمن وبعض كفر.

13. سؤال وإشكال: هل الأديان تسبّب الاختلافات؟ والجواب: يتّهم بعض الكتّاب الغربيين الأديان على أنّها هي سبب التفرقة والنزاع بين أفراد البشر، وهي السبب في إراقة الكثير من الدماء، فالتاريخ شهد الكثير من‏ الحروب الدينية، وهكذا سعوا إلى إدانة الأديان واعتبارها من الأسباب المثيرة للحروب والمخاصمات، وإزاء هذا القول لا بدّ من الانتباه إلى ما يلي:

أ. أولا: أنّ الاختلافات ـ كما جاء في الآية المذكورة ـ لا تنشأ في الحقيقة بين الأتباع الصادقين لدين من الأديان، بل هي بين أتباع الدين ومخالفيه، وإذا ما شاهدنا صراعا بين أتباع مختلف الأديان فإنّ ذلك لم يكن بسبب التعاليم الدينية، بل بسبب تحريف التعاليم والأديان وبالتعصّب المقيت ومزج الأديان السماوية بالخرافات.

ب. ثانيا: إنّ الدين ـ أو تأثيره ـ قد انحسر اليوم عن قسم من المجتمعات البشرية، ومع ذلك نرى أنّ الحروب قد ازدادت قسوة واتساعا وانتشرت في مختلف أرجاء العالم، فهل أن الدين هو السبب، أم أنّ روح الطغيان في مجموعة من البشر هي السبب الحقيقي لهذه الحروب، ولكنّها تظهر اليوم بلبوس الدين، وفي يوم آخر بلبوس المذاهب الاقتصادية والسياسية، وفي أيّام أخرى بقوالب ومسمّيات أخرى!؟ وعليه فالدين لا ذنب له في هذا، إنّما الطغاة هم الذين يشعلون نيران الحروب بحجج متنوّعة.

ج. ثالثا: إنّ الأديان السماوية ـ وعلى الأخصّ الإسلام ـ التي تكافح العنصرية والقومية، كانت سببا في إلغاء الحدود العنصرية والجغرافية والقبلية، فقضت بذلك على الحروب التي كانت تثار باسم هذه العوامل، وعليه فإن الكثير من الحروب في التاريخ قد خمدت نيرانها بفضل الدين، كما أنّ روح السلام والصداقة والأخلاق والعواطف الإنسانية التي ترفع لواءها جميع الأديان السماوية، كان لها أثر عميق في تخفيض الخصومات والمشاكسات بين مختلف الأقوام.

د. رابعا: أنّ من رسالات الأديان السماوية تحرير الطبقات المحرومة المعذّبة، وكانت هذه الرسالة هي سبب الحروب التي شنّها الأنبياء وأتباعهم على‏ الظالمين والمستغلّين، من أمثال فرعون والنمرود، إنّ هذه الحروب التي تعتبر جهادا في سبيل تحرير الإنسان، ليست عيوبا تلصق بالأديان، بل هي من مظاهر فخرها واعتزازها وقوّتها، إنّ حروب رسول الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلم مع المشركين من العرب والمرابين في مكّة من جهة، ومع قيصر وكسرى من جهة أخرى، كانت كلّها من هذا القبيل.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/234.

119. الإنفاق ويوم الجزاء وقوانينه

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈119⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 254]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: أقبح الظّلم منعك حقوق الله(1).

__________

(1) غرر الحكم: ص199.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: الحمد لله الذي قال: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ولم يقل: والظالمون هم الكافرون(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٥٢٦.

السجاد:

روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) أنّه قال: الذنوب الّتي تديل الاعداء المجاهرة بالظلم، واعلان الفجور، وإباحة المحظور وعصيان الأخيار وطاعة الأشرار(1).

__________

(1) معاني الاخبار: ص270.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في الآية: قد علم الله أن أناسا يتخالون في الدنيا، ويشفع بعضهم لبعض، فأما يوم القيامة فلا خلة إلا خلة المتقين(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا خُلَّةٌ﴾، أي: ولا صداقة إلا للمتقين(2).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٥٢٥.

(2) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٥٠.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: (﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ﴾ المعنى ولا خليل(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 102.

الأعمش:

روي عن سليمان بن مهران الأعمش (ت 148 هـ) أنّه قال: ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ لا ينفع أحد أحدا، ولا يشفع أحد لأحد، ولا يخال أحد لأحد(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٨٥.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ من الأموال في طاعة الله(1).

2. روي أنّه قال: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾ لا فداء فيه، ﴿وَلَا خُلَّةٌ﴾ فيه؛ ليعطيه بخلة ما بينهما، ﴿وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ فيه للكفار فيه، كفعل أهل الدنيا بعضهم في بعض، فليس في الآخرة شيء من ذلك(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢١٢.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ من الزكاة، والتطوع(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٥٢٣.

الثوري:

روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: يقال: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن، ونسخ شهر رمضان كل صوم (1).

__________

(1) الدرّ المنثور: ابن المنذر.

المرتضى:

ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ هذه دلالة من الله عز وجل للمؤمنين على ما فيه الصلاح لهم، والنجاة في آخرتهم، وإخبار لهم بما في الآخرة من الهول والشدة، فأمرهم أن ينفقوا مما رزقهم الله في سبيل الخير، وما يثابون عليه ويكافؤون فيه، من: الإنفاق في سبيل الله، والمعونة على أمر الله؛ وذلك قوله سبحانه ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾

2. ومن: النفقة أيضا على المساكين، وأبناء السبيل، وفك الرقبة المسلمة، وصلة الرحم، والرأفة بالأيتام، والصلة لأهل الضعف من الأنام؛ فكل هذا مما تزكو فيه النفقة، ويعظم فيه من الله العطية؛ وأمرهم سبحانه بالإنفاق في هذه الأبواب، من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة، وهو: حضور القيامة، حيث ينقطع البيع والشراء، واللهو والعبث، والخلة والشفاعة؛ لأن أهل هذه الدنيا يتخالون فيها، ويتحزبون، ويتعارفون، ويشفع بعضهم لبعض إذا نزلت بهم نازلة، والآخرة فلا تحزب فيها، ولا تعاون على ظلم، ولا شفاعة لمبطل؛ لأن ذلك يوم يوضع فيه موازين القسط، ويحكم فيه الجبار، وتتضح فيه الأسرار، ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ﴾، وكل مشتغل بنفسه، مأخوذ بذنبه؛ ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾، ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾، ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾

3. وقد يكون أيضا من البيع: ما ذكر الله عز وجل حين يقول ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، فيبتاعون بأفعال البر ما جعل الله من العطاء والنعيم؛ وذلك قوله تعالى: ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ﴾، فإذا فرط في هذا المفرطون في الدنيا لم يجدوا في الآخرة سبيلا؛ لأن الآخرة دار الجزاء، وليس فيها لأحد عمل عليه يعطى.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/116.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ‏﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل الأمر بالإنفاق، أمر بتقديم الطاعات والمسارعة إلى الخيرات قبل أن يأتي يوم يمنعه ويعجزه عن ذلك وهو الموت.

ب. ويحتمل أمره بالإنفاق من الأموال في طاعة الله من قبل أن يأتي يوم، وهو يوم القيامة.

2. ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾ قيل: لا فداء، و﴿وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل قوله تعالى: ﴿وَلَا خُلَّةٌ﴾ أي لا ينفع خليل خليله كما ينفع في الدنيا وكذلك لا شفيع تنفع شفاعته كما تنفع في الدنيا.

ب. ويحتمل ﴿وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ أي لا ينفع أحد أحدا، ولا يخال أحد أحدا، ولا يشفع أحد أحدا.

3. يحتمل ﴿يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾ أنهم يملكون بيع أنفسهم من الله تعالى ما داموا أحياء، فإذا ماتوا لم يملكوا، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ [التوبة: 111]، فأول الآية وإن خرج الخطاب للمؤمنين فالوصف فيها وصف الكافرين، لكن فيها زجر للمؤمنين مثل صنيع الكفار.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/234.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ﴾ أي لا بيع فيه ولا صحبة، والخليل: هو الصاحب، والخلة: هي الصحابة(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 289.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ أبو عمرو وابن كثير ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ بالنصب فيها أجمع، الباقون بالضم.

2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ خطاب للمؤمنين يأمرهم بالإنفاق مما رزقهم، والإنفاق المأمور به على وجه الفرض هاهنا الزكاة وغيرها دون الفعل لأن ظاهر الامر الإيجاب في قول الحسن، قال لأنه مقرون بالوعيد، وقال ابن جريج: يدخل في الخطاب الزكاة، والتطوع، وهو أقوى، لأنه أعم، وبه قال البلخي، وليس في الآية وعيد على ترك النفقة، وإنما فيها إخبار عن عظم أهوال يوم القيامة وشدائدها.

3. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ يعني يوم القيامة.

4. ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾ البيع هو استبدال المتاع بالثمن، تقول: باع يبيع بيعاً، وابتاع ابتياعاً، واستباع استباعة، وبايعه مبايعة، وتبايعوا تبايعاً، والبيع: نقيض الشراء والبيع أيضاً الشراء لأنه تارة عقد على الاستبدال بالثمن، وتارة على الاستبدال بالمتاع، والبيعة الصفقة على إيجاب البيع، والبيعة الصفقة على إيجاب الطاعة، والبيعان البائع‏ والمشتري، والبيعة كنيسة النصارى وجمعها بيع.

5. ﴿لا خُلَّةٌ﴾، الخلة خالص المودة، والخلل: الافراج بين الشيئين، وخللته بالخلال أخله خلا: إذا صككته به واختلت حاله اختلالا، لانحرافه بالفقر، وتخلل الطرق تخللا إذا قطع فرجة بعد فرجة، وأخل به إخلالا، وخاله يخاله مخالة: إذا صافاه المودة، والخلّ معروف لتخلله بحدته، ولطفه فيما ينساب فيه، والخل: الرجل الخفيف الجسم، والخل: الطريق في الرمل، والخل: عرق في العنق يتصل بالرأس، والخليل: الخالص المودة من الخلة، لأنه من تخلل الاسرار بينهما، وقيل لأنه يمتنع من الشوبـ في المودة بالنقيصة ـ والخليل أيضاً: المحتاج من الخلة، والخلة: جفن السيف، وفي فلان خلة: أي خصلة، والخلة خلاف الحصن لأنه مرعى بتخلله الماشية للاعتداء به، وخلل أصابعه تخليلا، وقوله تعالى: ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ وقوله تعالى: ﴿فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ﴾ والخلال: البلج، وأصل الباب: الخلل: الانفراج.

6. ﴿وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ وإن كان على لفظ العموم فالمراد به الخصوص بلا خلاف، لأن عندنا (2) قد تكون شفاعة في إسقاط الضرر، وعند مخالفينا في الوعيد قد يكون في زيادة المنافع فقد أجمعنا على ثبوت شفاعة وإنما ننفي نحن الشفاعة قطعاً عن الكفار، ومخالفونا عن كل مرتكب كبيرة إذا لم يتب منها.

7. ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ إنما ذم الله تعالى الكافر بالظلم وإن كان الكفر أعظم منه لأمرين:

أ. أحدهما: للدلالة على أن الكافر قد ضر نفسه بالخلود في النار، فقد ظلم نفسه.

ب. والآخر: أنه لما نفى البيع في ذلك اليوم والخلة والشفاعة، قال: وليس ذلك بظلم منا، بل الكافرون هم الظالمون، لأنهم عملوا ما استحقوا به حرمان الثواب.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/306.

(2) يقصد الإمامية

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. البيع: مصدر باع يبيع بيعًا، وهو استبدال المتاع بالثمن، ثم يستعمل في غيره توسعًا لمن باع دينه بدنياه.

ب. الخُلَّةُ: المودة الخالصة، والخليل الخالص المودة، وأصله من الخَلَل، وهو الانفراج كأنها متمنعة من تخلل شائب.

ج. الشفاعة معروفة، وأصله من الضم كأن الشفيع مضموم إلى صاحب الحاجة، وأصله الشفع خلاف الوتر، وحَدُّهُ المسألة للغير لزيادة نعمة، أو دفع نقمة.

2. لما قص ا أخبار مَنْ مضى، وثبت رسالة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلم حث على الطاعة فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ صدقوا محمدًا صلّى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به، ﴿أَنْفَقُوا﴾، اختلفوا:

أ. قيل: أراد به الفرض كالزكاة ونحوها لاقتران الوعيد به، عن الحسن.

ب. وقيل: أراد به الفرض والنفل وسائر أعمال البر، عن ابن جريج وأبي مسلم.

ج. وقيل: هي النفقة في الجهاد ومعونة الرسول، عن الأصم وأبي علي، كأنه لما بَيَّنَ رسالته أمر بالمجاهدة معه بالنفس والمال.

3. ﴿مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ أعطيناكم ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ يعني قدموا ليوم القيامة قبل إتيانه ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾ أي لا تجارة ﴿وَلَا خُلَّةٌ﴾، اختلفوا:

أ. قيل: أي ولا صداقة؛ لأنهم بالمعاصي يصيرون أعداء.

ب. وقيل: شُغْلُهُ بنفسه يمنع عن صداقة غيره.

4. ﴿وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ تشفع فينجيهم من العقابـ ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، اختلفوا:

أ. قيل: هم مخصوصون، عن أبي علي.

ب. وقيل: معناه الكافرون بذلك هم الظالمون عن القاضي.

ج. وقيل: الكافر بالبخل ظالم للفقير.

د. وقيل: هم الظالمون؛ لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها، وظلموا أنفسهم.

هـ. وقيل: هم الظالمون لأنفسهم بأن أوثقوها، وخلدوها في النار.

و. وقيل: لما نفى البيع والخلة والشفاعة لهم بين أن ذلك ليس بظلم منه، بل هم الظالمون على أنفسهم بما عملوا.

5. تدل الآيات الكريمة على:

أ. على وجوب المسارعة إلى الإنفاق قبل الحيلولة.

ب. أن الظالم لا خليل له ولا شفيع.

ج. بطلان من يخالف في الشفاعة، ويقول: إنها لأهل الكبائر، بل نقول: إنها للمؤمنين لزيادة درجاتهم كقوله تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾

د. أن كل كافر ظالم، ولا تدل على أن كل ظالم كافر.

6. قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ بالنصب، في سورة إبراهيم ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ﴾ وفي الطور ﴿لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾ وقرأ الباقون بالرفع، فالنصب على النفي، والرفع على النهي.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/67.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. البيع هو استبدال المتاع بالثمن، والبيع: نقيض الشراء، والبيع أيضا: الشراء لأنه تارة عقد على الاستبدال بالثمن، وتارة على الاستبدال بالمتاع، والبيع: الصفقة على إيجاب البيع، والبيعة: الصفقة على إيجاب الطاعة، والبيعان: البائع والمشتري.

ب. الخلة: خالص المودة، والخلل: الإنفراج بين الشيئين، وخللته بالخلال أخله خلالا: إذا شككته به، واختلال الحال: انحرافها بالفقر، والخليل: الخالص المودة من الخلة لتخلل الأسرار بينهما، وقيل: لأنه يمتنع من الشوب في المودة بالنقيصة، والخليل أيضا: المحتاج من الخلة، والخل: معروف لتخلله بحدته ولطفه فيما ينساب فيه، والخل: الرجل الخفيف الجسم، والخل: الطريق في الرمل، وفي فلان خلة رائقة أي: خصلة، والخلة: جفن السيف.

2. لما قص الله سبحانه أخبار الأمم السابقة، وثبت رسالة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلم، عقبه بالحث على الطاعة فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: صدقوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به: ﴿أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾، اختلفوا:

أ. قيل أراد به الفرض كالزكاة ونحوها، دون النفل، لاقتران الوعيد به، عن الحسن، ولأن ظاهر الأمر يقتضي الإيجاب.

ب. وقيل: يدخل فيه النفل والفرض، عن ابن جريج، واختاره البلخي، وهو الأقوى لأنه أعم، ولأن الآية ليس فيها وعيد على ترك النفقة، وإنما فيها اخبار عن عظم أهوال يوم القيامة وشدائدها.

3. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ أي: يوم القيامة ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾ أي: لا تجارة ﴿وَلَا خُلَّةٌ﴾، اختلفوا:

أ. قيل: أي: ولا صداقة، لأنهم بالمعاصي يصيرون أعداء.

ب. وقيل: لأن شغله بنفسه يمنع من صداقة غيره، وهذه كقوله: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾

4. ﴿وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ أي: لغير المؤمنين مطلقا، فأما المؤمنون فقد يشفع بعضهم لبعض، ويشفع لهم أنبياؤهم، كما قال سبحانه: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾، و﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾

5. ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ إنما ذم الله الكافر بالظلم، وإن كان الكفر أعظم منه لأمرين:

أ. أحدهما: الدلالة على أن الكافر ضر نفسه بالخلود في النار فقد ظلم نفسه.

ب. والآخر: إنه لما نفى البيع في ذلك اليوم، والخلة والشفاعة، وأخبر أنه قد حرم الكافر هذه الأمور، قال: وليس ذلك بظلم منا، بل الكافرون هم الظالمون، لأنهم عملوا بأنفسهم ما استحقوا به حرمان هذه الأمور.

ج. ووجه آخر في تخصيص الكافر بالظلم، وهو أن ظلم الكافر هو غاية الظلم، وليس يبلغ ظلم المؤمنين لأنفسهم وغيرهم مبلغ ظلم الكافرين، ونظيره قول القائل: فلان هو الفقيه في البلد، وفلان هو الفاضل، ويراد به تقدمه على غيره فيما أضيف إليه.

6. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ بالفتح فيها أجمع، وفي سورة إبراهيم: ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ﴾، وفي الطور: ﴿لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾، وقرأ الباقون جميعها بالرفع، قال أبو علي: أما من فتح بلا تنوين، فإنه جعله جواب هل فيها من لغو، أو تأثيم، ومن رفع جعله جواب أفيها لغو أو تأثيم، وقد ذكرنا صدرا من القول على النفي فيما تقدم، والمعنيان متقاربان في أن النفي يراد به العموم والكثرة في القراءتين يدل على ذلك قول أمية: (فلا لغو، ولا تأثيم فيها) ألا ترى أنه يريد من نفي اللغو، وإن كان قد رفعه ما يريد بنفي التأثيم الذي فتحه، ولم ينونه، فإن جعلت قوله فيها خبرا، أضمرت للأول خبرا، وإن جعلته صفة أضمرت لكل واحد من الإسمين خبرا.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/624.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. علاقة الآية الكريمة بما قبلها:

أ. أصعب الأشياء على الإنسان بذل النفس في القتال، وبذل المال في الإنفاق، فلما قدم الأمر بالقتال أعقبه بالأمر بالإنفاق.

ب. وأيضا فيه وجه آخر، وهو أنه تعالى أمر بالقتال فيما سبق بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 244]، ثم أعقبه بقوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة: 245] والمقصود منه إنفاق المال في الجهاد، ثم إنه مرة ثانية أكد الأمر بالقتال وذكر فيه قصة طالوت، ثم أعقبه بالأمر بالإنفاق في الجهاد، وهو قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا﴾

2. المعتزلة، ومن وافقهم احتجوا على أن الرزق لا يكون إلا حلالا بقوله تعالى: ﴿أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ فنقول: الله تعالى أمر بالإنفاق من كل ما كان رزقا بالإجماع أما ما كان حراما فإنه لا يجوز إنفاقه، وهذا يفيد القطع بأن الرزق لا يكون حراما، والأصحاب من أهل السنة، ومن وافقهم قالوا: ظاهر الآية وإن كان يدل على الأمر بإنفاق كل ما كان رزقا إلا أنا نخصص هذا الأمر بإنفاق كل ما كان رزقا حلالا.

3. اختلفوا في أن قوله تعالى: ﴿أَنْفَقُوا﴾ مختص بالإنفاق الواجب كالزكاة أم هو عام في كل الإنفاقات سواء كانت واجبة أو مندوبة:

أ. فقال الحسن: هذا الأمر مختص بالزكاة، قال لأن قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ﴾ كالوعد والوعيد لا يتوجه إلا على الواجب.

ب. وقال الأكثرون: هذا الأمر يتناول الواجب والمندوب، وليس في الآية وعيد، فكأنه قيل: حصلوا منافع الآخرة حين تكونون في الدنيا، فإنكم إذا خرجتم من الدنيا لا يمكنكم تحصيلها واكتسابها في الآخرة.

ج. والقول الثالث: أن المراد منه الإنفاق في الجهاد، والدليل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد، فكان المراد منه الإنفاق في الجهاد، وهذا قول الأصم.

4. قرأ ابن كثير وأبو عمرو لا بيع، ولا خلة، ولا شفاعة بالنصب، وفي سورة إبراهيم عليه السلام:‏ ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ﴾ [إبراهيم: 31] وفي الطور: ﴿لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾ [الطور: 23] والباقون جميعا بالرفع، والفرق بين النصب والرفع قد ذكرناه في قوله تعالى: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ﴾ [البقرة: 197]

5. المقصود من الآية أن الإنسان يجيء وحده، ولا يكون معه شيء مما حصله في الدنيا، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾ [الأنعام: 94] وقال: ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾ [مريم: 80]

6. في قوله تعالى: ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾ وجهان:

أ. الأول: أن البيع هاهنا بمعنى الفدية، كما قال: ﴿فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ﴾ [الحديد: 15] وقال: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة: 123] وقال: ﴿وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا﴾ [الأنعام: 7] فكأنه قال من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه فتكتسب ما تفتدي به من العذاب.

ب. الثاني: أن يكون المعنى: قدموا لأنفسكم من المال الذي هو في ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة حتى يكتسب شيء من المال.

7. ﴿وَلَا خُلَّةٌ﴾ المراد المودة، ونظيره من الآيات قوله تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67]، وقال: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: 166]، وقال: ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [العنكبوت: 25]، وقال حكاية عن الكفار: ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ [الشعراء: 100]، وقال: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [البقرة: 270]، وأما قوله تعالى: ﴿وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ يقتضي نفي كل الشفاعات.

8. ﴿وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ عام في الكل، إلا أن سائر الدلائل دلت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين، وعلى ثبوت الشفاعة للمؤمنين، وقد بيناه في تفسير قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ [البقرة: 281]، ﴿لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة: 48]

9. السبب في عدم الخلة والشفاعة يوم القيامة أمور:

أ. أحدها: أن كل أحد يكون مشغولا بنفسه، على ما قال تعالى: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: 37]

ب. الثاني: أن الخوف الشديد غالب على كل أحد، على ما قال: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾ [الحج: 2]

ج. الثالث: أنه إذا نزل العذاب بسبب الكفر والفسق صار مبغضا لهذين الأمرين، وإذا صار مبغضا لهما صار مبغضا لمن كان موصوفا بهما.

10. ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ نقل عن عطاء بن يسار أنه كان يقول: الحمد لله الذي قال: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ ولم يقل الظالمون هم الكافرون، ثم ذكروا في تأويل هذه الآية وجوها:

أ. أحدها: أنه تعالى لما قال: ﴿وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ أوهم ذلك نفي الخلة والشفاعة مطلقا، فذكر تعالى عقيبه ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ ليدل على أن ذلك النفي مختص بالكافرين، وعلى هذا التقدير تصير الآية دالة على إثبات الشفاعة في حق الفساق، قال القاضي: هذا التأويل غير صحيح لأن قوله تعالى: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ كلام مبتدأ فلم يجب تعليقه بما تقدم، والجواب: أنا لو جعلنا هذا الكلام مبتدأ تطرق الخلف إلى كلام الله تعالى، لأن غير الكافرين قد يكون ظالما، أما إذا علقناه بما تقدم زال الإشكال فوجب المصير إلى تعليقه بما قبله.

ب. الثاني: أن ﴿الْكَافِرُونَ﴾ [الكافرون: 1] إذا دخلوا النار عجزوا عن التخلص عن ذلك العذاب، فالله تعالى لم يظلمهم بذلك العذاب، بل هم الذين ظلموا أنفسهم حيث اختاروا الكفر والفسق حتى صاروا مستحقين لهذا العذاب، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: 49]

ج. الثالث: أن الكافرين هم الظالمون حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم وحاجتهم وأنتم أيها الحاضرون لا تقتدوا بهم في هذا الاختيار الرديء، ولكن قدموا لأنفسكم ما تجعلونه يوم القيامة فدية لأنفسكم من عذاب الله.

د. الرابع: الكافرون هم الظالمون لأنفسهم بوضع الأمور في غير مواضعها، لتوقعهم الشفاعة ممن لا يشفع لهم عند الله، فإنهم كانوا يقولون في الأوثان ﴿هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: 18]، وقالوا أيضا: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3] فمن عبد جمادا وتوقع أن يكون شفيعا له عند الله فقد ظلم نفسه حيث توقع الخبر ممن لا يجوز التوقع منه.

هـ. الخامس: المراد من الظلم ترك الإنفاق، قال تعالى: ﴿آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف: 33] أي أعطت ولم تمنع فيكون معنى الآية والكافرون التاركون للإنفاق في سبيل الله، وأما المسلم فلا بد وأن ينفق منه شيئا قل أو كثر.

و. السادس: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ أي هم الكاملون في الظلم البالغون المبلغ العظيم فيه كما يقال: العلماء هم المتكلمون أي هم الكاملون في العلم فكذا هاهنا، وأكثر هذه الوجوه قد ذكرها القفال.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/531.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 254] قال الحسن: هي الزكاة المفروضة، وقال ابن جريج وسعيد بن جبير: هذه الآية تجمع الزكاة المفروضة والتطوع، قال ابن عطية: (وهذا صحيح، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوي ذلك في آخر الآية قوله: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال)، وعلى هذا التأويل يكون إنفاق الأموال مرة واجبا ومرة ندبا بحسب تعين الجهاد وعدم تعينه، وأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم الله وأنعم به عليهم، وحذرهم من الإمساك إلى أن يجئ يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك نفقة، كما قال: ﴿فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ﴾

2. الخلة: خالص المودة، مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين، والخلالة والخلالة والخلالة: الصداقة والمودة، قال الشاعر:

çوكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحبé

وأبو مرحب كنية الظل، ويقال: هو كنية عرقوب الذي قيل فيه: مواعيد عرقوب، والخلة بالضم أيضا: ما خلا من النبت، يقال: الخلة خبز الإبل والحمض فاكهتها، والخلة بالفتح: الحاجة والفقر، والخلة: ابن مخاض، عن الأصمعي، يقال: أتاهم بقرص كأنه فرسن خلة، والأنثى خلة أيضا، ويقال للميت: اللهم أصلح خلته، أي الثلمة التي ترك، والخلة: الخمرة الحامضة، والخلة بالكسر: واحدة خلل السيوف، وهي بطائن كانت تغشى بها أجفان السيوف منقوشة بالذهب وغيره، وهي أيضا سيور تلبس ظهر سيتي القوس، والخلة أيضا: ما يبقى بين الأسنان، وسيأتي في النساء اشتقاق الخليل ومعناه، فأخبر الله تعالى ألا خلة في الآخرة ولا شفاعة إلا بإذن الله، وحقيقتها رحمة منه تعالى شرف بها الذي أذن له في أن يشفع.

قرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ بالنصب من غير تنوين، وكذلك في سورة إِبْرَاهِيمَ: ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ﴾ وفي الطُّورِ: ﴿لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾ وأنشد حسان بن ثابت:

çألا طعان ولا فرسان عادية ... إلا تجشؤكم عند التنانيرé

وألف الاستفهام غير مغيرة عمل ﴿لَا﴾ كقولك: ألا رجل عندك، ويجوز ألا رجل ولا امرأة كما جاز في غير الاستفهام فاعلمه، وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع والتنوين، كما قال الراعي:

çوما صرمتك حتى قلت معلنة ... لا ناقة لي في هذا ولا جملé

ويروى (وما هجرتك) فالفتح على النفي العام المستغرق لجميع الوجوه من ذلك الصنف، كأنه جواب لمن قال: هل فيه من بيع؟ فسأل سؤالا عاما فأجيب جوابا عاما بالنفي.

3. ﴿لَا﴾ مع الاسم المنفي بمنزلة اسم واحد في موضع رفع بالابتداء، والخبر ﴿فِيهِ﴾، وإن شئت جعلته صفة ليوم، ومن رفع جمله ﴿لَا﴾ بمنزلة ليس، وجعل الجواب غير عام، وكأنه جواب من قال: هل فيه بيع؟ بإسقاط من، فأتى الجواب غير مغير عن رفعه، والمرفوع مبتدأ أو اسم ليس و﴿فِيهِ﴾ الخبر، قال مكي: والاختيار الرفع، لأن أكثر القراء عليه، ويجوز في غير القرآن لا بيع فيه ولا خلة، وأنشد سيبويه لرجل من مذحج:

çهذا لعمركم الصغار بعينه... لا أم لي إن كان ذاك ولا أبé

ويجوز أن تبني الأول وتنصب الثاني وتنونه فتقول: (لا رجل فيه ولا امرأة)، وأنشد سيبويه:

çلا نسب اليوم ولا خلة ... اتسع الخرق على الراقعé

فلا زائدة في الموضعين، الأول عطف على الموضع والثاني على اللفظ، ووجه خامس أن ترفع الأول وتبني الثاني كقولك: (لا رجل فيها ولا امرأة)، قال أمية:

çفلا لغو ولا تأثيم فيها ... وما فاهوا به أبدا مقيمé

وهذه الخمسة الأوجه جائزة في قولك: لا حول ولا قوة إلا بالله.

4. ﴿وَالْكَافِرُونَ﴾ ابتداء، ﴿هُمْ﴾ ابتداء ثان، ﴿الظَّالِمُونَ﴾ خبر الثاني، وإن شئت كانت ﴿هُمْ﴾ زائدة للفصل و﴿الظَّالِمُونَ﴾ خبر ﴿الْكَافِرُونَ﴾، قال عطاء بن دينار: والحمد لله الذي قال: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ ولم يقل والظالمون هم الكافرون.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/266.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ظاهر الأمر في قوله تعالى: ﴿أَنْفَقُوا﴾ الوجوب، وقد حمله جماعة على صدقة الفرض لذلك ولما في آخر الآية من الوعيد الشديد، وقيل: إن هذه الآية تجمع زكاة الفرض والتطوّع، قال ابن عطية: وهذا صحيح، ولكن ما تقدّم من الآيات في ذكر القتال؛ وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين؛ يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، قال القرطبي: وعلى هذا التأويل يكون إنفاق المال مرة واجبا، ومرة ندبا، بحسب تعين الجهاد وعدم تعينه.

2. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾ أي: أنفقوا ما دمتم قادرين‏ ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ﴾ ما لا يمكنكم الإنفاق فيه وهو ﴿يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾ أي: لا يتبايع الناس فيه، والخلة: خالص المودّة، مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين، أخبر سبحانه أنه لا خلة في يوم القيامة نافعة ولا شفاعة مؤثرة إلّا لمن أذن الله له.

3. قرأ ابن كثير وأبو عمرو بنصب لا بيع ولا خلة ولا شفاعة، من غير تنوين، وقرأ الباقون برفعها منوّنة، وهما لغتان مشهورتان للعرب، ووجهان معروفان عند النحاة.. ويجوز في غير القرآن: التغاير برفع البعض، ونصب البعض، كما هو مقرر في علم الإعراب.

4. ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ فيه دليل على أن كل كافر ظالم لنفسه، ومن جملة من يدخل تحت هذا العموم مانع الزكاة منعا يوجب كفره، لوقوع ذلك في سياق الأمر بالإنفاق.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/311.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾، هذا أمر بالإنفاق لبعض من المال، قيل هو أمر إيجاب وأنه أراد، بذلك، الإنفاق الواجب وهو الزكاة، لأنه تعالى عقبه بالوعيد بقوله تعالى: ﴿وَالْكَافِرُونَ﴾ الآية، حيث عنى بهم مانعوها كما يأتي، وقال الأصمّ وأبو عليّ: أراد النفقة في الجهاد، وقال أبو مسلم وابن جريج: أراد الفرض والنفل، وهو المتّجه.

2. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ هو يوم القيامة ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾، أي فتحصلون ما تنفقونه أو تفتدون به من العذاب‏ ﴿وَلَا خُلَّةٌ﴾ حتى يعينكم الأخلاء، ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67]، ﴿وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ حتى تتكلوا على شفعاء ﴿إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ [طه: 109]

3. ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ أراد والتاركون الزكاة هم الظالمون وإيثاره عليه للتغليظ والتهديد، كما في قوله تعالى في آخر آية الحج‏ ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ [آل عمران: 97]، مكان (ومن لم يحج) وللإيذان بأن ترك الزكاة من صفات الكفار، قال تعالى: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [فصلت: 6 ـ 7]، ذكره الزمخشريّ، ويحتمل أن يكون المعنى: والكافرون هم الظالمون لأنفسهم بوضع الأموال في غير مواضعها، فلا تكونوا أيها المؤمنون مثلهم في أن لا تنفقوا فتضعوا أموالكم في غير مواضعها، وفي هذه الآية دلالة على حسن المسارعة إلى الخيرات، قبل فواتها بهجوم ما يخشى معه الفوت، من موت أو غيره.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/190.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ ما يجب إنفاقه، كزكاة ومؤونة الزوج، والوليِّ الذي لا يجد، والضيف الواجب، والمضطرِّ، وما لا يجب إنفاقه، فالمراد مطلق الطلب، وقيل: المراد الواجب؛ لأنَّ الأمر للوجوب، وعلى القولين يدخل الإنفاق في الجهاد بالأولى، كما يناسبه ذكر هذا بعد الجهاد، ولا حاجة إلى تفسيره بالجهاد وحده لمجرَّد ذكره بعد الجهاد.

2. ﴿مِن قَبْلِ أَنْ يَّاتِيَ يَوْمٌ﴾ يوم الموت أو القيامة، ﴿لَّا بَيْعٌ فِيهِ﴾ تدركون به نفقة الواجب أداءً للفرض، أو غيره ربحًا للثواب، ﴿وَلَا خُلَّةٌ﴾ صداقة ينفعكم صاحبها بإعطائه إيَّاكم ما تنتفعون به في أداء واجب أو نفل، أو بالدفع للعقاب عنكم قهرًا، تنتفي الخلَّة التي في الدنيا يوم القيامة، سمِّيت الصداقة خلَّة لأنَّها تدخل خلال الأعضاء، أي: وسطها.

3. ﴿وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ دفع العذاب على سبيل التضرُّع لمالك العذاب، ولو طُلِبت لم توجد إِلَّا بإذن الله، كما قال: ﴿إِلَّا مَنَ اَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ [طه: 109]، فإنَّ الملائكة والأنبياء والشهداء والعلماء يشفعون بإذن الله، لكن للسعيد برفع الدرجات أو بترك الحساب أو تخفيفه أو نحو ذلك مِمَّا لا ينافي القضاء، قال أنس: سألت النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: (أنا فاعلٌ) قال الترمذيُّ: حسن.

4. ﴿وَالْكَافِرُونَ﴾ الفاسقون بشرك أو كبيرة، وهذا عموم يشمل تاركي إنفاق الواجب، وليس المراد به خصوص التاركين له كما قيل، ﴿هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ لأنفسهم وغيرهم، بترك الواجب أو النفل إنكارًا للبعث والجزاء أو تهاونًا.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/113.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن ذكرنا الله تعالى بالرسل وما كان من أقوامهم بعدهم من الاختلاف والاقتتال، عاد إلى أمرنا بالإنفاق بأسلوب آخر كما تقدم التنبيه في تفسير الآية السابقة، هنالك يقول: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ [الحديد: 11] وقد نبهنا على ما في هذا الخطاب من اللطف والبلاغة، وأزيد هنا أن هذا اللطف إنما يفعل فعله ويبلغ نهاية تأثيره فيمن بلغ في الإيمان إلى عين اليقين، وعرج في الكمال إلى منازل الصديقين، ولطف وجدانه وشعوره، وتألق ضياؤه ونوره، وما كل المؤمنين يدرجون في هذه المدارج، أو يرتقون على هذه المعارج؛، فالأكثرون منهم يفعل في نفوسهم الترهيب ما لا يفعل الترغيب، فهم لا يتفقون في سبيل الله إلا خوفا من عقابه أو طمعا في ثوابه، وقد يعرض للضعفاء من هؤلاء الغرور بشفاعة تغني هنالك عن العمل، أو فدية تقي صاحبها عاقبة ما كان عليه من الزلل، فأمثال هؤلاء يعالجون بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة: 254]

2. قالوا: إن المراد بالإنفاق هنا الإنفاق الواجب؛ لأن الكلام يتضمن الوعيد على الترك، وهو لا يكون إلا على ترك الواجب، وقال بعضهم: بل يشتمل المندوب، ومن الواجب على أغنياء المسلمين إذا وقع الفساد في الأمة وتوقفت إزالته على المال أن يبذلوه لدفع المفاسد الفاشية والغوائل الغاشية، وحفظ المصالح العامة.

3. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 254] إشعار بأنه لا يطلب منهم إلا بعض ما جعلهم مستخلفين فيه من رزقه ونعمه عليهم، فأين هذا من الطلب بصيغة الإقراض؟ والجواب: كأنه يقول: إننا ما رزقناكم الرزق الحسن واستخلفناكم فيه إلا وقد نقلناه من أيدي قوم أساءوا التصرف فحبسوا المال وأمسكوه عن المصالح والمنافع التي يرتقي بها شأن البشر بالتعاون على البر والخير، فلا تكونوا مثلهم فإنهم ظلموا أنفسهم وقومهم ببخلهم، فكانوا كافرين بنعم الله تعالى عليهم، إذ لم يضعوها في مواضعها؛ ولذلك ختم الآية بقوله: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 254] وسيأتي بيانه.

4. أما البيع والخلة والشفاعة فللمفسرين في بيان المراد بنفيها طريقان:

أ. أحدهما أن المراد بالبيع الكسب بأي نوع من أنواع المبادلة والمعارضة، والمراد بالخلة ـ وهي الصداقة والمحبة للقرابة وغيرها ـ لازمها، وهو ما يكون وراءها من الكسب كالصلة والهدية والوصية والإرث، وبالشفاعة ـ وهي معروفة ـ لازمها في الكسب وهو ما يكون من إقطاعات الملوك والأمراء لبعض الناس، وإنما يكون غالبا بالتوسل إليهم والشفاعة عندهم، فهذه الثلاث من طرائق جمع المال وسعة الرزق في الدنيا، فهو يقول ـ ما معناه ـ: يا أيها الذين آمنوا بادروا إلى الإنفاق في سبيل الله مما تناله أيديكم وأنتم متمكنون منه ابتغاء مرضاة الله قبل أن يأتي يوم الجزاء الذي لا تجدون فيه ما تتقربون به إليه مما يكسب ببيع وتجارة، ولا مما ينال بخلة أو شفاعة، فإنه هو اليوم الذي يظهر فيه فقر العباد وكون الملك لله الواحد القهار.

ب. وأما الطريق الثاني: فقد فسروا فيه البيع بالافتداء وجعلوا فيه الخلة والشفاعة على ظاهرهما، أي أنفقوا فإن الإنفاق في سبيل الخير والبر ـ وهي سبيل الله ـ هو الذي ينجيكم في ذلك اليوم الذي لا ينجي الأشحة الباخلين فيه من عذاب الله تعالى فداء فيفتدوا منه أنفسهم، ولا خلة يحمل فيها خليل شيئا من أوزار خليله، أو يهبه شيئا من حسناته، ولا شفاعة يؤثر بها الشفيع في إرادة الله تعالى، فيحولها عن مجازاة الكافر بالنعمة الباخل بالصدقة المستحق للمقت والعقوبة بتدنيس نفسه وتدسيتها في الدنيا، وهذا هو الوجه الذي اختاره محمد عبده.

5. الآية بمعنى قوله تعالى في هذه السورة: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة: 48]، فقوله: ﴿لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ [البقرة: 123]، بمعنى نفي الخلة هنا، والعدل: هو الفداء بالعوض، وهو بمعنى البيع المنفي هنا، ومثلها آية 2، والخطاب في تينك الآيتين لبني إسرائيل الذين كانوا في عصر التنزيل يقيسون أمور الدنيا على أمور الآخرة كما هو شأن الوثنيين، فيظنون أن الإنسان يمكن أن ينجو في الآخرة بفداء يفتدي به أو شفاعة تناله من سلفه النبيين والربانيين، كدأب الأمراء، والسلاطين، وإن كان في هذه الحياة فاسقا ظالما فاسد الأخلاق مناعا للخير معتديا أثيما، وقصارى هذا الاعتقاد أن سعادة الآخرة هي كالمعروف للعامة من سعادة الدنيا ليست جزاء للأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والعقائد الصحيحة، أي ليست أثرا لشيء في نفس الإنسان، إنما الغالب فيها أن تكون بإسعاد غيره له، وخير ضروب هذا الإسعاد وأعلاها ما يكون بالشفاعة عند الأمراء والسلاطين الذين يجعلون المرء من أعظم أرباب المال والجاه بكلمة يحملهم عليها الشافع، فمن كان يطلب في الآخرة منتهى السعادة فعليه أن يعتمد على أحد المقربين عند الله ليشفع له هناك ولا يكلفن نفسه عناء التهذيب وأعمال البر، وقد بين الله تعالى لبني إسرائيل خطأهم في هذا الاعتقاد بما فيه عبرة لهذه الأمة، ثم خاطب المؤمنين بذلك وأنذرهم ما أنذر به بني إسرائيل، وما تغني الآيات والنذر عن قوم يحرفون الكلام عن مواضعه، كما فعل بعض المفسرين الذين زعموا أن قوله تعالى: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 254] يدل على أن الكافرين بأصل الدين هم الذين لا ينفعهم يوم القيامة بيع ولا خلة ولا شفاعة؛ أي هذا النفي العام المستغرق لمنفعة الفداء، والخلة والشفاعة خاص بمن لا يسمي نفسه مسلما، وأما من قبل هذا الاسم فإن الآية لا تتناولهم، وإن كان الخطاب فيها للذين آمنوا، وستعلم أن لفظ الكافرين لا يراد به هنا منكرو الألوهية والنبوة أو رافضو لقب الإسلام؛ لأن هذا اصطلاح لم يلتزمه القرآن.

6. سبق القول في الشفاعة والجزاء والفداء في تفسير آية ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا﴾ [البقرة: 281] التي استشهدنا بها آنفا فلا نعيده، ولكن بدا لي أن أكتب جملة وجيزة في مسألة قياس عالم الغيب على عالم الشهادة في التماس السعادة بالإسعاد والشفاعة، فأقول: تقدم أن القياس باطل على تقدير صدق ظنهم في سعادة الدنيا؛ لأن الشفاعة المعروفة عند الملوك والحكام ـ وهي أكبر الشهادات في هذا المقام ـ مما يستحيل على الله ـ عز وجل ـ؛ لأن الشفيع هنا يحدث في ذهن المشفوع عنده من الرأي والعلم بالمصلحة وفي قلبه من الميل والأثر ما لم يكن فيهما، فيعفو ويصفح أو يهب ويمنح، إما بهذه العاطفة وإما بتلك المعرفة؛ لأن عمل الإنسان في الدنيا يصدر عن أحد هذين المصدرين في النفس أو عن كليهما، وأما أفعال الله تعالى فهي تابعة لعلمه وحكمته وسائر صفاته القديمة التي يستحيل أن يطرأ عليها تغيير ما، وهذه هي الشفاعة التي يتعلق بها السفهاء المغرورون وقد نفاها الله تعالى في هذه الآية وغيرها من الآيات، وبين فيها وفي آيات أخرى كثيرة جدا أن سعادة الآخرة إنما تنال بالأعمال الصالحة مع الإيمان الصحيح المؤثر في الوجدان، المصرف للإرادة في الأعمال.

7. الذي أريد: أن قوله هنا: هو أن السعادة الدنيوية الحقيقية التي يعرفها الشرع ويؤيده الاختبار والعقل، هي في الأنفس لا في الآفاق؛ أعني أنها لا تنال بإسعاد الأخلاء، ولا بشفاعة الشفعاء، إنما العمدة فيها على اعتدال النفس في أخلاقها وأعمالها، وصحة عقائدها ومعارفها، ويتبع هذا في الغالب صحة الجسم، وسهولة طرق الرزق، والسلامة من الخرافات والأوهام التي تفتك بالعقول والأجسام، ويظهر صدق هذا القول ظهورا بينا تقل فيه الشبهات في البلاد التي تساس بالعدل ويكون الحكام فيها مقيدين بأحكام الشريعة التي تكلفها الأمة، وإنما تعرض الشبهات على صدقه في البلاد التي يحكم فيها السلاطين بإرادتهم وأهوائهم فيعطون من مال الأمة ما أرادوا لمن أرادوا، ويسلبون من أموال الرعية ما أحبوا فينفقونه على من أحبوا، ويحكمون من شايعهم ـ على ظلمهم ـ في أنفس الخاضعين لحكمهم، ولا يشايعهم إلا من كان فاسد الأخلاق سيئ الأعمال يؤثر هواهم على رضوان الله ـ إن كان يكفر في رضوان الله أو يؤمن به ـ وعلى مصلحة الأمة، فما يتمتع به أعوان الظالمين من المال والجاه بالباطل وما يناله أشياعهم من منافع شفاعتهم كل ذلك في حكم الله وشرعه من الشقاء لا من السعادة، أفعلى حكم هؤلاء الظالمين نقيس حكم رب العزة في يوم الدين، أين نحن إذا من قوله: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47]، إذا خفي شقاء هؤلاء الملوك وأشياعهم على الجاهل في طور الإملاء والاستدراج، فإنه لا يخفى على أهل العلم بسنن الله في الخلق ويعرف ذلك كل أحد يوم يأخذهم الله بظلمهم، ويسلط عليهم من يسلب ملكهم، وتشقى بهم الأمة التي رضيت بأحكامهم، فهل يشبه الله تعالى بهؤلاء الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون! سبحان ربك رب العزة عما يصفون.

8. لا يبعد أن يكون في قوله تعالى بعد نفي الخلة والشفاعة: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 254] تعريض بهؤلاء الملوك الذين يمنحون بالشفاعة غير المستحق ويمنعون المستحق ويعاقبون بها البريء ويعفون عن المجرم، والمراد بالكافرين بالنعم بقرينة السياق وهم الذين لا ينفقون في سبل البر والخير، وقد صار الظلم عليهم كما أفادت الجملة المعرفة الطرفين تشنيعا لحالهم، كأن كل ظلم غير ظلمهم ضعيف لا يعتد به؛ لأنهم ظلموا أنفسهم ودنسوها برذيلة البخل ومنع الحق، وظلموا الفقراء والمساكين وغيرهم من الأصناف الذين فرضت لهم الصدقة بمنعهم مما فرض الله لهم، وظلموا الأمة بإهمال مصالحها المعبر عنها بسبيل الله، وإن أمة يؤدي أغنياؤها ما فرض الله عليهم لفقرائها ولمصالحها العامة لا تهلك ولا تخزى، ولا شيء أسرع في إهلاك الأمة من فشو البخل ومنع الحق في أفرادها.

9. إن هذا الكفر والظلم مما يتهاون فيه المسلمون في هذه الأزمنة وفي أزمنة قبلها؛ لظنهم أن جميع ما في القرآن من وعيد الكافرين يراد به الكافرون بالمعنى الخاص في اصطلاح المتكلمين والفقهاء وهم الجاحدون للألوهية أو للنبوة أو لشيء مما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وعلم من الدين بالضرورة إجماعا، وهذه الآية نفسها تبطل ظنهم وفي معناها آيات كثيرة، ثم إنهم يروون عن عطاء أنه قال: الحمد لله الذي قال: (والكافرون هم الظالمون ولم يقل والظالمون هم الكافرون)، يعني أن لا يكاد يسلم امرؤ من ظلم لنفسه ولغيره، فلو كان كل ظالم كافرا لهلك الناس، وقد فات صاحب هذا القول أن الظلم والكفر في القرآن يتواردان على المعنى الواحد، فيطلقان تارة على ما يتعلق بالاعتقاد وتارة على ما يتعلق بالعمل ومنه الحكم بين الناس، ويقابل هذه الآية في الجمع بينهما في المعنى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: 33] ومن استعمال الظلم بمعنى الاعتقاد الباطل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13] وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82] فسر الظلم هنا في الحديث المرفوع المتفق عليه بالشرك، وتلا صلّى الله عليه وآله وسلم الآية السابقة شاهدا، ومن استعمال الكفر بمعنى كفر النعم بعمل السوء قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7]، بل استعمل الكفر في القرآن بمعنى لغوي غير مذموم وذلك قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ [الحديد: 20] الكفار هنا بمعنى الزراع، سموا بذلك لأنهم يكفرون الحب بالتراب، أي يغطونه ويسترونه، والستر والتغطية هو المعنى العام لهذه المادة، ولم يستعمل الظلم في معنى محمود قط، فالظلم في جملة معانيه شر من الكفر في جملة معانيه.

10. ثم إن الله تعالى توعد على الظلم بالهلاك والعذاب كما توعد على الكفر سواء كانا بالمعنى الأول أو الثاني، قال تعالى: ﴿ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار﴾، الوعيد الأول على كفر النعمة بعمل السيئات وترك الأعمال النافعة الصالحة، والوعيد الثاني على الشرك وكلاهما من وعيد الآخرة، وقال تعالى: ﴿وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون﴾، فالوعيد الأول دنيوي وهو على كفر النعمة، والثاني مثله وهو على الظلم في الاعتقاد، والآية الثالثة صريحة في أن الإيمان الصحيح والتوحيد الخالص يقتضي شكر النعم وحسن العمل، ومن الوعيد على الظلم بعذاب الآخرة قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ [مريم: 72] أي في النار، وقوله: ﴿أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ﴾ [الشورى: 45] وأما وعيد الظالمين بعذاب الدنيا كهلاك الأمة فكثير كقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102]

11. إذا تدبرت هذه الآيات وأمثالها علمت أن ما نقل عن عطاء لا وجه له، وأن الظالمين والكافرين في كتابه تعالى وفي حكمه سواء؛ وأن الكفر والظلم في العمل أثر الكفر والظلم في الاعتقاد إلا ما لا يسلم منه البشر من اللمم، فقد يلم بالمؤمن الذنب بجهالة أو نسيان أو غلبة انفعال ثم يعود من قريب ولا يصر على الذنب وهو يعلم، وإن ما نحن بصدده من الإنفاق في سبيل الله ليس من اللمم، فالمنع له لا يتفق مع الإيمان الصحيح والدين الخالص من الشوائب، ويعجبني ما قاله البيضاوي في تفسير هذه الجملة قال: (يريد: والتاركون للزكاة هم الذين ظلموا أنفسهم إذ وضعوا المال في غير موضعه، وصرفوه على غير وجهه، فوضع (الكافرون) موضعه تغليظا وتهديدا كقوله: ومن كفر مكان: ومن لم يحج، وإيذانا بأن ترك الزكاة من صفات الكفار، كقوله: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [فصلت: 6-7])، وقد صدق في قوله: (إن منع الزكاة من صفات الكفار)، أي لا يصر عليها فتكون صفة له، قال محمد عبده ما معناه: لو فتشتم عن خفايا النفس لوجدتم أن العلة الصحيحة في منع الزكاة ونحوها من النفقات الواجبة هي أن حب المال أعلى في قلب المانع من حب الله تعالى، وشأن المال أعظم في نفسه من حقوق الله ـ عز وجل ـ؛ لأن النفس تذعن دائما لما هو أرجح في شعورها نفعا، وأعظم في وجدانها وقعا، مهما تعارضت وجوه المنافع، ولو وزنتم جميع أنواع الظلم الذي يصدر من الإنسان لوجدتم أرجحها ظلم الباخل بفضل ما له على ملهوف يغيثه ومضطر يكشف ضرورته، أو على المصالح العامة التي تقي أمته مصارع الهلكات أو ترفعها على غيرها درجات، أو تسد الخروق التي حدثت في بناء الدين، أو تزيل السدود والعقبات من طريق المسلمين، فإن هذا النوع من الظلم هو الذي لا يعذر صاحبه بوجه من وجوه العذر التي يتعلل بها سواه من ظالمي أنفسهم، أو التي قد تكون أعذارا طبيعية فيمن لم يؤخذ بأدب الدين، كسورة الغضب وثورة الشهوة العارضة.

12. ترى(2) كثيرا من أغنياء المسلمين عارفين بما عليه أمتهم من الجهل بأمور الدين ومصالح الدنيا وفساد الأخلاق وتقطع الروابط وتراخي الأواخي وما نشأ عن ذلك من هضم حقوقها وانتزاع منافعها من أيدي أبنائها، ويعلمون أن إصلاحهم يتوقف على بذل شيء من أموالهم ينفق على التربية والتعليم ونحوهما من المنافع العامة، ثم هم يدعون إلى بذل قليل من كثير ما خزنوه في صناديق الحديد وما ينفقونه في شهواتهم ولذاتهم وتأييد أهوائهم وحظوظهم فيبخلون بذلك ويرونه مغرما ثقيلا، ولا يحلفون بوعد الله للمنفقين في سبيله ولا وعيده للباخلين بفضله، وأمثال هؤلاء لا يستحقون أن يكونوا من المسلمين؛ لأنه لا يوجد في نفس الواحد منهم عرق ينبض في التألم لمصائب الإسلام وأهله، فمن كان يرى أن ماله أفضل من دينه في الوجدان والعمل، وهواه أرجح من رضوان الله فهو كافر حقيقة وإن سمى نفسه مؤمنا فما إيمانه إلا كإيمان من نزل فيهم ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين، فهناك يحكى عنهم دعوى الإيمان ويحكم عليهم بعدمه؛ لأن عملهم لا يشهد لإيمانهم وهاهنا يعبر عنهم بالكافرين، ومن المستبعد أن يطلق الله تعالى هذين الوصفين على من كان للإيمان في قلبه بقية تبعثه على الإنفاق في سبيله إيثارا لرضوانه وخشيته على الشهوات والحظوظ الباطلة وترجيحا على حب المال، وأزيد على هذه المعاني المتعلقة بجوهر الدين وما به النجاة في الآخرة التنبيه إلى العبرة بشقاء الدنيا الذي يترتب على ترك الإنفاق، وأقول: ماذا يبلغ وزن إيمان هؤلاء إذا وضع في ميزان القرآن وقوبل بمثل قوله في خطاب المؤمنين بعد الامتنان عليهم بأنه لم يسألهم إنفاق جميع أموالهم منذرا إياهم بأن البخل قاض بإهلاكهم واستبدال قوم آخرين بهم ﴿هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم﴾

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/16.

(2) الكلام هنا لمحمد عبده

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان الكلام قبل هذا فيما كان من الرسل، ومن أقوامهم بعدهم من الاختلاف والاقتتال ـ وهنا عاد إلى الأمر بالإنفاق بأسلوب آخر غير ما تقدم، فالأول كان خطابا بالترغيب لمن لطف وجدانه وشعوره، وبلغ في مراتب الكمال منازل الصديقين، ولكن الأكثرين من الناس يفعل في نفوسهم الترهيب أكثر مما يفعل فيهم الترغيب، فهم لا ينفقون في سبيل الله إلا خوفا من العقاب، أو طمعا في الثواب، وقد يجول بخاطر بعض الضعفاء أن يركنوا إلى شفاعة تغنى عن العمل، أو فدية تقى صاحبها عاقبة ما كان منه من الزلل، أو خلة بها يسامح صاحب الكبيرة مما ألمّ به من الخطل ـ فمثل هؤلاء يخاطبون بنحو ما في هذه الآية.

2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ الإنفاق هنا يشمل الإنفاق الواجب بالزكاة، والإنفاق المستحب أيضا، ذاك أنه إذا اضطرب حبل الأمن في الأمة، أو انتشر المرض في أبنائها، أو كثر الجهل في أفرادها، ولا سبيل لدرء هذا إلا ببذل المال ـ وجب على الأغنياء أن يبذلوه لدفع هذه المفاسد، وإزالة هذه الطوارئ لحفظ المصالح العامة.

3. في قوله: ﴿مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ حث على الإنفاق وإشعار بأنه لا يطلب منهم إلا بعض ما جعلهم مستخلفين فيه من رزقه ونعمه.

4. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ إلى آخره أي من قبل أن يأتي يوم الحساب الذي لا يفدى فيه مقصّر بمال، ولا تنفع فيه الصداقة، ولا تجدى الشفاعة، وخلاصة ذلك ـ إن الإنفاق في سبيل البر هو الذي ينجيكم في ذلك اليوم الذي لا ينجّى فيه الأشحة الباخلين من عذاب الله فداء يفتدون به أنفسهم، ولا خلة يحمل فيها الخليل شيئا من أوزار خليله، أو يهبه شيئا من حسناته، ولا شفاعة يؤثر بها الشفيع فيما أراده الله، فيحولها عن مجازاة الكافر بالنعمة الباخل بالصدقة، المستحق للمقت والعقوبة بما دنّس به نفسه في الدنيا ودسّاها به من المعاصي والآثام، ويجعله يترك عقوبته مرضاة له، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾

5. في الآية إيماء إلى أن أمور الآخرة لا تقاس على ما هو حاصل في الدنيا، فلا يظن امرؤ أنه ينجو فيها بفداء يفتدى به أو شفاعة تناله من النبيين والربانيين كما كانت في الدنيا تناله من الأمراء والسلاطين، وإن كان في هذه الحياة فاسقا ظالما فاسد الأخلاق منّاعا للخير معتديا أثيما.

6. ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ أي والتاركون للزكاة هم الذين ظلموا أنفسهم، إذ وضعوا المال في غير موضعه، وصرفوه في غير وجهه، وقد سماهم الله كافرين تغليظا وتهديدا كما قال في آخر آية الحج‏ ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ مكان‏ ومن لم يحج، وإيذانا بأن ترك الزكاة من صفات الكفار كقوله تعالى: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾، ذاك أن العلة في منع الزكاة ونحوها من النفقات الواجبة، أن حب المال أعلى في قلب المانع من حب الله تعالى، وشأنه أعظم في نفسه من حقوقه عزّ وجل، والنفس تدعن دائما لما هو أرجح لديها نفعا، وأعظم في وجدانها وقعا، وظلم الباخل بفضل ماله على ملهوف يغيثه، أو مضطر يكشف ضرورته، أو على المصالح العامة التي تقى أمته مصارع السوء، أو ترفع من قدرها، أو تزيل العقبات من طريقها ـ من أقبح أنواع الظلم، فلا يعذر صاحبه بوجه من الوجوه التي يتعلل بها سواه ممن ظلموا أنفسهم.

7. عمّ الفقر والشقاء، ثم هم بعد ذلك يبخلون بفضلة مما أعطاهم الله من رزقه، لتكون بلسما تداوى به تلك النفوس المكلومة، وعلاجا لهذه الأمراض التي انتابتها، ومثل هؤلاء لا يستحقون أن ينسبوا إلى الإسلام، ولا أن يكونوا من المسلمين، إذ ليس في أحدهم عرق ينبض أو يتألم لمصائب المسلمين، فمن كان يرى أن ماله أفضل من دينه في الوجدان والعمل، وهو أرجح من رضوان ربه، فهو كافر بنعمته وإن سمى نفسه مؤمنا، فما إيمانه إلا كإيمان من نزل فيهم‏ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، وقد أنذر الله مثل هؤلاء بقوله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾

__________

(1) تفسير المراغي: 3/9.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. من ثم يعقب السياق على ذكر الاختلاف والاقتتال بنداء ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ودعوتهم إلى الإنفاق مما رزقهم الله، فالإنفاق صنو الجهاد وعصب الجهاد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.. إنها الدعوة بالصفة الحبيبة إلى نفوس المؤمنين، والتي تربطهم بمن يدعوهم، والذي هم به مؤمنون ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وهي الدعوة إلى الإنفاق من رزقه الذي أعطاهم إياه، فهو الذي أعطى، وهو الذي يدعو إلى الإنفاق مما أعطى ﴿أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾.. وهي الدعوة إلى الفرصة التي إن أفلتت منهم فلن تعود ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾.. فهي الفرصة التي ليس بعدها ـ لو فوّتوها على أنفسهم ـ بيع تربح فيه الأموال وتنمو، وليس بعده صداقة أو شفاعة ترد عنهم عاقبة النكول والتقصير.

2. يشير إلى الموضوع الذي يدعوهم إلى الإنفاق من أجله، فهو الإنفاق للجهاد، لدفع الكفر، ودفع الظلم المتمثل في هذا الكفر: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.. ظلموا الحق فأنكروه، وظلموا أنفسهم فأوردوها موارد الهلاك، وظلموا الناس فصدوهم عن الهدى وفتنوهم عن الإيمان، وموهوا عليهم الطريق، وحرموهم الخير الذي لا خير مثله، خير السلم والرحمة والطمأنينة والصلاح واليقين.

3. إن الذين يحاربون حقيقة الإيمان أن تستقر في القلوب؛ ويحاربون منهج الإيمان أن يستقر في الحياة؛ ويحاربون شريعة الإيمان أن تستقر في المجتمع.. إنما هم أعدى أعداء البشرية وأظلم الظالمين لها، ومن واجب البشرية ـ لو رشدت ـ أن تطاردهم حتى يصبحوا عاجزين عن هذا الظلم الذي يزاولونه؛ وأن ترصد لحربهم كل ما تملك من الأنفس والأموال.. وهذا هو واجب الجماعة المسلمة الذي يندبها إليه ربها ويدعوها من‏ أجله بصفتها تلك؛ ويناديها ذلك النداء الموحي العميق.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/286.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الناس فريقان: مؤمن وكافر.. والمؤمنون هم الذين يتقبلون دعوة الحق، ويستجيبون لها.. والنداء هنا موجه للمؤمنين، إذ يحمل إليهم أمر الله بأن ينفقوا في سبيل الله مما رزقهم الله.. فمن هذا الذي ينفقونه في هذه الدنيا يكون رصيدهم من الخير الذي يجدونه يوم القيامة، يوم لا يلقى الإنسان شيئا إلا ما أعده من قبل لهذا اليوم.. حيث انقطع الإنسان من كل شيء، وانقطع عنه كل شيء، فلا بيع ولا شراء، ولا ربح ولا خسارة.. فقد انفضّت السوق من قبل، فربح من ربح وخسر من خسر.. وليس هناك من صديق أو معين يمد يده إلى غيره بشيء مما عنده، فلكل امرئ يومئذ شأن يغنيه، وليس لأحد شفاعة من أحد أو في أحد، فقد صار الأمر كله إلى يد غير يد الأصدقاء والشفعاء.. إنه في يد الله رب العالمين.

2. ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ تنديد بالكافرين، وإثارة لمشاعر الحسرة والندامة فيهم، إذ ظلموا أنفسهم، ولم يعملوا لها حسابا لهذا اليوم العظيم.. وحصر الظلم فيهم إشارة إلى أن كل ظلم هو تبع لظلمهم، وفرع من أصل.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏2/316.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. موقع هذه الآية مثل موقع‏ ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة: 245] الآية لأنّه لما دعاهم إلى بذل نفوسهم للقتال في سبيل الله فقال: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 244] شفّعه بالدعوة إلى بذل المال في الجهاد بقوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245] على طريقة قوله: ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 72]، وكانت هذه الآية في قوة التذييل لآية ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ لأنّ صيغة هذه الآية أظهر في إرادة عموم الإنفاق المطلوب في الإسلام، فالمراد بالإنفاق هنا ما هو أعم من الإنفاق في سبيل الله، ولذلك حذف المفعول والمتعلق لقصد الانتقال إلى الأمر بالصدقات الواجبة وغيرها، وستجيء آيات في تفصيل ذلك.

2. ﴿مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ حث على الإنفاق واستحقاق فيه، وقوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ حث آخر لأنه يذكر بأن هنالك وقتا تنتهي الأعمال إليه ويتعذّر الاستدراك فيه، واليوم هو يوم القيامة، وانتفاء البيع والخلة والشفاعة كناية عن تعذّر التدارك للفائت، لأن المرء يحصل ما يعوزه بطرق هي المعاوضة المعبر عنها بالبيع، والارتفاق من الغير وذلك بسبب الخلة، أو بسبب توسط الواسطة إلى من ليس بخليل.

الخلة ـ بضم الخاء ـ المودة والصحبة، ويجوز كسر الخاء ولم يقرأ به أحد، وتطلق الخلة بالضم على الصديق تسمية بالمصدر فيستوي فيه الواحد وغيره والمذكر وغيره قال الحماسي:

çألا أبلغا خلّتي راشدا...وصنوي قديما إذا ما اتصل‏é

وقال كعب: (أكرم بها خلة)، البيت، فيجوز أن يراد هنا بالخلة المودة، ونفي المودة في ذلك لحصول أثرها وهو الدّفع عن الخليل كقوله تعالى: ﴿وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا﴾ [لقمان: 33]، ويجوز أن يكون نفي الخليل كناية عن نفي لازمه وهو النفع كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ﴾ [الشعراء: 88]، قال كعب بن زهير:

çوقال كل خليل كنت آمله‏...لا ألهينّك إني عنك مشغول‏é

3. قرأ الجمهور ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾ ـ وما بعده ـ بالرفع لأنّ المراد بالبيع والخلة والشفاعة الأجناس لا محالة، إذ هي من أسماء المعاني التي لا آحاد لها في الخارج فهي أسماء أجناس لا نكرات، ولذلك لا يحتمل نفيها إرادة نفي الواحد حتى يحتاج عند قصد التنصيص على إرادة نفي الجنس إلى بناء الاسم على الفتح، بخلاف نحو لا رجل في الدار ولا إله إلا الله، ولهذا جاءت الرواية في قول إحدى صواحب أم زرع (زوجي كليل تهامة لا حرّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سآمة) بالرفع لا غير، لأنّها أسماء أجناس كما في هذه الآية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بالفتح لنفي الجنس نصّا فالقراءتان متساويتان معنى، ومن التكلّف هنا قول البيضاوي إنّ وجه قراءة الرفع وقوع النفي في تقدير جواب لسؤال قائل هل بيع فيه أو خلّة أو شفاعة.

4. الشفاعة الوساطة في طلب النافع، والسعي إلى من يراد استحقاق رضاه على مغضوب منه عليه أو إزالة وحشة أو بغضاء بينهما، فهي مشتقة من الشفع ضد الوتر، يقال شفع كمنع إذا صيّر الشيء شفعا، وشفع أيضا كمنع إذا سعى في الإرضاء ونحوه لأنّ المغضوب عليه والمحروم يبعد عن واصله فيصير وترا فإذا سعى الشفيع بجلب المنفعة والرضا فقد أعادهما شفعا، فالشفاعة تقتضي مشفوعا إليه ومشفوعا فيه، وهي ـ في عرفهم ـ لا يتصدّى لها إلّا من يتحقّق قبول شفاعته، ويقال شفع فلان عند فلان في فلان فشفّعه فيه أي فقبل شفاعته، وفي الحديث: (قالوا هذا جدير إن خطب بأن ينكح وإن شفع بأن يشفع)، وبهذا يظهر أنّ الشفاعة تكون في دفع المضرة وتكون في جلب المنفعة قال فذاك فتى إن تأته في صنيعة...إلى ما له لا تأته بشفيع‏، ومما جاء في منشور الخليفة القادر بالله للسلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي (ولّيناك كورة خراسان ولقبناك يمين الدولة، بشفاعة أبي حامد الإسفرائيني)، أي بواسطته ورغبته.

5. الشفاعة ـ في العرف ـ تقتضي إدلال الشفيع عند المشفوع لديه، ولهذا نفاها الله تعالى هنا بمعنى نفي استحقاق أحد من المخلوقات أن يكون شفيعا عند الله بإدلال، وأثبتها في آيات أخرى كقوله ـ قريبا ـ ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: 255]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء: 28]، وثبتت للرسول عليه السلام في أحاديث كثيرة وأشير إليها بقوله تعالى: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79] وفسّرت الآية بذلك في الحديث الصحيح، ولذلك كان من أصول اعتقادنا إثبات الشفاعة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وأنكرها المعتزلة وهم مخطئون في إنكارها وملبسون في استدلالهم، والمسألة مبسوطة في كتب الكلام.

6. الشفاعة المنفية هنا مراد بها الشفاعة التي لا يسع المشفوع إليه ردّها، فلا يعارض ما ورد من شفاعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الأحاديث الصحيحة لأنّ تلك كرامة أكرمه الله تعالى بها وأذن له فيها إذ يقول: (اشفع تشفع)، فهي ترجع إلى قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: 255] وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء: 28]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [سبأ: 23]

7. قوله تعالى: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ صيغة قصر نشأت عن قوله تعالى: ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ فدلّت على أن ذلك النفي تعريض وتهديد للمشركين فعقب بزيادة التغليظ عليهم والتنديد بأنّ ذلك التهديد والمهدّد به قد جلبوه لأنفسهم بمكابرتهم فما ظلمهم الله، وهذا أشدّ وقعا على المعاقب لأنّ المظلوم يجد لنفسه سلوّا بأنّه معتدى عليه، فالقصر قصر قلب، بتنزيلهم منزلة من يعتقد أنّهم مظلومون، ولك أن تجعله قصرا حقيقيا ادّعائيا لأنّ ظلمهم لما كان أشدّ الظلم جعلوا كمن انحصر الظلم فيهم.

8. المراد بالكافرين ظاهرا المشركون، وهذا من بدائع بلاغة القرآن، فإنّ هذه الجملة صالحة أيضا لتذييل الأمر بالإنفاق في سبيل الله، لأنّ ذلك الإنفاق لقتال المشركين الذين بدؤوا الدين بالمناوأة، فهم الظالمون لا المؤمنون الذين يقاتلونهم لحماية الدين والذبّ عن حوزته، وذكر الكافرين في مقام التسجيل فيه تنزيه للمؤمنين عن أن يتركوا الإنفاق إذ لا يظنّ بهم ذلك، فتركه والكفر متلازمان، فالكافرون يظلمون أنفسهم، والمؤمنون لا يظلمونها، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [فصلت: 6، 7]، وذلك أنّ القرآن يصوّر المؤمنين في أكمل مراتب الإيمان ويقابل حالهم بحال الكفار تغليظا وتنزيها، ومن هذه الآية وأمثالها اعتقد بعض فرق الإسلام أنّ المعاصي تبطل الإيمان كما قدّمناه.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/489.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ بعد أن بين سبحانه أن الاقتتال قائم في الدنيا، وأن الحق لا ينال في راحة واطمئنان؛ لأن البغي والعدوان في طبيعة كثير من بنى الإنسان؛ وإذا كان الحق في ذاته أنبل ما يطلبه ابن الإنسان فإن الطريق إليه ليس خاليا من مذأبة من ابن الإنسان؛ وإذا كان ابن آدم قد قتل أخاه؛ لأنهما قربا قربانا فتقبل من أحدهما، ولم يتقبل من الآخر، فقال من ردّ عليه قربانه لأخيه: لأقتلنك، وقتله؛ فالنزاع مستمر؛ لذلك‏ ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج‏] فكان لا بد من أخذ الأهبة، وبذل النفس، ثم بذل النفيس أيضا.

2. لذلك أمر سبحانه وتعالى المؤمنين بأن يستعدوا للقتال بالإنفاق في سبيل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ أي أنفقوا في سبيل الله، فالإنفاق في سبيل الله هو الإنفاق في سبيل الحق، وسبيل كل خير في هذا الوجود، فكل ما ينفق في سبيل الفضيلة من إعطاء لليتامى والمساكين وابن السبيل، وإقامة دعائم الاقتصاد الفاضل، والعمران الشامل هو مما ينفق في سبيل الله، وأقواها مما ينفق في سبيل حماية الحوزة، والدفاع عند الاعتداء.

3. إنفاق المال في سبيل الله على المعنى الذي وضحناه هو عنصر القوة في الأمة، وبالقوة تستطيع الأمة أن تدافع عن نفسها، وترد كيد أعدائها في نحورهم، وكان الإنفاق على ذلك النحو عنصر القوة في الأمة لثلاثة أسباب:

أ. أولها: أن المال عدة التسليح، ولا قتال من غير سلاح يفلّ شوكة العدو ويدفع كيده، بل يمنعه من أن يفكر في الاعتداء، فإنه لا شيء أنفى للقتال من السلاح؛ فذو الناب لا يعدو على ذي الناب، وتعدو الذئاب على من لا كلاب له.

ب. ثانيها: أن الإنفاق في سبيل إقامة العمران رفع لمستوى الأمة الاقتصادي، والاقتصاد سلاح ماض، والحرب اليوم تلبس لبوس الاقتصاد في الحصار الاقتصادي والتضييق التجارى.

ج. ثالثها: أن الإنفاق على ضعفاء الأمة يجعل منهم سواعد قوية تحمى الذمار، وإن تركهم يجعل منهم شوكة في جنب الدولة يعوقها عن العمل، وقد يكونون قوة مدمرة مخربة، وإن الهرة إذا جوعتها انقلبت ذئبا.

4. قال سبحانه وتعالى في المال المنفق منه‏ ﴿مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أفاض بنعمته على الغنى فهيأ له الأسباب، ومكنه من الفرص، ومنع عنه العوائق، فإن أنفق في سبيل الله فأعطى المجاهدين، والضعفاء، فمن المال الذي مكنه الله منه أنفق؛ ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (ابغوني في ضعفائكم، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم)، والإنفاق المطلوب في هذه الآية واجب، بدليل الوعيد الذي تضمنه الطلب؛ ولذا قال كثير من المفسرين إن الإنفاق المطلوب في هذه الآية هو الزكاة، والزكاة ينفق منها في الجهاد وللفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمين؛ ففيها كل المعاني التي تتحقق بها قوة الأمة من حماية للحوزة وسد للخلة، وإقامة للعمران، وإنا نوافقهم على أن الإنفاق المطلوب في هذه الآية إنفاق واجب؛ ولكنه أعم من الزكاة، فليس الإنفاق الواجب مقصورا على الزكاة.. بل الإنفاق في الحرب‏ عندما تشتد الشديدة، ولا يكون في بيت المال ما يكفى ـ يكون واجبا، والإنفاق على الفقراء إذا لم تكف الزكاة يكون واجبا؛ فالقصر على الزكاة ليس بصحيح.

5. ذكر الله سبحانه وعيدا شديدا لمن لا ينفق في سبيل الله فقال سبحانه: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ والخلّة المودة والمحبة، وأصلها من الخلل بمعنى الفرجة بين الشيئين، وقد جاء في مفردات الراغب ما نصه: (الخلّة المودة، إما لأنها تتخلل النفس أي تتوسطها، وإما لأنها تخلّ بين النفس فتؤثر فيها تأثير السهم في الرميّة، وإما لفرط الحاجة إليها؛ يقال منه خاللته مخاللة وخلالا فهو خليل)، والشفاعة مأخوذة من الشفع بمعنى الضم، فالشفاعة الانضمام إلى آخر ناصرا له وسائلا عنه، وأكثر ما تستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو دونه، ومنه الشفاعة يوم القيامة.

6. صرح سبحانه وتعالى بأن الإنفاق يجب أن يتداركه المنفقون قبل أن يأتي اليوم الذي لا يجدى فيه بيع ولا مودة ولا شفاعة، ولا شك أن هذا اليوم هو يوم القيامة، ولكن ما المراد من نفى البيع والصداقة والشفاعة فيه؟.. هناك منهاجان في معنى هذا النفي.

أ. أحدهما: أن معنى هذا النفي أنه يوم لا بيع فيه أي لا تجارة حتى يدفع الحرص عليها إلى عدم الإنفاق، ولا صداقة حتى يؤثر الإنفاق عليها أو طلب المادة عن طريقها في عدم الإنفاق، أو شفاعة أي طلب المال بطريق شفاعة الشفعاء ووساطة الوسطاء، والمعنى على هذا: أنفقوا قبل أن يجيء اليوم الذي لا تجدون فيه جدوى للمال بتجارة، أو بصداقة تتبادل فيها المنافع المعنوية والمادية، أو بشفاعة شفعاء يطلب المال عن طريقهم، والمغزى في هذا أنه إذا غرتكم فوائد المال في هذه الأبواب الدنيوية، فأنفقوا لتتقوا بهذا الإنفاق اليوم الذي لا تروج فيه هذه الأسباب، بل يحكم فيه الحكم العدل مالك الملك.

ب. الثاني: أن يكون المراد نفى هذه الأمور في الآخرة؛ فالمعنى: أنفقوا قبل أن يأتي اليوم الذي لا تستطيعون فيه أن تفتدوا نفوسكم بعدل تقدمونه فيكون‏ كالبيع، ولا تجدون صديقا يدفع عنكم، ولا شفيعا يشفع لكم فيحط من سيئاتكم إلا أن يأذن رب العالمين، والمغزى على هذا يكون الوعيد فيه أشد وأوضح؛ لأن المعنى نجوا أنفسكم بالإنفاق قبل أن يكون زمان لا منجاة فيه.

7. ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ ذيلت هذه الآية الكريمة بهذه الجملة السامية للإشارة إلى أن المؤمنين عدول إذا قاتلوا الكافرين؛ لأنهم هم الذين اعتدوا، وإلى أن الذي يقع بهم من عقاب يوم القيامة يستحقونه، وإلى أنهم هم الذين حركوا ذلك الشر، وأنهم هم الذين أشعلوا نيران الحروب بالشر الذي كان في نفوسهم.

8. ثم إن الكافرين ليس ظلمهم فقط لغيرهم، بل ظلمهم لأنفسهم، لأنهم طمسوا قلوبهم، وجعلوا أنفسهم في شدة وبلاء، ثم هم ظالمون فيما بينهم؛ كبراؤهم يظلمون ضعافهم، وضعفاؤهم يظلمون أنفسهم، بالاستضعاف والحياة الهون بينهم، وظلموا أنفسهم بأن حرموها من سعادة الإيمان وبرد اليقين ونور الحق، ورضوان الله ونعمة الله‏ ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ﴾ [يونس‏]، لكل هذه المعاني كانوا ظالمين، وقد أكد الله سبحانه وتعالى ظلمهم بالقصر، أي قصر الظلم عليهم؛ لأنه لا ظالم غيرهم؛ وبالجملة الاسمية والضمير المنفصل.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/927.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. حث الله سبحانه على بذل المال في أساليب شتى، وسبق تفسير قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ الآية وغيرها، وأيضا يأتي نظير ذلك، وفي هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ حث على الإنفاق مع الاشارة إلى أن ما في يد الناس من مال هو من عطائه سبحانه، وان غدا تفلت منهم الفرصة، وعلى المؤمن العاقل أن يغتنم قبل فوات الأوان.

2. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾، المراد بالبيع هنا الفدية بالمال من النار، وبالخلة المودة التي تستدعي التساهل والتسامح، وبالشفاعة التوسط للخلاص من العذاب.. والقصد ان الإنسان يجيء غدا وحده أعزل من كل شيء إلا من العمل الصالح، وتفيد هذه الآية نفس المعنى الذي تفيده الآية 48 من هذه السورة: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾، وتكلمنا عن الشفاعة عند تفسير هذه الآية، فقرة الشفاعة.

3. ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ لأنفسهم بترك العمل الصالح الذي ينجيهم من العذاب، ومن فعل فعلهم يكون ماله مالهم.. وتجمل الاشارة الى أن الظلم والكفر يتواردان في الاستعمال على معنى واحد، فتارة يستعمل الكفر في الظلم، كما في الآية 13 من سورة لقمان ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾، وقوله هنا: والكافرون هم الظالمون، وتارة يستعمل الظلم في الكفر، كما في الآية 33 ـ الانعام ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/390.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا﴾ الآية، معناه واضح وفي ذيل الآية دلالة على أن الاستنكاف عن الإنفاق كفر وظلم.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/329.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ الإنفاق هنا هو المشروع، ومنه الإنفاق في سبيل الله، والإنفاق للوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل، وغير ذلك كما مرَّ، وفي هذه الآية أمر بالإنفاق لينفع المنفق نفسه، ويقدم لنفسه ليوم لا ينفعه غير ما قدم في هذه الدنيا من الإنفاق والعمل الصالح؛ حيث تبطل الوسائل المعهودة في الدنيا كالبيع لتحصيل الربح، أو الحاجة التي ينتفع بها، والخلة ليعين الخليل خليله عند الحاجة لنفع أو دفع، والشفاعة حيث يشفع أهل الوجاهة لمن يستشفع بهم فتنفعه شفاعتهم، فكل هذه الوسائل لا توجد في يوم القيامة إذا لم يقدم الإنسان لنفسه عملاً صالحاً وتقوى؛ تنجيه من النار وتبلغه الجنة.

2. فأما الشفاعة للمؤمنين فهي لهم بإذن الله، بسبب إيمانهم وتقواهم، والمقصود في الآية بالنفي شفاعة من يتدخل بالشفاعة كما في الدنيا، والشفاعة التي سببها الإستشفاع كما في الدنيا، فالمنفي هو الشفاعة المعهودة التي يتوصل إليها المكروب باختياره، ألا تراه نفاها كما نفى البيع والخلة؛ وهما اختياريان، فالمقصود نفي الوسائل المعهودة ليجدَّ الإنسان في التقديم لنفسه في هذه الدنيا، ولا يتكل على الأماني.

3. قوله تعالى: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ كأنه بمعنى أن الله لم يظلمهم بتعذيبهم في الآخرة ومنعهم الشفاعة وكل سبب للإنقاذ من العذاب؛ بل هم الظالمون بما اكتسبوا في الدنيا، فهي كقوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ [الزخرف:76]

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/377.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ ثم تتعرض هذه الآية إلى توجيه النداء إلى المؤمنين، في ما يفرضه عليهم الإيمان من أفكار للحياة وانسجام معها في الخط العملي، بالإنفاق مما رزقهم الله على كل من يحتاج إلى ذلك من الفئات المحرومة والمستضعفة من أجل تحرير هؤلاء من سيطرة القوى الطاغية الغاشمة عليهم من خلال حاجاتهم التي قد تستعبدهم بفعل الضرورة، وإنقاذ واقعهم من الانهيار المادي الذي قد يتحول إلى سقوط روحي أو معنوي تحت تأثير الضغط الجسدي في إلحاح الجوع والعطش والعري والتشريد على الإنسان في واقعه المرير، حتى لا يدفعهم ذلك إلى الانحراف والاختلاف المرضي الذي يؤدي إلى الاقتتال، ويدفع بهم إلى مواقع الضعف أمام ضغط القوي الذي قد يتحول إلى ضغط على قناعاتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية، وبهذا نعرف أن مسألة الإنفاق لا تنحصر في قاعدتها الشرعية من الناحية الفكرية في سدّ حاجات الفقراء والمعوزين، بل تمتد إلى تحرير حاجاتهم من ضغط الأغنياء والمستكبرين ليتحركوا في مواقعهم وموافقهم من خلال حريتهم في القناعة والإرادة والحركة.

2. ربما كان في التعبير بـ ﴿مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ إيحاء بأن الإنسان لا ينفق ممّا يملكه، بل ينفق مما أعطاه الله؛ الأمر الذي لا يجعل له الحرية في الإنفاق وعدم الإنفاق، بل هو مسئول أن ينفق منه على نفسه، ثم ينفق ما يفضل عنه على الآخرين من موقع إنفاق مال الله على عباد الله.

3. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ﴾ وقد أثار الله أمام الإنسان قضية الإنفاق من موقع المصير الذي يقدم عليه يوم القيامة، حيث لا يجد الإنسان أية وسيلة للخلاص في ما اعتاده من وسائل الخلاص في الدنيا، فهناك لا مجال للبيع الذي يحاول الإنسان فيه أن يطرح ما يملكه من السلع ليحصل‏ من خلال ذلك على ما يحتاجه مما لا يملكه عن طريق المعاوضة، ولا مجال للصداقات التي يتوسّل بها الإنسان ويلجأ إليها لتدعم موقفه ولتقضي له حاجاته.

4. ﴿وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ يقدمها الإنسان أمام ما ينتظره من عقاب وما يواجهه من نتائج المسؤولية الصعبة، لأن يوم القيامة قد ألغى ذلك كله، وأبقى وسيلة واحدة وهي أعمال الإنسان التي يقف في مقدمتها الإنفاق على السائل والمحروم.. ثم لا شيء إلّا رحمة الله، فهذه هي الفرصة الوحيدة التي يحصل عليها في الدنيا ليستكمل استعداده للوصول إلى رضوان الله والحصول على ثوابه في الآخرة، فإذا كان يريد بيعا في حركة الربح، فالله هو الأفضل في ما يقدمه له من أرباح الدنيا والآخرة، وإذا كان يريد الحصول على صداقة خالصة تفتح له قلبه وتقوي له موقفه، فالله هو الخليل الصديق الأعظم الذي أعطاه وجوده بكل تفاصيله من خلال رحمته ولطفه به وإخلاصه لمصيره في الدنيا والآخرة.

5. ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ ثم يعقب على ذلك بأن الكافرين الذين لا يعيشون الإيمان عقيدة، ولا يمارسونه عملا في ما تفرضه العقيدة من عمل، هم الظالمون، لأنهم يظلمون أنفسهم بالمعصية، ويظلمون الحياة بالسير على الخط المنحرف بعيدا عن الخط المستقيم، وبذلك تبرز معادلة ثانية في الخط المعاكس، وهي أن المؤمنين هم العادلون، الذين يسيرون على خط العدالة في الفكر والعاطفة والحياة، وذلك من خلال ارتباط العدل بالله في صفاته الحسنى، وبالإنسان في مسئوليته عنه أمام ربّه، فإن الإيمان في أساس حركة الرسالات في وحي الرسالة وميزان الحق، هو حركة عدل مع النفس ومع الله ومع الإنسان الآخر والحياة.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏5/25.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن تحدّثت الآيات السّابقة عن الأمم الماضية وجهاد حكوماتها الإلهيّة والاختلافات الّتي حدثت بعد الأنبياء عليهم السّلام تخاطب هذه الآية المسلمين وتشير إلى أحد الواجبات المهمّة عليهم الّتي تسبّب في تقوية بنيتهم الدّفاعيّة وتوحّد كلمتهم فتقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾

2. جملة ﴿مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ لها مفهوم واسع حيث يشمل الإنفاق الواجب والمستحب، وكذلك الإنفاق المعنوي كالتعليم وأمثال ذلك، ولكن مع الالتفات إلى التهديد الوارد في ذيل الآية لا يبعد أن يكون المراد به الإنفاق الواجب يعني الزكاة وأمثالها، مضافا إلى أنّ الإنفاق الواجب هو الّذي يعزّز بيت المال ويقوّم كيان‏ الحكومة، وبهذه المناسبة يشير تعبير (ممّا) أنّ هذا الإنفاق يكون بجزء من المال الّذي يملكه الشخص لا كلّه.

3. رجّح المرحوم (الطبرسي) في مجمع البيان شموليّة الآية للإنفاق الواجب والمستحب، وذهب إلى أنّ ذيل الآية لا يعتبر تهديدا، بل هو إخبار عن الحوادث المخوفة يوم القيامة، ولكن مع ملاحظة آخر جملة في هذه الآية الّتي تقول إنّ الكافرين هم الظالمون يتضح أنّ ترك الإنفاق نوع من الكفر والظلم، وهذا لا يكون إلّا في الإنفاق الواجب.

4. ثمّ تضيف الآية ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾، عليكم أن تنفقوا ما دمتم اليوم قادرين على ذلك، لأنّ العالم الآخر الذي هو محلّ حصاد ما زرعتموه في الدنيا لن يتسنى لكم فيه أن تفعلوا شيئا، فلا معاملات ولا صفقات تجارية تستطيعون بها أن تشتروا السعادة والخلاص من العقاب، ولا هذه الصداقات الماديّة التي تكسبونها في الدنيا بأموالكم تنفعكم في شيء هناك، لأنّ أصدقاءكم أنفسهم يعانون نتائج أعمالهم ولا يدفعون من أنفسهم للآخرين، ولا تنفعكم شفاعة، لأنكم بتخلّفكم حتّى عن الإنفاق الواجب لم تفعلوا ما هو جدير بأن يشفع لكم، وعليه فإنّ جميع أبواب النجاة مسدودة بوجوهكم.

5. ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ لأنهم بتركهم الإنفاق والزكاة يظلمون أنفسهم ويظلمون الناس، ويريد القرآن في هذه الآية أن يوضّح ما يلي:

أ. أولا: إنّ الكافرين يظلمون أنفسهم، فبتركهم الإنفاق الواجب وسائر التكاليف الدينية والإنسانية حرموا أنفسهم من أعظم السعادات، وأنّ أعمالهم هذه هي التي تثقل كواهلهم في العالم الآخر، لذلك فإنّ الله لم يظلمهم أبدا.

ب. ثانيا: يظلم الكافرون أفراد مجتمعهم أيضا، لأنّ الكفر منبع القسوة وتحجّر القلب والتمسّك بالمادة وعبادة الدنيا، وهذه كلّها من مصادر الظلم، لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الكفر في الآية يعني التمرّد والعصيان والتخلّف عن إطاعة أمر الله لورود الكلمة بعد الأمر بالإنفاق، واستعمال الكفر بهذا المعنى شائع في القرآن وغيره من النصوص الإسلامية.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/240.

120. آية الكرسي والقيومية الإلهية ومقتضياتها

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈120⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة، وننبه إلى أن في تفسير الآية الكريمة الكثير من الأحاديث والآثار غير الصحيحة، والتي تعارض القرآن الكريم معارضة واضحة، وسننبه إلى بعضها في محله، مما يغني عن التنبيه لغيرها، اكتفاء بما يذكره المفسّرون في شأنها.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: قال قال رجل: يا رسول الله، ما المقام المحمود؟ قال (ذاك يوم ينزل الله على كرسيه، يئط منه كما يئط الرحل الجديد من تضايقه، وهو كسعة ما بين السماء والأرض(1))(2).

__________

(1) هذا الحديث غير صحيح لأنه معارض لتنزيه الله تعالى، والذي ورد به القرآن الكريم، ودل عليه العقل.

(2) الدارمي: ٣/١٨٤٥.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ما أرى رجلا أدرك عقله الإسلام ودله في الإسلام يبيت ليلة في سوادها حتى يقرأ هذه الآية ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255]، فلو تعلمون ما هي ـ أو قال ما فيها ـ ما تركتموها على حال، إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش، ولم يؤتها نبي كان قبلي..فما بت ليلة قط منذ سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حتى أقرأها(1).

2. روي أنّه قال: إذا أراد أحدكم الحاجة فليباكر في طلبها يوم الخميس، وليقرأ إذا خرج من منزله آخر سورة آل عمران وآية الكرسي و﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ وأم الكتاب، فإن فيها حوائج الدنيا والآخرة(2).

3. روي أنّه سئل عن قول الله عز وجل ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، فقال: (السماوات والأرض وما فيهما من مخلوق، في جوف الكرسي، وله أربعة أملاك يحملونه بإذن الله، فأما ملك منهم ففي صورة الآدميين، وهي أكرم الصور على الله، وهو يدعو الله ويتضرع إليه، ويطلب الشفاعة والرزق لبني آدم، والملك الثاني في صورة الثور، وهو سيد البهائم، وهو يطلب الرزق من الله ويتضرع إليه، ويطلب الشفاعة لجميع البهائم، والملك الثالث في صورة النسر، وهو سيد الطير، وهو يتضرع إلى الله ويطلب الشفاعة والرزق لجميع الطير، والملك الرابع في صورة الأسد، وهو سيد السباع، وهو يرغب إلى الله ويتضرع إليه، ويطلب من الله الشفاعة والرزق لجميع السباع، ولم يكن في هذه الصور أحسن من الثور، ولا أشد انتصابا منه، حتى اتخذ الملأ من بني إسرائيل العجل إلها، فلما عكفوا عليه وعبدوه من دون الله، خفض الملك الذي في صورة الثور رأسه، استحياء من الله أن عبد من دون الله شيء يشبهه، وتخوف أن ينزل به العذاب)، ثم قال (إن الشجر لم يزل حصيدا كله حتى دعي للرحمن ولد ـ عز الرحمن وجل أن يكون له ولد ـ فكادت السماوات أن يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدا، فعند ذلك اقشعر الشجر، وصار له شوك، حذار أن ينزل به العذاب، فما بال قوم غيروا سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وعدلوا عن وصيته في حق علي والأئمة، ولا يخافون أن ينزل بهم العذاب!؟) ثم تلا هذه الآية ﴿الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ ثم قال (نحن ـ والله ـ نعمة الله التي أنعم بها على عباده، وبنا فاز من فاز (3) )(4).

4. روي أنّه روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (الكرسي لؤلؤ، والقلم لؤلؤ، وطول القلم سبعمائة سنة، وطول الكرسي حيث لا يعلمه العالمون(5))(6).

__________

(1) الأمالي: 2/122.

(2) الخصال: 623/10.

(3) هذا الحديث يتعارض مع ما رود في القرآن الكريم عن تنزيه الملائكة عليهم السلام

(4) تفسير القمّي: 1/85.

(5) الحديث غير صحيح لأن المصدر غير معتبر

(6) أبو الشيخ في العظمة: ٢/٦٤٦.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ يريد: الذي ليس معه شريك، فكل معبود من دونه فهو خلق من خلقه، لا يضرون ولا ينفعون، ولا يملكون رزقا ولا حياة ولا نشورا، ﴿الْحَيُّ﴾ يريد: الذي لا يموت، ﴿الْقَيُّومِ﴾ الذي لا يبلى، ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ يريد: النعاس، ولا نوم ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ يريد: الملائكة ـ مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾، ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ يريد: من السماء إلى الأرض، ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ يريد: ما في السماوات، ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ يريد: مما أطلعهم على علمه، ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ يريد: هو أعظم من السماوات السبع والأرضين السبع، ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ يريد: ولا يفوته شيء مما في السماوات والأرض، ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ يريد: لا أعلى منه، ولا أعظم، ولا أعز، ولا أجل، ولا أكرم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ السنة: النعاس، والنوم هو النوم(2).

3. روي أنّ نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ قال السنة: الوسنان الذي هو نائم، وليس بنائم قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت زهير بن أبي سلمى وهو يقول(3):

çلا سنة في طوال الدهر تأخذه... ولا ينام وما في أمره فندé

4. روي أنّه قال: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ قال جبريل عليه السلام: يا محمد، لله الخلق كله، السماوات كلهن ومن فيهن، والأرضون كلهن ومن فيهن، ومن بينهن، مما يعلم، ومما لا يعلم(4).

5. روي أنّه قال: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ ما قدموا من أعمالهم، ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ ما أضاعوا من أعمالهم(5).

6. روي أنّه قال: لو أن السماوات السبع والأرضين السبع بسطن، ثم وصلن بعضهن إلى بعض؛ ما كن في سعته ـ يعني: الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة(6).

7. روي أنّه قال: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ كرسيه: علمه، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿ولا يؤده حفظهما﴾(7).

8. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ لا يثقل عليه(8).

9. روي أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ قال: لا يثقله قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول الشاعر(9):

çيعطي المئين ولا يئوده حملها... محض الضرائب ماجد الأخلاقé

10. روي أنّه قال: أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى، هل ينام ربك؟ قال اتقوا لله، فناداه ربه: يا موسى، سألوك: هل ينام ربك؟ فخذ زجاجتين في يديك، فقم الليل، ففعل موسى، فلما ذهب من الليل ثلث نعس، فوقع لركبتيه، ثم انتعش، فضبطهما، حتى إذا كان آخر الليل نعس، فسقطت الزجاجتان، فانكسرتا، فقال: يا موسى، لو كنت أنام لسقطت السماوات والأرض، فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك، وأنزل الله على نبيه آية الكرسي(10).

11. روي أنّه قال: الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره(11).

__________

(1) الدرّ المنثور: الطبراني في السُّنَّة.

(2) ابن جرير: ٤/٥٣١.

(3) الدرّ المنثور: ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء.

(4) ابن أبي حاتم: ٢/٤٨٨.

(5) ابن أبي حاتم: ٢/٤٨٩ ـ: ٤٩٠.

(6) ابن جرير ـ كما في تفسير ابن كثير: ١/٤٥٧ ـ.

(7) ابن جرير: ٤/٥٣٧.

(8) ابن جرير: ٤/٥٤٢.

(9) الطَّسْتي في مسائله ـ كما في الإتقان: ٢/٨٥.

(10) ابن أبي حاتم: ٢/٤٨٧.

(11) عبد الرزاق: ٢/٢٥١.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ علمه(1).

__________

(1) سفيان الثوري في تفسيره: ص٧١.

أبو مالك:

روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾: إن الصخرة التي تحت الأرض السابعة، ومنتهى الخلق على أرجائها، عليها أربعة من الملائكة، لكل واحد منهم أربعة وجوه: وجه إنسان، ووجه أسد، ووجه ثور، ووجه نسر، فهم قيام عليها، قد أحاطوا بالأرضين والسماوات، ورؤوسهم تحت الكرسي، والكرسي تحت العرش، والله واضع كرسيه على العرش(1).

__________

(1) أبو الشيخ في العظمة.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ القائم الدائم(1).

2. روي أنّه قال: السنة: النعاس، والنوم: الاستثقال(2).

3. روي أنّه قال: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ يعني: الآخرة؛ لأنه يقدمون عليها، ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾: الدنيا؛ لأنهم يخلفونها(3).

4. روي أنّه قال: كرسيه الذي يوضع تحت العرش، الذي تجعل الملوك عليه أقدامهم(4).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٥٢٩.

(2) ابن جرير: ٤/٥٣١ ـ: ٥٣٢.

(3) تفسير الثعلبي: ٢/٢٣١.

(4) ابن جرير: ٤/٥٣٨.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿الْقَيُّومِ﴾ القائم على كل شيء(1).

__________

(1) تفسير مجاهد: ص٢٤٨.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: أن موسى سأل الملائكة: هل ينام الله؟ فأوحى الله إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا، فلا يتركوه ينام، ففعلوا، ثم أعطوه قارورتين، فأمسكهما، ثم تركوه، وحذروه أن يكسرهما قال فجعل ينعس وهما في يديه، في كل يد واحدة قال فجعل ينعس وينتبه، وينعس وينتبه، حتى نعس نعسة فضرب بإحداهما الأخرى، فكسرهما، قال معمر: إنما هو مثل ضربه الله ـ تعالى ذكره ـ يقول: فكذلك السماوات والأرض في يديه(1).

2. روي أنّه قال: الشمس جزء من سبعين جزءا من نور الكرسي، والكرسي جزء من سبعين جزءا من نور العرش(2).

__________

(1) عبد الرزاق: ١/١٠٢.

(2) أبو الشيخ.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿الْقَيُّومِ﴾ الذي لا زوال له(1).

2. روي أنّه قال: القائم على كل نفس بكسبها، يحفظ عليها عملها حتى يجازيها(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٨٧.

(2) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٥٠.

القاسم:

روي عن القاسم بن عبد الرحمن (ت 112 هـ) أنّه قال: إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن: في سورة البقرة، وآل عمران، وطه، قال الشيخ: التمستها، فوجدت في البقرة آية الكرسي ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، وفاتحة آل عمران ﴿الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، وفي طه ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾(1).

__________

(1) الفريابي في فضائل القرآن: ص١٥٨.

العوفي:

روي عن عطية العوفي (ت 112 هـ) أنّه قال: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ لا يفتر(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٨٧.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: من قرأ آية الكرسي مرة، صرف الله عنه ألف مكروه من مكروه الدنيا، وألف مكروه من مكروه الآخرة، أيسر مكروه الدنيا الفقر، وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر(1).

2. روي أنّه سئل عن قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [البقرة: 255] أيهما وسع الآخر؟ قال (الأرضون كلها، والسماوات كلها، وجميع ما خلق الله في الكرسي(2).

__________

(1) الأمالي: 88/6.

(2) تفسير العيّاشي: 1/137.

منبه:

روي عن وهب بن منبه (ت 114 هـ) أنّه قال: الكرسي بالعرش ملتصق، والماء كله في جوف الكرسي(1).

__________

(1) أبو الشيخ.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿الْحَيُّ﴾: الذي لا يموت، و ﴿الْقَيُّومِ﴾: القائم الذي لا بديل له(1).

2. روي أنّه قال: ﴿الْقَيُّومِ﴾ القيم على الخلق بأعمالهم، وأرزاقهم، وآجالهم(2).

3. روي أنّه قال: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ من أمر الساعة، ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ من أمر الدنيا(3).

4. روي أنّه قال: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، يعني: ملأ كرسيه السماوات والأرض(4).

5. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾: لا يثقل عليه، ولا يجهده حفظهما(5).

__________

(1) الدرّ المنثور: ابن الأنباري في المصاحف.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٨٦.

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٤٩٠.

(4) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٥١.

(5) ابن جرير: ٤/٥٤٢.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: (﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾: فالحقّ: الباقي، والقيوم: الدائم الذي لا يزول(1).

2. روي أنّه قال: (﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ فالسّنة: النّعاس.. وكذلك الوسنة وجمعها سنات(2).

3. روي أنّه قال: (﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾: معناه يتكلم(2).

4. روي أنّه قال: (﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ معناه لا يكد به ولا يثقل عليه(2).

5. روي أنّه قال: (﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ وسع علمه السماوات والأرض.. والكراسي: العلماء.. ويقال: إنّ الكرسي: موضع العرش(2).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 102.

(2) تفسير الإمام زيد، ص 103.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: السنة: ريح النوم الذي يأخذ في الوجه، فينعس الإنسان(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ يقول: لا يعلمون بشيء من علمه ﴿إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ هو أن يعلمهم(2).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٥٣٢.

(2) ابن جرير: ٤/٥٣٧.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿الْحَيُّ﴾ حي لا يموت، ﴿الْقَيُّومِ﴾: قيّم على كل شيء، يكلؤه، ويرزقه، ويحفظه(1).

2. روي أنّه قال: السنة: الوسنان بين النائم واليقظان(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ قال لما نزلت ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ قال أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، هذا الكرسي وسع السماوات والأرض، فكيف العرش!؟ فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: ٦٧] (3).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٥٢٨ ـ: ٥٢٩.

(2) ابن جرير: ٤/٥٣٢.

(3) ابن جرير: ٤/٥٣٩.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: القائم على كل نفس بما كسبت(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/٢٣٠.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار، مع التنبيه إلى أن أكثرها وارد في مصادر غير معتبرة عند الإمامية كتفسير العياشي وغيره:

1. روي أنّه قال: (إن لكل شيء ذروة، وذروة القرآن آية الكرسي من قرأها مرة صرف الله عنه ألف مكروه من مكاره الدنيا، وألف مكروه من مكاره الآخرة، أيسر مكروه الدنيا الفقر، وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر، وإني لأستعين بها على صعود الدرجة)(1).

2. روي أنّه سئل عن قول الله جل وعز ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ السماوات والأرض وسعن الكرسي، أم الكرسي وسع السماوات والأرض؟ فقال: بل الكرسي وسع السماوات والأرض والعرش، وكل شي وسع الكرسي(2).

3. روي أنّه سئل عن قول الله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ السماوات والأرض وسعن الكرسي، أو الكرسي وسع السماوات والأرض؟ فقال: إن كل شيء في الكرسي(2).

4. روي أنّه سئل عن العرش والكرسي، ما هما؟ فقال: العرش في وجه: هو جملة الخلق، والكرسي وعاؤه، وفي وجه آخر: العرش هو العلم الذي أطلع الله عليه أنبياءه ورسله وحججه، والكرسي: هو العلم الذي لم يطلع الله عليه أحدا من أنبيائه ورسله وحججه(3).

5. روي أنّه سئل عن قول الله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَات ِوَالْأَرْضَ﴾، قال: علمه(4).

6. روي أنّه قال: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، السماوات والأرض وما بينهما في الكرسي، والعرش: هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره، وتلا هذه الآية ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾(5).

7. روي عن حماد، قال: رأيت الإمام الصادق جالسا متوركا برجله على فخذه، فقال له رجل عنده: جعلت فداك، هذه جلسة مكروهة؟ فقال: لا، إن اليهود قالت: إن الرب لما فرغ من خلق السماوات والأرض جلس على الكرسي هذه الجلسة ليستريح، فأنزل الله ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ لم يكن متوركا كما كان(6).

8. روي أنّه قال(7): جاءت زينب العطارة الحولاء إلى نساء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وبناته، وكانت تبيع منهن العطر، فجاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وهي عندهن، فقال: إذا أتيتنا طابت بيوتنا، فقالت: بيوتك بريحك أطيب، يا رسول الله، قال فإذا بعت فأحسني، ولا تغشي، فإنه أتقى، وأبقى للمال، فقالت: يا رسول الله، ما أتيت بشيء من بيعي، وإنما أتيت أن أسألك عن عظمة الله عز وجل: فقال: جل جلال الله، سأحدثك عن بعض ذلك، ثم قال إن هذه الأرض بمن عليها عند التي تحتها كحلقة ملقاة في فلاة قي، وهاتان بمن فيهما ومن عليهما عند التي تحتها كحلقة ملقاة في فلاة قي، و الثالثة، حتى انتهى إلى السابعة، وتلا هذه الآية ﴿خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾، والسبع الأرضين بمن فيهن ومن عليهن على ظهر الديك كحلقة ملقاة في فلاة قي، والديك له جناحان: جناح في المشرق، وجناح في المغرب، ورجلاه في التخوم، والسبع والديك بمن فيه ومن عليه على الصخرة كحلقة ملقاة في فلاة قي، والصخرة بمن فيها ومن عليها على ظهر الحوت كحلقة ملقاة في فلاة قي، والسبع والديك والصخرة والحوت بمن فيه ومن عليه على البحر المظلم كحلقة ملقاة في فلاة قي، والسبع والديك والصخرة والحوت والبحر المظلم على الهواء الذاهب كحلقة ملقاة في فلاة قي، والسبع والديك والصخرة والحوت والبحر المظلم والهواء على الثرى كحلقة ملقاة في فلاة قي، ثم تلا هذه الآية ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾، ثم انقطع الخبر عند الثرى والسبع والديك والصخرة والحوت والبحر المظلم والهواء، والثرى ومن فيه ومن عليه عند السماء الاولى كحلقة في فلاة قي، وهذا كله وسماء الدنيا بمن عليها ومن فيها عند التي فوقها كحلقة في فلاة قي، وهاتان السماءان ومن فيهما ومن عليهما عند التي فوقهما كحلقة في فلاة قي، وهذه الثلاث بمن فيهن ومن عليهن عند الرابعة كحلقة في فلاة قي، حتى انتهى إلى السابعة، وهن ومن فيهن ومن عليهن عند البحر المكفوف عن أهل الأرض كحلقة في فلاة قي، وهذه السبع والبحر المكفوف عند جبال البرد كحلقة في فلاة قي، وتلا هذه الآية ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾، وهذه السبع والبحر المكفوف وجبال البرد عند الهواء الذي تحار فيه القلوب كحلقة في فلاة قي، وهذه السبع والبحر المكفوف وجبال البرد عند حجب النور كحلقة في فلاة قي، وهذه السبع والبحر المكفوف وجبال البرد والهواء وحجب النور عند الكرسي كحلقة في فلاة قي، ثم تلا هذه الآية: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255]، وهذه السبع والبحر المكفوف وجبال البرد والهواء وحجب النور والكرسي عند العرش كحلقة في فلاة قي، وتلا هذه الآية ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾(5)

9. روي أنّه سئل عن الكرسي أكبر أم العرش؟ قال: (كل شيء خلق الله في جوف الكرسي ما خلا عرشه، فإنه أعظم من أن يحيط به الكرسي)، قال فخلق النهار قبل الليل؟ قال (نعم، خلق النهار قبل الليل، والشمس قبل القمر، والأرض قبل السماء، ووضع الأرض على الحوت والحوت في الماء، والماء في صخرة مخرمة، والصخرة على عاتق ملك، والملك على الثرى، والثرى على الريح العقيم، والريح على الهواء، والهواء تمسكه القدرة، وليس تحت الريح العقيم إلا الهواء والظلمات، ولا وراء ذلك سعة ولا ضيق، ولا شيء يتوهم، ثم خلق الكرسي فحشاه السماوات والأرض، والكرسي أكبر من كل شيء خلق، ثم خلق العرش فجعله أكبر من الكرسي)(8).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/136.

(2) الكافي: 1/102.

(3) معاني الأخبار: 29/1.

(4) معاني الأخبار: 30/2.

(5) الكافي: 8/153.

(6) تفسير العيّاشي: 1/137.

(7) وهو غير صحيح النسبة له، أو قد يكون صحيح النسبة، ولكن أدرج فيه من الغرائب ما يستبعد أن يصدر عنه

(8) الاحتجاج: 352.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ ما كان قبل خلق الملائكة، وما كان بعد خلقهم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ ما كان قبل خلق الملائكة، وما كان بعد خلقهم(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ﴾ يعني: الملائكة ﴿بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ الرب، فيعلمهم(2).

4. روي أنّه قال: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ﴾ الرفيع فوق كل خلقه، ﴿الْعَظِيمِ﴾ فلا أعظم منه شيء(2).

5. روي أنّه قال: يحمل الكرسي أربعة أملاك، لكل ملك أربعة وجوه، أقدامهم تحت الصخرة التي تحت الأرض السفلى مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل أرض مسيرة مائة عام: ملك وجهه على صورة الإنسان، وهو سيد الصور، وهو يسأل الرزق للآدميين، وملك وجهه على صورة سيد الأنعام، يسأل الرزق للبهائم، وهو الثور، لم يزل الملك الذي على صورة الثور على وجهه كالغضاضة منذ عبد العجل من دون الرحمن تعالى، وملك وجهه على صورة سيد الطير، وهو يسأل الله تعالى الرزق للطير، وهو النسر، وملك على صورة سيد السباع، وهو يسأل الرزق للسباع، وهو الأسد(2).

6. روي أنّه قال: ثم أخبر عن عظمة الربـ جل جلاله ـ، فقال سبحانه ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ كلها، كل قائمة للكرسي طولها مثل السماوات السبع والأرضين السبع تحت الكرسي في الصغر كحلقة بأرض فلاة(2).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢١٢.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢١٣.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾: ما مضى أمامهم من الدنيا، ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾: ما يكون بعدهم من الدنيا.

2. روي أنّه قال: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ ما كان قبل خلق الملائكة، وما كان بعد خلقهم(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢١٢.

الثوري:

روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ لا يقدر أحد على شيء من علمه إلا بما شاء(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٩٠.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ لا يعز عليه حفظهما(1).

__________

(1) ابن جرير: ٤/٥٤٤.

الكاظم:

روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: من قرأ آية الكرسي عند منامه، لم يخف الفالج إن شاء الله، ومن قرأها في دبر كل فريضة، لم يضره ذو حمة(1).

2. روي أنّه قال: سمع بعض آبائي رجلا يقرأ ام الكتاب، فقال: شكر وأجر، ثم سمعه يقرأ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، فقال: آمن وأمن، وسمعه يقرأ ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾، فقال: صدق وغفر له، ثم سمعه يقرأ آية الكرسي، فقال: بخ بخ، نزلت براءة هذا من النار)(2).

__________

(1) الكافي: 2/455.

(2) الأمالي: 485/10.

الدنداني:

روي عن أبي صالح الدنداني (ت 190 هـ) أنّه قال: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾: مما أهلكت به الأمم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٨٩.

الرضا:

روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنه سئل: هل كان الله عز وجل: عارفا بنفسه قبل أن يخلق الخلق؟ قال (نعم)، قيل: يراها ويسمعها؟ قال: (ما كان محتاجا إلى ذلك، لأنه لم يكن يسألها، ولا يطلب منها، هو نفسه، ونفسه هو، قدرته نافذة، فليس يحتاج أن يسمي نفسه، ولكنه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها، لأنه إذا لم يدع باسمه لم يعرف، فأول ما اختار لنفسه العلي العظيم، لأنها أعلى الأشياء كلها، فمعناه الله، واسمه العلي العظيم، وهذا أول أسمائه، لأنه على كل شيء قدير)(1).

__________

(1) التوحيد: 191/4.

الرسّي:

ذكر الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، والحي القيوم هو: الذي يبقى سرمدا ويدوم، وليس شيء من الأشياء يبقى فلا يفنى، ولا يصح له أبدا هذا الذكر والمعنى، إلا الله في البقاء والدوام، كما قال سبحانه ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 26 ـ 27]، و﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾

2. ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾، وتأويل يئوده: هو يثقله؛ فهو لا يثقله حفظ ما هو من السماوات والأرض مالك له.

3. ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، وتأويل ﴿كُرْسِيِّهِ﴾ إنما هو: وسع ملكه السماوات والأرض، ووسعه لهما: إحاطته بهما، وقدرته عليهما، وعلى كل ما فيهما.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/117.

محمد الرسّي:

قال الإمام محمد بن القاسم الرسّي (ت 284 هـ): ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، والكرسي: ما يستقر عليه، ويكون محلا لما يحل فيه؛ فجعل الله السماوات والأرض مستقرة في حيز ملكه، ليس يجوز أن يكون حيث هما سماء ولا أرض معهما؛ بل لو أراد أن يخلق جهاتها خلقا بعد خلق فعل؛ والجهات الست: فوق وتحت، وأمام ووراء، ويمنة ويسرة؛ فصار قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ معناه: وسع ملكه السماوات والأرض، لا يمسك السماء من فوقها علاقة، ولا من تحتها عماد، ولا يمسك الأرض من فوقها ولا تحتها شيء؛ بل الله ممسك للجميع(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/117.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي:

1. قوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ يحتمل وجوها:

أ. قيل: الله هو اسم المعبود، وكذلك تسمى العرب‏ كل معبود إلها ومعناه أن الذي يستحق العبادة ويحق أن يعبد هو الله الذي لا إلا إلا هو لا الذي تعبدونه أنتم من الأوثان والأصنام التي لا تنفعكم عبادتكم إياها ولا يضركم ترككم العبادة لها.

ب. ويحتمل أن يكون على الإضمار: أن قل الله الذي لا إله إلا هو لأنهم كانوا يقرون بالخالق ويقرون بالإله؛ كقوله عزّ وجل‏ ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان: 25] وكقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لله﴾ [المؤمنون: 86، 87] وكقوله: ﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ [المؤمنون: 88-89] [المؤمنون: 88، 89] فإذا كانوا يقرون به فأخبرهم أن الذي يقرون به ويسمونه هو الله الذي لا إله إلا هو الحى القيوم.

ج. ويحتمل أن يكون لقوم من أهل الإسلام عرفوا الله تعالى وآمنوا به، ولم يعرفوا نعته وصفته فعلمهم نعته وصفته أنه الحى القيوم إلى آخره.

2. قوله تعالى: ﴿الْحَيُّ﴾ يحتمل وجهين:

أ. قيل: هو الحي بذاته لا بحياة هي غيره كالخلق هم أحياء بحياة هي غيرهم حلت فيهم لا بد من الموت، والله عزّ وجل يتعالى عن أن يحل فيه الموت؛ لأنه حي بذاته وجميع الخلائق أحياء لا بذاتهم، تعالى الله عزّ وجل عما يقول فيه الملحدون علوا كبيرا، والأصل: أن كل من وصف في الشاهد بالحياة وصف ذلك للعظمة له والجلال والرفعة، يقال: (فلان حي)، وكذلك الأرض سماها الله تعالى (حية)، إذا اهتزت وربت وأنبتت، لرفعتها على أعين الخلق، فعلى ذلك الله سبحانه وتعالى (حي) للعظمة، وكذلك الأرض سماها الله تعالى: (حية) للعظمة والرفعة ولكثرة ما يكون يذكر في المواطن كلها، كما سمى الشهداء (أحياء)؛ لأنهم مذكورون في الملأ من الخلق.

ب. ويحتمل: أنه يسمى (حيّا) لما لا يغفل عن شيء، ولا يسهو، ولا يذهب عنه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وبالله العصمة.

3. قوله تعالى: ﴿الْقَيُّومِ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل: القائم على مصالح أعمال الخلق وأرزاقهم.

ب. وقيل ﴿الْقَيُّومِ﴾ هو القائم على كل شيء يحفظه ويعاهده، كما يقال: (فلان قائم على أمر فلان)، يعنون أنه يتحفظ أموره حتى لا يذهب عنه شيء.

ج. وقيل: ﴿هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 2] أي لا يغفل عن أحوال الخلق.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾:

أ. قيل‏: (السنة)، النعاس.

ب. وقيل‏: (السنة)، هي بين النوم واليقظة، وسمى (وسنان)

ج. وقيل‏: (السنة)، هي ريح تجيء من قبل الرأس، فتغشى العينين، فهو (وسنان) بين النائم واليقظان.

5. قوله تعالى: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل: على نفى الغفلة والسهو عنه؛ إذ لو أخذه، صار مغلوبا مقهورا، فيزول عنه وصفه (حي، قيوم)، كقوله تعالى: ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ﴾ [سبأ: 3]، على نفى الغفلة.

ب. ويحتمل: أنه نفى عن نفسه ذلك؛ لأن الخلق إنما ينامون وينعسون‏ طلبا للراحة والمنفعة ـ إما لدفع حزن أو وحشة ـ فأخبر أنه ليس بالذي يحتاج إلى راحة، وإلى دفع حزن أو وحشة.

ج. وقيل‏: لا يفتر ولا ينام.

6. النوم والسنة حالان تدلان على غفلة من حلّا به، وعلى حاجته إلى ما فيه راحته، وعلى عجزه، إذ هما يغلبان ويقهران، فوصف الرب نفسه بما يعلو عن الذي دلا عليه من الوجوه.

7. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ وهو العالي على ذلك، القاهر له، لا تأخذه سنة ولا وحشة، ولا معنى يدل على العجز والحاجة، ولا قوة إلا بالله.

8. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أخبر أن ما في السموات وما في الأرض، عبيده وإماؤه، ليس كما قالوا: (فلان ابن الله)، و(الملائكة بنات الله)، بل كلهم عبيده وإماؤه، والناس لا يتخذون ولدا من عبيدهم وإمائهم، فالله أحق ألا يتخذ.

9. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ أي لا أحد يجترئ على الشفاعة إلا بإذنه، ثم اختلف في الشفاعة:

أ. قالت المعتزلة: لا تكون الشفاعة إلا لأهل الخيرات خاصة الذين لا ذنب لهم، أو كان لهم ذنب فتابوا عنه، ذهبوا في ذلك إلى ما ذكر الله تعالى في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر: 7]، أخبر أنهم يستغفرون للذين آمنوا وتابوا واتبعوا، فإذا كان الاستغفار في الدنيا إنما يكون للذين آمنوا وتابوا واتبعوا، فعلى ذلك الشفاعة إنما تكون في الآخرة لهؤلاء.

ب. وأما عند أهل السنة، ومن وافقهم: فإن الشفاعة تكون لأهل الذنوب؛ لأن من لا ذنب له لا حاجة له إلى الشفاعة، وقوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾ يكون لهم ذنوب في أحوال التوبة، فإنما يغفر لهم الذنوب التي كانت لهم، فقد ظهر الاستغفار لأهل الذنوب؛ فعلى ذلك الشفاعة.

10. سؤال وإشكال: أرأيت رجلا قال لعبده: إن عملت عملا تستوجب به الشفاعة فأنت حر، فأي عمل يعمله ليستوجب به الشفاعة حتى يعتق عبده: الطاعة، أو المعصية؟ قيل: الطاعة، فعلى ذلك الشفاعة، لا تكون إلا لأهل الطاعة والخير لا لأهل المعصية، والشفاعة التي يستوجبها أهل الذنوب إنما يستوجبون بالطاعات التي كانت لهم حالة الشفاعة؛ لأن أهل الإيمان وإن ارتكبوا مآثم ومعاصي فإن لهم طاعات، فبتلك الطاعات يستوجبون الشفاعة، كقوله تعالى: ﴿خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا﴾ [التوبة: 102]، فالشفاعة في شره بخيره‏، وكذا في الآخرة، والجواب: من وجهين:

أ. أحدهما: أنه إنما يذكر في الدنيا خيرات المشفع له لجهالة هذا بأحواله، فيذكر خيراته ليعرفه بها، فيشفع فيه، والله تعالى عارف لا يتعرف‏.

ب. الثاني: أن ذكر خيراته لحاجة تقع للمذكور له تكون في مثلها، لا تكون في الآخرة خاصة، والله تعالى يتعالى عن الحاجة عما بالعباد؛ لذلك اختلفا.

11. سؤال وإشكال: إن جميع ما ذكر في هذه الآية ـ من أولها إلى آخرها ـ كلها دعوى، فما الدليل على تلك الدعوى؟ والجواب:

أ. يحتمل أن يكون دليله ما تقدم ذكره من قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ الآية [البقرة: 164]

ب. الثاني: من أنكر الصانع فيتكلم أولا معه في حدث العالم، وحاجته إلى محدث، فإذا ثبت حدث العالم، فحينئذ يتكلم في إثبات الصانع ووحدانيته.

12. فى قوله تعالى: (واحد)، ليس من حيث العدد؛ لأن كل ذي عدد يحتمل الزيادة والنقصان، ويحتمل الطول والعرض، ويحتمل القصر والكسر، ولكن يقال: ذلك (واحد) من حيث العظمة والجلال والرفعة، كما يقال: فلان واحد زمانه، وواحد قومه، يعنون به رفعته وجلالته في قومه وسلطانه عليهم، جائز القول، فهم لا يعنون من جهة العدد؛ لأن مثله كثير فيهم من حيث العدد.

13. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ هذا على المعتزلة؛ لأنهم لا يصفونه بالعلم، وقد أخبر أن له العلم.

14. قوله تعالى: ﴿علمهُ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: علم الغيب.. فهو الذي قال: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: 26، 27]

ب. وقال آخرون: علم الأشياء كلها، لا يعلمون إلا ما يعلمهم الله من ذلك، كقول الملائكة ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ [البقرة: 32]

15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾:

أ. قال بعضهم ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾ وسع علمه، وهو قول ابن عباس.

ب. وقال آخرون ﴿كُرْسِيِّهِ﴾ قدرته، وهو وصف بالقدرة والعظمة.

ج. وقيل ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾ والكرسي هو أصل الشيء، يقال: كرسي كذا، والمراد منه أنه المعتمد والمفزع للخلق، وذلك وصف بالعظمة والقوة.

د. ويقال: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾ وهو خلق من خلقه.

هـ. وقيل: إن الكرسي هو الكرسي، لكنه خلقه ليكرم به من يشاء من خلقه، ثم لا يجوز أن يفهم من إضافته إليه ما يفهم من الخلق، كما لم يفهم من قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ و﴿نُورَ اللَّهِ﴾، و(بيت الله) ونحوه ما يفهم من إضافته إلى خلقه‏، فعلى ذلك لا يفهم من قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾ وغيره من الآيات ما يفهم من الخلق بقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]

16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255]:

أ. قيل: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255] لا يشق عليه حفظهما، وهو قول ابن عباس،وروى عنه أيضا أنّه قال لا يثقل عليه‏.

ب. وقيل: ﴿وَلَا يَئُودُهُ﴾ [البقرة: 255] لا يجهده.

ج. وقيل: لا يعالج بحفظ شيء مثال الخلق.

17. قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: 4] يحتمل وجهين:

أ. ﴿الْعَلِيُّ﴾ عن كل موهوم يحتاج إلى عرش أو كرسي، ﴿الْعَظِيمِ﴾ عن أن يحاط به.

ب. ﴿الْعَلِيُّ﴾ عن جميع أحوال الخلق وشبههم، و﴿الْعَظِيمِ﴾ القاهر والغالب.

العياني:

ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. روي أنّه قال: معنى قوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾: فكذلك مولانا حي لا يموت، ولا يتغير سبحانه ولا يفوت.. والقيوم: هو الذي يقوَّم الأمور بتدبيره، ويصلح الأسباب بحسن تقديره.

2. معنى قوله تعالى: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾: فالسِّنَةُ: هي قليل النوم ويسيره، والنوم الغامر هو من المنام كثيره، فنفى عن نفسه يسير النوم وقليله، كالذي نفى سبحانه من كثيره وجليله، ليعلم العباد أنه لا يشبه الأشياء في حال من الأحوال، وكذلك سيدنا ومولانا ذو العزة والجلال.

3. معنى قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ أي وسع علمه السموات والأرض، وأحاط بهما، ولم يضق علمه عن درك جمعها، قال الشاعر:

çيحف بها بيض الوجوه وعصبة... كراسي في الأحداث حين تنوبé

أي علماء بالأحداث.

4. معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ أي ولا يثقله سبحانه تدبيرهما ولزمهما، ويؤود في لغة العرب: هو يثقل ويتعب، فنفى عن نفسه سبحانه التعب، قال الشاعر فيما ذكرنا من ذلك:

çعلى ابن أبي العاص دلاص حصينة... أجاد المسدي نسجها فأزالها

يود ضعيف القوم حمل قتيرها... ويضطلع الطرف الأشم اشتلالهاé

أي يثقل الضعيف حمل مساميرها.

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 289.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ مخرج الكلام نفي وحقيقته إثبات إله واحد وهو الله ﴿الْحَيُّ﴾ وإنما سمى نفسه حياً لصرفه الأمور في مصارفها وتقديره الأشياء مقاديرها فهو في التقدير حي لا بحياة، و﴿الْقَيُّومِ﴾ هو القائم بأمر خلقه ويحتمل أن يكون القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها ويجوز أن يكون بمعنى العالم بالشيء كما يقال فلان يقوم بهذا الأمر ويقوم بهذا العلم أي بعلمه.

2. ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ والسنة النعاس والنعاس ما كان في العين من أجل القلب فهو النوم قال عدي بن الرقاع:

çوسْنَان أقصده النعاس فرنقت... في عينه سنة وليس بنائمé

3. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ أي الدنيا ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أي الآخرة ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ أي من معلومة ﴿إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ أن يطلعهم عليه ويعلمهم إياه ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ والكرسي العلم ومنه قيل للصحيفة التي فيها علم مكتوب كراسة ومنه قول الراجز: (حتى إذا ما اختارها تكرساً)، أي تعلماً.. ومنه قيل لعلماء الأرض كراسي كما يقال لهم أوتاد، قال الشاعر:

تçحفهم بيض الوجوه وعصبة... كراسي بالأحداث حين تنوبé

أي علماء بحوادث الأمور.

4. ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ أي لا يثقله حفظهما الكناية عائدة إلى السماوات والأرض ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ بالاقتدار والسلطان ويجوز أن يكون العلي عن الأشباه والأمثال.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/121.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ الآية، مخرجة مخرج النفي أن يصح إله سوى الله، وحقيقته إثبات إله واحد وهو الله، وتقديره: الله الإله دون غيره.

2. في قوله تعالى: ﴿الْحَيُّ﴾ أربعة تأويلات:

أ. أحدها: أنه سمى نفسه حيا لصرفه الأمور مصارفها، وتقدير الأشياء مقاديرها، فهو حي بالتقدير لا بحياة.

ب. الثاني: أنه حي بحياة هي له صفة.

ج. الثالث: أنه اسم من أسماء الله تسمّى به، فقلناه تسليما لأمره.

د. الرابع: أن المراد بالحي‏ الباقي، قاله السدي، ومنه قول لبيد:

çإذا ما ترينّي اليوم أصبحت سالما...فلست بأحيا من كلاب وجعفرé

3. في قوله تعالى: ﴿الْقَيُّومِ﴾ ستة تأويلات:

أ. أحدها: القائم بتدبير خلقه، قاله قتادة.

ب. الثاني: يعني القائم على كل نفس بما كسبت، حتى يجازيها بعملها من حيث هو عالم به، لا يخفى عليه شيء منه، قاله الحسن.

ج. الثالث: معنى القائم الوجود، وهو قول سعيد بن جبير.

د. الرابع: أنه الذي لا يزول ولا يحول، قاله ابن عباس.

هـ. الخامس: أنه العالم بالأمور، من قولهم: فلان يقوم بهذا الكتاب، أي هو عالم به.

و. السادس: أنه اسم من أسماء الله، مأخوذ من الاستقامة، قال أمية بن أبي الصلت:

çلم تخلق السماء والنجوم‏...والشمس معها قمر يقوم‏

قدّرها المهيمن القيوم‏...والحشر والجنة والحميم‏é

إلّا لأمر شأنه عظيم‏.

4. ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ السّنة: النعاس في قول الجميع، والنعاس ما كان في الرأس، فإذا صار في القلب صار نوما، وفرّق المفضل بينهما، فقال: السّنة في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب، وما عليه الجمهور من التسوية بين السّنة والنعاس أشبه، قال عدي بن الرقاع:

çوسنان أقصده النعاس فرنقت‏...في عينه سنة وليس بنائم‏é

5. في قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ وجهان:

أ. أحدهما: ما بين أيديهم: هو ما قبل خلقهم، وما خلفهم: هو ما بعد موتهم.

ب. الثاني: ما بين أيديهم: ما أظهروه، وما خلفهم: ما كتموه.

6. ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ أي من معلومة إلا أن يطلعهم عليه ويعلمهم إياه.

7. ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ في الكرسي قولان:

أ. أحدهما: أنه من صفات الله تعالى:

ب. الثاني: أنه من أوصاف ملكوته‏.

8. فإذا قيل إنه من صفاته ففيه أربعة أقاويل:

أ. أحدها: أنه علم الله، قاله ابن عباس‏.

ب. الثاني: أنه قدرة الله‏.

ج. الثالث: ملك الله.

د. الرابع: تدبير الله.

9. وإذا قيل إنه من أوصاف ملكوته ففيه ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أنه العرش، قاله الحسن‏.

ب. الثاني: أنه سرير دون العرش‏.

ج. الثالث: هو كرسي تحت العرش، والعرش فوق الماء.

10. أصل الكرسي العلم، ومنه قيل للصحيفة فيها علم مكتوب: كراسة، قال أبو ذؤيب:

çما لي بأمرك كرسيّ أكاتمه‏...ولا بكرسيّ علم الغيب مخلوق‏é

وقيل للعلماء: الكراسي، لأنهم المعتمد عليهم كما يقال لهم: أوتاد الأرض، لأنهم الذين بهم تصلح الأرض، قال الشاعر:

çيحف بهم بيض الوجوه وعلية...كراسيّ بالأحداث حين تنوب‏é

أي علماء بحوادث الأمور، فدلت هذه الشواهد، على أن أصح‏ تأويلاته ما قاله ابن عباس، أنه علم الله تعالى.

11. قرأ يعقوب الحضرمي: (وُسْعُ كرسيِّه السمواتُ والأرضُ) بتسكين السين من وسع وضم العين ورفع السموات والأرض على الابتداء والخبر، وفي تأويله وجهان:

أ. أحدهما: لا يثقله حفظهما في قول الجمهور.

ب. والثاني: لا يتعاظمه حفظهما، حكاه أبان بن تغلب. وأنشد:

çألا بكِّ سلمى اليوم بت جديدها ... وضَنّت وما كان النوال يؤودهاé

12. اختلفوا في الكناية بالهاء إلى ماذا تعود؟ على قولين:

أ. أحدهما: إلى اسم الله، وتقديره ولا يُثقل الله حفظ السموات والأرض.

ب. والثاني: تعود إلى الكرسي، وتقديره ولا يثقل الكرسيَّ حفظهما.

13. ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: 4] في العلي تأويلان:

أ. أحدهما: العلي بالاقتدار ونفوذ السلطان.

ب. والثاني: العلي عن الأشباه والأمثال.

14. في الفرق بين العلي والعالي، وجهان محتملان:

أ. أحدهما: أن العالي هو الموجود في محل العلو، والعلي هو مستحق العلو.

ب. الثاني: أن العالي هو الذي يجوز أن يشارك في علوه، والعلي هو الذي لا يجوز أن يشارك في علوه، فعلى هذا الوجه، يجوز أن نصف الله بالعليّ، ولا يجوز أن نصفه بالعالي، وعلى الوجه الأول يجوز أن نصفه بهما جميعا.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/324.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿اللَّهُ﴾ [الإخلاص: 2] رفع بالابتداء ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 2] خبره، والكلام مخرجه مخرج النفي أن يصح إله سوى الله، وحقيقة الإثبات الآلة واحد هو الله، كأنه قيل الله الآلة دون غيره، وارتفع هو في لا إله إلا هو على أحد وجهين:

أ. أحدهما: بالابتداء كأنه قال ما إله إلا الله.

ب. الثاني:أن يكون بدلا كأنه قال ما إله ثابتاً إلا الله، ويجوز في العربية لا إله إلا الله بالنصب على الاستثناء، وفيه دلالة على الامر بإخلاص العبادة لله تعالى.

2. الحي هو من كان على صفة لا يستحيل معها كونه عالماً قادراً، وان شئت قلت: هو من كان على صفة يجب لأجلها أن يدرك المدركات، إذا وجدت.

3. القيوم أصله قيووم على وزن فيعول، إلا أن الياء الساكنة إذا كانت بعدها واو متحركة قلبت ياء وأدغمت فيها قياساً مطرداً، والقيام أصله قيوام على وزن فيعال، وقيل في معنى القيوم، أربعة أقوال:

أ. أحدها: قال الحسن إنه القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها بعملها من حيث هو عالم لا يخفى عليه شيء منه.

ب. الثاني:قال سعيد بن جبير: إن معناه الدائم الوجود.

ج. الثالث: قال قتادة: معناه: القائم بتدبير خلقه.

د. الرابع: قال قوم: إن معناه العالم بالأمور من قولهم: فلان قيوم هذا الكتاب أي هو عالم به.

وكل هذه الوجوه تحتمل، وقال أمية بن أبي الصلت:

çلم تخلق السماء والنجوم‏...والشمس معها قمر يقوم‏

قدره المهيمن القيوم‏...والحشر والجنة والجحيم‏é

إلا لأمر شأنه عظيم‏

4. ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ فالسنة النوم بلا خلاف قال عدي ابن الرقاع:

çوسنان أقصده النعاس فرنقت‏...في عينه سنة وليس بنائم‏é

فالسنة الثقلة من النعاس، تقول: وسن فلان وسناً إذا أخذته سنة النعاس، وقد علته وسنة، ورجل وسنان ووسن، وامرأة وسنانة، ووسنى، وأصل الباب: النعاس، والنوم الاستثقال في النوم، تقول نام ينام نوماً وأنامه إنامة، ونومه تنويماً وتناوم تناوماً، واستنام إليه: إذا استانس إليه، واطمأن الى ناحيته، لأن حاله معه كحالة النائم في المكان أنساً به وأصل الباب النوم خلاف اليقظة.

5. ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ معناه أن أحداً ممن له شفاعة لا يشفع إلا بعد أن يأذن الله له في ذلك ويأمره به، فأما أن يبتدئ أحد بالشفاعة من غير إذن، كما يكون فيما بيننا، فليس ذلك لأحد.

6. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ قال: ابن جريج ومجاهد والسدي: معناه ما مضى من الدنيا وما خلفهم من الآخرة.

7. ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ معناه من علومه، كقول القائل: اللهم اغفر لنا علمك فينا، فإذا ظهرت آية يقولون قدرة الله أي مقدور الله.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾:

أ. قال ابن عباس‏: كرسيه: علمه‏ وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام.

ب. وقال الحسن: الكرسي هو العرش.

ج. وقيل: هو سرير دون العرش‏ وقد روي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام.

د. وقيل: أصل ملكه، وكل ذلك محتمل.

9. أما العلم، فلأنه يقال للعلماء الكراسي، لأنهم المعتمد كما يقال: هم أوتاد الأرض، وهم الأصل الذي يعتمد عليه، ويقال لكل أصل يعتمد عليه، كرسي قال الشاعر:

çتحف بهم بيض الوجوه وعصبة...كراسيّ بالاحداث حين تنوب‏é

أي علماء بحوادث الأمور، وقال آخر:

çنحن الكراسي ما تعدّ هوازن‏...أفعالنا في النائبات ولا أسدé

وقال آخر:

çما لي بأمرك كرسي كاتمه‏...وهل بكرسي علم الغيب مخلوق‏é

وكل شيء تراكب فقد تكارس تكارساً، ومنه الكراسة لتراكب بعض ورقها على بعض قال العجّاج:

çيا صاح هل تعرف رسما مكرّساً...قال نعم أعرفه وأبلساé

أي تكارس عليه التراب، فغطاه، والكرس البعر والبول: إذا تلبد بعضه على بعض، والأكارس الجموع الكثيرة، لا واحد له، لأنه بكثرته بمنزلة ما تراكب بعضه على بعض، ورجل كروس شديد الرأس، لأنه تضاعف القوى كتراكب الشيء بعضه على بعض، والكرياس: كنيف في أعلى السطح بقناة الى الأرض، لتراكب‏ بعض أبنيته على بعض، وسمي الكرسي بذلك، لتركيب بعضه على بعض، ويقال: كرسي الملك من مكان كذا الى مكان كذا أي ملكه تشبيهاً بالكرسي المعروف، وكرس يكرس كرساً، وأكرس إكراساً، وتكارس تكارساً، وتكرّس تكرساً، وكرّسه تكريساً، وأصل الباب الكرس: تراكب الشيء بعضه على بعض.

10. الوجه في خلق الكرسي إذا قلنا: أنه جسم هو أن الله تعبّد تحمله الملائكة والتعبد عنده كما تعبد البشر بزيادة، ولم يخلقه ليجلس عليه، كما تقول المجسمة، واختاره الطبري، لأنه عزّ وجل يتعالى عن ذلك، لأن ذلك من صفات الأجسام ولو احتاج الى الجلوس عليه، لكان جسما ومحدثاً وقد ثبت قدمه.

11. ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255] أي لا يثقله، والهاء في يئوده راجعة الى الله وقيل إنها عائدة الى الكرسي، والأود مصدر، آده يئوده أوداً وأياداً إذا أثقله وجهده، وأودت العود فأنا آوده أوداً، فانآد ومعناه عجته فانعاج، لأنه اعتمد عليه بالثقل حتى مال، والأود، والأوداء على وزن اعوج وعوجاء والمعنى واحد والجمع الأود بوزن العوج وأصل الباب الثقل.

12. ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: 4] فالعلى يعني بالاقتدار ونفوذ السلطان، ويقال علا بالاقتدار، ولا يقال رفيع، لأن الرفعة من المكان، والعلوّ منقول الى معنى الاقتدار يوضح ذلك قولهم: علا قرنه بمعنى اقتدر ولا يقال ارتفع عليه بمعنى اقتدر وكذلك استعلى عليه بالحجة، ولا يقال ارتفع عليه بالحجة، وتقول: علا يعلو علوّاً وأعلى إعلاء وعلّى تعلية واستعلى استعلاء، وتعلى تعلياً، وتعالى تعالياً واعتلاه اعتلاء، وعالي معالاة، والعلوّ ـ بضم العين وكسرها ـ نقيض السفل، والعلوّ التجبر، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي تجبر، لأنه طلب الاستعلاء على الناس بالسلطان والقهر، والله العالي والمتعالي أي القادر القاهر، لأنه عال بالاقتدار، لأنه لا يعجزه شيء والعالية: القناة المستقيمة، لاستمرارها في جهة العلوّ، وفلان من علية الناس أي من أشرافهم، لأنه علا بشرفه، والعلية: الغرفة وأصل الباب العلوّ.

13. والعظيم معناه عظيم الشأن بأنه قادر، ولا يعجزه شيء، وعالم لا يخفى عليه شيء، فلا نهاية لمقدوره ومعلومه، وقال قوم: العظيم بمعنى المعظم كما قالوا في الخمر العتيقة معتقة، و الأول أقوى لأن على هذا كان يجب ألا يوصف بانه عظيم فيما لم يزل وقد علمنا خلافه.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/308.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الحي: هو من على صفة يدرك المدركات عند وجودها مع ارتفاع الموانع والآفات، ونقيضه الموت، وهما عرضان يتعاقبان لا يقدر عليهما إلا الله تعالى، ومنهم من قال: الموت ليس بمعنى، وذلك يبطل بقوله تعالى: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾

ب. القيوم أصله من القيام، ووزنه فيعول، وأصله قيووم إلا أن الياء ابساكنة إذا كانت بعدها واو متحركة قلبت ياء، وأدغمت فيها قياسًا مطردًا، والقَيَّام: أصله قَيْوَام بزنة فَيْعَال، والأصل هو القيام بالتدبير.

ج. السِّنَة: النعاس وهو النوم الخفيف.

د. النوم: خلاف اليقظة، نام نومًا، وهل هو معنى؟ اختلفوا فيه.

هـ. الكرسي: كل شيء تراكب يقال: تَكَاَرَسَ تكارُسًا، ومنه: الكُرَّاسة لتراكب أوراقها، والكِرْس: تراكب الشيء بعضه على بعض، ومنه قول الشاعر: (يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكَرَّسًا)

و. الأَوْدُ: مصدر آده يئوده إذا أثقله، وأود بوزن عوج، وأودا بوزن عوجا، والجمع الأود بوزن العوج، وأصله الثقل.

ز. أصل العلي من العلو، يقال: علا علوًّا، والله تعالى عالٍ بالاقتدار، والعالي والمتعالي: القادر القاهر.

2. قيل: في سبب نزول هذه الآية أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام، ويقولون: هَؤُلَاءِ شفعاؤنا عند الله، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

3. لما تقدم ذكر الأمم واختلافهم على أنبيائهم بالتوحيد وغيره عقبه بذكر التوحيد فقال تعالى: ﴿الله﴾:

أ. قيل: من تحق له العبادة لقدرته على أصول النعم.

ب. وقيل: مَنْ يفزع إليه الخلق.

ج. وقيل: من يتحير الخلق في كنه عظمته.

4. ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ أي لا أحد يستحق الإلهية، وتحق العبادة له غيره ﴿الْحَيُّ﴾ يعني على الصفة التي بها يدرك المدركات، وبها يصح أن يعلم ويقدر.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الْقَيُّومِ﴾:

أ. قيل: القائم بتدبير خلقه عن قتادة.

ب. وقيل: العالم بالأمور من قولهم: فلان يقوم بهذا الكتاب أي هو عالم به.

ج. وقيل: معناه الدائم الوجود، عن سعيد بن جبير والضحاك.

د. وقيل: القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها من حيث هو عالم بها، عن الحسن.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾:

أ. قيل: يعني نعاس وهو ابتداء النوم، ولا نوم ثقيل مزيل للقوة.

ب. وقيل: معناه لا يغفل عن الخلق كما يقال للغافل: أنت نائم، وإنك لوَسْنانُ.

7. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ملكًا وخلقًا ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ هو استفهام، والمراد المبالغة في النفي يعني لا يشفع يوم القيامة أحد إلا بإذنه أي بأمره.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾:

أ. قيل: ما بين أيديهم: ما مضى من الدنيا، وما خلفهم: من الآخرة، عن مجاهد وابن جريج والسدي.

ب. وقيل: ما بين أيديهم من الآخرة؛ لأنهم يقدمون عليها، وما خلفهم من الدنيا؛ لأنهم خلفوها وراء ظهورهم، عن الضحاك.

ج. وقيل: ما مضى أمامهم وما يكون بعدهم، عن ابن جريج.

د. وقيل: ما فعلوه من خير أو شر وما هم فاعلوه.

هـ. وقيل: خلفهم: بعد وفاتهم، عن أبي مسلم.

9. ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ أي معلومة كما يقال: اللهم اغفر علمك فينا أي معلومك، والإحاطة بالشيء علمًا أن يعلمه على الحقيقة كما هي ﴿إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ يعني ما شاء أن يعلمهم ويطلعهم عليه.

10. ﴿وَسِعَ﴾ أي ملأ وأحاط ﴿كُرْسِيِّهِ﴾ يعني كرسيه أوسع من السماوات والأرض، عن أبي مسلم، واختلفوا في الكرسي:

أ. فقيل: علمه، عن ابن عباس ومجاهد، ومنه الكراسة لما كتب فيها من العلم، ويسمى العلماء كراسي.

ب. وقيل: الكرسي العرش، عن الحسن.

ج. وقيل: سرير دون العرش.

د. وقيل: أصله ملكه وسلطانه وقدرته، والعرب تسمي الملك القديم كرسيًّا، ويسمى أصل كل شيء الكِرْس.

11. ﴿وَلَا يَئُودُهُ﴾ لا يثقله ولا يشق عليه، والهاء تعود على اسم الله تعالى، وقيل: على الكرسي، ﴿حِفْظُهُمَا﴾ يعني حفظ السماوات والأرض.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ﴾:

أ. قيل: العلي بالاقتدار ونفوذ السلطان.

ب. وقيل: العلي على الأشباه والأنداد.

13. ﴿الْعَظِيمِ﴾ يعني عظيم الشأن قادر لا يعجزه شيء، عالم لا يخفى عليه شيء، موجود دائم البقاء، واحد لا ثاني له.

14. تدل الآيات الكريمة على:

أ. ما يختص به القديم تعالى من الصفات الموجبة لتعظيمه وعبادته، فيدخل فيه جميع صفاته إما تصريحًا أو تشبيهًا:

﴿الله﴾ يدل أن العبادة تحق له لكونه قادرا على أصول النعم وفعله ذلك.

﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ يدل على التوحيد، ويدل عفى كونه حيًّا يدرك المدركات، وأنه سميع بصير، ولا يكون كذلك إلا وهو موجود قديم.

يدل القيوم على دوامه، والقيام بتدبير خلقه.

﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ يدل أنه ليس بجسم، ولا تجوز عليه الآفات، وتدل على أنه خلق السماوات والأرض وملكهما، ولا يكون كذلك إلا وهو المختص بالقدرة على خلق الأجسام وكثير من الأعراض.

﴿يَعْلَمُ﴾ يدل على كونه عالمًا.

يدل قوله: ﴿وَلاَ يَؤُودُهُ﴾ أنه ليس بجسم.

يدل ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ﴾ على أن الشفاعة داخلة تحت تدبيره، ولا تقع إلا بحسب إذنه.

يدل قوله: ﴿الْعَلِيُّ﴾ أنه المتنزه عما لا يجوز عليه من فعل القبائح ومنع الواجبات.

﴿الْعَظِيمِ﴾ يدل على عظم شأنه في كونه قادرًا عالما ملكًا.

ب. فيدخل جميع مسائل التوحيد والعدل في هذه الآية، وتدخل النبوات والشرائع ضمنا؛ لأنه مما يجب عليه.

15. ظاهر القراءة ﴿الْقَيُّومِ﴾، وعن عمر وابن مسعود والنخعي والأعمش القَيَّام )، وعن علقمة ﴿الْقَيِّمِ﴾، وهي ثلاث لغات.

16. في ارتفاع ﴿هُوَ﴾ وجهان:

أ. الأول: بالابتداء كأنه قيل: ما إله إلا الله.

ب. الثاني: أنه بدل كأنه قيل: ما إله ثابت إلا الله، ويجوز في العربية نصب الله في قوله: لا إله إلا الله على الاستئناف، و﴿لَا إِلَهَ إِلَّا الله﴾ مخرجه نفي، وحقيقته إثبات، كأنه قيل: الله هو الإله دون غيره.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 2/69.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. فضل الآية:

أ. ذكر ابن انجويه الفسوي في كتاب الترغيب بإسناد متصل عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله: (يا أبا المنذر! أي آية في كتاب الله أعظم؟قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، قال: فضرب في صدري، ثم قال: ليهنئك العلم، والذي نفس محمد بيده! إن لهذه الآية للسانا وشفتين، تقدس الملك عند ساق العرش)

ب. وروى الثعلبي بإسناده عن عبد الله بن عمر، قال: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة، كان الذي يتولى قبض نفسه ذو الجلال والإكرام، وكان كمن قاتل مع أنبياء الله حتى استشهد)

ج. وبإسناده عن علي عليه السلام قال: سمعت نبيكم على أعواد المنبر وهو يقول: (من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صديق، أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه، وجاره، وجار جاره)

د. وعنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (يا علي! سيد البشر آدم، وسيد العرب محمد، ولا فخر، وسيد الفرس سلمان، وسيد الروم صهيب، وسيد الحبشة بلال، وسيد الجبال الطور، وسيد الشجر السدر، وسيد الشهور الأشهر الحرم، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي، يا علي! إن فيها لخمسين كلمة، في كل كلمة خمسون بركة)

هـ. وروي عن عبد الله بن مسعود قال: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في كل ليلة في بيت، لم يدخل ذلك البيت شيطان حتى يصبح: أربع آيات من أولها، وآية الكرسي، وآيتين بعدها، وخواتيمها.

و. وروي عن أبي جعفر الباقر قال: من قرأ آية الكرسي مرة، صرف الله عنه ألف مكروه من مكاره الدنيا، وألف مكروه من مكاره الآخرة، أيسر مكروه الدنيا الفقر، وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر.

ز. وعن أبي عبد الله قال: إن لكل شيء ذروة، وذروة القرآن آية الكرسي.

2. شرح مختصر للكلمات:

أ. الحي: من كان على صفة لا يستحيل معها أن يكون قادرا عالما، وإن شئت قلت: هو من كان على صفة يجب لأجلها أن يدرك المدركات إذا وجدت.

ب. القيوم: أصله قيووم على وزن فيعول، إلا أن الياء والواو إذا اجتمعتا وأولاهما ساكنة، قلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء قياسا مطردا، والقيام: أصله قيوام على وزن فيعال، ففعل به ما ذكرناه، قال أمية بن أبي الصلت:

çلم يخلق السماء والنجوم... والشمس معها قمر يعوم

قدرها المهيمن القيوم... والحشر، والجنة، والنعيمé

إلا لأمر شأنه عظيم

ج. السنة: النوم الخفيف، وهو النعاس، قال عدي بن الرقاع: وسنان أقصده النعاس فرنقت... في عينه سنة، وليس بنائم وهو مصدر وسن يوسن وسنا وسنة، قال المفضل: السنة في الرأس، والنوم في القلب.

د. النوم: خلاف اليقظة، يقال: نام نوما، واستنام إليه أي: استأنس إليه، واطمأن إلى ناحيته.

هـ. قال الليث: يقال لكل من أحرز شيئا، أو بلغ علمه أقصاه: قد أحاط به، ويقال: وسع فلان الشيء يسعه سعة: إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به، ويقال: لا يسعك هذا أي: لا تطيقه، ولا تحتمله.

و. الكرسي: كل أصل يعتمد عليه، قال الشاعر:

çتحف بهم بيض الوجوه، وعصبة... كراسي بالأحداث حين تنوبé

أي: علماء بحوادث الأمور، وقال آخر:

çنحن الكراسي لا تعد هوازن... أفعالنا في النائبات، ولا أسدé

وقال آخر:

çمالي بأمرك كرسي أكاتمه... وهل بكرسي علم الغيب مخلوقé

وكل شيء تراكب فقد تكارس، ومنه الكراسة: لتراكب بعض ورقها على بعض، ورجل كروس: عظيم الرأس، ويقال: كرسي الملك من كذا وكذا أي: ملكه مشبه بالكرسي المعروف، وأصل الباب الكرسي: تراكب الشيء بعضه على بعض.

ز. آده يئوده أودا: إذا أثقله وجهده، وأدت العود أؤده أودا فأناد نحو: عجته فانعاج، والآود والأوداء على وزن الأعوج والعوجاء والمعنى واحد والجمع الأود كالعوج.

ح. العلي: أصله من العلو، وهو سبحانه علي بالاقتدار ونفوذ السلطان، ولا يقال: رفيع بالاقتدار، لأن الرفعة في المكان، والعلو منقول إلى معنى الاقتدار، يقال: فلان علا على قرنه يعلو علوا فهو عال، وعلا بمعنى اقتدر، ولا يقال: ارتفع عليه بمعناه، ولذلك يقال: استعلى عليه بالحجة، ولا يقال ارتفع عليه بالحجة، والعلو بضم العين وكسرها: خلاف السفل، وعلا في الأرض علوا: تجبر، ومنه قوله (إن فرعون علا في الأرض) أي: تجبر، والله تعالى العالي والمتعالي أي: القادر القاهر لا يعجزه شيء، وفلان من علية الناس أي: من أشرافهم.

ط. العظيم معناه: العظيم الشأن، وقيل: العظيم بمعنى المعظم، كما قالوا في الخمر العتيق أي: ا لمعتقة، وا لأول أقوى.

3. لما قدم سبحانه ذكر الأمم، واختلافهم على أنبيائهم في التوحيد وغيره، عقبه بذكر التوحيد فقال﴿الله﴾ أي: من يحق له العبادة لقدرته على أصول النعم، وقد ذكرنا اختلاف الأقوال في أصله، وفي معناه، في مفتتح سورة الفاتحة.

4. ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ أي: لا أحد تحق له العبادة، ويستحق الإلهية غيره﴿الْحَيُّ﴾ قد ذكرنا معناه.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الْقَيُّومِ﴾:

أ. قيل: القائم بتدبير خلقه من إنشائهم ابتداء، وإيصال أرزاقهم إليهم، كما قال: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى الله رِزْقُهَا﴾، عن قتادة.

ب. وقيل: القيوم هو العالم بالأمور من قولهم: هذا يقوم بهذا الكتاب أي: يعلم ما فيه.

ج. وقيل: معناه الدائم الوجود، عن سعيد بن جبير والضحاك.

د. وقيل: معناه القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها من حيث هو عالم بها، عن الحسن، واللفظ لجميع هذه الوجوه محتمل﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ أي: نعاس.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا نَوْمٌ﴾:

أ. قيل: ﴿وَلَا نَوْمٌ﴾ ثقيل، مزيل للقوة.

ب. وقيل: معناه لا يغفل عن الخلق، ولا يسهو كما يقال للغافل: أنت نائم، وأنت وسنان.

7. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ معناه له ملك ما فيهما، وله التصرف فيهما ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ هو استفهام معناه الانكار والنفي أي: لا يشفع يوم القيامة أحد لأحد إلا بإذنه وأمره، وذلك أن المشركين كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم، فأخبر الله سبحانه أن أحدا ممن له الشفاعة، لا يشفع إلا بعد أن يأذن الله له في ذلك، ويأمره به.

8. في قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ وجوه:

أ. أحدها: إن معناه يعلم ما بين أيديهم ما مضى من الدنيا، وما خلفهم من الآخرة، عن مجاهد والسدي.

ب. والثاني: معناه يعلم الغيب الذي تقدمهم من قولك بين يديه أي: قدامه، وما مضى، فهو قدام الشيء، فيحمل عليه على التقدير، لا إن هذا اللفظ حقيقة في الماضي، وما خلفهم يعني الغيب الذي يأتي بعدهم، عن ابن جريج.

ج. والثالث: إن ما بين أيديهم عبارة عما لم يأت، كما يقال: رمضان بين أيدينا.

9. ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ عبارة عما مضى، كما يقال في شوال: قد خلفنا رمضان، عن الضحاك.

10. قوله تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ [البقرة: 255] معناه: من معلومة كما يقال: اللهم اغفر لنا علمك فينا أي: معلومك فينا، ويقال: إذا ظهرت آية هذه قدرة الله أي: مقدور الله، والإحاطة بالشيء علما، أن يعلمه كما هو على الحقيقة، ﴿إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ يعني: ما شاء أن يعلمهم، ويطلعهم عليه.

11. قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ اختلف فيه على أقوال:

أ. أحدها: وسع علمه السماوات والأرض، عن ابن عباس ومجاهد، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله) عليه السلام)، ويقال للعلماء كراسي، كما يقال: أوتاد الأرض، لأن بهم قوام الدين والدنيا.

ب. ثانيها: إن الكرسي ههنا هو العرش، عن الحسن، وإنما سمي كرسيا لتركيب بعضه على بعض.

ج. ثالثها: إن المراد بالكرسي ههنا: الملك والسلطان والقدرة، كما يقال: اجعل لهذا الحائط كرسيا أي: عمادا يعمد به، حتى لا يقع، ولا يميل، فيكون معناه: أحاط قدرته بالسماوات والأرض، وما فيهما.

د. رابعها: إن الكرسي سرير دون العرش، وقد روي عن أبي عبد الله، وقريب منه ما روي عن عطاء، أنه قال: ما السماوات والأرض عند الكرسي، إلا كحلقة خاتم في فلاة، وما الكرسي عند العرش إلا كحلقة في فلاة، ومنهم من قال: إن السماوات والأرض جميعا على الكرسي، والكرسي تحت العرش كالعرش فوق السماء، وروى الأصبغ بن نباتة أن عليا قال: إن السماوات والأرض وما فيهما من مخلوق في جوف الكرسي، وله أربعة أملاك يحملونه بإذن الله، ملك منهم في صورة الآدميين، وهي أكرم الصور على الله، وهو يدعو الله، ويتضرع إليه، ويطلب الشفاعة والرزق للآدميين، والملك الثاني في صورة الثور، وهو سيد البهائم، يدعو الله ويتضرع إليه، ولطلب الشفاعة والرزق للبهائم، والملك الثالث في صورة النسر، وهو سيد الطيور، وهو يدعو الله، ويتضرع إليه، ويطلب الشفاعة والرزق لجميع الطيور، والملك الرابع في صورة الأسد، وهو سيد السباع، وهو يدعو الله، ويتضرع إليه، ويطلب الشفاعة والرزق لجميع السباع، قال: ولم يكن في جميع الصور صورة أحسن من الثور، ولا أشد انتصابا منه، حتى اتخذ الملأ من بني إسرائيل العجل، وعبدوه، فخفض الملك الذي في صورة الثور رأسه استحياء من الله أن عبدوا من دون الله بشيء يشبهه، وتخوف أن ينزل الله به العذاب.

12. ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255] أي: لا يشق على الله، ولا يثقله حفظ السماوات والأرض، وقيل: الهاء في يئوده يعود إلى الكرسي، وهذا على قول من يقول: إن السماوات والأرض على الكرسي.

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ﴾:

أ. قيل: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ﴾ عن الأشباه والأضداد والأمثال والأنداد، وعن إمارات النقص، ودلالات الحدث.

ب. وقيل: هو من العلو الذي هو بمعنى القدرة والسلطان والملك وعلو الشأن والقهر والاعتلاء والجلال والكبرياء.

14. ﴿الْعَظِيمِ﴾ أي: العظيم الشأن، القادر، الذي لا يعجزه شيء، والعالم الذي لا يخفى عليه شيء، لا نهاية لمقدوراته، ولا غاية لمعلوماته.

15. روى علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسين بن خالد، أنه قرأ أبو الحسن الرضا عليه السلام: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السماوات وما في الأرض، وما بينهما، وما تحت الثرى، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه.

16. ﴿الله﴾: رفع بالابتداء وما بعده خبره، والكلام مخرجه مخرج النفي أي: لا يصح إله سوى الله، وحقيقته الإثبات لإله واحد هو الله، فكأنه قيل: الله هو الإله دون غيره وارتفع هو في﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ على أحد وجهين:

أ. أحدهما: بالابتداء كأنه قال: ما إله إلا الله.

ب. والثاني: أن يكون بدلا، كأنه قال: ما إله ثابتا أو موجودا إلا الله.

ويجوز في العربية نصب الله في قول﴿لَا إِلَهَ إِلَّا الله﴾ على الاستثناء.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/626.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. روى مسلم في (صحيحه) عن أبيّ بن كعب، أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال له: (يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله أعظم؟) قال قلت: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 2]، قال فضرب في صدري! قال (ليهنك العلم يا أبا المنذر)

2. قال أبو عبيدة: القيّوم: الذي لا يزول، لاستقامة وصفه بالوجود، حتى لا يجوز عليه التغيير بوجه من الوجوه، وقال الزجّاج: القيّوم: القائم بتدبير أمر الخلق، وقال الخطّابيّ: القيّوم: هو القائم الدائم بلا زوال، وزنه: (فيعول) من القيام، وهو نعت للمبالغة للقيام على الشيء، ويقال: هو القائم على كل شيء بالرّعاية، يقال: قمت بالشيء: إذا وليته بالرعاية والمصلحة، وفي (القيّوم) ثلاث لغات: القيّوم، وبه قرأ الجمهور، والقيّام، وبه قرأ عمر بن الخطّاب، وابن مسعود، وابن أبي عبلة، والأعمش، و(القيّم)، وبه قرأ أبو رزين، وعلقمة، وذكر ابن الأنباريّ أنه كذلك في مصحف ابن مسعود، قال وأصل القيّوم: القيووم، فلما اجتمعت الياء والواو والسابق ساكن، جعلتا ياء مشددة، وأصل القيّام: القوّام، قال الفرّاء: وأهل الحجاز يصرفون الفعّال إلى الفيعال، فيقولون للصّوّاغ: صيّاغ.

3. (السّنة) هي: النّعاس من غير نوم، ومنه: الوسنان، قال ابن الرّقاع:

çوكأنّها بين النّساء أعارها...عينيه أحور من جآذر جاسم‏

وسنان أقصده النّعاس فرنّقت‏...في عينه سنة وليس بنائم‏é

4. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، قال بعض العلماء: إنما لم يقل: والأرضين، لأنه قد سبق ذكر الجمع في السماوات، فاستغنى بذلك عن إعادته، ومثله ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ ولم يقل: والأنوار.

5. قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، فيه ردّ على من قال ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.

6. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾، ظاهر الكلام يقتضي الإشارة إلى جميع الخلق، وقال مقاتل: المراد بهم الملائكة.

7. في المراد بـ ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أن الذي بين أيديهم أمر الآخرة، والذي خلفهم أمر الدّنيا، روي عن ابن عباس، وقتادة.

ب. الثاني: أن الذي بين أيديهم الدنيا، والذي خلفهم الآخرة، قاله السّدّيّ عن أشياخه، ومجاهد، وابن جريج، والحكم بن عتيبة.

ج. الثالث: ما بين أيديهم: ما قبل خلقهم، وما خلفهم: ما بعد خلقهم، قاله مقاتل.

8. ﴿وَلَا يُحِيطُونَ﴾، قال اللّيث: يقال لكل من أحرز شيئا، أو بلغ علمه أقصاه: قد أحاط به، والمراد بالعلم هاهنا المعلوم، ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾، أي: احتمل وأطاق، وفي المراد بالكرسيّ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه كرسيّ فوق السماء السابعة دون العرش، قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (ما السّماوات السّبع في الكرسيّ إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة)، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء.

ب. الثاني: أن المراد بالكرسيّ علم الله تعالى، رواه ابن جبير عن ابن عباس.

ج. الثالث: أن الكرسيّ هو العرش، قاله الحسن.

9. ﴿وَلَا يَئُودُهُ﴾ [البقرة: 255]، أي: لا يثقله، يقال: آده الشيء يئوده أودا وإيادا، والأود: الثّقل، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والجماعة.

10. العليّ: العالي القاهر، (فعيل) بمعنى (فاعل) قال الخطّابيّ: وقد يكون من العلوّ الذي هو مصدر: علا يعلو، فهو عال؛ كقوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾، ويكون ذلك من علاء المجد والشّرف، يقال منه: علي يعلى علاء، ومعنى العظيم: ذو العظمة والجلال، والعظم في حقه تعالى منصرف إلى عظم الشأن، وجلالة القدر، دون العظم الذي هو من نعوت الأجسام.

__________

(1) زاد المسير: 1/229.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. من عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب الكريم أنه يخلط هذه الأنواع الثلاثة بعضها بالبعض، أعني علم التوحيد، وعلم الأحكام، وعلم القصص، والمقصود من ذكر القصص إما تقرير دلائل التوحيد، وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف، وهذا الطريق هو الطريق الأحسن لا إبقاء الإنسان في النوع الواحد لأنه يوجب الملال، فأما إذا انتقل من نوع من العلوم إلى نوع آخر فكأنه يشرح به الصدر ويفرح به القلب، فكأنه سافر من بلد إلى بلد آخر وانتقل من بستان إلى بستان آخر، وانتقل من تناول طعام لذيذ إلى تناول نوع آخر، ولا شك أنه يكون ألذ وأشهى، ولما ذكر فيما تقدم من علم الأحكام ومن علم القصص ما رآه مصلحة ذكر الآن ما يتعلق بعلم التوحيد، فقال: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 2]

2. مما روي في فضائل هذه الآية:

أ. روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (ما قرئت هذه الآية في دار إلا اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة)

ب. وعن علي أنّه قال سمعت نبيّكم على أعواد المنبر وهو يقول: (من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات التي حوله)

ج. وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم علي: أين أنتم من آية الكرسي، ثم قال قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (يا علي سيد البشر آدم، وسيد العرب محمد ولا فخر، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي)

د. وعن علي أنّه قال لما كان يوم بدر قاتلت ثم جئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنظر ماذا يصنع، قال فجئت وهو ساجد يقول: يا حي يا قيوم، لا يزيد على ذلك، ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو يقول ذلك، فلا أزال أذهب وأرجع وأنظر إليه، وكان لا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له.

3. الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم فكلما كان المذكور والمعلوم أشرف كان الذكر والعلم أشرف، وأشرف المذكورات والمعلومات هو الله سبحانه بل هو متعال عن أن يقال: إنه أشرف من غيره، لأن ذلك يقتضي نوع مجانسة ومشاكلة، وهو مقدس عن مجانسة ما سواه، فلهذا السبب كل كلام اشتمل على نعوت جلاله وصفات كبريائه، كان ذلك الكلام في نهاية الجلال والشرف، ولما كانت هذه الآية كذلك لا جرم كانت هذه الآية بالغة في الشرف إلى أقصى الغايات وأبلغ النهايات.

4. تفسير لفظة ﴿اللَّهُ﴾ قد تقدم في أول الكتاب وتفسير قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ قد تقدم‏ في قوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [البقرة: 163] بقي هاهنا أن نتكلم في تفسير قوله تعالى: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾

5. عن ابن عباس أنه كان يقول: أعظم أسماء الله‏ ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، وما روينا أنه صلّى الله عليه وآله وسلم ما كان يزيد على ذكره في السجود يوم بدر يدل على عظمة هذا الاسم والبراهين العقلية دالة على صحته وتقريره، ومن الله التوفيق: أنه لا شك في وجود الموجودات فهي إما أن تكون بأسرها ممكنة، وإما أن تكون بأسرها واجبة وإما أن تكون بعضها ممكنة وبعضها واجبة:

أ. لا جائز أن تكون بأسرها ممكنة، لأن كل مجموع فهو مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزاء هذا المجموع ممكن والمفتقر إلى الممكن أولى بالإمكان، فهذا المجموع ممكن بذاته وكل واحد من أجزائه ممكن فإنه لا يترجح وجوده على عدمه إلا لمرجح مغاير له، فهذا المجموع مفتقر بحسب كونه مجموعاً وبحسب كل واحد من أجزائه إلى مرجح مغاير له وكل وما كان مغايرا لكل الممكنات لم يكن ممكناً فقد وجد موجود ليس بممكن، فبطل القول بأن كل موجود ممكن.

ب. وأما القسم الثاني وهو أن يقال الموجودات بأسرها واجبة فهذا أيضاً باطل، لأنه لو حصل وجودان كل واحد منهما واجب لذاته لكانا مشتركين في الوجوب بالذات ومتغايرين بالنفي، وما به المشاركة مغاير لما به الممايزة، فيكون كل واحد منهما مركباً في الوجوب الذي به المشاركة، ومن الغير الذي به الممايزة، وكل مركب فهو مفتقر إلى كل واحد من جزئه وجزء غيره، وكل مركب فهو مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته، فلو كان واجب الوجود أكثر من واحد لما كان شيء منها واجب الوجود وذلك محال.

ج. ولما بطل هذان القسمان ثبت أنه حصل في مجموع الموجودات موجود واحد واجب الوجود لذاته وأن كل ما عداه فهو ممكن لذاته موجود بإيجاد ذلك الموجود الذي هو واجب الوجود لذاته، ولما بطل هذان فالواجب لذاته موجود لذاته وبذاته، ومستغن في وجوده عن كل ما سواه، وأما كل ما سواه فمفتقر في وجوده وماهيته إلى إيجاد الواجب لذاته، فالواجب لذاته قائم بذاته وسبب لتقوم كل ما سواه في ماهيته وفي وجوده، فهو القيوم الحي بالنسبة إلى كل الموجودات، فالقيوم هو المتقوم بذاته، المقوم لكل ما عداه في ماهيته ووجوده.

6. لما كان واجب الوجود لذاته كان هو القيوم الحق بالنسبة إلى الكل، ثم إنه لما كان المؤثر في الغير إما أن يكون مؤثراً على سبيل العلية والإيجاب وإما أن يكون مؤثراً على سبيل الفعل والاختيار: لا جرم أزال وهم كونه مؤثراً بالعلية والإيجاب بقوله: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ فإن الحي هو الدراك الفعال، فبقوله: ﴿الْحَيُّ﴾ دل على كونه عالماً قادراً، وبقوله: ﴿الْقَيُّومِ﴾ دل على كونه قائماً بذاته ومقوماً لكل ما عداه، ومن هذين الأصلين تتشعب جميع المسائل المعتبرة في علم التوحيد:

أ. فأولها: أن واجب الوجود واحد بمعنى أن ماهيته غير مركبة من الأجزاء، وبرهانه أن كل مركب فإنه مفتقر في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه وجزؤه غيره، وكل مركب فهو متقوم بغيره، والمتقوم بغيره لا يكون متقوماً بذاته، فلا يكون قيوماً، وقد بينا بالبرهان أنه قيوم وإذا ثبت أنه تعالى في ذاته واحد، فهذا الأصل له لازمان:

أحدها: أن واجب الوجود واحد بمعنى أنه ليس في الوجود شيئان كل واحد منهما واجب لذاته إذ لو فرض ذلك لاشتركا في الوجوب وتباينا في التعين، وما به المشاركة غير ما به المباينة، فيلزم كون كل واحد منهما في ذاته مركباً من جز أين، وقد بينا بيان أنه محال.

الثاني: أنه لما امتنع في حقيقته أن تكون مركبة من جزأين امتنع كونه متحيزاً، لأن كل متحيز فهو منقسم، وقد ثبت أن التركيب عليه ممتنع، وإذا ثبت أنه ليس بمتحيز امتنع كونه في الجهة، لأنه لا معنى للمتحيز إلا ما يمكن أن يشار إليه إشارة حسيّة، وإذا ثبت أنه ليس بمتحيز وليس في الجهة، امتنع أن يكون له أعضاء وحركة وسكون.

ب. ثانيها: أنه لما كان قيوما كان قائماً بذاته، وكونه قائماً بذاته يستلزم أمورا:

الأول: أن لا يكون عرضا في موضوع، ولا صورة في مادة، ولا حالا في محل أصلا لأن الحال مفتقر إلى المحل والمفتقر إلى الغير لا يكون قيوما بذاته.

الثاني: قال بعض العلماء: لا معنى للعلم إلا حضور حقيقة المعلوم للعالم، فإذا كان قيوماً بمعنى كونه قائماً بنفسه لا بغيره كانت حقيقته حاضرة عند ذاته، وإذا كان لا معنى للعلم إلا هذا الحضور، وجب أن تكون حقيقته معلومة لذاته فإذن ذاته معلومة لذاته، وكل ما عداه فإنه إنما يحصل بتأثيره، ولأنا بينا أنه قيوم بمعنى كونه مقوماً لغيره، وذلك التأثير إن كان بالاختيار فالفاعل المختار لا بدّ وأن يكون له شعور بفعله وإن كان بالإيجاب لزم أيضاً كونه عالماً بكل ما سواه لأن ذاته موجبة لكل ما سواه، وقد دللنا على أنه يلزم من كونه قائماً بالنفس لذاته كونه عالماً بذاته، والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول، فعلى التقديرات كلها يلزم من كونه قيوماً كونه عالما بجميع المعلومات.

ثالثها: لما كان قيوماً لكل ما سواه كان كل ما سواه محدثاً، لأن تأثيره في تقويم ذلك الغير يمتنع أن يكون حال بقاء ذلك الغير لأن تحصيل الحاصل محال فهو إما حال عدمه وإما حال حدوثه وعلى التقديرين وجب أن يكون الكل محدثاً.

رابعها: أنه لما كان قيوماً لكل الممكنات استندت كل الممكنات إليه إما بواسطة أو بغير واسطة، وعلى التقديرين كان القول بالقضاء والقدر حقاً، وهذا مما قد فصلناه وأوضحناه في هذا الكتاب في آيات كثيرة.

7. إن ساعدك التوفيق وتأملت في هذه المعاقد التي ذكرناها علمت أنه لا سبيل إلى الإحاطة بشيء من المسائل المتعلقة بالعلم الإلهي إلا بواسطة كونه تعالى حياً قيوما فلا جرم لا يبعد أن يكون الاسم الأعظم هو هذا، وأما سائر الآيات الإلهية:

أ. كقوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [البقرة: 163] وقوله: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: 18] ففيه بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والند.

ب. وأما قوله‏ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1] [الصمد: 1] ففيه بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والند، وبمعنى أن حقيقته غير مركبة من الأجزاء.

ج. وأما قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [الأعراف: 54] ففيه بيان صفة الربوبية وليس فيه بيان وحدة الحقيقة.

د. أما قوله: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ فإنه يدل على الكل لأن كونه قيوماً يقتضي أن يكون قائماً بذاته، وأن يكون مقوماً لغيره وكونه قائماً بذاته يقتضي الوحدة بمعنى نفي الكثرة في حقيقته، وذلك يقتضي الوحدة بمعنى نفي الضد والند ويقتضي نفي التحيز وبواسطته يقتضي نفي الجهة، وأيضاً كونه قيوماً بمعنى كونه مقوما لغيره يقتضي حدوث كل ما سواه جسماً كان أو روحاً عقلًا كان أو نفساً، ويقتضي استناد الكل إليه وانتهاء جملة الأسباب والمسببات إليه، وذلك يوجب القول بالقضاء والقدر فظهر أن هذين اللفظين كالمحيطين بجميع مباحث العلم الإلهي، فلا جرم بلغت هذه الآية في الشرف إلى المقصد الأقصى واستوجب أن يكون هو الاسم الأعظم من أسماء الله تعالى.

8. ويدل على ذلك أيضا الترتيب الوارد في الآية الكريمة:

أ. ذلك أنه تعالى لما بين أنه حي قيوم أكد ذلك بقوله: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ والمعنى: أنه لا يغفل عن تدبير الخلق، لأن القيم بأمر الطفل لو غفل عنه ساعة لاختل أمر الطفل، فهو سبحانه قيم جميع المحدثات، وقيوم الممكنات، فلا يمكن أن يغفل عن تدبيرهم، فقوله: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ كالتأكيد لبيان كونه تعالى قائماً، وهو كما يقال لمن ضيع وأهمل: إنك لو سنان نائم.

ب. ثم إنه تعالى لما بيّن كونه قيوماً بمعنى كونه قائماً بذاته، مقوماً لغيره، رتب عليه حكماً وهو قوله: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ لأنه لما كان كل ما سواه إنما تقومت ماهيته، وإنما يحصل وجوده بتقويمه وتكوينه وتخليقه لزم أن يكون كل ما سواه ملكاً له وملكاً له، وهو المراد من قوله: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾

ج. ثم لما ثبت أنه هو الملك والمالك لكل ما سواه، ثبت أن حكمه في الكل جار ليس لغيره في شيء من الأشياء حكم إلا بإذنه وأمره، وهو المراد بقوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾

د. ثم لما بيّن أنه يلزم من كونه مالكاً للكل، أن لا يكون لغيره في ملكه تصرف بوجه من الوجوه، بيّن أيضاً أنه يلزم من كونه عالما بالكل وكون غيره غير عالم بالكل، أن لا يكون لغيره في ملكه تصرف بوجه من الوجوه إلا بإذنه، وهو قوله: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ وهو إشارة إلى كونه سبحانه عالماً بالكل.

هـ. ثم قال: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ وهو إشارة إلى كون غيره غير عالم بجميع المعلومات.

و. ثم إنه لما بيّن كمال ملكه وحكمه في السموات وفي الأرض، بيّن أن ملكه فيما وراء السماوات والأرض أعظم وأجل، وأن ذلك مما لا تصل إليه أوهام المتوهمين وينقطع دون الارتقاء إلى أدنى درجة من درجاتها المتخيلين، فقال: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾

ز. ثم بيّن أن نفاذ حكمه وملكه في الكل على نعت واحد، وصورة واحدة، فقال: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255]

ح. ثم لما بين كونه قيوماً بمعنى كونه مقوماً للمحدثات والممكنات والمخلوقات، بيّن كونه قيوماً بمعنى قائماً بنفسه وذاته، منزّها عن الاحتياج إلى غيره في أمر من الأمور، فتعالى عن أن يكون متحيزاً حتى يحتاج إلى مكان، أو متغيراً حتى يحتاج إلى زمان، فقال: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: 4] فالمراد منه العلو والعظمة، بمعنى أنه لا يحتاج إلى غيره في أمر من الأمور، ولا ينسب غيره في صفة من الصفات ولا في نعت من النعوت، فقال: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: 4] إشارة إلى ما بدأ به في الآية من كونه قيوماً بمعنى كونه قائماً بذاته مقوماً لغيره.

ط. من أحاط عقله بما ذكرنا علم أنه ليس عند العقول البشرية من الأمور الإلهية كلام أكمل، ولا برهان أوضح مما اشتملت عليه هذه الآيات.

9. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، قال بعضهم: الإله هو المعبود، وهو خطأ لوجهين:

أ. الأول: أنه تعالى كان إلهاً في الأزل، وما كان معبوداً.

ب. الثاني: أنه تعالى أثبت معبوداً سواه في القرآن بقوله: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [الأنبياء: 98]

بل الإله هو القادر على ما إذا فعله كان مستحقاً للعبادة.

10. ﴿الْحَيُّ﴾ الحي أصله حيي كقوله: حذر وطمع فأدغمت الياء في الياء عند اجتماعهما، وقال ابن الأنباري: أصله الحيو، فلما اجتمعت الياء والواو ثم كان السابق ساكناً فجعلنا ياء مشددة، واختلفوا:

أ. قال المتكلمون: الحي كل ذات يصح أن يعلم ويقدر، واختلفوا في أن هذا المفهوم صفة موجودة أم لا، فقال بعضهم: إنه عبارة عن كون الشيء بحيث لا يمتنع أنه يعلم ويقدر، وعدم الامتناع لا يكون صفة موجودة.

ب. وقال المحققون: ولما كانت الحياة عبارة عن عدم الامتناع، وقد ثبت أن الامتناع أمر عدمي، إذ لو كان وصفاً موجودا لكان الموصوف به موجوداً، فيكون ممتنع الوجود موجوداً وهو محال، وثبت أن الامتناع عدم، وثبت أن الحياة عدم هذا الامتناع، وثبت أن عدم العدم وجود، لزم أن يكون المفهوم من الحياة صفة موجودة وهو المطلوب.

11. سؤال وإشكال: لما كان معنى الحي هو أنه الذي يصح أن يعلم ويقدر، وهذا القدر حاصل لجميع الحيوانات، فكيف يحسن أن يمدح الله نفسه بصفة يشاركه فيها أخس الحيوانات، والجواب: الذي عندي في هذا الباب أن الحي في أصل اللغة ليس عبارة عن هذه الصحة، بل كل شيء كان كاملا في جنسه، فإنه يسمى حيا، ألا ترى أن عمارة الأرض الخربة تسمى: إحياء الموات، وقال تعالى: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الروم: 50]، وقال: ﴿إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ [فاطر: 9] والصفة المسماة في عرف المتكلمين، إنما سميت بالحياة لأن كمال حال الجسم أن يكون موصوفاً بتلك الصفة فلا جرم سميت تلك الصفة حياة، وكمال حال الأشجار أن تكون مورقة خضرة فلا جرم سميت هذه الحالة حياة، وكمال الأرض أن تكون معمورة فلا جرم سميت هذه الحالة حياة، فثبت أن المفهوم الأصلي من لفظ الحي كونه واقعاً على أكمل أحواله وصفاته، وإذا كان كذلك فقد زال الإشكال لأن المفهوم من الحي هو الكامل، ولما لم يكن ذلك مقيداً بأنه كامل في هذا دون ذاك دل على أنه كامل على الإطلاق، فقوله ﴿الْحَيُّ﴾ [غافر: 65] يفيد كونه كاملًا على الإطلاق، والكامل هو أن لا يكون قابلا للعدم، لا في ذاته ولا في صفاته الحقيقة ولا في صفاته النسبية والإضافية، ثم عند هذا إن خصصنا القيوم بكونه سبباً لتقويم غيره فقد زال الإشكال، لأن كونه سبباً لتقويم غيره يدل على كونه متقوماً بذاته، وكونه قيوماً يدل على كونه مقوماً لغيره، وإن جعلنا القيوم اسماً يدل على كونه يتناول المتقوم بذاته والمقوم لغيره كان لفظ القيوم مفيداً فائدة لفظ الحي مع زيادة، فهذا ما عندي في هذا الباب.

12. ﴿الْقَيُّومِ﴾ في اللغة مبالغة في القائم، فلما اجتمعت الياء والواو ثم كان السابق ساكناً جعلتا ياء مشددة، ولا يجوز أن يكون على فعول، لأنه لو كان كذا لكان قووما، وفيه ثلاث لغات: قيوم، وقيام وقيم، ويروى عن عمر أنه قرأ: الحي القيام ومن الناس من قال هذه اللفظة عبرية لا عربية، لأنهم يقولون: حياً قيوما، وليس الأمر كذلك، لأنا بينا أن له وجهاً صحيحاً في اللغة، ومثله ما في الدار ديار وديور، ودير، وهو من الدوران، أي ما بها خلق يدور، يعني: يجيء ويذهب، وقال أمية بن أبي الصلت: (قدرها المهيمن القيوم)‏

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الْقَيُّومِ﴾:

أ. قال مجاهد: القيوم القائم على كل شيء، وتأويله أنه قائم بتدبير أمر الخلق في إيجادهم، وفي أرزاقهم، ونظيره من الآيات قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَقائِمٌ‏ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد: 33]، وقال: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: 18] إلى قوله: ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾، وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [فاطر: 41] وهذا القول يرجع حاصله إلى كونه مقوماً لغيره.

ب. وقال الضحاك: القيوم الدائم الوجود الذي يمتنع عليه التغير، وهذا القول يرجع معناه إلى كونه قائما بنفسه في ذاته وفي وجوده.

ج. وقال بعضهم: القيوم الذي لا ينام بالسريانية، وهذا القول بعيد، لأنه يصير قوله: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾

14. ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ السنة ما يتقدم من الفتور الذي يسمى النعاس، والدليل العقلي دل على أن النوم والسهو والغفلة محالات على الله تعالى، لأن هذه الأشياء، إما أن تكون عبارات عن عدم العلم، أو عن أضداد العلم، وعلى التقديرين فجواز طريانها يقتضي جواز زوال علم الله تعالى، فلو كان كذلك لكانت ذاته تعالى بحيث يصح أن يكون عالماً، ويصح أن لا يكون عالماً، فحينئذ يفتقر حصول صفة العلم له إلى الفاعل، والكلام فيه كما في الأول والتسلسل محال فلا بد وأن ينتهي إلى من يكون علمه صفة واجبة الثبوت ممتنعة الزوال، وإذا كان كذلك كان النوم والغفلة والسهو عليه محالا.

15. سؤال وإشكال: إذ كانت السنة عبارة عن مقدمة النوم، فإذا قال: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ فقد دل ذلك على أنه لا يأخذه نوم بطريق الأولى، وكان ذكر النوم تكريراً، والجواب: تقدير الآية: لا تأخذه سنة فضلًا عن أن يأخذه النوم.

16. يروى عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم‏ أنه حكي عن موسى عليه السلام أنه وقع في نفسه: هل ينام الله تعالى أم لا، فأرسل الله إليه ملكاً فأرقه ثلاثا، ثم أعطاه قارورتين في كل يد واحدة، وأمره بالاحتفاظ بهما، وكان يتحرز بجهده إلى أن نام في آخر الأمر فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان، فضرب الله تعالى ذلك مثلًا له في بيان أنه لو كان ينام لم يقدر على حفظ السموات والأرض.. ومثل هذا لا يمكن نسبته إلى موسى عليه السلام، فإن من جوز النوم على الله أو كان شاكاً في جوازه كان كافراً، فكيف يجوز نسبة هذا إلى موسى، بل إن صحت الرواية.. فالواجب نسبة هذا السؤال إلى جهال قومه.

17. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ المراد من هذه الإضافة إضافة الخلق والملك، وتقديره ما ذكرنا من أنه لما كان واجب الوجود واحداً كان ما عداه ممكن الوجود لذاته، وكل ممكن فله مؤثر، وكل ما له مؤثر فهو محدث فإذن كل ما سواه فهو محدث بإحداثه مبدع بإبداعه فكانت هذه الإضافة إضافة الملك والإيجاد.

18. سؤال وإشكال: لم قال: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ ولم يقل: له من في السموات؟ والجواب: لما كان المراد إضافة ما سواه إليه بالمخلوقية، وكان الغالب عليه ما لا يعقل أجرى الغالب مجرى الكل فعبر عنه بلفظ ﴿مَا﴾ وأيضاً فهذه الأشياء إنما أسندت إليه من حيث إنها مخلوقة، وهي من حيث إنها مخلوقة غير عاقلة، فعبّر عنها بلفظ ﴿مَا﴾ للتنبيه على أن المراد من هذه الإضافة إليه الإضافة من هذه الجهة.

19. احتج أهل السنة، ومن وافقهم بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، قالوا: لأن قوله: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ يتناول كل ما في السموات والأرض، وأفعال العباد من جملة ما في السموات والأرض، فوجب أن تكون منتسبة إلى الله تعالى انتساب الملك والخلق، وكما أن اللفظ يدل على هذا المعنى فالعقل يؤكده، وذلك لأن كل ما سواه فهو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يترجح إلا بتأثير واجب الوجود لذاته، وإلا لزم ترجح الممكن من غير مرجح وهو محال.

20. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي﴾ استفهام معناه الإنكار والنفي، أي لا يشفع عنده أحد إلا بأمره وذلك أن المشركين كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يقولون:‏ ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3]، وقولهم‏ ﴿هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: 18]، ثم بيّن تعالى أنهم لا يجدون هذا المطلوب، فقال: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ [يونس: 18]، فأخبر الله تعالى أنه لا شفاعة عنده لأحد إلا من استثناه الله تعالى بقوله: ﴿إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، ونظيره قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ [النبأ: 38]

21. ذهب بعضهم(2) إلى أنه تعالى لا يأذن في الشفاعة لغير المطيعين، إذ كان لا يجوز في حكمته التسوية بين أهل الطاعة وأهل المعصية، وطول في تقريره، والجواب: إن هذا القفال عظيم الرغبة في الاعتزال حسن الاعتقاد في كلماتهم، ومع ذلك فقد كان قليل الإحاطة بأصولهم، وذلك لأن من مذهب البصريين منهم أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن في العقول، إلا أن السمع دل على أن ذلك لا يقع، وإذا كان كذلك كان الاستدلال العقلي على المنع من الشفاعة في حق العصاة خطأ على قولهم، بل على مذهب الكعبي أن العفو عن المعاصي قبيح عقلًا، فإن كان القفال على مذهب الكعبي، فحينئذ يستقيم هذا الاستدلال، إلا أن الجواب عنه يرد ذلك من وجوه:

أ. الأول: أن العقاب حق الله تعالى وللمستحق أن يسقط حق نفسه، بخلاف الثواب فإنه حق العبد فلا يكون لله تعالى أن يسقطه، وهذا الفرق ذكره البصريون في الجواب عن شبهة الكعبي.

ب. الثاني: أن قوله: لا يجوز التسوية بين المطيع والعاصي إن أراد به أنه لا يجوز التسوية بينهما في أمر من الأمور فهو جهل، لأنه تعالى قد سوى بينهما في الخلق والحياة والرزق وإطعام الطيبات، والتمكين من المرادات وإن كان المراد أنه لا يجوز التسوية بينهما في كل الأمور فنحن نقول بموجبه، فكيف لا يقول ذلك والمطيع لا يكون له جزع، ولا يكون خائفاً من العقاب، والمذنب يكون في غاية الخوف وربما يدخل النار ويتألم مدة، ثم يخلصه الله تعالى عن ذلك العذاب بشفاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.

22. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ الضمير لما في السموات والأرض، لأن فيهم العقلاء، أو لما دل عليه‏ ﴿مَنْ ذَا﴾ من الملائكة والأنبياء، وفي الآية وجوه:

أ. أحدها: قال مجاهد، وعطاء، والسدي‏ ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ ما كان قبلهم من أمور الدنيا ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ ما يكون بعدهم من أمر الآخرة.

ب. الثاني: قال الضحاك والكلبي‏ ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم.

ج. الثالث: قال عطاء عن ابن عباس‏ ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ من السماء إلى الأرض‏ ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ يريد ما في السماوات.

د. الرابع ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ بعد انقضاء آجالهم‏ ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أي ما كان من قبل أن يخلقهم.

هـ. الخامس: ما فعلوا من خير وشر وما يفعلونه بعد ذلك.

23. المقصود من هذا الكلام ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾: أنه سبحانه عالم بأحوال الشافع والمشفوع له فيما يتعلق باستحقاق العقاب والثواب، لأنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه خافية، والشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أن لهم من الطاعة ما يستحقون به هذه المنزلة العظيمة عند الله تعالى، ولا يعلمون أن الله تعالى هل أذن لهم في تلك الشفاعة وأنهم يستحقون المقت والزجر على ذلك، وهذا يدل على أنه ليس لأحد من الخلائق أن يقدم على الشفاعة إلا بإذن الله تعالى، وهؤلاء المذكورون في هذه الآية يحتمل أن يكون هم الملائكة، وسائر من يشفع يوم القيامة من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين.

24. ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ المراد بالعلم هاهنا كما يقال: اللهم اغفر لنا علمك فينا، أي معلومك وإذا ظهرت آية عظيمة، قيل: هذه قدرة الله، أي مقدوره والمعنى: أن أحدا لا يحيط بمعلومات الله تعالى.

25. احتج بعض أهل السنة، ومن وافقهم بهذه الآية في إثبات صفة العلم لله تعالى وهو ضعيف لوجوه:

أ. أحدها: أن كلمة (من) للتبعيض، وهي داخلة هاهنا على العلم، فلو كان المراد من العلم نفس الصفة لزم دخول التبعيض في صفة الله تعالى وهو محال.

ب. الثاني: أن قوله: ﴿بِمَا شَاءَ﴾ لا يأتي في العلم إنما يأتي في المعلوم.

ج. الثالث: أن الكلام إنما وقع هاهنا في المعلومات، والمراد أنه تعالى عالم بكل المعلومات، والخلق لا يعلمون كل المعلومات، بل لا يعلمون منها إلا القليل.

26. قال الليث: يقال لكل من أحرز شيئا، أو بلغ علمه أقصاه قد أحاط به، وذلك لأنه علم بأول الشيء وآخره بتمامه صار العلم كالمحيط به.

27. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ قولان:

أ. أحدها: أنهم لا يعلمون شيئا من معلوماته إلا ما شاء هو أن يعلمهم كما حكي عنهم أنهم قالوا ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾

ب. الثاني: أنهم لا يعلمون الغيب إلا عند إطلاع الله بعض أنبيائه على بعض الغيب، كما قال: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾

28. ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ يقال: وسع فلانا الشيء يسعه سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به، ولا يسعك هذا، أي لا تطبقه ولا تحتمله ومنه‏ قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أتباعي)، أي لا يحتمل غير ذلك.

29. أما الكرسي فأصله في اللغة من تركب الشيء بعضه على‏ بعض، والكرس أبوال الدواب وأبعارها يتلبد بعضها فوق بعض، وأكرست الدار إذا كثرت فيها الأبعار والأبوال وتلبد بعضها على بعض، وتكارس الشيء إذا تركب، ومنه الكراسة لتركب بعض أوراقها على بعض والكرسي هو هذا الشيء المعروف لتركب خشباته بعضها فوق بعض.

30. اختلف المفسرون في الكرسي على أربعة أقوال.

أ. الأول: أنه جسم عظيم يسع السموات والأرض، وهو القول المعتمد، ثم اختلفوا فيه:

فقال الحسن: الكرسي هو نفس العرش، لأن السرير قد يوصف بأنه عرش، وبأنه كرسي، لكون كل واحد منهما بحيث يصح التمكن عليه.

وقال بعضهم: بل الكرسي غير العرش، ثم اختلفوا:

● فمنهم من قال إنه دون العرش وفوق السماء السابعة، ولفظ الكرسي ورد في الآية وجاء في الأخبار الصحيحة أنه جسم عظيم تحت العرش وفوق السماء السابعة، ولا امتناع في القول به فوجب القول باتباعه، وأما ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنّه قال: موضع القدمين، ومن البعيد أن يقول ابن عباس: هو موضع قدمي الله تعالى وتقدس عن الجوارح والأعضاء، وقد ذكرنا الدلائل الكثيرة على نفي الجسمية في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، فوجب رد هذه الرواية أو حملها على أن المراد أن الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى.

● وقال آخرون إنه تحت الأرض وهو منقول عن السدي.

ب. الثاني: أن المراد من الكرسي السلطان والقدرة والملك، ثم تارة يقال: الإلهية لا تحصل إلا بالقدرة والخلق والإيجاد، والعرب يسمون أصل كل شيء الكرسي وتارة يسمى الملك بالكرسي، لأن الملك يجلس على الكرسي، فيسمى الملك باسم مكان الملك.

ج. الثالث: أن الكرسي هو العلم، لأن العلم موضع العالم، وهو الكرسي فسميت صفة الشيء باسم مكان ذلك الشيء على سبيل المجاز لأن العلم هو الأمر المعتمد عليه، والكرسي هو الشيء الذي يعتمد عليه، ومنه يقال للعلماء: كراسي، لأنهم الذين يعتمد عليهم كما يقال لهم: أوتاد الأرض.

31. ثم وصف الله تعالى عرشه فقال: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ [هود: 7]، ثم قال: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [الزمر: 75]، وقال: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ [الحاقة: 17]، وقال: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ﴾ [غافر: 7]، ثم أثبت لنفسه كرسيا فقال: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، وكل ما جاء من الألفاظ الموهمة للتشبيه في العرش والكرسي، فقد ورد مثلها بل أقوى منها في الكعبة والطواف وتقبيل الحجر، ولما توافقنا هاهنا على أن المقصود تعريف عظمة الله وكبريائه مع‏ القطع بأنه منزّه عن الكعبة، فكذا الكلام في العرش والكرسي، وهذا جواب مبين إلا أن المعتمد هو الأول، لأن ترك الظاهر بغير دليل لا يجوز.

32. ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255] يقال: آده يؤده: إذا أثقله وأجهده، وأدت العود أودا، وذلك إذا اعتمدت عليه بالثقل حتى أملته، والمعنى: لا يثقله ولا يشق عليه حفظهما أي حفظ السموات والأرض.

33. ثم قال: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: 4] ولا يجوز أن يكون المراد منه العلو بالجهة، وقد دللنا على ذلك بوجوه كثيرة، ونزيد هاهنا وجوها أخرى:

أ. الأول: أنه لو كان علوه بسبب المكان، لكان لا يخلو إما أن يكون متناهيا في جهة فوق، أو غير متناه في تلك الجهة، و الأول باطل لأنه إذا كان متناهيا في جهة فوق، كان الجزء المفروض فوقه أعلى منه، فلا يكون هو أعلى من كل ما عداه، بل يكون غيره أعلى منه، وإن كان غير متناه فهذا محال، لأن القول بإثبات بعد لا نهاية له باطل بالبراهين اليقينية، وأيضا فإنا إذا قدرنا بعدا لا نهاية له، لافترض في ذلك البعد نقط غير متناهية، فلا يخلو إما أن يحصل في تلك النقط نقطة واحدة لا يفترض فوقها نقطة أخرى، وإما أن لا يحصل، فإن كان الأول كانت النقطة طرفا لذلك البعد، فيكون ذلك البعد متناهيا، وقد فرضناه غير متناه هذا خلف، وإن لم يوجد فيها نقطة إلا وفوقها نقطة أخرى كان كل واحدة من تلك النقط المفترضة في ذلك البعد سفلا، ولا يكون فيها ما يكون فوقا على الإطلاق، فحينئذ لا يكون لشيء من النفقات المفترضة في ذلك البعد علو مطلق ألبتة وذلك ينفي صفة العلوية.

ب. الثاني: أن العالم كرة، ومتى كان الأمر كذلك فكل جانب يفرض علوا بالنسبة إلى أحد وجهي الأرض يكون سفلا بالنسبة إلى الوجه الثاني، فينقلب غاية العلو غاية السفل.

ج. الثالث: أن كل وصف يكون ثبوته لأحد الأمرين بذاته، وللآخر بتبعية الأول كان ذلك الحكم في الذاتي أتم وأكمل، وفي العرضي أقل وأضعف، فلو كان علو الله تعالى بسبب المكان لكان علو المكان الذي بسببه حصل هذا العلو لله تعالى صفة ذاتية، ولكان حصول هذا العلو لله تعالى حصولا بتبعية حصوله في المكان، فكان علو المكان أتم وأكمل من علو ذات الله تعالى، فيكون علو الله ناقصا وعلو غيره كاملا وذلك محال، فهذه الوجوه قاطعة في أن علو الله تعالى يمتنع أن يكون بالجهة.

34. ما أحسن ما قال أبو مسلم بن بحر الأصفهاني في تفسير قوله: ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لله﴾ [الأنعام: 12] قال: وهذا يدل على أن المكان والمكانيات بأسرها ملك الله تعالى وملكوته، ثم قال: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: 13] وهذا يدل على أن الزمان والزمانيات بأسرها ملك الله تعالى وملكوته، فتعالى وتقدس عن أن يكون علوه بسبب المكان، وأما عظمته فهي أيضاً بالمهابة والقهر والكبرياء، ويمتنع أن تكون بسبب المقدار والحجم، لأنه إن كان غير متناه في كل الجهات أو في بعض الجهات فهو محال لما ثبت بالبراهين القاطعة عدم إثبات أبعاد غير متناهية، وإن كان متناهيا من كل الجهات كانت الأحياز المحيطة بذلك المتناهي أعظم منه، فلا يكون مثل هذا الشيء عظيما على الإطلاق، فالحق أنه سبحانه وتعالى أعلى وأعظم من أن يكون من جنس الجواهر والأجسام تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 7/6.

(2) يقصد <الكلام هنا للقفال، وقد ختم الرازي هذه المسألة بقوله عنه: واعلم أن القفال كان حسن الكلام في التفسير دقيق النظر في تأويلات الألفاظ إلا أنه كان عظيم المبالغة في تقرير مذهب المعتزلة مع أنه كان قليل الحظ من علم الكلام قليل النصيب من معرفة كلام المعتزلة.

ابن حمزة:

ذكر الإمام عبد الله بن حمزة (ت 614 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ اعلم أن من يذهب إلى أن معنى الكرسي: العلم، يحمل قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ على أن المراد به: إحاطة علمه تفصيلا وجملة بما في السماوات والأرض، حتى لا يغادر منهما، ولا مما فيهما ذبابا ولا نملة؛ فعلمه بما فوق السماوات والأرض كعلمه بما تحتهما، وبما في جوفيهما، وعلمه بما جن عليه الليل كعلمه بما أشرق عليه النهار؛ فأتبع سبحانه التمدح بإحاطته بهما: أنهما لا يئوده حفظهما حفظا؛ لأن التمدح لا يقع بحفظ ما لم يعلم، فلما أخبر أنه عالم بهما أخبر أنه حافظ لهما.. ومن قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾، أي: علمه ـ قولهم: (علم فلان واسع) إذا كان مستدركا للغوامض، عارفا بالدقائق، فلما كان علمه ليس من علم المخلوقين بسبيل، وكيف وهو لا يفتقر إلى برهان ولا دليل، وطرد الآفات عليه تبارك وتقدس مستحيل ـ ساغ أن يقول ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، أي: أحاط علما بالسماوات والأرض.

2. قوله سبحانه في العلم: ﴿وَسِعَ﴾ ـ وإن كان مجازا من حيث أن حقيقته في الأجسام ـ شائع؛ لأنه سبحانه خاطب العرب بلغتهم، وهم يخاطبون بالحقيقة والمجاز، وذلك يقتضي بأن خطابه على طريقهم، ولأن المجاز قد ورد في خطابه على طريقتهم، ولأن المجاز قد ورد في خطابه تعالى، في قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ﴾ [يوسف:82]، والمراد: أهل القرية، وأهل العير؛ لأن العير: الإبل، وهي بهائم لا تفهم ولا تجيب، والقرية: منازل وأبنية جماد، والجواب منها أبعد، وسؤالها لا يتوهم؛ فثبت أن المراد: واسأل أهل القرية، وأهل العير.. والمجاز: ما أفيد به ما لم يوضع له، وإنما استعير له، ولم يسبقه إلى الأفهام بنفسه.

3. أما قوله سبحانه ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ على قول من يقول: إن الكرسي جسم، على ما قدمنا، فإنه يحمل قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ على حقيقته؛ لأن السماوات والأرض عنده في جنب الكرسي، كما ورد في الخبر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (كحلقة ملقاة في فلاة)، ولا شك في كون الفلاة واسعة للحلقة وأمثالها، وذلك تشبيه منه صلّى الله عليه وآله وسلم لصغر السماوات والأرض في جنب الكرسي، كالحلقة في جنب الفلاة، ولا يقتضي ذلك كون الكرسي قرار الأرض، كما أن قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ [الصافات:49] على شكل البيض والاستدارة، وإنما شبههن بالبيض في الوضاءة والصقالة؛ لأن التشبيه عند العرب يقع لوجه، والخطاب بلغتهم من الله ومن رسوله؛ فمن هناك تشبيه الرسول له بالفلاة في السعة والإحاطة، وهو عند من ذهب إلى أنه جسم فوق السماوات والأرض، حاف من أعلاهما، وقوله سبحانه لا يفيد كونه مكانا لهما؛ لأن المكان: ما يستقر عليه الكائن، ولم يدل دليل على أنه كذلك، ولفظ (وسع) قد يستعمل فيما يحيط من الجهات العلا؛ ألا ترى أنه يقال: (وسع المغفر رأس الرجل)، وإن كان فوقه، وأمثال ذلك كثيرة؛ فعلى هذا: ذكره تعالى للكرسي ووسعه للسماوات والأرض ـ إبانة لقدرته، وإيضاح لعظمته، بحيث أن الكرسي في هذا الحد من العظم، والعرش فوقه في ذلك، ولم يشغله حفظهما عن حفظ السماوات والأرض، بخلاف ملوك البشر: فإنه إذا اتسعت مملكته، وقلت أعوانه ـ شغلته جهة عن جهة؛ فأخبر تعالى أنه لا يلهيه شأن عن شأن، ولا يشغله مكان عن مكان، ولا يفتقر إلى أعوان تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/118.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه آية الكرسي سيدة آي القرآن وأعظم آية، ونزلت ليلا ودعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم زيدا فكتبها:

أ. روي عن محمد ابن الحنفية أنه قال: لما نزلت آية الكرسي خر كل صنم في الدنيا، وكذلك خر كل ملك في الدنيا وسقطت التيجان عن رؤوسهم، وهربت الشياطين يضرب بعضهم على بعض إلى أن أتوا إبليس فأخبروه بذلك فأمرهم أن يبحثوا عن ذلك، فجاءوا إلى المدينة فبلغهم أن آية الكرسي قد نزلت.

ب. وروى الأئمة عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم)؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم)؟ قال قلت: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ فضرب في صدري وقال: (ليهنك العلم يا أبا المنذر)، زاد الترمذي الحكيم أبو عبد الله: (فو الذي نفسي بيده إن لهذه الآية للسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش)

ج. قال أبو عبد الله: فهذه آية أنزلها الله جل ذكره، وجعل ثوابها لقارئها عاجلا وآجلا، فأما في العاجل فهي حارسة لمن قرأها من الآفات، وروي لنا عن نوف البكالي أنه قال: آية الكرسي تدعى في التوراة ولية الله، يريد يدعى قارئها في ملكوت السموات والأرض عزيزا، قال: فكان عبد الرحمن ابن عوف إذا دخل بيته قرأ آية الكرسي في زوايا بيته الأربع، معناه كأنه يلتمس بذلك أن تكون له حارسا من جوانبه الأربع، وأن تنفي عنه الشيطان من زوايا بيته.

د. وفى الخبر: من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال والإكرام، وكان كمن قاتل مع أنبياء الله حتى يستشهد.

هـ. وعن علي قال: سمعت نبيكم صلّى الله عليه وآله وسلم يقول وهو على أعواد المنبر: من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله.

و. وفي الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من قرأ حم ـ المؤمن ـ إلى إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح) قال: حديث غريب.

ز. وقال أبو عبد الله الترمذي الحكيم: وروي أن المؤمنين ندبوا إلى المحافظة على قراءتها دبر كل صلاة، عن أنس رفع الحديث إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (أوحى الله إلى موسى صلّى الله عليه وآله وسلم من داوم على قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة أعطيته فوق ما أعطي الشاكرين وأجر النبيين وأعمال الصديقين وبسطت عليه يميني بالرحمة ولم يمنعه أن أدخله الجنة إلا أن يأتيه ملك الموت) قال موسى صلّى الله عليه وآله وسلم: يا رب من سمع بهذا لا يداوم عليه؟ قال: (إني لا أعطيه من عبادي إلا لنبي أو صديق أو رجل أحبه أو رجل أريد قتله في سبيلي)

ح. وعن أبي بن كعب قال قال الله تعالى: يا موسى من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة أعطيته ثواب الأنبياء) قال أبو عبد الله: معناه عندي أعطيته ثواب عمل الأنبياء، فأما ثواب النبوة فليس لأحد إلا للأنبياء.

ط. قال أبو ذر في حديثه الطويل: سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أي آية أنزل الله عليك من القرآن أعظم؟ فقال: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾

ي. وقال ابن عباس: أشرف آية في القرآن آية الكرسي، قال بعض العلماء: لأنه يكرر فيها اسم الله تعالى بين مضمر وظاهر ثماني عشرة مرة.

2. هذه الآية تضمنت التوحيد والصفات العلا، وهي خمسون كلمة، وفي كل كلمة خمسون بركة، وهي تعدل ثلث القرآن، ورد بذلك الحديث، ذكره ابن عطية.

3. ﴿الْحَيُّ﴾ اسم من أسمائه الحسنى يسمى به، ويقال: إنه اسم الله تعالى الأعظم، ويقال: إن عيسى ابن مريم صلّى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد أن يحيي الموتى يدعو بهذا الدعاء: ياحي يا قيوم، ويقال: إن آصف بن برخيا لما أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان دعا بقوله ياحي يا قيوم، ويقال: إن بني إسرائيل سألوا موسى عن اسم الله الأعظم فقال لهم: أيا هيا شرا هيا، يعني يا حي يا قيوم، ويقال: هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يدعون به، قال الطبري عن قوم: إنه يقال حي قيوم كما وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه، وقيل: سمى نفسه حيا لصرفه الأمور مصاريفها وتقديره الأشياء مقاديرها، وقال قتادة: الحي الذي لا يموت، وقال السدي: المراد بالحي الباقي، قال لبيد:

çفإما تريني اليوم أصبحت سالما ... ولست بأحيا من كلاب وجعفرé

وقد قيل: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم.

4. ﴿الْقَيُّومِ﴾ من قام، أي القائم بتدبير ما خلق، عن قتادة، وقال الحسن: معناه القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها بعملها، من حيث هو عالم بها لا يخفى عليه شي منها، وقال ابن عباس: معناه الذي لا يحول ولا يزول.. قال البيهقي: ورأيت في عيون التفسير لإسماعيل الضرير تفسير القيوم قال: ويقال هو الذي لا ينام، وكأنه أخذه من قوله تعالى عقيبه في آية الكرسي: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾، وقال الكلبي: القيوم الذي لا بدئ له، ذكره أبو بكر الأنباري، وأصل قيوم قيووم اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء، ولا يكون قيوم فعولا، لأنه من الواو فكان يكون قيووما، وقرأ ابن مسعود وعلقمة والأعمش والنخعي (الحي القيام) بالألف، وروي ذلك عن عمر، ولا خلاف بين أهل اللغة في أن القيوم أعرف عند العرب وأصح بناء وأثبت علة، والقيام منقول عن القوام إلى القيام، صرف عن الفعال إلى الفيعال، كما قيل للصواغ الصياغ، قال الشاعر:

çإن ذا العرش للذي يرزق النا ... س وحي عليهم قيومé

5. ثم نفى تعالى أن تأخذه سنة ولا نوم، والسنة: النعاس في قول الجميع، والنعاس ما كان من العين فإذا صار في القلب صار نوما، قال عدي بن الرقاع يصف امرأة بفتور النظر:

çوسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائمé

وفرق المفضل بينهما فقال: السنة من الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب، وقال ابن زيد: الوسنان الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل، حتى ربما جرد السيف على أهله، قال ابن عطية: وهذا الذي قاله ابن زيد فيه نظر، وليس ذلك بمفهوم من كلام العرب، وقال السدي: السنة: ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان، قلت: وبالجملة فهو فتور يعتري الإنسان ولا يفقد معه عقله، والمراد بهذه الآية أن الله تعالى لا يدركه خلل ولا يلحقه ملل بحال من الأحوال، والأصل في سنة وسنة حذفت الواو كما حذفت من يسن، والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن في حق البشر، والواو للعطف و﴿لَا﴾ توكيد.

6. الناس يذكرون في هذا الباب عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يحكي عن موسى على المنبر قال: وقع في نفس موسى هل ينام الله جل ثناؤه فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما قال فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ثم يستيقظ فينحي إحداهما عن الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان ـ قال ـ ضرب الله له مثلا أن لو كان ينام لم تمتسك السماء والأرض) ولا يصح هذا الحديث، ضعفه غير واحد منهم البيهقي.

7. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي بالملك فهو مالك الجميع وربه، وجاءت العبارة بـ ﴿مَا﴾ وإن كان في الجملة من يعقل من حيث المراد الجملة والموجود، قال الطبري: نزلت هذه الآية لما قال الكفار: ما نعبد أوثانا إلا ليقربونا إلى الله زلفى.

8. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ ﴿مِنَ﴾ رفع بالابتداء و﴿ذَا﴾ خبره، و﴿الَّذِي﴾ نعت ل ﴿ذَا﴾، وإن شئت بدل، ولا يجوز أن تكون ﴿ذَا﴾ زائدة كما زيدت مع ﴿مَا﴾ لأن ﴿مَا﴾ مبهمة فزيدت ﴿ذَا﴾ معها لشبهها بها، وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة، وهم الأنبياء والعلماء والمجاهدون والملائكة وغيرهم ممن أكرمهم وشرفهم الله، ثم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، كما قال: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ قال ابن عطية: (والذي يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار وهو بين المنزلتين، أو وصل ولكن له أعمال صالحة)، وفي البخاري في باب بقية من أبواب الرؤية: إن المؤمنين يقولون: ربنا إن إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا، وهذه شفاعة فيمن يقرب أمره، وكما يشفع الطفل المحبنطئ على باب الجنة، وهذا إنما هو في قراباتهم ومعارفهم، وإن الأنبياء يشفعون فيمن حصل في النار من عصاة أممهم بذنوب دون قربى ولا معرفة إلا بنفس الإيمان، ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين في المستغرقين في الخطايا والذنوب الذين لم تعمل فيهم شفاعة الأنبياء، وأما شفاعة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم في تعجيل الحساب فخاصة له.

9. قد بين مسلم في صحيحه كيفية الشفاعة بيانا شافيا، وكأنه لم يقرأه وأن الشافعين يدخلون النار ويخرجون منها أناسا استوجبوا العذاب، فعلى هذا لا يبعد أن يكون للمؤمنين شفاعتان: شفاعة فيمن لم يصل إلى النار، وشفاعة فيمن وصل إليها ودخلها، أجارنا الله منها، فذكر من حديث أبي سعيد الخدري: ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم ـ قيل: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: دحض مزلة فيها خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول تعالى ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به، ثم يقول ارجعوا: فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحد ممن أمرتنا به، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون: (ربنا لم نذر فيها خيرا) وكان أبو سعيد يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ ـ فيقول الله تعالى: (شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما) وذكر الحديث، وذكر من حديث أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال ليس ذلك لك ـ أو قال ليس ذلك إليك ـ وعزتي وكبريائي وعظمتي لأخرجن من قال لا إله إلا الله)، وذكر من حديث أبى هريرة عنه صلّى الله عليه وآله وسلم: حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله تعالى أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار يعرفونهم بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود) الحديث بطوله.

10. دلت هذه الأحاديث على أن شفاعة المؤمنين وغيرهم إنما هي لمن دخله النار وحصل فيها، أجارنا الله! منها وقول ابن عطية: (ممن لم يصل أو وصل) يحتمل أن يكون أخذه من أحاديث أخر، والله أعلم، وقد خرج ابن ماجه في سننه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: يصف الناس يوم القيامة صفوفا ـ وقال ابن نمير أهل الجنة ـ فيمر الرجل من أهل النار على الرجل فيقول: يا فلان أما تذكر يوم استسقيت فسقيتك شربة؟ قال: فيشفع له ويمر الرجل على الرجل فيقول: أما تذكر يوم ناولتك طهورا؟ فيشفع له ـ قال ابن نمير ـ ويقول: يا فلان أما تذكر يوم بعثتني لحاجة كذا وكذا فذهبت لك؟ فيشفع له)، وأما شفاعات نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلم فاختلف فيها، فقيل ثلاث اثنتان، وقيل: خمس، يأتي بيانها في ﴿سُبْحَانَ﴾ إن شاء الله تعالى.

11. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ الضميران عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، وقال مجاهد: ما بين أيديهم الدنيا وما خلفهم الآخرة، قال ابن عطية: وكل هذا صحيح في نفسه لا بأس به، لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان، وما خلفه هو كل ما يأتي بعده، وبنحو قول مجاهد قال السدي وغيره.

12. ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ العلم هنا بمعنى المعلوم، أي ولا يحيطون بشيء من معلوماته، وهذا كقول الخضر لموسى صلّى الله عليه وآله وسلم حين نقر العصفور في البحر: ما نقصى علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر، فهذا وما شاكله راجع إلى المعلومات، لأن علم الله تعالى الذي هو صفة ذاته لا يتبعض، ومعنى الآية لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه.

﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ ذكر ابن عساكر، في تاريخه عن علي قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: الكرسي لؤلؤة والقلم لؤلؤة وطول القلم سبعمائة سنة وطول الكرسي حيث لا يعلمه إلا الله، وروى حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة ـ وهو عاصم بن أبي النجود ـ عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال: بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين العرش مسيرة خمسمائة عام، والعرش فوق الماء والله فوق العرش يعلم ما أنتم فيه وعليه، يقال: كرسي وكرسي والجمع الكراسي، وقال ابن عباس: كرسيه علمه، ورجحه الطبري، قال: ومنه الكراسة التي تضم العلم، ومنه قيل للعلماء: الكراسي، لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الأرض، قال الشاعر:

çيحف بهم بيض الوجوه وعصبة ... كراسي بالأحداث حين تنوبé

أي علماء بحوادث الأمور، وقيل: كرسيه قدرته التي يمسك بها السموات والأرض، كما تقول: اجعل لهذا الحائط كرسيا، أي ما يعمده، وهذا قريب من قول ابن عباس في قول ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾ قاله البيهقي: وروينا عن ابن مسعود وسعيد بن جبير عن ابن عباس في قول ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾ قال: علمه، وسائر الروايات عن ابن عباس وغيره تدل على أن المراد به الكرسي المشهور مع العرش، وروى إسرائيل عن السدي عن أبي مالك في قوله ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ قال: إن الصخرة التي عليها الأرض السابعة ومنتهى الخلق على أرجائها، عليها أربعة من الملائكة لكل واحد منهم أربعة وجوه: وجه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر، فهم قيام عليها قد أحاطوا بالأرضين والسموات، ورءوسهم تحت الكرسي والكرسي تحت العرش والله واضع كرسيه فوق العرش، قال البيهقي: في هذا إشارة إلى كرسيين: أحدهما تحت العرش، والآخر موضوع على العرش، وفي رواية أسباط عن السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في قوله ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ فإن السموات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش، وأرباب الإلحاد يحملونها على عظم الملك وجلالة السلطان، وينكرون وجود العرش والكرسي وليس بشيء، وأهل الحق يجيزونهما، إذ في قدرة الله متسع فيجب الإيمان بذلك، قال أبو موسى الأشعري: الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل، قال البيهقي: قد روينا أيضا في هذا عن ابن عباس وذكرنا أن معناه فيما يرى أنه موضوع من العرش موضع القدمين من السرير، وليس فيه إثبات المكان لله تعالى، وعن ابن بريدة عن أبيه قال: لما قدم جعفر من الحبشة قال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ما أعجب شي رأيته؟ قال: رأيت امرأة على رأسها مكتل طعام فمر فارس فأذراه فقعدت تجمع طعامها، ثم التفتت إليه فقالت له: ويل لك يوم يضع الملك كرسيه فيأخذ للمظلوم من الظالم! فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم تصديقا لقولها: لا قدست أمة ـ أو كيف تقدس أمة ـ لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها)، قال ابن عطية: (في قول أبي موسى الكرسي موضع القدمين) يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين من أسرة الملوك، فهو مخلوق عظيم بين يدي العرش نسبته إليه كنسبة الكرسي إلى سرير الملك، وقال الحسن بن أبي الحسن: الكرسي هو العرش نفسه، وهذا ليس بمرضي، والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق بين يدي العرش والعرش أعظم منه، وروى أبو إدريس الخولاني عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله، أي ما أنزل عليك أعظم؟ قال: آية الكرسي ـ ثم قال ـ يا أبا ذر ما السموات السبع مع الكرسي إلا كخلقة ملقاة في أرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة، أخرجه الآجري وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده والبيهقي وذكر أنه صحيح، وقال مجاهد: ما السموات والأرض في الكرسي إلا بمنزلة حلقة ملقاة في أرض فلاة، وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله تعالى، ويستفاد من ذلك عظم قدرة الله تعالى إذ لا يؤده حفظ هذا الامر العظيم.

13. ﴿يُؤَدِّهِ﴾ معناه يثقله، يقال: آدني الشيء بمعنى أثقلني وتحملت منه المشقة، وبهذا فسر اللفظة ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم، قال الزجاج: فجائز أن تكون الهاء لله تعالى، وجائز أن تكون للكرسي، وإذا كانت للكرسي، فهو من أمر الله تعالى.

14. ﴿الْعَلِيُّ﴾ يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان، لأن الله منزه عن التحيز، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه، قال ابن عطية: وهذا قول جهلة مجسمين، وكان الوجه ألا يحكى، وعن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحا في السموات العلى: سبحان الله العلي الأعلى تعالى، والعلي والعالي: القاهر الغالب للأشياء، تقول العرب: علا فلان فلانا أي غلبه وقهره، قال الشاعر:

çفلما علونا واستوينا عليهم ... تركناهم صرعى لنسر وكاسرé

ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾، و﴿الْعَظِيمِ﴾ صفة بمعنى عظيم القدر والخطر والشرف، لا على معنى عظم الأجرام، وحكى الطبري عن قوم أن العظيم معناه المعظم، كما يقال: العتيق بمعنى المعتق، وأنشد بيت الأعشى: فكأن الخمر العتيق من الإس ... فنط ممزوجة بماء زلالوحكي عن قوم أنهم أنكروا ذلك وقالوا: لو كان بمعنى معظم لوجب ألا بكون عظيما قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم، إذ لا معظم له حينئذ.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/269.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ أي: لا معبود بحق إلا هو، وهذه الجملة خبر المبتدأ.

2. الحيّ: الباقي؛ وقيل: الذي لا يزول ولا يحول؛ وقيل: المصرّف للأمور، والمقدّر للأشياء، قال الطبري عن قوم: إنه يقال: حيّ، كما وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه، وهو خبر ثان أو مبتدأ خبره محذوف.

3. القيوم: القائم على كل نفس بما كسبت، وقيل: القائم بذاته المقيم لغيره؛ وقيل: القائم بتدبير الخلق وحفظه؛ وقيل: هو الذي لا ينام؛ وقيل: الذي لا بديل له، وأصل قيوم: قيووم اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء، وقرأ ابن مسعود، وعلقمة، والنخعي، والأعمش: (الحي القيام) بالألف، وروي ذلك عن عمر، ولا خلاف بين أهل اللغة أن: القيوم، أعرف عند العرب وأصح بناء، وأثبت علة.

4. السّنة: النعاس في قول الجمهور، والنعاس: ما يتقدّم النوم من الفتور وانطباق العينين، فإذا صار في القلب صار نوما، وفرّق المفضل بين السنة والنعاس والنوم فقال: السنة من الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب، انتهى، والذي ينبغي التعويل عليه في الفرق بين السنة والنوم أن السنة لا يفقد معها العقل، بخلاف النوم فإنه استرخاء أعضاء الدماغ من رطوبات الأبخرة حتى يفقد معه العقل، بل وجميع الإدراكات بسائر المشاعر؛ والمراد: أنه لا يعتريه سبحانه شيء منهما، وقدّم السنة على النوم، لكونها تتقدّمه في الوجود، قال الرازي في تفسيره: إن السنة ما تتقدم النوم، فإذا كانت عبارة عن مقدّمة النوم، فإذا قيل لا تأخذه سنة دلّ على أنه لا يأخذه نوم بطريق الأولى، فكان ذكر النوم تكرارا، قلنا: تقدير الآية لا تأخذه سنة فضلا عن أن يأخذه نوم، والله أعلم بمراده، انتهى، وأقول: إن هذه الأولوية التي ذكرها غير مسلمة، فإن النوم قد يرد ابتداء من دون ما ذكر من النعاس، وإذا ورد على القلب والعين دفعة واحدة فإنه يقال له: نوم، ولا يقال له: سنة، فلا يستلزم نفي السنة نفي النوم، وقد ورد عن العرب نفيهما جميعا، ومنه قول زهير:

çولا سنة طوال الدّهر تأخذه‏...ولا ينام وما في أمره فندé

فلم يكتف بنفي السنة، وأيضا فإن الإنسان يقدر على أن يدفع عن نفسه السنة، ولا يقدر على أن يدفع عن نفسه النوم، فقد يأخذه النوم ولا تأخذه السنة؛ فلو وقع الاقتصار في النظم القرآني على نفي السنة لم يفد ذلك نفي النوم، وهكذا لو وقع الاقتصار على نفي النوم لم يفد نفي السنة، فكم من ذي سنة غير نائم؛ وكرّر حرف النفي للتنصيص على شمول النفي لكل واحد منهما.

5. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ في هذا الاستفهام من الإنكار على من يزعم أن أحدا من عباده يقدر على أن ينفع أحدا منهم بشفاعة أو غيرها، والتقريع والتوبيخ له ما لا مزيد عليه، وفيه من الدفع في صدور عبّاد القبور، والصدّ في وجوههم، والفت في أعضادهم، ما لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه، والذي يستفاد منه فوق ما يستفاد من قوله تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾، وقوله: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾، وقوله: ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ بدرجات كثيرة، وقد بينت الأحاديث الصحيحة الثابتة في دواوين الإسلام صفة الشفاعة، ولمن هي؟ ومن يقوم بها؟

6. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ الضميران لما في السموات والأرض بتغليب العقلاء على غيرهم، وما بين أيديهم وما خلفهم: عبارة عن المتقدّم عليهم والمتأخر عنهم، أو عن الدنيا والآخرة وما فيهما.

7. ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ قد تقدّم معنى الإحاطة، والعلم هنا: بمعنى المعلوم، أي: لا يحيطون بشيء من معلوماته.

8. ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾ الكرسي: الظاهر أنه الجسم الذي وردت الآثار بصفته، وقد نفى وجوده جماعة من المعتزلة؛ وأخطئوا في ذلك خطأ بينا، وغلطوا غلطا فاحشا، وقال بعض السلف: إن الكرسي هنا: عبارة عن العلم، قالوا: ومنه قيل للعلماء: الكراسي، ومنه: الكراسة التي يجمع فيها العلم، ومنه قول الشاعر:

çيحفّ بهم بيض الوجوه وعصبة...كراسيّ بالأحداث حين تنوب‏é

ورجّح هذا القول ابن جرير الطبري؛ وقيل: كرسيه: قدرته التي يمسك بها السموات والأرض، كما يقال: اجعل لهذا الحائط كرسيا، أي: ما يعمده؛ وقيل: إن الكرسيّ هو العرش، وقيل: هو تصوير لعظمته ولا حقيقة له، وقيل: هو عبارة عن الملك، والحق القول الأوّل، ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقي إلّا مجرد خيالات تسببت عن جهالات وضلالات.

9. المراد بكونه وسع السموات والأرض أنها صارت فيه، وأنه وسعها، ولم يضق عنها؛ لكونه بسيطا واسعا.

10. ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255] معناه: لا يثقله، يقال: آدني الشيء، بمعنى: أثقلني وتحملت منه مشقة، وقال الزجاج: يجوز أن يكون الضمير في قوله تعالى: ﴿يَئُودُهُ﴾ لله سبحانه، ويجوز أن يكون للكرسي لأنه من أمر الله.

11. ﴿الْعَلِيُّ﴾ يراد به: علوّ القدرة والمنزلة، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: هو العليّ عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه، قال ابن عطية: (وهذه أقوال جهلة مجسمين، وكان الواجب أن لا تحكى)، والخلاف في إثبات الجهة معروف في السلف والخلف، والنزاع فيه كائن بينهم، والأدلة من الكتاب والسنة معروفة، ولكن الناشئ على مذهب يرى غيره خارجا عن الشرع ولا ينظر في أدلته ولا يلتفت إليها، والكتاب والسنة هما المعيار الذي يعرف به الحق من الباطل، ويتبين به الصحيح من الفاسد.

12. ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ ولا شك أن هذا اللفظ يطلق على الظاهر الغالب كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ وقال الشاعر:

çفلمّا علونا واستوينا عليهم‏...تركناهم صرعى لنسر وكاسرé

13. العظيم: بمعنى: عظم شأنه وخطره، قال في الكشاف: إن الجملة الأولى: بيان لقيامه بتدبير الخلق‏ وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه، و الثانية: بيان لكونه مالكا لما يدبره، والجملة الثالثة: بيان لكبرياء شأنه، والجملة الرابعة: بيان لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة وغير المرتضى، والجملة الخامسة: بيان لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها، أو لجلاله وعظم قدره.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/312.

المتوكل على الله:

قال الإمام المتوكل على الله (ت 1295 هـ): معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾، يريد: من معلومة، ولو كان علمه هو هو ـ لكان منقسما، فبعضه يحاط به، وبعضه لا يحاط به؛ لأنه استثنى شيئا منه، فقال: ﴿إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾، فصح أن علم الله ليس هو الله(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/117.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَالْحَيُ‏﴾ أي الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء ﴿الْقَيُّومِ﴾ الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه، وقرئ القيام والقيم.

2. ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ تأكيد للقيوم، أي لا يغفل عن تدبير أمر الخلق تعالى وتقدس، والسنة (كعدة) والوسن (محركة وبهاء) والوسنة شدة النوم أو أوله، أو النعاس، كذا في القاموس، قال المهايميّ: السنة فتور يتقدم النوم، والنوم حال تعرض للحيوان من استرخاء دماغه من رطوبات أبخرة متصاعدة تمنع الحواس الظاهرة عن الإحساس، فهما منقصان للحياة منافيان للقيومية، لأنهما من التغيرات المنافية لوجوب الوجود الذي للقيوم، ونفي النوم أوّلا التزاما، ثم تصريحا، ليدل كمال نفيه على ثبوت كمال ما ينافيه.

3. من كمال قيوميته اختصاصه بملك العلويات والسفليات المشار إليه بقوله: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ من الملائكة والشمس والقمر والكواكب‏ ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ من العوالم المشاهدات، وهذا إخبار بأن الجميع في ملكه وتحت قهره وسلطانه، كقوله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا﴾ [مريم: 93 ـ 94]

4. ﴿مَنْ ذَا﴾ من الأنبياء والملائكة، فضلا عما ادعى الكفار شفاعته من الأصنام‏ ﴿الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ﴾ فضلا عن أن يقاومه أو يناصبه‏ ﴿إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ أي بتمكينه تحقيقا للعبودية، كما قال تعالى: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ [النجم: 26]، وكقوله تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء: 28]، وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عزّ وجلّ، أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة، كما في حديث الشفاعة: (آتي تحت العرش فأخر ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك وقل يسمع واشفع تشفع، قال فيحدّ لي حدّا فأدخلهم الجنة)، قال أبو العباس بن تيمية: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عونا لله ولم يبق إلا الشفاعة، فبيّن أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم‏ أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولا، ثم يقال له: ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع، وقال‏ له أبو هريرة: (من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال من قال لا إله إلّا الله خالصا من قلبه)، فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود، فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبتت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص.

5. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ أي ما أتاهم علمه من أمر أنفسهم وغيرهم، لأن ما بين يدي المرء يحيط به حسّه، وما علمه أيضا، فكأنه بين يدي قلبه يحيط به علمه‏ ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ وهو ما لم ينله علمهم، لأن الخلف هو ما لا يناله الحسّ، فأنبأ أنّ علمه من وراء علمهم محيط بعلمهم فيما علموا وما لم يعلموا، أفاده الحرّاليّ، فهذه الجملة كقوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الأنعام: 73]

6. ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ أي لا يعلمون شيئا من معلوماته إلّا بما أراد أن يعلمهم به منها على ألسنة الرسل، كما قال تعالى: ﴿فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: 26 ـ 27]، أي ليكون ما يطلعه عليه من علم غيبه دليلا على نبوته.

7. ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ روى ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن المعنيّ بالكرسيّ العلم، وذلك لدلالة قوله تعالى: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255] أي لا يئوده حفظ ما علم وأحاط به مما في السموات والأرض، وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ [غافر: 7]، فأخبر أن علمه وسع كل شيء، فكذلك قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ قال ابن جرير: وقول ابن عباس هذا يدل على صحة ظاهر القرآن لما ذكر، ولأن أصل الكرسيّ العلم، ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب: كراسة، ومنه قول الراجز في صفة قانص حتى إذا ما احتازها تكرّسا يعني علم، ومنه يقال للعلماء: الكراسيّ، لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الأرض، يعني أنهم الذي تصلح بهم الأرض، ومنه قول الشاعر:

çيحف بهم بيض الوجوه وعصبة...كراسيّ بالأحداث حين تنوب‏é

يعني بذلك علمه بحوادث الأمور ونوازلها، وروى ابن جرير أيضا عن الحسن: أن الكرسيّ في الآية هو العرش، وأيده بعضهم بأن لفظ عرش المملكة وكرسيّها مترادفان، ولذلك قال تعالى على لسان سليمان ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: 38]، فالعرش والكرسيّ هما شيء واحد وإنما سماه هنا، كرسيّا، إعلاما باسم له آخر.

8. ﴿وَلَا يَئُودُهُ﴾ [البقرة: 255] أي لا يثقله ولا يشق عليه، يقال: آده الأمر أودا وأوودا (كقعود) بلغ منه المجهود والمشقة ﴿حِفْظُهُمَا﴾ أي السموات والأرض فلا يفتقر إلى شريك ولا ولد، وكيف يشق عليه.

9. ﴿وهُوَالْعَلِيُ‏﴾ قال ابن جرير، قال بعضهم: يعني بذلك علوّه عن النظير والأشباه، وقال آخرون: معناه العلي على خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه، لأنه تعالى ذكره فوق جميع خلقه، وخلقه دونه، كما وصف به نفسه أنه على العرش، فهو عال بذلك عليهم.

10. ﴿الْعَظِيمِ﴾ أي أعظم كل شيء بالجلال والكبرياء والقهر والقدرة والسلطان.

11. آية الكرسيّ هذه لها شأن عظيم وفضل كبير، وقد صح الحديث‏ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بأنها أعظم آية في كتاب الله وأنها مشتملة على اسم الله الأعظم، وقد ساق ما ورد في فضلها ابن كثير في (تفسيره) والجلال السيوطيّ في (الدر المنثور) فانظرهما، قال الزمخشريّ: فإن قلت: لم فضلت هذه الآية حتى ورد في فضلها ما ورد، قلت: لما فضلت له سورة الإخلاص من اشتمالها على توحيد الله تعالى وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ولا مذكور أعظم من رب العزة، فما كان ذكرا له كان أفضل من سائر الأذكار.

12. حكى السيوطيّ في (الإتقان) عن الأشعريّ والباقلانيّ وابن حبان المنع من أن يقال في القرآن فاضل وأفضل، قالوا: وما ورد مما يفيد ذلك محمول على الأعظمية في الأجر لا أن بعض القرآن أفضل من بعض، وقد ردّ ذلك غير واحد، حتى‏ قال ابن الحصار: العجب ممن يذكر الاختلاف في ذلك مع النصوص الواردة في التفضيل، وقال الغزاليّ في (جواهر القرآن): لعلك أن تقول: قد أشرت إلى تفضيل بعض آيات القرآن على بعض، والكلام كلام الله، فكيف يتفاوت بعضها بعضا، وكيف يكون بعضها أشرف من بعض؟ فاعلم أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسيّ وآية المداينات، وبين سورة الإخلاص وسورة تبت، وترتاع على اعتقاد نفسك الخوارة المستغرقة بالتقليد، فقلد صاحب الرسالة صلّى الله عليه وآله وسلم فهو الذي أنزل عليه القرآن وقال: يس قلب القرآن‏، وفاتحه الكتاب أفضل سور القرآن‏، وآية الكرسيّ سيدة آي القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن‏، والأخبار الواردة في فضائل القرآن وتخصيص بعض السور والآيات بالفضل وكثرة الثواب في تلاوتها ـ لا تحصى.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/190.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿اللهُ لَآ إِلَهَ﴾ لا معبود بحقٍّ، أو لا موصوف بمعنًى مـن معاني إلـهٍ على الحقيقة، ﴿إِلَّا هُوَ﴾ بدل بعض من الضمير المستتر في خبر (لَا) المحذوف، أي: لا إله موجود، أو لا إله لنا، أو لا إله للخلق، فـ (هو) بدل من الضمير المستتر في (لنا) أو في (للخلق) أو في (موجود)، و(إِلَّا) مغنية عن الربط بالضمير لظهور أنَّ الاستثناء مِمَّا قبلها، كما في (ما قام القوم إِلَّا زيد)، ولا يضرُّ التخالف بأنَّ البدل موجب والمبدل منه في سلب، والمتكلِّم في نفي العموم ناوٍ للتخصيص، وأنَّه سيذكره بعد.

2. ﴿الْحَيُّ﴾ الباقي، الذي لا يتَّصف بالموت كالجسم الذي بروح وتحيُّز، حاشاه، فالمراد بكونه حيًّا نفي الموت، أو المعنى: الفاعل ما يفعله الحيُّ منَّا، حاشاه عن الشبه، من علم وإرادة وقدرة وفعل واختيار وغير ذلك من لوازم الحياة، والمتبادر للعرب حين النزول هو الأوَّل، ولا يبعد الثاني لكثرة التعبير بالملزوم عن اللازم ونحو ذلك في القرآن وفي كلامهم، والحياة المستمرَّة هي البقاء، ولا يضرُّ ما قيل: إنَّ البقاء غير الحياة لظهور المراد، والمراد بالحياة الفاعل المريد إرادة وفعلاً تامَّين، فلا يرد أن لا مدح في ذلك من حيث إنَّ الحيوانات أيضًا فاعلة مريدة، وإلَّا لزم ذلك في نحو السميع، فإنَّ المراد: العلم بالأصوات علمًا تامًّا، ولام الحياة ياء، وقيل: واو كما قيل: الحيوان، وكما كتب الحياة بالواو، فأصله: (حَيْوٌ) قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء، والصحيح الأوَّل، وواو الحيوان عن ياء تخفيفًا عن اجتماع ياءين، وكتبُها في (الحيوة) واوًا إشارة إليها في الحيوان شاذٌّ.

3. ﴿الْقَيُّومُ﴾ عظيم القيام بالذات، أي: لا يحتاج لغيره، ولا تلحقه حاجة، وبخلقه وأحوالهم، الياء المدغمة والواو زائدتان، والمضمومة بدل من واو هي عين الكلمة، ووزنه (فيعول)، و(الْحَيُّ) خبر ثانٍ لـ (اللهُ)، أو بدل منه، أو خبر لمحذوف، أي: هو الحيُّ، أو بدل من (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)، وهو خطأ من قائله، أو بدل من (هُوَ)، أو مبتدأ خبره: (لَا تَاخُذُهُ)، و(الْقَيُّومُ) نعت (الْحَيُّ) لنيابة (الْحَيُّ) عن اسم جامد إذا لم يجعل نعتًا، أو نعتٌ آخرُ، أو خبرٌ آخر.

4. ﴿لَا تَاخُذُهُ سِنَةٌ﴾ فُتُورٌ يتقدَّم النوم مع بقاء الشعور، وهي النعاس، وقيل: هي في الرأس وهو في العين، وفاؤه واوٌ، كعِدةٌ وزِنةٌ، ﴿وَلَا نَوْمٌ﴾ هو حال تَعْرِضُ للحيوان غير الملَكِ، بسبب استرخاء أعضاء الدماغ من رطوبة الأبخرة المتصاعدة المانعة للحواسِّ الظاهرة من الإحساس، وليس ما يعرض للمريض والمغمى عليه لذلك التصاعد فلا تَهِمْ؛ وإن سلَّمنا زدنا قيد إمكان إيقاظ صاحبه، وهو أخو الموت، مزيل للقوَّة والشعور والعقل، والسِّنة ريحه تبدو في الوجه وتنبعث للقلب، وأخطأ من قال: السِّنة تجري على الملائكة، عن ابن عبَّاس: (قال بنو إسرائيل [لنبيٍّ لهم]: هل ينام ربُّك؟ فأوحى الله تعالى إليه: سألك قومك هل أنام، فقم الليل بزجاجتين في يدك ففعل، فلمَّا مضى ثلث الليل نعس فوقع لركبتيه، فقام فنعس آخر الليل فسقطتا وانكسرتا، فقال: لو نمت لسقطت السماوات والأرض وهلكتا كالزجاجتين)، والقياس يقتضي تقديم الأقلِّ في الإثبات، تقول: فلان أعطى درهمًا ودرهمين، وتقديم الأكثر في النفي، تقول: لا يعطي درهمين ولا درهمًا، وخولف هنا مراعاة للترتيب في الوجود، فإنَّ السِّنة متقدِّمة على النوم، أو هذا على طريق التتميم، لأنَّه أبلغ لما فيه من التوكيد، لأنَّ نفيها يقتضي نفي النوم ضمنًا، فإذا نفي ثانيًا كان أبلغ، وهو متضمِّن لأسلوب الإحاطة، والإحصاء الذي يتعيَّن فيه الترتيب الوجودي.

5. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الَارْضِ﴾ خلقهما وخلق ما فيهما مِمَّا تضمَّنتا من المنافع، ومَلَك كلَّ ذلك، والمراد: جنس الأرض، ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ﴾ استفهام نفي، ولذلك صحَّت إِلَّا في قوله: ﴿إِلَّا بِـإِذْنِهِ﴾ فكيف يعانده غيره بدفع ما يريد؟ وذلك ردٌّ على عبدة الأوثان القائلين: إنَّها تشفع لهم، بل تشفع الأنبياء والملائكة وغيرهم بإذن الله تعالى وعلا.

6. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ في أيدي ما في السماوات والأرض، والمراد ما حضر لهم في السماوات والأرضين، وهو موجودات تلك المواضع، وضمير العقلاء تغليب، وقيل: المراد الملائكة والأنبياء، وقيل: الأنبياء، ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ ما سيكون من أمور الدنيا ومن الآخرة وأمورها، سمَّاه خَلْفًا لأنَّه ما جاء بل سيكون فهو كشيء خلف ظهرك، أو ما بين أيديهم: ما سيكون وما خلفهم من حاضر؛ لأنَّ الشيء مستقبل لِمَا يجيء مستدبر لما جاء، أو ما يحسُّون وما يعقلون، أو ما يدركونه بالحاسَّة أو العقل وما لا يدركونه.

7. ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ﴾ من معلوماته، ولا يصحُّ إبقاء (عِلْمٍ) على ظاهره؛ لأنَّ صفته ذاتيَّة فلا تقبل التجزيء، ﴿إِلَّا بِمَا شَآءَ﴾ أن يعلموه بوحي أو غيره من أمور الدين أو الدنيا أو الآخرة، وأبعاض جسم الدنيا وجسم الآخرة.

8. ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾ أصله من تركُّب الشيء بعضه على بعض، كما سمِّيت الكرَّاسة لتركُّب بعض أوراق على بعض، ويقال: الكرس البعر والبول إذا تلبَّد بعض على بعض، ﴿السَّمَاوَاتِ وَالَارْضَ﴾ تمثيل لعظمته المحقَّقة العقليَّة بالحسِّيِّ المتوهَّم، وذلك أبلغ لأنَّ التمثيل يريك المتخيَّل محقَّقًا، والمعقول محسوسًا.

9. ولا كرسيَّ ولا قعود تعالى الله، أو كرسيُّه علمه، وهو ضعيف، وهو قول الحسن، أو ملكه، لأنَّ الكرسيَّ محلُّ العالم والسلطان، أو هو المذكور في قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ما السماوات السبع، والأرضون السبعُ مع الكرسيِّ إِلَّا كحَلَقَةٍ في فلاةٍ، وفضل العرش على الكرسيِّ كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة)، أي: لو بسطت السماوات والأرضون ووصل بعضها ببعض، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ما السماوات السبع في الكرسيِّ إِلَّا كدراهم سبعة ألقيت في ترس)، وزعمت الفلاسفة الكفرة أنَّ الكرسيَّ فلك البروج، وأبعد منه ما روي عن الحسن البصريِّ أنَّ المعنى: أحاط بهما علمه، وهو قول ابن عبَّاس ورجَّحه الطبريُّ، أو كرسيُّه قدرته، كما يقال: اجعل لهذا الحائط كرسيًّا، أي: عمدة.

10. ﴿وَلَا يَئُودُهُ﴾ لا يعوجه حاشاه للثقل، فإنَّ ما ثقل يُعْوِجُ الحامل له إذا حمله، فالمراد نفي الثقل، ﴿حِفْظُهُمَا﴾ أي: لا يعجزه حفظ القسمين أحدهما السماوات والآخر الأرض، وكذا لا يثقله حفظ الكرسيِّ والعرش، ولكن خصَّ السماوات والأرض لمشاهدتهما، ولو بنجوم السماوات الدراري، ولأنَّ وجود الكرسيِّ والعرش بمعنى الجسمين العظيمين من خبر الآحاد، ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ﴾ بالقهر ﴿العَظِيمُ﴾ شأنًا.

11. ويقال: إنَّه حمل الكرسيَّ أربعة أملاك، لكلِّ ملك أربعة أوجه، وأقدامهم على الصخرة تحت الأرض السابعة يسألون الرزق من السنة إلى السنة؛ ملك كآدم صورةً يسأل لبني آدم، وملك كالثور يسأل للأنعام، وملك كالنسر يسأل للطير، وملك كالأسد يسأل للوحوش، وإنَّ بين حملته وحملة العرش سبعين حجابًا من ظلمة وسبعين حجابًا من نور، غلظ كلٍّ خمسمائة عام لئلَّا تحترق حملته من نورِ حملةِ العرش.

12. وإنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (أعظم الآي آية الكرسيِّ، ومن قرأها كتب له ملكٌ الحسنات، ومحا السيِّئات إلى وقته من الغد، وإنَّه من قرأها دُبُر كلِّ صلاةِ فريضةٍ دخل الجنَّة، ولا يواظب عليها إِلَّا صِدِّيق أو عابد، ومن قرأها عند النوم أمَّنه الله، والأبيات حوله، ومن قرأها وآيتين من أوَّل ﴿حم تَنزِيلُ﴾ من سورة غافر صُبْحًا أو مساء حُفظ إلى الآخر، وتَهجُر الشياطينُ ثلاثين، والسحرةُ أربعين يومًا دارًا قرئت فيها)، و(سيُّد الناس آدم وسيِّد العرب محمَّد، والفرس سلمان، والروم صهيب، والحبشة بلال، والجبال الطور، والأيَّام الجمعة، والكلام القرآن، والقرآن البقرة، والبقرة آية الكرسيِّ)

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/115.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن أمرنا الله تعالى بالإنفاق في سبيله قبل أن يأتي يوم لا مال فيه ولا كسب، ولا ينجي من عقابه فيه شفاعة ولا فداء انتقل كدأب القرآن إلى تقدير أصول التوحيد والتنزيه التي تشعر متدبرها بعظيم سلطانه تعالى، ووجوب الشكر له، والإذعان لأمره، والوقوف عند حدوده، وبذل المال في سبيله، وتحول بينه وبين الغرور والاتكال على الشفاعات والمكفرات التي جرأت الناس على نبذ كتاب الله وراء ظهورهم.

2. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 2] فسر الجلال الإله بالمعبود بحق، والحي بالدائم البقاء، والقيوم بالمبالغ بالقيام بتدبير خلقه، وقد استحسن محمد عبده قوله في تفسير كلمة التوحيد، وقال: إن تفسيره لكلمة (إله) هو الشائع، وهو إنما يصح إذا حملنا العبادة على معناها الحقيقي، وهو استعباد الروح وإخضاعها لسلطان غيبي لا تحيط به علما، ولا تعرف له كنها، فهذا هو معنى التأليه في نفسه، وكل ما ألهه البشر من جماد ونبات وحيوان وإنسان فقد اعتقدوا فيه هذا السلطان الغيبي بالاستقلال أو بالتبع لإله آخر أقوى منه سلطانا، ومن ثم تعددت الآلهة المنتحلة، وكل تعظيم واحترام ودعاء ونداء يصدر عن هذا الاعتقاد فهو عبادة حقيقية وإن كان المعبود غير إله حقيقة، أي ليس له هذا السلطان الذي اعتقده العابد له، لا بالذات ولا بالتوسط إلى ما هو أعظم منه، فالإله الحق هو الذي يعبد بحق وهو واحد؛ والآلهة التي تعبد بغير حق كثيرة جدا، وهي غير آلهة في الحقيقة ولكن في الدعوى الباطلة التي يثيرها الوهم؛ ذلك أن الإنسان إذا رأى أو سمع أو توهم أن شيئا غريبا صدر عن موجود بغير علة معروفة ولا سبب مألوف، يتوهم أنه لو لم تكن له تلك السلطة العليا والقوة الغيبية لما صدر عنه ذلك، حتى إن الذين يعتقدون النفع ببعض الشجر والجماد كشجرة الحنفي ونعل الكلشني يعدون عابدين لها حقيقة، والحاصل أن معنى ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [المزمل: 9] ليس في الوجود صاحب سلطة حقيقية على النفوس يبعثها على تعظيمه والخضوع له قهرا منها معتقدة أن بيده منح الخير ورفع الضر بتسخير الأسباب أو بإبطال السنن الكونية إلا الله تعالى وحده.

3. أما (الحي) فهو ذو الحياة(2) وهي مبدأ الشعور والإدراك والحركة والنمو، ومثل لذلك بالنبات والحيوان، فإن كلا منهما حي وإن تفاوتت الحياة فيهما فكانت في الحيوان أكمل منها في النبات، والحياة بهذا المعنى مما ينزه الله تعالى عنه لأنه محال عليه؛ ولذلك فسر مفسرنا ﴿الْحَيُّ﴾ [غافر: 65] بالدائم البقاء وهو بعيد جدا لا يفهم من اللفظ مطلقا، وإنما معنى الحياة بالنسبة إليه ـ سبحانه ـ مبدأ العلم والقدرة؛ أي الوصف الذي يعقل معه الاتصاف بالعلم والإرادة والقدرة: وهذا الوصف يبطل قول الماديين الذين يزعمون أن مبدأ الكون علة تتحرك بطبعها ولا شعور لها بنفسها ولا بحركتها وما ينشأ عنها من الأفعال والآثار؛ أي إن هذا النظام والإحكام في الخلق من آثار المادة الميتة التي لا شعور لها ولا علم.

4. اختصر محمد عبده في الدرس فلم يزد على نحو ما ذكرنا في حياة الله تعالى شيئا، والمتكلمون يستدلون على حياة الله تعالى بالعقل من وجهين:

أ. أحدهما: أنه تعالى عليم مريد قدير، وهذه الصفات لا تعقل إلا للحي، وفيه أنه من قياس الغائب على الشاهد كما يقولون، أو من قياس الواجب على الممكن.

ب. وثانيهما: أن الحياة كمال وجودي، وكل كمال لا يستلزم نقصا يستحيل على الواجب فهو واجب له، وهذا ما قدمه محمد عبده في رسالة التوحيد)، وقد قدم له بمقدمة نفيسة في صفات الواجب، قال: (معنى الوجود وإن كان بديهيا عند العقل ولكنه يتمثل له بالظهور ثم الثبات والاستقرار، وكمال الوجود وقوته بكمال هذا المعنى وقوته بالبداهة، وكل مرتبة من مراتب الوجود تستتبع بالضرورة من الصفات الوجودية ما هو كمال لتلك المرتبة في المعنى السابق ذكره، وإلا كان الوجود لمرتبة سواها، وقد فرض لها ما يتجلى للنفس من مثل الوجود ما لا ينحصر، وأكمل مثال في أية مرتبة ما كان مقرونا بالنظام والكون على وجه ليس فيه خلل ولا تشويش، فإن كان ذلك النظام بحيث يستتبع وجودا مستمرا وإن كان في النوع كان أدل على كمال المعنى الوجودي في صاحب المثال، فإن تجلت للنفس مرتبة من مراتب الوجود على أن تكون مصدرا لكل نظام كان ذلك عنوانا على أنها أكمل المراتب وأعلاها وأرفعها وأقواها، وجود الواجب هو مصدر كل وجود ممكن ـ كما قلنا وظهر بالبرهان القاطع ـ فهو بحكم ذلك أقوى الوجودات وأعلاها، فهو يستتبع من الصفات الوجودية ما يلائم تلك المرتبة العلية، وكل ما تصوره العقل كمالا في الوجود من حيث ما يحيط به من معنى الثبات والاستقرار والظهور وأمكن أن يكون له وجب أن يثبت له، وكونه مصدرا للنظام وتصريف الأعمال على وجه لا اضطراب فيه ـ يعد من كمال الوجود كما ذكرنا، فيجب أن يكون ذلك ثابتا له؛ فالوجود الواجب يستتبع من الصفات الوجودية التي تقتضيها هذه المرتبة ما يمكن أن يكون له، فما يجب أن يكون له صفة الحياة وهي صفة تستتبع العلم والإرادة وذلك أن الحياة مما يعتبر كمالا للوجود بداهة؛ فإن الحياة مع ما يتبعها مصدر النظام وناموس الحكمة، وهي في أي مراتبها مبدأ الظهور والاستقرار في تلك المرتبة، فهي كمال وجودي ويمكن أن يتصف بها الواجب، وكل كمال وجودي يمكن أن يتصف به وجب أن يثبت له، فواجب الوجود حي وإن باينت حياته الممكنات، فإن ما هو كمال للوجود إنما هو مبدأ العلم والإرادة، ولو لم تثبت له هذه الصفة لكان في الممكنات ما هو أكمل منه وجودا، وقد تقدم أنه أعلى الوجودات وأكملها فيه، والواجب: هو واهب الوجود وما يتبعه، فكيف لو كان فاقدا للحياة يعطيها؟ فالحياة له، كما أنه مصدرها)

5. هذا تحقيق دقيق لا نجد مثله لغير هذا الإمام العارف والحكيم المحقق ولا يعقله إلا أولو الألباب، وقد كنت كتبت في كتاب العقائد ـ الذي ألفته باقتراحه ـ على وجه يليق بمعارف هذا العصر ويفيد طلاب علومه ـ كلاما في حياة الله تعالى قريبا من الأفهام، واطلع عليه فأعجبه، وإنني أحب إيراده هنا؛ لأنني لم أر في كتب التفسير ولا في كتب الكلام كلاما ممتعا في هذا المقام، وهو وارد بأسلوب السؤال من تلميذ مبتدئ في المدارس والجواب من أخيه وهو عالم عصري طبيب نعبر عنه بالشاب، ومن أبيه وهو عالم صوفي، نعبر عنه بالشيخ، وهذا نصه باختصار ما(3):

أ. سؤال وإشكال: تنبت الشجرة صغيرة ثم تنمو حتى تكون في زمن قريب أضعاف ما كانت، فمن أين تجيء هذه الزيادة؟ وكيف تدخل في بنيتها وتتفرق فتأخذ الساق منها حظا والفروع حظا وكذلك الورق والثمر؟ والجواب: إن هذه الزيادة التي تدخل في بنية النبات، بعضها من الأرض وبعضها من الهواء، والنبات جسم حي، فهو بصفة الحياة يأخذ من عناصر الأرض والهواء ما يصلح لغذائه فيتغذى به، كما يتغذى الحيوان بما يأكله ويشربه، وينمو بذلك كما ينمو الحيوان.

ب. سؤال وإشكال: إننا لا نرى في الأرض ولا في الهواء شيئا من مادة النبات ولا من صفاته كاللون والطعم والرائحة، والجواب: إنه يأخذ منها العناصر البسيطة فيأخذ من الهواء الأكسجين والنيتروجين (الأزوت) وكذلك الكربون وبعض الأملاح التي توجد في الهواء عادة وإن لم تكن جزءا منه، ويأخذ من الأرض ما يناسبه من عناصرها الكثيرة كالبوتاسا والفسفور والحديد والجير والأملاح، ويكون مما يأخذه من ذلك غذاءه بعمل كيماوي منتظم، يعجز عن مثله أعلم علماء الكمياء، وقد علمت أن جميع هذه الصور المختلفة الأشكال والصفات إنما اختلف بعضها عن بعض باختلاف التركيب الكيماوي وعمل الطبيعة، حتى إن مادة السكر هي عين المادة التي يتكون منها الحنظل، والماس والفحم الحجري من عنصر واحد.

ج. سؤال وإشكال: إن النبات لا حياة فيه ولو كان يعمل عمله الذي ذكرت في معنى النمو وكيفيته بما تقتضيه صفة الحياة التي أثبتها له، لكان عالما بعمله ومختارا فيه، ولم يرد بهذا نقل، ولا أثبته عقل، فنمو النبات إنما يكون بمحض قدرة الله تعالى، والجواب: لا دليل على أن للنبات علما ولا على أنه لا علم له، فهو في عمله كأعضاء الإنسان وغيره من الحيوانات التي تعمل أعمالا منتظمة لا شعور للإنسان بها ولا هي صادرة عن علمه وتدبيره؛ كأعمال المعدة والكبد في هضم الطعام، فليس عندنا دليل على أن للمعدة علما خاصا ولا على أنه لا علم لها، ولكننا نعلم أنها عضو حي بحياة صاحبه فإذا أبين منه ثم وضع فيه الطعام فإنه لا يعمل ذلك العمل، وكون كل شيء بقدرة الله لا يمنع أن يكون لكل شيء سبب؛ فالله تعالى حكيم لا يعمل شيئا إلا بنظام ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت .

د. سؤال وإشكال: من أين تكون هذه الحياة النباتية للنبات، والحياة الحيوانية للحيوان، فهل المادة التي يتغذى بها النبات حية فيأخذ منها حياته؟ والجواب: كلا، إن مواد التغذية ليست حية بنفسها، ألا ترى أن الإنسان لا يأكل شيئا من الحيوان إلا بعد إماتته بنحو الذبح والطبخ، ولا يأكل نباتا إلا بعد إزالة حياته النباتية ولو بالقطع والمضغ فقط؟ وكذلك النبات، ولكن في النواة التي تتولد منها الشجرة والبيضة التي يتولد منها الحيوان حياة كامنة مستعدة للنمو بالتغذية على ما نشاهد في الكون، وهذه الحياة مجهولة الكنه والمبدأ حتى اليوم، وأمرها أخفى من أمر المادة في كنهها ومبدئها.

هـ. سؤال وإشكال: إذا كنتم في علمكم هذا أرجعتم جميع العناصر التي تألفت منها مادة الكون إلى شيء واحد عرف أثره ولم يعرف حقيقته ـ كما قلت في مبحث الوحدانية ـ فما بالكم تقفون في حياة بعض المواد كالنبات والحيوان، وتقولون: لا نعرف مبدأ حياته وحقيقتها وتقفون عند هذا الحد، ولا تقولون: إن الذي صدرت عن ذاته جميع الذوات هو الحي القيوم الذي صدرت عن حياته كل حياة؟ والجواب: لا شك أن الوجود الواجب القديم هو حي كما أنه قيوم، فإذا كان معنى قيوميته أنه قائم بنفسه وكل شيء قائم به، فكذلك هو حي بذاته وكل ما عداه من الأحياء فهو حي به؛ أي إنه يستمد حياته منه؛ لأن هذه الأحياء كلها من نبات وحيوان هي حادثة، والحادث: هو ما كان وجوده من غيره لا من ذاته، فالحياة أمر وجودي، بل هي أعلى مراتب الوجود، فهل يقول عاقل: إن تلك الذات الأزلية قد صدرت عنها أشياء كلها بلا حياة، ثم إن بعضها أحدث لنفسه حياة؟ هذه سخافة لا تخطر في بال عاقل، فالإنسان أرقى الأحياء على هذه الأرض؛ لأن من أثر حياته العلم بالكليات والإرادة والتدبير والنظام، ومن هو عاجز عن هبة الحياة لنفسه ولغيره من الأحياء أحق بالعجز.

و. سؤال وإشكال: إذا كانت الحياة التي أثرها العلم والإرادة والتدبير والنظام هي أرقى مراتب الحياة وهي حياة الإنسان، ألا يلزم من ذلك مشابهة حياة الإنسان لحياة الله تعالى؛ لأن هذه الخصائص هي لحياة الله تعالى أيضا؟ والجواب: اعلم أن ذات الله تعالى لا تشبه الذوات، وصفاته لا تشبه الصفات، فإذ طرأت عليك الشبهة في أثر الحياة فقط لأن حقيقتها مجهولة فتأمل الفرق بين الحياتين: إن حياة الله ـ تعالى ذاتية، ـ وحياة الإنسان من الله تعالى، إن حياة الله تعالى أزلية وحياة الإنسان حادثة، إن حياة الله تعالى لا تفارقه وحياة الإنسان تفارقه حين يموت، إن حياة الله تعالى هي التي تفيض الحياة على كل حي وحياة الإنسان خاصة به، وكذلك العلم والتدبير والإرادة والنظام، كل ذلك ناقص في الإنسان والله تعالى منزه عن النقص، وإليه ينتهي الكمال المطلق في ذاته وصفاته، انتهى المراد نقله من تلك العقيدة.

6. هذا الذي قلناه في بيان معنى الحي القيوم يجلي لمن وعاه ما روي عن ابن عباس أن هذا اسم الله الأعظم أو قال: أعظم أسماء الله الحي القيوم، وقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وفاتحة آل عمران ﴿الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 1-2]، فالآية الأولى: تثبت له تعالى وحدانية الألوهية مع الرحمة الشاملة، والثانية: تثبت له مع الوحدانية الحياة التي تشعر بكمال الوجود وكمال الإيجاد بإضافة الحياة على الأحياء.

7. القيومية وهي كونه قائما بنفسه؛ أي ثابتا بذاته وكون غيره قائما به؛ أي ثابتا وموجودا بإيجاده إياه وحفظه لوجوده بإمداده بما يحفظ به الوجود من الأسباب، ومن معاني هذه القيومية: القيام بالقسط كما قال تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: 18]، والقسط هنا: هو العدل العام في سننه الكونية وشرائعه، ومنها القيام على كل نفس بما كسبت كما قال: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد: 33]

8. قصر المفسرون في بيان معنى ﴿الْحَيُّ﴾ [غافر: 65] وقاربوا في معنى ﴿الْقَيُّومِ﴾ [طه: 111]، قال مجاهد: هو القائم على كل شيء، وقال الربيع: هو قيم كل شيء يكلؤه ويرزقه ويحفظه، وقال قتادة: القائم على خلقه بآجالهم وأعمالهم وأرزاقهم، وقال ابن الأعرابي ـ من رواة اللغة ـ: معناه المدبر، وقال الزجاج نحو قول قتادة، قال في شرح القاموس بعد نقل قول قتادة: وقال غيره هو القائم بنفسه مطلقا لا بغيره، وهو مع ذلك يقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به.. ولذا قالوا فيه: إنه اسم الله الأعظم.

9. المادة تعطي هذه المعاني كلها، والغزالي يبدئ هذا المعنى في الإحياء ويعيده لا سيما في كتاب الشكر وكتاب التوكل، ومما قاله في الأول، وقد قسم الناس إلى أقسام في شهودهم نعم الله وشكره قال: (النظر الثاني: نظر من لم يبلغ إلى مقام الفناء عن نفسه وهؤلاء قسمان: قسم لم يثبتوا إلا وجود أنفسهم وأنكروا أن يكون لهم رب يعبد، وهؤلاء هم العميان المنكوسون وعماهم في كلتا العينين؛ لأنهم نفوا ما هو الثابت تحقيقا وهو القيوم الذي هو قائم بنفسه وقائم على كل نفس بما كسبت وكل قائم فهو قائم به، ولم يقتصروا على هذا حتى أثبتوا أنفسهم ولو عرفوا لعلموا أنهم من حيث هم هم، لا ثبات لهم ولا وجود لهم، وإنما وجودهم من حيث أوجدوا لا من حيث وجدوا، وفرق بين الموجود وبين الموجد، وليس في الوجود إلا موجود واحد وموجد، فالموجود حق والموجد باطل من حيث هو هو، والموجود قائم وقيوم والموجد هالك فان، وإذا كان كل من عليها فان فلا يبقى إلا وجه ربك ذي الجلال والإكرام)

10. ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255] السنة: النعاس؛ وهو فتور يتقدم النوم قال ابن الرقاع:

çوسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائمé

والنوم معروف لكل أحد وإن اختلف تعريفه من جهة بيان سببه، قال البيضاوي: (والنوم حال يعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا) وهو قول الأطباء المتقدمين، وللمتأخرين أقوال أخرى مختلفة سنشير إلى بعضها.

11. سؤال وإشكال: كان الظاهر أن ينفي النوم أولا والسنة بعده على طريق الترقي، والجواب: ما في النظم جاء على حسب الترتيب الطبيعي في الوجود، فنفى ما يعرض أولا ثم ما يتبعه، وقد قال: ﴿لَا تَأْخُذُهُ﴾ [البقرة: 255] دون لا تعرض له أو لا تطرأ عليه مراعاة للواقع في الوجود فإن السنة والنوم يأخذان الحيوان عن نفسه أخذا، ويستوليان عليه استيلاء، وقال محمد عبده: إن ما ذكر في النظم الكريم ترق في نفي هذا النقص، ومن قال بعدم الترقي فقد غفل عن معنى الأخذ وهو الغلب والاستيلاء، ومن لا تغلبه السنة قد يغلبه النوم لأنه أقوى، فذكر النوم بعد السنة ترق من نفي الأضعف إلى نفي الأقوى، والجملة تأكيد لما قبلها مقررة لمعنى الحياة والقيومية على أكمل وجه؛ فإن من تأخذه السنة والنوم يكون ضعيف الحياة وضعيف القيام بنفسه أو على غيره.

12. يظهر هذا على رأي المتأخرين في سبب النوم أكمل الظهور وإن كان بديهيا في نفسه، فإنهم يقولون: إن النوم عبارة عن بطلان عمل المخ بسبب ما تولده الحركة من السموم الغازية المؤثرة في العصب، وقيل: بسبب ما تفرزه الحويصلات العصبية من الماء الكثير بالفعل الكيماوي وقت العمل، فكثرة هذا الماء تضعف قابلية التأثر فيها فتحدث فيها الفتور فيكون النوم، ويستمر إلى أن يتبخر ذلك الماء، وعند ذلك تتنبه الأعصاب ويرجع إليها تأثرها وإدراكها، فسبب النوم أمر جسماني محض، والله تعالى منزه عن صفات الأجسام وعوارضها.

13. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [الشورى: 53] فهم ملكه وعبيده مقهورون لسنته خاضعون لمشيئته، وهو وحده المصرف لشئونهم والحافظ لوجودهم.

14. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ﴾ [البقرة: 255] منهم فيحمله على ترك مقتضى ما مضت به سنته، وقضت به حكمته، وأوعدت به شريعته، من تعذيب من دسى نفسه بالعقائد الباطلة، ودنسها بالأخلاق السافلة، وأفسد في الأرض، وأعرض عن السنة والفرض، من ذا الذي يقدم على هذا من عبيده إلا بإذنه والأمر كله له صورة وحقيقة؟ وليس هذا الاستثناء نصا في أن الإذن سيقع، وإنما هو كقوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [هود: 105] فهو تمثيل لانفراده بالسلطان والملك في ذلك اليوم ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: 19] ولهذا قال البيضاوي في تفسير الجملة: (بيان لكبرياء شأنه وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه ويستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة فضلا عن أن يعاوقه عنادا أو مناصبة)، وقال محمد عبده ما محصله: إن في هذا الاستثناء قطعا لأمل الشافعين والمتكلين على الشفاعة المعروفة التي كان يقول بها المشركون وأهل الكتاب عامة ببيان انفراده تعالى بالسلطان والملك وعدم جرأة أحد من عبيده على الشفاعة أو التكلم بدون إذنه، وإذنه غير معروف لأحد من خلقه.

15. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ [الحج: 76] أي ما قبلهم وما بعدهم أو بالعكس، أو أمور الدنيا التي خلفوها وأمور الآخرة التي يستقبلونها أو ما يدركون وما يجهلون، وهذا دليل على نفي الشفاعة بالمعنى المعروف، وبيان ذلك أنه لما كان عالما بكل شيء فعله العباد في الماضي وما هو حاضر بين أيديهم وما يستقبلهم وكان ما يجازيهم به مبنيا على هذا العلم كانت الشفاعة المعهودة مما يستحيل عليه تعالى؛ لأنها لا تتحقق إلا بإعلام الشفيع المشفوع عنده من أمر المشفوع له، وما يستحقه ما لم يكن يعلم، مثال ذلك: إذا أراد حاكم عادل أن ينفي رجلا ولا يمكن أن يريد ذلك ـ وهو عادل ـ إلا إذا كان يعتقد المصلحة فيه بأن يكون الرجل مفسدا ضارا بالناس، فإذا شفع له شافع ولم يبين له ما لم يكن يعلم من أن المصلحة في بقائه دون نفيه، فإنه لا يقبل شفاعته؛ هذا إذا كانت الشفاعة عند سلطان عادل، وأما إذا كانت عند سلطان جائر فيجوز أن تقبل ويترك نفي المفسد الضار بالناس لأجل مرضاة الشفيع، كأن يكون من أعوان السلطان وبطانته الذين يؤثر مرضاتهم على المصلحة العامة؛ لأنهم يؤثرون هواه على المصلحة الحقيقية، وفي هذه الحال يظن الغافل أن الشفاعة ليس فيها إعلام المشفوع عنده بما لم يكن يعلم ولو رجع نظر البصيرة لرأى أن الشفيع قد أعلم السلطان أن هذا الرجل الجاني ممن يلوذ به ويهمه شأنه ويرضيه بقاؤه ولم يكن يعلم ذلك، فالشفاعة المعروفة التي يغتر بها الكافرون والفاسقون ويظنون أن الله تعالى يرجع عن تعذيب من استحق العذاب منهم لأجل أشخاص ينتظرون شفاعتهم هي مما يستحيل على الله تعالى لأنها ـ وهي من شأن أهل الظلم والبغي ـ تستلزم الجهل وهو ذو العلم المحيط ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ومن علم شيئا منك فلا سبيل له إلى التصدي لإعلامك به، فماذا عسى أن يقول من يريد الشفاعة عنده بالمعنى الذي يعهده الناس ويغتر به الحمقى الذين يرجون النجاة بها في الآخرة بدون مرضاة الله تعالى في الدنيا؟

16. معناه(2) أن الشفاعة تتوقف على إذنه، وإذنه لا يعلم إلا بوحي منه تعالى، يريد أن ذلك ترق في نفيها من دليل إلى آخر، أي إذا أمكن أن تكون هناك شفاعة بمعنى آخر يليق بجلال الله تعالى كالدعاء المحض، فإنه لا يجرؤ عليها أحد في ذلك اليوم العصيب إلا بإذن الله تعالى، وإذنه تعالى مما استأثر بعلمه فلا يعلمه غيره إلا إذا شاء إعلامه به، وإنما يعرف إذنه تعالى بما حدده من الأحكام في كتابه، أي فمن بين أنه مستحق لعقابه فهو مستحق له لا يجرؤ أحد أن يدعو له بالنجاة، ومن بين أنه مستحق لرضوانه على هفوات ألم بها لم تحول وجهه عن الله تعالى إلى الباطل والفساد الذي يطبع على الروح فتسترسل في الخطايا حتى تحيط بها وتملك عليها أمرها، فذلك مستحق له، منته إليه بوعد الله في كتابه وفضله على عباده ـ كما سبق في علمه الأزلي.

17. قالوا(2) إن الاستثناء في قوله تعالى: ﴿إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [الحج: 65] واقع، وهو أن نبينا صلّى الله عليه وآله وسلم يشفع في فصل القضاء فيفتح باب الشفاعة فيدخل فيه غيره من الشفعاء كالأنبياء والأصفياء كما ثبت في الأحاديث، وهي مسألة أنكرها المعتزلة وأثبتها أهل السنة.

18. الله تعالى يأذن لمن يشاء ويطلع على علمه باستحقاق الشفاعة من يشاء، كما علم من الاستثناء، ونقول: أجمع كل من أهل السنة والمعتزلة وسائر فرق المسلمين على كمال علم الله تعالى وإحاطته، وذلك يستلزم استحالة الشفاعة عنده بالمعنى المعهود ـ كما سبق القول ـ وقلنا هناك: إن مثل هذا الاستثناء ورد في القرآن لتأكيد النفي، وبذلك نجمع بين الآيات التي تنفي الشفاعة بدون الاستثناء وبين هذه، وقلنا: إن ما ورد في الحديث يأتي فيه الخلاف بين السلف والخلف في المتشابهات، فنفوض معنى ذلك إليه تعالى أو نحمله على الدعاء الذي يفعل الله تعالى عقبه ما سبق في علمه الأزلي أن سيفعله مع القطع بأن الشافع لم يغير شيئا من علمه ولم يحدث تأثيرا ما في إرادته تعالى؛ وبذلك تظهر كرامة الله لعبده بما أوقع الفعل عقب دعائه.

19. ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [البقرة: 255] قال محمد عبده: السياق يدل على أن الكرسي هو العلم الإلهي، وبذلك قال بعض المفسرين وأهل اللغة، ويقال: كرس الرجل كفرح، أي كثر علمه وازدحم على قلبه؛ أي إن علمه تعالى محيط بما يعلمون مما عبر عنه بقوله: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ [الحج: 76] وبما لا يعلمون من شئون سائر الكائنات، فبماذا يمكن أن يعلمه الشفعاء؟ وقيل: هو العرش، واختاره مفسرنا الجلال وهو إنما يثبت بخبر المعصوم، وقيل: إنه تمثيل لملك الله تعالى، واختاره القفال والزمخشري، والآية تدل على أنه شيء يضبط السماوات والأرض ولا يتوقف التسليم بها على تعيينه، والقول بأنه علم أو ملك أو جسم كثيف أو لطيف، أي فإن كان هو العلم الإلهي فالأمر ظاهر، وإن كان خلقا آخر فهو من عالم الغيب الذي نؤمن به ولا نبحث عن حقيقته ولا نتكلم فيه بالرأي، كما قال كثيرون: إنه هو الفلك الثامن المكوكب من الأفلاك التسعة التي كان يقول بها فلاسفة اليونان ومقلدوهم فذلك من القول على الله بدون علم وهو من أمهات الكبائر.

20. ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255] أي لا يثقله حفظ هذه العوالم بما فيها ولا يشق عليه وهو العلي العظيم فيتعالى بذاته أن يكون شأنه كشأن البشر في حفظ أموالهم، ويتنزه بعظمته عن الاحتياج إلى من يعلمه بحقيقة أحوالهم، أو يستنزله إلى ما لم يكن يريد من مجازاتهم على أعمالهم.. وجملة الآية تملأ القلب بعظمة الله وجلاله وكماله، حتى لا يبقى فيه موضع للغرور بالشفعاء الذين يعظمهم المغرورون تعظيما خياليا غير معقول حتى ينسون أنهم بالنسبة إلى الله تعالى عبيد مربوبون، أو ﴿عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: 26-28]، فمن تدبر هذه الآيات وأمثالها مما ورد في علم الله وعظمته وانفراده بالسلطة لا سيما في ذلك اليوم وهو يوم الدين، فإن عظمته تعالى لا تدع في نفسه غرورا، بل يوقن بأن لا سبيل إلى السعادة في الآخرة إلا بمرضاة الله تعالى في الدنيا، فمن لم يكن مرضيا لله تعالى لا يتجرأ أحد على الشفاعة له كما تلوت في الآية الكريمة آنفا، واتل أيضا قوله تعالى عن ذلك اليوم: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾ [طه: 108-113] [208 ـ 113] وإنك لتجد المسلمين يترنمون بهذه الآيات وقلما تحدث لأحد منهم ذكرا يصرفه عن حمل الظلم لنفسه ولغيره، والاعتماد في النجاة على وعد الله لمن يعمل الصالحات وهو مؤمن، بل ترى الجماهير يعرضون عن هذا الذكر ويرجون النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة بالشفاعات فقط.

çترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبسé

21. قال محمد عبده ما مثاله مبسوطا: جملة الآية وما في معناها إنذار للمسلمين أن يكونوا كأهل الكتاب الذين يتكلون في نجاتهم على شفاعة سلفهم فأوقعهم ذلك في ترك المبالاة بالدين، ولكن المسلمين اتبعوا بعد ذلك سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، وسبقوهم في الاتكال على الشفاعة وما يترتب عليه من التهاون بالدين، كما نرى هذه القلوب التي خويت من ذكر الله وخلت من خشيته للجهل بما يجب من معرفته وهي على خطر الهلاك الأبدي، وهذه النفوس المنغمسة في أقذار الشهوات، المسترسلة في فعل المنكرات، وهي تشعر بأنها على شفير جهنم تريد أن تتلهى بما يصمها عن سماع نذير الشريعة للفطرة التي أفسدتها الجهالات والأهواء؛ لكيلا تتألم بما ينغص عليها لذاتها، أو يحتم عليها طاعة ربها، فلا ترى ألوهية تضيفها إلى الدين، ويرتضيها رؤساؤه الرسميون إلا كلمة الشفاعة التي تزعم أنها تعظم بها النبيين والصديقين، وإن جعلتها بمعنى وثني يخل بعظمة رب العالمين، وكل من اغتر بذلك فشيطانه هو الذي يوسوس له ويمده في الغي، وإنها لنفوس ما عرفت عظمة الله ولا شعرت بالحياء منه في حياتها ولا ظهر في أعمالها أثر محبته، ولا احترام دينه وشريعته، وما أثر الإيمان به والحب له والرجاء بفضله إلا أخذ دينه بقوة وجد، وآيته بذل المال والروح في إعلاء كلمته، وتأييد شريعته، لا الامتنان عليه وعلى رسوله بقبول لقب الإسلام، وتعظيمه بالقول والخيال، دون القلوب والأعمال، والقرآن شاهد عدل إنه لقول فصل وما هو بالهزل.

__________

(1) تفسير المنار: ‏3/24.

(2) الكلام هنا لمحمد عبده

(3) لكونها على صيغة سؤال وجواب صغناها كذلك، كما في سائر الكتاب

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أمرنا سبحانه قبل هذا بالإنفاق في سبيله قبل أن يأتي اليوم الذي لا تنفع فيه شفاعة الشافعين، ولا يغنى مال يعطى فدية عن العاصين، ولا تنفع صداقة لدي الرؤساء وذوى الثراء كما كانت تجدى في الدنيا نفعا، وبها تحلّ كل مهمة ـ هنا انتقل إلى تقرير أصول الدين من توحيد الله وتنزيهه حتى يستشعر العبد عظيم سلطانه، ووجوب الطاعة لأمره، والإذعان لحكمه، والوقوف عند حدوده، وبذل المال في سبيله، وعدم الركون إلى شفاعة الشافعين ولا الفدية بمال ولا بنين.

2. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 2] أي الإله الحق الذي يستحق أن يعبد هو الله الواحد الصمد، ذو الملك والملكوت، الحي الذي لا يموت، القائم بتدبير أمر عباده، يكلؤهم ويحفظهم ويرزقهم.

3. ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ أي لا يعتريه نوم ولا مقدماته، وإذا كان كذلك كان قائما بتدبير شئون عباده في جميع الأوقات آناء الليل وأطراف النهار، وقد جاء النظم الكريم بحسب الترتيب الطبيعي في الوجود، فنفى ما يعرض أولا وهو السّنة، ثم ما يتبعها وهو النوم، وبعبارة أخرى ـ هو ترقّ في نفى النقص عنه، فإن من لا تغلبه السنة قد يغلبه النوم لأنه أقوى، فذكر النوم بعد السنة ترقّ من نفى الأضعف إلى نفى الأقوى، والخلاصة ـ إن هذه الجملة مؤكدة لما قبلها، مقررة لمعنى الحياة والقيومية على أتمّ وجه، إذ من تأخذه السنة والنوم يكون ضعيف الحياة، ضعيف القيام بشئون نفسه، وبشئون غيره.

4. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ فكل من فيهما وما فيهما ملكه وعبيده، خاضعون لمشيئته، وهو المصرف لشئونهم والحافظ لوجودهم، وهذه الجملة تأكيد ثان لقيوميته واحتجاج بها على تفرده في الألوهية، لأنه تعالى خلقهما بما فيهما.

5. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ أي من ذا الذي يستطيع من عبيده‏ أن يغيّر ما مضت به سنته، وقضت به حكمته، وأوعدت به شريعته، من تعذيب ذوى العقائد الباطلة، والأخلاق السافلة الذين أفسدوا في الأرض، وانحرفوا عن جادة الدين إلا إذا أذن له ربه، ونحو هذا قوله، ﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، وهذا تمثيل لانفراده بالملك والسلطان في ذلك اليوم، وأن أحدا من عباده لا يجرؤ على الشفاعة أو التكلم بدون إذنه ـ وإذنه غير معروف لأحد من خلقه ـ وفي ذلك قطع لأمل الشافعين، والذين يركنون إلى الشفاعة التي كان يقول بها المشركون وأهل الكتاب.

6. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أي يعلم أمور الدنيا التي خلفوها، وأمور الآخرة التي يستقبلونها، وهذه الجملة مؤكدة لنفى الشفاعة، إذ من كان عالما بكل شيء فعله العباد في الماضي وفيما هو حاضر بين أيديهم وفيما يستقبلهم، وكان ما يجازيهم به مبنيا على هذا العلم، كانت الشفاعة على هذا النحو المعروف، مما يستحيل عليه تعالى، لأنها لا تتحقق إلا بإعلام الشفيع المشفوع عنده من أمر المشفوع له وما يستحقه ما لم يكن يعلم، وما ورد من أحاديث الشفاعة، فهو محمول على الدعاء الذي يفعل الله تعالى عقبه ما سبق في علمه الأزلي أنه سيفعله، مع أنا نقطع بأن الشافع لا يغيّر شيئا من علمه، ولا يحدث تأثيرا في إرادته، وبذلك تظهر كرامة الله لعبده بما أوقع من الفعل عقب دعائه، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية.

7. ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ أي إن أحدا من خلقه لا يحيط بما يعلمه إلا إذا شاء ذلك، والشفاعة تتوقف على إذنه تعالى، وإذنه لا يعلم إلا بوحي منه، وإنما يعرف إذنه تعالى بما حدده من الأحكام في كتابه، فمن بيّن أنه مستحق لعقابه، فلا يجرؤ أحد أن يدعو له بالنجاة، ومن بيّن أنه مستحق لرضوانه على هفوات ألمّ بها لم تحوّل وجهه عن الله تعالى إلى الباطل والفساد، ولم تدسّ روحه حتى تسترسل في الخطايا، فهو واصل إليه على ما وعد به في كتابه وما تفضل به على عباده.

8. ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ أي إن علمه تعالى محيط بما يعملون مما عبر عنه بقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ وبما لا يعلمون من شئون سائر الكائنات، ويرى جمع من المفسرين منهم القفال والزمخشري أن الكلام تصوير لعظمته وتمثيل لكبريائه، ولا كرسيّ ولا قيام ولا قعود، وقد خاطب سبحانه عباده في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم، والخلاصة ـ إن الكرسي شيء يضبط السموات والأرض، نسلم به بدون بحث في تعينه، ولا كشف عن حقيقته، ولا كلام فيه بالرأي دون نص عن المعصوم.

9. ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255] أي ولا يثقله حفظ هذه العوالم بما فيها، ولا يشق عليه ذلك، وإنما لم يذكر ما فيهما، لأن حفظهما مستتبع لحفظه.

10. ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: 4] أي وهو المتعالي عن الأنداد والأشباه، العظيم على كل شيء سواه، فهو المنزّه بعظمته عن الاحتياج إلى من يعلمه بحقيقة أحوالهم، أو يستنزله عما يريد من مجازاتهم على أعمالهم.

11. هذه الآية تملأ القلب مهابة من الله وجلاله وكماله، حتى لا تدع موضعا للغرور بالشفعاء الذين يعظمهم المغرورون ويتكلون على شفاعتهم، فأوقعهم ذلك في ترك المبالاة بالدين، فخويت القلوب من ذكر الله، وخلت من خشيته جهلا منها بما يجب من معرفته، وأفسدت فطرتهم الأهواء والجهالات، فلا يجدون ما يلهون به إلا كلمة ﴿الشَّفَاعَةَ﴾ ومن اغترّ بها فشيطانه هو الذي يوسوس له، ويمده في الغى، فهذه النفوس لم تعرف عظمة الله، ولم تستشعر بالحياء منه، ولم تحترم دينها وشريعتها، إذ آية ذلك بذل المال والروح في إعلاء كلمته، لا تعظيمه بالقول دون أن بصدق ذلك العمل، وإنك لترى المسلمين يترنمون بهذه الآيات، وقلّما تحدث لأحد منهم ذكرا يصرفه عن الشفاعات، ويرجو النجاة بعمل الصالحات وهو مؤمن كما وعد الله بذلك في كتابه، وقد حذوا حذو أهل الكتاب من قبلهم، واتكلوا في نجاتهم على شفاعة سلفهم، وتركوا المبالاة بالدين.

__________

(1) تفسير المراغي: 3/12.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بمناسبة الاختلاف بعد الرسل والاقتتال، والكفر بعد مجيء البينات والإيمان.. بهذه المناسبة تجيء آية تتضمن قواعد التصور الإيماني، وتذكر من صفات الله سبحانه ما يقرر معنى الوحدانية في أدق مجالاته، وأوضح سماته، وهي آية جليلة الشأن، عميقة الدلالة، واسعة المجال.

2. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255] الآية.. كل صفة من هذه الصفات تتضمن قاعدة من قواعد التصور الإسلامي الكلية، ومع أن القرآن المكي في عمومه كان يدور على بناء هذا التصور، فإننا نلتقي في القرآن المدني كذلك في مناسبات شتى بهذا الموضوع الأصيل الهام، الذي يقوم على أساسه المنهج الإسلامي كله، ولا يستقيم هذا المنهج في الحس إلا أن يستقيم ذلك الأساس، ويتضح، ويتحول إلى حقائق مسلمة في النفس، ترتكن إلى الوضوح واليقين.

3. لقد تحدثت فيما سبق عن الأهمية البالغة لوضوح صفة الله ـ سبحانه ـ في الضمير الإنساني، بما أن الركام الذي كان يرين على هذا الضمير من تصورات الجاهلية كان معظمه ناشئا من غموض هذه الحقيقة، ومن غلبة الخرافة والأسطورة عليها؛ ومن الغبش التي يغشيها حتى في فلسفة أكبر الفلاسفة.. حتى جاء الإسلام فجلاها هذا الجلاء، وأنقذ الضمير البشري من ذلك الركام الثقيل، ومن ذلك الضلال والخبط في الظلماء! وكل صفة من هذه الصفات التي تضمنتها هذه الآية تمثل قاعدة يقوم عليها التصور الإسلامي الناصع، كما يقوم عليها المنهج الإسلامي الواضح.

4. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾.. فهذه الوحدانية الحاسمة التي لا مجال فيها لأي انحراف أو لبس مما طرأ على الديانات السابقة ـ بعد الرسل ـ كعقيدة التثليث المبتدعة من المجامع الكنسية بعد عيسى عليه السلام ولا لأي غبش مما كان يرين على العقائد الوثنية التي تميل إلى التوحيد، ولكنها تلبسه بالأساطير، كعقيدة قدماء المصريين ـ في وقت من الأوقات ـ بوحدانية الله، ثم تلبيس هذه الوحدانية بتمثل الإله في قرص الشمس! ووجود آلهة صغيرة خاضعة له! هذه الوحدانية الحاسمة الناصعة هي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي؛ والتي ينبثق منها منهج الإسلام للحياة كلها، فعن هذا التصور ينشأ الاتجاه إلى الله وحده بالعبودية والعبادة، فلا يكون إنسان عبدا إلا لله، ولا يتجه بالعبادة إلا لله، ولا يلتزم بطاعة إلا طاعة الله، وما يأمره الله به من الطاعات، وعن هذا التصور تنشأ قاعدة: الحاكمية لله وحده، فيكون الله وحده هو المشرع للعباد؛ ويجيء تشريع البشر مستمدا من شريعة الله، وعن هذا التصور تنشأ قاعدة استمداد القيم كلها من الله؛ فلا اعتبار لقيمة من قيم الحياة كلها إذا لم تقبل في ميزان الله، ولا شرعية لوضع أو تقليد أو تنظيم يخالف عن منهج الله.. وهكذا إلى آخر ما ينبثق عن معنى الوحدانية من مشاعر في الضمير أو مناهج لحياة الناس في الأرض على السواء.

5. ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾.. والحياة التي يوصف بها الإله الواحد هي الحياة الذاتية التي لم تأت من مصدر آخر كحياة الخلائق المكسوبة الموهوبة لها من الخالق، ومن ثم يتفرد الله ـ سبحانه ـ بالحياة على هذا المعنى، كما أنها هي الحياة الأزلية الأبدية التي لا تبدأ من مبدأ ولا تنتهي إلى نهاية، فهي متجردة عن معنى الزمان المصاحب لحياة الخلائق المكتسبة المحددة البدء والنهاية، ومن ثم يتفرد الله ـ سبحانه ـ كذلك بالحياة على هذا المعنى، ثم إنها هي الحياة المطلقة من الخصائص التي اعتاد الناس أن يعرفوا بها الحياة، فالله ـ سبحانه ـ ليس كمثله شيء، ومن ثم يرتفع كل شبه من الخصائص التي تتميز بها حياة الأشياء، وتثبت لله صفة الحياة مطلقة من كل خصيصة تحدد معنى الحياة في مفهوم البشر.. وتنتفي بهذا جميع المفهومات الأسطورية التي جالت في خيال البشر!

6. أما صفة ﴿الْقَيُّومِ﴾.. فتعني قيامه ـ سبحانه ـ على كل موجود، كما تعني قيام كل موجود به فلا قيام لشيء إلا مرتكنا إلى وجوده وتدبيره.. لا كما كان أكبر فلاسفة الإغريق ـ أرسطو ـ يتصور أن الله لا يفكر في شيء من مخلوقاته، لأنه تعالى أن يفكر في غير ذاته! ويحسب أن في هذا التصور تنزيها لله وتعظيما؛ وهو يقطع الصلة بينه وبين هذا الوجود الذي خلقه.. وتركه.. فالتصور الإسلامي تصور إيجابي لا سلبي، يقوم على أساس أن الله ـ سبحانه ـ قائم على كل شيء، وأن كل شيء قائم في وجوده على إرادة الله وتدبيره.. ومن ثم يظل ضمير المسلم وحياته ووجوده ووجود كل شيء من حوله مرتبطا بالله الواحد؛ الذي يصرّف أمره وأمر كل شيء حوله، وفق حكمة وتدبير، فيلتزم الإنسان في حياته بالمنهج المرسوم القائم على الحكمة والتدبير؛ ويستمد منه قيمه وموازينه، ويراقبه وهو يستخدم هذه القيم والموازين.

7. ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾.. وهذا توكيد لقيامه ـ سبحانه ـ على كل شيء، وقيام كل شيء به، ولكنه توكيد في صورة تعبيرية تقرب للإدراك البشري صورة القيام الدائم، في الوقت الذي تعبر فيه هذه الصورة عن الحقيقة الواقعة من مخالفة الله ـ سبحانه ـ لكل شيء.. ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.. وهي تتضمن نفي السنة الخفيفة أو النوم المستغرق، وتنزهه ـ سبحانه ـ عنهما إطلاقا.

8. حقيقة القيام على هذا الوجود بكلياته وجزئياته في كل وقت وفي كل حالة.. حقيقة هائلة حين يحاول الإنسان تصورها، وحين يسبح بخياله المحدود مع ما لا يحصيه عد من الذرات والخلايا والخلائق والأشياء والأحداث في هذا الكون الهائل؛ ويتصور ـ بقدر ما يملك ـ قيام الله ـ سبحانه ـ عليها؛ وتعلقها في قيامها بالله وتدبيره.. إنه أمر.. أمر لا يتصوره الإدراك الإنساني، وما يتصوره منه ـ وهو يسير ـ هائل يدير الرؤوس، ويحير العقول، وتطمئن به القلوب.

9. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾.. فهي الملكية الشاملة، كما أنها هي الملكية المطلقة.. الملكية التي لا يرد عليها قيد ولا شرط ولا فوت ولا شركة، وهي مفهوم من مفاهيم الألوهية الواحدة، فالله الواحد هو الحي الواحد، القيوم الواحد، المالك الواحد وهي نفي للشركة في صورتها التي ترد على أذهان الناس ومداركهم، كما أنها ذات أثر في إنشاء معنى الملكية وحقيقتها في دنيا الناس، فإذا تمحضت الملكية الحقيقية لله، لم يكن للناس ملكية ابتداء لشيء، إنما كان لهم استخلاف من المالك الواحد الأصلي الذي يملك كل شيء، ومن ثم وجب أن يخضعوا في خلافتهم لشروط المالك المستخلف في هذه الملكية، وشروط المالك المستخلف قد بينها لهم في شريعته؛ فليس لهم أن يخرجوا عنها؛ وإلا بطلت ملكيتهم الناشئة عن عهد الاستخلاف، ووقعت تصرفاتهم باطلة، ووجب رد هذه التصرفات من المؤمنين بالله في الأرض.. وهكذا نجد أثر التصور الإسلامي في التشريع الإسلامي، وفي واقع الحياة العملية التي تقوم عليه، وحين يقول الله في القرآن الكريم ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾.. فإنه لا يقرر مجرد حقيقة تصورية اعتقادية؛ إنما يضع قاعدة من قواعد الدستور للحياة البشرية ونوع الارتباطات التي تقوم فيها كذلك.

10. مجرد استقرار هذه الحقيقة في الضمير.. مجرد شعور الإنسان بحقيقة المالك ـ سبحانه ـ لما في السماوات وما في الأرض.. مجرد تصور الإنسان لخلو يده هو من ملكية أي شيء مما يقال: إنه يملكه؛ ورد هذه الملكية لصاحبها الذي له ما في السماوات وما في الأرض.. مجرد إحساسه بأن ما في يده عارية لأمد محدود، ثم يستردها صاحبها الذي أعارها له في الأجل المرسوم.. مجرد استحضار هذه الحقائق والمشاعر كفيل وحده بأن يطامن من حدة الشره والطمع، وحدة الشح والحرص، وحدة التكالب المسعور، وكفيل كذلك بأن يسكب في النفس القناعة والرضى بما يحصل من الرزق؛ والسماحة والجود بالموجود؛ وأن يفيض على القلب الطمأنينة والقرار في الوجدان والحرمان سواء؛ فلا تذهب النفس حسرات على فائت أو ضائع؛ ولا يتحرق القلب سعارا على المرموق المطلوب!

11. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾.. وهذه صفة أخرى من صفات الله؛ توضح مقام الألوهية ومقام العبودية.. فالعبيد جميعا يقفون في حضرة الألوهية موقف العبودية؛ لا يتعدونه ولا يتجاوزونه، يقفون في مقام العبد الخاشع الخاضع؛ الذي لا يقدم بين يدي ربه؛ ولا يجرؤ على الشفاعة عنده، إلا بعد أن يؤذن له، فيخضع للإذن ويشفع في حدوده.. وهم يتفاضلون فيما بينهم، ويتفاضلون في ميزان الله، ولكنهم يقفون عند الحد الذي لا يتجاوزه عبد.. إنه الإيحاء بالجلال والرهبة في ظل الألوهية الجليلة العلية، يزيد هذا الإيحاء عمقا صيغة الاستفهام الاستنكارية؛ التي توحي بأن هذا أمر لا يكون؛ وأنه مستنكر أن يكون، فمن هو هذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟

12. في ظل هذه الحقيقة تبدو سائر التصورات المنحرفة للذين جاءوا من بعد الرسل فخلطوا بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، فزعموا لله ـ سبحانه ـ خليطا يمازجه أو يشاركه بالبنوة أو بغيرها من الصور في أي شكل وفي أي تصور، أو زعموا له ـ سبحانه ـ أندادا يشفعون عنده فيستجيب لهم حتما، أو زعموا له ـ سبحانه ـ من البشر خلفاء يستمدون سلطانهم من قرابتهم له.. في ظل هذه الحقيقة تبدو تلك التصورات كلها مستنكرة مستبعدة لا تخطر على الذهن؛ ولا تجول في الخاطر، ولا تلوح بظلها في خيال! وهذه هي النصاعة التي يتميز بها التصور الإسلامي؛ فلا تدع مجالا لتلبيس أو وهم، أو اهتزاز في الرؤية! الألوهية ألوهية، والعبودية عبودية، ولا مجال لالتقاء طبيعتهما أدنى التقاء، والرب رب، والعبد عبد، ولا مجال لمشاركة في طبيعتهما ولا التقاء، فأما صلة العبد بالرب، ورحمة الرب للعبد، والقربى والود والمدد.. فالإسلام يقررها ويسكبها في النفس سكبا؛ ويملأ بها قلب المؤمن ويفيضها عليه فيضا؛ ويدعه يعيش في ظلالها الندية الحلوة، دون ما حاجة إلى خلط طبيعة الألوهية وطبيعة العبودية، ودون ما حاجة إلى الغبش والركام والزغللة والاضطراب الذي لا تتبين فيه صورة واحدة واضحة ولا ناصعة ولا محددة!

13. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾.. وهذه الحقيقة بطرفيها تساهم كذلك في تعريف المسلم بإلهه، وفي تحديد مقامه هو من إلهه، فالله يعلم ما بين أيدي الناس وما خلفهم، وهو تعبير عن العلم الشامل الكامل المستقصي لكل ما حولهم، فهو يشمل حاضرهم الذي بين أيديهم؛ ويشمل غيبهم الذي كان ومضى والذي سيكون وهو عنهم محجوب، كذلك هو يشمل ما يعلمونه من الأمور وما يجهلونه في كل وقت، وهو على العموم تعبير لغوي يفيد شمول العلم وتقصيه.. أما هم فلا يعلمون شيئا إلا ما يأذن لهم الله أن يعلموه.

أ. وشطر الحقيقة الأول.. علم الله الشامل بما بين أيديهم وما خلفهم.. من شأنه أن يحدث في النفس رجة وهزة، النفس التي تقف عارية في كل لحظة أمام بارئها الذي يعلم ما بين يديها وما خلفها، يعلم ما تضمر علمه بما تجهر، ويعلم ما تعلم علمه بما تجهل، ويعلم ما يحيط بها من ماض وآت مما لا تعلمه هي ولا تدريه.. شعور النفس بهذا خليق بأن يحدث فيها هزة الذي يقف عريانا بكل ما في سريرته أمام الديان؛ كما أنه خليق بأن يسكب في القلب الاستسلام لمن يعرف ظاهر كل شيء وخافيه.

ب. وشطر الحقيقة الثاني.. أن الناس لا يعلمون إلا ما شاء الله لهم أن يعلموه.. جدير بأن يتدبره الناس طويلا، وبخاصة في هذه الأيام التي يفتنون فيها بالعلم في جانب من جوانب الكون والحياة.

14. ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾.. إنه ـ سبحانه ـ هو الذي يعلم وحده كل شيء علما مطلقا شاملا كاملا، وهو ـ سبحانه ـ يتأذن فيكشف للعباد بقدر عن شيء من علمه؛ تصديقا لوعده الحق ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾.. ولكنهم هم ينسون هذه الحقيقة؛ ويفتنهم ما يأذن الله لهم فيه من علمه، سواء كان هذا الذي أذن لهم فيه علم شيء من نواميس الكون وقوانينه؛ أو رؤية شيء من غيبه في لحظة عابرة وإلى حد معين.. يفتنهم هذا كما يفتنهم ذاك؛ فينسون الإذن الأول الذي منحهم الإحاطة بهذا العلم، فلا يذكرون ولا يشكرون، بل يتبجحون وقد يكفرون.

15. إن الله سبحانه وهب الإنسان المعرفة مذ أراد إسناد الخلافة في الأرض إليه، ووعده أن يريه آياته في الآفاق وفي الأنفس ووعده الحق، وصدقه وعده فكشف له يوما بعد يوم، وجيلا بعد جيل، في خط يكاد يكون صاعدا أبدا، عن بعض القوى والطاقات والقوانين الكونية التي تلزم له في خلافة الأرض، ليصل بها إلى أقصى الكمال المقدر له في هذه الرحلة المرسومة.

16. بقدر ما أذن الله للإنسان في علم هذا الجانب وكشف له عنه، بقدر ما زوى عنه أسرارا أخرى لا حاجة له بها في الخلافة.. زوى عنه سر الحياة وما يزال هذا السر خافيا، وما يزال عصيا، وما يزال البحث فيه خبطا في التيه بلا دليل! وزوى عنه سر اللحظة القادمة، فهي غيب لا سبيل إليه، والستر المسدل دونها كثيف لا تجدي محاولة الإنسان في رفعه.. وأحيانا تومض من وراء الستر ومضة لقلب مفرد بإذن من الله خاص؛ ثم يسدل الستر ويسود السكون؛ ويقف الإنسان عند حده لا يتعداه! وزوى عنه أسرارا كثيرة.. زوى عنه كل ما لا يتعلق بالخلافة في الأرض.. والأرض هي تلك الذرة الصغيرة السابحة في الفضاء كالهباءة.. ومع ذلك يفتن الإنسان بذلك الطرف من العلم، الذي أحاط به بعد الإذن، يفتن فيحسب نفسه في الأرض إلها! ويكفر فينكر أن لهذا الكون إلها! وإن يكن هذا القرن العشرون قد بدأ يرد العلماء حقا إلى التواضع‏ والتطامن، فقد بدؤوا يعلمون أنهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلا! وبقي الجهال المتعالمون الذين يحسبون أنهم قد علموا شيئا كثيرا!

17. ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255].. وقد جاء التعبير في هذه الصورة الحسية في موضع التجريد المطلق؛ على طريقة القرآن في التعبير التصويري، لأن الصورة هنا تمنح الحقيقة المراد تمثيلها للقلب قوة وعمقا وثباتا، فالكرسي يستخدم عادة في معنى الملك، فإذا وسع كرسيه السماوات والأرض فقد وسعهما سلطانه، وهذه هي الحقيقة من الناحية الذهنية، ولكن الصورة التي ترتسم في الحس من التعبير بالمحسوس أثبت وأمكن، وكذلك التعبير بقوله: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255] فهو كناية عن القدرة الكاملة، ولكنه يجيء في هذه الصورة المحسوسة، صورة انعدام الجهد والكلال، لأن التعبير القرآني يتجه إلى رسم صور للمعاني تجسمها للحس، فتكون فيه أوقع وأعمق وأحس.

18. لا حاجة بنا إلى كل ما ثار من الجدل حول مثل هذه التعبيرات في القرآن، إذا نحن فقهنا طريقة القرآن التعبيرية؛ ولم نستعر من تلك الفلسفات الأجنبية الغريبة التي أفسدت علينا كثيرا من بساطة القرآن ووضوحه‏.

19. يحسن أن أضيف هنا أنني لم أعثر على أحاديث صحيحة في شأن الكرسي والعرش تفسر وتحدد المراد مما ورد منها في القرآن، ومن ثم أوثر أن لا أخوض في شأنها بأكثر من هذا البيان.

20. ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: 4].. هذه خاتمة الصفات في الآية، تقرر حقيقة، وتوحي للنفس بهذه الحقيقة، وتفرد الله سبحانه بالعلو، وتفرده سبحانه بالعظمة، فالتعبير على هذا النحو يتضمن معنى القصر والحصر، فلم يقل وهو عليّ عظيم، ليثبت الصفة مجرد إثبات، ولكنه قال: ﴿الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ ليقصرها عليه سبحانه بلا شريك! إنه المتفرد بالعلو، المتفرد بالعظمة، وما يتطاول أحد من العبيد إلى هذا المقام إلا ويرده الله إلى الخفض والهون؛ وإلى العذاب في الآخرة والهوان، وهو يقول: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا﴾.. ويقول عن فرعون في معرض الهلاك: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا﴾.. ويعلو الإنسان ما يعلو، ويعظم الإنسان ما يعظم، فلا يتجاوز مقام العبودية لله العلي العظيم، وعند ما تستقر هذه الحقيقة في نفس الإنسان، فإنها تثوب به إلى مقام العبودية وتطامن من كبريائه وطغيانه؛ وترده إلى مخافة الله ومهابته؛ وإلى الشعور بجلاله وعظمته؛ وإلى الأدب في حقه والتحرج من الاستكبار على عباده، فهي اعتقاد وتصور، وهي كذلك عمل وسلوك.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/287.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تستعرض هذه الآية الكريمة أمجاد الله وعظمته وقدرته، ليكون من هذا العرض الكاشف مجلّى لأبصار المستبصرين، ونور لبصائر الراشدين، حتى يتعرفوا على الله، ويؤمنوا به، ويخبتوا له، ليرشدوا ويسعدوا:

أ. فالله هو الذي لا إله إلا هو.. وكل ما يعرف الضالون من أرباب وآلهة غيره، ضلال في ضلال.

ب. والله ـ سبحانه ـ هو الحىّ حياة أبدية سرمدية، لم يسبقه عدم، ولا يلحقه فناء.

ج. والله ـ سبحانه ـ هو القيوم، المالك لكل شيء، والقائم على كل شيء، والمهيمن على كل شيء.

د. والله ـ سبحانه ـ منزه عن العوارض التي تعرض للمخلوقات، فلا يعرض له تعب أو كلال، ولا يلحقه سهو أو نسيان، ولا تأخذه سنة ولا نوم.. مما يأخذ الناس من جهد العمل.

هـ. والله ـ سبحانه ـ له ملك السموات والأرض وما فيهن، يدبرها بحكمته، ويسعها بعلمه.

و. والله ـ سبحانه ـ قد بسط سلطانه على السموات والأرض، ووسع كرسيه السموات والأرض.

ز. والله ـ سبحانه ـ هو العلى العظيم، الذي لا يطاوله في علوه أحد، ولا يشاركه في عظمته أحد.. هكذا يتجلّى الله سبحانه في عظمته وجلاله، وفى حكمته وعلمه، وفى قدرته وحياطته، وفى ملكه وسلطانه ـ هكذا يتجلّى لمن نظر في هذا الوجود، وهكذا يتجلّى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

2. فى قوله سبحانه ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ استحضار لنتيجة لازمة من هذا العرض المبسوط لسلطان الله وقدرته، يشهد منه أولئك الذين يتخذون من الله أربابا يقولون عنهم إنهم شفعاؤنا عند الله، ويقولون فيهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾، يشهد منه هؤلاء ألّا سلطان لأحد مع سلطان الله، ولا شفاعة لأحد في أحد عند الله، إلا لمن يأذن له الله، ويرضى له الشفاعة، فضلا منه وكرما وإحسانا!

3. فى قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ إشارة إلى امتداد سلطانه، وسعته، ونفوذه إلى كل شيء في هذا الوجود، وامتلاكه ناصية كل شيء فيه، فالكرسي عادة يحتوى السلطان الجالس عليه، وهو في حقيقته ليس إلّا شيئا صغيرا، لا يشغل إلا حيّزا محدودا مما يقع تحت يد السلطان من ملك، ولكن كرسيّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الوجود كلّه، بل إن الوجود كله ـ في أرضه وسمائه، وما تحوى أرضه وسماؤه ـ هو مما يحويه هذا الكرسيّ، ويشتمل عليه، فانظر إلى هذا الكرسي، الذي يضم في كيانه الوجود كلّه، ثم انظر إلى عظمة الله سبحانه وتعالى، الذي لا يمثل كرسيّه إلا حيزا محدودا من سلطانه، على نحو ما يمثل كرسيّ صاحب الملك من ملكه.. ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى، وهو العزيز الحكيم.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏2/316.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى هول يوم القيامة وذكر حال الكافرين استأنف بذكر تمجيد الله تعالى وذكر صفاته إبطالا لكفر الكافرين وقطعا لرجائهم، لأنّ فيها ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، وجعلت هذه الآية ابتداء لآيات تقرير الوحدانية والبعث، وأودعت هذه الآية العظيمة هنا لأنّها كالبرزخ بين الأغراض السابقة واللّاحقة.

2. جيء باسم الذات هنا لأنّه طريق في الدلالة على المسمى المنفرد بهذا الاسم، فإنّ العلم أعرف المعارف لعدم احتياجه في الدلالة على مسمّاه إلى قرينة أو معونة لولا احتمال تعدد التسمية، فلما انتفى هذا الاحتمال في اسم الجلالة كان أعرف المعارف لا محالة لاستغنائه عن القرائن والمعونات، فالقرائن كالتكلّم والخطاب، والمعونات كالمعاد والإشارة باليد والصلة وسبق العهد والإضافة.

3. جملة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [المزمل: 9] خبر أول عن اسم الجلالة، والمقصود من هذه الجملة إثبات الوحدانية وقد تقدم الكلام على دلالة لا إله إلّا هو على التوحيد ونفي الآلهة عند قوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [البقرة: 163]

4. ﴿الْحَيُّ﴾ خبر لمبتدإ محذوف، و﴿الْقَيُّومِ﴾ خبر ثان لذلك المبتدإ المحذوف، والمقصود إثبات الحياة وإبطال استحقاق آلهة المشركين وصف الإلهية لانتفاء الحياة، عنهم كما قال إبراهيم عليه السلام‏: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ﴾ [مريم: 42] وفصلت هذه الجملة عن التي قبلها للدلالة على استقلالها لأنّها لو عطفت لكانت كالتبع، وظاهر كلام الكشاف أنّ هذه الجملة مبيّنة لما تضمّنته جملة ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ من أنّه القائم بتدبير الخلق، أي لأنّ اختصاصه بالإلهية يقتضي أن لا مدبّر غيره، فلذلك فصلت خلافا لما قرر به التفتازاني كلامه فإنّه غير ملائم لعبارته.

5. الحيّ في كلام العرب من قامت به الحياة، وهي صفة بها الإدراك والتصرّف، أعني كمال الوجود المتعارف، فهي في المخلوقات بانبثاث الروح واستقامة جريان الدم في الشرايين، وبالنسبة إلى الخالق ما يقارب أثر صفة الحياة فينا، أعني انتفاء الجماديّة مع التنزيه عن عوارض المخلوقات، وفسّرها المتكلّمون بأنها (صفة تصحّح لمن قامت به الإدراك والفعل)، وفسّر الزمخشري الحيّ بالباقي، أي الدائم الحياة بحيث لا يعتريه العدم، فيكون مستعملا كناية في لازم معناه لأنّ إثبات الحياة لله تعالى بغير هذا المعنى لا يكون إلّا مجازا أو كناية، وقال الفخر: (الذي عندي أنّ الحي ـ في أصل اللغة ـ ليس عبارة عن صحة العلم والقدرة، بل عبارة عن كمال الشيء في جنسه، قال تعالى: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الجاثية: 5]، وحياة الأشجار إيراقها، فالصفة المسمّاة ـ في عرف المتكلّمين ـ بالحياة سمّيت بذلك لأنّ كمال حال الجسم أن يكون موصوفا بها، فالمفهوم الأصلي من لفظ الحيّ كونه واقعا على أكمل أحواله وصفاته)

6. المقصود بوصف الله هنا بالحيّ إبطال عقيدة المشركين إلاهية أصنامهم التي هي جمادات، وكيف يكون مدبّر أمور الخلق جمادا.

7. الحيّ صفة مشبهة من حيي، أصله حيي كحذر أدغمت الياءان، وهو يائي باتفاق أئمة اللّغة، وأما كتابة السلف في المصحف كلمة حيوة بواو بعد الياء فمخالفة للقياس، وقيل كتبوها على لغة أهل اليمن لأنّهم يقولون حيوة أي حياة، وقيل كتبوها على لغة تفخيم الفتحة.

8. ﴿الْقَيُّومِ﴾ [طه: 111] فيعول من قام يقوم وهو وزن مبالغة، وأصله قيووم فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمتا، والمراد به المبالغة في القيام المستعمل ـ مجازا مشهورا ـ في تدبير شئون الناس، قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد: 33]، والمقصود إثبات عموم العلم له وكمال الحياة وإبطال إلاهية أصنام المشركين، لأن المشركين كانوا يعترفون بأن مدبّر الكون هو الله تعالى، وإنّما جعلوا آلهتهم شفعاء وشركاء ومقتسمين أمور القبائل، والمشركون من اليونان كانوا قد جعلوا لكل إله من آلهتهم أنواعا من المخلوقات يتصرّف فيها وأمما من البشر تنتمي إليه ويحنأ عليها.

9. جملة ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ مقرّرة لمضمون جملة (الله الحيّ القيوم) ولرفع احتمال المبالغة فيها، فالجملة منزّلة منزلة البيان لمعنى الحي القيوم ولذلك فصلت عن التي قبلها.

10. السّنة فعلة من الوسن، وهو أول النوم، والظاهر أنّ أصلها اسم هيئة كسائر ما جاء على وزن فعله من الواوي لفاء، وقد قالوا وسنة بفتح الواو على صيغة المرة، والسنة أول النوم، قال عدي بن الرقاع:

çوسنان أقصده النّعاس فرنّقت‏...في عينه سنة وليس بنائم‏é

11. النوم معروف وهو فتور يعتري أعصاب الدماغ من تعب أعمال الأعصاب من‏ تصاعد الأبخرة البدنية الناشئة عن الهضم والعمل العصبي، فيشتدّ عند مغيب الشمس ومجيء الظلمة فيطلب الدماغ والجهاز العصبي الذي يدبّره الدماغ استراحة طبيعية فيغيب الحسّ شيئا فشيئا وتثقل حركة الأعضاء، ثم يغيب الحسّ إلى أن تسترجع الأعصاب نشاطها فتكون اليقظة.

12. نفي استيلاء السنة والنوم على الله تعالى تحقيق لكمال الحياة ودوام التدبير، وإثبات لكمال العلم؛ فإنّ السنة والنوم يشبهان الموت، فحياة النائم في حالهما حياة ضعيفة، وهما يعوقان عن التدبير وعن العلم بما يحصل في وقت استيلائهما على الإحساس.

13. نفي السنة عن الله تعالى لا يغني عن نفي النوم عنه لأنّ من الأحياء من لا تعتريه السنة فإذا نام نام عميقا، ومن الناس من تأخذه السنة في غير وقت النوم غلبة، وقد تمادحت العرب بالقدرة على السهر، قال أبو كبير:

çفأتت به حوش الفؤاد مبطّنا...سهدا إذا ما نام ليل الهوجل‏é

والمقصود أنّ الله لا يحجب علمه شيء حجبا ضعيفا ولا طويلا ولا غلبة ولا اكتسابا، فلا حاجة إلى ما تطلّبه الفخر والبيضاوي من أن تقديم السنة على النوم مراعى فيه ترتيب الوجود، وأنّ ذكر النوم من قبيل الاحتراس، وقد أخذ هذا المعنى بشّار وصاغه بما يناسب صناعة الشعر فقال:

çوليل دجوجي تنام بناته‏...وأبناؤه من طوله‏ وربائبه‏é

فإنّه أراد من بنات الليل وأبنائه الساهرات والساهرين بمواظبة، وأراد بربائب الليل من هم أضعف منهم سهرا لليل لأنّ الربيب أضعف نسبة من الولد والبنت.

14. جملة ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ تقرير لانفراده بالإلهية إذ جميع الموجودات مخلوقاته، وتعليل لاتّصافه بالقيّوميّة لأنّ من كانت جميع الموجودات ملكا له فهو حقيق بأن يكون قيّومها وألّا يهملها ولذلك فصلت الجملة عن التي قبلها، واللام للملك، والمراد بالسماوات والأرض استغراق أمكنة الموجودات، فقد دلت الجملة على عموم الموجودات بالموصول وصلته، وإذا ثبت ملكه للعموم ثبت أنّه لا يشذّ عن ملكه موجود فحصل معنى الحصر، ولكنّه زاده تأكيدا بتقديم المسند ـ أي لا لغيره ـ لإفادة الردّ على أصناف المشركين، من الصابئة عبدة الكواكب كالسريان واليونان ومن مشركي العرب لأن مجرّد حصول معنى الحصر بالعموم لا يكفي في الدلالة على إبطال العقائد الضّالة، فهذه الجملة أفادت تعليم التوحيد بعمومها، وأفادت إبطال عقائد أهل الشرك بخصوصية القصر، وهذا بلاغة معجزة.

15. جملة ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ مقرّرة لمضمون جملة ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ لما أفاده لام الملك من شمول ملكه تعالى لجميع ما في السماوات وما في الأرض، وما تضمنه تقديم المجرور من قصر ذلك الملك عليه تعالى قصر قلب، فبطل وصف الإلهية عن غيره تعالى، بالمطابقة، وبطل حق الإدلال عليه والشفاعة عنده ـ التي لا تردّ ـ بالالتزام، لأنّ الإدلال من شأن المساوي والمقارب، والشفاعة إدلال، وهذا إبطال لمعتقد معظم مشركي العرب لأنّهم لم يثبتوا لآلهتهم وطواغيتهم ألوهية تامة، بل قالوا ﴿هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: 18] وقالوا ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3]، فأكّد هذا المدلول بالصريح، ولذلك فصلت هذه الجملة عمّا قبلها.

16. ﴿ذَا﴾ مزيدة للتأكيد إذ ليس ثمّ مشار إليه معيّن، والعرب تزيد (ذا) لما تدل عليه الإشارة من وجود شخص معيّن يتعلق به حكم الاستفهام، حتى إذا أظهر عدم وجوده كان ذلك أدلّ على أن ليس ثمّة متطلع ينصب نفسه لادّعاء هذا الحكم، وتقدم القول في (من ذا) عند قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة: 245]

17. الاستفهام في قوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ﴾ مستعمل في الإنكار والنفي بقرينة الاستثناء منه بقوله: ﴿إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾

18. الشفاعة تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة: 54]، والمعنى أنّه لا يشفع عنده أحد بحق وإدلال لأنّ المخلوقات كلها ملكه، ولكن يشفع عنده من أراد هو أن يظهر كرامته عنده فيأذنه بأن يشفع فيمن أراد هو العفو عنه، كما يسند إلى الكبراء مناولة المكرمات إلى نبغاء التلامذة في مواكب الامتحان، ولذلك‏ جاء في حديث الشفاعة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يأتيه الناس ليكلّم ربّه فيخفّف عنهم هول موقف‏ الحساب، فيأتي حتى يسجد تحت العرش ويتكلم بكلمات يعلّمه الله تعالى إياها، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفّع، فسجوده استيذان في الكلام، ولا يشفع حتى يقال اشفع، وتعليمه الكلمات مقدّمة للإذن.

19. جملة ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ تقرير وتكميل لما تضمنه مجموع جملتي‏ ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ ولما تضمنته جملة ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، فإنّ جملتي‏ ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ دلتا على عموم علمه بما حدث ووجد من الأكوان ولم تدلّا على علمه بما سيكون فأكد وكمل بقوله يعلم الآية، وهي أيضا تعليل لجملة من ذا الذي يشفع عنده إلّا بإذنه إذ قد يتّجه سؤال لماذا حرموا الشفاعة إلّا بعد الإذن فقيل لأنّهم لا يعلمون من يستحقّ الشفاعة وربّما غرّتهم الظواهر، والله يعمل من يستحقّها فهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولأجل هذين المعنيين فصلت الجملة عما قبلها.

20. المراد بما بين أيديهم وما خلفهم ما هو ملاحظ لهم من المعلومات وما خفي عنهم أو ذهلوا عنه منها، أو ما هو واقع بعدهم وما وقع قبلهم، وأما علمه بما في زمانهم فأحرى، وقيل المستقبل هو ما بين الأيدي والماضي هو الخلف، وقيل عكس ذلك، وهما استعمالان مبنيان على اختلاف الاعتبار في تمثيل ما بين الأيدي والخلف، لأنّ ما بين أيدي المرء هو أمامه، فهو يستقبله ويشاهده ويسعى للوصول إليه، وما خلفه هو ما وراء ظهره، فهو قد تخلّف عنه وانقطع ولا يشاهده، وقد تجاوزه ولا يتّصل به بعد وقيل أمور الدنيا وأمور الآخرة، وهو فرع من الماضي والمستقبل، وقيل المحسوسات والمعقولات، وأياما كان فاللفظ مجاز، والمقصود عموم العلم بسائر الكائنات.

21. ضمير ﴿أَيْدِيهِمْ﴾ و﴿خَلْفَهُمْ﴾ عائد إلى‏ ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ بتغليب العقلاء من المخلوقات لأنّ المراد بما بين أيديهم وما خلفهم ما يشمل أحوال غير العقلاء، أو هو عائد على خصوص العقلاء من عموم ما في السموات وما في الأرض فيكون المراد ما يختصّ بأحوال البشر ـ وهو البعض، لضمير ولا يحيطون ـ لأنّ العلم من أحوال العقلاء.

22. عطفت جملة ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ على جملة ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ لأنّها تكملة لمعناها كقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216]، ومعنى يحيطون يعلمون علما تاما، وهو مجاز حقيقته أنّ الإحاطة بالشيء تقتضي‏ الاحتواء على جميع أطرافه بحيث لا يشذّ منه شيء من أوله ولا آخره، فالمعنى لا يعلمون ـ علم اليقين ـ شيئا من معلوماته، وأمّا ما يدّعونه فهو رجم بالغيب، فالعلم في قوله:

23. ﴿مِنْ عِلْمِهِ﴾ بمعنى المعلوم، كالخلق بمعنى المخلوق، وإضافته إلى ضمير اسم الجلالة تخصيص له بالعلوم اللدنية التي استأثر الله بها ولم ينصب الله تعالى عليها دلائل عقلية أو عادية، ولذلك فقوله تعالى: ﴿إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ تنبيه على أنّه سبحانه قد يطلع بعض أصفيائه على ما هو من خواصّ علمه كقوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: 26، 27]

24. ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ تقرير لما تضمّنته الجمل كلّها من عظمة الله تعالى وكبريائه وعلمه وقدرته وبيان عظمة مخلوقاته المستلزمة عظمة شأنه، أو لبيان سعة ملكه ـ كذلك ـ كما سنبيّنه، وقد وقعت هذه الجمل مترتبة متفرّعة.

25. الكرسي شيء يجلس عليه متركب من أعواد أو غيرها موضوعة كالأعمدة متساوية، عليها سطح من خشب أو غيره بمقدار ما يسع شخصا واحدا في جلوسه، فإن زاد على مجلس واحد وكان مرتفعا فهو العرش، وليس المراد في الآية حقيقة الكرسي إذ لا يليق بالله تعالى لاقتضائه التحيّز، فتعين أن يكون مرادا به غير حقيقته، والجمهور قالوا: إنّ الكرسي مخلوق عظيم، ويضاف إلى الله تعالى لعظمته:

أ. فقيل هو العرش، وهو قول الحسن، وهذا هو الظاهر لأنّ الكرسي لم يذكر في القرآن إلّا في هذه الآية وتكرّر ذكر العرش، ولم يرد ذكرهما مقترنين، فلو كان الكرسي غير العرش لذكر معه كما ذكرت السماوات مع العرش في قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [المؤمنون: 86]

ب. وقيل الكرسي غير العرش، فقال ابن زيد هو دون العرش وروي في ذلك عن أبي ذر أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (ما الكرسي في العرش إلّا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض)، وهو حديث لم يصح.

ج. وقال أبو موسى الأشعري والسدى والضحاك: الكرسي موضع القدمين من العرش، أي لأنّ الجالس على عرش يكون مرتفعا عن الأرض فيوضع له كرسي لئلا تكون رجلاه في الفضاء إذا لم يتربّع، وروي هذا عن ابن عباس.

د. وقيل الكرسي مثل لعلم الله، وروي عن ابن عباس لأنّ العالم يجلس على كرسي ليعلّم الناس، وقيل مثل لملك الله تعالى كما يقولون فلان صاحب كرسي العراق أي ملك العراق.

هـ. قال البيضاوي: (ولعلّه الفلك المسمّى عندهم بفلك البروج)، أثبت القرآن سبع سماوات ولم يبيّن مسمّاها في قوله (سورة نوح) ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ [نوح: 15، 16]، فيجوز أن تكون السموات طبقات من الأجواء مختلفة الخصائص متمايزة بما يملّاها من العناصر، وهي مسبح الكواكب، ولقد قال تعالى (سورة الملك): ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [الملك: 5]، ويجوز(2) أن تكون السماوات هي الكواكب العظيمة المرتبطة بالنظام الشمس وهي: فلكان، وعطارد، والزهرة، وهذه تحت الشمس إلى الأرض، والمريخ، والمشتري، وزحل، وأورانوس، ونبتون، وهذه فوق الشمس على هذا الترتيب في البعد، إلّا أنّها في عظم الحجم يكون أعظمها المشتري، ثم زحل، ثم نبتون، ثم أورانوس، ثم المريخ، فإذا كان العرش أكبرها فهو المشتري، والكرسي دونه فهو زحل، والسبع الباقية هي المذكورة، ويضم إليها القمر، وإن كان الكرسي هو العرش فلا حاجة إلى عدّ القمر، وهذا هو الظاهر، والشمس من جملة الكواكب، وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ [نوح: 16] تخصيص لها بالذكر للامتنان على الناس بأنّها نور للأرض، إلّا أنّ الشمس أكبر من جميعها على كل تقدير، وإذا كانت السماوات أفلاكا سبعة لشموس غير هذه الشمس ولكل فلك نظامه كما لهذه الشمس نظامها فذلك جائز ـ وسبحان من لا تحيط بعظمة قدرته الأفهام ـ فيكون المعنى على هذا أن الله تعالى نبهنا إلى عظيم قدرته وسعة ملكوته بما يدل على ذلك مع موافقته لما في نفس الأمر، ولكنّه لم يفصّل لنا ذلك لأنّ تفصيله ليس من غرض لاستدلال على عظمته، ولأن العقول لا تصل إلى فهمه لتوقفه على علوم واستكمالات فيها لم تتمّ إلى الآن، ولتعلمنّ نبأه بعد حين.

26. جملة ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255] عطفت على جملة ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾ لأنّها من تكملتها وفيها ضمير معاده في التي قبلها، أي إنّ الذي أوجد هاته العوالم لا يعجز عن حفظها، وآده جعله ذا أود، والأود ـ بالتحريك ـ العوج، ومعنى آده أثقله لأن المثقّل ينحني فيصير ذا أود، وعطف عليه‏ ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ لأنّه من تمامه، والعلو والعظمة مستعاران لشرف القدر وجلال القدرة.

27. لهذه الآية فضل كبير لما اشتملت عليه من أصول معرفة صفات الله تعالى، كما اشتملت سورة الإخلاص على ذلك وكما اشتملت كلمة الشهادة.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/492.

(2) هذا مجرد رأي لا علاقة له بالقرآن الكريم، ولا بالعلم

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اقتتل الذين جاؤوا بعد النبيين كما بينت الآية السابقة، واختلفوا في تلك الحقيقة المقررة الثابتة التي دعا إليها النبيون منذ أول مبعوث رحمة للعالمين؛ ولقد ناسب أن يبين سبحانه بعد ذكر الخلاف ثم القتال ما جعله المشركون موضع خلاف، وهو في حقيقة الأمر فوق كل خلاف إن استقامت العقول، وسلمت الفطرة، ولم يدسّ النفس في الشر نازغ الشيطان، ويضل ابن آدم حتى يطمس في قلبه نور البرهان، ولذلك قال سبحانه: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 2]

2. هذه الآية الكريمة تذكر صفات الله تعالى وسلطانه وكمال وجوده، وفيضه بنعمة الوجود على كل شيء في الوجود، ولقد ذكر العلماء أنها تشتمل على حقيقتين مقررتين تؤكدان معنى الوحدانية، وتربيان المهابة الإلهية في قلب كل مؤمن صافى السريرة قد خلا قلبه من كل رين الشرك؛ ومن مظاهر العبودية لغير الله سبحانه وتعالى:

أ. الحقيقة الأولى: أنها تشتمل على عشر جمل، كل جملة منها تشتمل على وصف أو وصفين فيه بيان كمال الله العلى الأعلى، وسلطانه الشامل الكامل، وألوهيته الحق المستقرة في ثنايا كل نفس إلا من ختم الله على قلبه.

ب. الحقيقة الثانية: أنها أكثر آي الكتاب الكريم ذكرا لله رب العالمين، ولقد ذكر بعض العلماء أن الله العلى العليم ذكر فيها بالاسم الظاهر أو الضمير أكثر من سبع عشرة مرة، وقد أحصاها عدا.

3. لاشتمال تلك الآية الكريمة على ذكر الاسم المقدس، وتنزيهه سبحانه وكمال سلطانه، وامتيازها بتكرار ذكر الله ـ ذكر كثير من العلماء أنها أعظم آية في كتاب الله، واستندوا في ذلك إلى أخبار صحاح وردت في صحاح السنة، من أقوال النبيّ الأمين‏، والقرآن كله فوق قدرة العقل البشرى، وهو في ذاته أعظم كتاب نزل من‏ رب العالمين؛ لأنه كتاب الحقيقة من بدء الخليقة؛ ولا نرى ما يمنع أن تتفاوت آياته في العظم، وإن كان أصل العظم المتسامي عن قدرة البشر محققا مؤكدا فيه كله، وفى كل آية بخصوصها.

4. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ تلك هي الجملة السامية الأولى من الجمل العشر التي اشتملت عليها الآية الكريمة، ولفظ الجلالة (الله) قال العلماء: إن أصله: إله، دخلت عليه أداة التعريف (أل) وحذفت الهمزة فصارت: الله، وهى بهذا المعنى تفيد التعريف بأنه وحده هو الإله، فهي تتضمن معنى الألوهية المنفردة؛ دلت على ذلك (أل) التي تفيد التعريف، فمعنى كلمة الله: الإله المنفرد بالألوهية التي لا يشاركه فيها سواه؛ وعلى ذلك تكون كلمة الله تفيد معنى استحقاق العبادة، ومعنى الوحدانية، ومعنى الكمال كله؛ لأنه المنفرد بذلك كله؛ فإذا أطلق اللفظ انصرف إليه، ولم يفهم منه سواه؛ تعالى سبحانه عن الشبيه والمثيل، والمقارب والنظير.

5. إن ذلك المعنى المفهوم من لفظ الجلالة وأصل اشتقاقه قد صرح به في هذه الآية الكريمة؛ فقد قال سبحانه ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ فهو تصريح بما فهم ضمنا مما قبله، فاجتمعت في الدلالة على الوحدانية الدلالتان: الدلالة التضمنية، والدلالة اللفظية، أو الدلالة بالإشارة، والدلالة بالعبارة؛ فكان في ذلك تأكيد فضل تأكيد لمعنى الوحدانية في الألوهية.

6. معنى قوله تعالى: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ لا معبود بحق إلا هو، وهذا هو المعنى الذي اختاره جمهور المفسرين، وهو واضح، وفيه إشارة إلى وقائع الأمور؛ ذلك لأن بعض الناس عبدوا غير الله تعالى، فعبد بعضهم الشمس والكواكب، وعبد بعضهم النار، وعبد بعضهم الأوثان، واعتبروا كل هذه آلهة، فكانت عبادتهم باطلة وبغير حق إنما المعبود حقا، والمستحق للعبادة صدقا هو الله سبحانه وتعالى، وهو العليم الحكيم، العلى القدير.

7. سلك بعض العلماء مسلكا آخر في تفسير قوله تعالى: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ فذكر أن معنى الألوهية هو تسخير الكون كله لقوة القادر الغالب على كل شيء، وتعلق الخلق كله بخالقه، واتصاله به اتصال إنشاء وتكوين، ثم اتصال تدبير وتنظيم، ثم اتصال خضوع وسيطرة كاملة، وتعلق به سبحانه، وعلى هذا يكون المعنى: لا منشئ ولا خالق ولا مسخر ولا مسيطر على الوجود إلا رب الوجود وهو الله سبحانه وتعالى، ولا خضوع إلا لقدرته، ولا تتعلق الأشياء إلا بذاته سبحانه وتعالى؛ وإذا كان كذلك فإنه لا مستحق للعبادة سواه؛ وبذلك يجيء المعنى الأول نتيجة لهذا المعنى وثمرة له، وهما بهذا متلاقيان.

8. فى الحق أن أصل اشتقاق كلمة (إله) يتضمن معانى الخلق، والعبادة، والمحبة، والضراعة إليه سبحانه، ولننقل عبارة الأصفهاني في أصل اشتقاقها، فإنها في هذا شاملة كاشفة؛ فقد قال: (وإله جعلوه اسما لكل معبود لهم، وسموا الشمس إلها؛ لاتخاذهم إياها معبودا، وأله فلان يأله عبد، وقيل تألّه؛ فالإله على هذا المعنى هو المعبود، وقيل هو من أله أي تحيّر.. وذلك أن العبد إذا تفكر في صفاته تحير فيها؛ ولذا قيل: تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله، وقيل أصل إله ولاه، فأبدل من الواو همزة، وتسميته بذلك لكون كل مخلوق والها نحوه، إما بالتسخير فقط كالجمادات والحيوانات، وإما بالتسخير والإرادة معا كبعض الناس، ومن هذا الوجه قال بعض الحكماء: الله محبوب الأشياء كلها، ودل عليه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء]

9. ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ هذا خبر لمبتدإ محذوف تقديره هو الحى القيوم، والحى هو ذو الحياة الكاملة، والحياة الكاملة مظهرها الشعور والإدراك والعلم، وهى كمال الوجود في المحسوسات والمخلوقات، ولكنها بالنسبة لله سبحانه وتعالى صفة كمال له جلت قدرته، مظهرها العلم والإرادة والقدرة، والخلق والتكوين! فإنه وإن اشترط لفظ الحياة بين الباقي والفاني، فمعناه في الفاني لا يليق بذاته، ومعناه في الباقي سبحانه وتعالى يليق بذاته العلية ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى‏]

10. الحياة على هذا صفة كمال قد وصف الله سبحانه وتعالى بها ذاته الكريمة، والعقل يوجب اتصافه سبحانه بها؛ لأنها من كمال الوجود؛ والله سبحانه وتعالى‏ هو وحده كامل الوجود، وفوق كل موجود، وقد ذكر الأستاذ الشيخ محمد عبده بيان وجه الكمال في صفة الحياة له سبحانه، فقال في رسالة التوحيد: (إذ وجب أن يكون له سبحانه صفة الحياة، وهى صفة تستتبع العلم والإرادة؛ وذلك أن الحياة مما يعتبر كمالا، للوجود بداهة؛ فإن الحياة مع ما يتبعها مصدر النظام وناموس الحكمة، وهى في أي مراتبها مبدأ الظهور والاستقرار، فهي كمال وجودي، ويمكن أن يتصف بها الواجب، وكل كمال وجودي يمكن أن يتصف به وجب أن يثبت له، فواجب الوجود حي، وإن باينت حياته حياة الممكنات، فإن ما هو كمال للوجود إنما هو مبدأ العلم والإرادة، ولو لم تثبت له هذه الصفة لكان في الممكنات ما هو أكمل منه وجودا.. والواجب هو واهب الوجود وما يتبعه فكيف يكون فاقدا للحياة ويعطيها؟)، وإذا كان الله سبحانه وتعالى حيا ذا إرادة كاملة، وعلم شامل، وقدرة قاهرة، فإن الكون نشأ بإرادته، وقام بسلطانه، وهو فوقه والمسيطر عليه، ولم ينشأ عنه سبحانه كما ينشأ المعلول عن علته، كما قال بعض الفلاسفة قديما، وكما يزعم بعض الماديين حديثا، ممن ينكرون القوة الغيبية المسيطرة القادرة المريدة.

﴿الْقَيُّومِ﴾ معناه القائم بنفسه الذي لا يقوم بغيره، فلا يحل في شخص ولا في شيء؛ والقائم على كل شيء بالتدبير والحياطة والكلاءة ﴿مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [الأنبياء] والقائم على كل نفس يحصى عليها ما كسبت وما اكتسبت، والقائم الدائم الذي لا يفنى ولا يزول، ويظهر أن كلمة قيّوم بهذا المعنى كانت معروفة عند العرب وصفا لله سبحانه وتعالى.. وأصل اشتقاق قيوم من قام يقوم قياما، ووزن قيوم فيعول، أصلها قيووم، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء.

11. ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ هذا وصف سلبى يؤكد الوصف الإيجابي السابق؛ فإن قيامه سبحانه وتعالى على الكون وكلاءته له يقتضى ألا تأخذه سنة ولا نوم؛ لأن الحركة المستمرة للعالم، والبنيان الذي ارتبطت به أجزاؤه يقتضيان ألا تعرض غفلة للقائم عليه ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [فاطر]، ولأن السّنة والنوم من أعراض الجسم الحيواني، سواء أكان ناطقا أم كان غير ناطق، والله سبحانه وتعالى منزه عن مشابهة الحوادث، وليس سبحانه وتعالى جسما، وليست له أعراض أي جسم، والسّنة هي النعاس، وهو ما يسبق النوم من فتور، وقيل إن السّنة أسبق من النعاس؛ وذلك أنه تحدث ثلاث مراتب عند وجود أسباب النوم: أن يحسّ الشخص بفتور ويبتدئ يفقد سيطرته على أعضائه، ثم يجئ النعاس، فتتراخى العين، وتبتدئ الأعضاء كلها في التراخي؛ ثم يحصل النوم، وبه يفقد الشخص وعيه؛ ولذا قال المفضل: (السّنة، من الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب) والسّنة أصلها وسنة، حذفت الواو ثم كسرت السين ليمكن الابتداء بها؛ ففعلها وسن، وقد قال عدى بن الرّقاع:

çوسنان أقصده النّعاس فرنّقت‏...فى عينه سنة وليس بنائم‏é

12. كان مقتضى النسق أن ينفى عنه سبحانه النوم، ثم ينفى السّنة؛ لأن نفى النوم لا يقتضى نفى السّنة، وعلى العكس نفى السّنة يقتضى نفى النوم، ولكن عدل عن ذلك؛ بنفي السّنة ثم نفى النوم لمعنى بلاغي؛ ذلك أن الترتيب الطبيعي لهذه الحقائق في الوجود أن السّنة تسبق النوم، وإن ذلك الترتيب الطبيعي يعطى للقارئ صورة حية للتالى لكتاب الله تعالى، إذ يتصور الذين يعرض لهم النوم كيف يبتدئ بالسنة ثم النعاس ثم النوم؛ وإذا تصور ذلك المنظر الطبيعي تصور معه الضعف الإنساني أمام سلطان النوم بمقدماته؛ وإذا تصور ذلك تبينت له استحالة ذلك على الله سبحانه وتعالى القوى القادر القاهر لكل شيء، فكان ذلك الترتيب الطبيعي فيه إشارة إلى دليل مانع من أن يوصف المولى العلى القدير بهما.

13. فى التعبير بقوله سبحانه: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ إشارة أخرى إلى استحالة قيامهما بالذات العلية فقوله تعالى: ﴿لَا تَأْخُذُهُ﴾ فيها دلالة على القوة القاهرة للنوم، وأنها تأخذ الحىّ أخذا، وتقهره قهرا؛ وذلك مستحيل أن يكون للقاهر فوق عباده.

14. النوم معروف، وهو حقيقة ترى، كما يرى الضوء، وكما تحس الحرارة، ولكن ما سببه؟ وقد اتفق المتقدمون والمتأخرون على أن سببه التعب الجسمي وإن كانت عباراتهم مختلفة في تأثير التعب على الجسم حتى يكون منه النوم، فيقول البيضاوي في تفسيره: (النوم حال يعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا)، وقال علماء العصر: (إن النوم وقوف سلطان المخ على الأعضاء بسبب ما تولده الحركة من السموم الغازية المؤثرة في العصب)، وقيل بسبب ما تفرزه الحويصلات العصبية من الماء الكثير وقت العمل، فكثرة هذا الماء تضعف قوة تأثير المخ في العضلات، فيحدث الفتور، فيكون النوم، ويستمر ذلك إلى أن يتبخر ذلك الماء، وعند ذلك تتنبه الأعصاب ويرجع إليها تأثرها وإدراكها)

15. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ في هذه الجملة السامية إثبات كمال سلطانه سبحانه، وتمام سيطرته على الكون؛ لأنه ملكه، ولا مالك فيه غيره، وذكر السموات بالجمع، للإشارة إلى ملكية كل دقائقها، وكل نواميسها وسننها، فهو الذي يغير فيها ويبدل، وهو الذي أوجدها على ذلك النسق البديع المحكم الذي ربط أجزاءها بأواصر قوية، وكان إفراد الأرض مع جمع السموات للإشارة إلى وحدتها في الجملة بالنسبة لعالم السموات، وإن كانت الأرض طبقات؛ وللإشارة إلى أن ما في الأرض ليس إلا مظهرا من حركات السماء، وأن الأرض شيء صغير بجوار السموات وما فيها.

16. الجملة السامية تفيد الملكية المطلقة لرب العالمين، فيملك ما فيها من حي وجماد، ومن ناطقين وغير ناطقين، والجميع في قبضة العليم الخبير، وتقديم الجار والمجرور وهو ﴿لَهُ﴾ [الإخلاص: 4] لإفادة القصر، أي ملك السموات والأرض له سبحانه، فليس لأحد سواه، فهو المنفرد بالسلطان فيها، والملكية لها؛ فهذا القصر يدل على الوحدانية في الخلق والتكوين، كما يدل قوله تعالى: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ على الوحدانية في العبادة.

17. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ الاستفهام في هذه الآية إنكاري بمعنى النفي أي لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه؛ وسيق النفي بطريق الاستفهام للإشارة إلى استحالة ذلك كأنه قد سئل وبحث عن نظير تكون له قدرة الخالق البارئ حتى يكون شفيعا عنده قريبا منه يؤثر في إرادته، فلم يوجد؛ لأن ذلك مستحيل استحالة مطلقة.

18. الشفيع يكون بمعنى النصير للمشفوع لأجله، المعاضد له، ويكون في مرتبة المشفوع عنده أو قريبا منه؛ لأنه يؤثر في إرادته، ويحوله من نظر إلى نظر، وله معه أو عنده سلطان أو شركة في أمره؛ وإن ذلك مستحيل على الله سبحانه وتعالى، فلا نظير له سبحانه؛ إنه القادر فعال لما يريد، فلا إرادة لأحد بجوار إرادته سبحانه، إنما الإرادة له وحده؛ ولذلك كان أكثر العلماء على أن هذه الجملة السامية سيقت لبيان عموم سلطانه، وأنه قد انفرد بالتدبير، فلا إرادة لأحد في سلطانه غير إرادته، ولقد قال البيضاوي، وهو من أئمة أهل السنة، في تفسير قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ (بيان لكبرياء شأنه، وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه، يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة، فضلا عن أن يعاوقه عنادا أو مناصبة أي مخاصمة)، وإنه من كمال سلطانه وشمول إرادته أنه لا إرادة لأحد إلا مشتقة من إرادته؛ ولذا كان الاستثناء في قوله تعالى: ﴿إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ أي أنه لا يكون لأحد إرادة إلا إذا كانت مستمدة من إذنه؛ فهو المسيطر على كل شيء، يعطى من يشاء ويمنع من‏ يشاء، ويأذن لمن يشاء، ويعطى لمن يشاء إرادة في سلطان إرادته، هو المنفرد بالأمر والتدبير.

19. أصل كلمة الشفاعة من الشفع بمعنى الضم، ولقد وضحها الأصفهاني في غريب القرآن، فقال: (الشفع ضم الشيء إلى مثله.. والشفاعة الانضمام إلى آخر مناصرا له وسائلا عنه؛ وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو أدنى، ومنه الشفاعة في القيامة؛ قال تعالى: ﴿لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ [مريم‏]، وقال تعالى: ﴿لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ [طه‏])

20. ترى أن هذه الآية الكريمة على تخريج كثير من المفسرين لا صلة لها بالشفاعة يوم القيامة، التي هي موضع خلاف فينفيها المعتزلة، ويؤولون الآية الواردة بها بأنها معلقة على الإذن، ولم يثبت تحقق ذلك الإذن بدليل قطعي، وما ورد من الأحاديث المثبتة للشفاعة المفصلة لما يجرى فيها يوم القيامة من شفاعة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، إنما هي أحاديث آحاد، وأحاديث الآحاد لا تثبت بها العقائد، والإيمان بالشفاعة يوم القيامة لا يسوغ أن يثبت إلا بدليل قطعي لا شبهة فيه.

21. الجمهور على إثبات شفاعة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم بإذن ربه، تكريما له صلّى الله عليه وآله وسلم، ورحمة بالناس، وعفوا من الله العلى القدير؛ والأحاديث الواردة في هذا الباب صحيحة كثيرة، قد أثبتت في الصحاح من كتب السنة، فلا يصح أن ينكرها أحد، وإن لم تبلغ في قوة الاستدلال بها مبلغ الدليل القطعي الذي لا شبهة فيه، ولا يدخله الاحتمال قط، ولقد قرر الزمخشري وهو من المعتزلة أن هذه الجملة السامية لا تثبتها، وقال في ذلك ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ بيان لملكوته وكبريائه، وأن أحدا لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام، كقوله تعالى: ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ [النبأ]

22. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ هذه الجملة تأكيد لنفى الشفاعة وتأكيد لكمال سلطان الله سبحانه وتعالى في هذا الوجود، والضمير في أيديهم وخلفهم يعود إلى ما في السموات وما في الأرض؛ وعبر بضمير الذكور العقلاء تغليبا لجانب العقلاء في السموات والأرض من ملائكة أطهار وأناسي سواء أكانوا أشرارا أم كانوا أبرارا؛ وما بين أيديهم هو ما يعلمونه من شئون سابقة أو حاضرة، وما وقع منهم مما يوجب الحساب والجزاء من ثواب أو عقاب، وعبر عن هذا بما بين أيديهم؛ لأنه حاضر يستطيعون أن يعرفوه؛ ولا عجب في أن يعرف الإنسان ما وقع في الماضي فهو من حيث التمكن من معرفته كالشيء الذي يكون بين يدى الإنسان من حيث إنه يكون محضرا مهيئا، وكذلك يكون مما بين يدى الإنسان المحسوسات والمعلومات التجربية التي يمكن الإنسان بعقله أن يدركها، وأما ما خلفهم فهو ما يكون علمه مغيبا عنهم، إما لأنه في ذاته خفى لا يدرك كنهه، ولا تعلم حقيقته؛ وليس في طاقة العقل البشرى ـ من غير استعانة بالنقل ـ معرفته؛ وإما لأنه أمور ستقع في المستقبل قد غيب عن البشر العلم بها، ومنه ما يكون يوم القيامة، أو اختص بها عالم الغيب في السموات وفى الأرض، وعبر عن ذلك النوع من العلم بأنه‏ ﴿خَلْفَهُمْ﴾ لأنه يخلفهم في زمانه، ولأنه مستقبل وليس من مستدبر الماضي وإن العلم بالماضي والحاضر والمستقبل وما وقع وما لا يقع ينفى الشفاعة بمعنى أن يستنزل الشفيع المشفوع عنده عما اعتزم وأراد؛ لأن ذلك يقتضى ألا يكون عالما بما مضى أو بما يكون، إذ الشفيع ينبه المشفوع عنده بما غاب عنه من أمر، وذلك لا يليق في حق العليم الخبير، وهو ينافى علمه بالماضي والقابل وما يقع في الحس، وما يكون في الغيب؛ ولذلك أجمع علماء المسلمين على نفى الشفاعة بهذا المعنى، إذ الشفاعة التي قررها جمهور أهل السنة هي الشفاعة لمن ارتضى، والتي قدر الله سبحانه وتعالى إجابتها تكريما للشافع، ورحمة بالمشفوع لأجله.

23. ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ هذه الجملة السامية بيان لنقصان علم المخلوق بجوار علم الخالق، والعلم المراد به المعلوم، أي لا يحيطون بشيء من‏ المعلومات التي يعلمها الله سبحانه وتعالى، والإحاطة معناها هي العلم الكامل بالأمر فيدركه العقل إدراكا ويستولى عليه استيلاء، كما تحيط الدائرة بكل أقطارها وما في داخلها، وهذه الجملة السامية تدل على نقص العلم البشرى من ناحيتين:

أ. أولاهما: أن أحدا من البشر لا يستطيع أن يعلم كل شيء، بل إن ما يجهل أضعاف كثيرة مما يعلم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء]

ب. الثانية: أن الجزء الذي يعلمه البشر من الأشياء علمه فيه ناقص كل النقص، وهذا ما قرره سبحانه في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ أي أنهم لا يعلمون شيئا واحدا علم إحاطة واستغراق لكل ما يشتمل عليه، وعلم الإحاطة هو العلم الكامل، ولقد فسره الأصفهاني بقوله: (الإحاطة بالشيء علما هي أن تعلم وجوده، وجنسه، وكيفيته، وغرضه المقصود به وبإيجاده وما يكون به ومنه، وذلك ليس إلا لله تعالى)

24. علم الإنسان لا يكون إلا بالقدر الذي يشاؤه الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك كان الاستثناء في قوله سبحانه ﴿إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ إذ إنه إذا كان علم الإحاطة الكامل لشيء لا يمكن أن يكون إلا لله العليم الخبير، فالله سبحانه يعطى البشر من العلم ببعض الأشياء بالقدر الذي يريده سبحانه ويقدره، وقد خلق البشر على استعداد له.

25. ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ الكرسي في تعارف الناس ما يقعد عليه، وهو منسوب إلى الكرس بمعنى المجتمع، ومنه الكرّاسة للمتجمع من الأوراق ويقال كرس الرجل كثر علمه، والعلماء في تفسير معنى الكرسي هنا على وجهين:

أ. أحدهما: أن لله سبحانه وتعالى كرسيا وعلينا أن نؤمن بوجوده وإن كنا لا ندرك كنهه ولا نعرف حقيقته، إذ ليس ذلك في مقدور العقل البشرى؛ ومن هؤلاء العلماء من قال إن الكرسي هو العرش، وقد قبله الزمخشري احتمالا للآية؛ وروى في ذلك قول الحسن البصرى: (الكرسي هو العرش) وقد اختار ذلك الوجه جمهور المفسرين.

ب. الثاني: أن الكرسي في الآية كناية عن عظم السلطان ونفوذ القدرة وشمول الإرادة، فهو كقول بعض الناس: شمل كرسي الملك الفلاني ربع أقطار الأرض والمراد نفوذ سلطانه، وعظم دولته، أو يكون الكرسي كناية عن عظم العلم وشموله واتساعه، وتفسيره بعظم السلطان يتناسب مع قوله تعالى بعد ذلك ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُما﴾ وتفسيره بمعنى شمول العلم يتناسب مع قوله سبحانه قبل ذلك: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾، ولذلك يصح أن نقول إن قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ كناية عن عظيم قدرته ونفوذ إرادته، وواسع علمه، وكمال إحاطته.

26. ذلك الوجه قد ورد عن السلف، كما ورد الوجه الأول عن السلف؛ فقد روى عن ابن عباس أنّه قال (كرسيه علمه) وروى مثل ذلك عن ابن مسعود، وقد اختار ذلك المفسر السلفي ابن جرير الطبري وقد لخص الآراء ووجهها توجيها جيدا الزمخشري في تفسيره، فقال: (وفى قوله وسع كرسيه أربعة أوجه:

أ. أحدها: أن كرسيه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته، وما هو إلا تصوير لعظمته، ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد كقوله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر] من غير تصور قبضة وطي ويمين، وإنما هو تصوير لعظمة شأنه وتمثيل حسى.

ب. الثاني: وسع علمه، وسمى العلم كرسيا تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم.

ج. الثالث: وسع ملكه، تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك.

د. الرابع: أنه خلق كرسيا هو بين يدى العرش، دونه السموات والأرض، وهو إلى العرش كأصغر شيء، وعن الحسن (الكرسي هو العرش)

وعندى أن أجود هذه الوجوه هو أن يكون كناية عن سعة الملك وسعة العلم، وهو المناسب لنسق الآية الكريمة، وهو تفسير ترجمان القرآن عبد الله بن عباس)

27. ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255] هذا وصف يدل على كمال قدرته، وعظيم حياطة خلقه، ومعنى‏ ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255] لا يثقله ولا يتعبه حفظ السموات والأرض وكلاءتهما؛ لأن ذاته العلية منزهة عن التعب، إذ هو من صفات الأجسام الحيوانية، والله سبحانه وتعالى منزه عن مشابهة الحوادث.

28. أصل آد من الأود بمعنى العوج، فآده يؤده بمعنى عوجه بثقله وعبئه، وإن ذلك النص الكريم يدل على أن كل شيء في الكون في حفظ الله وحياطته؛ فالسماء بأفلاكها وطبقاتها وكواكبها، وكل ما فيها يسير على نظام محكم محفوظ بعناية بديع السموات والأرض، والأرض وما عليها ومن عليها، وما فيها ظاهرا وباطنا، كل ذلك في حفظ الله خاضع لقوانينه التي سنها في خلقه، ولا شيء يكون فيها أو منها إلا بإرادته سبحانه‏ ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾ [الرعد]

29. ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: 4] هذان هما الوصفان الشاملان لكل الأوصاف السابقة؛ فالله سبحانه هو العلى: علا بصفاته وذاته عن مشابهة المخلوقات، وعلا أيضا على خلقه بمعنى سيطر عليهم، وسيرهم؛ فالعلو يشمل معنيين:

أ. أولهما: علو المنزلة والقدر، وذلك متحقق بتنزهه سبحانه عن مشابهة المخلوقين وأنه فوق كل موجود.

ب. ثانيهما: علو السلطان؛ والقدرة ـ والقهر ـ ومن هذا الباب لغة (لا معنى لأنه يناسب المقام هنا) قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾ [القصص‏] والله سبحانه غالب على كل شيء، قاهر كل شيء، وهو فوق عباده.

30. هذا هو الوصف الأول، أما الوصف الثاني فهو عظم الذات العلية وصفاتها، فذاته العلية جلت عن المشابهة، وهو الخالق القاهر القادر، وهو وحده الإله المعبود بحق، وهو الذي يسبح كل شيء في الوجود بحمده، فهو العظيم وحده، والمعبود حقا وحده، المعظم وحده، وإذا كانت غواشي الحياة قد أضلت الأكثرين فلم يدروا عظمته في الفانية، فستتجلى لهم عظمة ذي الجلال في الباقية، وهم من خشيته مشفقون:‏ ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾ [طه: 108-112] [طه‏]

31. هذه آية الكرسي، أعظم آية في كتاب الله، كما ورد في بعض الآثار المثبتة في الصحاح؛ وإنها لتدل على وحدانية الله تعالى بكل شعبها؛ ذلك بأن الوحدانية لها شعب ثلاث:

أ. وحدانية الألوهية، وقد دلت عليها بقوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾

ب. ووحدانية الخلق والتكوين فلا خالق مع الله تعالى، ولا إرادة تمنع إرادته، وقد دل على ذلك بأكثر ما في الآية الكريمة كقوله سبحانه: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، وقوله تعالى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾

ج. والشعبة الثالثة وحدانية الذات والصفات، بمعنى أنه لا يشبهه شيء أو أحد من خلقه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى‏] وقد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ وبقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: 4] تعالى الله رب العالمين علوا كبيرا؛ تولانا سبحانه بعنايته وتوفيقه وهدايته.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/930.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 2]، قال الفيلسوف الإلهي الشهير بالملا صدرا: لفظ الجلالة (الله) يدل بذاته على توحيد الذات والصفات معا:

أ. أما دلالته على توحيد الذات فلأن هذا الاسم الأعظم لا يطلق على غيره تعالى لا حقيقة ولا مجازا، قال سبحانه ﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾

ب. واما دلالته على توحيد الصفات فلأن هذا الاسم يدل على الذات الجامعة لكل صفات الكمال والجلال بخلاف سائر الأسماء كالعالم والقادر والخالق فان آحادها لا تدل إلا على آحاد المعاني من العلم أو القدرة أو الفعل.

2. سؤال وإشكال: ان صفات الكمال والجلال كثيرة، ومتغايرة بحسب مفاهيمها، فكيف يصح القول بتوحيدها، مع هذا التعدد والتغاير!؟ والجواب: إذا قلت: هذا رجل عالم، فهم منه وجود شيئين: صفة وموصوف، موضوع ومحمول، وكل منهما غير الآخر في حقيقته، لأن الرجولة غير العلم، والعلم غير الرجولة.. هذا بالنسبة الى المخلوق، أما بالنسبة الى الخالق فليس إلا الوجود القدسي، وهذا الوجود هو نفسه العلم، وهو نفسه القدرة، وهو نفسه الحكمة.. فلا صفة وموصوف، ولا موضوع ومحمول، بل شيء واحد فقط لا غير.. وهذا الوجود القدسي لا مجانس له، ولا شبيه له، لأنه واجب بالذات، ولا يجب غيره إلا به.

3. ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ قيل معناه لا معبود بحق إلا هو، ولكن المفهوم لا أحد يجمع صفات الالوهية الا هو، وكيف كان فان المعنيين متلازمان.

4. ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، إذا نسبت الحياة الى غير الله سبحانه يكون معناها النمو والحركة والاحساس والإدراك، وإذا نسبتها اليه جل جلاله فيراد بها العلم والقدرة.

5. القيوم مبالغة في القائم، وهو في اللغة غير القاعد والنائم، والمراد به هنا قيامه تعالى على كل موجود بخلقه وتدبيره: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾، ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾، قال الملا صدرا: (فقوله: الحي دل على كونه عالما قادرا، وقوله: القيوم دل على كونه قائما بذاته، مقوما لغيره، فالوصفان متوافقان في المعنى قوة وفعلا، متداخلان في المفهوم كلا أو بعضا)، يريد ان القيمومة لا تنفك عن الحياة، كما ان الحياة بمعنى القدرة والعلم لا تنفك عن القيمومة.

6. سؤال وإشكال: هل معنى قيام الله على تدبير الأشياء ان جميع الظواهر الطبيعية، حتى الجزئيات منها هو الذي يتولى أمر تدبيرها مباشرة بنفسه، ومن غير توسط أي سبب من الأسباب المادية، كما يظهر من قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾، فان المتبادر الى الفهم من هذه الآية ان الله سبحانه قد تدخل تدخلا مباشرا ومستمرا لنقل النطفة من طور الى طور، مع العلم بأن النظرية العلمية تقول: ان النطفة تنمو وتتطور وفقا لقوانين طبيعية معينة؟ والجواب: لا بد من التمييز بين حادثة خارقة للطبيعة، كإحياء الموتى، وإيجاد شيء من لا شيء، وبين حادثة تأتي وفقا لقوانين الطبيعة، مثل كسوف الشمس، وخسوف القمر، وما اليهما.. فما كان من النوع الأول يسند اليه سبحانه مباشرة، وبلا واسطة، وما كان من النوع الثاني يسند الى الأسباب الطبيعية مباشرة، واليه تعالى بواسطتها، لأنه هو الذي أوجد الطبيعة بما فيها من قوى وعناصر، وهذه العناصر تتفاعل، وتأخذ مجراها في ظواهر الكون.. وعليه يكون خلقه لهذه الظواهر، ومنها تطور النطفة، هو خلقه لأسبابها، ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ أي يجريه من خلال السنن والقوانين الطبيعية، ولو كان هو الذي يتولى خلقها مباشرة وبلا واسطة لما وجدت الأسباب والمسببات، وبهذا يتبين معنا ان من يؤمن بأن كل حادثة طبيعية تستند الى الله مباشرة، وبلا توسط سبب من الأسباب المحسوسة التي اكتشفها العلم، ويمكن أن يكتشفها، فهو جاهل مخطئ في إيمانه.. ولو صح إيمانه هذا لم يجب العمل لشيء، ولا كان للعلم من جدوى، ولا للمخترعات وتقدم الانسانية من أثر.. كما ان من يعتقد ان الطبيعة هي كل شيء، وانها السبب الأول والأخير، ولا شيء وراءها فهو أيضا جاهل مخطئ في اعتقاده، والا لم يكن للنظام عين ولا أثر، ولسادت الفوضى والاضطراب، وتكون النتيجة لا علم ولا حياة.

7. ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾، السنة النعاس، وهو الفتور الذي يتقدم النوم.. لما بيّن سبحانه انه الحي القيوم أكد ذلك بأنه تعالى لا يمنعه نوم ولا سهو ولا شيء عن تدبير خلقه على الوجه الأتم الأكمل، لأن ذلك يتنافى مع عظمته‏ واستغنائه عن كل شيء.. قال الإمام علي عليه السلام مخاطبا ربه: (لسنا نعلم كنه عظمتك الا انّا نعلم انك حي قيوم لا تأخذك سنة ولا نوم، لم ينته اليك نظر، ولم يدركك بصر، أدركت الأبصار، وأحصيت الأعمال، وأخذت بالنواصي والاقدام)

8. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، المراد بما فيهما الكون كله، لا يخرج منه شيء عن سلطانه وتدبيره.. سئل الإمام علي عليه السلام عن معنى لا حول ولا قوة الا بالله؟، فقال: انّا لا نملك مع الله شيئا، ولا نملك الا ما ملكنا، فمتى ملّكنا ما هو أملك به منا كلفنا، ومتى أخذه منا وضع تكليفه عنا.

9. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، جاء بصيغة الاستفهام، ومعناه النفي والإنكار، أي لا يشفع أحد عنده الا بأمره.. وهذا رد وإبطال لقول المشركين بأن الأصنام تقربهم الى الله زلفى، قال تعالى حكاية عنهم ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ ـ يونس 18)، وقال بعض العارفين: (ان الناس غدا على أصناف: منهم السابقون، وهم المقربون، ومنهم أصحاب اليمين، وهم سعداء ناجون، ومنهم أصحاب الشمال، وهم أشقياء معاقبون، ومنهم أهل العفو، وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، وهؤلاء تقبل الشفاعة فيهم، لقوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾)

10. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾، المعنى ان الله سبحانه يعلم من عباده ما كان ويكون من خير وشر، ويعلم الشافع والمشفوع له، ومن يستحق العفو والثواب، أو العذاب والعقاب، وما دام الأمر كذلك فلا يبقى مجال للشفاعة إلا بأمره تعالى ضمن الحدود التي يرتضيها.

11. ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾، الضمير في لا يحيطون راجع الى جميع العباد بما فيهم الملائكة والأنبياء، والمراد من العلم المعلوم، كالخلق بمعنى المخلوق، والأكل بمعنى المأكول.. والمعنى واضح، وان شئت زيادة في التوضيح فاقرأ قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾، وقوله: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾

12. ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، كثرت أقوال المفسرين وتضاربت في معنى الكرسي، وبعض هذه الأقوال قول على الله من غير علم، وخيرها قولان:

أ. الأول انه كناية عن عظمة الله وقدرته.

ب. الثاني ان المراد بالكرسي العلم، أي ان علمه سبحانه أحاط بكل شيء والسياق يرجح هذا المعنى.

13. ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255]، أي لا يثقله ولا يشق عليه حفظ السموات والأرض، وتدبير ما فيهما، كيف؟ وخلق الذبابة والكون بالنسبة اليه سواء، ما دام سبحانه إذا أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون.

14. فاعل الشيء على نوعين: الأول من نوع المادة، الثاني منزه عنها، ويفترقان من وجوه:

أ. ان الفاعل المادي يحتاج الى حركة وآلة دون الثاني.

ب. ان المادي يناله التعب والاعياء دون الثاني.

ج. يستحيل على المادي أن يوجد شيئا من لا شيء، ولا يستحيل ذلك عمن تنزه عن المادة.. ومن هنا يتبين ان قياس الخالق على المخلوق الذي يعجز عن إيجاد شيء من لا شيء قياس مع الفارق.. وكيف يصح قياس الغني عن كل شيء، ويفتقر اليه كل شيء، ويقول للشيء كن فيكون، كيف يصح قياس هذا القادر على العاجز المفتقر الى كل شيء.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/391.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 2]، قد تقدم في سورة الحمد بعض الكلام في لفظ الجلالة، وأنه سواء أخذ من أله الرجل بمعنى تاه ووله أو من أله بمعنى عبد فلازم معناه الذات المستجمع لجميع صفات الكمال على سبيل التلميح، وقد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، في قوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، وضمير هو وإن رجع إلى اسم الجلالة لكن اسم الجلالة لما كان علما بالغلبة يدل على نفس الذات من حيث إنه ذات وإن كان مشتملا على بعض المعاني الوصفية التي يلمح باللام أو بالإطلاق إليها، فقوله تعالى: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، يدل على نفي حق الثبوت عن الآلهة التي تثبت من دون الله.

2. اسم ﴿الْحَيُّ﴾ [غافر: 65] معناه ذو الحياة الثابتة على وزان سائر الصفات المشبهة في دلالتها على الدوام والثبات.

3.الناس في بادئ مطالعتهم لحال الموجودات وجدوها على قسمين(2): قسم منها لا يختلف حاله عند الحس ما دام وجوده ثابتا كالأحجار وسائر الجمادات، وقسم منها ربما تغيرت حاله وتعطلت قواه وأفعاله مع بقاء وجودها على ما كان عليه عند الحس، وذلك كالإنسان وسائر أقسام الحيوان والنبات فإنا ربما نجدها تعطلت قواها ومشاعرها وأفعالها ثم يطرأ عليها الفساد تدريجا، وبذلك أذعن الإنسان بأن هناك وراء الحواس أمرا آخر هو المبدأ للإحساسات والإدراكات العلمية والأفعال المبتنية على العلم والإرادة وهو المسمى بالحياة ويسمى بطلانه بالموت، فالحياة نحو وجود يترشح عنه العلم والقدرة.

4. ذكر الله سبحانه هذه الحياة في كلامه ذكر تقرير لها، قال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾، وقال: ﴿أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى﴾، وقال: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾، وقال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾، فهذه تشمل حياة أقسام الحي من الإنسان والحيوان والنبات، وكذلك القول في أقسام الحياة، قال تعالى: ﴿وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا﴾، وقال: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾، والإحياءان المذكوران يشتملان على حياتين: إحداهما: الحياة البرزخية، و الثانية: الحياة الآخرة، فللحياة أقسام كما للحي أقسام.

5. الله سبحانه مع ما يقرر هذه الحياة الدنيا يعدها في مواضع كثيرة من كلامه شيئا رديا هينا لا يعبأ بشأنه كقوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾، وقال: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، وقال: ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، وقال: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾، وقال: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾، فوصف الحياة الدنيا بهذه الأوصاف فعدها متاعا والمتاع ما يقصد لغيره، وعدها عرضا والعرض ما يتعرض ثم يزول، وعدها زينة والزينة ـ هو الجمال الذي يضم على الشيء ليقصد الشيء لأجله فيقع غير ما قصد ويقصد غير ما وقع، وعدها لهوا واللهو ـ ما يلهيك ويشغلك بنفسه عما يهمك، وعدها لعبا واللعب هو الفعل الذي يصدر لغاية خيالية لا حقيقية، وعدها متاع الغرور وهو ما يغر به الإنسان، ويفسر جميع هذه الآيات ويوضحها قوله تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾، يبين أن الحياة الدنيا إنما تسلب عنها حقيقة الحياة أي كمالها في مقابل ما تثبت للحياة الآخرة حقيقة الحياة وكمالها، وهي الحياة التي لا موت بعدها، قال تعالى: ﴿آمِنِينَ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى﴾، وقال: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾، فلهم في حياتهم الآخرة أن لا يعتريهم الموت، ولا يعترضهم نقص في العيش وتنغص، لكن الأول من الوصفين أعني الأمن هو الخاصة الحقيقة للحياة الضرورية له، فالحياة الأخروية هي الحياة بحسب الحقيقة لعدم إمكان طرو الموت عليها بخلاف الحياة الدنيا، لكن الله سبحانه مع ذلك أفاد في آيات أخر كثيرة أنه تعالى هو المفيض للحياة الحقيقية الأخروية والمحيي للإنسان في الآخرة، وبيده تعالى أزمة الأمور، فأفاد ذلك أن الحياة الأخروية أيضا مملوكة لا مالكة ومسخرة لا مطلقة أعني أنها إنما ملكت خاصتها المذكورة بالله لا بنفسها.

6. من هنا يظهر أن الحياة الحقيقية يجب أن تكون بحيث يستحيل طرو الموت عليها لذاتها ولا يتصور ذلك إلا بكون الحياة عين ذات الحي غير عارضة لها ولا طارئة عليها بتمليك الغير وإفاضته، قال تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾، وعلى هذا فالحياة الحقيقية هي الحياة الواجبة، وهي كون وجوده بحيث يعلم ويقدر بالذات.

7. من هنا يعلم: أن القصر في قوله تعالى: ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [غافر: 65] قصر حقيقي غير إضافي، وأن حقيقة الحياة التي لا يشوبها موت ولا يعتريها فناء وزوال هي حياته تعالى.

8. الأوفق فيما نحن فيه من قوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 2] الآية، وكذا في قوله تعالى: ﴿الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 1-2] أن يكون لفظ الحي خبرا بعد خبر فيفيد الحصر لأن التقدير، الله الحي فالآية تفيد أن الحياة لله محضا إلا ما أفاضه لغيره.

9. أما اسم القيوم(3) فهو على ما قيل: فيعول كالقيام فيعال من القيام وصف يدل على المبالغة والقيام ـ هو حفظ الشيء وفعله وتدبيره وتربيته والمراقبة عليه والقدرة عليه، كل ذلك مأخوذ من القيام بمعنى الانتصاب للملازمة العادية بين الانتصاب وبين كل منها، وقد أثبت الله تعالى أصل القيام بأمور خلقه لنفسه في كلامه حيث قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد: 33]، وقال تعالى وهو أشمل من الآية السابقة: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]، فأفاد أنه قائم على الموجودات بالعدل فلا يعطي ولا يمنع شيئا في الوجود (وليس الوجود إلا الإعطاء والمنع) إلا بالعدل بإعطاء كل شيء ما يستحقه ثم بين أن هذا القيام بالعدل مقتضى أسميه الكريمين: العزيز الحكيم فبعزته يقوم على كل شيء وبحكمته يعدل فيه.

10. بالجملة لما كان تعالى هو المبدئ الذي يبتدي منه وجود كل شيء وأوصافه وآثاره لا مبدأ سواه إلا وهو ينتهي إليه، فهو القائم على كل شيء من كل جهة بحقيقة القيام الذي لا يشوبه فتور وخلل، وليس ذلك لغيره قط إلا بإذنه بوجه، فليس له تعالى إلا القيام من غير ضعف وفتور، وليس لغيره إلا أن يقوم به، فهناك حصران: حصر القيام عليه، وحصره على القيام، وأول الحصرين هو الذي يدل عليه كون القيوم في الآية خبرا بعد خبر لله (الله القيوم)، والحصر الثاني هو الذي تدل عليه الجملة التالية أعني قوله تعالى: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾

11. ظهر من هذا البيان أن اسم القيوم أم الأسماء الإضافية الثابتة له تعالى جميعا وهي الأسماء التي تدل على معان خارجة عن الذات بوجه كالخالق والرازق والمبدئ والمعيد والمحيي والمميت والغفور والرحيم والودود وغيرها.

12. ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾، السنة بكسر السين الفتور الذي يأخذ الحيوان في أول النوم، والنوم‏ هو الركود الذي يأخذ حواس الحيوان لعوامل طبيعية تحدث في بدنه، والرؤيا غيره وهي ما يشاهده النائم في منامه.

13. سؤال وإشكال: أورد على قوله تعالى: ﴿سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ إنه على خلاف الترتيب الذي تقتضيه البلاغة فإن المقام مقام الترقي، والترقي‏ في الإثبات إنما هو من الأضعف إلى الأقوى كقولنا: فلان يقدر على حمل عشرة أمنان بل عشرين، وفلان يجود بالمئات بل بالألوف وفي النفي بالعكس كما نقول: لا يقدر فلان على حمل عشرين ولا عشرة، ولا يجود بالألوف ولا بالمئات، فكان ينبغي أن يقال: لا تأخذه نوم ولا سنة، والجواب: أن الترتيب المذكور لا يدور مدار الإثبات والنفي دائما كما يقال: فلان يجهده حمل عشرين بل عشرة ولا يصح العكس، بل المراد هو صحة الترقي وهي مختلفة بحسب الموارد، ولما كان أخذ النوم أقوى تأثيرا وأضر على القيومية من السنة كان مقتضى ذلك أن ينفي تأثير السنة وأخذها أولا ثم يترقى إلى نفي تأثير ما هو أقوى منه تأثيرا، ويعود معنى لا تأخذه سنة ولا نوم إلى مثل قولنا: لا يؤثر فيه هذا العامل الضعيف بالفتور في أمره ولا ما هو أقوى منه.

14. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ لما كانت القيومية التامة التي له تعالى لا تتم إلا بأن يملك السماوات والأرض وما فيهما بحقيقة الملك ذكره بعدهما، كما أن التوحيد التام في الألوهية لا يتم إلا بالقيومية، ولذلك ألحقها بها أيضا، وهاتان جملتان كل واحدة منهما مقيدة أو كالمقيدة بقيد في معنى دفع الدخل، أعني قوله تعالى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، مع قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، وقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾، مع قوله تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾

15. أما قوله تعالى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، فقد عرفت معنى ملكه تعالى (بالكسر) للموجودات وملكه تعالى (بالضم) لها، والملك بكسر الميم وهو قيام ذوات الموجودات وما يتبعها من الأوصاف والآثار بالله سبحانه هو الذي يدل عليه قوله تعالى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، فالجملة تدل على ملك الذات وما يتبع الذات من نظام الآثار.

16. سؤال وإشكال: تم بقوله تعالى: ﴿الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ إن السلطان المطلق في الوجود لله سبحانه لا تصرف إلا وهو له ومنه، فيقع من ذلك في الوهم أنه إذا كان الأمر على ذلك فهذه الأسباب والعلل الموجودة في العالم ما شأنها؟ وكيف يتصور فيها ومنها التأثير ولا تأثير إلا لله سبحانه؟ والجواب: تصرف هذه العلل والأسباب في هذه الموجودات المعلولة توسط في التصرف، وبعبارة أخرى شفاعة في موارد المسببات بإذن الله سبحانه، فإنما هي شفعاء، والشفاعة ـ وهي بنحو توسط في إيصال الخير أو دفع الشر، وتصرف ما من الشفيع في أمر المستشفع ـ إنما تنافي السلطان الإلهي والتصرف الربوبي المطلق إذا لم ينته إلى إذن الله، ولم يعتمد على مشية الله تعالى بل كانت مستقلة غير مرتبطة وما من سبب من الأسباب ولا علة من العلل إلا وتأثيره بالله ونحو تصرفه بإذن الله، فتأثيره وتصرفه نحو من تأثيره وتصرفه تعالى فلا سلطان في الوجود إلا سلطانه ولا قيومية إلا قيوميته المطلقة عز سلطانه.

17. على ما بيناه فالشفاعة هي التوسط المطلق في عالم الأسباب والوسائط أعم من الشفاعة التكوينية وهي توسط الأسباب في التكوين، والشفاعة التشريعية أعني التوسط في مرحلة المجازاة التي تثبتها الكتاب والسنة في يوم القيامة على ما تقدم البحث عنها في قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾، وذلك أن الجملة أعني قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ﴾، مسبوقة بحديث القيومية والملك المطلق الشاملين للتكوين والتشريع معا، بل المتماسين بالتكوين ظاهرا فلا موجب لتقييدهما بالقيومية والسلطنة التشريعيتين حتى يستقيم تذييل الكلام بالشفاعة المخصوصة بيوم القيامة.

18. مساق هذه الآية في عموم الشفاعة مساق قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾، وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ﴾، وقد عرفت في البحث عن الشفاعة أن حدها كما ينطبق على الشفاعة التشريعية كذلك ينطبق على السببية التكوينية، فكل سبب من الأسباب يشفع عند الله لمسببه بالتمسك بصفات فضله وجوده ورحمته لإيصال نعمة الوجود إلى مسببه، فنظام السببية بعينه ينطبق على نظام الشفاعة كما ينطبق على نظام الدعاء والمسألة، قال تعالى: ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29]، وقال تعالى: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾، وقد مر بيانه في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾

19. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾، سياق الجملة مع مسبوقيتها بأمر الشفاعة يقرب من سياق قوله تعالى: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾، فالظاهر أن ضمير الجمع الغائب راجع إلى الشفعاء الذي تدل عليه الجملة السابقة معنى فعلمه تعالى بما بين أيديهم وما خلفهم كناية عن كمال إحاطته بهم، فلا يقدرون بواسطة هذه الشفاعة والتوسط المأذون فيه على إنفاذ أمر لا يريده الله سبحانه ولا يرضى به في ملكه، ولا يقدر غيرهم أيضا أن يستفيد سوءا من شفاعتهم ووساطتهم فيداخل في ملكه تعالى فيفعل فيه ما لم يقدره.

20. إلى نظير هذا المعنى يدل قوله تعالى: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾، وقوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾، فإن الآيات تبين إحاطته تعالى بالملائكة والأنبياء لئلا يقع منهم ما لم يرده، ولا يتنزلوا إلا بأمره، ولا يبلغوا إلا ما يشاؤه، وعلى ما بيناه فالمراد بما بين أيديهم: ما هو حاضر مشهود معهم، وبما خلفهم: ما هو غائب عنهم بعيد منهم كالمستقبل من حالهم، ويؤول المعنى إلى الشهادة والغيب، وبالجملة قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾، كناية عن إحاطته تعالى بما هو حاضر معهم موجود عندهم وبما هو غائب عنهم آت خلفهم، ولذلك عقبه بقوله تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾، تبيينا لتمام الإحاطة الربوبية والسلطة الإلهية أي أنه تعالى عالم محيط بهم وبعلمهم وهم لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.

21. لا ينافي إرجاع ضمير الجمع المذكر العاقل وهو قوله (هم) في المواضع الثلاث إلى الشفعاء ما قدمناه من أن الشفاعة أعم من السببية التكوينية والتشريعية، وأن الشفعاء هم مطلق العلل والأسباب، وذلك لأن الشفاعة والوساطة والتسبيح والتحميد لما كان المعهود من حالها أنها من أعمال أرباب الشعور والعقل شاع التعبير عنها بما يخص أولي العقل من العبارة، وعلى ذلك جرى ديدن القرآن في بياناته كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾، وقوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.

22. بالجملة قوله تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾، يفيد معنى تمام التدبير وكماله، فإن من كمال التدبير أن يجهل المدبر (بالفتح) بما يريده المدبر (بالكسر) من شأنه ومستقبل أمره لئلا يحتال في التخلص عما يكرهه من أمر التدبير فيفسد على المدبر (بالكسر) تدبيره، كجماعة مسيرين على خلاف مشتهاهم ومرادهم فيبالغ في التعمية عليهم حتى لا يدروا من أين سيروا، وفي أين نزلوا، وإلى أين يقصد بهم، فيبين تعالى بهذه الجملة أن التدبير له وبعلمه بروابط الأشياء التي هو الجاعل لها، وبقية الأسباب والعلل وخاصة أولو العلم منها وإن كان لها تصرف وعلم لكن ما عندهم من العلم الذي ينتفعون به ويستفيدون منه فإنما هو من علمه تعالى وبمشيته وإرادته، فهو من شئون العلم الإلهي، وما تصرفوا به فهو من شئون التصرف الإلهي وأنحاء تدبيره، فلا يسع لمقدم منهم أن يقدم على خلاف ما يريده الله سبحانه من التدبير الجاري في مملكته إلا وهو بعض التدبير.

23. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾، على تقدير أن يراد بالعلم المعنى المصدري أو معنى اسم المصدر لا المعلوم دلالة على أن العلم كله لله ولا يوجد من العلم عند عالم إلا وهو شيء من علمه تعالى، ونظيره ما يظهر من كلامه تعالى من اختصاص القدرة والعزة والحياة بالله تعالى، قال تعالى: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا﴾، وقال: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾، وقال: ﴿هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾، ويمكن أن يستدل على ما ذكرناه من انحصار العلم بالله تعالى بقوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: 100]، وقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، إلى غير ذلك من الآيات، وفي تبديل العلم بالإحاطة في قوله: ولا يحيطون بشيء من علمه، لطف ظاهر.

24. ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، الكرسي معروف وسمي به لتراكم بعض أجزائه بالصناعة على بعض، وربما كني بالكرسي عن الملك فيقال كرسي‏ الملك، ويراد منطقة نفوذه ومتسع قدرته، وكيف كان فالجمل السابقة على هذه الجملة أعني قوله تعالى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ الآية، تفيد أن المراد بسعة الكرسي إحاطة مقام السلطنة الإلهية، فيتعين للكرسي من المعنى: أنه المقام الربوبي الذي يقوم به ما في السماوات والأرض من حيث إنها مملوكة مدبرة معلومة، فهو من مراتب العلم، ويتعين للسعة من المعنى: أنها حفظ كل شيء مما في السماوات والأرض بذاته وآثاره، ولذلك ذيله بقوله: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255]

25. ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255]، يقال: آده يئوده أودا إذا ثقل عليه وأجهده وأتعبه، والظاهر أن مرجع الضمير في يئوده، هو الكرسي وإن جاز رجوعه إليه تعالى، ونفي الأود والتعب عن حفظ السماوات والأرض في ذيل الكلام ليناسب ما افتتح به من نفي السنة والنوم في القيومية على ما في السماوات والأرض.

26. محصل ما تفيده الآية من المعنى: أن الله لا إله إلا هو له كل الحياة وله القيومية المطلقة من غير ضعف ولا فتور، ولذلك وقع التعليل بالاسمين الكريمين: العلي العظيم فإنه تعالى لعلوه لا تناله أيدي المخلوقات فيوجبوا بذلك ضعفا في وجوده وفتورا في أمره، ولعظمته لا يجهده كثرة الخلق ولا يطيقه عظمة السماوات والأرض.

27. جملة: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: 4]، لا تخلو عن الدلالة على الحصر، وهذا الحصر إما حقيقي كما هو الحق، فإن العلو والعظمة من الكمال وحقيقة كل كمال له تعالى، وأما دعوى لمسيس الحاجة إليه في مقام التعليل ليختص العلو والعظمة به تعالى دعوى، فيسقط السماوات والأرض عن العلو والعظمة في قبال علوه وعظمته تعالى.

28. تسمية هذه الآية بآية الكرسي مما قد اشتهرت في صدر الإسلام حتى في زمان حياة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم حتى في لسانه كما تفيده الروايات المنقولة عنه صلّى الله عليه وآله وسلم وعن أئمة أهل البيت عليه السلام وعن الصحابة، وليس إلا للاعتناء التام بها وتعظيم أمرها، وليس إلا لشرافة ما تدل عليه من المعنى ورقته ولطفه، وهو التوحيد الخالص المدلول عليه بقوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، ومعنى القيومية المطلقة التي يرجع إليه جميع الأسماء الحسنى ما عدا أسماء الذات على ما مر بيانه، وتفصيل جريان القيومية في ما دق وجل من الموجودات من صدرها إلى ذيلها ببيان أن ما خرج منها من السلطنة الإلهية فهو من حيث إنه خارج منها داخل فيها، ولذلك ورد فيها أنها أعظم آية في كتاب الله، وهو كذلك من حيث اشتمالها على تفصيل البيان، فإن مثل قوله تعالى: ﴿اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏﴾، وإن اشتملت على ما تشتمل عليه آية الكرسي غير أنها مشتملة على إجمال المعنى دون تفصيله، ولذا ورد في بعض الأخبار: أن آية الكرسي سيدة آي القرآن.

29. في الكافي، عن زرارة قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، السماوات والأرض وسعن الكرسي ـ أو الكرسي وسع السماوات والأرض؟ فقال عليه السلام: إن كل شيء في الكرسي.. وهذا المعنى مروي عنهم في عدة روايات بما يقرب من هذا السؤال والجواب وهو بظاهره غريب، إذ لم يرو قراءة كرسيه بالنصب والسماوات والأرض بالرفع حتى يستصح بها هذا السؤال، والظاهر أنه مبني على ما يتوهّمه الأفهام العامية أن الكرسي جسم مخصوص موضوع فوق السماوات أو السماء السابعة (أعني فوق عالم الأجسام) منه يصدر أحكام العالم الجسماني، فيكون السماوات والأرض وسعته إذ كان موضوعا عليها كهيئة الكرسي على الأرض، فيكون معنى السؤال أن الأنسب أن السماوات والأرض وسعت الكرسي فما معنى سعته لها؟، وقد قيل بنظير ذلك في خصوص العرش فأجيب بأن الوسعة من غير سنخ سعة بعض الأجسام لبعض.

30. في المعاني، عن حفص بن الغياث قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، قال علمه، وفيه، أيضا عنه عليه السلام: في الآية ﴿السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وما بينهما في الكرسي، والعرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره.. ويظهر من الروايتين: أن الكرسي من مراتب علمه تعالى كما مر استظهاره، وفي معناهما روايات أخرى، وكذا يظهر منهما ومما سيجيء: أن في الوجود مرتبة من العلم غير محدودة أعني أن فوق هذا العالم الذي نحن من أجزائها عالما آخر موجوداتها أمور غير محدودة في وجودها بهذه الحدود الجسمانية، والتعينات الوجودية التي لوجوداتنا، وهي في عين أنها غير محدودة معلومة لله سبحانه أي أن وجودها عين العلم، كما أن الموجودات المحدودة التي في الوجود معلومة لله سبحانه في مرتبة وجودها أي أن وجودها نفس علمه تعالى بها وحضورها عنده، ولعلنا نوفق لبيان هذا العلم المسمى بالعلم الفعلي فيما سيأتي من قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾

31. ما ذكرناه من علم غير محدود هو الذي يرشد إليه قوله عليه السلام في الرواية، والعرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره، ومن المعلوم أن عدم التقدير والتحديد ليس من حيث كثرة معلومات هذا العلم عددا، لاستحالة وجود عدد غير متناه، وكل عدد يدخل الوجود فهو متناه، لكونه أقل مما يزيد عليه بواحد، ولو كان عدم تناهي العلم أعني العرش لعدم تناهي معلوماته كثرة لكان الكرسي بعض العرش لكونه أيضا علما وإن كان محدودا، بل عدم التناهي والتقدير إنما هو من جهة كمال الوجود أي إن الحدود والقيود الوجودية يوجب التكثر والتميز والتمايز بين موجودات عالمنا المادي، فتوجب انقسام الأنواع بالأصناف والأفراد، والأفراد بالحالات، والإضافات غير موجودة فينطبق على قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾

32. هذه الموجودات كما أنها معلومة بعلم غير مقدر أي موجودة في ظرف العلم وجودا غير مقدر كذلك هي معلومة بحدودها، موجودة في ظرف العلم بأقدارها وهذا هو الكرسي على ما يستظهر، وربما لوح إليه أيضا قوله تعالى فيها ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾، حيث جعل المعلوم ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾، وهما أعني ما بين الأيدي وما هو خلف غير مجتمع الوجود في هذا العالم المادي، فهناك مقام يجتمع فيه جميع المتفرقات الزمانية ونحوها، وليست هذه الوجودات وجودات غير متناهية الكمال غير محدودة ولا مقدرة وإلا لم يصح الاستثناء من الإحاطة في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾، فلا محالة هو مقام يمكن لهم الإحاطة ببعض ما فيه، فهو مرحلة العلم بالمحدودات والمقدرات من حيث هي محدودة مقدرة.

33. في التوحيد، عن حنان قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن العرش والكرسي، فقال عليه السلام إن للعرش صفات كثيرة مختلفة ـ له في كل سبب وصنع في القرآن صفة على حدة، فقوله تعالى: ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ يقول: رب الملك العظيم، وقوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾، يقول: على الملك احتوى، وهذا علم الكيفوفية في الأشياء، ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي، لأنهما بابان من أكبر أبواب الغيوب، وهما جميعا غيبان، وهما في الغيب مقرونان، لأن الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب ـ الذي منه مطلع البدع ومنه الأشياء كلها، والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحد والمشية وصفة الإرادة وعلم الألفاظ ـ والحركات والترك وعلم العود والبدء، فهما في العلم بابان مقرونان، لأن ملك العرش سوى ملك الكرسي، وعلمه أغيب من علم الكرسي، فمن ذلك قال: ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾، أي صفته أعظم من صفة الكرسي، وهما في ذلك مقرونان: قلت: جعلت فداك ـ فلم صار في الفضل جار الكرسي، قال عليه السلام: إنه صار جارها لأن علم الكيفوفية فيهـ وفيه، الظاهر من أبواب البداء وإنيتها وحد رتقها وفتقها، فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الظرف، وبمثل صرف العلماء، وليستدلوا على صدق دعواهما ـ لأنه يختص برحمته من يشاء ـ وهو القوي العزيز.. قوله عليه السلام: لأن الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب، قد عرفت الوجه فيه إجمالا، فمرتبة العلم المقدر المحدود أقرب إلى عالمنا الجسماني المقدر المحدود مما لا قدر له ولا حد، وسيجيء شرح فقرات الرواية في الكلام على قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾، وقوله عليه السلام: وبمثل صرف العلماء، إشارة إلى أن هذه الألفاظ من العرش والكرسي ونظائرها أمثال مصرفة مضروبة للناس وما يعقلها إلا العالمون.

34. في الاحتجاج، عن الصادق عليه السلام: في حديث(: كل شيء خلق الله في جوف الكرسي خلا عرشه فإنه أعظم من أن يحيط به الكرسي)، وقد تقدم توضيح معناه، وهو الموافق لسائر الروايات، فما وقع في بعض الأخبار أن العرش هو العلم الذي أطلع الله عليه أنبياءه ورسله، والكرسي هو العلم الذي لم يطلع عليه أحدا كما رواه الصدوق عن المفضل عن الصادق عليه السلام كأنه من وهم الراوي بتبديل موضعي اللفظين أعني العرش والكرسي، أو أنه مطروح كالرواية المنسوبة إلى زينب العطارة.

35. في تفسير العياشي، عن علي عليه السلام قال: إن السماء والأرض وما بينهما من خلق مخلوق في جوف الكرسي، وله أربعة أملاك يحملونه بأمر الله، أقول: ورواه الصدوق عن الأصبغ بن نباتة عنه عليه السلام، ولم يرو عنهم عليه السلام للكرسي حملة إلا في هذه الرواية، بل الأخبار إنما تثبت الحملة للعرش وفقا لكتاب الله تعالى كما قال: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ﴾، وقال تعالى: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾، ويمكن أن يصحح الخبر بأن الكرسي ـ كما سيجيء بيانه ـ يتحد مع العرش بوجه اتحاد ظاهر الشيء بباطنه، وبذلك يصح عد حملة أحدهما حملة للآخر.

36. في تفسير العياشي، أيضا عن معاوية بن عمار عن الصادق عليه السلام قال قلت ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ قال نحن أولئك الشافعون، ورواه البرقي أيضا في المحاسن.. وقد عرفت أن الشفاعة في الآية مطلقة تشمل الشفاعة التكوينية والتشريعية معا، فتشمل شفاعتهم عليه السلام، فالرواية من باب الجري‏.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/329.

(2) هذا بداية مبحث في معنى الحياة، وحياته تعالى

(3) هذا بداية مبحث في معنى القيام على الأمر، وقيوميته تعالى

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ لا معبود بحقٍ إلا هو لأنه رب العالمين المنعم عليهم؛ فهو المستحق لأن يعبدوه؛ ولأنه يسمع الدعاء ويستجيب، ويعلم العبادة ويثيب؛ لأنه عالم الغيب والشهادة، القادر على كل شيء، الر حيم الكريم فهو الذي تنفع عبادته لطلب الثواب والهرب من العقاب، وجلب الأرزاق وشفاء الأمراض، والبركة، وصرف المصائب وغير ذلك، مع أنه قريب مجيب رحيم ودود لم يلجئنا إلى وسائط، ولم يجعل بيننا وبينه حاجباً، بل هو أقرب من كل قريب، وأكرم من كل كريم، وأرحم من كل رحيم، قد أمرنا أن ندعوه ووعدنا الإجابة فلماذا الوسائط؟! أهُم أرحم؟ أم هم أكرم؟ أم هم أقرب وأسمع للدعاء؟ سبحانه وتعالى علواً كبيراً، فالله هو المعبود بحق الذي تأله إليه القلوب.

2. ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ ﴿الْحَيُّ﴾ بخلاف الأصنام والأنصاب التي تعبد من دون الله ﴿الْقَيُّومِ﴾ القائم بأمور السماوات والأرض ومن فيهما؛ فبه قيام السماء والأرض؛ وهو الخالق والرازق ومدبر أسباب المعيشة، وصارف ما لا يأذن به من المصائب، فبه قامت أحوال العباد فهو الذي يستحق أن يعبدوه.

3. ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ فلا يغفل عن عبد من عباده لحظة واحدة، فلا يزال عبده تحت رعايته ورقابته، والسِنَةُ النعاس ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ فكلهم عباده فهو المستحق للعبادة، أما شركاء المشركين فهم عباد مثلهم مملوكون لله.

4. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ لأنهم كلهم عباده وله الملك وحده فليس لأحد أن يشفع عنده إلا بإذنه، وليس لأحد أن يتدخل بشفاعة عنده؛ ولو كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، لأنهم كلهم عباده ليس لهم من الأمر شيء.

5. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ يعلم مستقبلهم وماضيَهم من أعمالِهم وجزائهم، وما يكون من شأنهم يوم القيامة، فنفيه للشفاعة صدق وحق؛ لأنه خبر علام الغيوبـ ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ لأنه لا علم لهم إلا ما علمهم، ولا يحيطون به علماً، وليس لهم من العلم بالله إلا ما دلتهم عليه آياته في ملكوته وكتبه وما أوحاه إلى رسله الحاصل ما علمهم سبحانه، أما ما لم يعلمهم فليس لهم إليه سبيل، وعليهم أن يقفوا عند حدهم ولا يتكلفوا ما لم يُكلَّفوا.

6. ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ لأنه ملك الملوك؛ أحاط ملكه بكل شيء، ووسع كل شيء، ولما كان الكرسي من عادة الملوك أن يتخذوه كان عبارة هنا عن الملك، وسعته عبارة عن سعة الملك.. قال الإمام محمد بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام في كتابه (الأصول الثمانية) في (الإيمان) ما لفظه: اعلم أن السماء والأرض محلهما في ملك الله تعالى من صغرهما في ملكه كبيت في صحراء، أنَّى يقع البيت في الصحراء، وكمحل حلقة في أرض فلاة كما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، كذلك قال الله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، والكرسي: ما يستقر عليه، ويكون محلاً لما يحل فيه، فجعل الله السماوات والأرض مستقِرة في حيّز ملكه، فصار قوله ـ عزَّ وجل ـ ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ معناه: وسع ملكه السماوات والأرض)

7. ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ أي لا يثقل عليه حفظهما أي حفظ السماوات والأرض، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ [فاطر:41]، وفي هذه الآية إفادة حفظهما من كل شيء؛ فلا تزولان ولا تتصادمان، ولا يصدم أحدَهما شيء حتى يأذن الله بخرابها بأي طريقة، أو كيف شاء؛ لأنه على كل شيء قدير ولا يعسر عليه شيء.

8. ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ﴾ [الشورى: 4] القاهر فوق عباده ﴿الْعَظِيمِ﴾ له عظمة الملك، والقدرة على كل شيء، والعلم بكل شيء، والغنى عن كل شيء، والقهر على كل شيء، والإنعام على العالمين، والكرم والحلم والعزة والحكمة والفضل والرحمة له الأسماء الحسنى.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/378.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جاء في تفسير العياشي عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قال قال أبو ذر: يا رسول الله ما أفضل ما أنزل عليك؟ قال آية الكرسي، ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، ثم قال وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة، في الدر المنثور أخرج أحمد والطبراني عن أبي أمامة قال قلت: يا رسول الله أيّما أنزل عليك أعظم؟ قال ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 2]، آية الكرسي‏، وقد وردت أحاديث كثيرة، بهذا المعنى عن النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وباستحباب قراءتها في كل ليلة، وفي مناسبات كثيرة، فقد جاء في أمالي الشيخ الطوسي عن أبي أمامة الباهلي أنه سمع علي بن أبي طالب عليه السّلام يقول: ما أرى رجلا أدرك عقله الإسلام أو ولد في الإسلام يبيت ليلة سوادها، قلت: وما سوادها؟ قال جميعها حتى يقرأ هذه الآية: الله لا إله إلّا هو الحي القيوم، فقرأ الآية إلى قوله: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255] قال فلو تعلمون ما هي أو قال ما فيها، ما تركتموها على حال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش، ولم يؤتها نبي كان قبلي، قال علي: فما بتّ ليلة قط منذ سمعتها من رسول الله إلا قرأتها، الحديث‏.

2. لعل السرّ في هذا الاهتمام بها هو أنها تتحدث عن التوحيد الخالص بالمستوى الذي يعيش فيه الإنسان حضور الله في وجدانه، في كلّ ما يعنيه هذا الحضور من عظمة وسيطرة وإحاطة حقيقية بالأشياء كلها، ورعاية لكل شؤونها الخاصة والعامة، وتفرّد بالقدرة على كل شيء، فلا شيء هناك غير الله، لأن كل المخلوقات ظل لوجوده، ولا قيمة لأيّ علم أمام علم الله، ولا سلطة غير سلطته، وأن الخط الذي يرسمه للناس هو الخط الواضح المستقيم الذي لا التباس فيه ولا شك ولا ظلمة، وأنه ـ هو ـ الذي يفتح للمؤمنين أبواب النور في المعرفة والحياة، من خلال الإيمان الواعي المنفتح، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، بينما يقف الكافرون أمام الطاغوت الذي يرتبطون به ويعبدونه ويتبعونه من دون الله، ليخرجهم من النور، الذي يقتحم عليهم وعيهم ووجدانهم، إلى الظلمات التي يحملها الكفر إلى داخل حياتهم، فيحوّل النور في حياتهم إلى ظلمة بما يخلقه من حواجز تحجزهم عن الله، وهذا ما توحي به الآية التالية بعدها التي تمثل الامتداد المعنوي لها، وبذلك كانت قيمة هذه الآية أنّها تركز في أعماق الإنسان المؤمن التوحيد الخالص بأسمى خصائصه وعناصره، وتوحي له بأن الخط الفاصل بين منهج الله ومنهج الطاغوت هو الخط الفاصل بين النور والظلمة.. وهذا ما نريد أن نستوضحه من خلال مفردات الآية.

3. ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ هذه الكلمة علم لذات واجب الوجود، فلا تطلق على غيره، ومن هنا كان الفرق بينها وبين كلمة إله، لأن كلمة إله عامة شاملة لكل ما يفرض مستحقا للعبودية، ولذلك أمكن الاستثناء منها، وكانت كلمة لا إله إلا الله ظاهرة في التوحيد باعتبار دلالتها على انحصار المستحق للعبودية في الذات المقدسة، ولو كانت هذه الكلمة تطلق على غيره لما كان لها ظهور في ذلك.

4. ﴿الْحَيُّ﴾ الذي لا يشوب حياته عدم من قبل ولا من بعد، لأنها لا تخضع لفرضيّة القبل والبعد، فهو القديم الذي لا أول له ولا آخر.. وفي هذا الجوّ الممتد للحياة، يمكن للإنسان أن يعيش الشعور بامتداد الارتباط بالله ما امتدت بالإنسان حياته، لأنه يسبق حياة الإنسان، فيعطيها معنى الحياة ويمتد معه ويبقى بعد فنائه، بينما لا يشعر بهذا الارتباط مع غيره من أفراد الإنسان، مما يوحي له بعمق العلاقة التي ينبغي أن تشدّه إلى الله من موقع الحاجة الفعلية الدائمة إليه.

5. ﴿الْقَيُّومِ﴾ مبالغة في القائم على الشيء، المشرف والمسيطر عليه والمدبر والحافظ له، على ما جاءت به الآية الكريمة: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد: 33] [الرعد: 33]، وقوله تعالى: في آية أخرى، ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا﴾ [آل عمران: 18] [آل عمران: 18]، وذلك من خلال ما يعنيه القيام على الشيء من معنى الإشراف عليه، في مقابل القاعد والنائم، فاستعير للسيطرة، للمناسبة بين المعنيين.. وهذه الصفة تعني إشراف الله الذي يملك العطاء والمنع من خلال ما يعلمه من استحقاق الموجودات في وجوداتها من العطاء هنا، والمنع هناك، من خلال‏ التوازن في النظام الكوني والإنساني الذي أبدعه في عمق الوجود، لتستمر الحياة من خلال شروطها الطبيعية، وتعني تسلطه على الأشياء، مما يعني التدبير والرعاية والحفظ في ما يستتبعه المعنى بنحو لا يكون لغيره في ما توحي به كلمة المبالغة، وفي هذه الصفة إيحاء بضرورة الرجوع إلى الله في كل شيء باعتبار حاجة الأشياء كلها إليه.

6. ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ السّنة النعاس الذي يقترب من النوم، والنوم هو الذي يغلب على السمع والبصر، وفي هذا تعميق للمعنى الذي توحيه كلمة القيّوم في ما تستتبعه من الرعاية الدائمة التي لا مجال فيها للتوقف والغياب بالنوم أو بالنعاس الذي تسترخي معه الحواس فتفقد الإحساس الواعي للأشياء.. ومن البديهي أن ذلك مستحيل على ذات الله، لأنه من شؤون الجسد، فلا تفرض لمن يتعالى عن الجسمية في ذاته المقدّسة.

7. سؤال وإشكال: ربما يتساءل البعض كيف قدّم السّنة على النوم على خلاف الطريقة البلاغية التي يترقى فيها التعبير، في مقام الإثبات، من الأضعف إلى الأقوى، وفي مقام النفي من الأقوى إلى الأضعف، وبناء عليه، كان ينبغي أن يقال: لا يأخذه نوم ولا سنة، والجواب: أن المطلوب هنا هو نفي تأثير أيّ عامل خارجي يضعف قيوميّته على الموجودات، فلا يملك الأضعف الذي هو النعاس الاقتراب منه، بل لا يملك الأقوى وهو النوم النفاذ إليه، لأنه فوق ذلك كله، فهو الذي يؤثر في الأشياء ويحيط بها ويسيطر عليها ويقهرها، ولا يملك شيء منها، مهما كان حجمه في الماديات والمعنويات، التأثير عليه، فليس حاله كحال المخلوقين الذين يقترب منهم النعاس ليأخذهم عن اليقظة إلى الخدر والغفلة، ثم ليزيد في التأثير على أجسادهم، فيقودهم إلى النوم الذي يعطل فيهم الإحساس بالأشياء من حولهم.

8. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ هو المالك للأشياء كلها، فليس لغيره ملك بإزاء ملكه، فهو المالك الحقيقي، أما الآخرون، فإنهم يملكون بالملك الاعتباري في ما ملّكهم إيّاه، فهو المالك لهم ولما ملّكهم.. وبذلك كان قيامه عليها قياما كاملا لا نقص فيه ولا حدود، لأن هناك فرقا بين قيامك على الشيء الذي هو تحت سيطرتك وملكك وبين قيامك على ما لم يكن كذلك، وهذا هو ما تريد الآية أن تؤكده ليشعر الإنسان بالاطمئنان لكمال التدبير الإلهي للإنسان وللأشياء، وليعي ارتباط كل الموجودات بالله ارتباط الملك بالمالك، فتفقد قيمتها وعظمتها في وعي الإنسان، عندما يشعر أنها مثله في عبوديتها ومملوكيتها لله.. فكيف يمكن أن يجعل منها شركاء لله كما توحي به الآية الكريمة ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [الأعراف: 194]

9. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ ليس هناك إلا كلمته وإرادته، فلا يملك أحد أن يتدخل في إنقاذ أحد من مصير محتوم، أو رفعه إلى درجة عالية من خلال قوة ذاتية أو موقع مميّز خاص، إلا بإذنه الذي يلقيه إلى بعض عباده المقربين في ما يريد وفي ما لا يريد، وبذلك يمكن لنا أن نقرّر مبدأ الشفاعة في نطاق الخط الذي يريد الله للشافعين أن يسيروا عليه في ما يريد الله أن يكرمهم بالمغفرة لبعض المذنبين، أو برفع الدرجة لبعض المطيعين من دون أن يتنافى ذلك مع مبدأ التوحيد في ما يتوسل به الناس من شفاعة.

10. في هذا الجو، يمكن لنا أن نستوحي طبيعة ما يملكه الشفعاء من ميزة الشفاعة من حيث ارتباطها بإرادة الله وبإذنه، فالمغفرة التي تنال المذنبين من الله، والبلاء الذي يرفع عن المبتلين من الله، والمثوبة التي تحصل للمطيعين منه ـ جل شأنه ـ يمنحها لهذا ولذاك، بكرامة هذا النبي أو هذا الولي التي‏ أراد أن يكرمهم بها، ولهذا فلا معنى لأن يتوجه العباد إليهم حتى عبر الواسطة، بل يكون التوجه إلى الله بأن يجعلنا ممن يشفعهم بهم، لأنهم لا يملكون الشفاعة بأنفسهم، بل يملكونها من خلال وحيه وإذنه وتعليمه، وبذلك نتخلص من هذا الإغراق في أسلوب الطلب من الأنبياء و الأولياء بالمستوى الذي قد ينسى فيه الطالب ربّه في استغراقه العميق في ذات النبي أو الولي، إذا لم يكن واعيا بالدرجة التي يستطيع من خلالها أن يضع الأشياء في مواقعها الصحيحة من العقيدة والشريعة.

11. ذكر صاحب الميزان في حديثه عن الشفاعة في هذه الآية أن (الشفاعة هي التوسط المطلق في عالم الأسباب والوسائط أعم من الشفاعة التكوينية، وهي توسط الأسباب في التكوين، والشفاعة التشريعية، أعني التوسط في مرحلة المجازاة التي يثبتها الكتاب والسنة في يوم القيامة.. وذلك أن الجملة، أعني قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ﴾ مسبوقة بحديث القيومية والملك المطلق الشاملين للتكوين والتشريع معا، بل المتماسّين بالتكوين ظاهرا، فلا موجب لتقييدهما بالقيومية والسلطنة التشريعيتين حتى يستقيم تذييل الكلام بالشفاعة المخصوصة بيوم القيامة، فمساق هذه الآية في عموم الشفاعة مساق قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ [يونس: 3]، وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ﴾ [السجدة: 4]، وقد عرفت في البحث عن الشفاعة أن حدّها كما ينطبق على الشفاعة التشريعية كذلك ينطبق على السببية التكوينية، فكل سبب من الأسباب يشفع عند الله لمسبّبه بالتمسك بصفات فضله وجوده ورحمته لإيصال نعمة الوجود إلى مسببه، فنظام السببية بعينه ينطبق على نظام الشفاعة كما ينطبق على نظام الدعاء والمسألة)

12. نلاحظ على هذا الكلام، أن حمل الشفاعة على ما يشمل السببية التي عبر عنها بالشفاعة التكوينية، خلاف ظاهر الكلمة من الناحية اللغوية في معنى المصطلح، لأنها ظاهرة في حركة الإنسان في التوسط لإنسان آخر لإيصال الخير إليه أو دفع الشر عنه من خلال استحقاقه للمنع عن الخير وللوقوع في الشر جزاء لعمله، وبهذا يكون دور الشفيع الذي يتمتع بالاستقلال في حركته مع المشفوع عنده، أنه يملك التأثير عليه من ناحية مادية أو معنوية، بحيث لا يملك ذاك ردّه أو يصعب عليه دفعه عما يريده أو يطلبه، وذلك إمّا لكونه في الموقع الذي يساويه أو يتقدم عليه في المنزلة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية في مدارج السلطة، أو في الموقع العاطفي الذي ينفذ من خلاله إلى مشاعره العاطفية التي لا يستطيع معها أن يتنكر لمطالبه، وهذا هو المعنى الذي يريد الله أن ينفيه عن نفسه، لأنه يتنافى مع قيوميته في ذاته على الوجود كله وعلى الناس كلهم، فليس كمثله شيء حتى يساويه أو يتقدم عليه ليفرض إرادته على إرادته، وليس موقعا للانفعالات العاطفية أو غيرها ليتأثر بها، فهو الغني بذاته عن كل خلقه، فلا يملك أحد عنده أي شيء، بل هو المالك لهم في كل وجودهم، فلا معنى للشفاعة بالمعنى الذاتي للشفيع.

13. لذلك كان النفي عن ملكية أحد للشفاعة عنده مساوقا لنفي مساواة غيره له أو تأثيره عليه، باعتبار ارتباط ذلك بمواقع القوة في ذاته المقدسة التي لا يملك أحد الاقتراب منها أو التأثير عليها، لأن الخلق هم الفقراء إليه وهو الغني عنهم، فوجودهم هو وجود الحاجة إليه، أما وجوده، فهو وجود الغني المستقل في كل شيء عن كل الموجودات، وهذا ما يجعل التعبير بنفي الشفاعة عن كل أحد إلا بإذنه، مناسبا للحديث عن قدرته المطلقة في تدبيره الأمور بعد خلقه لها واستقلاله بها، بعيدا عن أي تأثير ذاتي لغيره مما يريد إصداره من قرارات في مجال العقاب والثواب.

14. هذا هو الذي يجعلنا لا نفهم معنى للسببية في الشفاعة والدعاء والمسألة بالمعنى الذاتي لارتباط المسبب بسببه، بل نفهمها بالمعنى الجعلي الإذني للشفعاء والداعين والسائلين الذين يسألون ويشفعون ويدعون، فيمنحهم الله ما يريدون من خلال إذنه لهم بالقيام بهذه الأمور، فلا استقلال لهم في شيء، ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: 26 ـ 27]

15. في ضوء ذلك، فإننا لا ننفي اعتبار السببية التكوينية في ارتباط الأشياء بأسبابها، على أساس ما أودعه الله فيها من خصائص في داخل وجودها، مما يعني سرّ السببية أو العلّية، لتكون حركتها بإذنه في الجانب الوجودي المتحرك بقدرته التي تحرّك السبب في اتجاه المسبب، مما يمكن التعبير عنه ب الأول التكويني، ولكن هذا لا علاقة له بمصطلح الشفاعة كما بيّنّاه.

16. ذكر بعض المفسرين(2) ملاحظة حول العلاقة بين الشفيع والمشفوع‏ له فقال: (الشفاعة تستلزم نوعا من العلاقة المعنوية بين الشفيع والمشفوع له، لذلك، فإن على من يرجو الشفاعة، أن يقيم في هذه الدنيا علائق روحية مع من يتوقع شفاعته، إن هذه العلائق ستكون ـ في الواقع ـ وسيلة من وسائل تربية المشفوع له، بحيث إنها تقرّبه من مدرسة أفكار الشفيع وأعماله، وهذا ما سيوصله إلى أن يكون مؤهلا لنيل تلك الشفاعة، وبناء على ذلك، فالشفاعة عامل تربويّ، وليست نوعا من المحسوبية والمنسوبية، ولا ذريعة للتنصل من المسؤولية، ومن هذا يتضح أن الشفاعة لا تغيّر إرادة الله بشأن العصاة المذنبين، بل إن العاصي أو المذنبـ بارتباطه الروحي بشفيعه ـ يحظى بتربية تؤهله لنيل عفو الله تعالى‏.

17. نلاحظ على ذلك أن الشفاعة لا ترتبط بعلاقة المشفوع له بشفيعه، بل ترتبط بعلاقة الشفيع بالله، فلا ضرورة فيها للصلة الروحية بالشفيع، لأنه لا يمثل ـ في معناها القرآني ـ واسطة ذاتية بحيث يتوجه الإخلاص إليه وينفتح الحب عليه، بل هو ـ في هذه الدائرة ـ من شؤون الإخلاص لله والحب له الذي يتمظهر بحب أوليائه والانسجام معهم، باعتبار أنه من شؤون الارتباط بالله، وفي ضوء ذلك، لا علاقة للمشفوع له بالشفيع من ناحية ذاتية، بل لا بد له من أن يوثق علاقته بالله ويعزز ارتباطه به، وليكون طلبه للشفاعة تعبيرا عن الدعاء لله بأن يجعل بعض أوليائه شافعا له من خلال توسله به عنده في ما يريده من تكريمه له بشفاعته لبعض المذنبين.

18. ولذلك، فإنها تكون عاملا تربويا يقربه من الله الذي ارتفع الشفيع عنده‏ لقربه منه، لأن أفكاره ومدرسته ليست هي خصوصياته الذاتية، بل هي رسالة الله التي أمره بإبلاغها وحمّله مسئولياتها، ولعل هذا ما تعبر عنه الفقرة التالية في دعاء يوم الخميس من أيام الأسبوع حيث تقول: (صل على محمد وآل محمد واجعل توسّلي به شافعا يوم القيامة نافعا) حيث إن الدعاء مرفوع إلى الله في جعل التوسل إليه برسوله محمد (شافعا يوم القيامة نافعا) ولم يجعل توسله بالشفيع المباشر، أي النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد تبرز الفكرة بشكل واضح في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء: 28]، حيث يدل على أن أساس الشفاعة هو أن يكون للشخص علاقة بالله بحيث يرضى الله الشفاعة له.

19. إذا كان هذا القائل يقول: إنه لا فرق بين الارتباط بالله والارتباط بالشفيع، باعتبار أنه يبلّغ عن الله ويدعو إليه وإلى رسالته، مما يجعل الارتباط بالشفيع ارتباطا بالله، فإننا نجيب عن ذلك بأن القضية ترتبط بالشكل في إيحاءاته السلبية عندما يأخذ الشفيع دور الواسطة من قبل طالب الشفاعة لا دور المكلف الذي رضي الله له بالشفاعة من خلال إرادته في المغفرة عن هذا الشخص والعفو عنه.

20. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ فكل الأشياء حاضرة عنده، لا يغيب شيء منها عن علمه، لأن الأشياء مكشوفة لديه، فلا مجال لاختباء الإنسان عن الله في أيّ عمل يخفيه، أو سرّ يكتمه، أو خطأ يستره، لأن‏ الإخفاء والكتمان والستر معان تلتقي بالحواجز المادية التي تحول بين الشيء وبين ظهوره، مما لا مجال لتصوره في ذات الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولعل هذا الإحساس هو الذي يتعمق في وعي الإنسان من خلال حركة إيمانه، فيمنعه عن الجريمة الخفية، والمعصية المستورة، والنيّات الشريرة التي تتحفز للاندفاع والظهور.

21. ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ وتلك هي قصة الخالق في علمه غير المحدود بالنسبة إلى المخلوق المحدود في وجوده المستمد من وجود الله، وعلمه المستمد من علم الله، في ما أعطاه وفتح له من مجالاته وهيّأ له من أسبابه، فليس للمخلوق أن يحيط بشيء من علم الله في عالم الشهود وفي عالم الغيب إلا بما شاء الله، حتى الأنبياء، فإنهم لا يملكون علم الغيب في تكوينهم الذاتي، بحيث إن الله خلق فيهم الطاقة التي تكشف لهم عالم الغيب بشكل مطلق، فينفتحون عليه باستقلالهم بعد ذلك، بل إن الله هو الذي يفيض عليهم من هذا العلم بما يحتاجون إليه من ذلك في شؤونهم الرسالية من خلال طبيعة الدور الذي يقومون به والتحديات التي تواجههم، وهذا هو ما نستوحيه من قوله تعالى في الحكاية عن النبي نوح في خطابه لقومه على ما قصه الله من ذلك في سورة يونس: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ [الأنعام: 50]، وقوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾ [الجن: 26 ـ 28] فإنها ظاهرة في أن الله يمنحهم علم الغيب بما يهيئ لهم السبيل لاستقامة أمرهم وسلامة دورهم وحمايتهم من كل ما بين أيديهم وما خلفهم مما هو حاضر عندهم أو غائب عنهم، تأكيدا لبقاء الإشراف الإلهي والسيطرة الربوبية عليهم، بحيث يحتاجونه في كل شيء مما يحدث لهم أو يطرأ عليهم، وهذا ما قد يوحي ببطلان نظرية الولاية التكوينية التي يراها بعض العلماء للأنبياء وللأئمة عليهم السّلام.

22. إن الله يريد أن يؤكد في هذه الفقرة من الآية، إحاطته بكل شؤون خلقه في علمه بكل ما يفيضون فيه، وما يتحركون به، في الوقت الذي لا يملكون الإحاطة بأيّ شيء من علمه من خلال قدراتهم الذاتية، فهو الذي يعطيهم ما يريده لهم من العلم بشكل مباشر أو غير مباشر، وبذلك يشعر المخلوق بالتضاؤل أمام الكثير الكثير جدا مما يجهله ومما لا طريق لديه للعلم به، فيتواضع لله الذي خلقه ويبتهل إليه في ما علمه الله من ابتهالات العلم‏ ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114]

23. ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ قال في الكشّاف: (الكرسي ما يجلس عليه، ولا يفضل عن مقعد القاعد، وفي قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾ أربعة أوجه:

أ. أحدها أن كرسيّه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته، وما هو إلا تصوير لعظمته وتخييل فقط لا كرسي ثمّة ولا قعود ولا قاعد، كقوله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: 67]، من غير تصوّر قبضة وطيّ يمين، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسي، ألا ترى إلى قوله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: 91]

ب. الثاني: وسع علمه وسمّي العلم كرسيا تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم.

ج. الثالث وسع ملكه؛ تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك.

د. الرابع: ما روي أنه خلق كرسيا هو بين يدي العرش دونه السموات والأرض، وهو إلى العرش كأصغر شيء)

24. ربما كان الأنسب بجوّ الآية المعنى الثالث، الذي يعطي معنى السلطنة المطلقة التي تتمثل في التدبير والإشراف، وبذلك تتخذ كلمة ﴿وَسِعَ﴾ معنى (الإحاطة) والحفظ، فتنسجم مع قوله تعالى: ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255] أي لا يجهده حفظهما؛ وتكون خلاصة المعنى، أن ملك الله وسلطته تسع السموات والأرض، فهو الذي يدبرهما ويرعاهما ويحفظهما من دون جهد ولا تعب، لأن قوته لا تقف عند حد، فلا معنى للجهد وللتعب معها في أيّ حال من الأحوال، وفي أي موقع من المواقع.

25. ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: 4] الذي لا يمكن أن يقترب إليه أحد من مخلوقاته، لأنه العليّ الذي لا تستطيع هذه المخلوقات أن تبلغ مداه الذي لا يحدّ في علوّه، والعظيم الذي تصغر كل الأشياء أمامه مهما بلغت من عظمة وحجم، لأن عظمتها مستمدة من سرّ العظمة في خلقه، الذي يعيش الحاجة المطلقة إليه، وهذا ما عبّر عنه الإمام علي بن الحسين زين العابدين في دعاء يوم الجمعة والفطر: (كل جليل عندك صغير وكل شريف في جنب شرفك حقير)

26. قد تكون قيمة هذه الآية ـ في الجانب الإيحائي من القرآن ـ أنها تمثل وعي العقيدة في العقل والروح والإحساس بالبساطة التوحيدية التي لا تدخل الإنسان في التعقيدات الفلسفية، بل تقدّم له الصورة الإلهيّة واضحة بسيطة ينفتح فيها التصوّر على الله في وحدانيته في شمول ربوبيته لكل شيء، بكل ما تعنيه كلمة الربوبية من الخلق والتدبير والإمداد الغيبي والشهودي والقيام على الخلق كله بالمطلق واليقظة الدائمة التي لا مجال فيها لأيّ غياب‏ في وعي الخلق كله، فوجوده هو الوعي كله، فلا سنة تصيبه ولا نوم يأخذه، وهو المحيط في علمه بكل شؤون خلقه، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة ولا يملك أحد منهم أيّ شيء من علمه إلا من خلال مشيئته في إعطاء العلم لمن يشاء، فكما أن كل وجودهم مستمد من وجوده، فإن كل علمهم مستمد من علمه، ولا شفاعة لأحد عنده من خلال ما يملك من قدرة أو تأثير أو دلالة عليه من خلال ذاته، فمنه الشفاعة، فهو الذي يأذن بها، وهو الذي يختار نتائجها من خلال حكمته العميقة الشاملة، وهو الذي اتسع ملكه وامتدت قدرته، وانفتح حكمه على السموات والأرض، فلا يضيق عنه شيء منها أو ممّا فيها، فهو الذي يحتويها ويحتوي ما زاد عنها، وهو الذي يملك العلو في أعلى درجاته، فلا درجة أعلى من موقعه في ذلك، وهو الذي انطلقت عظمته، فلا عظيم أمامه، لأن عظمة الأشياء هبة منه، وخلق من خلقه.

27. هكذا يعيش الإنسان مع ربّه في هذا التصور الفطري البسيط، ليبقى في دائرة الوضوح الذي لا يحتاج معه إلى أيّة شروح وتفسيرات مما يلجأ إليه الفلاسفة في تعقيداتهم الفكرية على أساس الفلسفات الأخرى المرتكزة على القواعد البعيدة عن أجواء العقيدة الإسلامية، بحيث يجد الإنسان المسلم نفسه ضائعا بين الجوّ الإسلامي للعقيدة، والجوّ غير الإسلامي للفلسفة، الأمر الذي يؤدّي إلى الكثير من الضبابية في عالم التصوّر.

28. إننا لا ننكر وجود قيمة فكرية في الأسلوب الفلسفي في معالجة قضايا الدين والعقيدة، مما يمنح الفكرة شيئا من العمق الذي يؤكد قوتها أمام الأفكار الأخرى في مجالات الصراع الفكري بين الإسلام وخصومه، ولكننا نعتقد أن للقرآن أسلوبه الفطري في إثارة مفردات العقيدة على أساس الإيحاء الدائم بالبساطة الروحية في الوجدان الإسلامي، فلا بد من ملاحظة هذا الجانب في دراسة الفلسفة الإسلامية.

29. إن الحديث عن استحباب قراءتها، يوحي بالمسألة التربوية في تعميق التصور الإسلامي للعقيدة في المفردات القرآنية، ليقرأها المسلم في كل يوم أو في كل ليلة، كمنهج تربويّ إسلامي في تثبيت العقيدة في نفس المسلم، فإن قراءة القرآن اليومية تنطلق من تحريك الآيات القرآنية في الوجدان الإنساني، بحيث يكون نموّه في هذا الجوّ الذي يحقّق الصفاء الفكري للتنشئة الفكرية والروحية، حتى لا تختلط عليه الأمور التي تشوّش عليه الصورة من خلال القراءات المتنوعة، فلا تبقى لديه صورة واضحة عن إسلامه، لذلك كانت القراءة اليومية وسيلة من وسائل إعادته إلى الينابيع الإسلامية الصافية للعقيدة وللمفاهيم العامة للحياة، بالطريقة الذاتية التي يواجه فيها الإنسان قضيته العقيدية من موقعه الإنساني في تجربته الذاتية، فهو الذي يقرأ الآية التي قد تثير لديه الكثير من التساؤلات، وذهنية اللامبالاة، أمام التيارات الأخرى إذا اندفعت إلى ساحته العامة أو وجدانه الخاص، إن الإنسان ـ في هذه الحال ـ يمارس رياضة تربوية يومية تقوي عضلاته الروحية والفكرية بالطريقة التي يحصل فيها على المناعة القوية، فلا يزحف الضلال إليه بسهولة، ولا تقتحم الحيرة طمأنينته النفسية.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏5/28.

(2) المناقشة هنا لما ورد في تفسير الأمثل للشيرازي، وقد أخرنا ذكره عنه بسبب تاريخ الوفاة

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يكفي لبيان أهميّة وفضيلة هذه الآية قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم‏ عندما سأله (أبي بن كعب): أي آية من آيات كتاب الله أفضل؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: الله لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم، قال فضرب يده في صدري ثمّ قال ليهنك العلم، والذي نفس محمّد بيده إن لهذه الآية لسانا وشفتين يقدس الملك لله عن ساق العرض، وفي حديث آخر عن عليّ عليه السّلام عن رسول الله قال: سيّد القرآن البقرة وسيّد البقرة آية الكرسي، يا علي إنّ فيها لخمسين كلمة في كلّ كلمة خمسون بركة، وفي حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السّلام قال: من قرأ آية الكرسي مرة صرف الله عنه ألف‏ مكروه من مكاره الدنيا وألف مكروه من مكاره الآخرة أيسر مكروه الدنيا الفقر وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر، وعن أبي عبد الله عليه السّلام قال: إن لكلّ شيء ذروة وذروة القرآن آية الكرسي‏.

2. الروايات الواردة في كتب العلماء الشيعة والسنّة في فضيلة هذه الآيات الشريفة كثيرة جدّا ونختتم كلامنا هذا بروايتين عن رسول الله قال‏: أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرض ولم يؤتها نبيّ كان قبلي‏ وفي حديث آخر أنّ أخوين جاء إلى رسول الله فقالا نريد الشام في التّجارة فعلمنا ما نقول؟ فقال: نعم، إذا آويتما إلى منزل، فصليا العشاء الآخرة، فإذا وضع أحدكما جنبه على فراشه بعد الصلاة، فليسبّح تسبيح فاطمة، ثمّ ليقرأ آية الكرسي فإنه محفوظ من كلا شيء حتّى يصبح، وجاء في ذيل الحديث‏ أن لصوصا تبعوهما وسعوا في سرقة ما معهما إلّا أنهم لم يفلحوا في ذلك‏، ومن المعلوم أنّ كلّ هذه الأهميّة والفضيلة لآية الكرسي إنّما هي للمحتوى العميق والمغزى المهم لها والّذي سوف نلحظه ضمن تفسيرها.

3. تبدأ الآية بذكر الذّات المقدّسة ومسألة التوحيد في الأسماء الحسنى والصّفات العليا لله عزّ وجلّ فتقول ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، (الله) يعني الذّات الواحدة الجامعة لصفات الكمال، إنّه خالق عالم الوجود، لذا ليس في عالم الوجود معبود جدير بالعبادة غيره، وبعبارة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ يبيّن القرآن وحدانية خالق الوجود التي هي أساس الإسلام، ولكن هذه الحقيقة ـ كما قلنا ـ موجودة في لفظة (الله)، لذلك فإنّ‏ ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ تأكيد لتلك الحقيقة نفسها.

4. ﴿الْحَيُّ﴾ [غافر: 65] من كانت فيه حياة، وهذه الصفة المشبّهة، كمثيلاتها تدلّ على الدوام والاستمرار، وحياة الله حياة حقيقية، لأنّ حياته عين ذاته، وليس عارضة عليه مأخوذة من غيره، في الآية 58 من سورة الفرقان يقول: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا﴾ ﴿يَمُوتُ﴾، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تكون الحياة الكاملة حياة لا يعتريها الموت، وعليه فإنّ الحياة الحقيقية هي حياته الباقية من الأزل إلى الأبد، أمّا حياة الإنسان التي يخالطها الموت في هذه الدنيا فلا يمكن أن تكون حياة حقيقية، لذلك نقرأ في الآية 64 من سورة العنكبوت: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾، وعلى ذلك فإنّ الحياة الحقيقية هي التي تختصّ بالله.

5. سؤال وإشكال: ما مفهوم (الله حيّ)؟ والجواب: في التعبير السائد نقول للكائن أنّه حيّ إذا كان يتّصف بالنموّ والتغذية والتكاثر والجذب والدفع، وقد يتّصف بالحسّ والحركة، ولكن لا بدّ من الانتباه إلى أنّ بعضا من السذّج قد يحسبون حياة الله شبيهة بهذه، مع علمنا بأنّه لا يتّصف بأيّة واحدة من هذه الصفات، هذا هو القياس الذي يوقع الإنسان في أخطاء في حقل معرفة الله، حين يقيس صفات الله بصفاته، (الحياة) بمعناها الواسع الحقيقي هي العلم والقدرة، وعليه فإنّ من يملك العلم والقدرة اللامتناهيتين يملك الحياة الكاملة.

6. حياة الله هي مجموعة علمه وقدرته، وفي الواقع بالعلم والقدرة يمكن التمييز بين الحيّ وغير الحيّ، أمّا النموّ والحركة والتغذية والتكاثر فهي صفات كائنات ناقصة ومحدودة، فهي تكمل نقصها بالتغذية والتكاثر والحركة، أمّا الذي لا نقص فيه فلا يمكن أن يتّصف بمثل هذه الصفات.

7. ﴿الْقَيُّومِ﴾ [طه: 111] صيغة مبالغة من القيام، لذلك فالكلمة تدلّ على الموجود الذي قيامه بذاته، وقيام كلّ الكائنات بوجوده، وبعبارة أخرى: جميع كائنات العالم تستند إليه، وبديهيّ أنّ القيام كما هو الشائع في الكلام اليومي هو الوقوف وبالهيئة المعروفة، ولكن بما أنّ هذا المعنى لا يتّفق مع الله المنزّه عن الصفات الجسمية، لذلك فالمقصود به هو القيام بالخلق والتدبير والتعهّد، فإنّه هو الذي خلق المخلوقات كلّها وتعهّد بتدبيرها وتربيتها وإدامتها، ولن يغفل عنها لحظة واحدة، فهو قائم دائما وأبدا وباستمرار دون توقّف.

8. يتّضح من هذا أنّ (قيّوم) هي في الواقع أساس كلّ صفات الفعل ـ وهي الصفات التي تبيّن علاقة الله بالموجودات مثل الخالق، الرزاق، الهادي، المحيي، وأمثالها ـ. فالقيام بالخلق وتدبير أمور العالم يشمل كلّ هذه الأمور، فهو الذي يرزق، وهو الذي يحيي، وهو الذي يميت، وهو الذي يهدي، وعليه فإنّ صفات الخالق والرازق والهادي والمحيي وأمثالها تتجمّع كلّها في (القيّوم)

9. من هنا يتّضح أن تحديد البعض لمفهوم هذه الجملة بالقيام بأمر الخلقة أو القيام بأمر الرّزق وأمثال ذلك، هو في الواقع إشارة إلى أحد مصاديق القيام، في حين أنّه مفهومه واسع ويشمل كلّ ذلك، لأنّ مفهومه كما قلنا يعطي معنى القائم بالذّات وغيره متقوّم به ومحتاج له.

10. في الحقيقة أنّ ﴿الْحَيُّ﴾ [غافر: 65] يشمل جميع الصّفات الإلهيّة كالعلم والقدرة والسّميع والبصير وأمثال ذلك، و﴿الْقَيُّومِ﴾ [طه: 111] تتحدّث عن احتياج جميع المخلوقات إليه، ولذا قيل أنّ الاسم الأعظم الإلهي هو مجموع هاتين الصّفتين.

11. ثمّ تضيف الآية ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾، (سنة) من مادّة (وسن) وتعني كما يقول كثير من المفسّرين أنّها الإغفاءة والاسترخاء الّذي يكون في بداية النوم، وبعبارة أخرى أنّه النّوم الخفيف، و(نوم) يعني الحالة الّتي تركد فيها بعض حواس الإنسان المهمّة، وفي الواقع أنّ (سنة) عبارة عن النوم العارض للعين، ولكن عندما يتوغّل كثيرا في الإنسان ويتعمّق ويعرض على العقل فيقال له (نوم)

12. جملة ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ هي في الواقع تأكيد لصفة القيّوم التي يوصف بها الله، لأنّ القيام الكامل والمطلق بتدبير عالم الوجود يتطلّب عدم إغفال ذلك حتّى للحظة واحدة، أي إنّ الله لا يغفل طرفة عين عن حكمه المطلق على عالم الوجود وإدارته، لذلك فكلّ صفة لا تتفق مع قيّومية الله تنتفي من ساحة قدس الله تلقائيا، بل انّ ذاته منزّهة حتّى عن أتفه عامل يمكن أن يؤدّي إلى أيّ تهاون في عمله، مثل (السنّة)

13. أمّا سبب تقديم (السنة) على (النوم) في الآية مع أنّ القويّ يذكر عادة قبل الضعيف، فيعود إلى التتالي الطبيعي في عملية النوم، إذ تنتاب المرء (السنة) أوّلا ثمّ تزداد عمقا حتّى تورده في النوم العميق.

14. تشير هذه الآية إلى حقيقة استمرار فيض اللطف الإلهي وديمومته وعدم انقطاعه عن وجوده لحظة واحدة، فهو ليس كعبادة الذين يغفلون عن الآخرين بسبب النوم أو أيّ عامل آخر.

15. يلاحظ أنّ تعبير ﴿لَا تَأْخُذُهُ﴾ تعبير رائع يؤدّي الغرض بدقّة، وهو يصوّر استيلاء النوم على الإنسان تصويرا مجسّدا، وكأنّ النوم كائن قويّ ذو مخالب تمسك بالإنسان بقوّة وتأسره، إنّ ضعف أقوى الناس أمام سلطان النوم أمر لا اختلاف فيه.

16. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ لا يكون هناك قيام بشؤون العالم بغير ملكية السماوات والأرض وما فيها، لذلك فهذه الآية ـ بعد ذكر قيّومية الله ـ تشير إلى حقيقة كون العالم كلّه ملك خاصّ لله، وأنّ كلّ تصرّف يحدث فيه فبأمر منه، وعليه، فإنّ الإنسان ليس المالك الحقيقي لما عنده ولما يقع تحت تصرّفه، بل أنّه يتصرّف فيه لمدّة محدودة ووفق شروط معيّنة قرّرها المالك الحقيقي، لذلك فعلى هؤلاء المالكين المؤقّتين أن يلتزموا تمام الالتزام بالشروط التي وصفها المالك الحقيقي، وإلّا فإنّ مالكيّتهم المؤقّتة هذه تصبح باطلة وتصرّفهم غير جائز.

17. من الواضح أنّ التقيّد بهذا يعتبر في الواقع عاملا مهمّا من عوامل التربية، إذا اعتقد الإنسان أنّه ليس المالك الحقيقي لما يملك وإنما هو يتصرّف به لفترة قصيرة من الزمن، فسيمتنع ـ دون شكّ ـ عن الاعتداء على حقوق الآخرين وعن الحرص والطمع والاحتكار والبخل وأمثالها ممّا يتولّد في الإنسان نتيجة التصاقه بالدنيا، فيكون ذلك مدعاة لتربيته تربية تجعله قانعا بحقوقه المشروعة.

18. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ وهذا في الواقع ردّ على ادّعاء المشركين‏ الذين يقولون إننا نعبد الأوثان لتكون شفعاءنا عند الله كما ورد في الآية 3 من سورة الزمر ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾، وهذه الآية من نوع الاستفهام الاستنكاري، أي ما من أحد يتقدّم بشفاعة إليه بإذنه، هذه الآية تكمل في الواقع معنى قيّومية الله ومالكيّته المطلقة لجميع ما في عالم الوجود، أي أننا إذا رأينا أحدا يشفع عند الله، فليس معنى ذلك أنّه يملك شيئا وأنّ له تأثيرا مستقلّا، بل أنّ مقامه في الشفاعة هبة من الله، ولمّا كانت شفاعته بإذن الله، فإنّ هذا بذاته دليل آخر على قيّومية الله ومالكيّته.

19. (الشفاعة) هي العون الذي يقدّمه قويّ لضعيف لكي يساعده على اجتياز مراحل تكامله بسهولة ونجاح، إلّا أنّ الكلمة تستعمل عادة في التوسّط لغفران الذنوب، غير أنّ مفهوم الشفاعة أوسع من ذلك وتشمل جميع العوامل والدوافع والأسباب في عالم الوجود، على سبيل المثال التربة والماء والهواء وأشعة الشمس هي العوامل الأربعة التي تشفع لبذرة النبات وتعينها على الوصول إلى مرحلة النضج لتصبح شجرة أو نبتة متكاملة، ولو نظرنا إلى الشفاعة في الآية الكريمة بهذا المعنى الواسع أدركنا أنّ وجود العوامل والأسباب المختلفة لا يحدّد مالكيّة الله المطلقة ولا يقلّل منها، لأنّ تأثير هذه العوامل كافّة لا يكون إلّا بإذن الله وأمره، وهذا أيضا دليل على قيّوميته ومالكيّته.

20. بيد أنّ بعضهم يظنّ أنّ الشفاعة في المفاهيم الدينية تشبه التوصيات والمحسوبيات والمنسوبيات، وأنّ مفهومها العام هو السماح للإنسان أن يرتكب ما يشاء من المعاصي، ثمّ يتوسّل بالشفاعة لغفران ذنوبه كلّها بيسر وسهولة! ولكن الأمر ليس كذلك، فلا المعترضون أدركوا شيئا من منطق الدين في موضوع الشفاعة، ولا العاصون المتجرّئون على حدود الله فهموا ذلك، فالشفاعة التي يقوم بها بعض عباد الله المقرّبين يمكن اعتبارها ـ كما قلنا ـ شفاعة تكوينية تتحقّق بوساطة عوامل طبيعية، كما تتحقّق في بذرة النبات، وكما أنّ البذرة لا تنمو إن لم تكن فيها عوامل الحياة حتّى لو سطعت عليها الشمس وهبّت عليها الرياح وهطل عليها المطر الهتون سنوات طويلة، كذلك شفاعة أولياء الله لغير المؤهّلين، لن يكون لها أيّ أثر، أو قل إنهم لا يمكن أن يشفعوا لأمثال هؤلاء، الشفاعة تستلزم نوعا من العلاقة المعنوية بين الشفيع والمشفوع له، لذلك فإنّ على من يرجو الشفاعة أن يقيم في هذه الدنيا علائق روحية مع من يتوقّع شفاعته، وهذه العلائق ستكون ـ في الواقع ـ وسيلة من وسائل تربية المشفوع له بحيث إنّها تقرّبه من مدرسة أفكار الشفيع وأعماله، وهذا ما سيوصله إلى أن يكون مؤهّلا لنيل تلك الشفاعة، وبناء على ذلك، فالشفاعة عامل تربوي، وليست نوعا من المحسوبية والمنسوبية، ولا ذريعة للتنصّل عن المسؤولية، ومن هذا يتّضح أنّ الشفاعة لا تغيّر إرادة الله بشأن العصاة المذنبين، بل أنّ العاصي والمذنب ـ بارتباطه الروحي بشفيعه ـ يحظى بتربية تؤهّله لنيل عفو الله تعالى‏.

21. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ بعد الإشارة إلى الشفاعة في الآية السابقة، وإلى أنّ هذه الشفاعة لا تكون إلّا بإذن الله، تأتي هذه الجملة لبيان سبب ذلك فتقول إنّ الله عالم بماضي الشفعاء ومستقبلهم، وبما خفي عليهم أيضا، لذلك فهم غير قادرين على أن يبيّنوا عن المشفوع لهم أمورا جديدة تحمل الله على إعادة النظر في أمرهم بسببها وتغيير حكمه فيهم، وذلك لأنّ الشفيع ـ في الشفاعات العادية ـ يؤثّر في المتشفّع عنده بطريقين اثنين: فهو إمّا أن يعمد إلى ذكر صفات ومؤهّلات المشفوع له التي تدعو إلى إعادة النظر في أمره، أو أن يبيّن للمتشفّع عنده العلاقة التي تربط المشفوع بالشفيع ممّا يستدعي تغيير الحكم إكراما للشفيع.

22. بديهيّ أنّ كلا هذين الاسلوبين يعتمدان على كون الشفيع يعلم أشياء عن المشفوع له لا يعلمها المتشفّع عنده، أمّا إذا كان المتشفّع عنده محيطا إحاطة كاملة بكلّ شيء ممّا يتعلّق بكلّ شخص، فلا يكون لأحد أن يشفع لأحد عنده، وذلك لأنّ المتشفّع عنده أعلم بمن يستحقّ الشفاعة فيجيز للشفيع أن يشفع له.

23. كلّ ذلك في صورة أن يكون ضمير ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ يعود على الشفعاء أو المشفوع لهم، ولكن يحتمل أيضا أن يعود الضمير لجميع الموجودات العاقلة في السّموات والأرض الواردة في جملة ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ وتعتبر تأكيدا لقدرة الله الكاملة على جميع المخلوقات وعجز الكائنات أيضا وحاجتها إليه، لأنّ من ليس له علم بماضيه ومستقبله وغير مطّلع على غيب السّموات والأرض فإنّ قدرته محدوده جدّا، بخلاف من هو عالم ومطّلع على جميع الأشياء، وفي جميع الأزمنة والأعصار، في الماضي والحاضر فإنّ قدرته غير محدودة، ولهذا السبب فكلّ عمل حتّى الشفاعة يحتاج إلى إذنه، وبهذا الترتيب يمكن الجمع بين كلا المعنيين.

24. أمّا المراد من جملة ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ فإنّ للمفسّرين احتمالات متعدّدة، فبعض ذهب إلى أنّ المراد من‏ ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ امور الدّنيا التي تكون أمام الإنسان وبين يديه، وجملة ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ يراد بها امور الآخرة التي تقع خلف الإنسان، وذهب بعض آخر إلى عكس هذا التفسير، وبعض ثالث ذهب إلى أنّها إشارة إلى أجر الإنسان أو أعماله الخيّرة أو الشّريرة أو الأمور التي يعلمها والّتي لا يعلمها، لكن بمراجعة آيات القرآن الكريم يستفاد أنّ هذين التعبيرين استعملا في بعض الموارد للمكان كالآية 17 من سورة الأعراف حيث تحدّثت عن قول الشيطان:‏ ﴿لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾، وتارة تأتي بمعنى القبل والبعد الزماني كالآية 71 من سورة آل عمران حيث تقول‏: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ فمن الواضح أنّ الآية هنا ناظرة إلى الزّمان، أمّا في هذه الآية فالتعبير قد يجمع بين المكان والزمان، أي أنّ الله يعلم ما كان في الماضي أو يكون في المستقبل وما هو أمام أنظارهم بحيث إنّهم يعلمونه، وما هو خلفهم ومحجوب عنهم ولا يعلمون عنه شيئا، وعلى هذا فأنّ الله محيط بكل أبعاد الزمان والمكان فكل عمل حتّى الشفاعة يجب أن تكون بإذنه.

25. في ثامن صفة مقدّسة تقول الآية: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾، هذه الفقرة أيضا توكيد لما سبق من سعة علمه اللامحدود وأنّ علم الكائنات‏ إنّما هو قبس من علمه تعالى، فلذلك يكون علم الشفعاء محدودا بإزاء علمه تعالى، فلا حظّ لهم من العلم إلّا بمقدار ما يريد الله تعالى لهم، ومن هذه الفقرة من الآية يستفاد أمران:

أ. الأول: أنّه لا أحد يعلم شيئا بذاته، فجميع العلوم والمعارف البشريّة إنّما هي من الله تعالى، فهو الذي يزيح الستار عن حقائق الخلقة واسرار الطبيعة ويضع معلومات جديدة في متناول البشر فيوسّع من أفق معرفتهم.

ب. والآخر: هو أنّ الله تعالى قد يضع بعض العلوم الغيبيّة في متناول من يشاء من عباده فيطلعهم على ما يشاء من أسرار الغيب، وهذا رد على من يعتقد أنّ علم الغيب غير متاح للبشر، وهو تفسير أيضا للآيات التي تنفي علم الغيب عن البشر.

26. جملة ﴿لا يُحِيطُونَ‏﴾ إشارة لطيفة إلى حقيقة العلم وأنّه نوع من الإحاطة.

27. في تاسع وعاشر صفة إلهيّة تقول الآية: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255]، وفي الصفة الحادية عشر و الثانية عشر تقول الآية: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: 4].

28. (الكرسي) من (كرس) بوزن إرث، ومعناه أصل الشيء وأساسه، كما يطلق على كلّ شيء متجمّع ومترابط، ولهذا يطلق على المقعد الواطئ المتعارف عليه للجلوس، ويقابله (العرش) الذي يعني السقف، أو الشيء ذا السقف، أو الكرسي ذا القوائم المرتفعة، ولمّا كان الأستاذ أو المعلّم يجلس أحيانا على كرسي أثناء التدريس، فقد انتقل اسم (الكرسي) ليدلّ على العلم، وقد يستعمل رمزا للسلطة والسيطرة أو يكون كناية عن الحكومة والحكم، في هذه الآية نقرأ عن كرسيّ الله أنّه يسع السماوات والأرض، وعليه فيمكن أن يكون للكرسيّ عدّة معان:

أ. منطقة نفوذ الحكم: أي أنّ حكم الله نافذ في السماوات والأرض وأنّ منطقه نفوذه تشمل كلّ مكان، أي أنّه يشمل عالم المادّة برمّته، بما فيه من أرض ونجوم ومجرّات وسدم، وعلى هذا يكون (العرش) مرحلة أرفع وأعظم من عالمنا المادّي هذا، لأنّ العرش ـ كما قلنا ـ يعني السقف أو المسقّف أو مقعدا أعلى من الكرسي، وبهذا يشمل العرش عالم الأرواح والملائكة وما وراء الطبيعة، وهذا يكون بالطبع إذا وضع الكرسي في قبال العرش بحيث يعني الأوّل (عالم المادّة والطبيعة) ويعني الثاني (عالم ما وراء الطبيعة)، وللعرش معان أخرى كما سيأتي في تفسير الآية 53 من سورة الأعراف، خاصّة إذا لم يذكر في قبال الكرسي، وعندئذ يمكن أن يكون بمعنى عالم الوجود كلّه.

ب. منطقة نفوذ العلم: أي أنّ علم الله يحيط جميع السماوات والأرض وأنّ ما من شيء يخرج عن منطقة نفوذ علمه، لأنّ الكرسي ـ كما قلنا ـ قد يكون كناية عن العلم، وهناك أحاديث كثيرة تعتمد هذا المعنى، من ذلك ما رواه حفص بن غياث‏ عن الإمام الصادق عليه السّلام‏ أنّه سأله عن معنى‏ ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ قال هو العلم‏.

ج. شيء أوسع من السماوات والأرض كلّها بحيث إنّه يحيط بها من كلّ جانب، وعلى هذا يكون معنى الآية: كرسيّ الله يضمّ جميع السماوات والأرض ويحيط بها، وقد نقل هذا التفسير عن الإمام علي عليه السّلام أنّه قال (الكرسيّ محيط بالسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى)، بل يستفاد من بعض الروايات أنّ الكرسي أوسع بكثير من السماوات والأرض، فقد جاء عن الإمام الصادق عليه السّلام قوله: (ما السماوات والأرض عند الكرسي إلّا كحلقة خاتم في فلاة، وما الكرسي عند العرش إلّا كحلقة في فلاة)

29. المعنيان الأول و الثاني مفهومان، أمّا المعنى الثالث فأمر لم يتوصّل العلم البشري بعد لمعرفته وكشف الستار عنه، فالعالم الذي يضمّ في زاوية منه السماوات والأرض لم يثبت وجوده بالطرق العلمية حتّى الآن، كما أنّه ليس هناك أيّ دليل على عدم وجوده، فالعلماء يعترفون جميعا بأن اتّساع السماء والأرض يزداد بمرور الأيّام وبتقدّم وسائل المعرفة العلمية، وما من أحد يستطيع أن يزعم أنّ سعة عالم الوجود هو ما يعرفه العلم اليوم، ولا يستبعد أن تكون هناك عوالم أخرى لا تعدّ ولا تحصى خارجة عن نطاق وسائل الأبصار عندنا اليوم.

30. نضيف هنا أنّ التفاسير الثلاثة المذكورة لا يتعارض بعضها مع بعض، وأنّ عبارة ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ يمكن أن تشير إلى حكومة الله المطلقة ونفوذ قدرته في السماوات والأرض، كما تشير في الوقت نفسه إلى علمه النافذ، وكذلك إلى عالم أوسع بكثير من عالمنا هذا، وهذه الآية تكمل الآيات السابقة من سعة علم الله.

31. بعبارة موجزة أنّ عرش حكومة الله وقدرته يهيمن على السماوات والأرض جميعا، وأنّ كرسيّ علمه يحيط بكلّ هذه العوالم، وما من شيء يخرج عن نطاق حكمه ونفوذ علمه.

32. ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255]، (يئوده) من (أود) ـ على وزن قول ـ بمعنى الثقل والمشقة، أي أنّ حفظ السماوات والأرض ليس فيه أيّ ثقل أو مشقّة على الله، فهو ليس مثل مخلوقاته التي يتعبها الحفاظ على الأشياء ويوهنها، ذلك لأنّ المخلوقات ضعيفة محدودة القدرة، وقدرته غير محدودة، ومن لا حدود لقدرته لا يكون للثقل والخفّة والصعب والسهل مفهوم عنده، فهذه مفاهيم تصدق عند من تكون قدراتهم محدودة.

33. ممّا تقدّم يتّضح أنّ الضمير في (يئوده) يعود على الله، ويؤكّد هذا ما سبق من آيات والآية التالية، فضمائرها كلّها تعود على الله، وعليه فإنّ احتمال عود هذا الضمير إلى (الكرسي) ـ باعتبار أنّ حفظ السماوات والأرض ليس ثقيلا على الكرسي ـ ضعيف جدا.

34. ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: 4]، توكيد لما سبق، أي أنّ الله الذي هو أرفع وأعلى من كلّ شبيه وشريك، ومنزّه عن كلّ نقص وعيب، وهو العظيم اللامحدود، لا يصعب عليه أي عمل ولا يتعبه حفظ عالم الوجود وتدبيره، ولا يغفل عنه أبدا، وعلمه محيط بكلّ شيء.

35. سؤال وإشكال: هل أنّ آيه الكرسيّ هي التي تبدأ من قوله: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ وتنتهي بقوله‏ ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: 4] أو أنّ الآيتين التاليتين لهذه الآية جزء من آية الكرسيّ، فعلى هذا لو ورد الأمر بقراءة آية الكرسيّ في صلاة (ليلة الدفن) مثلا فلا بدّ من قراءة الثلاث آيات هذه، والجواب: هناك قرائن تشير إلى أنّ آية الكرسيّ هي الآية المذكورة آنفا:

أ. إنّ جميع الروايات التي أوردت فضيلة هذه الآية وعبّرت عنها بآية الكرسي تدلّ على أنّها آية واحدة لا أكثر.

ب. أنّ كلمة (الكرسيّ) وردت في الآية الاولى فقط، فلذلك فأنّ تسميتها بآية الكرسيّ متعلّق بهذه الآية.

ج. ورد في بعض الأحاديث تصريح بهذا المعنى، فالحديث الذي ذكره الشيخ ـ في أماليه ـ عن أمير المؤمنين عليه السّلام حيث قال عليه السّلام‏ ضمن بيان فضيلة آية الكرسيّ أنّه بدأها من‏ ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ إلى قوله‏ ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: 4].

د. ذكر صاحب مجمع البيان نقلا عن مستدرك سفينة البحار أنّ (وآية الكرسيّ معروفة وهي إلى قوله وهو العليّ العظيم)

هـ. ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن الحسين عليهما السّلام عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (من قرأ أربع آيات من أول البقرة وآية الكرسي وآيتين بعدها، وثلاث آيات من آخرها لم ير في نفسه وماله شيئا يكرهه ولا يقربه شيطان، ولا ينسى القرآن)، ومن هذا التعبير يستفاد أيضا أنّ آية الكرسيّ آية واحدة.

و. ورد في بعض الروايات أنّ آية الكرسيّ خمسون كلمة، وفي كلّ كلمة خمسون بركة، وعند ما يعدّ كلمات هذه الآية إلى قوله‏ ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: 4] تكون خمسين كلمة.

36. أجل يستفاد من بعض الروايات الأمر بقراءة هذه الثلاث آيات إلى قوله: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ دون أن تكون معنونة بعنوان آية الكرسيّ، وعلى كلّ حال أنّ المستفاد من القرائن أعلاه هو أنّ آية الكرسيّ آية واحدة لا أكثر.

37. اهميّة آية الكرسيّ الكبيرة تكمن في تضمّنها لمجموعة من المعارف الإسلامية والصفات الإلهيّة أعم من صفات الذات والفعل خاصّة مسألة التوحيد في أبعادها المختلفة، وهذه الصفات البالغة اثنا عشر صفة وكلّ واحدة منها يمكن أن تكون ناظرة إلى أحد المسائل التربويّة للإنسان تستحق التأمّل والتدبّر، وكما يقول أبو الفتوح الرازي أنّ كلّ واحدة من هذه الصفات تنفي أحد المذاهب الباطلة (وعلى هذا يمكن إصلاح وتقويم اثنا عشر فكرة باطلة وخاطئة بواسطة هذه الآية)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/243.