...
58. خيرية الأمة وشروطها
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈58⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 110]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
أبيّ:
روي عن أبيّ بن كعب (ت 22 هـ) أنّه قال: لم تكن أمة أكثر استجابة في الإسلام من هذه الأمة، فمن ثم قال ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٣٣.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إنه إنمّا هلك من كان قبلكم حيثما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك، وانهم لما تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات، فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقربا أجلا ولن يقطعا رزقا(1).
2. روي أنّه قال: قولوا الخير تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله(2).
3. روي أنّه قال: من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه ويده فهو ميت بين الأحياء(3).
4. روي أنّه قال: إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة إذا عملت الخاصة بالمنكر سرا من غير أن تعلم العامة، فإذا عملت الخاصة بالمنكر جهارا فلم تغير ذلك العامة استوجب الفريقان العقوبة من الله عزّ وجلّ(4).
__________
(1) الكافي: 5/57/6.
(2) المحاسن: 15/42.
(3) التهذيب: 6/181/374.
(4) علل الشرائع: 522/6.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ خير الناس للناس(1).
2. روي أنّه قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ هم الذين هاجروا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾، تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، والإقرار بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف، وتنهونهم عن المنكر، والمنكر هو التكذيب، وهو أنكر المنكر(3).
__________
(1) ابن المنذر: ٧٩٩.
(2) عبد الرزاق: ١/١٣٠.
(3) ابن جرير: ٥/٦٧٦.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بالتوحيد، ﴿وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ عن الشرك(1).
__________
(1) آدم ابن أبي إياس كما في تفسير مجاهد: ص٢٥٧.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾، يعني: تصدقون توحيد الله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿الْفَاسِقُونَ﴾، يعني: هم العاصون(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٣٤.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ هم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة، يعني: وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٧٣.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ على هذا الشرط، أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتؤمنوا بالله، يقول: لمن أنتم بين ظهرانيه، كقوله: ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الدخان: ٣٢](1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٧٣.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ خير الناس للناس، كان قبلكم لا يأمن هذا في بلاد هذا، ولا هذا في بلاد هذا، فكلما كنتم أمن فيكم الأحمر والأسود، وأنتم خير الناس للناس(1).
2. روي أنّه قال في الآية: نزلت في ابن مسعود، وعمار بن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٣٢.
(2) ابن جرير: ٥/٦٧٢.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ كنتم خير الناس للناس(1).
2. روي أنّه قال: قال رجل: أعوذ بالله أن أكون كنتيا، قيل له: ما الكنتي؟ قال تقول: لقد كنت مرة وكنت، وقرأ الحسن: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾(2).
3. روي أنّه قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ هم الذين مضوا من صدر هذه الأمة، يعني: أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قد كان الرجل منهم يلقى أخاه، فيقول: أبشر، أليس أنت كنتيا(3).
__________
(1) ابن وهْب في الجامع: ٢/٤٩.
(2) ابن المنذر: ١/٣٣٠.
(3) ابن المنذر: ١/٣٣٣.
العوفي:
روي عن عطية العوفي (ت 112 هـ) أنّه قال في الآية: خير الناس للناس، شهدتم للنبيين الذين كفر بهم قومهم بالبلاغ(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٣٣.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ خير أهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
2. روي أنّه قال: ويل لقوم لا يدينون الله بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر(2).
3. روي أنّه قال: بئس القوم قوم يعيبون الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر(3).
4. روي أنّه قال: يكون في آخر الزمان قوم ينبغ فيهم قوم مراؤون.. ولو أضرت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، هنالك يتم غضب الله عزّ وجلّ عليهم فيعمهم بعقابه فيهلك الأبرار في دار الأشرار، والصغار في دار الكبار، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر(4).
5. روي أنّه قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله، فمن نصرهما أعزه الله، ومن خذلهما خذله الله(5).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٣٣.
(2) الكافي: 5/56/4.
(3) الكافي: 5/57/5.
(4) الكافي: 5/55/1.
(5) ثواب الاعمال: 192/1.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: هم أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، لم يؤمر نبي قبله بالقتال، فهم يقاتلون الكفار فيدخلونهم في دينهم، فهم خير أمة للناس(1).
2. روي أنّه قال: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ استثنى الله منهم ثلاثة كانوا على الهدى والحق(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ذم الله أكثر الناس(2).
__________
(1) تفسير البغوي: ٤/٩٠.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٣٤.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ لم تكن أمة أكثر استجابة في الإسلام من هذه الأمة، فمن ثم قال ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٧٤.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: في قول الله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾: (يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم، فهم الأمة التي بعث الله فيها ومنها وإليها، وهم الأمة الوسطى، وهم خير أمة أخرجت للناس(1).
2. روي أنّه قال: ما قدّست أُمّة لم يؤخذ لضعيفها من قويها غير متعتع(2).
3. روي أنّه قال: ويل لمن يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف(3).
4. روي أنّه قال: في حديث شرائع الدين: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على من أمكنه ذلك، ولم يخف على نفسه ولا على أصحابه(4).
5. روي أنّه قال: أيها الناس مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يقربا أجلا ولم يباعدا رزقا(5).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/195.
(2) الكافي: 5/56/2.
(3) الزهد: 106/290.
(4) الخصال: 609.
(5) تفسير القمي: 2/36.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ليس خلق من أهل الأديان إلا قالوا: ليس علينا جناح فيما نصيب من غيرنا من أهل الأديان، ولا يأمرون من سواهم بالخير، وهذه الأمة يأمرون كل أهل دين وأنفسهم، لا يظلم بعضهم بعضا، بل يأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر؛ فأمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم خير الأمم للناس(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٢٧.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: يعنى: خير الناس للناس، ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ في زمانكم، كما فضل بني إسرائيل في زمانهم(1).
2. روي أنّه قال: قوله ﴿تَأْمُرُونَ﴾ الناس: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ يعني: بالإيمان، ﴿وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ﴾ بتوحيد الله، وتنهونهم عن الظلم، وأنتم خير الناس للناس، وغيركم من أهل الأديان لا يأمرون أنفسهم ولا غيرهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر(1).
3. روي أنّه قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾، يعني: خير الناس للناس، وذلك أن مالك بن الضيف، ووهب بن يهوذا قالا لعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبى حذيفة: إن ديننا خير مما تدعونا إليه، فأنزل الله تعالى فيهم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَلَوْ آمَنَ﴾ يعني: ولو صدق ﴿أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ يعني: اليهود بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما جاء به من الحق، ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ من الكفر(1).
5. روي أنّه قال: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ يعني: عبد الله بن سلام وأصحابه، ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ يعني: العاصين، يعني: اليهود(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٥.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي: تأمرونهم، أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، والإقرار بما أنزل الله، وتقاتلون عليه، ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف، والمنكر: هو التكذيب، فهو أنكر المنكر، قال قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء)، قلنا: يا رسول الله، وما هو؟ قال (نصرت بالرّعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسمّيت أحمد، وجعل التّراب لي طهورا، وجعلت أمّتى خير الأمم)
2. في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ﴾ وجهان:
أ. أي: ﴿كُنْتُمْ﴾ على ألسن الرسل في الكتب المتقدمة خير أمة.
ب. ويحتمل: أي: كنتم صرتم بإيمانكم برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، واتباعكم ما معه ـ خير أمّة على وجه الأرض؛ لأنهم آمنوا ببعض، وكفروا ببعض.
3. قوله تعالى: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ يتوجّه إلى وجوه:
أ. المعروف: هو المعروف في العقول، أي لهم من الذكر والشرف والعزّ في أهل الإيمان أكثر مما لهم في أهل الكفر؛ ألا ترى أنّ من آمن منهم من درسة الكتاب وعلمائهم ـ كان لهم من الذكر والشرف في الإيمان ما لم يكن لأحد مات منهم على الكفر؛ نحو: عبد الله بن سلام، ومن أسلم منهم؛ نحو: كعب، وغيره من الأحبار!؟ وإنما كانوا من علمائهم لم يكونوا من علماء أهل الإيمان، فنالوا بالإيمان من الذكر والعزّ والشرف ما لم ينل أحد منهم مات على الكفر، بل حمل ذكرهم وانتشر في أهلهم؛ فضلا عن أهل الإيمان والإسلام
ب. الثاني: أنهم كانوا أبوا الإسلام واتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، واختاروا المقام على الكفر؛ خوفا وإشفاقا على ما لهم من المنافع والمنال أن يذهب ذلك عنهم بالإسلام، فأخبر عزّ وجل أنهم لو آمنوا لكان خيرا لهم في الآخرة؛ إذ ذاك. ينقطع ويذهب عن قريب، والذي لأهل الإيمان في الآخرة باق دائم، لا يزول أبدًا؛ لما كان الذي يُنال بالإيمان غيبًا، وكذلك ما يحلُّ بالكفار من جزاء الكفر غيب اشتد عليهم الفكر والتدبر، لما يمنعهم عن الشهوات، وينغص عليهم اللذات، فآثروا ما هوته أنفسهم وتلذذوا به على التدبر، مع ما كان إدرإك الغائب بالشاهد أمر عسير، لا يوصل إليه إلا بفضل اللَّه، ولم يكن عليه ذلك لا يسقط معنى الإفضال والإنعام، ويصير حقًا مع ما كان منهم تقديم الجفاء، وإيثار زهرة الدنيا وبهجة الغنى على الموعود، واللَّه أعلم.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/455.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ أي أنتم خير الأمم كلها، يعني من اتبع رسول الله وأطاعه، وفضل التابع على قدر فضل المتبوع، لأن أمة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رأوا من الهدى ما لم يُرَ قبلهم، فكأنهم أعلم من تلك الأمم لأن معلمهم ونبيهم صلّى الله عليه وآله وسلّم أعلم الأئمة الذين مضوا قبله وبعده، وإنما قال كنتم خير أمة أخرجت للناس ولم يقل خير أمة تخرج.. وأمة نبينا الذين اقتدوا به خير الأمة، وأمتنا نحن أفضل منهم، لأنهم إذا اقتدوا بنا، وساروا بسيرتنا، أعلم من الأمم كلها، لا ينكر ذلك أحد يعقل، ولا يكابره إلا مَن يجهل، فنحمد الله على ما خصنا به من اليقين، والمعرفة لله الواحد الصمد المتين.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 262.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ فإن قيل: فلم لم يقل أنتم خير أمة والمعنى أن الله سبحانه قدم البشارة لهم بأنهم خير أمة فقال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ ولم يقل: أنتم خير أمة في البشارة.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/150.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: لم قال ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ ولم يقل أنتم خير أمة؟ والجواب: فيه أربعة أجوبة:
أ. أحدها: أن الله تعالى قد كان قدم البشارة لهم بأنهم خير أمة، فقال: ﴿كُنْتُمْ﴾ يعني إلى ما تقدم في البشارة، وهذا قول الحسن البصري، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (أنتم تتمّون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله)
ب. الثاني: أن ذلك لتأكد الأمر لأن المتقدم مستصحب وليس الآنف متقدما، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾
ج. الثالث: معناه خلقهم خير أمّة.
د. الرابع: كنتم خير أمّة في اللوح المحفوظ.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/416.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وجه اتصال هذه الآية بما قبلها اتصال المدح على الفعل الذي تقدم به الأمر، لأنه قد تقدم إيجاب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ثم مدح على قبوله والتمسك به، ويجوز أيضاً أن يكون اتصال التعظيم لله تعالى بمدح المطيعين له في الأشياء التي بينت، لأنهم بلطف الله تعالى أطاعوا.
2. قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ ولم يقل: (أنتم خير أمة) لأحد أمور:
أ. أحدها: قال الحسن أن ذلك لما قد كان في الكتب المتقدمة ما يسمع من الخير في هذه الأمة من جهة البشارة، وقال: نحن آخرها وأكرمها على الله، وكذلك روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله) فهو موافق لمعنى أنتم خير أمة إلا أنه ذكر (كنتم) لتقدم البشارة به، ويكون التقدير ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ في الكتب الماضية فحققوا ذلك بالافعال الجميلة.
ب. الثاني: أن كان زائدة ودخولها وخروجها بمعنى، إلا أن فيها تأكيد وقوع الأمر لا محالة، لأنه بمنزلة ما قد كان في الحقيقة، كما قال: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ﴾ وفي موضع آخر ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ ونظيره قوله: ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ لأن مغفرته المستأنفة كالماضية في تحقيق الوقوع لا محالة.
ج. الثالث: أن (كان) تامة هاهنا ومعناه حدثتم خير أمة ويكون خير أمة نصباً على الحال.
د. الرابع: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ في اللوح المحفوظ.
هـ. الخامس: كنتم مذ أنتم ليدل على أنهم كذلك مذ أول أمرهم.
3. اختلف المفسرون في المعني بقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾:
أ. فقال قوم: هم الذين هاجروا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ذكره ابن عباس، وعمر بن الخطاب، والسدي.
ب. وقال عكرمة: نزلت في ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل.
ج. وقال الضحاك: هم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة.
د. وقال مجاهد معناه ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ إذا فعلتم، ما تضمنته الآية من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والايمان بالله والعمل بما أوجبه.
هـ. وقال الربيع: معناه ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾، لأنه لم يكن أمة أكثر استجابة في الإسلام، من هذه الأمة.
4. سؤال وإشكال: لم قيل للحسن معروف مع أن القبيح أيضاً يعرف أنه قبيح، ولا يجوز أن يطلق عليه اسم معروف؟ والجواب: لأن القبيح بمنزلة ما لا يعرف لخموله وسقوطه، والحسن بمنزلة النبيه الذي يعرف بجلالته وعلو قدره، ويعرف أيضاً بالملابسة الظاهرة والمشاهدة فأما القبيح، فلا يستحق هذه المنزلة.
5. ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ معناه لو صدقوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ﴾:
أ. قيل: يعني معترفون بما دلت عليه كتبهم في صفة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم، والبشارة به.
ب. وقيل: إنها تناولت من آمن منهم كعبد الله بن سلام، وأخيه، وغيرهما.
7. ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ يعني من لم يؤمن منهم، وإنما وصفهم بالفسق دون الكفر الذي هو أعظم:
أ. لأن الغرض الاشعار بأنهم خرجوا بالفسق عما يوجبه كتابهم من الإقرار بالحق في نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأصل الفسق الخروج.
ب. ووجه آخر وهو أنهم في الكفار بمنزلة الفساق في العصاة بخروجهم إلى الحال الفاحشة التي هي أشنع وأفظع من حال من لم يقدم إليه ذكر فيه.
8. ليس في الآية ما يدل على أن الإجماع حجة على ما بيناه في أصول الفقه، وتلخيص الشافي، وجملته أن هذا الخطاب لا يجوز أن يكون المراد به جميع الأمة، لأن أكثرها بخلاف هذه الصفة، بل فيها من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، ومتى كان المراد بها بعض الأمة، فنحن نقول ان في الامة من هذه صفته، وهو من دل الدليل على عصمته، فمن أين لو أنا، فرضنا فقدهم، لكان إجماعهم حجة واستوفينا هناك ما تقتضيه الأسئلة والجوابات، فلا نطول بذكره هاهنا.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/557.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾
أ. قيل: نزلت في عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة قال لهم مالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا اليهودي بأن نبينا خير من نبيكم، وديننا أفضل مما تدعوننا إليه، ونحن خير منكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن عكرمة ومقاتل.
ب. وقيل: نزلت في المهاجرين، عن ابن عباس.
ج. وقيل: في أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الضحاك.
2. لما تقدم الأمر والنهي عقبه بذكر المدح لمن قام به، والترغيب في مثل حالهم، فقال تعالى: ﴿كُنْتُمْ﴾:
أ. قيل: خطاب للصحابة.
ب. وقيل: للمهاجرين.
ج. وقيل: لجميع المؤمنين.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ﴾:
أ. قيل: فيما كان يسمع من الخير في هذه الأمة فيما بشرهم، عن الحسن، وقال: نحن آخرها وأكرمها على الله تعالى، وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنتم تتمون سبعين أمة، أنْتم خيرها وأكرمها على الله تعالى) فذكر ﴿كُنْتُمْ﴾ لتقديم البشارة بهم وبخصالهم.
ب. وقيل: معناه أنتم خير أمة، ودخول ﴿كَانَ﴾ تأكيد لوقوع الأمر لا محالة؛ لأنه بمنزلة ما كان في الحقيقة، كقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ وفي موضع آخر ﴿إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ﴾
ج. وقيل: معناه حدثتم ووجدتم ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾، فيكون ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ بمعنى الحال، عن ابن جرير.
د. وقيل: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ في اللوح المحفوظ.
هـ. وقيل: هو تفصيل لقوله: ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللهِ﴾ يعني تقول لكم الملائكة: كنتم في الدنيا خير أمة، عن أبي مسلم.
و. وقيل: كنتم بمعنى صرتم خير أمة بأمركم بالمعروف، عن أبي مسلم.
ز. وقيل: معناه كنتم مذ أتيتم خير أمة تنبيهًا أنهم كذلك من أول أمرهم.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾:
قيل: خير من سائر الأمم وأفضل.
وقيل: أراد أنتم أكثر الأمم خيارًا، والمراد بالخير أفضل الأمم.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾:
أ. قيل: تقديره: أنتم خير الناس للناس ﴿وَأَخْرَجَتِ﴾ صلة، ومعناه: أنتم خير للناس تدخلونهم في الإسلام بالقتال، عن قتادة.
ب. وقيل: لأنهم يأمرون بالمعروف، ويتمسكون به، فهو خير لأنفسهم وللناس، عن مقاتل.
ج. وقيل: هم خير أمة أظهرت للناس، ﴿وَالنَّاسِ﴾ صلة، ومعناه لم يخرج الله تعالى أمة خيرًا من أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
د. وقيل: أخرجت بمعنى ثبتت للناس، وبشر بها في الكتب.
هـ. وقيل: أظهرت بخلافكم على سائر الأمم عن الأصم.
6. ثم ذكر الله تعالى مناقبهم، فقال: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بالطاعات ﴿وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ عن المعاصي ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ بتوحيده وعدله ودينه ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ اليهود والنصارى بمحمد وما جاء به ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ أي لكان ذلك الإيمان خَيرًا لهم؛ لأنهم في الدنيا ينجون من القتل والسبي، وفي الآخرة من العذاب، ويفوزون بالجنة ﴿مِنْهُمْ﴾ أي من أهل الكتاب ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود والنجاشي وأصحابه من النصارى.
7. ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ الخارجون عن طاعة الله، وإنما ذكرهم بالفسق، وإن كان الكفر أعظم:
أ. قيل: للإشعار بأنهم خرجوا بالفسق عما يوجبه كتابهم من الإقرار بنبوة محمد، صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ إذ أصل الفسق الخروج.
ب. وقيل: معناه أنهم في الكفار بمنزلة الفاسقين في العصاة، لخروجهم إلى الحال الفاحشة التي هي أشنع وأفظع.
ج. وقيل: أراد بالفسق خروجهم عن طاعة الله، ثم قد يكون ذلك بالكفر، وبغير الكفر.
8. تدل الآيات الكريمة على:
أ. فضل هذه الأمة على سائر الأمم، وأن الخير فيهم أظهر، والخيار فيهم أكثر.
ب. أنهم إنما صاروا كذلك بخصلتين:
• إحداهما: أنهم يؤمنون بِاللهِ، فيدخل فيه جميع خصال الإيمان والتمسك به، والعمل بموجبه.
• الثانية: دعاء الغير إليه، فيدخل فيه جميع ما يتعلق بالغير، فلا يشذ عن ذلك شيء من التكاليف، قال أبو عثمان الجاحظ: من فضل هذه الأمة كثرة علومها في الأصول والفروع، وقد بلغ مدة اليهود أكثر من ثلاثة آلاف سنة، ثم إنما يتعلمون الكلام من المسلمين، وليس لهم من فروع الفقه إلا القليل، وهذا صحيح، فإنك إذا نظرت في علوم أهل الإسلام في الكلام دقيقه وجليله، وفي كتب الفقه أصوله وفروعه، وفي كتب التفسير والقراءة وإعراب القرآن ولغاته وغير ذلك تجد ما لا يحصى، وكل ذلك فضل الله، فليس لأمة من الأمم عُشْرُ عُشَيْرِ ذلك.
ج. أن المؤمنين من أهل الكتاب قليلون، وأن أكثر فسقة.
9. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿خَيْرًا لَهُمْ﴾ نصب لأنه خبر ﴿كَانَ﴾ تقديره: لكان إيمانهم خيرًا لهم.
ب. ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ﴾: ابتداء وخبر ومحلها رفع.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/343.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما تقدم ذكر الأمر والنهي، عقبه تعالى بذكر من تصدى للقيام بذلك، ومدحهم ترغيبا في الاقتداء بهم، فقال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾
2. في ﴿كُنْتُمْ﴾ في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ أقوال:
أ. أحدها: إن معناه أنتم خير أمة، وإنما قال: ﴿كُنْتُمْ﴾ لتقدم البشارة لهم في الكتب الماضية، عن الحسن، ويعضده ما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: أنتم وفيتم سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله.
ب. ثانيها: إن المراد كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ، عن الفراء والزجاج.
ج. ثالثها: إن كا هاهنا تامة، ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾: نصب على الحال، ومعناه: وجدتم خير أمة، وخلقتم خير أمة.
د. رابعها: إن كان مزيدة دخولها كخروجها، إلا أن فيها تأكيدا لوقوع الامر لا محالة، لأنه بمنزلة ما قد كان في الحقيقة، فهي بمنزلة قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ﴾، وفي مواضع آخر: ﴿إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ ونظيره قوله: ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ لأنه مغفرته المستأنفة كالماضية في تحقيق الوقوع.
هـ. خامسها: إن كان بمعنى صار، كما في قول الشاعر:
çفخر على الآلاء توسدته... وقد كان الدماء له خماراé
ومعناه: صرتم خير أمة خلقت لأمركم بالمعروف، ونهيكم عن المنكر، وإيمانكم بالله، فتصير هذه الخصال على هذا القول شرطا في كونهم خيرا، وقد روي عن بعض الصحابة أنه قال: من أراد أن يكون خير هذه الأمة، فليود شرط الله فيه من الايمان بالله، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
3. اختلف في المعني بالخطاب:
أ. فقيل: هم المهاجرون خاصة، عن ابن عباس والسدي.
ب. وقيل: نزلت في ابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، عن عكرمة.
ج. وقيل: أراد بهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة، عن الضحاك.
د. وقيل: هو خطاب للصحابة، ولكنه يعم سائر الأمة.
4. ثم ذكر مناقبهم فقال: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بالطاعات ﴿وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ عن المعاصي.
5. سؤال وإشكال: إن القبيح أيضا يعرف أنه قبيح، فلم خص الحسن باسم المعروف؟ والجواب: إن القبيح جعل بمنزلة ما لا يعرف لخموله وسقوطه، وجعل الحسن بمنزلة النبيه الجليل القدر، يعرف لنباهته، وعلو قدره.
6. ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ أي بتوحيده وعدله ودينه ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ أي: لو صدقوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبما جاء به ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ أي: لكان ذلك الايمان خيرا لهم في الدنيا والآخرة، لأنهم ينجون بها في الدنيا من القتل، وفي الآخرة من العذاب، ويفوزون بالجنة.
7. ﴿مِنْهُمْ﴾ أي: من أهل الكتاب ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ أي: المعترفون بما دلت عليه كتبهم من صفة نبينا، والبشارة به كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود، والنجاشي وأصحابه من النصارى.
8. ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أي: الخارجون عن طاعة الله تعالى، وإنما وصفهم بالفسق دون الكفر الذي هو أعظم:
أ. لان الغرض الايذان بأنهم خرجوا عما يوجبه كتابهم من الاقرار بالحق في نبوة نبينا.
ب. وقيل: لأنهم في الكفار بمنزلة الفساق العصاة، لخروجهم إلى الحال الفاحشة التي هي أشنع وأفظع.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/811.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ سبب نزولها أن مالك بن الصيف ووهب بن يهوذا اليهوديين، قالا لابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل: ديننا خير مما تدعونا إليه، ونحن أفضل منكم، فنزلت هذه الآية، هذا قول عكرمة ومقاتل.
2. فيمن أريد بهذه الآية، أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنهم أهل بدر.
ب. الثاني: أنهم المهاجرون.
ج. الثالث: جميع الصحابة.
د. الرابع: جميع أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، نقلت هذه الأقوال كلها عن ابن عباس، وقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنّه قال: إنّكم توفّون سبعين أمة أنتم خيرها، وأكرمها على الله عز وجل)، قال الزجّاج: وأصل الخطاب لأصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو يعمّ سائر أمّته.
3. في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها على أصلها، والمراد بها الماضي، ثم فيه ثلاثة أقوال:
• أحدها: أن معناه: كنتم في اللوح المحفوظ.
• الثاني: أن معناه: خلقتم وجدتم، ذكرهما المفسّرون.
• الثالث: أن المعنى: كنتم مذ كنتم، ذكره ابن الأنباريّ.
ب. الثاني: أن معنى كنتم: أنتم، كقوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، ذكره الفرّاء، والزجّاج، قال ابن قتيبة: وقد يأتي الفعل على بنية الماضي، وهو راهن، أو مستقبل، كقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ﴾ ومعناه: أنتم، ومثله: ﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى﴾، أي: وإذ يقول، ومثله: ﴿أَتَى أَمْرُ اللهِ﴾، أي: سيأتي، ومثله: ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ﴾، أي: من هو في المهد، ومثله: ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ أي: والله سميع بصير، ومثله: ﴿فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ﴾ أي: فنسوقه.
4. في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن معناه: كنتم خير النّاس للنّاس، قال أبو هريرة: يأتون بهم في السّلاسل حتى يدخلوهم في الإسلام.
ب. الثاني: أن معناه: كنتم خير الأمم التي أخرجت.
5. في قوله تعالى: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه شرط في الخيريّة، وهذا المعنى مروي عن عمر بن الخطّاب، ومجاهد، والزجّاج.
ب. الثاني: أنه ثناء من الله عليهم، قاله الرّبيع بن أنس، قال أبو العالية: والمعروف: التّوحيد، والمنكر: الشّرك، قال ابن عباس: وأهل الكتاب: النّصارى واليهود.
6. ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ﴾: من أسلم، كعبد الله بن سلام وأصحابه، ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ يعني: الكافرين، وهم الذين لم يسلموا.
__________
(1) زاد المسير: 1/315.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في علاقة الآية الكريمة بما قبلها وجهان:
أ. الأول: أنه تعالى لما أمر المؤمنين ببعض الأشياء ونهاهم عن بعضها وحذرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب في التمرد والعصيان، وذكر عقيبه ثواب المطيعين وعقاب الكافرين، كان الغرض من كل هذه الآيات حمل المؤمنين المكلفين على الانقياد والطاعة ومنعهم عن التمرد والمعصية، ثم إنه تعالى أردف ذلك بطريق آخر يقتضي حمل المؤمنين على الانقياد والطاعة فقال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ والمعنى أنكم كنتم في اللوح المحفوظ خير الأمم وأفضلهم، فاللائق بهذا أن لا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة، وأن لا تزيلوا عن أنفسكم هذه الخصلة المحمودة، وأن تكونوا منقادين مطيعين في كل ما يتوجه عليكم من التكاليف.
ب. الثاني: أن الله تعالى لما ذكر كمال حال الأشقياء وهو قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ [آل عمران: 106] وكمال حال السعداء وهو قوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ [آل عمران: 107] نبه على ما هو السبب لوعيد الأشقياء بقوله: ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 108] يعني أنهم إنما استحقوا ذلك بأفعالهم القبيحة، ثم نبه في هذه الآية على ما هو السبب لوعد السعداء بقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ أي تلك السعادات والكمالات والكرامات إنما فازوا بها في الآخرة لأنهم كانوا في الدنيا ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾
2. لفظة (كان) قد تكون تامة وناقصة وزائدة على ما هو مشروح في النحو واختلف المفسرون في قوله: ﴿كُنْتُمْ﴾ على وجوه:
أ. الأول: أن (كان) هاهنا تامة بمعنى الوقوع والحدوث وهو لا يحتاج إلى خبر، والمعنى: حدثتم خير أمة ووجدتم وخلقتم خير أمة، ويكون قوله: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ بمعنى الحال وهذا قول جمع من المفسرين.
ب. الثاني: أن (كان) هاهنا ناقصة وفيه سؤال وإشكال: وهو أن هذا يوهم أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة وأنهم ما بقوا الآن عليها والجواب: أن قوله (كان) عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام، ولا يدل ذلك على انقطاع طارئ بدليل قوله: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ [نوح: 10]، وقوله: ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفتح: 14]، وللمفسرين على هذا التقدير أقوال:
• أحدها: كنتم في علم الله خير أمة.
• ثانيها: كنتم في الأمم الذين كانوا قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة وهو كقوله: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29] إلى قوله: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾ [الفتح: 29] فشدتهم على الكفار أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
• ثالثها: كنتم في اللوح المحفوظ موصوفين بأنكم خير أمة.
• رابعها: كنتم منذ آمنتم خير أمة أخرجت للناس.
• خامسها: قال أبو مسلم قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ تابع لقوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ [آل عمران: 107] والتقدير: أنه يقال لهم عند الخلود في الجنة: كنتم في دنياكم خير أمة فاستحقيتم ما أنتم فيه من الرحمة وبياض الوجه بسببه، ويكون ما عرض بين أول القصة وآخرها كما لا يزال يعرض في القرآن من مثله.
• سادسها: قال بعضهم: لو شاء الله تعالى لقال (أنتم) وكان هذا التشريف حاصلًا لكلنا ولكن قوله: ﴿كُنْتُمْ﴾ مخصوص بقوم معينين من أصحاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم السابقون الأولون، ومن صنع مثل ما صنعوا.
• سابعها: كنتم مذ آمنتم خير أمة تنبيهاً على أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة مذ كانوا.
ج. الثالث: أن يقال (كان) هاهنا زائدة، وقال بعضهم قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ هو كقوله: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ [الأعراف: 86] وقال في موضع آخر ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ﴾ [الأنفال: 26] وإضمار كان وإظهارها سواء إلا أنها تذكر للتأكيد ووقوع الأمر لا محالة: قال ابن الأنباري: هذا القول ظاهر الاختلال، لأن (كان) تلغى متوسطة ومؤخرة، ولا تلغى متقدمة، تقول العرب: عبد الله كان قائم، وعبد الله قائم كان على أن كان ملغاة، ولا يقولون: كان عبد الله قائم على إلغائها، لأن سبيلهم أن يبدأ بما تنصرف العناية إليه، والملغى لا يكون في محل العناية، وأيضاً لا يجوز إلغاء الكون في الآية لانتصاب خبره، وإذا عمل الكون في الخبر فنصبه لم يكن ملغى.
د. الرابع: أن تكون (كان) بمعنى صار، فقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ معناه صرتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، أي صرتم خير أمة بسبب كونكم آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ومؤمنين بالله، ثم قال: ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ يعني كما أنكم اكتسبتم هذه الخيرية بسبب هذه الخصال، فأهل الكتاب لو آمنوا لحصلت لهم أيضاً صفة الخيرية والله أعلم.
3. احتج أصحابنا(2) بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة، وتقريره من وجهين:
أ. الأول: قوله تعالى: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: 159]، ثم قال في هذه الآية ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ فوجب بحكم هذه الآية أن تكون هذه الآية أفضل من أولئك الذين يهدون بالحق من قوم موسى، وإذا كان هؤلاء أفضل منهم وجب أن تكون هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق إذ لو جاز في هذه الآية أن تحكم بما ليس بحق لامتنع كون هذه الأمة أفضل من الأمة التي تهدي بالحق، لأن المبطل يمتنع أن يكون خيراً من المحق، فثبت أن هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق، وإذا كان كذلك كان إجماعهم حجة.
ب. الثاني: وهو (أن الألف واللام) في لفظ ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ ولفظ ﴿الْمُنْكَرِ﴾ يفيدان الاستغراق، وهذا يقتضي كونهم آمرين بكل معروف، وناهين عن كل منكر ومتى كانوا كذلك كان إجماعهم حقا وصدقاً لا محالة فكان حجة، والمباحث الكثيرة فيه ذكرناها في الأصول.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾:
أ. قال الزجاج: ظاهر الخطاب فيه مع أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكنه عام في كل الأمة، ونظيره قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: 183] ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ [البقرة: 178] فإن كل ذلك خطاب مع الحاضرين بحسب اللفظ، ولكنه عام في حق الكل كذا هاهنا.
ب. قال القفال: أصل الأمة الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد فأمة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم هم الجماعة الموصوفون بالإيمان به والإقرار بنبوته، وقد يقال لكل من جمعتهم دعوته أنهم أمته إلا أن لفظ الأمة إذا أطلقت وحدها وقع على الأول، ألا ترى أنه إذا قيل أجمعت الأمة على كذا فهم منه الأول وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أمتي لا تجتمع على ضلالة)، وروي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول يوم القيامة (أمتي أمتي)، فلفظ الأمة في هذه المواضع وأشباهها يفهم منه المقرون بنبوته، فأما أهل دعوته فإنه إنما يقال لهم: إنهم أمة الدعوة ولا يطلق عليهم إلا لفظ الأمة بهذا الشرط.
5. في قوله تعالى: ﴿أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ قولان.
أ. الأول: أن المعنى كنتم خير الأمم المخرجة للناس في جميع الأعصار، فقوله: ﴿أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ أي أظهرت للناس حتى تميزت وعرفت وفصل بينها وبين غيرها.
ب. الثاني: أن قوله: ﴿لِلنَّاسِ﴾ من تمام قوله: ﴿كُنْتُمْ﴾ والتقدير: كنتم للناس خير أمة، ومنهم من قال: ﴿أُخْرِجَتْ﴾ صلة، والتقدير: كنتم خير أمة للناس.
6. ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ هذا كلام مستأنف، والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية، كما تقول: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم، وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقروناً بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللًا بذلك الوصف، فههنا حكم تعالى بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة، ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطاعات، أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات.
7. سؤال وإشكال: من أي وجه يقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله كون هذه الأمة خير الأمم مع أن هذه الصفات الثلاثة كانت حاصلة في سائر الأمم؟ والجواب: قال القفال: تفضيلهم على الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بآكد الوجوه وهو القتال لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد، وأقواها ما يكون بالقتال، لأنه إلقاء النفس في خطر القتل وأعرف المعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات: الكفر بالله، فكان الجهاد في الدين محملًا لأعظم المضار لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع، وتخليصه من أعظم المضار، فوجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات، ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع، لا جرم صار ذلك موجباً لفضل هذه الأمة على سائر الأمم، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقروا بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه و(لا إله إلا الله) أعظم المعروف، والتكذيب هو أنكر المنكر، ثم قال القفال: فائدة القتال على الدين لا ينكره منصف، وذلك لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الألف والعادة، ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم فإذا أكره على الدخول في الدين بالتخويف بالقتل دخل فيه، ثم لا يزال يضعف ما في قلبه من حب الدين الباطل، ولا يزال يقوى في قلبه حب الدين الحق إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحق، ومن استحقاق العذاب الدائم إلى استحقاق الثواب الدائم.
8. سؤال وإشكال: لم قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان بالله لا بد وأن يكون مقدماً على كل الطاعات؟ والجواب: أن الإيمان بالله أمر مشترك فيه بين جميع الأمم المحقة، ثم إنه تعالى فضل هذه الأمة على سائر الأمم المحقة، فيمتنع أن يكون المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الإيمان الذي هو القدر المشترك بين الكل، بل المؤثر في حصول هذه الزيادة هو كون هذه الأمة أقوى حالًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سائر الأمم، فإذن المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما الإيمان بالله فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات مؤثراً في صفة الخيرية، فثبت أن الموجب لهذه الخيرية هو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، وأما إيمانهم فذاك شرط التأثير، والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير، فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان.
9. سؤال وإشكال: لم اكتفى بذكر الإيمان بالله ولم يذكر الإيمان بالنبوة مع أنه لا بد منه؟ والجواب: الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالنبوّة، لأن الإيمان بالله لا يحصل إلا إذا حصل الإيمان بكونه صادقاً، والإيمان بكونه صادقاً لا يحصل إلا إذا كان الذي أظهر المعجز على وفق دعواه صادقا لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول، فلما شاهدنا ظهور المعجز على وفق دعوى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كان من ضرورة الإيمان بالله الإيمان بنبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان الاقتصار على ذكر الإيمان بالله تنبيهاً على هذه الدقيقة.
10. في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ وجهان:
أ. الأول: ولو آمن أهل الكتاب بهذا الدين الذي لأجله حصلت صفة الخيرية لأتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لحصلت هذه الخيرية أيضاً لهم، فالمقصود من هذا الكلام ترغيب أهل الكتاب في هذا الدين.
ب. الثاني: إن أهل الكتاب إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً للرياسة واستتباع العلوم ولو آمنوا لحصلت لهم هذه الرياسة في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة، فكان ذلك خيراً لهم مما قنعوا به.
11. ثم أتبع الله تعالى هذا الكلام بجملتين على سبيل الابتداء من غير عاطف:
أ. إحداهما: قوله: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 110]
ب. وثانيتهما: قوله: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾
قال الزمخشري: هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل: وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت، ولذلك جاء ﴿أَمَّنْ﴾ غير عاطف.
12. سؤال وإشكال: الألف واللام في قوله: ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ في قوله تعالى: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ للاستغراق أو للمعهود السابق؟ والجواب: بل للمعهود السابق، والمراد: عبد الله بن سلّام ورهطه من اليهود، والنجاشي ورهطه من النصارى.
13. سؤال وإشكال: الوصف إنما يذكر للمبالغة فأي مبالغة تحصل في وصف الكافر بأنه فاسق؟ والجواب: الكافر قد يكون عدلًا في دينه وقد يكون فاسقاً في دينه فيكون مردوداً عند الطوائف كلهم، لأن المسلمين لا يقبلونه لكفره، والكفار لا يقبلونه لكونه فاسقاً فيما بينهم، فكأنه قيل أهل الكتاب فريقان: منهم من آمن، والذين ما آمنوا فهم فاسقون في أديانهم، فليسوا ممن يجب الاقتداء بهم ألبتة عند أحد من العقلاء.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/324.
(2) يقصد أهل السنة، والأشاعرة خصوصا.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. روى الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ قال: (أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها عند الله)، وقال: هذا حديث حسن، وقال أبو هريرة: نحن خير الناس للناس نسوقهم بالسلاسل إلى الإسلام، وقال ابن عباس: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وشهدوا بدرا والحديبية، وقال عمر بن الخطاب: من فعل فعلهم كان مثلهم، وقيل: هم أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، يعني الصالحين منهم وأهل الفضل، وهم الشهداء على الناس يوم القيامة، كما تقدم في البقرة، وقال مجاهد: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ على الشرائط المذكورة في الآية، وقيل: معناه كنتم في اللوح المحفوظ، وقيل: كنتم مذ آمنتم خير أمة، وقيل: جاء ذلك لتقدم البشارة بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته، فالمعنى كنتم عند من تقدمكم من أهل الكتب خير أمة، وقال الأخفش: يريد أهل أمة، أي خير أهل دين، وأنشد:
çحلفت فلم أترك لنفسك ريبة...وهل يأثمن ذو أمة وهو طائعé
وقيل: هي كان التامة، والمعنى خلقتم ووجدتم خير أمة، فخير أمة حال، وقيل: كان زائدة، والمعنى أنتم خير أمة، وأنشد سيبويه: (وجيران لنا كانوا كرام)، ومثله قوله تعالى: ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ [مريم]، وقوله: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾، وقال في موضع آخر: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ﴾، وروى سفيان عن ميسرة الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ قال: تجرون الناس بالسلاسل إلى الإسلام، قال النحاس: والتقدير على هذا كنتم للناس خير أمة، وعلى قول مجاهد: كنتم خير أمة إذ كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.
2. قيل: إنما صارت أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم خير أمة لأن المسلمين منهم أكثر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى، فقيل: هذا لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خير الناس قرني) أي الذين بعثت فيهم.
3. إذا ثبت بنص التنزيل أن هذه الأمة خير الأمم:
أ. فقد روى الأئمة من حديث عمران بن حصين عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) الحديث، وهذا يدل على أن أول هذه الأمة أفضل ممن بعدهم، وإلى هذا ذهب معظم العلماء، وإن من صحب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ورآه ولو مرة في عمره أفضل ممن يأتي بعده، وإن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل(2)
ب. وذهب أبو عمر بن عبد البر إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة، وإن قول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خير الناس قرني) ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول، وقد جمع قرنه جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان وأهل الكبائر الذين أقام عليهم أو على بعضهم الخدود، وقال لهم: ما تقولون في السارق والشارب والزاني، وقال مواجهة لمن هو في قرنه: (لا تسبوا أصحابي)، وقال لخالد ابن الوليد في عمار: (لا تسب من هو خير منك) وروى أبو أمامة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى سبع مرات لمن لم يرني وآمن بي)، وفي مسند أبي داوود الطيالسي عن محمد بن أبي حميد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر، قال: كنت جالسا عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (أتدرون أي الخلق أفضل إيمانا) قلنا الملائكة، قال: (وحق لهم بل غيرهم) قلنا: الأنبياء، قال: (وحق لهم بل غيرهم)، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أفضل الخلق إيمانا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني يجدون ورقا فيعملون بما فيها فهم أفضل الخلق إيمانا)، وروى صالح بن جبير عن أبي جمعة قال: قلنا يا رسول الله، هل أحد خير منا؟ قال: (نعم قوم يجيئون من بعدكم فيجدون كتابا بين لوحين فيؤمنون بما فيه ويؤمنون بي ولم يروني)، وقال أبو عمر: وأبو جمعة له صحبة واسمه حبيب بن سباع، وصالح بن جبير من ثقات التابعين، وروى أبو ثعلبة الخشني عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (إن أمامكم أياما الصابر فيها على دينه كالقابض على الجمر للعامل فيها أجر خمسين رجلا يعمل مثله عمله) قيل: يا رسول الله، منهم؟ قال: بل منكم)، قال أبو عمر: وهذه اللفظة (بل منكم) قد سكت عنها بعض المحدثين فلم يذكرها، وقال عمر بن الخطاب في تأويل قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ قال: من فعل مثل فعلكم كان مثلكم.
ج. ولا تعارض بين الأحاديث، لأن الأول على الخصوص، والله الموفق، وقد قيل في توجيه أحاديث هذا الباب: إن قرنه إنما فضل لأنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم، وإن أواخر هذه الأمة إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على طاعة ربهم في حين ظهور الشر والفسق والهرج والمعاصي والكبائر كانوا عند ذلك أيضا غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الوقت كما زكت أعمال أوائلهم، ومما يشهد لهذا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء)، ويشهد له أيضا حديث أبي ثعلبة، ويشهد له أيضا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره)، ذكره أبو داوود الطيالسي وأبو عيسى الترمذي، ورواه هشام بن عبيد الله الرازي عن مالك عن الزهري عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره)، ذكره الدارقطني في مسند حديث مالك، قال أبو عمر: هشام بن عبيد الله ثقة لا يختلفون في ذلك، وروي أن عمر ابن عبد العزيز لما ولي الخلافة كتب إلى سالم بن عبد الله أن اكتب إلي بسيرة عمر بن الخطاب لأعمل بها، فكتب إليه سالم: إن عملت بسيرة عمر، فأنت أفضل من عمر لأن زمانك ليس كزمان عمر، ولا رجالك كرجال عمر، قال: وكتب إلى فقهاء زمانه، فكلهم كتب إليه بمثل قول سالم، وقد عارض بعض الجلة من العلماء قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خير الناس قرني) بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خير الناس من طال عمره وحسن عمله وشر الناس من طال عمره وساء عمله)، قال أبو عمر: فهذه الأحاديث تقتضي مع تواتر طرقها وحسنها التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها، والمعنى في ذلك ما تقدم ذكره من الإيمان والعمل الصالح في الزمان الفاسد الذي يرفع فيه من أهل العلم والدين، ويكثر فيه الفسق والهرج، ويذل المؤمن ويعز الفاجر ويعود الدين غريبا كما بدأ غريبا ويكون القائم فيه كالقابض على الجمر، فيستوي حينئذ أول هذه الأمة بآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية، ومن تدبر آثار هذا الباب بان له الصواب، والله يؤتي فضله من يشاء.
4. ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا التغيير وتواطئوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سببا لهلاكهم، وقد تقدم الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أول السورة، قوله تعالى: ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ أخبر أن إيمان أهل الكتاب بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خير لهم، وأخبر أن منهم مؤمنا وفاسقا، وأن الفاسق أكثر.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/171.
(2) هذا معارض للقرآن الكريم وهو من وضع الفئة الباغية.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ هذا كلام مستأنف، يتضمن بيان حال هذه الأمة في الفضل على غيرها من الأمم، وكان، قيل: هي التامة، أي: وجدتم وخلقتم خير أمة، ومثله ما أنشده سيبويه: (وجيران لنا كانوا كرام) ومنه قوله تعالى: ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾، وقال الأخفش: يريد: أهل أمة، أي: خير أهل دين، وأنشد:
çحلفت فلم أترك لنفسك ريبة...وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائعé
وقيل: معناه: كنتم في اللوح المحفوظ، وقيل: كنتم منذ آمنتم.
2. في الآية الكريمة دليل على أن هذه الأمة الإسلامية خير الأمم على الإطلاق، وأن هذه الخيرية مشتركة ما بين أول هذه الأمة وآخرها بالنسبة إلى غيرها من الأمم، وإن كانت متفاضلة في ذات بينها، كما ورد في فضل الصحابة على غيرهم.
3. ﴿أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ أي: أظهرت لهم، وقوله: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ الآية، كلام مستأنف، يتضمن بيان كونهم خير أمة؛ مع ما يشتمل عليه؛ من أنهم خير أمة ما أقاموا على ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر زال عنهم ذلك، ولهذا قال مجاهد: إنهم خير أمة على الشرائط المذكورة في الآية، وهذا يقتضي، أن يكون: تأمرون وما بعده، في محل نصب على الحال، أي: كنتم خير أمة حال كونكم آمرين، ناهين، مؤمنين بالله، وبما يجب عليكم الإيمان به من كتابه ورسوله وما شرعه لعباده، فإنه لا يتم الإيمان بالله سبحانه إلا بالإيمان بهذه الأمور.
4. ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ أي: اليهود، إيمانا كإيمان المسلمين بالله ورسله وكتبه ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل قالوا: نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض.
5. ثم بين حال أهل الكتاب بقوله: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ وهم الذين آمنوا برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم منهم، فإنهم آمنوا بما أنزل عليه وما أنزل من قبله ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أي: الخارجون عن طريق الحق، المتمردون في باطلهم، المكذبون لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولما جاء به، فيكون هذا التفصيل على هذا كلاما مستأنفا، جوابا عن سؤال مقدر، كأنه قيل: هل منهم من آمن فاستحق ما وعده الله؟
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/426.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُنتُمْ﴾ الخطاب للأمَّة كلِّها أمَّة الإجابة، كما قال عمر : (من سرَّه أن يكون من تلكم الأمَّة فليؤدِّ شكر الله تعالى)، يعني قوله تعالى: ﴿تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إلخ، فإمَّا أن يريد تلك الآية عمَّت، وإمَّا أن يريد خصَّت الصحابة ـ كما قيل ـ والمهاجرين وأنَّ غيرهم في حكمهم، وكذا إذا قيل: إنَّها في أهل البيت، أو قيل: في عمَّار وابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبيِّ بن كعب ومعاذ بن جبل، والصحيح الأوَّل، لحـديـث: (أُعطيت ما لم يُعط أحد من الأنبياء: نُصرت بالرعب، وأُعطيت مفاتيح الأرض، وسُمِّيت أحمد، وجُعل لي التراب طهورا، وجُعلت أمَّتي خير الأمم)، والمراد: كنتم في علم الله أو في اللَّوح أو بين الأمم أو في كتب الله السابقة، لا ما قيل: إنَّ (كان) مُقحم، وإنَّ الأصل: (أنتم خير أمَّة)، ولا ما قيل: إنَّها لا تدلُّ على عدم سابق أو لاحق، ولو رُجِّح في نحو هذا المقام، وأمَّا ﴿كَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [النساء: 96] فمعناه كان في الأزل أو في اللَّوح أو نحو ذلك أو ما قضى الله لا بدَّ منه فتكون هذه الأمَّة في زمانها خير أمَّة كما قال: ﴿كُنتُمْ﴾
2. ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ اُخْرِجَتْ﴾ خلقها الله من العدم، الجملة نعت لـ (أُمَّةٍ)، وهو أولى لقربِهِ ومناسبةِ اللَّفظ، وإن جعلت نعتا لـ (خَيْرَ) فلوقوعه على (أُمَّةٍ) ساغ تأنيثه، ﴿لِلنَّاسِ﴾ لنفعهم متعلِّق بـ (أُخْرِجَتْ) أو نعت لـ (أُمَّةٍ)، ﴿تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُومِنُونَ بِاللهِ﴾ بجميع ما يجب الإيمان به، فمن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر مع القدرة فقد أضاع دينه ولم يكن له فضلُ الأمَّة، فكأنَّه من غير أمَّة الإجابة.
3. الأمر والنهي ولو كانا في الأمم لكنَّهما في الأمَّة هذه أقوى؛ لأنَّه باللِّسان والبراءة والحبس والتعزير والنكال والأدب والقتال والهجران ومنع أمور عن ذي المنكر، وعدم قبول معروف لبعض أهل المنكر، وأخَّر الإيمان مع أنَّه أولى بالتقديم لذاته، ولأنَّه لا يقبل عمل بدونه ليشير إلى أنَّه علَّة الأمر والنهي ولشركة الأمم فيه، ولو أَمرت الأمَّة كلُّها بشيء أو نَهت عنه كان إجماعا وحجَّةً لهذه الآية، روي: (لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر أو لَيُسلِّطن الله عليكم سلطانًا ظالما لا يُجلُّ كبيرَكم ولا يرحم صغيرَكم، وتدعو خيارُكم فلا يُستجاب لهم، وتستنصرون فلا تُنصرون)
4. ﴿وَلَوَ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ اليهود، ﴿لَكَانَ﴾ إيمانهم ﴿خَيْرًا لَّهُم﴾ نفعا، أو أفضل من كفرهم، وذلك أَنَّ كفرهم يدَّعونه حسنا كإنكارهم النبيَّ وصفاته والقرآن، وعلى زعمهم يكون الإيمان بمحمَّد أحسن، وذلك أنَّ الإيمان في الآية هو الإيمان بسيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبما جاء به كالأمر والنهي، فإنَّ الإيمان التام يكون أفضل لو علموا.
5. ﴿مِنْهُمُ الْمُومِنُونَ﴾ بالتوراة والأنبياء كلِّهم والكتب كلِّها قبل محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وَلَمَّا جاء آمنوا به وبكتابه كعبد الله بن سلام وأخيه وثعلبة بن شعبة وكعب الأحبار والنجاشيِّ، أو كفروا قبله وآمنوا حين جاء، ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقبله، وكثر إسلام النصارى بعده، وقلَّ إسلام اليهود.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/349.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق، والدعوة إلى الخير، و﴿كُنْتُمْ﴾ من (كان) التامة، والمعنى وجدتم وخلقتم خير أمة، أو (الناقصة) والمعنى كنتم في علم الله خير أمة، أو في الأمم الذين كانوا قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة.
2. ﴿أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ صفة لأمة، واللام متعلقة بـ ﴿أُخْرِجَتْ﴾ أي أظهرت لهم حتى تميزت وعرفت، وفصل بينها وبين غيرها.
3. ثم بين وجه الخيرية بما لم يحصل مجموعه لغيرهم بقوله: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ فبهذه الصفات فضلوا على غيرهم ممن قال تعالى فيهم: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: 79]، ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ [النساء: 150]، قال أبو السعود: وتؤمنون بالله أي إيمانا متعلقا بكل ما يجب أن يؤمن به من رسول وكتاب وحساب وجزاء، وإنما لم يصرح به تفصيلا لظهور أنه الذي يؤمن به المؤمنون، وللإيذان بأنه هو الإيمان بالله تعالى حقيقة، وأن ما خلا عن شيء من ذلك كإيمان أهل الكتاب ليس من الإيمان به تعالى في شيء، قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ [النساء: 150 ـ 151] وإنما أخر ذلك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع تقدمه عليهما وجودا ورتبة، لأن دلالتهما على خيريتهم للناس أظهر من دلالته عليها وليقترن به ما بعده.. روى ابن جرير أن عمر بن الخطاب رأى من الناس رعة، فقرأ هذه الآية ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ ثم قال من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها.
4. نظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ أي خيارا، ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: 143]، أي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد روي في معنى الآية عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أحاديث وافرة، منها ما أخرجه أحمد والترمذيّ والحاكم عن معاوية بن حيدة، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألا إنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عزّ وجلّ)، قال ابن كثير: وهو حديث مشهور، وقد حسنه الترمذيّ، ويروى من حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد ونحوه.
5. إنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنه أشرف خلق الله، وأكرم الرسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم، لم يعطه نبيّ قبله، ولا رسول من الرسل، فالعمل على منهاجه وسبيله، يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه، وقد ذكر الحافظ ابن كثير هاهنا حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وساق طرقه ومخرجيه فأجاد.
6. ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ أي بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ أي مما هم عليه، إشارة إلى تسفيه أحلامهم في وقوفهم مع ما منعهم عن الإيمان من العوض القليل الفاني والرياسة التافهة، وتركهم الغنى الدائم، والعز الباهر، ولما كان هذا ربما أوهم أنه لم يؤمن منهم أحد قال مستأنفا ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أي بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ولكنهم قليل ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/386.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعدما أمر الله تعالى بالاعتصام بحبله وذكر بنعمته على المؤمنين بتأليف القلوب وأخوة الإسلام ـ وبعدما نهى عن التفرق في الأهواء والاختلاف في الدين وتوعد على ذلك بالعذاب العظيم ـ بين فضل المعتصمين بحبله، المتآخين في دينه، المتحابين فيه، ووصفهم بهذا الوصف الشريف: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾، فعلم منه أن خيرية الأمة وفضلها على غيرها تكون بهذه الأمور: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله تعالى.
2. في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ﴾ ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أنها تامة فالمعنى وجدتم خير أمة كأنه قال أنتم خير أمة في الوجود الآن لأن جميع الأمم غلب عليها الفساد فلا يعرف فيها المعروف ولا ينكر فيها المنكر وليست على الإيمان الصحيح الذي يزع أهله عن الشر ويصرفهم إلى الخير وأنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله إيمانا صحيحا يظهر أثره في العمل.
ب. الثاني: أنها ناقصة، والمعنى حينئذ كنتم في علم الله أو كنتم في الأمم السابقة كما في كتبها المبشرة بكم خير أمة الخ، وقال أبو مسلم: إن هذا القول يقال لمن ابيضت وجوههم، والمعنى (كنتم فيما سبق من أيام حياتكم خير أمة شأنكم كذا وكذا وبذلك كان لكم هذا الجزاء الحسن)، فالكلام عنده تتمة للآيات السابقة فكما ذكر فيها ما يقال لمن اسودت وجوههم ذكر أيضا ما يقال لمن ابيضت وجوههم، وقيل على هذا ـ أي كونها ناقصة ـ غير ذلك.
ج. الثالث: إن ﴿كَانَ﴾ هنا بمعنى صار، أي صرتم خير أمة وهذا أضعف الأقوال.
3. إذا فسرت كلمة ﴿كُنْتُمْ﴾ بغير ما قاله أبو مسلم كانت الجملة شهادة من الله تعالى للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن اتبعه من المؤمنين الصادقين إلى زمن نزولها بأنها خير أمة أخرجت للناس بتلك المزايا الثلاث، ومن اتبعهم فيها كان له حكمهم لا محالة، ولكن هذه الخيرية لا يستحقها من ليس لهم من الإسلام واتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا الدعوى وجعل الدين جنسية لهم بل لا يستحقها من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحج البيت الحرام والتزام الحلال واجتنب الحرام مع الإخلاص الذي هو روح الإسلام، إلا بعد القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالاعتصام بحبل الله مع اتقاء التفرق والخلاف في الدين.
4. قال محمد عبده ما معناه: هذا الوصف يصدق على الذين خوطبوا به أولا، وهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه الذين كانوا معه عليهم الرضوان، فهم الذين كانوا أعداء فألف الله بين قلوبهم فكانوا بنعمته إخوانا وهم الذين اعتصموا بحبل الله ولم يتفرقوا في الدين، فيذهبوا فيه مذاهب تتعصب لكل مذهب شيعة منهم، وهم الذين كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا يخاف في ذلك ضعيف قويا، ولا يهاب صغير كبيرا؛ وهم المؤمنون بالله ذلك الإيمان الذي استولى على عقولهم وقلوبهم ومشاعرهم وملك أزمة أهوائهم حتى كان هو المسير لهم في عامة أحوالهم ـ ذلك الإيمان الذي بين سبحانه خواصه وصفاته في آيات كثيرة وظهرت فوائده وآثاره في تغيير هيئة الأرض على أيديهم ـ ذلك الإيمان الذي قال تعالى في أهله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: 15] وقال فيهم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال:2] إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال:4] وقال فيهم ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون:1] الخ الآيات التي تحقق معناها ومعنى أمثالها في أولئك الأصحاب الذين كانوا مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
5. هذا معنى ما قال محمد عبده في الجملة إلا أن كلمة (وأصحابه الذين كانوا معه) هي من لفظه يريد أن هذه الصفات العالية والمزايا الكاملة لذلك الإيمان الكامل لم تكن لكل من يطلق عليه المحدثون اسم الصحابي كالأعرابي الذي يسلم ويرى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولو مرة واحدة، وكأنه أخذ ذلك من قوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الفتح: 29] فهم الذين تصدق عليهم تلك الصفات الجليلة وأفضلها وأعلاها الجهاد والهجرة إلى المدينة بالنسبة إلى غير أهلها والإيواء والنصر من أهلها، لذلك قال تعالى في آخر سورة الأنفال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ﴾ [الأنفال: 74 ـ 75] ولم يهاجر مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم منافق لأن الهجرة كانت في زمن الضعف وإنما يكون النفاق في زمن القوة، ومنافقو المدينة لم ينصروه صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنما كانوا يخذلون ويثبطون الصادقين من المؤمنين ويغرون الأعداء بهم، قال تعالى فيهم: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة: 47 ـ 47] وروي عن ابن عباس أن المراد بالآية المهاجرون الأولون وعن عمر أنها في خاصة الصحابة ومن صنع مثل صنيعهم.
6. سؤال وإشكال: إن بعض أولئك الصحابة الصادقين من المهاجرين والأنصار قد تفرقوا واختلفوا في الفتنة التي أثارها معاوية على علي أمير المؤمنين فهل خرجت الأمة بذلك عن كونها خير أمة أخرجت للناس؟ والجواب: من ثلاثة وجوه:
أ. أحدهما: أن ذلك الخلاف والتفرق لم يكن في الدين وإنما كان في أمر دنيوي لم يتغير به اعتقاد أهل الفريقين ولم يحدث به مذهب جديد في الإسلام فالدين نفسه لم يطرأ عليه شيء من ذلك الخلاف(2).
ب. ثانيهما: أن معاوية الذي أثار ذلك التفرق لم يكن من المهاجرين الأولين فإنه أسلم عام فتح مكة الذي انقطعت به الهجرة أو أظهر إسلامه في ذلك العام كما قال الواقدي أنه أسلم عام الحديبية وأنه كان في عمرة القضاء مسلما، قال الحافظ في الإصابة بعد نقل الواقدي: وهذا يعارضه ما ثبت في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في العمرة في أشهر الحج (فعلناها وهذا يومئذ كافر): يعني معاوية، وسواء صح قول الواقدي أم لا فمعاوية لم يهاجر ونقل ابن سعد عنه أنه كان يقول: لقد أسلمت قبل عمرة القضاء ولكني كنت أخاف أن أخرج إلى المدينة لأن أمي كانت تقول إن خرجت قطعنا عنك القوت: وما كان مع معاوية من المهاجرين الأولين إلا قليل اعتقدوا أنه يطالب بحق لا يلبث أن يناله وهو القصاص من قاتلي عثمان ـ ثم يدخل فيما دخل فيه الناس من مبايعة علي.
ج. ثالثها: قد عرف المطلعون على التاريخ أن الصحابة لم يفرطوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما وجدوا وإنما ضعف ذلك بعد انقراض أكثرهم وهذان الركنان هما بعد الإيمان أعظم أركان خيرية الأمة فما عرض من التفرق الدنيوي والخلاف بعد قتل عثمان لم يلبث أن زال بعد قتل علي، لأن التفرق والخلاف لا يدوم في أمة تقيم هذين الركنين ولو بغير نظام ولو كان لهما نظام في الصدر الأول لما وقع كل ذلك الذي وقع، ألم يهد لك كيف كان الناس يغلظون لمعاوية في إنكار ما ينكرونه عليه حتى غير الصحابة منهم؟
7. الحق أقول: إن هذه الأمة ما فتئت خير أمة أخرجت للناس حتى تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما تركتهما رغبة عنهما أو تهاونا بأمر الله تعالى بإقامتهما، بل مكرهة باستبداد الملوك والأمراء من بني أمية ومن سار على طريقهم ممن بعدهم وقد كان أول أمير منهم أظهر هذه الفتنة جهرا عبد الملك بن مروان إذ قال على المنبر: (من قال لي اتق الله ضربت عنقه) فقد كانت شجرة بني مروان الخبيثة هي التي سنت في هذه الأمة سنة الاستبداد فما زال يعظم ويتفاقم حتى سلب الأمة أفضل مزاياها في دينها ودنياها بعد الإيمان.
8. وقد بين الفخر الرازي في تفسيره نحو ما تقدم من كون وصف الأمة هنا بالأمر والنهي والإيمان علة لكونها خير أمة أخرجت للناس فقال: (واعلم أن هذا الكلام مستأنف والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية كما تقول زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم، وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، فهنا حكم تعالى بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطاعات أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات)
9. ثم أورد(3) سؤالا وذكر الجواب عنه فقال: أورد من أي وجه يقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله كون هذه الأمة خير الأمم مع أن هذه الصفات كانت حاصلة في سائر الأمم؟ والجواب: قال القفال تفضيلهم على الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بآكد الوجوه وهو القتال، لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد، وأقواها ما يكون بالقتال لأنه إلقاء النفس في خطر القتل، وأعرف المعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات الكفر بالله فكان الجهاد في الدين محملا لأعظم المضار لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع وتخليصه من أعظم المضار، فوجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات، ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع لا جرم صار ذلك موجبا لفضل هذه الأمة على سائر الأمم، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقروا بما أنزل الله وتقاتلونهم عليه، ولا إله إلا الله أعظم المعروف والتكذيب هو أنكر المنكر، ثم قال القفال: (فائدة) القتال على الدين لا ينكره منصف وذلك لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الإلف والعادة ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم، فإذا أكره (المرء) على الدخول في الدين بالتخويف بالقتل دخل فيه، ثم لا يزال يضعف ما في قلبه من حب الدين الباطل ولا يزال يقوي قلبه حب الدين الحق، إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحق ومن استحقاق العذاب الدائم إلى استحقاق الثواب الدائم) هذا ما أورده الرازي عن القفال وأقره.. وهذا القول باطل مبني على قواعد غير ثابتة:
أ. منها: توهم القفال والرازي أن الأمم السابقة لم يكن عندها جهاد ديني قوي ولا إكراه على الدين وذلك لقلة اطلاعهما على الأديان والتاريخ، والصواب أن أهل الكتاب كانوا أشد من المسلمين في حروبهم الدينية وورد عنهم في الإكراه على الدين ما لم يرد مثله عن المسلمين.
ب. ومنها: أن الإكراه على الدين منفي من الإسلام بنص القرآن ولم يحارب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أحدا من العرب ولا من غيرهم لأجل الإكراه على الإسلام وإنما حارب دفاعا، وكيف يحاول الإكراه والله تعالى يقول: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 99] ومن أراد التفصيل في ذلك فليرجع إلى تفسير آيات القتال في البقرة وآية: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]
ج. ومنها: أن هذا القول يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبارة عن الدعوة إلى الإسلام والإلزام به والآية السابقة ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ تقتضي أن يكون الأمر والنهي غير تلك الدعوة وغير الإلزام بقبوله بها وهو عمل لا إرشاد وتعليم.
د. ومنها: أن فريضتي الأمر والنهي غير فريضة تغيير المنكر الذي ورد في الحديث، وقد تقدم بيان ذلك.
هـ. ومنها: أن هذا القول مخالف لقوله تعالى في سورة الحج في وصف المؤمنين بعد الإذن لهم بقتال المعتدين عليهم: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [الحج: 41] فجعل الأمر والنهي عن المنكر من أوصافهم بعد التمكن في الأرض وذلك لا يكون بالجهاد بل بعده.
10. يا للعجب من هؤلاء العلماء يأخذون المسألة التقليدية قضية مسلمة ثم يحكمونها في كتاب الله تعالى ويجعلونها قاعدة لتفسيره وإن كانت مخالفة لآياته الصريحة، ثم هم يأتون بما دل على أن أعظم ما يمتاز به الإسلام هو اتباع الدليل ونزع قلائد التقليد، وهم مصرون على تقلد هذه القلائد، ألم تتأمل ما قاله القفال في فائدته وإنه لا يعني بأكثر الناس الذين يحبون أديانهم بحسب الإلف والعادة إلا غير المسلمين؟ يعني أن المسلمين وحدهم هم الذين يتمسكون بالدلائل فلا يقبلون في دينهم شيئا بغير دليل، وبهذا كان لهم الحق عنده بإكراه غيرهم على ما هم عليه ليكون مثلهم في الخيرية، وأين المسلمون من هذه المزية اليوم وفي زمن القفال أيضا؟؟
11. ثم إن السؤال الذي أورده الرازي وارتضى في جوابه ما قاله القفال مبني على أن قوله تعالى: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ معناه خير أمة ظهرت لهم منذ وجدوا، وهو أحد الأقوال التي أوردها في معنى العبارة، قال: والثاني أن قوله ﴿لِلنَّاسِ﴾ من تمام قوله ﴿كُنْتُمْ﴾، والتقدير كنتم للناس خير أمة، ومنهم من قال ﴿أُخْرِجَتْ﴾ صلة والتقدير كنتم خير أمة للناس.. وهذا الأخير أضعف الأقوال، ومحمد عبده لم يتعرض لهذا السؤال، والظاهر عندي أن تعليل الخيرية بما ذكر هنا ليس لأنه كل السبب في كون هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس بل لأن ما كانت به خير أمة لا يحفظ ولا يدوم إلا بإقامة هذه الأصول الثلاثة، ولذلك اشترط على هذه الأمة أن يكون من غرضها في الدفاع عن نفسها وحفظ وجودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كأنها لولا ذلك لا تكون مستحقة للبقاء في الأرض، وأكد الأمر بهذه الفريضة في آيات هذه السورة بما لم يعرف له نظير في كتاب من الكتب السابقة، ولم تقم به أمة من الأمم على هذا الوجه، فقول الرازي: (إن هذه الصفات الثلاث كانت حاصلة في سائر الأمم) غير صحيح على إطلاقه.
12. أورد الرازي هنا سؤالا آخر وأجاب عنه فقال: (لم قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله لا بد أن يكون مقدما على كل الطاعات؟ والجواب أن الإيمان بالله أمر مشترك فيه بين جميع الأمم المحقة، ثم إنه تعالى فضل هذه الأمة على سائر الأمم المحقة، فيمتنع أن يكون المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الإيمان الذي هو القدر المشترك بين الكل، بل المؤثر في حصول هذه الزيادة هو كون هذه الأمة أقوى حالا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سائر الأمم، فإن المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنك،ر وأما الإيمان بالله فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم، لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات مؤثرا في صفة الخيرية، فثبت أن الموجب لهذه الخيرية هو كونهم آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر وأما إيمانهم فذاك شرط التأثير: والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير، فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان)، انتهى بما فيه من تكرار، وقال محمد عبده: أما تقديم ذكر الأمر والنهي على الإيمان فالحكمة فيه أن هذه الصفة (الأمر والنهي) محمودة في عرف جميع الناس مؤمنهم وكافرهم يعترفون لصاحبها بالفضل، ولما كان الكلام في خيرية هذه الأمة على جميع الأمم مؤمنهم وكافرهم قدم الوصف المتفق على حسنه عند المؤمنين والكافرين، وهناك حكمة أخرى وهي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سياج الإيمان وحفاظه (كما تقدم بيانه) فكان تقديمه في الذكر موافقا للمعهود عند الناس في جعل سياج كل شيء مقدما عليه.. وكل ذلك حسن والمتبادر عندي أن تقديم الأمر والنهي للتعريض بأهل الكتاب الذي كانوا يدعون الإيمان ولا يقدرون على ادعاء القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم كانوا في مجموعهم لا يتناهون عن منكر فعلوه وادعاء ما تكذبه المشاهدة يفضح صاحبه، فقدم ذكر الأمر والنهي لأنهم لا مجال لهم في دعوى مشاركة المؤمنين فيه وأخر ذكر الإيمان الذي يدعونه ليرتب عليه بيان أنه إيمان غير صحيح لأنه لم يأت بثمر الإيمان الصحيح ولذلك قال: ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ أي لو آمنوا الإيمان الصحيح الذي يستولي على النفوس ويملك أزمة الأهواء فيكون مصدرا لأحاسن الأعمال كما تؤمنون أنتم لكان خيرا لهم مما يدعون من الإيمان التقليدي الذي لا يزع من الشرور، ولا يرفع صاحبه إلى معالي الأمور.
13. بهذا التفسير يندفع سؤال ثالث للرازي وهو: (لم اكتفى بذكر الإيمان بالله ولم يذكر الإيمان بالنبوة؟ فإذا كان الكلام تعريضا بأن القوم لا يؤمنون بالله إيمانا صحيحا فأي حاجة إلى ذكر الإيمان بغيره، على أنه لو ذكر غير ذلك لكان المناسب أن يذكر الإيمان برسوله وهو محل خلاف بين الفريقين أو الإيمان بالرسل كافة وأهل الكتاب اشتهروا بذلك)، وجواب الرازي تكلف ظاهر، ثم صرح بعد التعريض بأنهم لو آمنوا لكان خيرا لهم ولم يقل لو آمنوا بالله بل أطلق ليدل على أن إيمانهم بكل ما يؤمنون به غير صحيح لأنه لم يأت بثمرات الإيمان الصحيح كما قلنا آنفا.. وجعل محمد عبده هذه الجملة متعلقة بمجموع الكلام السابق فقال: إنه بعد ما نهانا سبحانه عن التفرق والاختلاف كما تفرق أهل الكتاب بعد ما جاءتهم البينات، وأمرنا بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر أننا خير أمة أخرجت للناس بهذا أو بالإيمان الحقيقي الذي يقترن بالإذعان النفسي والاتباع العملي ـ ناسب أن يذكر أن أهل الكتاب المختلفين ليسوا مؤمنين هذا الإيمان الخالص الذي يحبه الله تعالى ويرضاه وهو الذي يكون الأمر بالمعروف ثمرة من ثماره والنهي عن المنكر أثرا من آثاره، فعلمنا أن المراد بهذا الإيمان شيء أخص من الإيمان العرفي الذي يدعيه كل أحد له دين وكتاب، بل هو ما عرفناه آنفا وقبل ذلك، والكلام يشعر بأنه لا يوجد فيهم مؤمن هذا الإيمان الإذعاني الذي يصحبه الإخلاص والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أنه لا يمكن أن تعرى منه أمة لها دين سماوي، والواقع أنه كان في أهل الكتاب مؤمنون مخلصون ولذلك قال تعالى: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، فعلم أن الحكم الأول على الأمة إنما هو حكم على أكثر أفرادها، فهم الذين فسقوا عن حقيقة الدين ولم يبق عندهم منه إلا بعض الرسوم والتقاليد الظاهرة، فالكلام استئناف بياني لا استطراد كما قيل.
14. هذا ما يؤخذ من كلام محمد عبده، وجمهور المفسرين على أن المعنى: ولو آمن أهل الكتاب بما آمنتم به كما آمنتم لكان خيرا لهم في الدنيا والآخرة، ولكن آمن بعضهم فمنهم المؤمنون كعبد الله سلام ورهطه من اليهود والنجاشي ورهطه من النصارى، وأكثرهم فاسقون عن دينهم أي خارجون منه، أو فاسقون في دينهم غير عدول فيه، فلا حصلوا الإسلام وهو أكمل الأديان ولا تمسكوا بما عندهم، أو أكثرهم متمردون في الكفر، هكذا اختلف تعبيرهم فيؤخذ منه أنه لم يكن من أهل الكتاب أحد ممسك بدينه مخلصا فيه، عاملا بأوامره ونواهيه، وهذا غير معقول ولا موافق لما عرف من طبيعة البشر من ميل أناس منهم إلى الغلو في الدين واعتدال أناس آخرين وميل غير هؤلاء وأولئك إلى الفسوق والعصيان، فما من أهل دين إلا وفيهم الفرق الثلاث، وإنما يكثر الاستمساك بالدين في أوائل ظهوره، ويكثر الفسق بعد طول الأمد عليه، قال تعالى: ﴿ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثيرة منهم فاسقون﴾ [الحديد: 16] فما عدا هذا الكثير هم المستمسكون بدينهم.
15. القرآن لم يحكم على أمة بالضلال والفسق بنص عام يستغرق جميع الأفراد، بل يعبر تارة بالكثير وتارة بالأكثر، وإذا أطلق أداة العموم يستثني بمثل قوله في بني إسرائيل: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [البقرة: 83] وقوله فيهم: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أو يحكم على البعض ابتداء كما تقدم في قوله: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ [آل عمران: 75] الآية، وقال تعالى فيهم: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف: 159] وقال فيهم وفي النصارى: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة 66] وسيأتي تفسيرها، فقد أثبت لبعضهم الإيمان والاقتصاد أي الاعتدال في الدين والهداية بالحق والعدل، وقال: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [النساء: 162] فجعل أهل العلم الذين يفهمون الدلائل والبراهين وأهل الإيمان المخلصين الذين يتحرون الحق هم الذين يقبلون دعوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لقوة استعدادهم، ولكن المفسر المتشبع بأحوال أمته الذي لم يختبر غيرها ولم يكن عارفا بطبائع الملل وحقوق الاجتماع البشري لا يكاد يتصور أن الإيمان والإخلاص والتقوى توجد عند غير أهل ملته، فهو يطبق الآيات على اختباره واعتقاده، وقد تذكرت الآن ما قالته تلك المرأة الإفرنجية لمحمد عبده في مدينة جنيف عاصمة سويسرا، وكانت امرأة عالمة تقية راقبت سير محمد عبده في مصيفه هناك لغرابة زيه ودينه، ثم قالت له بعد ذلك: إنني لم أكن أظن ولا يخطر في بالي قبل معرفتك أن القداسة والتقوى توجد في غير المسيحية.
16. جملة القول: إن القرآن يبين حقائق ما عليه الأمم في عقائدها وأخلاقها وأعمالها يزن ذلك بالقسطاس المستقيم والدقة التي نراها في تحريه الحقيقة لم نعهدها في كتاب عالم ولا مؤرخ، فإذا نحن جمعنا ما حكم له على أهل الكتاب وغيرهم وعرضناه على علمائهم وفلاسفتهم ومؤرخيهم فإنهم يذعنون بأنه لباب الحقيقة بل هم يصرحون بأنه لولا غلبة الضلال والفسق والكفر عليهم في عصر ظهور الإسلام لما انتشر ذلك الانتشار السريع، ولكن وجد فينا من طمس هذه المزية وجعلوا كل ما ينكره القرآن من فساد الأمم من قبيل هجو غير المسلمين؛ وكل ما يحمده هو خاص بالمسلمين؛ حتى كأنه شعر لا يقصد منه إلا مدح أناس وذم آخرين، وبهذا ينفرون غير المسلمين من الإسلام ويحولون بين المسلمين وبين العبرة والاتعاظ وفهم الحقائق.
17. استدل بعض المفسرين بالآية على حجية الإجماع المعروف في الأصوال فحملها ما لا تحمل.
__________
(1) تفسير المنار: 4/58.
(2) ما ورد في الأحاديث النبوية الكثيرة التي تخبر بما سيجري للصحابة من بعده تدل على خلاف هذا الوجه، فالحرب كانت لاستئصال حقيقة الإسلام، وتحويله إلى ما تحولت إليه اليهودية والنصرانية من بعدها عن الحاكمية الإلهية وفي كل شؤون الحياة.
(3) أي الفخر الرازي.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن أمر عز اسمه عباده المؤمنين بالاعتصام بحبله، وذكرهم بنعمته عليهم، بتأليف قلوبهم بأخوّة الإسلام، وحذّرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب في التمرد والعصيان، وتوعد على ذلك بالعذاب الأليم، واستطرد بين ذلك بذكر من يبيض وجهه ومن يسودّ، وبذكر شيء من أحوال الآخرة، أردف ذلك ذكر فضل المتآخين في دينه، المعتصمين بحبله، ليكون هذا باعثا لهم على الانقياد والطاعة، إذ كونهم خير الأمم مما يقوّى داعيتهم في ألا يفوّتوا على أنفسهم هذه المزية، وإنما يكون ذلك بالمحافظة على اتباع الأوامر وترك النواهي.
2. ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ أي أنتم خير أمة في الوجود الآن، لأنكم تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون إيمانا صادقا يظهر أثره في نفوسكم، فيزعكم عن الشر، ويصرفكم إلى الخير، وغيركم من الأمم قد غلب عليهم الشر والفساد، فلا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، ولا يؤمنون إيمانا صحيحا، وهذا الوصف يصدق على الذين خوطبوا به أوّلا، وهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه الذين كانوا معه وقت التنزيل، فهم الذين كانوا أعداء، فألف بين قلوبهم، واعتصموا بحبل الله جميعا، وكانوا يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يخاف ضعيفهم قويّهم، ولا يهاب صغيرهم كبيرهم، وملك الإيمان قلوبهم ومشاعرهم، فكانوا مسخرين لأغراضه في جميع أحوالهم.
3. وهذا الإيمان هو الذي قال الله في أهله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ وقال فيهم أيضا: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾
4. ما فتئت هذه الأمة خير الأمم حتى تركت الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وما تركتهما إلا باستبداد الملوك والأمراء من بنى أمية ومن حذا حذوهم، وأول من اجترأ منهم على إعلان هذه المعصية عبد الملك بن مروان حين قال على المنبر: من قال لي اتق الله ضربت عنقه وما زال الشر يزداد، والأمر يتفاقم حتى سلبت هذه الأمة أفضل ما لها من مزية في دينها ودنياها بعد الإيمان، وهى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
5. مما سلف تعلم أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو سبب الفضيلة، كما تقول: محمد كريم، يطعم الناس ويكسوهم، ويعنى بشئونهم.
6. هذه الصفات وإن شاركتها فيها سائر الأمم، فهي لم تكن فيها على الوجه الذي لهذه الأمة، فالأمر بالمعروف كان فيها على آكد وجوهه، وهو القتال إذا دعت إليه الحاجة، وقد يحصل بالقلب واللسان، ولكن أقواه ما كان بالقتال لأنه إلقاء للنفس في خطر الهلاك.
7. أعظم المعروفات الدين الحق، والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات الكفر بالله، ومن كان فرض الجهاد في الدين يحمّل الإنسان أعظم المضار لإيصال غيره إلى أعظم المنافع، وتخليصه من أعظم الشرور، لهذا كان عبادة من العبادات، بل كان أجلّها وأعظمها، وهو في ديننا أقوى منه في سائر الأديان، لا جرم كان ذلك موجبا لفضل هذه الأمة على سائر الأمم، وهذا ما عناه ابن عباس بقوله في تفسير هذه الآية: أي تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقروا بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، ولا إله إلا الله أعظم المعروف، والتكذيب أنكر المنكرات.
8. الخلاصة: إن هذه الخيرية لا تثبت لهذه الأمة إلا إذا حافظت على هذه الأصول الثلاثة، فإذا تركتها لم تكن لها هذه المزية، ومن ثم أكد الأمر بهذه الفريضة في آيات هذه السورة بما لم يعرف له نظير في الكتب السابقة.
9. قدّم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر، مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات، لأنهما سياج الإيمان وحفاظه، فكان تقديمهما في الذكر موافقا للمعهود عند الناس في جعل سياج كل شيء مقدما عليه.
10. ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ أي ولو آمنوا إيمانا صحيحا يستولى على النفوس، ويملك أزمة القلوب، فيكون مصدر الفضائل والأخلاق الحسنة، كما تؤمنون ـ لكان ذلك خيرا لهم مما يدّعونه من إيمان لا يزع النفوس عن الشرور، ولا يبعدها عن الرذائل، إذ هو لم يؤت ثمرات الإيمان الصحيح الذي يحبه الله ورسوله، ولا كان أثرا من آثاره الأمر بالمعروف ولا النهى عن المنكر، وبهذا تعلم أن الإيمان المنفي عنهم إيمان خاص له تلك الآثار التي تقدمت، لا الإيمان الذي يدعيه كل من له دين وكتاب، كما أنه إنما نفاه عن أكثر أفراد الأمة، وأنهم هم الذين فسقوا وخرجوا عن حقيقة الدين، ولم يبق عندهم إلا بعض الرسوم والتقاليد الظاهرة ـ لا عن جميعها، إذ لا تخلو أمة ذات دين سماوي من هذا الإيمان، ومن ثمّ قال ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أي منهم المؤمنون المخلصون في عقائدهم وأعمالهم كعبد الله بن سلام ورهطه من اليهود، والنجاشي ورهطه من النصارى، وأكثرهم فاسقون عن دينهم متمردون في الكفر.
11. ما من دين إلا يوجد فيه الغالون والمعتدلون والمفرّطون المائلون إلى الفسوق والعصيان، ويكثر الاستمساك بالدين في أوائل ظهوره، كما يكثر الفسق بعد طول الأمد عليه، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾، ولم يحكم الدين على أمة حكما عاما بالفسق والضلال، بل تارة يعبر بالكثير، وأخرى بالأكثر كقوله في بنى إسرائيل: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ وقوله في النصارى واليهود: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ)
12. على الجملة فالقرآن إذا عرض لوصف الأمم وبيان عقائدها وأخلاقها، وزن ذلك بميزان دقيق يتحرى فيه ذكر الحقيقة مجردة عن كل مغالاة أو مبالغة بما لم يعهد مثله في كتاب آخر، فلو تصفحنا الأحكام التي حكم بها على أهل الكتاب، وعرضناها على علمائهم وفلا سفتهم ومؤرخيهم لقالوا: إنها الحق الصّراح.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/28.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يصف الله تعالى في هذه الآيات الكريمة الأمة المسلمة لنفسها! ليعرفها مكانها وقيمتها وحقيقتها؛ ثم يصف لها أهل الكتاب ـ ولا يبخسهم قدرهم، إنما يبين حقيقتهم ويطمعهم في ثواب الإيمان وخيره ـ ويطمئن المسلمين من جانب عدوهم، فهم لن يضروهم في كيدهم لهم وقتالهم، ولن ينصروا عليهم، وللذين كفروا منهم عذاب النار في الآخرة، لا ينفعهم فيه ما أنفقوا في الحياة الدنيا بلا إيمان ولا تقوى.
2. إن شطر الآية الأولى في هذه المجموعة يضع على كاهل الجماعة المسلمة في الأرض واجبا ثقيلا، بقدر ما يكرم هذه الجماعة ويرفع مقامها، ويفردها بمكان خاص لا تبلغ إليه جماعة أخرى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾
3. إن التعبير بكلمة ﴿أُخْرِجَتْ﴾ المبني لغير الفاعل، تعبير يلفت النظر، وهو يكاد يشي باليد المدبرة اللطيفة، تخرج هذه الأمة إخراجا؛ وتدفعها إلى الظهور دفعا من ظلمات الغيب، ومن وراء الستار السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله.. إنها كلمة تصور حركة خفية المسرى، لطيفة الدبيب، حركة تخرج على مسرح الوجود أمة، أمة ذات دور خاص، لها مقام خاص، ولها حساب خاص: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾
4. هذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة؛ لتعرف حقيقتها وقيمتها، وتعرف أنها أخرجت لتكون طليعة، ولتكون لها القيادة، بما أنها هي خير أمة، والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض، ومن ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية، إنما ينبغي دائما أن تعطي هذه الأمم مما لديها، وأن يكون لديها دائما ما تعطيه، ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح، والتصور الصحيح، والنظام الصحيح، والخلق الصحيح، والمعرفة الصحيحة، والعلم الصحيح.. هذا واجبها الذي يحتمه عليها مكانها، وتحتمه عليها غاية وجودها، واجبها أن تكون في الطليعة دائما، وفي مركز القيادة دائما، ولهذا المركز تبعاته، فهو لا يؤخذ ادعاء، ولا يسلم لها به إلا أن تكون هي أهلا له.. وهي بتصورها الاعتقادي، وبنظامها الاجتماعي أهل له، فيبقى عليها أن تكون بتقدمها العلمي، وبعمارتها للأرض ـ قياما بحق الخلافة ـ أهلا له كذلك.. ومن هذا يتبين أن المنهج الذي تقوم عليه هذه الأمة يطالبها بالشيء الكثير؛ ويدفعها إلى السبق في كل مجال.. لو أنها تتبعه وتلتزم به، وتدرك مقتضياته وتكاليفه.
5. في أول مقتضيات هذا المكان، أن تقوم على صيانة الحياة من الشر والفساد.. وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فهي خير أمة أخرجت للناس، لا عن مجاملة أو محاباة، ولا عن مصادفة أو جزاف ـ تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا ـ وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون: (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وأَحِبَّاؤُهُ).. كلا! إنما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر، وإقامتها على المعروف، مع الإيمان الذي يحدد المعروف والمنكر: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللهِ)، فهو النهوض بتكاليف الأمة الخيرة، بكل ما وراء هذه التكاليف من متاعب، وبكل ما في طريقها من أشواك.. إنه التعرض للشر والتحريض على الخير وصيانة المجتمع من عوامل الفساد.. وكل هذا متعب شاق، ولكنه كذلك ضروري لإقامة المجتمع الصالح وصيانته؛ ولتحقيق الصورة التي يحب الله أن تكون عليها الحياة.
6. لا بد من الإيمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم، والتعريف الصحيح للمعروف والمنكر، فإن اصطلاح الجماعة وحده لا يكفي، فقد يعم الفساد حتى تضطرب الموازين وتختل، ولا بد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير وللشر، وللفضيلة والرذيلة، وللمعروف والمنكر، يستند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال.
7. وهذا ما يحققه الإيمان، بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه، وللإنسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون.. ومن هذا التصور العام تنبثق القواعد الأخلاقية، ومن الباعث على إرضاء الله وتوقي غضبه يندفع الناس لتحقيق هذه القواعد، ومن سلطان الله في الضمائر، وسلطان شريعته في المجتمع تقوم الحراسة على هذه القواعد كذلك.
8. ثم لا بد من الإيمان أيضا ليملك الدعاة إلى الخير، الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر، أن يمضوا في هذا الطريق الشاق، ويحتملوا تكاليفه، وهم يواجهون طاغوت الشر في عنفوانه وجبروته، ويواجهون طاغوت الشهوة في عرامتها وشدتها، ويواجهون هبوط الأرواح، وكلل العزائم، وثقلة المطامع، وزادهم هو الإيمان، وعدتهم هي الإيمان، وسندهم هو الله.. وكل زاد سوى زاد الإيمان ينفد، وكل عدة سوى عدة الإيمان تفلّ، وكل سند غير سند الله ينهار! وقد سبق في السياق الأمر التكليفي للجماعة المسلمة أن ينتدب من بينها من يقومون بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما هنا فقد وصفها الله سبحانه بأن هذه صفتها، ليدلها على أنها لا توجد وجودا حقيقيا إلا أن تتوافر فيها هذه السمة الأساسية، التي تعرف بها في المجتمع الإنساني، فإما أن تقوم بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ مع الإيمان بالله ـ فهي موجودة وهي مسلمة، وإما أن لا تقوم بشيء من هذا فهي غير موجودة، وغير متحققة فيها صفة الإسلام.
9. في القرآن الكريم مواضع كثيرة تقرر هذه الحقيقة، ندعها لمواضعها، وفي السنة كذلك طائفة صالحة من أوامر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وتوجيهاته نقتطف بعضها:
أ. عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)
ب. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم، فلم ينتهوا، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داوود وسليمان وعيسى بن مريم.. ثم جلس ـ وكان متكئا ـ فقال: (لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا) أي تعطفوهم وتردوهم.
ج. وعن حذيفة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم)
د. وعن عرس ابن عميرة الكندي قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها)
هـ. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)
و. وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر، فأمره ونهاه، فقتله)
10. وغيرها كثير.. وكلها تقرر أصالة هذه السمة في المجتمع المسلم، وضروراتها لهذا المجتمع أيضا، وهي تحتوي مادة توجيه وتربية منهجية ضخمة، وهي إلى جانب النصوص القرآنية زاد نحن غافلون عن قيمته وعن حقيقته.
11. ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ هو ترغيب لأهل الكتاب في الإيمان، فهو خير لهم، خير لهم في هذه الدنيا، يستعصمون به من الفرقة والهلهلة التي كانوا عليها في تصوراتهم الاعتقادية، والتي ما تزال تحرمهم تجمع الشخصية، إذ تعجز هذه التصورات عن أن تكون قاعدة للنظام الاجتماعي لحياتهم، فتقوم أنظمتهم الاجتماعية ـ من ثم ـ على غير أساس، عرجاء أو معلقة في الهواء ككل نظام اجتماعي لا يقوم على أساس اعتقادي شامل، وعلى تفسير كامل للوجود، ولغاية الوجود الإنساني، ومقام الإنسان في هذا الكون.. وخير لهم في الآخرة يقيهم ما ينتظر غير المؤمنين من مصير.
12. ثم هو بيان كذلك لحالهم، لا يبخس الصالحين منهم حقهم: (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ)، وقد آمن من أهل الكتاب جماعة وحسن إسلامهم، منهم عبد الله بن سلام، وأسد بن عبيد، وثعلبة بن شعبة، وكعب بن مالك.. وإلى هؤلاء تشير الآية هنا بالإجمال ـ وفي آية تالية بالتفصيل ـ أما الأكثرون فقد فسقوا عن دين الله، حين لم يفوا بميثاق الله مع النبيين: أن يؤمن كل منهم بأخيه الذي يجيء بعده، وأن ينصره، وفسقوا عن دين الله وهم يأبون الاستسلام لإرادته في إرسال آخر الرسل من غير بني إسرائيل، واتباع هذا الرسول وطاعته والاحتكام إلى آخر شريعة من عند الله، أرادها للناس أجمعين.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/447.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما يكبت الضّالين من أهل الكتاب ـ وخاصّة اليهود ـ أن يروا نعمة من نعم الله تلبس أهل الإسلام، وخاصة إذا كانت تلك النعمة بين أطواء آية من آيات الله، المنزلة على رسول الله، لأنهم يعلمون أن ذلك حق لا ريب فيه، وأن تلك النعمة إن لم تكن قد أتت فهي آتية لا ريب فيها، وهذا مما يضاعف حسرتهم، ويملأ قلوبهم غيظا وكمدا.
2. إذ تلقّى المسلمون قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ بالتهليل والتكبير، وبالثناء المستطاب على الله أنّ منّ عليهم بهذا الفضل، فرفع قدرهم بين الأمم، وأعلى شأنهم في العالمين ـ فإن أهل الكتاب ـ وخاصة اليهود ـ قد صعقوا لهذه الآية، ودارت رؤوسهم بها، وزلزلت أقدامهم منها، وأيقنوا أنهم لن يلحقوا بالمسلمين، ولن يقوموا لهم أبد الدهر!
3. في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ وفي التعبير بلفظ الماضي (كنتم) ما يشير إلى أن هذا الحكم الذي حكم به الله على هذه الأمة، بأنها خير أمة أخرجت للناس ـ ليس محدودا بزمن من أزمانها، ولا مخصوصا بحال من أحوالها.. وإنما هو حكم عام مطلق، يشمل الأمة الإسلامية كلها، في كل أزمانها، وفي جميع أحوالها، من عهد النبوة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. إنه حكم للأمة الإسلامية في ماضيها وحاضرها، ومستقبلها، وإن تلقته في أول وجودها، وفي ساعة مولدها.. ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾! هذا هو حكم الله فيما أحاط به علمه، وفيما قدّره لكل أمة من أجل، ومن رزق!.
4. في قوله تعالى: ﴿أُخْرِجَتْ﴾ تنويه آخر بشأن هذه الأمة، وأنها هي المولود الكامل، الذي تمخضت عنه الإنسانية كلها.. ولن تلد مثله أبد الدهر!.
5. في قوله سبحانه: ﴿أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ تنويه ثالث بتلك الأمة، فإنها لم تخرج من الناس، ولكنها ﴿أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ وكأنها بهذا من معدن غير معدن الناس، ومن عالم غير عالم الناس، جاءتهم هكذا من عالم الغيب، وأخرجت لهم من حيث لا يتوقعون.. من صحراء مجدبة قفر، ومن مجتمع أمّي غارق في الجهالة!، فقادت ركب الإنسانية، وحررتها من قيود العبودية والظلم.
6. هذا هو مكاننا ـ أمة الإسلام ـ الذي ندبنا الله له، وأحلّنا فيه، وأقامنا عليه، وإنه لن يزحزحنا عن هذا المقام زمان، ولن يحتله مكاننا أحد، وإننا ـ أمة الإسلام ـ على أي حال كنّا، وفي أسوأ وجود لنا ـ خير أمة أخرجت للناس!.. وإن ميزاننا مهما خفّ في هذه الحياة فهو أثقل من ميزان أية أمة، وإن بدا في ظاهرها أنها أقوى قوة، أو أكثر مالا، وأعزّ نفرا!.. ذلك ما ينبغي أن نؤمن به إيمانا راسخا كإيماننا بالله.. وإلا كنا مكذبين بآياته، منكرين، أو منتكرين لكتابه! إننا ـ أمة الإسلام ـ أشبه بالذهب، بين المعادن الأخرى.. قيمته دائما فيه، حتى ولو علا بريقه التراب، وغبّر وجهه دخان الزمن.. إنه الذهب على أي حال.. فليكن ذلك شعورنا بأنفسنا، وإيماننا بمكانتنا في هذه الحياة.. ثم ليكن منّا ما يقابل هذا الشعور، وذلك الإيمان، من جدّ، ومن تحصيل لكل معانى الإنسانية الكريمة، ومثلها الرفيعة، فذلك هو الذي يحقق كل معانى الخيرية فينا، ويعرض للناس وللحياة أكمل الكمال منّا.
7. ومع هذا، فإنه لن ينزع عنا هذا الفضل الذي فضل الله به على هذه الأمة ما يلمّ بنا من ضعف أو يعرض لنا من فتور، أو يقع في محيطنا من انحراف.. فتلك كلها عوارض لا تمسّ الصميم منا، ولا تنقض حكم الله لنا.. فنحن ـ على أية حال نكون عليها ـ ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾
8. لسنا بهذا ندعى ما يدّعيه اليهود لأنفسهم من أنهم (شعب الله المختار)، فنحن شيء، واليهود شيء، نحن تلقّينا كرامة الله وفضله.. واليهود رموا بغضب الله ولعنته! ذلك أن الله سبحانه، أفاض على اليهود من أفضاله، ومنحهم من نعمه ما لم يمنحه أحدا من العالمين.. امتحانا وابتلاء، فلما مكروا بآيات الله، وعصوا رسله، وقتلوا من قتلوا من أنبيائه، وأعنتوا من أعنتوا منهم ـ أخذهم الله بالبأساء والضرّاء، وساق إليهم نقمه، وشملهم بسخطه، وصبّ عليهم لعنته ـ وفي هذا يقول الله تعالى فيهم: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾
9. أما نحن ـ أمة الإسلام ـ فقد فضل علينا بهذا الفضل، وجعله حكما قائما فينا أبدا: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ ولن ينقض أبدا هذا الحكم الذي حملته كلمات الله.
10. قوله تعالى: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ بيان للصفات التي استحق بها المسلمون أن يكونوا ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ فمن رسالة هذه الأمة ألا تحتجز الخير لنفسها، ولا تستأثر به حين يقع ليدها، بل تجعل منه نصيبا تبرّ به الإنسانية كلها، وتشرك الناس جميعا معها، فيه، ذلك شأنها في كل خير تصيبه.. فإذا أصاب المسلم مالا، جعل فيه للفقراء والمساكين نصيبا، وآتى منه ذوى القربى واليتامى، وأنفق منه في سبيل الله، وفي إعلاء كلمة الحقّ.. وإذا أصاب هدى من الله، وعرف طريقا إلى الحق، لم يجد لذلك مساغا إلا إذا وجّه الناس إليه، ودلّهم عليه، ولو احتمل في سبيل ذلك الضرّ والأذى، وعرض نفسه للتلف والهلاك، شأن الطبيب الذي يرى وباء يفتك بالناس، ويذروهم كما تذرو الرياح الهشيم.. إنه ـ والحال كذلك ـ ينسى نفسه، ويدخل في معركة مع هذا الوباء، غير حاسب حسابا لما قد يقع له من سوء، ولو كان في ذلك ذهاب نفسه! هكذا هو موقف الأمة الإسلامية من الخير الذي ساقه الله إليها، على يد الرسول الكريم، مما تلقّى من بركات السماء، ورحماتها، ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ كما جاءكم رسول الله يأمركم بالمعروف وينهاكم عن المنكر.. وفي هذا يقول الله تعالى ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ﴾
11. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ قدّم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الإيمان بالله، الذي هو مقدّم على كل عمل طيب، حيث لا يطيب العمل، ولا يقبل، إلا مع الإيمان، فكيف يؤخر الإيمان هنا، عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟ والجواب: من وجهين:
أ. أولا: أن الله سبحانه وتعالى إذ وصف هذه الأمة هذا الوصف الكريم، وحكم لها هذا الحكم القاطع اللازم، لم يصفها هذا الوصف ولم يعطها هذا الحكم إلا وهى على الإيمان، مجتمعة هي عليه ومشتملا هو عليها.. فهي ليست مطلق أمة، وإنما هي أمة مسلمة، تلك الأمة التي كانت استجابة من الله لدعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، إذ يقولان كما حكاه القرآن عنهما: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾
ب. ثانيا: ذكر الإيمان بالله هنا لم تكن داعيته وصف هذه الأمة بأنها مؤمنة بالله ـ إذ كان إيمانها بالله، معروفا مقدرا من قبل، وإنما داعية ذكره في القرآن أنه إيمان على صفة غير ما عليه إيمان المؤمنين من أهل الكتاب!
12. الإيمان بالله الذي عليه الأمة الإسلامية، هو إيمان بريء من كل شائبة من شوائب الشرك، وخلص من كل نزغة من نزغات الشك.. إنه إيمان مصفّى، يرى فيه المؤمن وجه الحق واضحا مشرقا، إذ لا يتكلف له المؤمن جهدا في الوصول إليه، ولا تنقطع أنفاسه في الدوران حوله، لأنه قريب، قريب، يراه العامة والفلاسفة على السواء.. إنه: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيى ويميت، ﴿وَهُوَعَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ذلكم الله ربّ العالمين، وهو ما يقوم به وعليه إيمان المسلمين.. بلا فلسفه، ولا كهنة، ولا أحبار، ولا رهبان.. إيمان يطمئن إليه قلب الرّاعى بين غنمه، والزارع وراء محراثه، كما يطمئن إليه قلب العالم في معمله، والفيلسوف في محراب فلسفته! إيمان بديهة.. لا تكدّ ذهنا، ولا تشتت خاطرا، ولا تزعج وجدانا.
13. وليس كذلك إيمان المؤمنين من أهل الكتاب.. إنه إيمان مرهق معقّد، مركّب على قضايا من المقولات الفلسفية والمنطقية، المبنية على معطيات مما وراء الطبيعة، التي تدور بها رؤوس العامة، وتضطرب لها عقول العلماء.. فإذا آمن مؤمنهم بالله كان بينه وبين الله حجب كثيفة من هذه المقولات، التي لا يستطيع أن يرى الله من خلالها إلّا محاطا بضباب كثير من الشك والارتياب!
14. فإيمان المسلمين بالله، إيمان.. وإيمان أهل الكتاب بالله إيمان.. وبين الإيمانين بعد بعيد، وبون شاسع.. ومن هنا كان ذكر إيمان المسلمين في هذا المقام تنويها بهذا الإيمان، وعزلا له عن إيمان المؤمنين من أهل الكتاب.
15. ذلك الإيمان المشوب غير الخالص من العلل والآفات، ولهذا جاء قوله تعالى: ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ جاء بعد قوله تعالى: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ داعيا أهل الكتاب أن يؤمنوا إيمانا مصححا مجددا، كإيمان المسلمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾
16. كشف القرآن الكريم عن حقيقة الإيمان الذي عليه أهل الكتاب.. فقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ أي أنهم إذا دعوا إلى الإيمان بالله إيمانا بعيدا عن المماحكات والسفسطات، وعن الألغاز والطلاسم، التي تعمّى على الناس السبيل إلى الطريق المستقيم ـ إذا دعوا أن آمنوا كما آمن الناس، إيمانا سمحا سهلا واضحا ـ أبوا وقالوا أنؤمن كما آمن السفهاء من الجهلة والعامّة؟ وقالوا في أنفسهم: كيف يهتدى أحد إلى الله من هذا الطريق القريب؟ إنّ الله بعبد بعيد، متستر في حجب جلاله وبهائه، فلا تناله الأبصار، ولا تدركه العقول، وإنه لا بد ـ والأمر كذلك ـ من دراسات وفلسفات، وبحوث مضنية مرهقة، حتى يمسك الدارسون، والفلاسفة والباحثون بأذيال هذه الحقيقة الكبرى! هكذا زيّن لهم سوء عملهم فرأوه حسنا.
17. وقال تعالى أيضا مشيرا إلى أهل الكتاب وإلى إيمانهم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ إنه إيمان مشوب بالشك، ومختلط بالضلال.. فلا يعدّ، ولا يحسب في الإيمان الصحيح بحال أبدا.
18. في قوله تعالى: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ إشارة إلى أن قلّة قليلة من هؤلاء المؤمنين من أهل الكتاب قام إيمانهم على التسليم، ولم يقم على الوساوس والهواجس، والضرب في متاهات لا يهتدى السالك فيها إلى سواء السبيل أبدا.. أما الكثرة الكثيرة من أهل الكتاب فهم كما قال الله: ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أي هم مؤمنون ولكنهم في الوقت نفسه (فاسقون) أي خارجون على الإيمان.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/547.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ يتنزّل هذا منزلة التّعليل لأمرهم بالدّعوة إلى الخير، وما بعده، فإن قوله: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ حال من ضمير كنتم، فهو مؤذن بتعليل كونهم خير أمّة فيترتب عليه أنّ ما كان فيه خيريتهم يجدر أن يفرض عليهم، إن لم يكن مفروضا من قبل، وأن يؤكد عليهم فرضه، إن كان قد فرض عليهم من قبل.
2. الخطاب في قوله: ﴿كُنْتُمْ﴾:
أ. إمّا لأصحاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ونقل ذلك عن عمر، وابن عبّاس، قال عمر: هذه لأوّلنا ولا تكون لآخرنا، وإضافة خير إلى أمّة من إضافة الصفة إلى الموصوف: أي كنتم أمّة خير أمّة أخرجت للنّاس، فالمراد بالأمّة الجماعة، وأهل العصر النبوي، مثل القرن، وهو إطلاق مشهور ومنه قوله تعالى: ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: 45] أي بعد مدة طويلة كمدة عصر كامل، ولا شكّ أن الصحابة كانوا أفضل القرون التي ظهرت في العالم، لأن رسولهم أفضل الرسل، ولأن الهدى الذي كانوا عليه لا يماثله هدى أصحاب الرسل الذين مضوا، فإن أخذت الأمة باعتبار الرسول فيها فالصحابة أفضل أمة من الأمم مع رسولها، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خير القرون قرني)، والفضل ثابت للجموع على المجموع، وإن أخذت الأمة من عدا الرسول، فكذلك الصحابة أفضل الأمم التي مضت بدون رسلها، وهذا تفضيل للهدى الذي اهتدوا به، وهو هدى رسولهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وشريعته.
ب. وإمّا أن يكون الخطاب بضمير ﴿كُنْتُمْ﴾ للمسلمين كلّهم في كلّ جيل ظهروا فيه، ومعنى تفضيلهم بالأمر بالمعروف مع كونه من فروض الكفايات لا تقوم به جميع أفراد الأمّة لا يخلو مسلم من القيام بما يستطيع القيام به من هذا الأمر، على حسب مبلغ العلم ومنتهى القدرة، فمن التغيير على الأهل والولد، إلى التغيير على جميع أهل البلد، أو لأن وجود طوائف القائمين بهذا الأمر في مجموع الأمّة أوجب فضيلة لجميع الأمّة، لكون هذه الطوائف منها كما كانت القبيلة تفتخر بمحامد طوائفها، وفي هذا ضمان من الله تعالى بأنّ ذلك لا ينقطع من المسلمين إن شاء الله تعالى.
3. فعل (كان) يدل على وجود ما يسند إليه في زمن مضى، دون دلالة على استمرار، ولا على انقطاع، قال تعالى ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 96] أي وما زال، فمعنى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ وجدتم على حالة الأخيرية على جميع الأمم، أي حصلت لكم هذه الأخيرية بحصول أسبابها ووسائلها، لأنّهم اتّصفوا بالإيمان، والدّعوة للإسلام، وإقامته على وجهه، والذبّ عنه النقصان والإضاعة لتحقّق أنّهم لمّا جعل ذلك من واجبهم، وقد قام كلّ بما استطاع، فقد تحقّق منهم القيام به، أو قد ظهر منهم العزم على امتثاله، كلّما سنح سانح يقتضيه، فقد تحقّق أنهم خير أمّة على الإجمال فأخبر عنهم بذلك، هذا إذا بنينا على كون الأمر في قوله آنفا: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: 104] وما بعده من النهي في قوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 105] الآية، لم يكن حاصلا عندهم من قبل.
4. يجوز أن يكون المعنى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ موصوفين بتلك الصّفات فيما مضى تفعلونها إمّا من تلقاء أنفسكم، حرصا على إقامة الدّين واستحسانا وتوفيقا من الله في مصادفتكم لمرضاته ومراده، وإمّا بوجوب سابق حاصل من آيات أخرى مثل قوله: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾ [العصر: 3] وحينئذ فلمّا أمرهم بذلك على سبيل الجزم، أثنى عليهم بأنّهم لم يكونوا تاركيه من قبل، وهذا إذا بنينا على أنّ الأمر في قوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ [آل عمران: 104] تأكيدا لما كانوا يفعلونه، وإعلام بأنّه واجب، أو بتأكيد وجوبه على الوجوه التي قدّمتها عند قوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾
5. من الحيرة التجاء جمع من المفسرين إلى جعل الإخبار عن المخاطبين بكونهم فيما مضى من الزمان أمة بمعنى كونهم كذلك في علم الله تعالى وقدره أو ثبوت هذا الكون في اللوح المحفوظ أو جعل كان بمعنى صار،.
6. المراد بأمّة عموم الأمم كلّها على ما هو المعروف في إضافة أفعل التفضيل إلى النكرة أن تكون للجنس فتفيد الاستغراق.
7. ﴿أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ الإخراج مجاز في الإيجاد والإظهار كقوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ﴾ [طه: 88] أي أظهر بصوغه عجلا جسدا، والمعنى: كنتم خير الأمم التي وجدت في عالم الدنيا، وفاعل ﴿أُخْرِجَتْ﴾ معلوم وهو الله موجد الأمم، والسائق إليها ما به تفاضلها، والمراد بالناس جميع البشر من أوّل الخليقة.
8. جملة: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ حال في معنى التّعليل إذ مدلولها ليس من الكيفيات المحسوسة حتّى تحكى الخيرية في حال مقارنتها لها، بل هي من الأعمال النّفسية الصالحة للتعليل لا للتوصيف، ويجوز أن يكون استئنافا لبيان كونهم خير أمّة، والمعروف والمنكر تقدّم بيانهما قريبا.
9. إنّما قدّم ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ على قوله: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ لأنهما الأهم في هذا المقام المسوق للتنويه بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحاصلة من قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: 104] والاهتمام الذي هو سبب التقديم يختلف باختلاف مقامات الكلام ولا ينظر فيه إلى ما في نفس الأمر لأنّ إيمانهم ثابت محقّق من قبل.
10. إنّما ذكر الإيمان بالله في عداد الأحوال التي استحقوا بها التفضيل على الأمم، لأنّ لكلّ من تلك الأحوال الموجبة للأفضلية أثرا في التّفضيل على بعض الفرق، فالإيمان قصد به التفضيل على المشركين الذين كانوا يفتخرون بأنهم أهل حرم الله وسدنة بيته وقد ردّ الله ذلك صريحا في قوله: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ﴾ [التوبة: 19] وذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قصد به التفضيل على أهل الكتاب، الذين أضاعوا ذلك بينهم، وقد قال تعالى فيهم ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ [المائدة: 79]
11. سؤال وإشكال: إذا كان وجه التفضيل على الأمم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، فقد شاركنا في هذه الفضيلة بعض الجماعات من صالحي الأمم الذين قبلنا، لأنّهم آمنوا بالله على حسب شرائعهم، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، لتعذّر أن يترك الأمم بالمعروف لأنّ الغيرة على الدين أمر مرتكز في نفوس الصادقين من أتباعه، والجواب: لم يثبت أن صالحي الأمم كانوا يلتزمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إمّا لأنه لم يكن واجبا عليهم(2)، أو لأنّهم كانوا يتوسّعون في حل التقية، وهذا هارون في زمن موسى عبدت بنو إسرائيل العجل بمرأى منه ومسمع فلم يغيّر عليهم، وقد حكى الله محاورة موسى معه بقوله: ﴿قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ [طه: 92 ـ 94](3)، وأما قوله تعالى ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: 113، 114] الآية فتلك فئة قليلة من أهل الكتاب هم الذين دخلوا في الإسلام مثل عبد الله بن سلام، وقد كانوا فئة قليلة بين قومهم فلم يكونوا جمهرة الأمّة.
12. شاع عند العلماء الاستدلال بهذه الآية على حجّية الإجماع وعصمته من الخطأ بناء على أن التعريف في المعروف والمنكر للاستغراق، فإذا أجمعت الأمّة على حكم، لم يجز أن يكون ما أجمعوا عليه منكرا، وتعيّن أن يكون معروفا، لأنّ الطائفة المأمورة بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في ضمنهم، ولا يجوز سكوتها منكر يقع، ولا عن معروف يترك، وهذا الاستدلال إن كان على حجية الإجماع بمعنى الشرع المتواتر المعلوم من الدين بالضرورة فهو استدلال صحيح لأن المعروف والمنكر في هذا النوع بديهي ضروري، وإن كان استدلالا على حجية الإجماعات المنعقدة عن اجتهاد، وهو الذي يقصده المستدلون بالآية، فاستدلالهم بها عليه سفسطائي لأنّ المنكر لا يعتبر منكرا إلّا بعد إثبات حكمه شرعا، وطريق إثبات حكمه الإجماع، فلو أجمعوا على منكر عند الله خطأ منهم لما كان منكرا حتّى ينهي عنه طائفة منهم لأنّ اجتهادهم هو غاية وسعهم.
13. ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ عطف على قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ لأن ذلك التفضيل قد غمر أهل الكتاب من اليهود وغيرهم فنبّههم هذا العطف إلى إمكان تحصيلهم على هذا الفضل، مع ما فيه من التعريض بهم بأنّهم متردّدون في اتباع الإسلام، فقد كان مخيريق متردّدا زمانا ثمّ أسلم، وكذلك وفد نجران تردّدوا في أمر الإسلام.
14. أهل الكتاب يشمل اليهود والنصارى، لكن المقصود الأول هنا هم اليهود، لأنّهم كانوا مختلطين بالمسلمين في المدينة، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دعاهم إلى الإسلام، وقصد بيت مدراسهم، ولأنهم قد أسلم منهم نفر قليل وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم)
15. لم يذكر متعلق (آمن) هنا لأنّ المراد لو اتّصفوا بالإيمان الذي هو لقب لدين الإسلام وهو الذي منه أطلقت صلة الذين آمنوا على المسلمين فصار كالعلم بالغلبة، وهذا كقولهم أسلم، وصبأ، وأشرك، وألحد، دون ذكر متعلّقات لهاته الأفعال لأن المراد أنّه اتّصف بهذه الصّفات التي صارت أعلاما على أديان معروفة، فالفعل نزّل منزلة اللازم، وأظهر منه: تهوّد، وتنصّر، وتزندق، وتحنّف، والقرينة على هذا المعنى ظاهرة وهي جعل إيمان أهل الكتاب في شرط الامتناع، مع أنّ إيمانهم بالله معروف لا ينكره أحد، ووقع في (الكشاف) أنّ المراد: لو آمنوا الإيمان الكامل، وهو تكلّف ظاهر، وليس المقام مقامه، وأجمل وجه كون الإيمان خيرا لهم لتذهب نفوسهم كلّ مذهب في الرجاء والإشفاق.
16. ولمّا أخبر الله تعالى عن أهل الكتاب بامتناع الإيمان منهم بمقتضى جعل إيمانهم في حيز شرط (لو) الامتناعية، تعيّن أن المراد من بقي بوصف أهل الكتاب، وهو وصف لا يبقى وصفهم به بعد أن يتديّنوا بالإسلام، وكان قد يتوهّم أن وصف أهل الكتاب يشمل من كان قبل ذلك منهم ولو دخل في الإسلام، وجيء بالاحتراس بقوله: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أي منهم من آمن بالنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فصدق عليه لقب المؤمن، مثل عبد الله بن سلام، وكان اسمه حصينا وهو من بني قينقاع، وأخيه، وعصمته خالدة، وسعية أو سنعة بن غريض بن عاديا التيماوي، وهو ابن أخي السموأل بن عاديا، وثعلبة بن سعية، وأسد بن سعية القرظي، وأسد بن عبيد القرظي، ومخيريق من بني النضير أو من بني قينقاع، ومثل أصمحة النّجاشي، فإنّه آمن بقلبه وعوّض عن إظهاره إعمال الإسلام نصره للمسلمين، وحمايته لهم ببلده، حتّى ظهر دين الله، فقبل الله منه ذلك، ولذلك أخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عنه بأنّه كان مؤمنا وصلى عليه حين أوحي إليه بموته، ويحتمل أن يكون المعنى من أهل الكتاب فريق متّق في دينه، فهو قريب من الإيمان بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهؤلاء مثل من بقي متردّدا في الإيمان من دون أن يتعرّض لأذى المسلمين، مثل النّصارى من نجران ونصارى الحبشة، ومثل مخيريق اليهودي قبل أن يسلم، على الخلاف في إسلامه، فإنّه أوصى بماله لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فالمراد بإيمانهم صدق الإيمان بالله وبدينهم، وفريق منهم فاسق عن دينه، محرّف له، مناو لأهل الخير، كما قال تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ مثل الذين سمّوا الشاة لرسول الله يوم خيبر، والذين حاولوا أن يرموا عليه صخرة.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/188.
(2) هذا غير صحيح، والقرآن الكريم ينفيه، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الله تعالى في قصة بني إسرائيل والسبت.
(3) وهذا غير صحيح؛ وهارون عليه السلام ذكر سبب ذلك.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. نفى الله تعالى عن ذاته الكريمة إرادة الظلم، وبين أنه يضع الأمور في مواضعها؛ ليصحح الأفهام التي تتوهم أن النبوة تكون في قبيل دون قبيل، ولبيان أن كل شيء له ميزان ومقياس، وأن رقى الأمم ورفعتها يكون بميزان ثابت، وأن الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له، وأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ما كان في أمة إلا وقاها الآفات الاجتماعية، وأنه لا تتركه أمة إلا تردت في مهاوى الفساد، وأدال الله من قوتها، ذلك هو الميزان الذي وضعه العلى القدير لرفعة الأمم، ولذا قال سبحانه في وصف الأمة المثلى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾
2. الخطاب في هذه الآية للمؤمنين الذين تلقوا الوحى من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، و(كان) في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾:
أ. يصح أن تكون بمعنى وجد، أي وجدتم خير أمة لهذه الأوصاف ما تحققت فيكم.
ب. ويصح أن تكون ناقصة، ويكون المعنى قدرتم في علم الله تعالى خير أمة إن قمتم بهذه الأمور.
ج. ويصح أن تكون بمعنى صار، أي تحولتم معشر المؤمنين الذين عاصرتم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من جاهليتكم إلى أن صرتم خير أمة أخرجت للناس بسبب الإيمان والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
د. ونحن نميل إلى أن تكون بمعنى وجد أو ناقصة، والمعنى فيهما متقارب، ليشمل النص المخاطبين بتلك الحقائق في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن يجيئون بعدهم ويتبعونهم بإحسان إلى يوم القيامة.
3. هذه الخيرية التي قدرها سبحانه لهذه الأمة منوطة بتحقيق أمرين.
أ. أحدهما: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
ب. الثاني: الإيمان المطلق بالله والإذعان له وتفويض الأمور إليه بعد الأخذ في الأسباب، واعتقاد أنه لا قوة في هذا الوجود غير قوته، ولا معبود بحق سواه، ولا خضوع لأحد كائنا من كان غيره تعالت قدرته.
4. ليست الخيرية التي خاطب الله بها المهاجرين والأنصار والذين يتبعونهم؛ لأنهم مسلمون فقط، أو لأشخاصهم وذواتهم، بل لأنهم متصفون بأوصاف هي علة هذه الخيرية، ومناط تلك الرفعة الإلهية، وتلك الأوصاف هي الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإيمان بالله.
5. ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إما أن تكون جملة حالية من ضمير الخطاب، وإما أن تكون كلاما مستأنفا مفصولا، ولذا قال الفخر الرازي في التفسير الكبير: (اعلم أن هذا الكلام مستأنف، والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية كما تقول: زيد كريم، يطعم الناس ويكسوهم، ويقوم بما يصلحهم، وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه: أن ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف؛ فهنا حكم بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة ثم ذكر عقيبه علة هذا الحكم)، هذا، ويصح أن نقول: إن الحكم بالخيرية مبهم، وقد بينه سبحانه بقوله: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ فالخيرية التي حكم سبحانه وتعالى بها هي هذه الأوصاف، وهذا ينطبق على المثل الذي ساقه الرازي وهو، فلان كريم: يطعم ويكسو، فإن يطعم ويكسو تفسير لمعنى كرمه، وبيان له، فالاستئناف إذن ليس لأن جملة (تأمرون) علة للخيرية، بل هي بيان للخيرية، ولذلك لا ينطبق الحكم بالخيرية على من لا يتصف بهذه الصفات، فالجماعات التي تهمل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولا يكون فيها إيمان، لا يمكن أن تكون خير أمة، بل لا توصف بالخيرية قط؛ لأنه لا خير إلا في الفضائل والحق والعدل، ولا تقوم هذه الأمور إلا بالإيمان وقيام رأى عام مهذّب لائم يقوم المعوج، وتنزوى فيه الرذائل انزواء، إذ يقتلها نوره المشرق وشمس الحقيقة الناصعة.
6. سؤال وإشكال: لماذا قدم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الإيمان؟ والجواب: ذكر الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مقدما لبيان أنه مطلوب لذاته، وأنه فضيلة لا تختلف فيها الأمم ولا الجماعات، فهو كالصدق والعدل والحق تتفق عليها الأفهام وبل ولا يمكن أن يتحقق بنيان جماعة من غير تحققه، وإلا كانت كالذئاب الضارية، أو كانت كالوحوش في الغابة، والإيمان سياج الجماعة وحمايتها من أن تضل، وكأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو الذي يقوم به بناء الجماعة، والإيمان هو الذي يحميها ويسدد خطاها، فذكر ما يقوم به البناء ثم ذكر ما يكون به ذلك البناء في دائرة الفضيلة والأخلاق الكريمة وهو الإيمان، وفي الحقيقة هما متلازمان، فالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والتواصى بالحق يتبعه إيمان الشذاذ الخارجين، والإيمان الحق بالله تعالى والإذعان لأوامره ونواهيه يتبعه حتما الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
7. سؤال وإشكال: لما ذا اقتصر في الإيمان على الإيمان بالله، ولم يذكر الإيمان بالرسل والملائكة واليوم الآخر والحساب والعقاب وغير ذلك مما يوجبه الإيمان، ولا يعد الشخص مؤمنا إلا به؟ والجواب: الإيمان بالله هو لب الإيمان بكل أجزائه وعناصره، فالإيمان بالله هو الإذعان المطلق لقوة غيبية تسيّر هذا الكون وتدبره، وتقوم على كلاءته وحمايته، والإيمان بقوة غيبية يقتضى الإيمان برسالتها للناس، ويقتضى الإيمان بالأرواح الطاهرة المطهرة، والإيمان بأن الله لم يخلق هذه الأشياء عبثا، وإن ذلك يقتضى الإيمان بقدرة الله على الإعادة كما بدأ الخلق بالتكوين، وبأن هنالك يوما آخر فيه الحساب، وإن من يؤمن بالله ولا يؤمن بهذه العناصر كلها لا يكون مؤمنا بالله حق الإيمان، ولا مذعنا لأحكامه حق الإذعان، ولذا كان أهل الكتاب الذين أعلنوا إيمانهم بالله، وأنكروا رسالة الرسول مع قيام البينات عليها غير مؤمنين، وغير مذعنين للحق الذي ارتضاه الله.
8. يجب التنبيه هنا إلى أمرين:
أ. أولهما: أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر غير تغيير المنكر، وغير العمل بالفعل على منعه، فالأمر والنهى إرشاد وتوجيه ونصح وتنبيه، والتغيير يكون بالعمل المنظم والأحكام الرادعة، وذلك يتولاه الحكام، إلا إذا تقاصرت همم الحكام، فإنه يجب تغييرهم ليتولى من يقيم حدود الله، وينفذ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
ب. الثاني: أنه ليست الخيرية مرادفة للقوة، فالخيرية هي أن يكون المجتمع فاضلا يقوم بحق العدل، وأن يكون كل شيء فيه بقسطاس مستقيم، وأن تسوده الأخلاق الكريمة والسلوك القويم، وأما القوة فالأمر فيها لسيطرة المادة والغلبة والاستعداد الحربى، وإنا نرى أقوى الأمم الآن أشدها انتهاكا لحرمات الفضيلة في داخلها وخارجها، ومن الأمم الضعيفة ما يكون للفضيلة فيها موضع، وللأمانة فيها سلطان، وللحق فيها أنصار، ولا شك أنها أقرب إلى الخير من تلك الأمم القوية، وفي الجملة، إن القوة تستمد من المادة إذا انفصلت عن الفضيلة، والخيرية تستمد من الحق والعدل والفضائل الإنسانية، والمساواة بين بنى الإنسان من غير عصبية جنسية أو إقليمية، وهما في عصرنا الحاضر متمايزان لسيطرة المادة على الأقوياء، وفقدانهم قوة الإيمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
9. الإيمان بالله يقتضى الإيمان بكل رسول إذا قامت الأدلة على رسالته؛ ولذا نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن بعض أهل الكتاب، فقال تعالت كلماته: ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ و(لو) هنا هي التي يقول عنها علماء النحو: إنها حرف امتناع لامتناع، أي امتنع الخير فيهم لأنفسهم لامتناع الإيمان الكامل، وقد ذكر نفى الإيمان عنهم مطلقا مع أنهم يقولون إنهم يؤمنون بالله، ويقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، وذلك لأنهم إذ لم يذعنوا لأحكام الله تعالى وأوامره ـ وقد فسروها على حسب أهوائهم ومنازعهم العصبية والجنسية، واعتقادهم أنهم شعب الله المختار ـ قد فقدوا الإيمان، إذ الإيمان كلّ لا يقبل التجزئة، فليس بمؤمن بالله من يكذب رسالة الله التي جاءت بها البينات، وقامت عليها الدلائل؛ وفي نفى الإيمان نفيا مطلقا ما يومئ إلى أن الذين يجعلون هواهم مسيرا لاعتقادهم وفكرهم لا يؤمنون بحقيقة من الحقائق إلهية كانت أو إنسانية.
10. وقد نفى سبحانه عنهم الإيمان بأي شيء، ولذلك لم يكن ثمة حاجة بعد هذا إلى نفى القيام بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ لأن ذلك يقتضى الإيمان بالفضائل والمعاني الإنسانية، وهم لا يؤمنون بشيء منها، وإن ذلك ليس خيرا لهم في شيء؛ لأنهم بذلك تنحل جماعتهم، وتتفرق وحدتهم، ونفى الإيمان عن أهل الكتاب ليس نفيا له عن الكل، بل هو نفى عن الأكثر؛ لذا قال سبحانه: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ المؤمن هو المذعن للحق إذا قامت بيناته أو دلت أماراته، وهو ينشأ عن استقامة القلب، والتزام الجادة، والاتجاه دائما إلى الطريق المستقيم بإخلاص ونزاهة نفس عن الهوى، ولذلك كان غير المؤمن خارجا عن الاستقامة، ولذا يسمى فاسقا، باعتباره خرج عن منهاج الاستقامة، وترك طريق الحق، وسلك سبل الشيطان، ويسمى كافرا باعتباره جحد الحق، وستر ينابيع الإدراك في نفسه، وناسب أن يذكر وصف الفسق بالنسبة لغير المؤمنين من أهل الكتاب؛ لأنهم خرجوا عن منهاج الكتاب المنزل، وفسقوا عن أمر ربهم وتركوه وراءهم ظهريا.
11. منهاج القرآن هو العدالة في الحكم دائما، ولذا لم يصفهم كلهم بالفسق وإن كان قد عمهم، بل وصف بعضهم وإن كان الأكثر، ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة] ولكن من هم المؤمنون ومن هم الفاسقون؟ سنبين ذلك في تفسير الآيات الآتية، والله سبحانه وتعالى هو وحده العليم بالصواب.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1356.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ليس من شك ان المراد بها هنا أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بدليل السياق وتوالي مخاطبات المؤمنين من قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾، ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا﴾ إلى قوله سبحانه: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾
2. سؤال وإشكال: هل المراد بالأمة جميع المسلمين في كل عصر، أو خصوص من كان منهم في الصدر الأول كالأصحاب والتابعين؟ والجواب: تعيين المراد بالأمة هنا يتوقف على معرفة المراد من (كان)، وهي بحسب وضعها ناقصة تحتاج إلى اسم وخبر، وتدل على حدوث الفعل في آن مضى، مع سكوتها وعدم دلالتها على الآن السابق الذي حدث فيه الفعل، ولا على الزمان اللاحق له الا بقرينة مقالية أو مقامية، مثل كان زيد قائما فإنه محمول على حدوث القيام وانقطاعه، أي لم يكن زيد قائما فقام فترة من الزمن الماضي، دون أن يستمر قيامه مدى حياته، والذي أفاد هذا المعنى لفظ قائم بالذات، وقد تفيد القرينة المقامية القدم والدوام، مثل كان الله غفورا رحيما، فان نسبة الرحمة والمغفرة اليه سبحانه لا تنفك عن ذاته أبدا وأزلا، وحيث ان الله سبحانه قد أناط خيرية الأمة وفضلها بالإيمان به وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيكون معنى الآية: (أيها المسلمون لا تقولوا: نحن خير الأمم وأفضلها إلا إذا أمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، وهذا الوصف يزول عنكم بمجرد اهمالكم لذلك)، وعليه فإن (كان) هنا تامة غير ناقصة، وخير أمة حال من الضمير في كنتم، أي أنتم خير أمة في حال أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر.
3. قوله تعالى: ﴿أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ يشعر بأن الله سبحانه أوجد محمدا وأمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لتقود الأمم بكاملها حاملة كتاب الله في يد، وسنّة نبيّه في يد، تدعو الأجيال إلى التمسك بهما، والرجوع اليهما في العقيدة والشريعة والأخلاق، لأنهما المصدران الوحيدان اللذان يحققان السعادة للجميع، ويضمنان العيش لكل فرد، ويفسحان المجال لأرباب الاجتهاد والكفاءات على أساس العدل والأمن والحرية للناس، كل الناس.
4. تتفق هذه الآية في مضمونها، أي ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾، مع قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾
5. إذا لم ينهض المسلمون بعبء الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر زال عنهم وصف القيادة، وأصبحوا في حاجة إلى قائد يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر.
6. أتى على المسلمين حين من الدهر نهضوا فيه بهذا العبء، وكانوا بحق قادة الأمم، ثم أهملوه، وبمرور الزمن أصبحوا ينهون عن المعروف، ويأمرون بالمنكر كما نشاهد ذلك ونراه في هذا العصر الذي تحلل فيه أكثر أبناء الجيل من الدين، وكل خلق كريم، فإذا رأوا مصليا أو صائما قالوا له ساخرين: أصلاة وصيام في القرن العشرين؟
7. قال صاحب تفسير المنار عند تفسير الآية التي نحن بصددها: (الحق أقول: ان هذه الأمة ما فتئت خير أمة أخرجت للناس، حتى تركت الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما تركتهما رغبة عنهما أو تهاونا بأمر الله تعالى بإقامتهما، بل مكرهة باستبداد الملوك والأمراء من بني أمية، ومن سار على طريقهم من بعدهم)، وعلى أساس ان الأشياء تذكر بأضدادها كما تذكر بنظائرها نسجل هذا الحديث الشريف الذي ذكره الحافظ محب الدين الطبري، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تعلق بها فاز، ومن تخلف عنها غرق).. أما حديث (اني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي) فقد رواه خمسة وثلاثون راويا من الأصحاب.
8. ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾، أي لو ان أهل التوراة والإنجيل آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لكان الايمان خيرا لهم في الآجل والعاجل، ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، أي ان أهل الكتاب منهم من آمن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كعبد الله بن سلام ورهطه من اليهود، وغيرهم من النصارى، وأكثرهم بقي على الكفر.. ولفظ الكفر والفسق يتناوبان، فيستعمل الكفر في الفسق، والفسق في الكفر، والمراد بالفسق هنا الكفر.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/131.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾، المراد بإخراج الأمة للناس ـ والله أعلم ـ إظهارها لهم، ومزية هذه اللفظة (الإخراج) أن فيها إشعارا بالحدوث والتكون قال تعالى: ﴿الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى﴾، والخطاب للمؤمنين فيكون قرينة على أن المراد بالناس عامة البشر.
2. والفعل أعني قوله: ﴿كُنْتُمْ﴾ منسلخ عن الزمان ـ على ما قيل ـ والأمة إنما تطلق على الجماعة والفرد لكونهم ذوي هدف ومقصد يؤمرونه ويقصدونه، وذكر الإيمان بالله بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبيل ذكر الكل بعد الجزء أو الأصل بعد الفرع.
3. معنى الآية أنكم معاشر المسلمين خير أمة أظهرها الله للناس بهدايتها لأنكم على الجماعة تؤمنون بالله وتأتون بفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن المعلوم أن انبساط هذا التشريف على جميع الأمة لكون البعض متصفين بحقيقة الإيمان والقيام بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا محصل ما ذكروه في المقام.
4. الظاهر والله أعلم أن قوله: ﴿كُنْتُمْ﴾ غير منسلخ عن الزمان والآية تمدح حال المؤمنين في أول ظهور الإسلام من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والمراد بالإيمان هو الإيمان بدعوة الاجتماع على الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق فيه في مقابل الكفر به على ما يدل عليه قوله قبل: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ الآية، وكذا المراد بإيمان أهل الكتاب ذلك أيضا فيئول المعنى إلى: أنكم معاشر أمة الإسلام كنتم في أول ما تكونتم وظهرتم للناس خير أمة ظهرت لكونكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتعتصمون بحبل الله متفقين متحدين كنفس واحدة، ولو كان أهل الكتاب على هذا الوصف أيضا لكان خيرا لهم لكنهم اختلفوا منهم أمة مؤمنون وأكثرهم فاسقون.
5. في الآيات موارد من التفات من الغيبة إلى الخطاب ومن خطاب الجمع إلى خطاب المفرد وبالعكس، وفيها موارد من وضع الظاهر موضع الضمير كتكرر لفظ الجلالة في عدة مواضع، والنكتة في الجميع ظاهرة للمتأمل.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/377.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ لما أمر الله أن يكون من الذين آمنوا أمة ﴿يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ بيّن بهذه الآية، أن الأمة المأمور بها موجودة فيهم، فلم يأمر بها لعدمها في الحال ولكن للمستقبل الذي تكون هذه الأمة قد مضت قبله.
2. ﴿أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ لأنهم أخرجوا من ديارهم وأمروا بالهجرة لإعزاز دين الله وإظهاره في أرض الله ليسعد الناس به إن اتبعوه، فالخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه من أهل الصفات المذكورة الأخيار الذين يستحقون أن يوصفوا بأنهم كانوا مستمرين على أنهم خير أمة، أي قد كانوا في الماضي حتى نزول الآية؛ ولا إشكال أنهم مخصوصون بمن نصر الإسلام وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر لاجتماع مادلت عليه الآية فيهم:
أ. الأول: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾
ب. الثاني: ﴿أُخْرِجَتْ﴾
ج. الثالث: ﴿لِلنَّاسِ﴾
د. الرابع: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾
وهي واضحة في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلي، وحمزة، وجعفر بن أبي طالب ونحوهم، ولا يدخل فيها من لم يكن أسلم عند نزولها ولا من لم يسلم إلا بعد الفتح وسقوط الهجرة عن أهل مكة، ولا من لم ينصر الإسلام أو لم يأمر بمعروف وينه عن منكر.
3. قد قيل: أنها نزلت في أهل البيت عليهم السلام لعله بالمعنى الذي ذكرت، والصواب: أنها فيهم وفيمن كان معهم على طريقتهم في جمع الأوصاف المذكورة، بحمد الله كنت فهمت هذا كما ذكرت، وبعد ذلك وجدت في مستدرك الحاكم بسنده عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة إلى المدينة، هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي في (تلخيصه) وصواب العبارة: هم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه من المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، ولعل الرواة غيروا، أو أن ابن عباس غفل عن عد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم منهم.
4. ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ وذكر الإيمان بالله؛ لأنه أساس الدين ولا يقبل شيء من الدين إلا به، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾ [الأنبياء:94] وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء:19]
5. ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ لينقذوا أنفسهم من النار ويفوزوا بالجنة ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ الذين لم يؤمنوا أو آمنوا ثم نافقوا أو فارقوا الإيمان منهم من نافق ومنهم من في قلبه مرض ولم ينافق.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/518.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إنّ قيمة كل أمّة بالنسبة إلى الأمم الأخرى، هي في المبادئ التي تؤمن بها وفي الدور الكبير الذي تقوم به في حياة الناس، وعلى هذا الأساس جاءت هذه الآية لتؤكد أفضلية الأمة الإسلامية على سائر الأمم، لا من خلال الجانب الذاتي الذي يقوم على تفضيل شعب على شعب لصفاته الذاتية، أو لامتيازات غيبية خاصة كما هو شأن اليهود في اعتقادهم بأنهم شعب الله المختار، بل من خلال الدور الذي أنيط بها في تغيير الواقع الفاسد بكل الوسائل الممكنة، سواء كان ذلك بالإقناع القائم على أساس المحبة، أو بالقوّة التي تحطّم الحواجز التي يقيمها الآخرون أمام حرية الإسلام في الدعوة، أو التي تواجه التمرد المنحرف الذي يقوم به الأفراد في المجتمعات الإسلامية، فهي أمّة قائدة لمجتمعها ومجتمعات الآخرين من حيث الدور الذي أنيط بها، بينما كانت الرسالات الأخرى، في ما حدثنا القرآن عنه من حديث الأنبياء، تعمل على أساس التغيير بالموعظة والكلمة الطيبة والأساليب الهادئة مما يجعل منها رسالة دعوة مجرّدة، تماما كما هي الآية الكريمة: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: 143]؛ وإذا كانت قيمة الأمة من حيث الدور لا من حيث الذات، فإن الحكم على واقعها العملي تابع لقيامها بهذا الدور، ولكن ذلك لا يمنع من بقاء هذه الصفة من حيث الخط الذي وضع لها.
2. أثار المفسرون ـ في تفسير هذه الآية ـ الحديث حول كلمة (كان)، هل هي متضمنة للزمان في معناها، فيكون الحديث عن التفضيل في زمان سابق، أو هي غير متضمنة له، فتكون واردة لبيان أصل المبدأ:
أ. وقد اختار بعض المحققين من المفسرين الوجه الأوّل، واستظهر أن (الآية تمدح حال المؤمنين في أوّل ظهور الإسلام من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والمراد بالإيمان هو الإيمان بدعوة الاجتماع على الاعتصام بحبل الله وعدم التفرّق فيه في مقابل الكفر به، على ما يدلّ عليه قوله قبل: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ الآية، وكذا المراد بإيمان أهل الكتاب ذلك أيضا، فيؤول المعنى إلى أنكم معاشر أمّة الإسلام كنتم في أوّل ما تكوّنتم وظهرتم للناس خير أمة ظهرت لكونكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر..)
ب. وذهب أكثر المفسرين إلى الوجه الثاني وقالوا: إن كلمة (كان) قد تتجرد عن الزمان في بعض الحالات كما في الآيات التي تتحدث عن صفات الله مثل ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 96]
ج. لكننا نلاحظ على هذا الموضوع، أن الظاهر من الآية هو ورودها لبيان دور الأمة وقيمتها من خلال ذلك، وهذا قرينة على أنّ القضية لا تتصل بالزمن، لأن خصوصية الزمان في مثل هذه الأمور تابعة للجانب الواقعي العملي الذي تختلف فيه الأمة من زمن إلى زمن، وهذا غير مراد من الآية ـ في ما يظهر ـ، أمّا ما ذكره صاحب تفسير الميزان فهو مخالف للظاهر، من خلال ما استظهرناه من جهة؛ ومن جهة أخرى فإن الآية نزلت في الوقت الذي كانت حركة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجودة مستمرة في حياة المسلمين ولم تكن منفصلة عن ذلك الجوّ، فكيف يمكن أن تتكلم عن الموضوع بصفة الماضي، الذي قد يوحي بتبدّل الصفة إلى نقيضها!؟ أمّا تفسير الإيمان بالله، بالاعتصام بحبل الله وعدم التفرق، فغير واضح، بل ربما كان من القريب جدا، أن يكون المراد منه معناه الحقيقي على أساس ارتباط الدور بالجانب العقيدي الفكري الذي يمثله الإيمان بالله، وبالجانب التطبيقي العملي الذي يمثله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3. ﴿كُنْتُمْ﴾ أيها المسلمون في انطلاقكم في الحياة كجماعة موحدة على أساس الخط الفكري والعملي من خلال رسالة الله التي أراد للناس ـ من خلالها ـ أن يتوحدوا في أوضاعهم العامة والخاصة، ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ أي خير جماعة ظهرت للناس في وجودها الحركي القيادي الذي يتحوّل فيه كل مسلم إلى داعية لله، وعامل في خط التغيير الفردي والاجتماعي بعيدا عن الفردية الذاتية في اهتماماتها الخاصة على أساس عبادتها وأخلاقيتها في خط الإيمان، لأن الإسلام يريد للمسلم أن يحمل في داخل شخصيته شخصية الأمة في حركة مسئوليته عن الأمة كلها في حدود استطاعته، وبهذا تكون الأفضلية أو (الخيرية) مطلقة من خصوصية المضمون الفكري والدور العملي لهذه الجماعة، لا من خصوصية الذات في ذاتية الانتماء من حيث ذاته، وقد تعددت التطبيقات في التفاسير في مصداق هذه الجماعة من حيث اختصاصها بأشخاص معينين، أو شمولها للمسلمين كلهم:
أ. فقيل: هم المهاجرون خاصة، عن ابن عباس والسدّي.
ب. وقيل: نزلت في ابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة ـ كما في أسباب النزول ـ
ج. وقيل: أراد بهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة، عن الضحاك.
د. وقيل: هو خطاب للصحابة ولكنه يعمّ سائر الأمة.
هـ. وقيل ـ كما في الدر المنثور ـ: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ قال: أهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وجاء في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ الآية، عن أبي عمرو الزبيري عن الصادق عليه السّلام قال: يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم عليه السّلام، وهم الأمة التي بعث الله فيها ومنها وإليها، وهم الأمة الوسطى، وهم خير أمة أخرجت للناس.
4. الظاهر أن المراد بالكلمة: الجماعة المسلمة المميزة بالتزامها الرسالة في إيمانها وفي حركيّة الدعوة إلى الله، ومن الطبيعي أن يكون مصداقها منطبقا على الصحابة المجاهدين وعلى الأئمة الطيبين من أهل البيت عليهم السّلام، كما هي منطبقة على المسلمين السائرين في خط الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيكون التفسير الوارد في هذه المصاديق تفسيرا بالمصداق أو المصداق النموذجي الأعلى، لا تفسيرا بالخصوصية المعينة المنحصرة في هذه الفئة أو تلك، لأن الصفات المتأخرة المذكورة في الآية: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ تشمل المسلمين كلهم.
5. جاء في بعض الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام تبديل كلمة أمة بكلمة أئمة من قراءة خاصة، فقد جاء في رواية علي بن إبراهيم قال حدثني أبي عن ابن أبي عمير، عن ابن سنان، عن أبي عبد الله عليه السّلام، قال: قرئت عند أبي عبد الله عليه السّلام: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ الآية، فقال أبو عبد الله عليه السّلام: (خير أمة تقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين ابني علي عليه السّلام؟) فقال القارئ: جعلت فداك كيف نزلت؟ قال نزلت: (كنتم خير أئمة أخرجت للناس)، ألا ترى مدح الله لهم: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾، وجاء في تفسير العياشي عن حماد بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السّلام قرأ في قراءة علي: (كنتم خير أئمّة أخرجت للنّاس)، قال هم آل محمد)، ونلاحظ على ذلك:
أ. أوّلا: سند الروايتين، فإن المراد في الأولى بابن سنان ـ على الظاهر ـ محمد بن سنان، الذي لا يعتمد الأكثر على روايته، أما في الثانية فهي مرسلة.
ب. ثانيا: أن إسناد ضمير ﴿أُخْرِجَتْ﴾ إلى الأئمة قد يكون خطأ من الناحية العربية، لأن الجمع المذكر لا بد من أن يسند إليه الضمير في الفعل بنحو المذكّر لا بنحو المؤنث، فلا بد من أن يقول: (أخرجوا) وإنما يجوز الإسناد إليه بنحو التأنيث إذا كان إسناد الفعل إلى الظاهر، كما تقول جاء الأئمة بتقدير كلمة (جمع)، وجاءت الأئمة بتقدير كلمة (جماعة)، وإذا لم يكن ذلك فليس بليغا على الأقل.
ج. وثالثا: إنه وردت الرواية المتقدمة عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله الصادق بالتأكيد على القراءة المشهورة: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ وتفسيرها بأنها الأمة الوسطى مما يعارض القراءة المذكورة في الروايتين بكلمة (أئمّة)
د. ورابعا: إن الرواية الأولى ضعيفة الدلالة، لأن استنكار الصادق ـ على تقدير صدق الرواية ـ أن يكون الذين قتلوا عليا والحسنين عليهم السّلام مشمولين بهذه الآية، وذلك من خلال ورود الصفات الثلاثة التي لا تنطبق عليهم، لا يعني عدم ملاءمة ورود كلمة (الأمة) في الآية، لأن المفروض أن هذه الصفات توحي بانحصار الأمة المفضلة بالأمة الواجدة لهذه الصفات، ولا تشمل كل المسلمين، لأن الوصف يوحي بالتقييد، فالتعليل لا ينطبق على التبديل، وفي ضوء هذا فقد تكون المسألة في الرواية واردة على سبيل التفسير بأن المراد بهم الأئمة عليهم السّلام ومن يماثلهم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمؤمنين بالله بمعنى التفسير بالمصداق، ولكن التعبير ورد على هذا الشكل.
6. حاول المستشرق اليهودي (جولد تسيهر) أن يفسّر مثل هذا التبديل للأمة بالأئمة بأن الشيعة ـ من خلال أئمتهم ـ لا يوافقون على أن يكون للأمة دور في القرآن، فلذلك عمدوا إلى تبديل كل كلمة للأمة بالأئمة، ونحن نردّ على كلامه بأن المسألة ليست كما يراها، لأن الرواية الواردة بهذا المضمون قد تكون واحدة أو اثنتين ولكنها ليست بهذا الشمول، مع ملاحظة مهمة، وهي أن الشيعة لم يعترفوا بهذه الروايات ولم يلتزموها في المصاحف التي كتبوها، لأنهم ـ بأجمعهم ـ لا يرون صحة نسبة التحريف إلى القرآن، بل يرون أنه هو القرآن الموجود بين الدفتين الذي يتداوله المسلمون من دون أية زيادة أو نقصان، لأنه الكتاب الذي: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت: 42]، لأن الله قال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9] وإذا كان بعض علمائهم وهو الشيخ حسين النوري قد ألّف كتابا في إثبات التحريف، فإن العلماء المتأخرين من بعده قد ردّوا عليه أبلغ ردّ، ومنهم السيد أبو القاسم الخوئي في كتابه (البيان في تفسير القرآن)، وقد تحدث فيه أن الروايات الواردة في هذا المجال بين ضعيفة السند أو ضعيفة الدلالة، أو محمولة على التفسير لا على التنزيل، ولعلّ أبلغ دليل على رفض المسلمين الشيعة وأئمتهم للتحريف أمران:
أ. الأول: أن الأحاديث تواترت عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام بإرجاع الناس إلى كتاب الله في توثيق الروايات من حيث المضمون فقالوا: (ما خالف كتاب الله فهو زخرف)، وفيه توجيه إلى أن لا نقبل عليهم ما خالف كتاب الله وكانوا يشيرون إلى الكتاب الموجود بين أيدي المسلمين، فإنه ليس لدى الشيعة في كل عصورهم كتاب قرآني من نوع آخر.
ب. الثاني: إن الشيعة الذين كتبوا نسخ القرآن في الماضي أو طبعوه في المستقبل لم يختلفوا في كتابتهم وفي طباعتهم عن المسلمين، ولذلك فإن أي إنسان يملك أية قوة أو سيطرة في الاطلاع على أسرار الواقع الداخلي للشيعة في عملية هجوم أو اقتحام لم يجد ولا يجد أيّة نسخة قرآنية مختلفة عما هو لدى الناس.
7. ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ باعتبارهما الصفتين اللتين توحيان بالموقع القيادي التغييري الذي تقف فيه الجماعة المسلمة لتعمل على قيادة الناس من خلال خط الدعوة تارة والحركة أخرى والموقف ثالثة، إلى الأخذ بالمعروف والابتعاد عن المنكر، وعدم الاكتفاء ـ في ذلك ـ بالكلمة المعبّرة، ثم ألّا ننكفئ عن الواقع إلى العزلة والبعد عن ساحة الصراع، وإذا كانت الأفضلية التي توحي بالتقدم على الآخرين في الموقع والدور تنطلق من هاتين الصفتين، فلا بد من أن يكون لها دور القاعدة في استمرار هذا الموقع: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾، فإذا أهملوا ذلك فتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سقطوا كما سقط الآخرون لأنهم لا يمثلون ـ آنذاك ـ أيّة فائدة للإنسان.
8. ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ فإن الإيمان بالله الواحد يكون في العقيدة التوحيدية التي تحرر الإنسان من عبوديته للإنسان الآخر وللأصنام وللظواهر الكونية كالشمس والقمر والكواكب وغير ذلك، فيبقى ـ في موقع إنسانيته ـ الأصيل الذي يتعامل مع الناس الآخرين ومع الكون كله كتعامل الندّ للند، والمخلوق مع المخلوق، في عملية تكامل في خصوصيات الوجود التي تجعل الإنسان يسير في خط الكمال الإنساني الشامل في دائرة النظام الكوني الواسع، فيعطي الكون من عقله وجهده كما يأخذ منه، كما يقدم للإنسان الآخر جهده الذي ينتفع به في مقابل ما يأخذه من جهده لحاجته في حياته الخاصة والعامة، وقد جاء في تفسير الكشاف للزمخشري تعليق على هذه الفقرة: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ قال: (جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيمانا بالله، لأن من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتدّ بإيمانه فكأنه غير مؤمن بالله، ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ [النساء: 150 ـ 151] والدليل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ مع إيمانهم بالله ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ لكان الإيمان خيرا لهم مما هم عليه)، ونلاحظ عليه هنا أن التعايش ليس في كون الإيمان الكامل في الإسلام هو الإيمان بكل التفاصيل العقيدية والخطوط العامة للإسلام، إذ أن الآية ليست ـ على الظاهر ـ واردة في مقام الحديث عن التفاصيل، بل هي ـ والله العالم ـ واردة في مقام بيان النقطتين البارزتين في الخط الإسلامي الذي يلتزمه المسلمون في خطهم العملي: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾، باعتبارهما العنوانين لحركية الإنسان المسلم في دوره القيادي، الذي يجعله في مركز القيادة للإنسان وللحياة، وفي مركز الإشراف على الواقع لتغييره من الفساد إلى الصلاح، ومن المنكر إلى المعروف والإيمان بالله الذي يفتح عقله وقلبه وحياته على الله، ليلتزم المنهج التوحيدي في مواجهة الشرك كلّه.
9. أمّا الاستدلال بقوله تعالى: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ فلعل المراد منه إيمانهم بالله في مقابل الذين يلتزمون الكتاب اسما وانتسابا ولا يلتزمونه مضمونا ممن تحدث القرآن عنهم بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ مما يوحي بوجود مثل هذه الفئة، ومما يؤيد ذلك قوله تعالى في الآية: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ فليس المراد منهم الداخلين في دين الإسلام ـ على الظاهر ـ المؤمنين بالله السائرين على نهجه؛ والله العالم، أمّا الحديث عن أهل الكتاب فينطلق من انحرافهم عن الخط الإلهي في أكثر نماذجهم، مما يفقدهم الدور الكبير الذي يتخيلونه لأنفسهم، بينما لو كانوا منسجمين مع خط الإيمان بالرسول والرسالة، لكانوا جزءا من هذه الأمة القائدة التي أوكل الله إليها هذا الدور، و﴿لَكَانَ﴾ ذلك ﴿خَيْرًا لَهُمْ﴾ في الدنيا والآخرة ولكن القليلين ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ﴾، بينما ركبت الكثرة الكاثرة رؤوسها واختارت جانب الفسق والضلال ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾
10. لا تزال الآية تفرض نفسها على الساحة لتدعو المسلمين إلى أن يرتفعوا إلى هذا المستوى من خلال انسجامهم مع خط الإيمان وقيامهم بهذا الدور، ولكن الواقع الإسلامي في أكثر نماذجه قد ابتعد عن ذلك بالسير مع الدعوات القومية والعنصرية والإقليمية، وغيرها من الاتجاهات المنحرفة عن خط الإسلام، مما جعل الفكرة المطروحة في الساحة هي رفض الإسلام كأساس للشخصية، وكنظام للحياة ومنطلق للحركة؛ والاكتفاء به كإطار للعبادات والأخلاقيات العامة التي لا تلامس الحياة إلّا من بعيد، وبذلك فقدت الأمّة دورها الرائد بابتعادها عن شخصيتها الحقيقة وخطّها الأصيل.
11. إن الآية تؤكد على جانب الخط إلى جانب الحركة؛ فلا قيمة للحركة بدون القاعدة؛ كما أن القاعدة لا تمثل مركز قوّة إذا لم تتحرك في اتجاه تحريك الساحة من حولها على أساس المفاهيم الأساسية للفكر والعمل.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/212.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذه الآية تطرح مرّة أخرى مسألة (الأمر بالمعروف) و(النهي عن المنكر)، وتعتبر الآية الحاضرة هاتين المسألتين واجبين عموميين كما مرّ في تفسير الآية، بينما تبين الآية السابقة مرحلة خاصّة، وهي مرحلة الوجوب الكفائي أي الخاصّ بجماعة معينة، كما مرّ تفصيله، فالآية السابقة تشير إلى القسم الخاصّ، وهذه الآية تشير إلى القسم العام من هاتين الفريضتين.
2. الجدير بالذكر أن القرآن الكريم يصف المسلمين ـ في هذه الآية ـ بأنهم خير أمة هيئت وعبئت لخدمة المجتمع الإنساني، والدليل على أن هذه الأمة خير أمة رشحت لهذه المهمة الكبرى هو (قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإيمانها بالله) وهذا يفيد أن إصلاح المجتمع البشري لا يمكن بدون الإيمان بالله والدعوة إلى الحقّ، ومكافحة الفساد، كما ويستفاد من ذلك أن هاتين الوظيفتين مع ما هما عليه من السعة في الإسلام ممّا تفرد بهما هذا الدين من دون بقية الشرائع السابقة.
3. أما لماذا يجب أن تكون هذه الأمة خير الأمم، فسببه واضح كذلك، لأنها تختص بآخر الأديان الإلهية والشرائع السماوية، ولا شكّ أن هذا يقتضي أن يكون أكمل الشرائع وأتمها في سلم الأديان.
4. التعبير بلفظ الماضي ﴿كُنْتُمْ﴾ يعني أنكم كنتم كذلك في السابق، ومفهوم هذا التعبير وإن كان موضع احتمالات كثيرة بين المفسّرين، إلّا أن ما يترجح عند النظر هو أن التعبير بالمضي إنما هو لأجل التأكيد، والتلويح بأن الشيء محقّق الوقوع، ولذلك نظائر كثيرة في الكتاب العزيز حيث عبّر عن القضايا المحقّقة الوقوع بصيغة الفعل الماضي، لإفادة أن ذلك ممّا يقع حتما حتّى أنه نزل منزلة الماضي الذي قد تحقّق فعلا.
5. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدّما ـ في هذه الآية ـ على الإيمان بالله، وذلك خير شاهد على أهمية هاتين الفريضتين الإلهيتين ـ وخطورتهما ـ مضافا إلى أن القيام بهذين الواجبين المقدسين ممّا يوجب انتشار الإيمان، واتساع رقعته، وتعميق جذوره في النفوس، وتنفيذ كلّ القوانين الفردية والاجتماعية، ولا ريب أن ما يضمن تنفيذ القانون وتطبيقه مقدّم على نفس القانون، بل إن تعطيل هذين الواجبين يوجب ضعف العقائد في القلوب، وانهيار قواعد الإيمان في النفوس، ولهذا كلّه كان طبيعيا أن يقدّما على الإيمان.
6. من هذا البيان يتضح أن المسلمين ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ ما داموا يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإذا نسوا هاتين الفريضتين وأهملوهما لم يعودوا خير أمة، كما لم يعودوا في خدمة المجتمع البشري أبدا.
7. المخاطب في هذه الآية هم عموم المسلمين في جميع العصور كما هو الحال في كلّ الخطابات القرآنية، فما احتمله البعض من أنه خاص بالمهاجرين أو المسلمين الأوائل لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه.
8. الآية الكريمة تشير إلى أن دينا بمثل هذا الوضوح، وتشريعا بمثل هذه العظمة، وتعاليم تنطوي على مثل هذه الفوائد التي لا تنكر، ينبغي أن يؤمن به أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأن في ذلك صلاحهم، وخيرهم إذ يقول سبحانه: ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾
9. ولكن ـ وللأسف ـ لم يؤمن به إلّا قلّة ممّن نبذ التعصب الأعمى، واعتنق الإسلام برغبة صادقة، واستقبل هذا الدين برحابة صدر، فيما أعرض الأكثرون منهم، وفضلوا البقاء على ما هم عليه من الكفر والعصبية على إتباع هذا الأمر الإلهي، متجاهلين حتّى تلك البشائر التي نطقت بها كتبهم حول هذا الدين وإلى هذا يشير سبحانه بقوله: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ الخارجون عن هذا الأمر الإلهي.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/645.
59. أعداء الأمة وصفاتهم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈59⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [آل عمران: 111 ـ 112]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ هم أصحاب القبالات(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ بعهد من الله، وعهد من الناس(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٣٥.
(2) ابن المنذر: ٨١٣.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾ المسكنة: الفاقة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٣٣٦.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ﴾ استوجبوا سخطه(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٣٣٦.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ﴾ استحقوا الغضب من الله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾، قال الجزية(2).
3. روي أنّه قال: ﴿الْمَسْكَنَةُ﴾، قال الجزية(3).
__________
(1) ابن المنذر: ١/٣٣٦.
(2) ابن المنذر: ١/٣٣٥.
(3) ابن أبي حاتم: ٣/٣٣٦.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ﴾ بعهد، ﴿وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ بعهدهم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٨٢.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ تسمعون منهم كذبا على الله، يدعونكم إلى الضلالة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾، يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون(2).
3. روي أنّه قال: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ أذلهم الله فلا منعة لهم، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين(3).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٧٩.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٣٥.
(3) ابن جرير: ٥/٦٨١.
العوفي:
روي عن عطية العوفي (ت 112 هـ)أنّه قال: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾، الخراج(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٣٣٦.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ تسمعونه منهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ اجتنبوا المعصية والعدوان، فإن بهما أهلك من أهلك من قبلكم من الناس(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٧٩.
(2) ابن المنذر: ٨٢١.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ﴾ معناه بانوا به(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾ معناه ألزموا(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 111.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾، وذلك أن رؤساء اليهود: كعب بن مالك، وشعبة، وبحري، ونعمان، وأبا ياسر، وأبا نافع، وكنانة بن أبى الحقيق، وابن صوريا، عمدوا إلى مؤمنيهم فآذوهم لإسلامهم، وهم عبدالله بن سلام وأصحابه، فأنزل الله تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ﴾ اليهود ﴿إِلَّا أَذًى﴾ باللسان(1).
3. روي أنّه قال: ثم أخبر عن اليهود، فقال سبحانه: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ يعني: المذلة، ﴿أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾ يعني: وجدوا(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ﴾ الذلة و﴿الْمَسْكَنَةُ﴾، يعني: الذل والفقر(2).
5. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ﴾ الذي أصابهم ﴿بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ في دينهم(2).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٥.
(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٦.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ إشراكهم في عزير، وعيسى، والصليب(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٧٩.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ إلا بعهد، وهم يهود، والحبل: العهد، وذلك قول أبي الهيثم بن التيهان لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين أتته الأنصار في العقبة: أيها الرجل، إنا قاطعون فيك حبالا بيننا وبين الناس، يقول: عهودا، قال واليهود لا يأمنون في أرض من أرض الله إلا بهذا الحبل الذي لله قال تعالى، وقرأ: ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: ٥٥]، قال فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود في شرق ولا غرب، هم في البلدان كلها مستذلون، قال الله: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا﴾ [الأعراف: ١٦٨] قال يهود(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٨٣.
عيينة:
روي عن سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) أنّه قال: حبل الله: عهد الله، وقرأ: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾، قال: إلا بعهد من الله، وعهد من الناس(1).
__________
(1) أبو نعيم في أخبار أصبهان: ٢/٧.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ﴾ الآية، فيه بشارة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين، بالأمن لهم عن أذى المشركين وضررهم، إلا أذى باللسان؛ وهو كقوله تعالى: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [آل عمران: 186]، وقوله: ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ﴾ الآية [الحشر: 12]، ونحوه من الآيات التي فيها بشارة لأهل الإيمان بالنصر لهم على عدوهم.
2. في قوله تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ الآية ـ دلالة إثبات رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لأنه أخبر بذلك قبل أن يكون، فكان على ما أخبر؛ فدل أنه إنما علم ذلك بالله عزّ وجلّ.
3. ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ﴾، وفي حرف ابن مسعود: (ضربت عليهم المسكنة) وليس فيه الذلة، وفي حرف حفصة: (ضربت عليهم المسكنة والذلة)
4. اختلف في ﴿الذِّلَّةُ﴾ قيل: هي الجزية التي ضربت عليهم، وهي ذلة؛ كقوله: ﴿عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: 29]؛ لأنهم كانوا يأنفون عنها.
5. ﴿أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾ أي: وجدوا، ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾، يعني: بعهد من الله، وعهد من الناس يكون تحت قوم يؤدّون الجزية؛ وكذلك تأوّل ابن عباس: ﴿بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ أي: بعهد من الله، وعهد من الناس، وقال مقاتل: و(الناس) في هذا الموضع: النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصّة.
6. يحتمل قوله: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ بكفرهم فيما بين المسلمين، بعد ما كانوا أهل ذكر وشرف وعز فيما بينهم.
7. ﴿أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾ أي: لا يوجدون إلا بحبل من الله وحبل من الناس ـ بالإسلام، أي: لا يظفرون بهم ولا يوجدون؛ إلا أن يسلموا لخوفهم على أنفسهم.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وباؤوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ﴾:
أ. قيل: استوجبوا غضبا من الله بكفرهم.
ب. وقيل: رجعوا.
ج. وقيل: وجب عليهم الغضب.. وقد ذكرنا هذا في غير موضع
9. قوله تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: وهي الحاجة والفقر، وهو ما ذكرنا: أنهم ظاهروا المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مع قربهم برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبعدهم بالمشركين؛ فأذلهم الله تعالى بذلك، وجعلهم أهل حاجة وضعة فيما بين المسلمين، بعد ما كانوا أهل عزّ وشرف فيما بينهم؛ وهو كقوله: ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾
ب. وقد يحتمل رجوع الآية إلى خاص منهم، وهم الذين ذكر الله في قوله: ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ﴾ الآية، وغير ذلك مما يصير فيه المسلمون، يعرف حقيقة المراد من شهد النوازل، وعرف الأسباب التي لها جاءت البشارات.
ج. ويحتمل: أن الله تعالى جعل كل حاجاتهم إلى ما يفنى؛ وهي الدنيا التي لا بقاء لها ولا منفعة في الحقيقة، فهي حاجة، ثم بما فيهم بالجهل أن ذلك فيهم حاجة.
د. ويحتمل: أن الله مع ما وسع عليهم الدنيا ـ جعل في قلوبهم خوف الفقر، وأعظم الحاجات فهي المسكنة.
10. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ وآيات الله: ما ذكرنا في غير موضع.
11. قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: أن أوائلهم قد قتلوا الأنبياء [بغير حق]، وهؤلاء رضوا بذلك، وإن كانوا لم يتولوا هم بأنفسهم؛ فأضاف الله تعالى ذلك إليهم؛ لأنهم شاركوا في صنيعهم برضاهم؛ وهو كقوله: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32]
ب. ويحتمل: أن يكونوا قصدوا قتل.
ج. ويحتمل: أن يكونوا قتلوا أتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فأضاف إليه، وهو كما أضاف إليه مخادعتهم المؤمنين ـ إلى نفسه؛ وكما أضاف نصر أوليائه إليه، وإن كان الله لا يخادع ولا ينصر؛ فعلى ذلك إضافة القتل إليه؛ لقتلهم الأتباع، والله أعلم.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/457.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾: فالحبل هو الزمام والميثاق.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 262.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وجه اتصال هذه الآية بما قبلها اتصال البشارة بالغلبة بما تقدم من الامر بالمحاربة، لأنه قد تقدم الأمر بإنكار المنكر، فالفريضة اللازمة إذ لم تترك إلا بالمحاربة.
2. الأذى المذكور في الآية هو أن يسمعوا منهم كذباً على الله يدعونهم به إلى الضلالة في قول الحسن، وقتادة يقول أهل الحجاز آذيتني إذا أسمعته كلاماً يثقل عليه، وقال البلخي، والطبري الاستثناء منقطع هاهنا، لأن الأذى ليس من الضرر في شيء، وهذا ليس بصحيح، لأنه إذا أمكن حمله على الاستثناء الحقيقي لم يجز حمله على المنقطع، والمعنى في الآية لن يضروكم إلا ضرراً يسيراً، فالأذى وقع موقع المصدر الأول، وإذا كان الأذى ضرراً فالاستثناء متصل، والمنقطع لا يكون فيه الثاني مخصصاً للأول، كقولك ما في الدار أحد إلا حماراً، وكقولك ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر.
3. ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ جزم، لأنه شرط ﴿ويولوكم﴾ جزم لأنه جزاء، وقوله: ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ رفع على الاستئناف، ولم يعطف ليجري الثاني على مثال الأول، لأن سبب التولية القتال، وليس كذلك منع النصر، لأن سببه الكفر، والرفع أشكل برؤوس الآي المتقدمة، وهو مع ذلك عطف جملة على جملة.
4. في الآية دلالة على النبوة، لوقوع مخبرها على ما تضمنته قبل وقوع مخبرها، لأن يهود المدينة من بني قريظة وبني النضير، وبني قينقاع ويهود خيبر الذين حاربوه صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين ما قاتلوهم قط إلا ولوا الأدبار منهزمين.
5. ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ قال الحسن: المعني بهم: اليهود أذلهم الله عز وجل، فلا عز لهم ولا منعة، وأدركتهم هذه الأمة، وإن المجوس لتجبيهم الجزية.
6. ضربت: مأخوذ من الضرب، وإنما قيل ضربت، لأنها ثبتت عليهم كما ثبتت بالضرب كما أخذت منه الضريبة، لأنها تثبت على صاحبها كما تثبت الضرب.
7. ﴿أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾ أي أينما وجدوا، يقال: ثقفته أي وجدته، ولقيته.
8. سؤال وإشكال: كيف جاز عقابهم على ما لم يفعلوه من قتل الأنبياء، وإنما فعله أسلافهم دونهم؟ والجواب: عنه جوابان:
أ. أحدهما: أنهم عوقبوا على رضاهم بذلك، وأجرى عليهم صفة القتل لعظم الجرم في رضاهم به، فكأنهم، فعلوه على نحو ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ﴾ وإنما أمر به.
ب. الثاني: أن تكون الصفة تعم الجميع، فيدخلوا في الجملة ويجري عليهم الوصف على التغليب كما يغلب المذكر على المؤنث إذا اجتمعا، فكذلك غلب القاتل على الراضي.
9. ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ﴾ الحبل هو العهد من الله، وعهد من من الناس على وجه الذمة، وغيرها من وجوه الأمان في قول ابن عباس، والحسن ومجاهد، وقتادة، والسدي، والربيع، وسمي العهد حبلا، لأنه يعقد به الأمان كما يعقد بالحبل من حيث يلزم به الشيء كما يلزم بالحبل، وقال الأعشى:
çفإذا تجوزها حبال قبيلة...أخذت من الأخرى اليك حبالهاé
10. العامل في الباء من قوله: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل أن يكون العامل محذوفا والمعنى إلا أن تعتصموا بحبل من الله على قول الفراء وأنشد:
çرأتني بحبليها فصدت مخافة...وفي الحبل روعاء الفؤاد فروقé
أراد رأتني أقبلت بحبليها فحذف العامل في الباء، وقال آخر:
çقريب الخطو يحسب من رآني...ولست مقيداً أني بقيدé
ب. قال الرماني، علي بن عيسى ما ذكره الفراء ضعيف من وجهين:
• أحدهما: حذف الموصول وذلك لا يجوز عند البصريين في شيء من الكلام لأنه إذا احتاج إلى صلة تبين عنه فالحاجة إلى البيان عنه بذكره أشد، وإنما يجوز حذف الشيء للاستغناء بدلالة غيره عليه، فلو دل دليل عليه لحذف مع صلته، لأنه معها بمنزلة شيء واحد.
• والوجه الآخر أن الكلام إذا صح معناه من غير حذف لم يجز تأويله على الحذف.
11. في الاستثناء في قوله تعالى: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه منقطع، لأن الدلالة لازمة لهم على كل حال، فيجري مجرى قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ فعامل الاعراب موجود والمعنى على الانقطاع، ومثله ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا﴾، وكل انقطاع فيه فإنما هو لإزالة الإيهام الذي فيه يلحق الكلام فقوله: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا﴾ قد يتوهم أنه من حيث لا يسمعون فيها كلاماً، فقيل لذلك ﴿إِلَّا قِيلًا سَلَامًا﴾ وكذلك ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا﴾ قد يتوهم أنه لا يقتل مؤمن مؤمناً على وجه، فقيل لذلك ﴿إِلَّا خَطَأً﴾، وكذلك ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ قد يتوهم أنه من غير جواز موادعة، فقيل ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ﴾
ب. الثاني: أن الاستثناء متصل، لأن عز المسلمين عز لهم بالذمة، وهذا لا يخرجه من الذلة في أنفسهم.
12. ﴿وباؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ﴾ أي رجعوا بغضب الله الذي هو عقابه ولعنه.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾:
أ. قيل: أريد بالمسكنة الذلة لأن المسكين لا يكون إلا ذليلا فسمي الذليل مسكيناً.
ب. وقيل: لأن اليهود أبداً يتفاقرون وان كانوا أغنياء لما رماهم الله به من الذلة.
14. بينا فيما تقدم أن قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ لا يدل على أن قتلهم يكون بحق وإنما المراد أن قتلهم لا يكون إلا بغير حق، كما قال: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ والمراد ان ذلك لا يكون إلا بغير برهان وكقول امرئ القيس: (على لا حب لا يهتدى بمناره)، ومعناه لا منار هناك فيهتدى به.
﴿يَعْتَدُونَ﴾ بينا فيما تقدم معنى الاعتداء وهو أن معناه تجاوز الحد مأخوذ من العدوان.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/559.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الضَّرَرُ ضد النفع، أَضَرَّهُ يُضِرُّهُ إضرارًا.
ب. الأذى من قولهم: آذيت فلانًا أوذيه إيذاءً.
ج. الذل ضد العز، رجل ذليل: بَيِّنُ الذل، والذلة والمذلة، وهو الهوان.
د. ثقفوا من ثقفت فلانًا في الحرب أدركته، قال الشاعر:
çفَإِمَّا تَثْقَفُونِي فاقتلوني... فَإِنْ أَثْقَفْ فَسَوْفَ تَرَوْنَ بَالِيé
هـ. المسكنة: الفقر، وأصله من السكون كأن الفقر أسكنه.
و. الاعتداء: مجاوزة الحد في الظلم، والعدوان الظلم.
2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة: قيل:إن جماعة من اليهود وأشرافهم ككعب وأبي ياسر وأبي رافع، وكنانة وابن صوريا، عمدوا إلى مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم، فنزلت الآية فيهم، عن مقاتل.
3. لما تقدم أن أكثرهم كفرة فسقة أعقبه بما يسكن قلوب المؤمنين منهم، والأمن من كيدهم، فقال سبحانه: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ﴾ أي لا ينالكم أيها المؤمنون من جهة هَؤُلَاءِ اليهود وإن كثروا.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَذًى﴾:
أ. قيل: كلام باللسان طعنا ووعيدًا وشتمًا، عن أبي مسلم.
ب. وقيل: دعاء إلى الضلال وكذبًا على الله، عن الحسن وقتادة.
ج. وقيل: كلمة كفر تتأذون بسماعها.
5. ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ يحاربوكم ﴿يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ﴾ منهزمين فيولوكم الأدبار في الهزيمة ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ لكفرهم بِاللهِ.
6. ﴿ضُرِبَتْ﴾ أصله من الضرب، واختلفوا:
أ. قيل: أنزلت بهم وجعلت محيطًا بهم، عن أبي مسلم، وهو استعارة من ضرب القباب والخيام.
ب. وقيل: ألزموا فثبتت فيهم.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عَلَيْهِمْ﴾:
أ. قيل: هم اليهود وصاروا إلى الفقر والذلة بعد أن كان لهم منعة وغنى.. وهو الراجح.
ب. وقيل: هم جميع الكفار.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الذِّلَّةُ﴾:
أ. قيل: الهوان فلا يكونون في موضع إلا بالجزية، ولقد أدركهم الإسلام وهم يؤدون الجزية إلى المجوس.
ب. وقيل: الفقر وسوء الحال بأن سلبهم مالهم، وأورثكم أرضهم وديارهم.
ج. وقيل: الأسر والقتل ﴿أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾ وجدوا.
د. وقيل: أينما أخذوا ظفر بهم، عن أبي مسلم.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا جِبْلٍ مِنَ الله وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾:
أ. قيل: لكن من يعتصم منهم بحبل الله ﴿وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾، وهو العهد والأمان الذي بينهم بقبول الجزية، عن أبي مسلم وجماعة.
ب. وقيل: حبل الله الإسلام، وحبل الناس الموادعة على الجزية.
﴿مِنَ النَّاسِ﴾ قيل: محمد والمؤمنون ـ صلوات الله عليه وآله، ورضي عنهم ـ
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ الله﴾:
أ. قيل: رجعوا وقد استحقوا غضب الله عليهم.
ب. وقيل: نالهم من الله غضب عن أبي علي.
ج. وقيل: مكثوا فيه وحل بهم، عن أبي مسلم من قولهم: بوأته منزلاً.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾:
أ. قيل: الفقر، فلا يُرَى منهم أحد وإن كثر ماله، إلا وعليه أثر الفقر.
ب. وقيل: الخضوع والذلة عن أبي مسلم.
12. ﴿ذَلِكَ﴾ أي ذلك العقاب لهم ﴿بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾:
أ. قيل: يعني حججه وبيناته.
ب. وقيل: القرآن.
ج. وقيل: بما في كتبهم من البشارة بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ﴾:
أ. قيل: القتل وجد في أسلافهم، والخبر عنهم.
ب. وقيل: إنه أجرى تلك الصفة عليهم أيضًا لرضاهم به.
ج. وقيل: المراد به السلف والخلف، فعمهم بالوصف وأجرى الصفة على التغليب، كما يغلب المذكر على المؤنث حيث رضوا بما فعله أسلافهم وعدوهم سلفًا لهم، وصوبوهم، كما يقال لمن ذهب مذهبًا: أنتم فعلتم كذا، وإنما فعل ذلك أسلافهم.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾:
أ. قيل: بظلم.
ب. وقيل: بغير قود وسبب يوجب ذلك، عن الأصم.
15. ﴿ذَلِكَ﴾ العقاب ﴿بِمَا عَصَوْا﴾ أمر الله ﴿وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ يجاوزون الحد في المعصية والظلم.
16. تدل الآيات الكريمة على:
أ. بشارة المؤمنين بأن الغلبة تدوم لهم، وألا يكون لليهود راية ولا نصرة.
ب. أن اليهود يكونون أبدًا في الذلة والصغار بأداء الجزية كما نشاهدهم.
ج. أن عند العهد والأمان يجب الكف عن قتالهم، ولا خلاف في ذلك إذا أمنهم واحد من المسلمين فقد أمنوا.
د. أنهم وإن نجوا من القتل لم ينجوا من العقاب؛ لأن سبب العذاب الكفر، وذلك موجود منهم.
هـ. مسكنة وخضوع وذلة فيهم كما نشاهدهم.
و. معجزات نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث أخبر عن حالهم بجميع ذلك، فكان كما أخبر.
ز. أن هذا العقاب إنما هو لأجل كفرهم، فيبطل بذلك قول الْمُجْبِرَةِ: إن العقوبة ليست بجزاء.
ح. أن ذلك فعلهم؛ لذلك وَبَّخَهُمْ، فيبطل قولهم في المخلوق.
17. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿إِلَّا أَذًى﴾ محله نصب؛ لأنه استثناء، وهو استثناء متصل، وتقديره: لا يضرونكم إلا ضرر أذى بكلام ونحوه، وقيل: هو استثناء منقطع، كقوله: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾، قال علي بن عيسى: إذا صح معنى المتصل لا يجوز حمله على المنقطع ﴿يَضُرُّوكُمْ﴾ نصب؛ لأن ﴿لَنْ﴾ تنصب ما بعدها.
ب. العامل في الباء في قوله: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ﴾ قولان:
• قيل: العامل فيه ﴿ضُرِبَتْ﴾، وتقديره: ضربت عليهم الذلة بكل حال إلا بحبل من الله.
• الثاني: بمحذوف تقديره: إلا أن يعتصموا بحبل من الله، عن الفراء.
ج. الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ﴾ فيه قولان:
• قيل: إنه منقطع؛ لأن الذلة لازمة لهم على كل حال، كقولهم ﴿إِلَّا خَطَأً﴾، فعامل الإعراب موجود، والمعنى على الانقطاع.
• الثاني: أنه متصل؛ لأن عز المسلمين عز لهم بالذلة، وهذا لا يخرجهم من الذلة في أنفسهم.
د. سؤال وإشكال: لم حمل ﴿يُوَلُّوكُمُ﴾ على الجزم، و﴿يُنْصَرُونَ﴾ على الرفع، وهلا حمل على العطف؟ والجواب: لأن سبب التولية القتال، وليس كذلك منع النصر؛ لأن سببه الكفر، و﴿يُوَلُّوكُمُ﴾ جواب الجزاء؛ فلذلك جزم، و﴿يُنْصَرُونَ﴾، رفع على الابتداء، ولو جزم لجاز على العطف على قوله: ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ وقيل: إنما رفع ﴿لَا يُنْصَرُونَ﴾ لتشاكل رؤوس الآي المتصلة به في الذكر، وهو مع ذلك عطف جملة على جملة.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/346.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة: قال مقاتل: إن رؤوس اليهود مثل كعب وأبي رافع وأبي ياسر وكنانة وابن صوريا، عمدوا إلى مؤمنيهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، فأنبوهم لاسلامهم، فنزلت الآية.
2. ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ وعد الله المؤمنين أنهم منصورون، وأن أهل الكتاب لا يقدرون عليهم، ولا ينالهم من جهتهم إلا أذى من جهة القول، ثم اختلفوا في هذا القول:
أ. فقيل: هو كذبهم على الله وتحريفهم كتاب الله.
ب. وقيل: هو ما كانوا يسمعون المؤمنين من الكلام المؤذي.
3. ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ أي: وإن يجاوزوا عن الايذاء باللسان إلى القتال والمحاربة ﴿يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ﴾ منهزمين، ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ أي: ثم لا يعانون لكفرهم.
4. في هذه الآية دلالة على صحة نبوة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم لوقوع مخبره على وفق خبره، لان يهود المدينة من بني قريظة والنضير وبني قينقاع، ويهود خيبر، الذين حاربوا النبي والمسلمين، لم يثبتوا لهم قط، وانهزموا ولم ينالوا من المسلمين إلا بالسبب والطعن.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾:
أ. قيل: أي: أثبت عليهم الذلة، وأنزلت بهم، وجعلت محيطة بهم، وهو استعارة من ضرب القباب والخيام، عن أبي مسلم.
ب. وقيل: معناه ألزموا الذلة، فثبتت فيه من قولهم: ضرب فلان الضريبة على عبده أي: ألزمها إياه.
ج. قال الحسن: ضربت الذلة على اليهود، فلا يكون لها منعة أبدا.
د. وقيل: معناه فرضت عليهم الجزية والهوان، فلا يكونون في موضع إلا بالجزية، ولقد أدركهم الاسلام وهم يؤدون الجزية إلى المجوس.
6. ﴿أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾ أي وجدوا، ويقال: أخذوا وظفر بهم، ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ﴾ أي: بعهد من الله ﴿وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ أي: وعهد من الناس على وجه الذمة وغيرها من وجوه الأمان، عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة، وسمي العهد حبلا لأنه يعقد به الأمان، كما يعقد الشيء بالحبل.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ﴾:
أ. قيل: أي: رجعوا بغضب الله الذي هو عقابه ولعنه.
ب. وقيل: معناه استوجبوا غضبا من الله.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾:
أ. قيل: أي: الذلة لان المسكين لا يكون إلا ذليلا، فسمى الذلة مسكنة، عن أبي مسلم.
ب. وقيل: المراد به الفقر، لان اليهود أبدا يتفاقرون، وإن كانوا أغنياء.
9. ذكرنا تفسير ما بقي من الآية في سورة البقرة.
10. وجه اتصال الآية بما قبلها:
أ. قيل: اتصال البشارة بالظفر، لما تقدم أمر المحاربة، لان الامر قد تقدم بإنكار المنكر.
ب. وقيل: إنه لما تقدم أن أكثرهم الفاسقون، اتصل به ما يسكن قلوب المؤمنين من عاديتهم، ويؤمن مضرتهم.
11. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿إِلَّا أَذًى﴾: استثناء متصل، وقوله: ﴿أَذًى﴾ في تقدير النصب، ومعناه: لن يضروكم إلا ضررا يسيرا، فالأذى وقع موقع المصدر، وقيل: هو استثناء منقطع، لان الأذى ليس من الضرر، كقوله ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾، قال علي بن عيسى: هذا ليس بصحيح، لان الكلام إذا أمكن فيه الاستثناء الحقيقي، لم يجز حمله على المنقطع.
ب. ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾: شرط، و﴿يُوَلُّوكُمُ﴾ جزاء، وعلامة الجزم فيهما سقوط النون.
ج. ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾: رفع على الاستئناف، ولم يجزم على العطف، لان سبب التولية القتال، وليس كذلك منع النصر، لان سببه الكفر، ولان الرفع أشكل برؤوس الآي المتقدمة، وهو مع ذلك عطف جملة على جملة، والعامل في الباء من قوله ﴿بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ﴾
د. ﴿ضُرِبَتْ﴾: على معنى ضربت عليهم الذلة بكل حال، ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ﴾ وقال الفراء: العامل فيه محذوف وتقديره: إلا أن يعتصموا بحبل من الله وأنشد: رأتني بحبليها فصدت مخافة، وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق أراد: رأتني أقبلت بحبليها، فحذف الفاعل في الباء وقال آخر: قصير الخطو يحسب من رآني، ولست مقيدا أني بقيد أراد: إنني قيدت بقيد، قال علي بن عيسى: ما ذكره الفراء ضعيف من وجهين أحدهما: إن حذف الموصول عند البصريين لا يجوز، لأنه إذا احتاج إلى الصلة تبين عنه، فالحاجة إلى البيان عنه بذكره أشد، وإنما يجوز الشيء للاستغناء عنه، بدلالة غيره عليه، ولو دل عليه، لحذف مع صلته، لأنه معها بمنزلة شيء واحد، والوجه الاخر: إن الكلام إذا صح معناه من غير حذف، لم يجز تأويله على الحذف، وقيل في هذا الاستثناء إنه منقطع لان الذلة لازمة لهم على كل حال فجرى مجرى قوله وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، فعامل الاعراب موجود، والمعنى على الانقطاع، ومثله: ﴿لا يسمعون فهيا لغوا﴾ قد يوهم أنهم من حيث لا يسمعوا فيها لغوا، لا يسمعون كلاما، فقيل لذلك ﴿إِلَّا سَلَامًا﴾، وكذلك قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا﴾ قد يتوهم أنه لا يقتل مؤمن مؤمنا على وجه، فقيل لذلك إلا خطأ، وكذلك ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾: قد يتوهم أنه من غير جواز موادعة فقيل ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ﴾، وقيل: إن الاستثناء متصل، لان عز المسلمين عز لهم بالذمة، وهذا لا يخرجهم من الذلة في أنفسهم.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/813.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ قال مقاتل: سبب نزولها أن رؤساء اليهود عمدوا إلى عبد الله بن سلّام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم، فنزلت هذه الآية.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَذًى﴾:
أ. قال ابن عباس: الأذى قولهم: (عزير ابن الله) و(المسيح ابن الله) و(ثالث ثلاثة)
ب. قال الحسن: هو الكذب على الله، ودعاؤهم المسلمين إلى الضلالة.
ج. قال الزجاج: هو البهت والتحريف.
3. مقصود الآية إعلام المسلمين بأنّه لن ينالهم منهم إلا الأذى باللسان من دعائهم إيّاهم إلى الضّلال، وإسماعهم الكفر، ثم وعدهم النّصر عليهم في قوله: ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ﴾، وكذلك كان.
4. ﴿أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾ معناه: أدركوا ووجدوا، وذلك أنهم أين نزلوا احتاجوا إلى عهد من أهل المكان، وأداء جزية، قال الحسن: أدركتهم هذه الأمة، وإنّ المجوس لتجبيهم الجزية، وأمّا الحبل: فقال ابن عباس، وعطاء، والضّحّاك، وقتادة، والسّدّيّ، وابن زيد: الحبل: العهد، قال بعضهم: ومعنى الكلام: إلا بعهد يأخذونه من المؤمنين بإذن الله، قال الزجّاج: وما بعد الاستثناء في قوله تعالى: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ﴾ ليس من الأوّل، وإنما المعنى: أنهم أذلّاء، إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه، وقد سبق في (البقرة) تفسير باقي الآية.
__________
(1) زاد المسير: 1/316.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما رغب الله تعالى المؤمنين في التصلب في إيمانهم وترك الالتفات إلى أقوال الكفار وأفعالهم بقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ رغبهم فيه من وجه آخر، وهو أنهم لا قدرة لهم على الإضرار بالمسلمين إلا بالقليل من القول الذي لا عبرة به، ولو أنهم قاتلوا المسلمين صاروا منهزمين مخذولين، وإذا كان كذلك لم يجب الالتفات إلى أقوالهم وأفعالهم، وكل ذلك تقرير لما تقدم من قوله: ﴿إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [آل عمران: 100] فهذا وجه النظم.
2. ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ معناه: أنه ليس على المسلمين من كفار أهل الكتاب ضرر وإنما منتهى أمرهم أن يؤذوكم باللسان، إما بالطعن في محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وإنما بإظهار كلمة الكفر، كقولهم ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ﴾ [التوبة: 30] و﴿الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ﴾ [التوبة: 30] و﴿اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ [المائدة: 73] وإما بتحريف نصوص التوراة والإنجيل، وإما بإلقاء الشبه في الأسماع، وإما بتخويف الضعفة من المسلمين.
3. من الناس من قال إن قوله: ﴿إِلَّا أَذًى﴾ استثناء منقطع وهو بعيد، لأن كل الوجوه المذكورة يوجب وقوع الغم في قلوب المسلمين والغم ضرر، فالتقدير لا يضروكم إلا الضرر الذي هو الأذى، فهو استثناء صحيح، والمعنى لن يضروكم إلا ضررًا يسيراً، والأذى وقع موقع الضرر، والأذى مصدر أذيت الشيء أذى.
4. ثم قال تعالى: ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ وهو إخبار بأنهم لو قاتلوا المسلمين لصاروا منهزمين مخذولين ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ أي إنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة ولا قوة ألبتة، ومثله قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [الحشر: 12]، وقوله: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ﴾ [آل عمران: 12]، وقوله: ﴿نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر: 44، 45] وكل ذلك وعد بالفتح والنصرة والظفر.
5. هذه الآية اشتملت على الإخبار عن غيوب كثيرة:
أ. منها أن المؤمنين آمنون من ضررهم.
ب. ومنها أنهم لو قاتلوا المؤمنين لانهزموا.
ج. ومنها أنه لا يحصل لهم قوة وشوكة بعد الانهزام.
وكل هذه الأخبار وقعت كما أخبر الله عنها، فإن اليهود لم يقاتلوا إلا انهزموا، وما أقدموا على محاربة وطلب رئاسة إلا خذلوا، وكل ذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزاً.
6. سؤال وإشكال: هب أن اليهود كذلك، لكن النصارى ليسوا كذلك فهذا يقدح في صحة هذه الآيات، والجواب: هذه الآيات مخصوصة باليهود، وأسباب النزول على ذلك فزال هذا الإشكال.
7. سؤال وإشكال: هلا جزم قوله: ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾، والجواب: عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الأخبار ابتداء كأنه قيل أخبركم أنهم لا ينصرون، والفائدة فيه أنه لو جزم لكان نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم كتولية الأدبار، وحين رفع كان نفي النصر وعداً مطلقاً كأنه قال ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم لا يجدون النصرة بعد ذلك قط بل يبقون في الذلة والمهانة أبداً دائماً.
8. سؤال وإشكال: ما الذي عطف عليه قوله: ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾؟ والجواب: هو جملة الشرط والجزاء، كأنه قيل: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون، وإنما ذكر لفظ (ثم) لإفادة معنى التراخي في المرتبة، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الاخبار بتوليتهم الأدبار.
ثم لما بيّن الله تعالى أنهم إن قاتلوا رجعوا مخذولين غير منصورين ذكر أنهم مع ذلك قد ضربت عليهم الذلة، فقال: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾، وقد ذكرنا تفسير هذه اللفظة في سورة البقرة، والمعنى جعلت الذلة ملصقة ربهم كالشيء يضرب على الشيء فيلصق به، ومنه قولهم: ما هذا علي بضربة لازب، ومنه تسمية الخراج ضريبة، والذلة هي الذل، وفي المراد بهذا الذل أقوال:
أ. الأول: وهو الأقوى أن المراد أن يحاربوا ويقتلوا وتغنم أموالهم وتسبى ذراريهم وتملك أراضيهم فهو كقوله تعالى: ﴿اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ [البقرة: 191]، ثم قال تعالى: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ﴾ والمراد إلا بعهد من الله وعصمة وذمام من الله ومن المؤمنين لأن عند ذلك تزول الأحكام، فلا قتل ولا غنيمة ولا سبي.
ب. الثاني: أن هذه الذلة هي الجزية، وذلك لأن ضرب الجزية عليهم يوجب الذلة والصغار.
ج. الثالث: أن المراد من هذه الذلة أنك لا ترى فيهم ملكاً قاهراً ولا رئيساً معتبراً، بل هم مستخفون في جميع البلاد ذليلون مهينون.
9. لا يمكن أن يقال المراد من الذلة هي الجزية فقط أو هذه المهانة فقط لأن قول ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ﴾ يقتضي زوال تلك الذلة عند حصول هذا الحبل والجزية والصغار والدناءة لا يزول شيء منها عند حصول هذا الحبل، فامتنع حمل الذلة على الجزية فقط، وبعض من نصر هذا القول، أجاب عن هذا السؤال بأن قال إن هذا الاستثناء منقطع، وهو قول محمد بن جرير الطبري، فقال: اليهود قد ضربت عليهم الذلة، سواء كانوا على عهد من الله أو لم يكونوا فلا يخرجون بهذا الاستثناء من الذلة إلى العزة، فقوله: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ﴾ تقديره لكن قد يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس، وهذا ضعيف لأن حمل لفظ (إلا) على (لكن) خلاف الظاهر، وأيضاً إذا حملنا الكلام على أن المراد: لكن قد يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس لم يتم هذا القدر فلا بد من إضمار الشيء الذي يعتصمون بهذه الأشياء لأجل الحذر عنه والإضمار خلاف الأصل، فلا يصار إلى هذه الأشياء إلا عند الضرورة فإذا كان لا ضرورة هاهنا إلى ذلك كان المصير إليه غير جائز، بل هاهنا وجه آخر وهو أن يحمل الذلة على كل هذه الأشياء أعني: القتل، والأسر، وسبي الذراري، وأخذ المال، وإلحاق الصغار، والمهانة، ويكون فائدة الاستثناء هو أنه لا يبقى مجموع هذه الأحكام، وذلك لا ينافي بقاء بعض هذه الأحكام، وهو أخذ القليل من أموالهم الذي هو مسمى بالجزية، وبقاء المهانة والحقارة والصغار فيهم، فهذا هو القول في هذا الموضع.
10. ﴿أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾ أي وجدوا وصودفوا، يقال: ثقفت فلاناً في الحرب أي أدركته، وقد مضى الكلام فيه عند قوله: ﴿حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ [البقرة: 191]
11. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ﴾ وجوه:
أ. الأول: قال الفرّاء: التقدير إلا أن يعتصموا بحبل من الله، وأنشد على ذلك:
çرأتني بحبلها فصدت مخافة...وفي الحبل روعاء الفؤاد فروقé
واعترضوا عليه، فقالوا: لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته، لأن الموصول هو الأصل والصلة فرع فيجوز حذف الفرع لدلالة الأصل عليه، أما حذف الأصل وإبقاء الفرع فهو غير جائز.
ب. الثاني: أن هذا الاستثناء واقع على طريق المعنى، لأن معنى ضرب الذلة لزومها إياهم على أشد الوجوه بحيث لا تفارقهم ولا تنفك عنهم، فكأنه قيل: لا تنفك عنهم الذلة، ولن يتخلصوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس.
ج. الثالث: أن تكون الباء بمعنى (مع) كقولهم: اخرج بنا نفعل كذا، أي معنا، والتقدير: إلا مع حبل من الله.
12. المراد من حبل الله عهده، وقد ذكرنا فيما تقدم أن العهد إنما سمي بالحبل لأن الإنسان لما كان قبل العهد خائفاً، صار ذلك الخوف مانعاً له من الوصول إلى مطلوبه، فإذا حصل العهد توصل بذلك العهد إلى الوصول إلى مطلوبه، فصار ذلك شبيهاً بالحبل الذي من تمسك به تخلص من خوف الضرر.
13. سؤال وإشكال: إنه عطف على حبل الله حبلًا من الناس وذلك يقتضي المغايرة فكيف هذه المغايرة؟ والجواب:
أ. قال بعضهم: حبل الله هو الإسلام، وحبل الناس هو العهد والذمة، وهذا بعيد لأنه لو كان المراد ذلك لقال: أو حبل من الناس.
ب. وقال آخرون: المراد بكلام الحبلين العهد والذمة والأمان، وإنما ذكر تعالى الحبلين لأن الأمان المأخوذ من المؤمنين هو الأمان المأخوذ بإذن الله وهذا عندي أيضا ضعيف.
ج. والذي عندي فيه أن الأمان الحاصل للذمي قسمان:
• أحدهما: الذي نص الله عليه وهو أخد الجزية.
• الثاني: الذي فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه تارة وينقص بحسب الاجتهاد فالأول: هو المسمى بحبل الله، الثاني: هو المسمى بحبل المؤمنين والله أعلم.
14. ﴿وباؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ﴾ ذكرنا أن معناه: أنهم مكثوا، ولبثوا وداموا في غضب الله، وأصل ذلك مأخوذ من البوء وهو المكان، ومنه: تبوأ فلان منزل كذا وبوأته إياه، والمعنى أنهم مكثوا في غضب من الله وحلوا فيه، وسواء قولك: حل بهم الغضب وحلوا به.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾:
أ. الأكثرون حملوا المسكنة على الجزية وهو قول الحسن قال: وذلك لأنه تعالى أخرج المسكنة عن الاستثناء وذلك يدل على أنها باقية عليهم غير زائلة عنهم، والباقي عليهم ليس إلا الجزية.
ب. وقال آخرون: المراد بالمسكنة أن اليهودي يظهر من نفسه الفقر وإن كان غنياً موسراً.
ج. وقال بعضهم: هذا إخبار من الله سبحانه بأنه جعل اليهود أرزاقاً للمسلمين فيصيرون مساكين.
16. ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأنواع من الوعيد قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ والمعنى: أنه تعالى ألصق باليهود ثلاثة أنواع من المكروهات:
أ. أولها: جعل الذلة لازمة لهم.
ب. ثانيها: جعل غضب الله لازماً لهم.
ج. ثالثها: جعل المسكنة لازمة لهم، ثم بيّن في هذه الآية أن العلة لإلصاق هذه الأشياء المكروهة بهم هي: أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق.
17. سؤال وإشكال: هذه الذلة والمسكنة إنما التصقت باليهود بعد ظهور دولة الإسلام، والذين قتلوا الأنبياء بغير حق هم الذين كانوا قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بأدوار وأعصار، فعلى هذا الموضع الذي حصلت فيه العلة وهو قتل الأنبياء لم يحصل فيه المعلول الذي هو الذلة والمسكنة، والموضع الذي حصل فيه هذا المعلول لم تحصل فيه العلة، فكان الإشكال لازماً، والجواب: أن هؤلاء المتأخرين وإن كان لم يصدر عنهم قتل الأنبياء عليهم السلام لكنهم كانوا راضين بذلك، فإن أسلافهم هم الذين قتلوا الأنبياء وهؤلاء المتأخرون كانوا راضين بفعل أسلافهم، فنسب ذلك الفعل إليهم من حيث كان ذلك الفعل القبيح فعلًا لآبائهم وأسلافهم مع أنهم كانوا مصوبين لأسلافهم في تلك الأفعال.
18. سؤال وإشكال: لم كرر قوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا﴾ وما الحكمة فيه ولا يجوز أن يقال التكرير للتأكيد، لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقوى من المؤكد، والعصيان أقل حالًا من الكفر فلم يجز تأكيد الكفر بالعصيان؟ والجواب: من وجهين.
أ. الأول: أن علة الذلة والغضب والمسكنة هي الكفر وقتل الأنبياء، وعلة الكفر وقتل الأنبياء هي المعصية، وذلك لأنهم لما توغلوا في المعاصي والذنوب فكانت ظلمات المعاصي تتزايد حالًا فحالًا، ونور الإيمان يضعف حالًا فحالًا، ولم يزل كذلك إلى أن بطل نور الإيمان وحصلت ظلمة الكفر، وإليه الإشارة بقوله: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14] فقوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا﴾ إشارة إلى علة العلة ولهذا المعنى قال أرباب المعاملات: من ابتلي بترك الآداب وقع في ترك السنن، ومن ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفريضة، ومن ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشريعة، ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر.
ب. الثاني: يحتمل أن يريد بقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ من تقدم منهم، ويريد بقوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا﴾ من حضر منهم في زمان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلى هذا لا يلزم التكرار، فكأنه تعالى بيّن علة عقوبة من تقدم، ثم بيّن أن من تأخر لما تبع من تقدم كان لأجل معصيته وعداوته مستوجباً لمثل عقوبتهم حتى يظهر للخلق أن ما أنزله الله بالفريقين من البلاء والمحنة ليس إلا من باب العدل والحكمة.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/328.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾:
أ. قيل: يعني كذبهم وتحريفهم وبهتهم، لا أنه تكون لهم الغلبة، عن الحسن وقتادة، فالاستثناء متصل، والمعنى لن يضروكم إلا ضرا يسيرا، فوقع الأذى موقع المصدر، فالآية وعد من الله لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين، أن أهل الكتاب لا يغلبونهم وأنهم منصورون عليهم لا ينالهم منهم اصطلام إلا إيذاء بالبهت والتحريف، وأما العاقبة فتكون للمؤمنين.
ب. وقيل: هو منقطع، والمعنى لن يضروكم ألبتة، لكن يؤذونكم بما يسمعونكم، قال مقاتل: إن رؤوس اليهود: كعب وعدي والنعمان وأبو رافع وأبو ياسر وكنانة وابن صوريا عمدوا إلى مؤمنيهم: عبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم، فأنزل الله تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ يعني باللسان، وتم الكلام، ثم قال: ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ﴾ يعني منهزمين، وتم الكلام،﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ مستأنف، فلذلك ثبتت فيه النون، وفي هذه الآية معجزة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأن من قاتله من اليهود ولاه دبره.
2. ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ يعنى اليهود، ﴿أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾ أي وجدوا ولقوا، وتم الكلام، وقد مضى في البقرة معنى ضرب الذلة عليهم.
3. ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ﴾ استثناء منقطع ليس من الأول، أي لكنهم يعتصمون بحبل من الله، ﴿وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ يعني الذمة التي لهم، والناس: محمد والمؤمنون يؤدون إليهم الخراج فيؤمنونهم، وفي الكلام اختصار، والمعنى: إلا أن يعتصموا بحبل من الله، فحذف، قاله الفراء.
4. ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ﴾ أي رجعوا، وقيل احتملوا، وأصله في اللغة أنه لزمهم، وقد مضى في البقرة، ثم أخبر لم فعل ذلك بهم، فقال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ وقد مضى في البقرة مستوفى.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/174.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ أي: لن يضروكم بنوع من أنواع الضرر إلا بنوع الأذى، وهو الكذب، والتحريف، والبهت، لا يقدرون على الضرر الذي هو الضرر في الحقيقة بالحرب والنهب ونحوهما، فالاستثناء مفرغ، وهذا وعد من الله لرسوله وللمؤمنين أن أهل الكتاب لا يغلبونهم وأنهم منصورون عليهم؛ وقيل: الاستثناء منقطع، والمعنى: لن يضروكم ألبتة، لكن يؤذونكم.
2. ثم بين سبحانه ما نفاه من الضرر بقوله: ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ﴾ أي: ينهزمون ولا يقدرون على مقاومتكم فضلا عن أن يضروكم.
3. ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ عطف على الجملة الشرطية، أي: ثم لا يوجد لهم نصر ولا يثبت لهم غلب في حال من الأحوال، بل شأنهم الخذلان ما داموا، وقد وجدنا ما وعدنا سبحانه حقا، فإن اليهود لم تخفق لهم راية نصر، ولا اجتمع لهم جيش غلب بعد نزول هذه الآية، فهي من معجزات النبوة.
4. ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ قد تقدم في البقرة معنى هذا التركيب، والمعنى: صارت الذلة محيطة بهم في كل حال، وعلى كل تقدير ﴿أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾ في أي مكان وجدوا.
5. ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ﴾ أي: إلا أن يعتصموا بحبل من الله، قاله الفراء: أي: بذمة الله أو بكتابه ﴿وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ أي: بذمة من الناس، وهم المسلمون؛ وقيل: المراد بالناس: النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
6. ﴿وباؤوا﴾ أي: رجعوا ﴿بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ﴾ وقيل: احتملوا، وأصل معناه في اللغة: اللزوم والاستحقاق، أي: لزمهم غضب من الله هم مستحقون له، ومعنى ضرب المسكنة: إحاطتها بهم من جميع الجوانب، وهكذا حال اليهود، فإنهم تحت الفقر المدقع، والمسكنة الشديدة إلا النادر الشاذ منهم، والإشارة بقوله: ذلك، إلى ما تقدم من ضرب الذلة والمسكنة والغضب، أي: وقع عليهم ذلك بسبب أنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون الأنبياء بغير حق، والإشارة بقوله: ذلك، إلى الكفر وقتل الأنبياء، بسبب عصيانهم لله واعتدائهم لحدوده، ومعنى الآية: أن الله ضرب عليهم الذلة والمسكنة والبواء بالغضب منه لكونهم كفروا بآياته، وقتلوا أنبياءه، بسبب عصيانهم واعتدائهم.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/427.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَّضُرُّوكُمُ إِلَّآ أَذًى﴾ الأذى الضرُّ اليسير، لن يضرُّوكم أيُّها المسلمون إِلَّا مضرَّة أذى، بطعن فيكم وفي بعض الأنبياء، والتثليث والبنوَّة لعيسى وعزير والتحريف والتخويف، وسبِّ من أسلم منهم، كما جعله رؤساؤهم ككعب وأبي رافع وأبي ياسر وكنانة وابن صوريا لعنهم الله تعالى ، أمَّا مضرَّةُ قتلٍ وسبيٍ وغَنْمٍ وضرب ونحو ذلك فلا، إِلَّا شاذًّا، أو الاستثناء منقطع.
2. ﴿وَإِنْ يُّقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الَادْبَارَ﴾ يصيِّروكم تالين أقفيَتِهم وظهورهم ومقاعدهم وبواطن سوقهم، لفرارهم قدَّامكم، ﴿ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ﴾ بدفع بأسكم عنهم، أو تغليبهم عليكم، بل يبقون على الذُّلِّ والهوان، فالترتيب زمانيٌّ باعتباره بين المعطوف عليه وآخر أجزاء المعطوف، ويجوز أَن يكون ترتيب إخبار، وأن يكون ترتيب رتبة، أي: وأعظم من ذلك بقاؤهم على الذُّل أبدًا فلا ينشئون قتالا، وإن أنشَؤوه كانت الدائرة عليهم ثمَّ يكونوا لا يمكن لهم إنشاؤه، لاستحكام الذُّل عليهم، وهكذا حال قريظة والنضير وبني قَينُقاع وخيبر وغيرهم حاربوا المسلمين ولم يثبتوا، ولم يقاتلوا شيئًا، والعطف على جملة الشرط والجزاء لا على الجزاء، بدليل ثبوت النون، وذلك إخبارٌ بالغيب على طبق الواقع، كما قال الله جلَّ وعلا:
3. ﴿ضُرِبَتْ﴾ أُلزمت كقُبَّة بناء محكمة، ﴿عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ ضعف القلب، فلا يقدرون على نصر أنفسهم، فهم يُقتلون، ويوسرون، وتغنم أموالهم، وتسبى ذراريهم، وتؤخذ أرضهم وغيرها، وتؤخذ عنهم الجزية دون ذلك إن أذعنوا لها، ولا ملك معتبر ولا رئيس معتبر لكفرهم وتمسُّكهم بالدين المنسوخ، وببدعهم، شبَّهَ خزيهم بقُبَّة لجامع الإحاطة ورمز إليها بلازمها وهو الضرب، وهو تخييل فذلك استعارة مكنيَّة، أو شبَّه الإحاطة بالضرب على الاستعارة الأصليَّة واشتقَّ منه على التبعيَّة (ضُرِبَ)
4. ﴿أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ﴾ وُجدوا، ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللهِ﴾ أي: في جميع الأحوال، إِلَّا حال تلبُّسهم بعهد الله، وهو أيضًا حبل من الناس كما قال: ﴿وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ﴾ وهما حبل واحد كان من الله بخلقه ومن الناس بجريه على أيديهم، وذلك أَن يقضي الله أن يكونوا تحت إمام أو رئيس مسلم بالجزية، أو بحسب ما يظهر له مِمَّا هو صلاح للإسلام، أو تحت كافر يردُّ عنهم الظلم، أو حبل الله: الجزية، وحبل الناس: ما يرضون به منهم، أو حبل الله: الإسلام، وحبل الناس: العهد والذمَّة إن لم يُسلموا، ولم يقل: (أو حبلٍ) لأنَّ المراد أنَّه يكون النوعان تارة هذا وتارة ذاك، وأغنى عن جواب (أَيْنَ) ما قبلها، ولا تقل: محذوف دلَّ عليه ما قبله إذ لا دليل على أَنَّ المراد ضربت عليهم الذلَّة أينما ثقفوا ضربت عليهم الذلَّة بالتكرير، وأنَّه حذف الثاني للأوَّل.
5. ﴿وَبَآءُواْ﴾ رجعوا، وهو كناية عن استحقاقهم بما ذكر بعده من الغضب كما قال: ﴿بِغَضَبٍ﴾ إرادة الانتقام أو نفس الانتقام، ﴿مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾ مثل ضربت عليهم الذلَّة، ألزموا صورتها كلَّهم، أغنياءهم وفقراءهم، لئلَّا يطالبوا بمال، أو ليطلبوا بقليل لا كثير، أو المراد أنَّه يكون أكثرهم فقراء ومساكين، ﴿ذَالِكَ﴾ ما ذكر من ضرب الذلَّة والمسكنة والبوء بغضب، ﴿بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِئَايَاتِ اللهِ﴾ يكفرون ببعض التوراة وبالإنجيل والقرآن، ﴿وَيَقْتُلُونَ الَانبِئَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ تأكيد؛ لأنَّ قتل الأنبياء لا يكون إِلَّا بغير حقٍّ في علمهم أيضًا، وإذا ذمَّت اليهود مثلا بما لم يفعلوا فلرضاهم بفعل أوائلهم، ولأنَّهم لو وَجَدوا لفعلوا، ألا تراهم تعاطوا قتل النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالصخرة وبالسمِّ وغير ذلك؟، أو ذمَّ ذلك الجنس العاصي بأنَّ فيهم فعل كذا وفعل كذا، ولو تفرَّقت تلك الأفعال فيهم، ولا يدخل مسلمهم في الذمِّ.
6. ﴿ذَالِكَ﴾ أي: ما ذكر من قتلهم الأنبياء بغير حقٍّ وكفرهم بآيات الله، أو ضرب الذلَّة والمسكنة والبوء بالغضب، فيكون علَّلهنَّ بالكفر والقتل وبالعصيان والاعتداء، والأوَّل أولى.
7. ﴿بِمَا عَصَوْاْ﴾ أي: عصوا الله، والصغيرة تجرُّ إلى الكبيرة، والكبيرة إلى الشرك، يضعف بالصغيرة فيفسق، فيزيد ضعفا بالفسق فيشرك، ومثل ذلك أَن يترك السنَّة فيؤدِّيه إلى ترك الفرض، فيؤدِّيه تركه إلى احتقار الشريعة فيشرك.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/351.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما كانت مخالفة الأكثر قاصمة، خفف سبحانه عن أوليائه بقوله: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ أي بألسنتهم لا يبالي به من طعن وتهديد ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ أي يوما من الأيام ﴿يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ﴾ يعني منهزمين مخذولين.
2. ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ يعني لا يكون لهم النصر عليكم، بل تنصرون عليهم، وقد صدق الله ومن أصدق من الله قيلا؟ لم يقاتلوا في موطن إلا كانوا كذلك، قال ابن كثير: فإنهم يوم خيبر أذلهم الله، وأرغم أنوفهم، وكذلك من قبلهم من يهود المدينة: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، كلهم أذلهم الله، وكذلك النصارى بالشام كسرهم الصحابة في غير ما موطن وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين، ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم، وهم كذلك، ويحكم بملة الإسلام، وشرع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام.
3. سؤال وإشكال: هلا جزم المعطوف في قوله: ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾؟ والجواب: قال الزمخشريّ: عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء، كأنه قيل ثم أخبركم أنهم لا ينصرون.
4. سؤال وإشكال: أي فرق بين رفعه وجزمه في المعنى؟ والجواب: لو جزم لكان نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم كتولية الأدبار، وحين رفع كان نفي النصر وعدا مطلقا كأنه قال ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوة لا ينهضون بعدها بجناح، ولا يستقيم لهم أمر، وكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر.
5. سؤال وإشكال: ما الذي عطف عليه هذا الخبر؟ والجواب: جملة الشرط والجزاء، كأنه قيل: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون.
6. سؤال وإشكال: ما معنى التراخي في (ثم)؟ والجواب: التراخي في المرتبة، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار، قال الناصر بن المنير: وهذا من الترقي في الوعد عما هو أدنى إلى ما هو أعلى، لأنهم وعدوا بتولية عدوهم الأدبار عند المقابلة، ثم ترقى الوعد إلى ما هو أتم في النجاح من أن هؤلاء لا ينصرون مطلقا، ويزيد هذا الترقي بدخول (ثم) دون (الواو)، فإنها تستعار هاهنا للتراخي في الرتبة لا في الوجود، كأنه قال ثم هاهنا ما هو أعلى في الامتنان، وأسمح في رتب الإحسان، وهو أن هؤلاء قوم لا ينصرون البتة.
7. ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ أي أحيط بهم الهوان والصغار كما يحيط البيت المضروب بساكنه أينما وجدوا.
8. ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ﴾، في محل النصب على الحال، بتقدير: إلا معتصمين أو متمسكين أو ملتبسين بحبل من الله، وهو استثناء من أعمّ عام الأحوال، والمعنى ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال، إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس، يعني ذمة الله وذمة المسلمين، أي لا عزّ لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجائوهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية ـ كذا في الكشاف ـ
9. ﴿وباؤوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ﴾ أي استوجبوه ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾ أي الفقر ليكونوا بهذه الأوصاف أعرق شيء في الذل.
10. ﴿ذَلِكَ﴾ أي ضربت المسكنة والذلة والغضب ﴿بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ أي استكبارا وعتوّا ﴿وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ﴾ أي الآتين من عند الله حقا، ولما كانوا معصومين دينا ودنيا قال: ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أي يبيح القتل ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ أي ضرب الذلة والمسكنة في الدنيا واستيجاب الغضب في الآخرة، كما هو معلل بكفرهم وقتلهم الأنبياء، فهو مسبب عن عصيانهم واعتدائهم حدود الله تعالى، وقيل: ذلك إشارة إلى علة العلة، وهو الكفر والقتل، أي حصلا منهم بسبب عصيانهم واعتدائهم، فإن الإقدام على المعاصي، والاستهانة بمجاوزة الحدود يهوّن الكفر، قال الأصفهانيّ: قال أرباب المعاملات: من ابتلي بترك الآداب، وقع في ترك السنن، ومن ابتلي بترك السنن، وقع في ترك الفرائض، ومن ابتلي بترك الفرائض، وقع في استحقار الشريعة، ومن ابتلي بذلك، وقع في الكفر، قال برهان الدين البقاعيّ: والآية دليل على مؤاخذة الابن الراضي بذنب الأب وإن علا، وذلك طبق ما رأيته في ترجمة التوراة التي بين أيديهم، لأنه قال في السفر الثاني: وقال الله جميع هذه الآيات كلها أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق لا يكون لك آلهة لا تعملن شيئا من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق وفي الأرض من تحت ومما في الماء أسفل الأرض لا تسجدن لها ولا تعبدنها لأني أنا الرب إلهك غيور آخذ الأبناء بذنوب الآباء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة خلوف وأثبت النعمة إلى ألف حقب لأحباري وحافظي وصاياي.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/387.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم قال تعالى في أولئك الفاسقين من أهل الكتاب: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ أي إنهم لا يقدرون على إيقاع الضرر بكم ولكن يؤذونكم بنحو الكلام القبيح كالخوض في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو إلا ضررا خفيفا ليس له كبير تأثير.
2. ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ﴾ تولية الأدبار كناية عن الانهزام لأن المنهزم يحول ظهره إلى جهة مقاتله ويستدبره في هربه منه، فيكون دبره أي قفاه إلى جهة وجه من انهزم هو منه.
﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ عليكم بعد ذلك، أو ثم إنهم لا ينصرون عليكم قط ماداموا على فسقهم ودمتم على خيريتكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، وعلى هذا تكون الجملة إخبارية مستقلة لا تدخل في جواب الشرط ولذلك وردت بنون الرفع.
3. في هذه الآية ثلاث بشارات من الأخبار بالغيب وكلها تحققت وصدق الله وعده.
4. أورد الرازي على الوعد بأنهم لا ينصرون أنه يصدق في اليهود دون النصارى، أي إن اليهود هم الذين لم ينصروا على المسلمين بعد ما كان من انكسارهم في الحجاز، وأما النصارى فقد كانت الحرب بينهم وبين المسلمين بعد الصدر الأول سجالا ثم صاروا هم المنصورين، وأجاب الرازي عن ذلك بأن الآية خاصة باليهود نعم وما قلناه يصلح جوابا مطلقا، ويؤيده تقييده تعالى نصر المؤمنين بنصرهم إياه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7] وبالقيام بما أمر به ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما ورد في سورة الحج وذكرناه في تفسير الآية السابقة، ومثله وصف المؤمنين المجاهدين في سورة التوبة بقوله: ﴿الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 112] وقد شرحنا هذا المعنى غير مرة.
5. ثم قال جل شأنه: ﴿ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس﴾ ثقفوا وجدوا والذلة بكسر الذال ضرب مخصوص من الذل، لأنها من الصيغ التي تدل على الهيئة، قيل: المراد بها هنا الجزية، وقيل: ما يحدثه في النفس فقد السلطة وهذا هو الصحيح، وقد فرق الراغب بين الذل بضم الذال والذل بكسره فقال في الأول: إنه ما كان عن قهر، وفي الثاني: ما كان بعد تصعب وشماس، ومنه تذليل الدواب، وضرب الذلة عليهم أي اليهود عبارة عن إلصاقها بهم وظهور أثرها فيهم كما يكون من ضرب السكة بما ينقش فيها أو عن إحاطتها بهم كإحاطة الخيمة المضروبة بمن فيها، وتقدم بيان ذلك كله لمحمد عبده في تفسير: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ [البقرة: 61] الآية فليراجع، فإن ما هنا لا يغني عنه.
6. الحبل يطلق على العهد لأن الناس يرتبطون بالعهود كما يقع الارتباط الحسي بالحبال، وذلك قول أبي الهيثم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين أتته الأنصار في العقبة: (أيها الرجل إنا قاطعون فيك حبالا بيننا وبين الناس)، ويسمى السبب في اللغة حبلا والحبل سببا، قيل: إن المعنى (إلا بعهد) أو سبب يأمنون به في بلاد الإسلام كما قال ابن جرير، وقيل: السبب من الله الإسلام، والسبب من الناس العهد أو التأمين، واختار الرازي أن الحبل من الله هو الجزية أي الذمة التي تحصل بقبولهم دفع الجزية والحبل من الناس هو ما فوض إلى ما رأى الإمام فيزيد فيه تارة وينقص بحسب الاجتهاد.. وقال محمد عبده: أي أن حالهم معكم أن يكونوا أذلاء مهضومي الحقوق رغم أنوفهم إلا بحبل من الله وهو ما قررته شريعته لهم إذ دخلوا في حكمكم من المساواة في الحقوق والقضاء وتحريم إيذائهم وهضم شيء من حقوقهم، وحبل من الناس وهو ما تقتضيه المشاركة في المعيشة من احتياجكم إليهم واحتياجهم إليكم في بعض الأمور، أي فهذا القدر المستثنى من عموم الذلة لم يأتهم من أنفسهم وإنما جاءهم من غيرهم، فهم لا عزة لهم في أنفسهم لأن السلطان والملك قد فقدا منهم.
7. هذا الذي قاله محمد عبده أظهر وأشد انطباقا على الواقع، فلقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يحسن معاملتهم ويقترض منهم، وكذلك كان الخلفاء يفعلون، وقضية علي مع اليهودي عند عمر مشهورة، وفيها أن عليا أنكر على عمر مخاطبته أمام خصمه اليهودي بالكنية، وفيها تعظيم ينافي المساواة بينهما.
8. تقدم أيضا تفسير ﴿وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة﴾ في آية البقرة المشار إليها آنفا، باؤوا بالغضب كانوا أحقاء به من البواء وهو المساواة يقال باء فلان بدم فلان أو بفلان إذا كان حقيقا أن يقتل به لمساواته له، أو أقاموا فيه ولبثوا من المباءة أي حلوا مبوأ أو بيئة من الغضب.
9. فسر بعضهم المسكنة بالفقر، وإن تعجب فعجب قول البيضاوي: (إن اليهود في الغالب أهل فقر ومسكنة!) وليست المسكنة هي الفقر وإنما هي سكون عن ضعف أو حاجة، قال محمد عبده هنا: إن المسكنة حالة للشخص منشؤها استصغاره لنفسه حتى لا يدعي له حقا والذلة حالة تعتري الشخص من سلب غيره لحقه وهو يتمناه، فمنشؤها وسببها غيره لا نفسه كالمسكنة، وكأن البيضاوي أخذ عبارته من قول الكشاف في سورة البقرة: (فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة إما على الحقيقة وإما لتصاغرهم وتفاقرهم خيفة أن تضاعف الجزية عليهم)، وهذا الوصف أكثر انطباقا عليهم في أكثر البلاد في ذلك العصر، ونقل الرازي أن الأكثرين فسروا المسكنة بالجزية لأنها هي التي بقيت مضروبة عليهم، أخذوا هذا من ذكرها بعد الاستثناء أي أن الذلة ضربت عليهم لا ترتفع عنهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس، فاستثنى من الذلة ثم ذكر المسكنة ولم يستثن فاقتضى ذلك بقاءها عليهم، وإذا كان المراد من الجزية كونهم تابعين لغيرهم يؤدون إليه ما يضرب عليهم من المال وادعين ساكنين فهذا الوصف صادق على اليهود إلى اليوم في كل بقاع الأرض، وأما الذل فقد كان ارتفع عنهم في بلاد المسلمين بحبل من الله، وهو ما تقدم من وجوبي معاملتهم بالمساواة واحترام دمائهم وأعراضهم وأموالهم والتزام حمايتهم والذود عنهم بعد إنقاذهم من ظلم حكامهم السابقين الظالمين؛ وبحبل من الناس بما تقدم بيانه، ثم ارتفع عنهم فيما عدا روسيا من بلاد أوروبا وقد يبخلون عليهم في ألمانيا بلقب الألماني ويعبرون عنهم بلقب اليهودي.
10. سؤال وإشكال: هل ترتفع عن اليهود المسكنة فيكون لهم ملك وسلطان في يوم من الأيام؟ والجواب: هذا يحتاج فيه إلى بسط، فأما من الجهة الدينية فهم يقولون بأنهم مبشرون بذلك بظهور مسيح (مسيا) فيهم ومعناه ذو الملك والشريعة، والنصارى يقولون إن هذا الموعود به هو المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام والمراد بالملك الذي يجيء به الملك الروحاني المعنوي، وفي إنجيل برنابا عن المسيح أن ذلك الموعود به هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أي فهو الذي جاء بالنبوة التي استتبعت الملك، ومحل هذا البحث تفسير قوله تعالى فيهم: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾ [الإسراء: 8] فإنه ذكر هذا بعد ذكر إفسادهم في الأرض مرتين وتسليط الأمم عليهم، وأما من الجهة الاجتماعية فيبحث فيه عن تفرقهم في الأرض على قلتهم، وعن انصرافهم عن فنون الحرب وأعمالها؛ وضعفهم في الأعمال الزراعية لعنايتهم بجمع المال من أقرب الموارد وأكثرها نماء وأقلها عناء كالربا، ولا محل هنا لتفصيل ذلك وبيان علاقته بالملك.
11. ثم علل تعالى هذا الجزاء وبين سببه فقال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ وتقدم مثله في البقرة أي ذلك الذي ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم وخلاقتهم بالغضب الإلهي بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء بغير حق تعطيهم إياه شريعتهم، وفي التنصيص على كون ذلك بغير حق مع العلم به تغليظ عليهم وتشنيع على تحريهم الباطل وكون ذلك عن عمد لا عن خطأ.
12. ثم بين سبب هذا الكفر والعدوان الشنيع فقال: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ أي جرأهم على ذلك سبق المعاصي والاستمرار على الاعتداء فتدرجوا من الصغائر إلى الكبائر إلى أكبر الموبقات وهو الكفر وقتل الأنبياء المرشدين والهداة الصالحين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ فصار هذا العصيان والاعتداء خلقا للأمة وطبعا يتوارثه الأبناء عن الآباء بلا نكير، ولهذا نسب إلى متأخريهم عمل متقدميهم والأمم متكافلة ينسب إلى مجموعها ما فشا فيهم وإن ظهر بعض آثاره في زمن دون زمن وتقدم بيان ذلك غير مرة.
13. من مباحث اللفظ في الآية: إعراب قوله تعالى: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ قال الزمخشري: هو في محل النصب على الحال بتقدير (إلا معتصمين أو متمسكين أو متلبسين بحبل من الله وحبل من الناس وهو استثناء من أعم الأحوال) والمعنى ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس.
__________
(1) تفسير المنار: 4/67.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ أي إن هؤلاء الفاسقين لا يقدرون على إيقاع الضرر بكم بل غاية جهدهم أن يؤذوكم بالهجو القبيح، والطعن في الدين، وإلقاء الشبهات وتحريف النصوص، والخوض في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ﴾ أي وإن يقابلوكم في ميدان القتال ينهزموا من غير أن يظفروا منكم بشيء، والمنهزم من شأنه أن يحوّل ظهره إلى جهة مقاتله ويستدبره في هربه منه، فيكون قفاه إلى وجه من انهزم منه.
3. ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ أي ثم إنهم لا ينصرون عليكم أبدا ما داموا على فسقهم، ودمتم على خيريتكم، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.
4. في الآية ثلاث بشارات من أخبار الغيب تحققت كلها، وقد صدق الله وعده.
5. ومما سبق تعلم أن هذا الحكم إنما يثبت لهم إذا حافظوا على نصر الله بنصر دينه كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ وكما قال في وصف المؤمنين المجاهدين: ﴿الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ﴾
6. ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ أي إنهم ألزموا الذلة فلا خلاص لهم منها، فحالهم معكم أنهم أذلاء مهضومو الحقوق رغم أنوفهم، إلا بعهد من الله وهو ما قررته الشريعة إذا دخلوا في حكمها من المساواة في الحقوق والقضاء وتحريم الإيذاء، وعهد من الناس، وهو ما تقتضيه المشاركة في المعيشة، من احتياجهم إليكم واحتياجكم إليهم في بعض الأمور، وقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يحسن معاملتهم ويقترض منهم، وكذلك الخلفاء.
7. والخلاصة ـ إن هؤلاء لا عزة لهم في أنفسهم، لأن السلطان والملك قد فقدا منهم، وإنما تأتيهم العزة من غيرهم بهذين العهدين: العهد الذي قرره الله، والعهد الذي تواطأ عليه الناس.
8. ﴿وباؤوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ﴾ أي وصاروا مستحقين غضب الله مستوجبين سخطه، وأحاطت بهم المسكنة والصّغار، فهم تابعون لغيرهم يؤدون ما يضرب عليهم من المال وادعين ساكنين، وهذا الوصف صادق على اليهود إلى اليوم في كل بقاع الأرض، وقد ارتفع الذل عنهم في بلاد الإسلام بحبل من الله، وهو ما ذكرناه فيما سلف من وجوب معاملتهم بالمساواة واحترام دمائهم وأعراضهم وأموالهم والتزام حمايتهم والذّود عنهم بعد إنقاذهم من ظلم حكامهم السابقين، وبحبل من الناس كما تقدم بيانه.
9. أما ارتفاع المسكنة بأن يكون لهم ملك وسلطان يوما ما، فالقرآن ينفيه عنهم، لأنه لم يستثن من ذلك شيئا، كما استثنى في الذلة، فاقتضى بقاء ذلك عليهم إلى الأبد لكنهم يقولون إنهم مبشرون بظهور مسيح (مسيا) فيهم؛ ومعناه ذو الملك والشريعة، والنصارى يقولون: إن هذا الموعود به هو المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، والمراد بالملك الملك الروحاني.
10. الخلاصة: إنهم متفرقون في أقطار الأرض على قلتم، منصرفون عن فنون الحرب وأعمالها، بعيدون عن الزراعة ومتعلقاتها، لعنايتهم بجمع المال من أيسر سبله، وأكثرها نماء، وأقلها تعبا وعناء، وهو الربا.
11. ذكر الله سبب ذلك وعلته فقال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أي ذلك الذي ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم، واستحقاقهم للغضب الإلهي بسبب كفرهم، وقتلهم النبيين بغير حق تعطيهم إياه شريعتهم، وفي النص على أن ذلك بغير حق مع أنه لن يكون إلا كذلك تشنيع عليهم، وإثبات لأن ذلك حدث عن عمد لا عن خطا.
12. ثم أشار إلى سبب هذا الكفر والعدوان الشنيع فقال: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ أي إنه ما جرأهم على ذلك إلا سبق المعاصي، واعتداؤهم على حدود الله، والاستمرار على الصغائر يفضى إلى الوقوع في الكبائر، فمن جعلها ديدنا له واتخذها عادة وصل به ذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء المرشدين وقتل الأنبياء، وإن كان لم يصدر من اليهود الذين كانوا في عصر التنزيل، بل كان من أسلافهم، لكنهم لما كانوا راضين به مصوّبين له نسب إليهم، إذ صار خلقا لهم يتوارثه الخلف عن السلف، والأبناء عن الآباء، والأمم متكافلة ينسب إلى مجموعها ما فشا فيها، وإن ظهر بعض آثاره في زمن دون آخر.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/33.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما كان بعض المسلمين ما يزالون على صلات منوعة باليهود في المدينة، ولما كانت لليهود حتى ذلك الحين قوة ظاهرة: عسكرية واقتصادية يحسب حسابها بعض المسلمين، فقد تكفل القرآن بتهوين شأن هؤلاء الفاسقين في نفوس المسلمين، وإبراز حقيقتهم الضعيفة بسبب كفرهم وجرائمهم وعصيانهم، وتفرقهم شيعا وفرقا، وما كتب الله عليهم من الذلة والمسكنة.. وبهذا يضمن الله للمؤمنين النصر وسلامة العاقبة، ضمانة صريحة حيثما التقوا بأعدائهم هؤلاء، وهم معتصمون بدينهم وربهم في يقين: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾
2. فلن يكون ضررا عميقا ولا أصيلا يتناول أصل الدعوة، ولن يؤثر في كينونة الجماعة المسلمة، ولن يجليها من الأرض.. إنما هو الأذى العارض في الصدام، والألم الذاهب مع الأيام.. فأما حين يشتبكون مع المسلمين في قتال، فالهزيمة مكتوبة عليهم ـ في النهاية ـ والنصر ليس لهم على المؤمنين، ولا ناصر لهم كذلك ولا عاصم من المؤمنين.. ذلك أنه قد ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ وكتبت لهم مصيرا، فهم في كل أرض يذلون، لا تعصمهم إلا ذمة الله وذمة المسلمين ـ حين يدخلون في ذمتهم فتعصم دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وتنيلهم الأمن والطمأنينة ـ ولم تعرف يهود منذ ذلك الحين الأمن إلا في ذمة المسلمين، ولكن يهود لم تعاد أحدا في الأرض عداءها للمسلمين!.. ﴿وباؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ﴾.. كأنما رجعوا من رحلتهم يحملون هذا الغضب، (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) تعيش في ضمائرهم وتكمن في مشاعرهم.
3. ولقد وقع ذلك كله بعد نزول هذه الآية، فما كانت معركة بين المسلمين وأهل الكتاب إلا كتب الله فيها للمسلمين النصر ـ ما حافظوا على دينهم واستمسكوا بعقيدتهم، وأقاموا منهج الله في حياتهم ـ وكتب لأعدائهم المذلة والهوان إلا أن يعتصموا بذمة المسلمين أو أن يتخلى المسلمون عن دينهم.
4. ويكشف القرآن عن سبب هذا القدر المكتوب على يهود، فإذا هو سبب عام يمكن أن تنطبق آثاره على كل قوم، مهما تكن دعواهم في الدين: إنه المعصية والاعتداء: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾، فالكفر بآيات الله ـ سواء بإنكارها أصلا، أو عدم الاحتكام إليها وتنفيذها في واقع الحياة ـ وقتل الأنبياء بغير حق، وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس كما جاء في آية أخرى في السورة ـ والعصيان والاعتداء.
5. هذه هي المؤهلات لغضب الله، وللهزيمة والذلة والمسكنة.. وهذه هي المؤهلات التي تتوافر اليوم في البقايا الشاردة في الأرض من ذراري المسلمين، الذين يسمون أنفسهم ـ بغير حق ـ مسلمين! هذه هي المؤهلات التي يتقدمون بها إلى ربهم اليوم، فينالون عليها كل ما كتبه الله على اليهود من الهزيمة والذلة والمسكنة، فإذا قال أحد منهم: لماذا نغلب في الأرض ونحن مسلمون؟ فلينظر قبل أن يقولها: ما هو الإسلام، ومن هم المسلمون!؟ ثم يقول!
6. إنصافا للقلة الخيرة من أهل الكتاب، يعود السياق عليهم بالاستثناء، فيقرر أن أهل الكتاب ليسوا كلهم سواء، فهناك المؤمنون، يصور حالهم مع ربهم، فإذا هي حال المؤمنين الصادقين، ويقرر جزاءهم عنده فإذا هو جزاء الصالحين.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/450.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إنهم هم اليهود.. وإنّ آيات الله لتكشف المستور من أمرهم، وتفضح المتوقع من خزيهم في خط مسيرتهم مع المسلمين في الحياة، إنهم يكيدون دائما للإسلام والمسلمين، لأن داء الحسد الذي يغلى في صدورهم لا يسكن أبدا، وكيف يسكن وهم يعلمون عن يقين أن المسلمين قد ظفروا من الكتاب الذي في أيديهم بخير الدنيا والآخرة.. وأن هذا الكتاب كان ينبغي أن يكون لهم، كما كانت كتب الله من قبل كلها فيهم؟ وأما وقد سبقهم العرب إلى هذا الكتاب فليفسدوه عليهم، وليعزلوا المسلمين عنه!
2. في قوله تعالى مخاطبا المسلمين: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾:
أ. أولا: إلفات للمسلمين أن يأخذوا حذرهم من اليهود، الذين لا يكفّون أبدا عن السعي في تدبير الكيد للمسلمين، وتوجيه الضّرّ إليهم، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ب. ثانيا: تطمين المسلمين ـ حالا ومستقبلا ـ مما يدبر اليهود لهم من كيد خبيث، ومكر خسيس، وأن غاية ما يبلغه اليهود من كل ما يكيدون وما يمكرون، لا يتجاوز (الأذى) الذي مهما بلغ لا يبلغ حدّ الخطر والتلف.. وسيظل المسلمون ـ رغم كل شيء ـ على الصحة والسلامة أبدا، وإن أصابهم الضرّ ومسّهم الأذى، فإن كيانهم سيظل سليما معافى، لا ينال منه هذا الضرّ، ولا يؤثر فيه هذا الأذى.
3. هذا في معركة الكيد، والدسّ، التي هي الميدان الذي يحسن فيه اليهود العمل.. فإذا انتقل اليهود إلى ميدان آخر، وهو ميدان القتال، واشتبكوا مع المسلمين في حرب، فإنّهم لا يلقون إلا الخزي والخذلان.. ﴿يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾.. هذا حكم الله فيما يقع بينهم وبين المسلمين من قتال.. النصر دائما للمسلمين، والهزيمة دائما لليهود.
4. إنه لا بد من وقفة هنا، فإن وجه الأحداث المطل علينا في هذه الآية، قد يطالع منه بعض الناس شيئا آخر غير الذي تطالعنا الآية الكريمة به، والذي نتأولها نحن عليه، يشتبك المسلمون مع اليهود اليوم في معركة (يونيه 1967 ـ محرم 1387) قد جمع لها اليهود كل كيدهم ومكرهم، وجلبوا لها كل ما استطاعوا من عتاد، وحشدوا فيها كل من على شاكلتهم في العداوة للإسلام، والكراهية للمسلمين، وقد أخذوا جيوش المسلمين على غرّة، فكان لهم من هذا نصر معجّل، تخلى فيه المسلمون عن مواقع كثيرة من أوطانهم، في سيناء، وسوريا، والأردن.. وتوقف القتال.. استعدادا لمعركة قادمة فاصلة، ونكتب هذا، ونحن في شهر (أكتوبر 1967 ـ رجب 1387)، وما زال الموقف جامدا في الظاهر.. ولكنه يتحرك في خفاء لالتحام قريب! ولا ندرى متى يكون هذا اليوم الذي نلتحم فيه مع اليهود.. ولكن الذي نؤمن به ولا نشك فيه، هو ما وعدنا الله به، من النصر على اليهود دائما.
5. ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾.. فالنصر آت لا ريب فيه، وإنه لنصر يلبس اليهود ثوبا جديدا من أثواب الذلة التي ضربهم الله بها! وقد يبدو لبعض الناظرين إلى هذا الحدث، من خلال المدافع، وبين دخانه وضبابه ـ أن يتأول الآية الكريمة، وأن يرفع حكمها العام المطلق، ويرتفع به إلى الماضي البعيد، وإلى ما كان بين اليهود والنبيّ من قتال، أخزى الله فيه اليهود، وكبتهم، وأنزلهم من صياصيهم، وقذف في قلوبهم الرعب، فاستسلموا للهزيمة، ونزلوا على حكم النبيّ فيهم، فقتل من قتل، وسبى من سبى، وأجلى من أجلى.. حتى إذا كانت خلافة عمر لم يكن اليهود إلا جماعات متفرقة في الجزيرة العربية، لا تملك غير الكيد والدس، ولا تعيش إلا على الكذب والنفاق، فأجلاهم عن الجزيرة العربية جميعا!
6. قد يبدو لبعض المتأولين أن يتأول الآية الكريمة على هذا الوجه، ويقف بها عند حدود الزمن الذي نزلت فيه، ويجعل أسباب نزولها مقيدا بهذا الوقت.. وذلك ليحمى كلام الله من المجازفات التي تنجم عن تعميم هذا الحكم الذي تحمله، والذي قد لا تجيء الأيام بتصديقه، خاصة وأن محامل الآية الكريمة تقبل هذا الوجه من التأويل ولا تردّه! فما لنا إذن لا نقبل هذا التأويل؟ ولم نغامر تلك المغامرة الخطرة بآية من آيات الله، ونحمّلها ما لا تحتمل، لنتخذ منها أملا يدفئ صدورنا، ويطمئن قلوبنا، ويخفف آلام جراحنا التي نعانيها من هذا الحدث الذي نعيش فيه، في مرارة، وألم، وقلق؟ أو من أجل هذا تبلغ بنا الجرأة على كتاب الله، فنبيعه بهذا الثمن البخس؟ وما ذا تركنا لليهود إذن؟ وما ذا يحول بيننا وبين أن نتعرض لما تعرضوا له من سخط الله وقد اشتروا بآياته ثمنا قليلا؟، ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾، وإنه ليس ثمة فرق بعد أن يفترى مفتر على الله، آية.. فيقول: هذا من عند الله، وبين أن يحمل آية من آيات الله على هواه، فيغير وجهها، ويحرّم حلالها، ويحلّل حرامها! والله سبحانه وتعالى يقول متوعدا اليهود: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، أفمن أحل هذا المتاع القليل الذي نجد فيه من ريح الآية الكريمة أنسا لوحشتنا، وأملا في محنتنا.. أفمن أجل هذا، نرد هذا المورد، ونجازف تلك المجازفة المهلكة؟ وكلّا، فإنا أحرص على أنفسنا من أن تلمّ بما يعرّضها لموقع من مواقع سخط الله، خاصة ونحن نسعى بين يدى كتابه الكريم، ابتغاء مرضاته، وطلبا للمزيد من إحسانه وفضله! أفنرجع إذن عن هذا الذي ذهبنا إليه، في حمل الآية الكريمة على عمومها، من أن النصر الذي وعد الله به المسلمين على اليهود هو وعد دائم مستمر، غير موقوت بوقت، أو موقوف على واقعة بعينها ـ أفنرجع إذن ونعود بالسلامة والعافية.. من قريب؟
7. كلّا.. مرة أخرى، فإنا مطمئنون إلى فهمنا للآية الكريمة، واثقون من معطياتها التي لا تتخلف أبدا، بل وأكثر من هذا.. إننا ندعو إلى أن يفهمها المسلمون جميعا هذا الفهم الذي فهمناها عليه، وأن ينتظروا تأويلها في الأيام المقبلة كما ننتظره.. فإن أخلفهم من الآية هذا الوعد، وإن وجدوا لهذا الإخلاف غمزة في دينهم، أو حرجا منه في صدورهم، أو خلخلة له في قلوبهم ـ فالحكم الله بيني وبينهم! ولن يخزينا الله أبدا.. ولن يخلفنا وعده الذي وعد! وكيف؟
8. الله سبحانه وتعالى يقول في اليهود، بعد هذه الآية الكريمة، مؤكدا وعده الذي وعدنا: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾، فهذا الحكم عام شامل غير محصور بمكان، أو مقيد بزمان!
9. ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ والتعبير بضرب الذلة عليهم فيه إحكام لهذا الحكم الواقع بهم، وأن الذلّة التي رماهم الله بها، ذلة متمكنة، مختلطة بوجوهم، كما يختلط لون الجلد بالجلد.. لا يتغير ولا يتبدّل أبدا!
10. في قوله تعالى: ﴿أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾ حكم قاطع بمصاحبة الذلة لهم، أينما وجدوا، وأينما كانوا، في كل موطن، وفي كل زمن! هكذا هم في ذلة وهوان، أبد الدّهر.. ذلة في أنفسهم، وذلة بأيدي من يذلّونهم من عباد الله المسلطين عليهم، فإن نجوا من هذه الذلة التي يسوقها الناس إليهم، لم يخرجوا من تلك الذلة المستولية على طبيعتهم!
11. قوله تعالى: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾.. الحبل العهد والعقد.. والمعنى: ضربت عليهم الذلة أبدا، إلّا أن يدخلوا مع المسلمين في عهد الله، وذمة المسلمين، فيكونوا بذلك من أهل الذمّة، وتفرض عليهم الجزية، فيعطونها عن يد وهم صاغرون.. وهنا يرفع عنهم المسلمون الأذى والذلة التي أخذوهم بها، ولكن مع هذا لا يتخلّى عنهم روح الذلة المتسلط عليهم من داخل أنفسهم، لأن ذلك طبيعة فيهم، ولعنة من لعنات الله صبّها عليهم.
12. قوله تعالى: ﴿وباؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾ بيان للحال التي يكونون عليها، بعد أن يدخلوا في ذمة المسلمين بعهد الله وعهد المسلمين، فهم وإن رفعت عنهم يد المسلمين بعد هذا العهد الذي دخلوا به في ذمتهم، وإن رجعوا وقد أمنوا بطش المسلمين بهم بعد هذا العقد، فإنهم يرجعون ومعهم غضب الله الذي رماهم به، ومعهم المسكنة التي فرضها عليهم وابتلاهم بها.
13. هكذا يعيش اليهود أبدا في كل زمان ومكان في ذلة وفي مسكنة، ذلة ومسكنة تلبسهم ظاهرا وباطنا.. إن سلم لهم ظاهرهم في حال، فلن يسلم لهم باطنهم في أي حال.. إنها لعنة الله ﴿وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾
14. في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ تعليل لهذا العقاب الأليم الذي أخذهم الله به، والذي أجراه فيهم مجرى الدم في عروقهم، فكان ميراثا خبيثا، ينتقل في الخلف بعد الخلف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين!
15. من هذا كله نستطيع أن نقرر في إيمان وثيق، ثقتنا في صدق الكتاب الذي في أيدينا، وفي صدق كل كلمة، وكل حرف، من كلمات رب العالمين، وحروفها ـ أن ما بيننا وبين اليهود سينتهى بما حكم الله به عليهم، وهو أنهم ﴿لَا يُنْصَرُونَ﴾ وأن الذلة والمسكنة مضروبة عليهم إلى يوم الدين، وأن هذه الصحوة التي تبدو على ظاهرهم في هذه الأيام ليست إلا صحوة الموت، يرتدون بعدها ثوبا جديدا من أثواب الذلة والمسكنة، وذلك بلاء إلى بلاء، وعذاب فوق عذاب.. فإنه ليس أشق على نفس المكروب من أن تهبّ عليه نسمة من نسمات العافية، ثم تعصف به بعدها عاصفة عاتية، وتلقى به بعيدا إلى أسوأ مما كان، ثم يتنفس نفس الحياة.. ثم تضربه موجة عاتية من موجات البلاء.. وهكذا يتردد بين الحياة والموت.. فلا يجد الحياة، ولا يستريح بالموت.. وذلك هو العذاب الذي يعذّب الله به أصحاب النار: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾، فهذا الذي تعيش فيه إسرائيل اليوم هو فترة ما بين استبدال جلد بجلد، وذلة بذلة.. ليذوقوا العذاب، وليطعموه ألوانا في الدنيا.. ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون! وبعد، فإننا على موعد، مع نصر الله، ولن يخلف الله وعده، ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ﴾ ويومئذ يعلم الذين لا يعلمون، أن دين الله حق، وأن رسول الله حق، وأن ما نزل على الرسول حق.. ويومها يتجلّى وجه الإسلام مشرقا، وتطلع شمسه غير محجبة بضباب أو سحاب، فتعمر بالإسلام القلوب، وتشرق بنوره الآفاق ﴿وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ وهكذا يصنع الله للإسلام، فيجعل له من الضيق فرجا، ومن البلاء عافية، ومن الشر خيرا ونعمة!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/554.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ استئناف نشأ عن قوله: ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 110] لأن الإخبار عن أكثرهم بأنّهم غير مؤمنين يؤذن بمعاداتهم للمؤمنين، وذلك من شأنه أن يوقع في نفوس المسلمين خشية من بأسهم، وهذا يختصّ باليهود، فإنّهم كانوا منتشرين حيال المدينة في خيبر، والنضير، وقينقاع، وقريظة، وكانوا أهل مكر، وقوة، ومال، عدّة، والمسلمون يومئذ في قلّة فطمأن الله المسلمين بأنّهم لا يخشون بأس أهل الكتاب، ولا يخشون ضرّهم، لكن أذاهم، أمّا النّصارى فلا ملابسة بينهم وبين المسلمين حتّى يخشوهم، والأذى هو الألم الخفيف وهو لا يبلغ حد الضرّ الّذي هو الألم، وقد قيل: هو الضرّ بالقول، فيكون كقول إسحاق بن خلف:
çأخشى فظاظة عمّ أو جفاء أخ...وكنت أبقى عليها من أذى الكلمé
2. ﴿يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ﴾ يفرّون منهزمين، ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ احتراس أي يولوكم الأدبار تولية منهزمين لا تولية متحرّفين لقتال أو متحيّزين إلى فئة، أو متأمّلين في الأمر، وفي العدول عن جعله معطوفا على جملة الجواب إلى جعله معطوفا على جملتي الشرط وجزائه معا، إشارة إلى أنّ هذا ديدنهم وهجيراهم، لو قاتلوكم، وكذلك في قتالهم غيركم.
3. ﴿ثُمَّ﴾ لترتيب الإخبار دالّة على تراخي الرتبة، ومعنى تراخي الرتبة كون رتبة معطوفها أعظم من رتبة المعطوف عليه في الغرض المسوق له الكلام، وهو غير التّراخي المجازي، لأن التّراخي المجازي أن يشبّه ما ليس بمتأخّر عن المعطوف بالمتأخّر عنه، وهذا كلّه وعيد لهم بأنهم سيقاتلون المسلمين، وأنّهم ينهزمون، وإغراء للمسلمين بقتالهم.
4. ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وباؤوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾ يعود ضمير ﴿عَلَيْهِمْ﴾ إلى ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 110] وهو خاص باليهود لا محالة، وهو كالبيان لقوله: ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾، والجملة بيانيّة لذكر حال شديد من شقائهم في الدنيا.
5. معنى ضرب الذلّة اتّصالها بهم وإحاطتها، ففيه استعارة مكنية وتبعية شبّهت الذلّة، وهي أمر معقول، بقية أو خيمة شملتهم وشبّه اتّصالها وثباتها بضرب القبة وشدّ أطنابها، وقد تقدّم نظيره في البقرة.
6. ﴿ثُقِفُوا﴾ في الأصل أخذوا في الحرب ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ﴾ [الأنفال: 57] وهذه المادة تدلّ على تمكّن من أخذ الشيء، وتصرّف فيه بشدّة، ومنها سمي الأسر ثقافا، والثقاف آلة كالكلّوب تكسر به أنابيب قنا الرّماح، قال النابغة: (عضّ الثّقاف على صمّ الأنابيب)، والمعنى هنا: أينما عثر عليهم، أو أينما وجدوا، أي هم لا يوجدون إلا محكومين، شبّه حال ملاقاتهم في غير الحرب بحال أخذ الأسير لشدّة ذلّهم.
7. ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ الحبل مستعار للعهد، وتقدّم ما يتعلق بذلك عند قوله تعالى ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ في سورة البقرة [256] وعهد الله ذمّته، وعهد النّاس حلفهم، ونصرهم، والاستثناء من عموم الأحوال وهي أحوال دلّت عليها الباء التي للمصاحبة، والتّقدير: ضربت عليهم الذلّة متلبّسين بكلّ حال إلّا متلبّسين بعهد من الله وعهد من النّاس، فالتّقدير: فذهبوا بذلّة إلّا بحبل من الله، والمعنى لا يسلمون من الذلّة إلّا إذا تلبّسوا بعهد من الله، أي ذمّة الإسلام، أو إذا استنصروا بقبائل أولى بأس شديد، وأمّا هم في أنفسهم فلا نصر لهم، وهذا من دلائل النّبوّة فإنّ اليهود كانوا أعزّة بيشرب وخيبر والنضير وقريظة، فأصبحوا أذلّة، وعمّتهم المذلّة في سائر أقطار الدنيا.
8. ﴿وباؤوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ﴾ أي رجعوا وهو مجاز لمعنى صاروا إذ لا رجوع هنا.
9. المسكنة: الفقر الشّديد مشتقة من اسم المسكين وهو الفقير، ولعلّ اشتقاقه من السكون وهو سكون خيالي أطلق على قلّة الحيلة في العيش، والمراد بضرب المسكنة عليهم تقديرها لهم وهذا إخبار بمغيّب لأن اليهود المخبر عنهم قد أصابهم الفقر حين أخذت منازلهم في خيبر والنّضير وقينقاع وقريظة، ثمّ بإجلائهم بعد ذلك في زمن عمر.
10. الإشارة إلى ضرب الذلّة المأخوذ من ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾، ومعنى ﴿يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ﴾ تقدّم عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ﴾ [آل عمران: 21] أوائل هذه السورة.
11. ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ يحتمل أن يكون إشارة إلى كفرهم وقتلهم الأنبياء بغير حقّ، فالباء سبب السبب، ويحتمل أن يكون إشارة ثانية إلى ضرب الذلّة والمسكنة فيكون سببا ثانيا، (وما) مصدرية أي بسبب عصيانهم واعتدائهم، وهذا نشر على ترتيب اللفّ فكفرهم بالآيات سببه العصيان، وقتلهم الأنبياء سببه الاعتداء.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/193.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة منزلة المؤمنين من غيرهم إذا أخذوا بأحكام الإسلام واهتدوا بهديه، وكوّنوا منهم جماعة فاضلة تؤمن بالله تعالى حق الإيمان، وتذعن لشريعته حق الإذعان، وتتواصى بينها بالحق والصبر، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وبين أن ذلك هو عصام الأمة وجامع وحدتها، والرابط بينها بأرسان من الهداية الربانية، فيستتر الشر ويختفى، ويظهر الخير وينكشف، وإن تلك المنزلة جعلها الله تعالى خير المنازل، وبين سبحانه أن أهل الكتاب الذين عادوا المسلمين، وهم يعلمون أنهم أهل الحق وأهل الإيمان لو آمنوا بما أنزل على الذين آمنوا لكان خيرا لهم، ولكن آثروا مجافاة الحق على اتباعه، وعداوة أهل الإيمان على موادتهم، ولقد بين سبحانه من بعد أن عداوتهم لا تضر المؤمنين ضررا بليغا له أثر، ما دام أهل الإيمان مستمسكين بما رفع منازلهم وأعلى درجاتهم، ولذا قال تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾
2. في هذا النص الكريم بيان أن الذين أوتوا الكتاب، ثم كفروا به وبالبينات لما جاءتهم، لن يضروا المؤمنين ضررا يبقى أثرا في جماعتهم، ويؤثر في قوتهم، وإن وقع منهم أذى؛ وذلك لأن الضرر قسمان: ضرر يترك أثرا في الأمة، فيضعف قوتها، ويوهن أمرها، وضرر لا أثر له: كالأذى بالقول أو الفتنة في الدين تتناول الآحاد، أو محاولة التأثير في ضعاف الإيمان، أو محاولة بث روح النفاق بين الجماعة من غير أن يعم ويشيع، وقد نفى الله سبحانه وتعالى النوع الأول من الضرر نفيا مؤكدا بلفظ ﴿لَنْ﴾ فإنها تدل على تأكيد النفي باتفاق علماء اللغة، وقال الزمخشري وطائفة كبيرة من اللغويين: إنها تدل على تأبيد النفي وعلى ذلك يكون الاستثناء متصلا، ولا يكون منقطعا، لأن الأذى مهما ضؤل نوع من الضرر، وإن لم يبق أثرا.
3. الشرط في نفى الضرر الذي يؤثر في الجماعة الإسلامية أن تكون مؤمنة بالله حق الإيمان آخذة بتعاليمه مهتدية بهديه، وأن يسودها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذي هو خاصتها، ورباط وحدتها، وإلا فإن الضرر البالغ يصيبها؛ لأنها فقدت مشخصاتها ومكوناتها.
4. بين سبحانه بعد ذلك حال أولئك الكفار من اليهود والنصارى مع المؤمنين الصادقي الإيمان: ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ هذه الحال التي ذكرها الله سبحانه تفصيل لبيان ما تضمنته الجملة السامية من قبل، فإنها تضمنت أن هؤلاء لا يمكن أن يصيبوا المسلمين بضرر بليغ يبقى له أثر، وإنه من تفصيل بعض ذلك أنهم ينهزمون في قتال المسلمين.
5. معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ﴾ أنهم إن قاتلوا ينهزمون، وعبر عن انهزامهم بتوليهم الأدبار، لأن من ينهزم في ميدان القتال لا يقابل عدوه بوجهه، ولكنه يطلب النجاة بالفرار، ولسان حاله يقول: النجاء النجاء، والتعبير عن الهزيمة بتوليتهم الأدبار؛ فيه إشارة إلى جبنهم، وأنهم يفرون فرارا أمام خصومهم، وكذلك كان الشأن في قتال المسلمين الأولين للكفار اليهود والنصارى، فقد قاتل المؤمنون بنى النضير وبنى قريظة ويهود خيبر وغيرهم، وكانوا يفرون فرارا، وقد كتب الله على بعضهم الجلاء، وعلى بعضهم الفناء، وعلى بعضهم البقاء في ذلة، وكذلك كان الشأن مع النصارى بالشام ومصر.
6. ذكر سبحانه وتعالى أنهم مع انهزامهم في القتال لا يمكن أن ينتصروا على المؤمنين ما دام المؤمنون على الشرط الذي ذكرناه، ولذا قال سبحانه وتعالى مخبرا: ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ أي أنهم لا يمكن أن ينصروا أبدا، وهذه الجملة خبرية ليس لها صلة لفظية بالجملة الشرطية، فليست معطوفة على جواب الشرط، فهي إخبار عن نفى الانتصار غير مرتبط بكونه في قتال أو غير قتال، ولقد وضح الزمخشري في الكشاف هذا المعنى أكمل توضيح، فقال: (فإن قلت؛ هلا جزم المعطوف في قوله: ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ (قلت) عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء، كأنه قيل ثم أخبركم أنهم لا ينصرون، فإن قلت: فأي فرق بين رفعه وجزمه في المعنى؟ (قلت) لو جزم لكان نفى النصر مقيدا بقتالهم كتولية الأدبار، فحين رفع كان نفى النصر وعدا مطلقا، كأنه قال ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوة، لا ينهضون بعدها بجناح، ولا يستقيم لهم أمر، وكان كما أخبر حال بنى قريظة، وبنى النضير، وبنى قينقاع، ويهود خيبر)
7. كان العطف الخبري بـ (ثم) على مضمون الجملة الشرطية كلها، وكان التراخي لتقرير عدم النصر، إذ إنّ عدم النصر المطلق الذي يكون بالقتال وغيره ينشأ من توالى الانهزام، إذ إن توالى الانهزام يلقى في قلوبهم بروح اليأس فلا تكون لهم من بعد ذلك نصرة في أية ناحية من النواحي.
8. ذلك خبر الله تعالى، وخبر الله تعالى صادق إلى يوم القيامة، ولكن الذي نراه منذ قرون هو انهزام المسلمين، وتوالى انتصار النصارى من أهل الكتاب، بل إن بلية البلايا أن ينتصر اليهود، فهل أخلف الله وعده!؟ كلا، ما أخلف الله موعدا، وإن وعد الله لحق، وخبره صادق، ولكن الذي تغير هو حال المسلمين، فقد اشترطنا لتحقق نصر الله أن يكونوا مؤمنين بالله حق الإيمان، مذعنين لأحكامه حق الإذعان، متعاونين فيما بينهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فعندئذ يكونون أنصار الله تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج]، فهل كان المسلمون على هذا الشرط عندما انهزموا؟ لقد تغيرت حالهم، فلم يذعنوا لأحكام الله تعالى، ونقص إيمانهم به، ولم يتواصوا بالحق والصبر، ولم يعودوا أشداء على الكفار رحماء بينهم، بل صار بأسهم بينهم شديدا، وأخذ يأكل بعضهم بعضا، وبذلك تغيرت حالهم فغير الله تعالى بهم، كما قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد]، ولئن عادوا إلى الإيمان والإذعان والتعاون والتواصى بالحق ليعودن النصر، فإنه وعد الله تعالى، والله لا يخلف الميعاد.
9. بين سبحانه حال الذين كذبوا بآيات الله تعالى، ولم يذعنوا للحق بعد خذلانهم في كل مجال: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ أي أحاطت بهم الذلة كما يحيط السرادق بمن فيه، وكما تحيط القبة بما في داخلها، فهم في نشاطهم وحركتهم في ذلة، لا ينتقلون من ذل إلا إلى ذل، و﴿أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾ معناها أينما وجدوا جماعات ووحدانا، فجماعاتهم في ذلة، وآحادهم في جبن، ذلك بأنهم فقدوا الإيمان بالله، والاعتزاز بعزته، فاعتمدوا على عزة من الناس، ومن اعتمد على أن يستمد عزته من غير الله فهو الذليل، فأولئك الذين فقدوا الإذعان لأحكام الله تعالى قد استعانوا بغير الله فحقت عليهم كلمة الذلة.
10. استثنى سبحانه حالا يرتفعون فيها من الذلة فقال تعالى: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ والحبل معناه في أصل اللغة ما يربط بين شيئين، ويطلق على العهد، وقد فسره جمهور المفسرين هنا بهذا المعنى وهو العهد، فالمعنى لا ترفع الذلة عن هؤلاء اليهود إلا بعهد من الله تعالى وعهد من الناس، وذلك العهد هو عقد الجزية الذي يربط بينهم وبين المسلمين، فهو حبل من الله تعالى يصلهم بأهل الإيمان إذ هي بأمر الله تعالى، والوفاء بها وفاء بعهد الله ورسوله، إذ يقول سبحانه: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ [النحل]، والجزية أيضا حبل يربطهم بالمؤمنين؛ إذ يكونون بهذا العهد بين المسلمين، ترعى حقوقهم وتحفظ أموالهم ودماؤهم، ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وهذا تفسير حسن، وهو مشتق من قواعد الإسلام ذاتها وأحكامه المقررة الثابتة، ولكن يلاحظ أن الله سبحانه قرر في الاستثناء أن حبل العزة هو حبل من الناس، ولم يذكر أنه حبل من المؤمنين؛ إذ يقول سبحانه: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ ولذلك يصح أن يفسره بما هو أعم من الجزية، فإن حبل الناس أوسع من معنى الجزية، وإن ذلك يفسره بعض الوقائع التي تجرى في العصور الأخيرة، فقد كانت لهم عزة وقتية بسبب اتصالهم ببعض الناس، وتخاذل المسلمين عن الأخذ بحكم الكتاب والسنة والهدى الإسلامي، ولكنه على كل حال استثناء؛ لأن الله ضرب عليهم الذلة، وإنه ليرجى أن يعود الإسلام كما بدأ في قلوب أهله، فيتحقق وعد الله لهم، إذا تحققت أسبابه.
11. ﴿وباؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾ أصل معنى (باء) ساوى، فيقال باء فلان بدم فلان، أي ذهب وساواه، ومن ذلك ما جاء في بعض أقاصيص العرب على لسان المهلهل أخي كليب: (بؤ بشسع نعل كليب) أي أنه لا يساوى إلا هذا، ويطلق البواء بمعنى الإقامة، ومنه المباءة والبيئة أي شكل الإقامة، والمعنى الجملي أنهم قد صاروا في غضب، ويعتبر هذا مباءتهم التي باؤوا بها والتي هم يستحقون، وقد ضربت عليهم المسكنة، أي أحاطت بهم واستولت عليهم، والمسكنة ضعف نفسي، وصغار ينال القلب، فيستصغر الشخص نفسه، ويحس بهوانها مهما تكن لديه أسباب القوة متوافرة متضافرة، والفرق بينها وبين الذلة أن الذلة هوان تجيء أسبابه من الخارج بأن يكون بفرض من قوى، أو يكون نتيجة انهزام حربى، أما المسكنة فهي هوان ينشأ من النفس لعدم إيمانها بالحق، واتباعها للمادة، وإن توارث الذلة قرونا طويلة يورث هذه المسكنة، إن بواء اليهود والنصارى بغضب الله، وضرب المسكنة عليهم، لا استثناء فيه، بل هو أمر مستمر إلى يوم القيامة ما داموا على حالهم، ولا يغرنك ما عند النصارى وتقلبهم في البلاد، بل انظر إليهم إن أصابت فريقا منهم هزيمة فإنهم يخرون للأذقان يبكون صاغرين، مما يدل على أن المسكنة في طبيعتهم؛ إذ عزة الحق قد فارقتهم.
12. ثم ذكر سبحانه وتعالى السبب في استحقاق أهل الكتاب ذلك فقال تعالت كلماته: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ الإشارة إلى هزيمتهم المستمرة، وأنهم لا يمكن أن ينتصروا، وأن الذلة ضربت عليهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس، وأنهم في غضب من الله، وأن المسكنة قد ضربت عليهم إلى يوم القيامة، فالصغار ملازمهم، لا يفارقهم أبدا، لأن الصغار والإيمان بالباطل متلازمان لا يفترقان، وقد ذكر سبحانه أن السبب في كل هذا أنهم كانوا يكفرون بآيات الله أي بأمارات الحق وأدلته التي يقيمها الله سبحانه وتعالى عليهم في كتبه وخلقه وعلى ألسنة رسله، وأنهم لا يكتفون بجحود الحق بعد قيام البينات عليه، بل يعتدون على الداعي إليه، فيقتلون الرسل الذين ينادون به، ويجاهدون دونه.
13. قال سبحانه وتعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ والحكمة في ذكر هذا أنهم لم يكونوا في اعتدائهم لهم أية شبهة حق، ولذا نكر كلمة حق، وقد بيّنا هذا من قبل، ولما ذا كان ذلك الكفر، وهذا الجحود المستمكن الذي يدفع إلى قتل الداعي إلى الحق؟
14. ذكر سبحانه ذلك بقوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ أي أن الذي أورث في قلوبهم الجحود بالحق، والتمادي في الباطل، هو ارتكاسهم في المعاصي وتعودهم الاعتداء على الناس، فإن المعاصي تنكت نكتا سوداء في القلب، فإذا استمر الشخص عليها وضعت عليه أغلفة من الظلمة تمنع أن يصل الحق إليه، فعمى القلب عن الحق وصم، ولذا قال تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ [نوح] وقانا الله شر المعاصي وجعل قلوبنا تشرق بنور حكمته، ووفقنا لقصد السبيل، وجنبنا جائره، إنه سميع الدعاء.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1360.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ﴾، الضرر على نوعين:
أ. الأول: عبارة عن مجرد الحزن والألم الذي يذهب مع الأيام، كالذي يحدث في النفس من سماع كلمة نابية.
ب. الثاني: يمس الحياة، ويهز الكيان، كالضرر الناشئ عن دولة إسرائيل في قلب البلاد العربية.
2. بشّر الله سبحانه أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ان أهل الكتاب لا يستطيعون اضرارهم الا بالكلام كالهجو والافتراءات، أما في ميدان القتال، فأنتم المنتصرون عليهم، وصدق الله وعده، ونصر المسلمين الأول على المسيحيين وغيرهم.
3. ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وباؤوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾، اتفق المفسرون على ان هذه الآية نزلت في اليهود، كما اتفقوا على ان المراد منها ان الله سبحانه قد سلبهم العزة والكرامة، وكتب عليهم الذل والهوان من يوم الإسلام إلى آخر يوم، لأنهم قد بلغوا من الفساد والطغيان حدا لم يبلغه أحد من قبلهم، ولن يبلغه أحد من بعدهم.
4. بعد ان اتفق أهل التفسير على هذا اختلفوا فيما بينهم على نوع الذلة والمسكنة التي لازمت اليهود، والتصقت بهم في كل جيل، وهذا الاختلاف بين المفسرين ناشئ عن اختلاف أوضاع اليهود في عصر التفسير، حيث كانوا يدفعون الجزية للمسلمين.. أقصد ان قول المفسر جاء انعكاسا لما كان عليه اليهود في عصر المفسر.. وليس هذا بغريب ما دام الإنسان يتأثر ـ حتما ـ بما يسمع ويرى، وتفسيري التالي لهذه الآية يخضع لهذه القاعدة.
5. مهما يكن، فإن الذي أفهمه من ذل اليهود وهو انهم الذي عنته الآية انهم مشتتون في شرق الأرض وغربها، وموزعون بين الدول مع الأقليات، فهم دائما تابعون غير متبوعين، ومحكومون غير حاكمين في دولة منهم ولهم، مستقلة لها كيانها وشأنها بين الدول، أما إسرائيل التي قامت أخيرا في تل أبيب فإنها دولة في الاسم فقط، أما في الواقع فهي قاعدة من قواعد الاستعمار، تماما كمطاراته وثكناته العدوانية، وقد ظهرت هذه الحقيقة بأوضح معانيها بعد عدوان إسرائيل على الأراضي العربية في 5 حزيران سنة 1967، لقد أوجد الاستعمار إسرائيل ليتخذها أداة لتحقيق مآربه، ولو تخلى عنها يوما واحدا لتخطفها العرب من كل جانب.. وهذا هو الذل والهوان بعينه، ان العزيز يستمد قوته من نفسه، ويذود عن كيانه بساعده، لا بسواعد الناس.
6. وبهذا يتبين معنا ان المراد بحبل من الناس المساعدات المادية والمعنوية التي تمد الدول الاستعمارية بها قاعدتها الاستعمارية إسرائيل، ومن أجل هذا نؤمن إيمانا لا يشوبه ريب بأن دولة إسرائيل ستزول بزوال الاستعمار لا محالة، والاستعمار في طريقه إلى الزوال آجلا أو عاجلا، وليس هذا القول مجرد أمنية، وإنما هو نتيجة حتمية لمنطق الحوادث.. كما جاء في الحديث النبوي: (لا تقوم الساعة، حتى تقاتلوا اليهود.. وان الحجر ليقول ـ أي بلسان الحال ـ يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله)
7. أما حبل الله فهو كناية عن مشيئته تعالى، أي ان اليهود يلازمهم الذل والهوان إلا أن يشاء الله، فهو تماما كقوله سبحانه: ﴿النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ﴾
8. ثم بيّن سبحانه السبب الموجب لذلهم ومسكنتهم، وغضب الله عليهم، بينه بقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾، تقدم مثله في سورة البقرة.
9. سؤال وإشكال: إن غير اليهود من الأمم والطوائف قد كفروا بآيات الله، وقتلوا الأبرياء، وعصوا، واعتدوا، ومع ذلك لم يضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، فما هو السر لتخصيص اليهود؟ والجواب: إن الإنسان قد يطغى، بل ويتمادى في الطغيان بدافع من مصلحته ومنافعه، اما أن يطغى لا لشيء إلا حبا بالغي والطغيان، كغاية، أما هذا فلم يعهد من أحد إلا من اليهود فقط.. وهذا الشغف بالظلم والبغي من صميم دين اليهود وعقيدتهم، فهم يعتقدون ان الله معهم دون غيرهم، بل ضد كل من عداهم، وانه ما خلق الناس إلا من أجلهم، وإلا لكي يفعلوا بهم ما يشتهون، تماما كما يفعل الإنسان بالحيوان، ولا شيء أدل على ذلك من سيرتهم قديما وحديثا، بخاصة فظائعهم في فلسطين، وبصورة أخص ما فعلوه في دير ياسين من ذبح النساء والأطفال.. لقد كانوا من قبل يقتلون الأنبياء يوم كان في الدنيا أنبياء، أما اليوم فيقتلون المصلحين كبرنادوت، والنساء والأطفال، لأن المهم في عقيدتهم، وحسب فطرتهم هو قتل الأبرياء أنبياء كانوا، أو مصلحين أو أطفالا لا فرق.. وقد نصت توراتهم على استباحة دم النساء والأطفال، وحثت على هتكه وإراقته.
10. بالجملة، فان الكفر بآيات الله، وقتل المصلحين والأبرياء، والبغي والاعتداء، كل ذلك وما اليه دين وعقيدة لليهود، فإذا ارتكب اليهودي جريمة بحق غير اليهودي فإنما يرتكبها تلذذا واشباعا لرغبته، لا سدا لحاجته، وإذا كف فإنما يكف خوفا، لا تعففا، وهذا هو وجه الفرق بين اليهود وغيرهم، فلا غرابة إذا جازاهم الله بالذل والهوان أينما ثقفوا.. اما دولة إسرائيل الحديثة الخبيثة فإنها إلى زوال لا محال، وأقوى الشواهد هو ارتباطها بالاستعمار حدوثا وبقاء، توجد بوجوده، وتزول بزواله.. وزواله حتم، وان امتد الزمن، ما دامت البشرية تأباه بفطرتها وتقاومه بدمائها.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/133.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآيات الكريمة ـ كما ترى ـ تنعطف إلى ما كان الكلام فيه قبل من التعرض لحال أهل الكتاب وخاصة اليهود في كفرهم بآيات الله وإغوائهم أنفسهم، وصدهم المؤمنين عن سبيل الله، وإنما كانت الآيات العشر المتقدمة من قبيل الكلام في طي الكلام، فاتصال الآيات على حاله.
2. ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ الآية الأذى ما يصل إلى الحيوان من الضرر: إما في نفسه أو جسمه أو تبعاته دنيويا كان أو أخرويا على ما ذكره الراغب مفردات القرآن.
3. ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾، الذلة بناء نوع من الذل، والذل بالضم ما كان عن قهر، وبالكسر ما كان عن تصعب وشماس على ما ذكره الراغب، ومعناه العام حال الانكسار والمطاوعة، ويقابله العز وهو الامتناع.
4. ﴿ثُقِفُوا﴾ أي وجدوا، والحبل السبب الذي يوجب التمسك به العصمة، وقد أستعير لكل ما يوجب نوعا من الأمن والعصمة والوقاية كالعهد والذمة والأمان، والمراد والله أعلم: أن الذلة مضروبة عليهم كضرب السكة على الفاز أو كضرب الخيمة على الإنسان فهم مكتوب عليهم أو مسلط عليهم الذلة إلا بحبل وسبب من الله، وحبل وسبب من الناس.
5. كرر لفظ الحبل بإضافته إلى الله وإلى الناس لاختلاف المعنى بالإضافة فإنه من الله القضاء والحكم تكوينا أو تشريعا، ومن الناس البناء والعمل.
6. المراد بضرب الذلة عليهم القضاء التشريعي بذلتهم، والدليل على ذلك قوله: ﴿أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾ فإن ظاهر معناه أينما وجدهم المؤمنون أي تسلطوا عليهم، وهو إنما يناسب الذلة التشريعية التي من آثارها الجزية، فيئول معنى الآية إلى أنهم أذلاء بحسب حكم الشرع الإسلامي إلا أن يدخلوا تحت الذمة أو أمان من الناس بنحو من الأنحاء من الله وقدر فإن الإسلام أدرك اليهود وهم يؤدون الجزية إلى المجوس، وبعض شعبهم كانوا تحت سلطة النصارى، وهذا المعنى لا بأس به وربما أيده ذيل الكلام إلى آخر الآية فإنه ظاهر في أن السبب في ضرب الذلة والمسكنة عليهم ما كسبته أيديهم من الكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء، والاعتداء المستمر إلا أن لازم هذا المعنى اختصاص الكلام في الآية باليهود ولا مخصص ظاهرا، وسيجيء في ذلك كلام في تفسير قوله تعالى: (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ)
7. ﴿وباؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾، باؤوا أي اتخذوا مباءة ومكانا، أو رجعوا، والمسكنة أشد الفقر، والظاهر أن المسكنة أن لا يجد الإنسان سبيلا إلى النجاة والخلاص عما يهدده من فقر أو أي عدم، وعلى هذا فيتلاءم معنى الآية صدرا وذيلا.
8. ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾، والمعنى أنهم عصوا وكانوا قبل ذلك يستمرون على الاعتداء.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/384.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ لن يضركم الفاسقون من أهل الكتاب إلا أذى، ولعل الحصر للدلالة على أنهم لن يستطيعوا ردكم عن دينكم أعني أن الحصر إضافي، وأضاف إليه أنهم إن قاتلوا الذين آمنوا فروا ثم لا ينصرون بل تقهرونهم؛ ويؤخذ منها أن لو صلح المسلمون ما غلبتهم إسرائيل وأمريكا والله أعلم.
2. ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ ﴿ضُرِبَتْ﴾ على هؤلاء الكفار من أهل الكتاب اليهود ﴿الذِّلَّةُ﴾ كما تضرب الخيمة على سكانها، و﴿الذِّلَّةُ﴾ ضد العزة، فهي العجز عن الدفاع.
3. ﴿أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾ أي أدركوا وظفر بهم ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ﴾ إلا معتصمين أو متمسكين ﴿بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ وقد فسر بالذمة، وأمنهم بسبب الجزية، ولا يبعد أن الحبل من الله ومن الناس يعم الحالات العارضة بأن يسلطوا بواسطة قوة من دولة أخرى، فمن الله التسليط ومن الناس الحماية مثلاً حماية دول النصارى لإسرائيل وإمدادهم لها بالسلاح وغيره، وهذا لأن قوله تعالى: ﴿بِحَبْلٍ﴾ نكرة تصلح لكل وسيلة أمن وعزةٍ مّا.
4. ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ﴾ احتملوا غضباً، ولعل سبب هذا التعبير أن الإنسان يبوء إلى بيته حاملاً بعض حاجاته أو حاجات أهله أو بيته، فيقال: باء بكذا، أي رجع حاملاً كذا، ثم استعمل في الحمل ولو مجازياً، ولعل فيه تَهَكُّماً بهم من حيث أن الأصل فيما يبوء به الإنسان أنه فائدة إستفادها وعاد بها إلى بيته، فاستعماله في المضرة والخسارة تهكم ـ والله أعلم.
5. ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾ وهي سكون وضعف بسبب الذلة، فقد خيَّمتْ عليهم المسكنة، وصارت لهم مسكناً مجازاً عن اشتمالها واستمرارها.
6. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ ﴿ذَلِكَ﴾ أي ضرب الذلة والمسكنة عليهم عقوبة عاجلة بسبب أنهم تكرر منهم مراراً الكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء بغير حق، فقد كفروا بالآيات مراراً وتكراراً، ولعل المراد اليهود من أهل الكتاب لأنهم كانوا في المدينة المنورة وحولها وهو الأرجح، أو هم والنصارى، وكفر النصارى السابق: كفرهم بدلائل توحيد الله، ودلائل أنه لا يشبه المخلوقين، وغير ذلك مما لا نعلم ولكنه ضعيف، وكفر أهل الكتاب من اليهود والنصارى في الأخير كفرهم بالقرآن، وما جاء لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الآيات، وقتلهم الأنبياء في الماضي وهو بغير حق، ولا يتصور إلا أن يكون بغير حق، ولكن فائدة هذا القيد تحقيق عبوديتهم لله وأن قتلهم لو كان بحق ما كان إثماً؛ وفيها فائدة أن لا يتوهم أن القتل جريمة على الإطلاق، بل قد يكون غير المعصوم مستحقاً له فلا يكون قتله جريمة.
7. ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ ﴿ذَلِكَ﴾ الجرم الشنيع والتجبر الفضيع الذي يستبعد وقوعه من أهل كتابٍ منتمين إلى رسول فيهم الربانيون والأحبار وقعوا فيه، أي في ذلك المنكر ﴿بِمَا عَصَوْا﴾ من قبل وتكرر منهم من العدوان، فإنهم بسبب ذلك خذلوا، وقست قلوبهم واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله وورطهم في أكبر مما كان منهم وهو التكذيب بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق.
8. مما يدل على عظم جريمة قتلهم الأنبياء ما رواه الحاكم بستة أسانيد، عن أبي نعيم: حدثنا عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: (أوحى الله تعالى إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: إني قَتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفاً، وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفاً وسبعين ألفاً)، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال الذهبي في (تلخيصه): قلت: على شرط مسلم، وقد جاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لتحذن حذو من قبلكم) فقد حذت هذه الأمة حذوا أهل الكتاب بقتل الذين يأمرون بالقسط من ذرية رسول الله، كالإمام زيد بن علي، وابنه يحيى، ومن قتل بنو العباس، ومن بعدهم، ولعل تلك الجرائم وإن هانت عند النواصب هي سبب تسليط التتار على هذه الأمة وتمزيقهم وتسليط أعدائهم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/519.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ وتعود الآيات إلى حديث أهل الكتاب، من أجل توضيح الصورة للمسلمين الذين كانوا يخوضون معهم معركة الإسلام في قضية الوجود والاستمرار، وذلك لتفريغ أفكارهم من أيّ شعور بالخوف منهم، بالإيحاء لهم بأنهم لن يستطيعوا الإضرار بالمسلمين بالمستوى الذي يمثل التحدي للوجود، بل كل ما هناك أنهم يثيرون المشاكل والمنازعات الكلامية والشبهات التي قد تزلزل العقيدة لبعض البسطاء، مما يدخل في نطاق الإيذاء والإزعاج في حركة الوضع الاجتماعي وملابساته.. ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ أمّا إذا امتدت القضية إلى القتال، فلن يستطيعوا الثبات أمام قوة المسلمين لأنهم يعيشون الزلزال النفسي إزاء قوّة المسلمين المتعاظمة، فينطلقون إلى الحرب بهزيمة داخلية قبل الهزيمة في المعركة، ﴿يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ﴾ ويهربون من الساحة، ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ لأنهم لا يملكون مقوّمات النصر والغلبة.
2. وإذا كانوا يعيشون هذه الهزيمة النفسية في حياتهم، فإن ذلك يوحي لهم بعدم الثقة بالنفس ممّا يدفعهم إلى الابتعاد عن الاندماج في المجتمعات الأخرى خوفا من عواقب التحدي، فيظلون على الهامش من ناحية ذاتية، وهذا ما تعبّر عنه الآية: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾ أي: وجدوا، لأنّ قضية العز والذل لا تنبع من خارج الذات بل تنطلق من داخلها، من خلال الشعور بالقوة والاكتفاء والاستقرار الروحي، فإذا فقدت ذلك كنت ذليلا في نفسك وإن أحاطت بك مظاهر العز من حولك، وهذا ما عاشه اليهود في مختلف العصور مع سائر الأمم، فقد كانوا يعيشون هاجس الخوف من الآخرين، مما جعلهم يعيشون العزلة، ويوحون لغيرهم ـ من خلال ذلك ـ باضطهادهم نتيجة فقدان روح المقاومة التي تتحدى الموت عندهم.
3. هكذا كانت القضية في التاريخ، ولكن ذلك لا يمنع من أن يملكوا بعض زمام القوّة في مراحل أخرى من الحاضر والمستقبل، لأنّ الظروف الموضوعية التي تحيط بحركة الحياة، ربما تفسح المجال للذليل أن يكون عزيزا، وللضعيف أن يكون قويّا، لا من جهة العزة والقوة الداخليّتين، بل من جهة ضعف الآخرين، ووقوفهم في مواقع الذلّة؛ وبذلك تمتد لهؤلاء الفرصة ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ﴾ في ما تقدّره من ارتباط المسببّات بأسبابها، ﴿وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ في ما يهيّئونه لهم من وسائل القوّة الخارجية السياسية والعسكرية وغير ذلك.
4. وبهذا كانت المسألة في الآية في موضوع ضرب الذلة على اليهود خاضعة للحالة الذاتية التي يعيشونها على أساس عقدتهم التاريخية في الشعور بالانفصال عن الآخرين، مما يوحي بالانكماش والعزلة الروحيّة التي تختزن الخوف والذلة النفسية، فلا مانع من أن يحصلوا على القوّة من خارج، ومن هنا، لا تبقى أمامنا مشكلة الواقع الذي يعيشه اليهود الآن في سيطرتهم على مقدرات العالم السياسية والمالية من خلال ما استطاعوا أن يحصلوا عليه من مراكز القوى في مختلف أنحاء العالم، الأمر الذي أدّى إلى سيطرتهم على أرض فلسطين وتشريدهم أهلها منها؛ فإن ذلك كان من خلال المعادلات السياسية العالمية التي تمكنوا من استغلالها واللعب على تناقضاتها بمختلف أساليب اللف والدوران، التي كانت تصل بهم إلى أهدافهم من مواقع إثارة حالة الاضطهاد التي عانوها، مما جعل العالم الأوروبي يعيش عقدة الذنب تجاه مشكلتهم.. هذا بالإضافة إلى ضعف المسلمين وانسحابهم من الساحة وتخاذلهم وابتعادهم عن القاعدة الفكرية التي تمنحهم قوّة الروح والموقف؛ مما جعل كل فئة تعيش مشاكلها الخاصة بعيدا عن مشاكل بقية المسلمين، وذلك من خلال الحدود والشخصيات المصطنعة التي وضعت لكل جماعة منهم، فلم يواجهوا المخططات اليهودية بوجه واحد قويّ، بل واجهوها بالأساليب المهزومة الضعيفة؛ وربما حاول الكثيرون منهم أن يشاركوا في دعم تلك المخططات لحساب القوى الاستعمارية الكافرة التي يرتبطون بها سياسيا واقتصاديا وعسكريا.
5. إن خلاصة الفكرة القرآنية هي أن اليهود شعب معقد معزول عن العالم من خلال العقد التاريخية والجرائم الكثيرة التي قام بها تجاه الحياة في مقدساتها وقضاياها.. فلا يمكن له أن يستقل ويتقدم ويأخذ بأسباب العزة من ناحية ذاتية، بل لا بدّ في ذلك من وجود ظروف للآخرين تسهّل لهم مهمة القفز إلى المواقع التي تركها الآخرون أو سهلوا لهم أمر السيطرة عليها.
6. ﴿وباؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ ويَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ﴾ في ضعف الروح التي تعيش الهزيمة، إن السبب في ذلك هو الكفر المستمر بآيات الله التي يظهرها على أيدي أنبيائه الذين لا يتعاطفون معهم، وجرائمهم الكثيرة في قتل الأنبياء بغير حق ومعصيتهم وعدوانهم الأمر الذي فرض عليهم العقوبة في الدنيا والآخرة.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/223.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. عندما أقدم بعض ذوي الضمائر المستيقظة من كبار اليهود مثل عبد الله ابن سلام على ترك دينهم واعتناق الإسلام عمد جمع من رؤوس اليهود إليهم وأنّبوهم لإسلامهم، بل وهددوهم لتركهم دين الآباء، واعتناق الإسلام، فنزلت هذه الآيات لتثبيتهم، وتبشيرهم وتبشير المسلمين بالظفر.
2. تبشر الآية الأولى المسلمين الذين يواجهون ضغوطا شديدة وتهديدات أحيانا من جانب قومهم الكافرين بسبب اعتناق الإسلام، تبشرهم وتعدهم بأنهم منصورون، وأن أهل الكتاب لا يقدرون عليهم ولا تنالهم من جهتهم مضرة، وأن ما سيلحقهم من الأذى من جانبهم لن يكون إلّا طفيفا وعابرا: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾
3. إن هاتين الآيتين تحتويان ـ في الحقيقة ـ على عدّة أخبار غيبية، وبشائر مهمة للمسلمين قد تحقق جميعها في زمن النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم وحياته الشريفة وهي:
أ. إن أهل الكتاب لا يقدرون على إلحاق أي ضرر مهم بالمسلمين، وأن ما يلحقونه بهم لن يكون إلّا أضرارا بسيطة، وعابرة ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾
ب. إنهم لن يثبتوا ـ في القتال ـ أمام المسلمين، بل ينهزمون ويكون الظفر للمسلمين، ولا يجدون ناصرا ولا معينا: ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾
ج. إنهم لن يستطيعوا الوقوف على أقدامهم ولن يتمكنوا من العيش مستقلين، بل سيبقون أذلاء دائما، إلّا أن يعيدوا النظر في سلوكهم، ويسلكوا طريق الله، أو أن يعتمدوا على الآخرين ويستعينوا بقوتهم إلى حين: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾
4. لم يمض على هذه الوعود الإلهية والبشائر المساوية زمن حتّى تحققت برمّتها في حياة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وخاصّة بالنسبة إلى اليهود القاطنين في الحجاز (بني قريظة، وبني النضير، وبني قينقاع، ويهود خيبر وبني المصطلق) الذين آل أمرهم إلى الهزيمة في جميع ميادين القتال والاندحار أمام القوى الإسلامية بعد أن اقترفوا سلسلة من التحرشات والمؤامرات ضد الإسلام والمسلمين.
5. إن الآيات المذكورة وإن لم تصرح باسم اليهود ولكن بقرينة القرائن الموجودة في هذه الآية والآيات السابقة وكذا بقرينة الآية 61 من سورة البقرة ونظائرها ممّا صرّح فيه باسم اليهود يستفاد أن قوله تعالى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ يرتبط باليهود، ويعنيهم، ففي هذا المقطع من الآية يقول سبحانه: أن أمام اليهود طريقين يستطيعون بهما أن يتخلصوا من لباس الذلة: إما أن يعودوا إلى الله، ويعقدوا حبلهم بحبله، وإما أن يتمسكوا بحبل من الناس، ويعتمدوا على هذا وذاك، ويعيشوا ذيولا وأتباعا للآخرين.
6. تعني لفظة ﴿ثُقِفُوا﴾ المأخوذة من (ثقف) على وزن (سقف)، الحذق في إدراك الشيء، والظفر به بمهارة، ويقصد القرآن من ذلك: أن اليهود أينما وجدوا فإنهم يوجدون وقد ختموا بخاتم الذلة على جباههم مهما حاولوا إخفاء ذلك ـ وكان ذلك هي الصفة البارزة لهم بسبب مواقفهم المشينة من تعاليم السماء، ورسالات الأنبياء العظام، إلّا إذا عادوا إلى منهج السماء، أو استعانوا بهذا أو ذاك من الناس لتخليصهم من هذا الذل.
7. التعبير ﴿بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ وإن ذهب المفسّرون فيه إلى احتمالات عديدة، بيد أن ما قد ذكر قريبا يمكن أن يقال بأنه أنسب إلى الآية من بقية الاحتمالات، لأنه عندما يوضع (حبل الله) في قبال (حبل من الناس) يتبين أن هناك معنى متقابلا متفاوتا لهما لا أن الأول بمعنى الإيمان بالله، والثاني بمعنى العهد المعطى لهم من جانب المسلمين على وجه الأمان والذمة.
8. على هذا تكون خلاصة المفهوم من هذه الآية هي: إن على اليهود أن يعيدوا النظر في برنامج حياتهم، ويعودوا إلى الله، ويمسحوا عن أدمغتهم كلّ الأفكار الشيطانية، وكلّ النوايا الشريرة، ويطرحوا النفاق والبغضاء للمسلمين جانبا، أو أن يستمروا في حياتهم النكدة المزيجة بالنفاق، مستعينين بهذا أو ذاك، فأما الإيمان بالله والدخول تحت مظلته وفي حصنه الحصين، وأما الاعتماد على معونة الناس الواهية، والاستمرار في الحياة التعسة.
9. لقد كان أمام اليهود طريقان: إما أن يعودوا إلى منهج الله، وإما أن يبقوا على سلوكهم فيعيشوا أذلاء ما داموا، ولكنهم اختاروا الثاني ولهذا لزمتهم الذلة ﴿وباؤوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾
10. لفظة (باؤوا) تعني في الأصل المراجعة واتخاذ السكنى، وقد استخدمت هنا للكناية عن الاستحقاق فيكون المعنى: أن اليهود بسبب إقامتهم على المعاصي استحقوا الجزاء الإلهي، واختاروا غضب الله كما يختار الإنسان مسكنا ومنزلا للإقامة.
11. لفظة (مسكنة) تعني الذلة والانقطاع الشديد الذي لا تكون معه حيلة أبدا، وهي مأخوذة من السكون أصلا، لأن المساكين لشدة ما بهم من الفقر والضعف لا يقدرون على أية حركة، بل هم سكون وجمود، ثمّ إنه لا بدّ من الالتفات إلى أن المسكين لا يعني المحتاج والمعدم من الناحية المالية خاصّة، بل يشمل هذا الوصف كلّ من عدم الحيلة والقدرة على جميع الأصعدة، فيدخل فيه كلّ ضعف وعجز وافتقار شديد.
12. يرى البعض أن الفرق بين الذلة والمسكنة هو أن الذلة ما كان مفروضا على الإنسان من غيره، بينما تكون المسكنة ناشئة من عقدة الحقارة وازدراء الذات، أي أن المسكين هو من يستهين بشخصيته ومواهبه وذاته، فتكون المسكنة نابعة من داخله، بينما تكون الذلة مفروضة من الخارج، وعلى هذا الأساس يكون مفاد قوله تعالى ﴿وباؤوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾ هو: أن اليهود بسبب إقامتهم على المعاصي وتماديهم في الذنوب أصيبوا بأمرين:
أ. أولا: طردوا من جانب المجتمع وحل عليهم غضب الله سبحانه.
ب. وثانيا: إن هذه الحالة (أي الذلة) أصبحت تدريجا صفة ذاتية لازمة لهم حتّى أنهم رغم كلّ ما يملكون من امكانيات وقدرات مالية وسياسية، يشعرون بحقارة ذاتية، وصغار باطني، ولهذا لا نجد أي استثناء في ذيل هذه الجملة من الآية.
13. هذا هو ما يشير إليه قوله سبحانه إذ يقول: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ وبذلك يشير سبحانه إلى علة هذا المصير الأسود الذي يلازم اليهود، ولا يفارقهم، إنهم لم يصابوا بما أصيبوا به من ذلة ومسكنة، وحقارة وصغار لأسباب قومية عنصرية أو ما شابه ذلك، بل لما كانوا يرتكبونه من الأعمال فهم:
أ. أولا: كانوا ينكرون آيات الله ويكذبون بها.
ب. ثانيا: يصرون على قتل الأنبياء الهداة الذين ما كانوا يريدون سوى إنقاذ الناس من الجهل والخرافة، وتخليصهم من الشقاء والعناء.
ج. ثالثا: إنهم كانوا يرتكبون كلّ فعل قبيح، ويقترفون كلّ جريمة نكراء، ويمارسون كلّ ظلم فظيع، وتجاوز على حقوق الآخرين، ولا شكّ أن أي قوم يرتكبون مثل هذه الأمور يصابون بمثل ما أصيب به اليهود، ويستحقون ما استحقوه من العذاب الأليم والمصير الأسود.
14. إن التاريخ اليهودي الزاخر بالأحداث والوقائع يؤيد ما ذكرته الآيات السابقة تأييدا كاملا، كما أن وضعهم الحاضر هو الآخر خير دليل على هذه الحقيقة، أي أن الذلة اللازمة لليهود والصغار الملتصق بهم أينما حلوا ونزلوا، ليس حكما تشريعيا كما قال بعض المفسّرين، بل هو قضاء تكويني، وهو حكم التاريخ الصارم الذي يقضي بأن يلازم الذلة، ويصاب بالصغار كلّ قوم يتمادون في الطغيان، ويغرقون في الآثام، ويتجاوزون على حقوق الآخرين وحدودهم، ويسعون في إبادة القادة المصلحين والهداة المنقذين، إلّا أن يعيد هؤلاء القوم النظر في سلوكهم، ويغيروا منهجهم وطريقتهم، ويرجعوا ويعودوا إلى الله، أو يربطوا مصيرهم بالآخرين ليعيشوا بعض الأيام في ظل هذا أو ذاك كما هي حال الصهيونية اليوم.
15. إن الصهيونية التي تعادي المسلمين اليوم وتحارب الإسلام نجدها لا تستطيع الوقوف أمام الأخطار التي تهددها إلّا بالاعتماد على الآخرين، وحمايتهم رغم كلّ ما تملك من الثروات والقدرات الذاتية، وكلّ هذا يؤكد ويؤيد ما ذكرته هذه الآيات وما يستفاد منها من الحقائق، ولا شكّ أن هذا الوضع سيستمر بالنسبة إلى اليهود إلّا إذا تخلوا عن سلوكهم العدواني وأعادوا الحقوق إلى أهلها، وعاشوا إلى جانب الآخرين على أساس من الوفاق لا الغصب والعدوان والاحتلال.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/648.
60. الصالحون من الأمم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈60⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 113 ـ 115]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ لا يستوي أهل الكتاب وأمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ صلاة العتمة، هم يصلونها، ومن سواهم من أهل الكتاب لا يصلونها(1).
3. روي أنّه قال: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ هي صلاة الغفلة(2).
__________
(1) البخاري في تاريخه: ٢/٣٠٨.
(2) الثوري في تفسيره: ص٨٠.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قيام الليل مصحة البدن، ورضا الرب، وتمسك بأخلاق النبيين، وتعرض لرحمته(1).
2. روي أنّه قال: جاء رجل إلى الإمام علي فقال: إني قد حرمت الصلاة بالليل؟ فقال الإمام علي: أنت رجل قد قيدتك ذنوبك(2).
__________
(1) التهذيب: 2/121/457.
(2) الكافي: 3/450/34.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾: مهتدية قائمة على أمر الله، لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ جوف الليل(2).
3. روي أنّه قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسد بن سعية، وأسد بن عبيد، ومن أسلم من يهود معهم، فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام؛ قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد وتبعه إلا أشرارنا، ولو كانوا خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله في ذلك: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾(3).
4. روي أنّه قال: بلغني: أن هذه الآية: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ نزلت ما بين المغرب والعشاء(4).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٩٤.
(2) ابن أبي شيبة: ١٣/٣٧٠.
(3) الطبراني في الكبير: ٢/٨٧.
(4) سفيان الثوري في التفسير: ص٧٩.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ عادلة(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٩٣، ٢/٤٨٦.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ هؤلاء أهل الهدى، ليس كل القوم هلك، ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ فزعوا إلى أنفسهم حين تفرقت أمتهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ ساعات من أوله وآخره(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ فزعوا إلى أنفسهم حين تفرقت أمتهم(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾: لن تظلموه(3).
__________
(1) عبد بن حميد: ص٥١.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٣٩.
(3) ابن أبي حاتم: ٣/٧٤٠.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ ليس كل القوم هلك، قد كان لله فيهم بقية(1).
2. روي أنّه قال: ﴿قَائِمَةً﴾ على كتاب الله، وحدود الله، وفرائض الله، وطاعة الله، يؤمنون بالله(2).
3. روي أنّه قال: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾، أي: ساعات الليل(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾: لن يضل عنكم(4).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٩٢.
(2) ابن جرير: ٥/٦٩٤.
(3) ابن جرير: ٥/٦٩٦.
(4) ابن جرير: ٥/٧٠١.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في الآية: هؤلاء اليهود ليسوا كمثل هذه الأمة التي هي قانتة لله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ أما آناء الليل: فجوف الليل(2).
3. روي أنّه قال: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ الآية، ليس هؤلاء اليهود كمثل هذه الأمة التي هي قائمة لله، والقائمة: المطيعة(3).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٩٣.
(2) ابن جرير: ٥/٦٩٦.
(3) ابن جرير: ٥/٦٩٤.
ابن المعتمر:
روي عن منصور بن المعتمر (ت 132 هـ) أنّه قال: بلغني: أنها نزلت: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ فيما بين المغرب والعشاء(1).
__________
(1) عبد الرزاق: ١/١٣١.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ قائمة على كتاب الله، وحدوده، وفرائضه(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٦٩٤.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
روي عن عائذ الأحمسي قال: دخلت على الإمام الصادق وأنا أريد أن أسأله عن صلاة اللّيل؛ فقال من غير أن أسأله: إذا لقيت الله بالصلوات الخمس المفروضات لم يسألك عمّا سوى ذلك(1).
1. روي أنّه قال: شيعتنا أهل الورع والاجتهاد، وأهل الوفاء والأمانة، وأهل الزهد والعبادة، أصحاب الإحدى وخمسين ركعة في اليوم واللّيلة، القائمون باللّيل، الصائمون بالنهار، يزكّون أموالهم، ويحجّون البيت، ويجتنبون كلّ محرّم(2).
__________
(1) الكافي: 3/487/3.
(2) صفات الشيعة: 2/1.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ﴾ يعني: يقرؤون كلام الله: ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ يعني: ساعات الليل، ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ يعني: يصلون بالليل(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ يعني: يصدقون بتوحيد الله، ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ يعني: والبعث الذي فيه جزاء الأعمال، ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يعني: إيمانا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ يعني: عن تكذيب بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ يعني: شرائع الإسلام، ﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾: فلن يضل عنهم، بل يشكر ذلك لهم، ﴿والله عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾(1).
5. روي أنّه قال: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، وذلك أن اليهود قالوا لابن سلام وأصحابه: لقد خسرتم حين استبدلتم بدينكم دينا غيره، وقد عاهدتم الله بعهد ألا تدينوا إلا بدينكم، فقال الله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾(1).
6. روي أنّه قال: ثم أخبر عنهم، فقال سبحانه: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ ليس كفار اليهود والذين في الضلالة بمنزلة ابن سلام وأصحابه؛ الذين هم على دين الله(1).
7. روي أنّه قال: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ ليس كفار اليهود والذين في الضلالة بمنزلة ابن سلام وأصحابه الذين هم على دين الله، منهم: ﴿أُمَّةٍ﴾ عصابة: ﴿قَائِمَةً﴾ بالحق على دين الله، عادلة(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٦.
مالك:
روي عن مالك بن أنس (ت 179 هـ) أنّه قال: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ قائمة بالحق(1).
__________
(1) ابن وهب في الجامع: ٢/١٣٣.
عيينة:
روي عن سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ فوسع الله عليهم في التطوع، في اليهود والأعراب(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٤٠.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ﴾ الآية، أي: لا سواء بين من آمن منهم ـ يعني: من أهل الكتاب ـ ومن لم يؤمن منهم؛ لأن منهم من قد آمن؛ فصاروا أمّة قائمة:
أ. قيل: عادلة، كقوله: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف: 159]
ب. وقيل: أمة قائمة على حدود الله، وفرائضه، وطاعته، وكتابه؛ لم يحرفوه.
ج. وقيل: أمة قائمة مهتدية، وهم الذين آمنوا منهم.
د. وعن ابن مسعود قال ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلون، ولم يكن هذا للأمم السالفة.
هـ. وفي حرف حفصة: (ليس أهل الكتاب ليسوا منهم أمة قائمة)؛ كقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ﴾، كذا: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ الآية [السجدة: 18 ـ 20]
2. قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل قوله: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ أي: يصلون.
ب. ويحتمل ﴿يَسْجُدُونَ﴾ يخضعون، والسجود: هو الخضوع.
قوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. أي: يؤمنون بأنفسهم، ويأمرون غيرهم بالإيمان، ويدعون إليه، ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ يعني: الكفر.
ب. ويحتمل ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ كل معروف، ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ كل منكر، وقد ذكرنا هذا.
3. ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ في الخيرات كلها، ﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ وقيل: مع الصالحين في الجنة، أي: ومن ذلك فعله ـ فهو صالح.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾:
أ. قيل: أي: لن يرد ذلك عليكم؛ بل يقبل؛ بل تجزون به في الآخرة.. أي: كيف يكفره، وهو الشكور الذي يقبل اليسير، ويعطي الجزيل!؟ و
ب. هو في حرف حفصة: (فلن تتركوه): أي: لن تتركوه دون أن تجزوا عليه؛ وإن قل ذلك؛ كقوله: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾ [النساء: 40]
ج. معناه ـ والله أعلم ـ ما ذكر، ﴿وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 35]
د. وقيل: لن يظلمكم.
هـ. وقيل: لن ينقصكم.
و. وقيل: فلن يضل عنكم؛ بل يشكر ذلك لهم، يعني: فلن يضيع ذلك عند الله
5. ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ ظاهر.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/460.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾: أي في أوقات الليل.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 262.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ الذي روينا في سبب نزول هذه الآية أنه لما أسلم عبدالله بن سلام وجماعة قالت أحبار من اليهود ما آمن بمحمد إلا شرارنا فأنزل الله هذه الآية إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أمة قائمة التي قامت بطاعة الله عز وجل ثابتة على أمره.
2. ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ أي ساعات الليل ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ أي يصلون.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/150.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ روي عن ابن عباس أن سبب نزولها أنه أسلم عبد الله بن سلام وجماعة معه، فقالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمد إلّا شرارنا، فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾
2. في قوله تعالى: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: عادلة، وهو قول الحسن، وابن جريج.
ب. الثاني: قائمة بطاعة الله، وهو قول السدي.
ج. الثالث: يعني ثابتة على أمر الله تعالى، وهو قول ابن عباس، وقتادة، والربيع.
3. في قوله تعالى: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: ساعات الليل، وهو قول الحسن، والربيع.
ب. الثاني: جوف الليل، وهو قول السدي.
4. اختلف في المراد بالتلاوة في هذا الوقت على قولين:
أ. أحدهما: صلاة العتمة، وهو قول عبد الله بن مسعود.
ب. الثاني: صلاة المغرب والعشاء، وهو قول الثوري.
5. في قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: يعني سجود الصلاة.
ب. الثاني: يريد الصلاة لأن القراءة لا تكون في السجود ولا في الركوع، وهذا قول الزجاج، والفراء.
ج. الثالث: معناه يتلون آيات الله آناء الليل وهم مع ذلك يسجدون.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/417.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب النزول: قال ابن عباس، وقتادة، وابن جريج سبب نزول هذه الآية أنه لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة معه قالت أحبار اليهود ما آمن بمحمد إلا أشرارنا، فأنزل الله تعالى ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾
2. سؤال وإشكال: لم ذكر مع ﴿سَوَاءٌ﴾ أحد الفريقين دون الآخر، ولا يجوز مثله أن يقول سواء علي قيامك حتى يقول أم قعودك؟ والجواب: عنه جوابان:
أ. أحدهما: أنه محذوف لدلالة ما تقدم من الكلام عليه، كما قال أبو ذؤيب:
çعصاني إليها القلب إني لأمرها...مطيع فما أدري أرشد طلابها؟é
ولم يقل أم غي، لأن الكلام يدل عليه، لأنه كان يهواها فما يبالي أرشد أم غي طلابها، وقال آخر:
çأراك فلا أدري أهم هممته...وذو الهم قدماً خاشع متضائلé
ولم يقل أم غيره، لأن حاله في التغير ينبئ أن الهم غيره أم غيره مما يجري مجراه، وهذا قول الفراء، وضعفه الزجاج، وقال، ليس بنا حاجة إلى تقدير محذوف، لأن ذكر أهل الكتاب قد جرى في قوله: ﴿يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ﴾ فتبين أن فيهم غير المؤمنين، فلا يحتاج أن يقدر وأمة غير قائمة.
ب. الثاني: أن يكون ليسوا سواء منهم الجواد، والشجاع.
3. على القول الأول يكون رفع أمة على معنى الفعل، وتقديره لا يستوي أمة هادية وأمة ضالة، وعلى القول الثاني يكون رفعها بالابتداء، وقال الطبري لا يجوز الاقتصار في سواء على أحد الذكرين دون الآخر، وإنما يجوز في ما أدري وما أبالي، قال الرماني: وهذا غلط، لأنه ذهب عليه الفرق بين الاقتصار والحذف لأن الحذف لا بد فيه من خلف يقوم مقامه، والاقتصار ليس كذلك، لأنه كالاقتصار على أحد المفعولين في أعطيت، وحذفه في حسبت مرتجلا أي لنا، والخلف فيه دلالة الحال، فأما أعطيت زيداً، فلا محذوف فيه، لأنه ليس معه خلف يقوم مقامه.
4. في قوله تعالى: ﴿قَائِمَةً﴾ أربعة أقوال:
أ. قال الحسن وابن جريج معناه عادلة.
ب. وقال ابن عباس، وقتادة، والربيع: معناه ثابتة على أمر الله.
ج. وقال السدي: معناه قائمة بطاعة الله.
د. وقال الأخفش، والزجاج: معناه ذو أمة مستقيمة، وهذا ضعيف لأنه عدول عن الظاهر في أمة والحذف لا دلالة عليه.
5. ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ قيل في واحده قولان:
أ. أحدهما: أني مثل نجي.
ب. الثاني: اني مثل معي، وحكى الأخفش أنو، والجمع أناء، قال الشاعر:
çحلو ومر كعطف القدح مرته...بكل اني حداه الليل ينتعلé
وروي ينتشر.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾:
أ. قال الحسن، والربيع، وعبد الله بن كثير: معناه ساعات الليل.
ب. وقال ابن مسعود يريد صلاة العتمة، لأن أهل الكتاب لا يعلمونها.
ج. وقال الثوري عن منصور: هو الصلاة بين المغرب والعشاء.
د. وقال السدي: يعني جوف الليل.
7. في قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: السجود المعروف في الصلاة.
ب. الثاني: قال الفراء، والزجاج معناه يصلون، وبه قال البلخي، وغيره، لأن القراءة لا تكون في السجود، ولا في الركوع، وهذا ترك للظاهر، وعدول عنه.
8. معنى الآية يتلون آيات الله آناء الليل وهم مع ذلك يسجدون، فليست الواو حالا، وإنما هي عطف جملة على جملة.
9. الضمير في قوله ﴿لَيْسُوا﴾ عائد على أهل الكتاب، لتقدم ذكرهم، وقال أبو عبيدة هو على لغة أكلوني البراغيث، ومثله قوله: ﴿عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ وقال الشاعر:
çرأين الغواني الشيب لاح بعارضي...فاعرضن عني بالخدود النواضرé
قال الرماني: وهذا غلط، لأن هذه اللغة ردية في القياس والاستعمال أما القياس، فلان الجمع عارض، والعارض لا يؤكد علامته، لأنه بمنزلة ما لا يعتد به، في سائر أبواب العربية وليس كالثابت للزومه فتقدم له العلامة لتؤذن به قبل ذكره ومع ذلك فجائز تركها فيه، فكيف بالعارض، ولزوم الفعل للفاعل يغني عن التثنية والجمع فيه، فلا يدخل جمع على جمع كما لا يدخل تعريف على تعريف، وأما الاستعمال، فلان أكثر العرب على خلافه.
10. ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ هذه الآية فيها صفة الذين ذكرهم في الآية التي قبلها في قوله: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ فأضاف إلى ذلك أنهم مع ذلك يصدقون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
11. بينا أن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، وأنه ليس طريق وجوبهما العقل، وإنما طريق وجوبهما السمع، وعليه إجماع الأمة، وإنما الواجب بالعقل كراهة المنكر، فقط غير أنه إذا ثبت بالسمع وجوبه، فعلينا إزالة المنكر بما يقدر عليه من الأمور الحسنة دون القبيحة، لأنه لا يجوز إزالة قبيح بقبيح آخر، وليس لنا أن نترك أحداً يعمل بالمعاصي إذا أمكننا منعه منها سواء كانت المعصية من أفعال القلوب مثل اظهار المذاهب الفاسدة أو من أفعال الجوارح، ثم ننظر، فان أمكننا إزالته بالقول، فلا نزيد عليه، وان لم يمكن إلا بالمنع من غير إضرار لم نزد عليه، فان لم يتم إلا بالدفع بالحرب، فعلناه على ما بيناه فيما تقدم، وان كان عند أكثر أصحابنا(2) هذا الجنس موقوف على السلطان أو اذنه في ذلك، وانكار المذاهب الفاسدة، لا يكون إلا بإقامة الحجج والبراهين والدعاء إلى الحق، وكذلك إنكار أهل الذمة فأما الإنكار باليد، فمقصور على من يفعل شيئاً من معاصي الجوارح، أو يكون باغياً على إمام الحق، فإنه يجب علينا قتاله ودفعه حتى يفيء إلى الحق، وسبيلهم سبيل أهل الحرب، فان الإنكار عليهم باليد والقتال حتى يرجعوا إلى الإسلام أو يدخلوا في الذمة.
12. قوله تعالى: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: أنهم يبادرون إليها خوف الفوات بالموت.
ب. الثاني: يعملونها غير متثاقلين فيها لعلمهم بجلالة موقعها، وحسن عاقبتها.
13. الفرق بين السرعة والعجلة ان السرعة هي التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه وهي محمودة وضدها الإبطاء وهو مذموم، والعجلة هي التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه وهي مذمومة وضدها الاناة وهي محمودة.
14. ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر بالياء فيهما، الباقون بالتاء إلا أبا عمرو، فانه كان يخير، ووجه القراءة بالياء أن يكون كناية عمن تقدم ذكره من أهل الكتاب ليكون الكلام على طريقة واحدة، ووجه التاء أن يخلطهم بغيرهم من المكلفين، ويكون خطاباً للجميع في أن حكمهم واحد.
15. إنما جوزي بـ (ما) ولم يجاز بـ (كيف) لأن (ما) أمكن من (كيف) لأنها تكون معرفة ونكرة، لأنها للجنس و(كيف) لا تكون إلا نكرة، لأنها للحال، والحال لا تكون إلا نكرة، لأنها للفائدة.
16. ﴿فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ مجاز كما أن الصفة لله بأنه شاكر مجاز، وحقيقته أنه يثيب على الطاعة ثواب الشاكر على النعمة، فلما استعير للثواب الشكر واستعير لنقيضه من منع الثواب الكفر، لأن الشكر في الأصل هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، والكفر ستر النعمة من المنعم عليه بتضييع حقها.
17. معنى ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ لن يمنعوا ثوابه، وسمي منع الجزاء كفراً، لأنه بمنزلة الجحد له بستره، لأن أصل الكفر الستر، ولذلك قيل لجاحد نعم الله ومن جرى مجراه في الامتناع من القيام بحقها: كافر، فالكافر هو المضيع لحق نعمة الله بما يجري مجرى الجحود.
18. ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ إنما خص المتقين بالذكر، لأن الكلام اقتضى ذكر جزاء المتقين، فدل على أنه لا يضيع شيء من عملهم، لأن المجازي به عليم، وأنهم أمرهم أمر الفجار تعويلا على ما ذكره في غيرها من أي الوعيد.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/563.
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. سواء يقتضي شيئين اثنين فصاعدًا.
ب. الأمة: الجماعة، والأمة: الطريقة، وأصله القصد.
ج. آناء الليل: ساعاته، واحده إِنْيٌ، نحو: نِحْيُ [وأنحاء]، وإِنىً نحو مِعىً وأمعاء.
د. المسارعة: المبادرة، وهو من السرعة، وهو التقدم فيما ينبغي التقدم إليه، وهو محمود، والعجلة: التقدم إلى ما لا ينبغي أن يتقدم إليه، وهو مذموم.
هـ. خير: جمع، واحدها خيرة، تقول: هذه خصلة خيرة إذا وصفت، والكفر أصله الستر، وسمي ستر النعمة كفرًا وترك شكرها كفرًا؛ لأنه بمنزلة الجحود والستر له، وكذلك سمي منع الجزاء كفرًا لهذا المعنى.
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾:
أ. قيل: لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة معه قالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين الآباء، وقالوا لهم: قد خسرتم حين استبدلتم الدين، فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن ابن عباس وقتادة وابن جريج ومقاتل.
ب. وعن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أخر صلاة العشاء ثم خرج فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: أما إنه ليس أحد من أهل هذه الأديان يذكر الله في هذه الساعة غيركم، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾
ج. وروى الثوري عن منصور قال: بلغني أنها نزلت في قوم كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء.
د. وعن عطاء أنها نزلت في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى، وصدقوا محمدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم.
3. لما تقدم وصف الفريقين بيّن صفتهما فقال تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾، واختلفوا في تقدير الآية والحذف فيها لما ذكر أحد الفريقين مع قوله: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾:
أ. فقال بعضهم: فيه اختصار وحذف يدل الكلام عليه، تقديره: ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة، وأخرى غير قائمة، فترك الأخرى اكتفاء بذكر الفريقين، كقول أبي ذؤيب:
çعَصَاني إليها القلبُ إنني لِأمْرِهِ... مُطِيع فَمَا أَدْري أَرُشْدٌ طِلَابُهَاé
ولم يقل: أَمْ غيّ؛ لأن في الكلام ما يدل عليه، وهذا مذهب الفراء.
ب. وقال آخرون: تمام الكلام عند قوله: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾، وهو وقف؛ لأن ذكر الفريقين من أهل الكتاب قد جرى في قوله: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ثم قال: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ ثم وصف الفاسقين بقوله: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾، ووصف المؤمنين بقوله: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾، وهذا مذهب الزجاج وجماعة.
ج. وقيل: لا يستوي اليهود وأمة محمد، عن ابن مسعود.
4. معنى ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ أي لا يستوون؛ يعني في أحكام الدنيا، ولا في الثواب في الآخرة ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾:
أ. أي جماعة هم الَّذِينَ أسلموا عن أكثر المفسرين.
ب. وقيل: معناه ذو طريقة مستقيمة، والأمة الطريقة، عن الزجاج، وقال علي بن عيسى: وهذا لا يصح؛ لأنه عدول عن الظاهر وحكم بالحذف من غير دليل.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قَائِمَةً﴾:
أ. قيل: ثابتة على أمر الله، عن ابن عباس وقتادة والربيع.
ب. وقيل: عادلة، عن الحسن وابن جريج ومجاهد.
ج. وقيل: قائمة بطاعة الله، عن السدي.
د. وقيل: دائمة، عن الأخفش.
هـ. وقيل: قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَتْلُونَ﴾:
أ. قيل: يقرؤون.
ب. وقيل: يتبعون، عن مجاهد.
7. ﴿آيَاتِ اللهِ﴾ كتاب الله وهو القرآن.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾:
أ. قيل: ساعاته وأوقاته، عن الحسن والربيع وأبي مسلم.
ب. وقيل: جوف الليل، عن السدي.
ج. وقيل: أراد به صلاة العتمة؛ لأن أهل الكتاب لا يصلونها، عن ابن مسعود.
د. وقيل: يصلون بما يتلون من آيات الله، تقديره: يتلون آيات الله بالليل وصلاتهم، عن الأصم وأبي علي.
هـ. وقيل: هي صلاة ما بين المغرب والعشاء عن الثوري عن منصور.
و. وقيل: هو قيام الليل.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾:
أ. قيل: أراد السجود المعروف في الصلاة.
ب. وقيل: معناه يصلون؛ لأن الصلاة لا تخلو من سجود، عن الزجاج والفراء.
ج. وقيل: يخضعون.
10. قال علي بن عيسى: وليست الواو حالاً، وإنما هو عطف جملة على جملة، وعلى ما قاله الأصم وأبو علي هو واو الحال على ما قررنا.
11. ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ بتوحيده وعدله وصفاته ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ يعني بالبعث يوم القيامة، وسمي آخرًا لتأخره عن الدنيا ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي بالطاعات ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ عن المعاصي.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾:
أ. قيل: أي الأعمال الصالحة خوف الفوت وقبل حلول الموت.
ب. وقيل: يفعلونها لا على وجه الكسل.
13. ﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي من جبتهم وفي عدادهم ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ من طاعة ﴿فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ أي لا يُمْنَعُ عنهم جزاؤه، فسمي منع الجزاء كفرًا؛ لأنه بمنزلة الجحد والستر له، ومعناه: لا تجحد طاعاتهم ولا تستر بمنع الجزاء، قال أبو علي: وهو توسع، ويوصف الله تعالى بأنه شاكر توسعًا، معناه: أنه يثيب على الطاعة كما يثيب الشاكرين على النعمة، فلما استعير للثواب الشكر استعير لنقيضه منع الثواب الكفر.
14. ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ أي بأحوالهم فيجازيهم، والمتقي من يتقي معاصيه، وخصهم بالذكر ولو كان عليمًا بالكل؛ لأن الكلام اقتضى ذكر جزاء المتقين، فنبه بذلك على أنه لا يضيع شيء من عملهم قَلَّ أو كثر؛ لأن المجازي عليم بكل ذلك.
15. تدل الآيات الكريمة على:
أ. التفرقة بين الفريقين وأن تلك التفرقة بالطاعة والمعصية، ولو كان كل واحد منهما خلقًا لله وهما محلان لاستويا في استحقاق المدح والذم.
ب. عظيم محل صلاة الليل.
ج. أن شيئًا من أعمال الخير لا يبطل البتة، وذلك يؤيد قول أبي هاشم في الموازنة؛ لأنه إما أن يصل إليه ثوابه أو ينقص من عقابه، خلاف قول أبي علي: إنه ينحبط.
د. الترغيب في الخيرات، وذلك اسم لجميع الطاعات لما عليها من الثواب الجزيل.
16. قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ﴿وَمَا يَفْعَلُوا﴾ ﴿فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ بالياء كناية فيهما عمن تقدم ذكره من أهل الكتاب، ليكون الكلام على منهاج واحد، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بالتاء فيهما على المخاطبة، فخلطهم بغيرهم من المكلفين في الخطاب، وكان أبو عمرو يروي القراءتين بالياء والتاء.
17. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿لَيْسَ﴾ يرفع الاسم وينصب الخبر، وقيل ﴿سَوَاءٌ﴾ خبره، والاسم مضمر؛ عن الأخفش وجماعة من النحاة، وقيل: خبره متأخر، وهو قوله: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ فكنى عنهم، عن أبي عبيدة، وحمله على قولهم: أكلوني البراغيث)، قال علي بن عيسى: وذلك غلط؛ لأنها لغة رديئة في القياس والاستعمال، وقيل: خبره متقدم، وهم أهل الكتاب في قوله: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾
ب. ﴿أُمَّة﴾ رفع قيل: على الابتداء و﴿قَائِمَةً﴾ خبره، ويحتمل قائمة صفة الأمة، وخبره ﴿يَتْلُونَ﴾، وقيل ﴿أُمَّة﴾ رفع على تقدير الخبر، كأنه قيل: لا يستوي أمة هادية، وأمة ضالة، وعبر عن فريقين بـ ﴿لَيْسُوا﴾؛ لأنها جماعة، كقوله: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/349.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. آناء: قيل في واحده قولان: أحدهما: إني مثل نحي، والاخر: إني مثل معي، قال الشاعر: حلو، ومر، كعطف القدح مرته، بكل إني قضاه الليل ينتعل وحكى الأخفش: أنو بالواو.
ب. المسارعة: المبادرة، وهي من السرعة، والفرق بين السرعة والعجلة أن السرعة هي التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه، وهي محمودة، وضدها الابطاء، وهو مذموم، والعجلة: هي التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه، وهي مذمومة، وضدها الأناة، وهي محمودة.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: سبب نزول هذه الآية: أنه لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة، قالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا شرارنا، فأنزل الله ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ إلى قوله ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ عن ابن عباس وقتادة وابن جريج.
ب. وقيل: إنها نزلت في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم، كانوا على عهد عيسى عليه السلام، فصدقوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن عطا.
3. ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ اختلفوا في تقديره:
أ. والقول الصحيح أن هذا وقف تام، ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ ابتداء كلام، ومعناه: ليس الذين ذكرنا من أهل الكتاب سواء أي: ليس الذين آمنوا من أهل الكتاب ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ كعبد الله بن سلام وأصحابه، والذين لم يؤمنوا، سواء في الدرجة والمنزلة، ثم استأنف، وبين افتراقهم فقال: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ فحصل بهذا بيان الافتراق، وهذا كما لو أخبر القائل عن قوم بخبر فقال: بنو فلان يعملون كذا وكذا، ثم قال: ليسوا سواء، فإن منهم من يفعل كذا وكذا، وكذلك لو ذم قبيلة بالبخل والجبن، فقال غيره: ليسوا سواء، منهم الجواد، ومنهم الشجاع، فيكون منهم الجواد، ومنهم الشجاع، ابتداء كلام.
ب. وقال أبو عبيدة: هو على لغة أكلوني البراغيث، ومثله قوله تعالى: ﴿ثم عصوا وصموا كثير منهم﴾ وقال الشاعر:
çرأين الغواني الشيب لاح بعارضي... فأعرضن عني بالخدود النواضرé
قال الزجاج والرماني: وليس الامر كما قال، لان ذكر أهل الكتاب قد جرى، فأخبر الله أنهم غير متساويين، ولأن هذه اللغة رديئة في القيام والاستعمال.
ج. وقال الفراء: المعنى منهم أمة قائمة، وأمة غير قائمة، اكتفاء بذكر أحد الفريقين، كما قال أبو ذويب:
çعصيت إليها القلب، إني لأمرها مطيع... فما أدري أرشد طلابهاé
ولم يقل أم غي، وقال آخر:
çأواك فلا أدري أهم هممته... وذو الهم قدما خاشع متضائلé
ولم يقل: أم غيره، لان حاله في التغير ينبئ أن الهم غيره أم غيره، فعلى هذا يكون رفع أمة على معنى الفعل، وتقديره: لا يستوي أمة هادية، وأمة ضالة، وعلى القول الأول رفع بالابتداء، وأنكر الزجاج هذا القول، وقال: ما بنا حاجة هنا إلى محذوف، لان ذكر الفريقين قد جرى في قوله منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون، ثم قال: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾، ولا يحتاج إلى أن يقدروا أمة غير قائمة، وقد تقدم صفتهم في قوله: ﴿ويكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء﴾.
4. في قوله تعالى: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ وجوه:
أ. أحدها: إن معناها جماعة ثابتة على أمر الله، عن ابن عباس وقتادة والربيع.
ب. وثانيها: عادلة، عن الحسن ومجاهد وابن جريج.
ج. وثالثها: قائمة بطاعة الله، عن السدي.
د. ورابعها: إن التقدير: ذو أمة قائمة أي: ذو طريقة مستقيمة، عن الزجاج.
وأنشد للنابغة: (وهل يأتمر ذو أمة وهو طائع) أي: ذو طريقة من طرائق الدين، قال علي بن عيسى: وهذا القول ضعيف لأنه عدول عن الظاهر، وحكم بالحذف من غير دلالة.
5. ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ﴾: يقرأون كتاب الله وهو القرآن ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾:
أ. قيل: ساعاته وأوقاته، عن الحسن والربيع.
ب. وقيل: يعني جوف الليل، عن السدي.
ج. وقيل: أراد به وقت صلاة العتمة، لان أهل الكتاب لا يصلونها، يعني أنهم يصلون صلاة العتمة، عن ابن مسعود.
د. وقيل: إنه الصلاة ما بين المغرب والعشاء الآخرة، عن الثوري، وهي الساعة التي تسمى ساعة الغفلة.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾:
أ. قيل: أراد السجود المعروف في الصلاة، فعلى هذا يكون معناه: وهم مع ذلك يسجدون، ويكون الواو لعطف جملة على جملة.
ب. وقيل: معناه يصلون بغير السجود، فعبر بالسجود عن الصلاة، لان السجود أبلغ الأركان في التواضع، عن الزجاج والفراء والبلخي، قالوا: لان القراءة لا تكون في السجود، ولا في الركوع، وعلى هذا يكون الواو للحال أي: يتلون آيات الله بالليل في صلاتهم، هو قول الجبائي أيضا.
7. ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ أي: بتوحيده وصفاته ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ المتأخر عن الدنيا، يعني البعث يوم القيامة، ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بالاقرار بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ عن إنكار نبوته.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾:
أ. قيل: أي: يبادرون إلى فعل الخيرات والطاعات، خوف الفوات بالموت.
ب. وقيل: معناه يعملون الأعمال الصالحة غير متثاقلين فيها، لعلمهم بجلالة موقعها، وحسن عاقبتها.
9. ﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي: من جملتهم، وفي عدادهم، وهذا نفي لقولهم: ما آمن به إلا شرارنا.
10. في هذه الآية دلالة على عظم موقع صلاة الليل من الله تعالى، وقد صح عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل الأخير، خير له من الدنيا وما فيها، ولولا أني أشق على أمتي لفرضتها عليهم، وقال أبو عبد الله: إن البيوت التي يصلى فيها بالليل بتلاوة القرآن، تضئ لأهل السماء، كما تضئ نجوم السماء لأهل الأرض، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: عليكم بصلاة الليل، فإنها سنة نبيكم، ودأب الصالحين قبلكم، ومطردة الداء عن أجسادكم.
11. ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ أي: من طاعة ﴿فلن تكفروه﴾ أي: لم يمنع عنكم جزاؤه، وسمي منع الجزاء كفرا على الاتساع، لأنه بمنزلة الجحد، والستر له، ومعناه: لا تجحد طاعتكم، ولا تستر بمنع الجزاء، وهذا كما يوصف الله تعالى بأنه شاكر، وحقيقته أنه يثيب على الطاعة ثواب الشاكرين على النعمة، فلما استعير للثواب للشكر، استعير لنقيضه من منع الثواب الكفر، لان الشكر في الأصل هو الاعتراف بالنعمة، والكفر: ستر النعمة في المنعم عليه بتضييع حقها.
12. ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ أي: بأحوالهم فيجازيهم، وإنما خص المتقين بالذكر، وإن كان عليما بالكل، لان الكلام اقتضى ذكر جزاء المتقين، فنبه بذلك على أنه لا يضيع شيء من عملهم، قل أم كثر، لان المجازي عليهم بكل ذلك.
13. هذه الآية تدل على أن شيئا من أعمال الخير والطاعة لا يبطل البتة، خلافا لقول من قال بالاحباط.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/815.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾، في سبب نزولها قولان:
أ. أحدهما: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، احتبس عن صلاة العشاء ليلة حتى ذهب ثلث الليل، ثم جاء فبشّرهم، فقال: (إنّه لا يصلّي هذه الصّلاة أحد من أهل الكتاب)، فنزلت هذه الآية، قاله ابن مسعود.
ب. الثاني: أنه لمّا أسلم ابن سلام في جماعة من اليهود، قال أحبارهم: ما آمن بمحمّد إلا أشرارنا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس، ومقاتل.
2. في معنى الآية قولان:
أ. أحدهما: ليس أمّة محمّد واليهود سواء، هذا قول ابن مسعود، والسّدّيّ.
ب. الثاني: ليس اليهود كلّهم سواء، بل فيهم من هو قائم بأمر الله، هذا قول ابن عباس، وقتادة، وقال الزجّاج: الوقف التّامّ ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ أي: أهل الكتاب متساوين.
3. في معنى ﴿قَائِمَةً﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنها الثّابتة على أمر الله، قاله ابن عباس، وقتادة.
ب. الثاني: أنها العادلة، قاله الحسن، ومجاهد، وابن جريج.
ج. الثالث: أنها المستقيمة، قاله أبو عبيد، والزجاج، قال الفرّاء: ذكر أمّة واحدة ولم يذكر بعدها أخرى، والكلام مبنيّ على أخرى، لأن (سواء) لا بدّ لها من اثنين، وقد تستجيز العرب إضمار أحد الشّيئين إذا كان في الكلام دليل عليه، قال أبو ذؤيب:
çعصيت إليها القلب إنّي لأمره...سميع فما أدري أرشد طلابها!؟é
ولم يقل: أم لا، ولا أم غيّ، لأنّ الكلام معروف المعنى، وقال آخر:
çوما أدري إذا يمّمت أرضا...أريد الخير أيّهما يليني
ألخير الذي أنا أبتغيه...أم الشّرّ الذي هو يبتغينيé
ومثله قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا﴾ ولم يذكر ضدّه، لأن في قوله: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، دليلا على ما أضمر من ذلك، وقد ردّ هذا القول الزجّاج، فقال: قد جرى ذكر أهل الكتاب في قوله تعالى: ﴿كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ فأعلم الله أنّ منهم أمة قائمة، فما الحاجة إلى أن يقال: وأمّة غير قائمة؟ وإنما بدأ بذكر فعل الأكثر منهم، وهو الكفر والمشاقّة، فذكر من كان منهم مباينا لهؤلاء.
4. ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ ساعاته، وواحد الآناء: إني، قال ابن فارس: يقال: مضى من الليل إني وإنيان، والجمع: الآناء، واختلف المفسرون: هل هذه الآناء معيّنة من الليل أم لا؟ على قولين:
أ. أحدهما: أنها معيّنة، ثم فيها ثلاثة أقوال:
• أحدها: أنها صلاة العشاء، قاله ابن مسعود، ومجاهد.
• الثاني: أنّها ما بين المغرب والعشاء، رواه سفيان عن منصور.
• الثالث: جوف الليل، قاله السّدّيّ.
ب. الثاني: أنها ساعات الليل من غير تعيين، قاله قتادة في آخرين.
5. في قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه كناية عن الصلاة، قاله مقاتل، والفراء، والزجّاج.
ب. الثاني: أنه السّجود المعروف، وليس المراد أنهم يتلون في حال السجود، ولكنهم جمعوا الأمرين، التلاوة والسّجود.
6. ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: تفعلوا، وتكفروه، بالتاء في الموضعين على الخطاب، لقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾، قال قتادة: فلن تكفروه: لن يضلّ عنكم، وقرأ قوم، منهم: حمزة، والكسائيّ، وحفص عن عاصم، وعبد الوارث عن أبي عمرو: يفعلوا، ويكفروه، بالياء فيهما، إخبارا عن الأمّة القائمة، وبقيّة أصحاب أبي عمرو يخيّرون بين الياء والتاء.
__________
(1) زاد المسير: 1/317.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن قوله: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ كلام تام، وقوله: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ كلام مستأنف لبيان قوله: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ كما وقع قوله: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [آل عمران: 110] بياناً لقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ [آل عمران: 110] والمعنى أن أهل الكتاب الذين سبق ذكرهم ليسوا سواء، وهو تقرير لما تقدم من قوله: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، ثم ابتدأ فقال: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ وعلى هذا القول احتمالان.
• أحدهما: أنه لما قال: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ وكان تمام الكلام أن يقال: ومنهم أمة مذمومة، إلا أنه أضمر ذكر الأمة المذمومة على مذهب العرب من أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الضد الآخر وتحقيقه أن الضدين يعلمان معاً، فذكر أحدهما يستقل بإفادة العلم بهما، فلا جرم يحسن إهمال الضد الآخر.
قال أبو ذؤيب:
çدعاني إليها القلب إني لامرؤ...مطيع فلا أدري أرشد طلابهاé
أراد (أم غي) فاكتفى بذكر الرشد عن ذكر الغي، وهذا قول الفراء وابن الأنباري.
• وقال الزجاج: لا حاجة إلى إضمار الأمة المذمومة، لأن ذكر الأمة المذمومة قد جرى فيما قبل هذه الآيات فلا حاجة إلى إضمارها مرة أخرى، لأنا قد ذكرنا أنه لما كان العلم بالضدين معاً كان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر، وهذا كما يقال زيد وعبد الله لا يستويان زيد عاقل دين زكي، فيغني هذا عن أن يقال: وعبد الله ليس كذلك، فكذا هاهنا لما تقدم قوله: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ أغنى ذلك عن الإضمار.
ب. الثاني: أن قوله: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ كلام غير تام ولا يجوز الوقت عنده، بل هو متعلق بما بعده، والتقدير: ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة وأمة مذمومة، فأمة رفع بليس، وإنما قيل ﴿لَيْسُوا﴾ على مذهب من يقول: أكلوني البراغيث، وعلى هذا التقدير لا بد من إضمار الأمة المذمومة وهو اختيار أبي عبيدة إلا أن أكثر النحويين أنكروا هذا القول لاتفاق الأكثرين على أن قوله أكلوني البراغيث وأمثالها لغة ركيكة.
2. ﴿سَوَاءٌ﴾ يقال فلان وفلان سواء، أي متساويان وقوم سواء، لأنه مصدر لا يثنى ولا يجمع ومضى الكلام في ﴿سَوَاءٌ﴾ في أول سورة البقرة.
3. في المراد بأهل الكتاب هنا قولان:
أ. الأول: وعليه الجمهور: أن المراد منه الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام:
• روي أنه لما أسلم عبد الله بن سلّام وأصحابه قال لهم بعض كبار اليهود: لقد كفرتم وخسرتم، فأنزل الله تعالى لبيان فضلهم هذه الآية.
• وقيل: إنه تعالى لما وصف أهل الكتاب في الآية المتقدمة بالصفات المذمومة ذكر هذه الآية لبيان أن كل أهل الكتاب ليسوا كذلك، بل فيهم من يكون موصوفاً بالصفات الحميدة والخصال المرضية، قال الثوري: بلغني أنها نزلت في قوم كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء، وعن عطاء: أنها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثلاثة من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. الثاني: أن يكون المراد بأهل الكتاب كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان، وعلى هذا القول يكون المسلمون من جملتهم، قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر: 32]، ومما يدل على هذا ما روى ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أخر صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: (أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى هذه الساعة غيركم) وقرأ هذه الآية، قال القفال: ولا يبعد أن يقال: أولئك الحاضرون كانوا نفراً من مؤمني أهل الكتاب، فقيل ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فأقاموا صلاة العتمة في الساعة التي ينام فيها غيرهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا، ولم يبعد أيضاً أن يقال: المراد كل من آمن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فسماهم الله بأهل الكتاب، كأنه قيل: أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة والمسلمون الذين سماهم الله بأهل الكتاب حالهم وصفتهم هكذا، يستويان؟ فيكون الغرض من هذه الآية تقرير فضيلة أهل الإسلام تأكيداً لما تقدم من قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ [آل عمران: 110] وهو كقوله: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ﴾ [السجدة: 18]
4. مدح الله تعالى الأمة المذكورة في هذه الآية بصفات ثمانية، الأولى: أنها قائمة وفيها أقوال:
أ. الأول: أنها قائمة في الصلاة يتلون آيات الله آناء الليل فعبّر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل وهو كقوله: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ [الفرقان: 64]، وقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ [المزمل: 20]، وقوله: ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ [المزمل: 2]، وقوله: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238]، والذي يدل على أن المراد من هذا القيام في الصلاة قوله: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ والظاهر أن السجدة لا تكون إلا في الصلاة.
ب. الثاني: أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق ملازمة له غير مضطربة في التمسك به كقوله: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ [آل عمران: 75] أي ملازماً للاقتضاء ثابتاً على المطالبة مستقصياً فيها، ومنه قوله تعالى: ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: 18]، وهذه الآية دلّت على كون المسلم قائماً بحق العبودية وقوله: ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ يدل على أن المولى قائم بحق الربوبية في العدل والإحسان فتمت المعاهدة بفضل الله تعالى كما قال ﴿أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: 40] وهذا قول الحسن البصري، واحتج عليه بما روي أن عمر بن الخطاب قال يا رسول الله: إن أناساً من أهل الكتاب يحدثوننا بما يعجبنا فلو كتبناه، فغضب صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: (أمتهوكون أنتم يا ابن الخطاب كما تهوكت اليهود ـ قال الحسن: متحيرون مترددون ـ أما والذي نفسي بيده لقد أتيتكم بها بيضاء نقية) وفي رواية أخرى قال عند ذلك: (إنكم لم تكلفوا أن تعملوا بما في التوراة والإنجيل وإنما أمرتم أن تؤمنوا بهما وتفوضوا علمهما إلى الله تعالى، وكلفتم أن تؤمنوا بما أنزل علي في هذا الوحي غدوةً وعشياً والذي نفس محمد بيده لو أدركني إبراهيم وموسى وعيسى لآمنوا بي واتبعوني)، فهذا الخبر يدل على أن الثبات على هذا الدين واجب وعدم التعلق بغيره واجب، فلا جرم مدحهم الله في هذه الآية بذلك فقال: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾
ج. الثالث: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ أي مستقيمة عادلة من قولك: أقمت العود فقام بمعنى استقام، وهذا كالتقرير لقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾
5. الصفة الثانية للأمة المذكورة في هذه الآية هي ما عبّر عنه قوله تعالى: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾:
أ. (يتلون ويؤمنون) في محل الرفع صفتان لقوله: ﴿أُمَّةٍ﴾ أي أمة قائمة تالون مؤمنون، والتلاوة القراءة وأصل الكلمة من الاتباع فكأن التلاوة هي اتباع اللفظ اللفظ.
ب. وآيات الله قد يراد بها آيات القرآن، وقد يراد بها أصناف مخلوقاته التي هي دالة على ذاته وصفاته والمراد هاهنا الأولى.
ج. ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ أصلها في اللغة الأوقات والساعات وواحدها إنا، مثل: معي وأمعاء وإني مثل نحى وإنحاء، مكسور الأول ساكن الثاني، قال القفال رحمه الله، كأن الثاني مأخوذ منه لأنه انتظار الساعات والأوقات، وفي الخبر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال للرجل الذي أخر المجيء إلى الجمعة (آذيت وآنيت) أي دافعت الأوقات.
6. الصفة الثالثة للأمة المذكورة في هذه الآية هي ما عبّر عنه قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾، وفيه وجوه.
أ. الأول: يحتمل أن يكون حالًا من التلاوة كأنهم يقرؤون القرآن في السجدة مبالغة في الخضوع والخشوع إلا أن القفال رحمه الله روى في (تفسيره) حديثاً: أن ذلك غير جائز، وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألا إني نهيت أن أقرأ راكعاً أو ساجداً)
ب. الثاني: يحتمل أن يكون كلاماً مستقلًا والمعنى أنهم يقومون تارة يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله تعالى وهو كقوله: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ [الفرقان: 64] وقوله: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر: 9] قال الحسن: يريح رأسه بقدميه وقدميه برأسه، وهذا على معنى إرادة الراحة وإزالة التعب وإحداث النشاط.
ج. الثالث: يحتمل أن يكون المراد بقوله: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ أنهم يصلون وصفهم بالتهجد بالليل والصلاة تسمى سجوداً وسجدة وركوعاً وركعة وتسبيحاً وتسبيحة، قال تعالى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43] أي صلوا وقال: ﴿فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: 17] والمراد الصلاة.
د. الرابع: يحتمل أن يكون المراد بقوله: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ أي يخضعون ويخشعون لله لأن العرب تسمي الخشوع سجوداً كقوله: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [النحل: 49] وكل هذه الوجوه ذكرها القفال رحمه الله.
7. الصفة الرابعة للأمة المذكورة في هذه الآية هي ما عبّر عنه قوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، اليهود كانوا أيضاً يقومون في الليالي للتهجد وقراءة التوراة، فلما مدح المؤمنين بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وقد بينا أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من المعاصي، وهؤلاء اليهود ينكرون أنبياء الله ولا يحترزون عن معاصي الله، فلم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ والمعاد.
8. كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، وأفضل الأعمال الصلاة وأفضل الأذكار ذكر الله، وأفضل المعارف معرفة المبدأ ومعرفة المعاد، فقوله: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ إشارة إلى الأعمال الصالحة الصادرة عنهم، وقوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ إشارة إلى فضل المعارف الحاصلة في قلوبهم فكان هذا إشارة إلى كمال حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية، وذلك أكمل أحوال الإنسان، وهي المرتبة التي يقال لها: إنها آخر درجات الإنسانية وأول درجات الملكية.
9. الصفة الخامسة للأمة المذكورة في هذه الآية هي ما عبّر عنه قوله تعالى: ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾، والسادسة هي ما عبّر عنه قوله تعالى: ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾: الغاية القصوى في الكمال أن يكون تاماً وفوق التمام فكون الإنسان تاماً ليس إلا في كمال قوته العملية والنظرية وقد تقدم ذكره، وكونه فوق التمام أن يسعى في تكميل الناقصين، وذلك بطريقين، إما بإرشادهم إلى ما ينبغي وهو الأمر بالمعروف، أو بمنعهم عما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر، قال ابن عباس: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي بتوحيد الله وبنبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ أي ينهون عن الشرك بالله، وعن إنكار نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولفظ المعروف والمنكر مطلق فلم يجز تخصيصه بغير دليل، فهو يتناول كل معروف وكل منكر.
10. الصفة السابعة للأمة المذكورة في هذه الآية هي ما عبّر عنه قوله تعالى: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ وفيه وجهان:
أ. أحدهما: أنهم يتبادرون إليها خوف الفوت بالموت.
ب. والآخر: يعملونها غير متثاقلين.
11. سؤال وإشكال: أليس أن العجلة مذمومة، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (العجلة من الشيطان والتأني من الرحمن)، فما الفرق بين السرعة وبين العجلة؟ والجواب: السرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه، والعجلة ومخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه، فالمسارعة مخصوصة بفرط الرغبة فيما يتعلق بالدين، لأن من رغب في الأمر، آثر الفور على التراخي، قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [آل عمران: 133]، وأيضاً العجلة ليست مذمومة على الإطلاق بدليل قوله تعالى: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه: 84]
12. الصفة الثامنة للأمة المذكورة في هذه الآية هي ما عبّر عنه قوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ والمعنى وأولئك الموصوفون بما وصفوا به من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله تعالى ورضيهم، والوصف بذلك غاية المدح ويدل عليه القرآن والمعقول:
أ. أما القرآن، فهو أن الله تعالى مدح بهذا الوصف أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقال: بعد ذكر إسماعيل وإدريس وذي الكفل وغيرهم: ﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الأنبياء: 86] وذكر حكاية عن سليمان عليه السلام أنه قال: ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل: 19] وقال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التحريم: 4]
ب. وأما المعقول فهو أن الصلاح ضد الفساد، وكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد، سواء كان ذلك في العقائد، أو في الأعمال، فإذا كان كل ما حصل من باب ما ينبغي أن يكون، فقد حصل الصلاح، فكان الصلاح دالًا على أكمل الدرجات.
13. ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات الثمانية قال: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ بالياء على المغايبة، لأن الكلام متصل بما قبله من ذكر مؤمني أهل الكتاب، يتلون ويسجدون ويؤمنون ويأمرون وينهون ويسارعون، ولن يضيع لهم ما يعلمون، والمقصود أن جهال اليهود لما قالوا لعبد الله بن سلّام إنكم خسرتم بسبب هذا الإيمان، قال تعالى: بل فازوا بالدرجات العظمى، فكان المقصود تعظيمهم ليزول عن قلبهم أثر كلام أولئك الجهال، ثم هذا وإن كان بحسب اللفظ يرجع إلى كل ما تقدم ذكره من مؤمني أهل الكتاب، فإن سائر الخلق يدخلون فيه نظراً إلى العلة، وأما الباقون فإنهم قرؤوا بالتاء على سبيل المخاطبة فهو ابتداء خطاب لجميع المؤمنين على معنى أن أفعال مؤمني أهل الكتاب ذكرت، ثم قال: وما تفعلوا من خير معاشر المؤمنين الذين من جملتكم هؤلاء، فلن تكفروه، والفائدة أن يكون حكم هذه الآية عاماً بحسب اللفظ في حق جميع المكلفين، ومما يؤكد ذلك أن نظائر هذه الآية جاءت مخاطبة لجميع الخلائق من غير تخصيص بقوم دون قوم كقوله: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ﴾ [البقرة: 197] ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ وما تفعلوا من خير ﴿تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ﴾ وأما أبو عمرو فالمنقول عنه أنه كان يقرأ هذه الآية بالقراءتين.
14. ﴿فلن تكفروه﴾ أي لن تمنعوا ثوابه وجزاءه وإنما سمي منع الجزاء كفر لوجهين:
أ. الأول: أنه تعالى سمى إيصال الثواب شكراً قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158] وقال: ﴿فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء: 19] فلما سمى إيصال الجزاء شكراً سمى منعه كفراً.ب. الثاني: أن الكفر في اللغة هو الستر فسمي منع الجزاء كفراً، لأنه بمنزلة الجحد والستر.
15. سؤال وإشكال: لم قال فلن تكفروه فعداه إلى مفعولين مع أن شكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد يقال شكر النعمة وكفرها؟ والجواب: لأنا بينا أن معنى الكفر هاهنا هو المنع والحرمان، فكان كأنه قال فلن تحرموه، ولن تمنعوا جزاءه.
16. احتج القائلون بالموازنة من الذاهبين إلى الإحباط بهذه الآية فقال: صريح هذه الآية يدل على أنه لا بد من وصول أثر فعل العبد إليه، فلو انحبط ولم ينحبط من المحبط بمقداره شيء لبطل مقتضى هذه الآية، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7، 8]
17. ثم قال: ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ والمعنى أنه تعالى لما أخبر عن عدم الحرمان والجزاء أقام ما يجري مجرى الدليل عليه وهو أن عدم إيصال الثواب والجزاء إما أن يكون للسهو والنسيان وذلك محال في حقه لأنه عليم بكل المعلومات، وإما أن يكون للعجز والبخل والحاجة وذلك محال لأنه إله جميع المحدثات، فاسم الله تعالى يدل على عدم العجز والبخل والحاجة، وقوله: ﴿عَلِيمٌ﴾ يدل على عدم الجهل، وإذا انتفت هذه الصفات امتنع المنع من الجزاء، لأن منع الحق لا بد وأن يكون لأجل هذه الأمور.
18. إنما قال: ﴿عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ مع أنه عالم بالكل بشارة للمتقين بجزيل الثواب ودلالة على أنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/331.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم أخبر الله تعالى فقال: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾، وتم الكلام، والمعنى: ليس أهل الكتاب وأمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم سواء، عن ابن مسعود، وقيل: المعنى ليس المؤمنون والكافرون من أهل الكتاب سواء، وذكر أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا شيبان عن عاصم عن زر عن ابن مسعود قال: أخر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: (إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى في هذه الساعة غيركم) قال: وأنزلت هذه الآية ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ـ إلى قوله: والله عليم بالمتقين) وروى ابن وهب مثله، وقال ابن عباس: قول الله تعالى﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ من آمن مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال ابن إسحاق عن ابن عباس: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسيد بن عبيد، ومن أسلم من يهود، فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ورسخوا فيه، قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾، إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾، وقال الأخفش: التقدير من أهل الكتاب ذو أمة، أي ذو طريقة حسنة، وأنشد: (وهل يأتمن ذو أمة وهو طائع) وقيل: في الكلام حذف، والتقدير من أهل الكتاب أمة قائمة وأخرى غير قائمة، فترك الأخرى اكتفاء بالأولى، كقول أبي ذؤيب:
çعصاني إليها القلب إني لأمره...مطيع فما أدري أرشد طلابهاé
أراد: أرشد أم غي، فحذف.
2. قال الفراء: ﴿أُمَّة﴾ رفع بـ ﴿سَوَاءٌ﴾، والتقدير: ليس يستوي أمة من أهل الكتاب قائمة يتلون آيات الله وأمة كافرة، قال النحاس: هذا قول خطأ من جهات: إحداها أنه يرفع (أمة) بـ (سواء) فلا يعود على اسم ليس بشيء، ويرفع بما ليس جاريا على الفعل ويضمر ما لا يحتاج إليه، لأنه قد تقدم ذكر الكافر فليس لإضمار هذا وجه، وقال أبو عبيدة: هذا مثل قولهم: أكلوني البراغيث، وذهبوا أصحابك، قال النحاس: وهذا غلط، لأنه قد تقدم ذكرهم، وأكلوني البراغيث لم يتقدم لهم ذكر.
3. ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ ساعاته، وأحدها إنى وأنى وإني، وهو منصوب على الظرف، و﴿يَسْجُدُونَ﴾ يصلون، عن الفراء والزجاج، لأن التلاوة لا تكون في الركوع والسجود، نظيره قوله: ﴿وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ أي يصلون، وفي الفرقان: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ﴾ [الفرقان] وفي النجم ﴿فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾ [النجم]، وقيل: يراد به السجود المعروف خاصة، وسبب النزول يرده، وأن المراد صلاة العتمة كما ذكرنا عن ابن مسعود، فعبدة الأوثان ناموا حيث جن عليهم الليل، والموحدون قيام بين يدي الله تعالى في صلاة العشاء يتلون آيات الله، ألا ترى لما ذكر قيامهم قال: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ أي مع القيام أيضا، الثوري: هي الصلاة بين العشاءين، وقيل: هي في قيام الليل، وعن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب قال: إنا نجد كلاما من كلام الرب تعالى: أيحسب راعي إبل أو راعي غنم إذا جنه الليل انخذل كمن هو قائم وساجد آناء الليل.
4. ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ يعني يقرون بالله ويصدقون بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قيل: هو عموم، وقيل: يراد به الأمر باتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ والنهي عن المنكر النهي عن مخالفته، ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ التي يعملونها مبادرين غير متثاقلين لمعرفتهم بقدر ثوابهم، وقيل: يبادرون بالعمل قبل الفوت، ﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي مع الصالحين، وهم أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في الجنة.
5. ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ قرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي وحفص وخلف بالياء فيهما، إخبارا عن الأمة القائمة، وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد، وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب، لقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران]، وهي اختيار أبي حاتم، وكان أبو عمرو يرى القراءتين جميعا الياء والتاء، ومعنى الآية: وما تفعلوا من خير فإن تجحدوا ثوابه بل يشكر لكم وتجازون عليه،
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/176.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ أي: أهل الكتاب غير مستوين، بل مختلفين، والجملة مستأنفة، سيقت لبيان التفاوت بين أهل الكتاب، وقوله: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ هو استئناف أيضا، يتضمن بيان الجهة التي تفاوتوا فيها، من كون بعضهم أمة قائمة إلى قوله: ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قال الأخفش: التقدير: من أهل الكتاب ذو أمة، أي: ذو طريقة حسنة، وأنشد: (وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائع) وقيل: في الكلام حذف، والتقدير: من أهل الكتاب أمة قائمة وأخرى غير قائمة، فترك الأخرى اكتفاء بالأولى، كقول أبي ذؤيب:
çعصيت إليها القلب إنّي لأمرها...مطيع فما أدري أرشد طلابها؟é
أراد أرشد أم غيّ؟
2. قال الفراء: أمة: رفع بسواء، والتقدير: ليس يستوي أمة من أهل الكتاب قائمة يتلون آيات الله وأمة كافرة، قال النحاس: وهذا القول خطأ من جهات: أحدها: أنه يرفع أمة بسواء فلا يعود على اسم ليس شيء، ويرفع بما ليس جاريا على الفعل، ويضمر ما لا يحتاج إليه لأنه قد تقدم ذكر الكافرة، فليس لإضمار هذا وجه، وقال أبو عبيدة: هذا مثل قولهم أكلوني البراغيث، وذهبوا أصحابك، قال النحاس: وهذا غلط، لأنه قد تقدم ذكرهم، وأكلوني البراغيث لم يتقدم لهم ذكر.. وعندي: أن ما قاله الفراء قويّ قويم، وحاصله: أن معنى الآية: لا يستوي أمة من أهل الكتاب شأنها كذا؛ وأمة أخرى شأنها كذا، وليس تقدير هذا المحذوف من باب تقدير ما لا حاجة إليه كما قال النحاس، فإن تقدّم ذكر الكافرة لا يفيد مفاد تقدير ذكرها هنا، وأما قوله: إنه لا يعود على اسم ليس شيء، فيردّه: أن تقدير العائد شائع مشتهر عند أهل الفن، وأما قوله: ويرفع بما ليس جاريا على الفعل، فغير مسلم.
3. القائمة: المستقيمة العادلة، من قولهم: أقمت العود فقام، أي: استقام، وقوله: ﴿يَتْلُونَ﴾: في محل رفع أنه صفة ثانية لأمة، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ ساعاته، وهو منصوب على الظرفية، وقوله: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ ظاهره: أن التلاوة كائنة منهم في حال السجود، ولا يصح ذلك إذا كان المراد بهذه الأمة الموصوفة في الآية: هم من قد أسلم من أهل الكتاب، لأنه قد صح عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم النهي عن قراءة القرآن في السجود، فلا بدّ من تأويل هذا الظاهر بأن المراد بقوله: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾: وهم يصلون، كما قاله الفراء والزجاج، وإنما عبر بالسجود عن مجموع الصلاة، لما فيه من الخضوع والتذلل، وظاهر هذا: أنهم يتلون آيات الله في صلاتهم من غير تخصيص لتلك الصلاة بصلاة معينة؛ وقيل: المراد بها: الصلاة بين العشاءين؛ وقيل: صلاة الليل مطلقا.
4. ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ صفة أخرى لأمة، أي: يؤمنون بالله وكتبه ورسله، ورأس ذلك الإيمان بما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وقوله: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ صفتان أيضا لأمة، أي: أن هذا من شأنهم وصفتهم، وظاهره يفيد: أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على العموم؛ وقيل: المراد بالأمر بالمعروف هنا: أمرهم باتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبالنهي عن المنكر: نهيهم عن مخالفته، وقوله: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾: من جملة الصفات أيضا، أي: يبادرون بها غير متثاقلين عن تأديتها لمعرفتهم بقدر ثوابها، وقوله: ﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي: من جملتهم؛ وقيل: من: بمعنى: مع، أي: مع الصالحين، وهم الصحابة، والظاهر أن المراد كل صالح، والإشارة بقوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ إلى الأمة الموصوفة بتلك الصفات.
5. ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ أي خير كان ﴿فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ أي: لن تعدموا ثوابه، وعداه إلى المفعولين وهو لا يتعدّى إلا إلى واحد لأنه ضمنه معنى الحرمان، كأنه قيل: فلن تحرموه، كما قاله صاحب الكشاف، قرأ الأعمش، وابن وثاب، وحفص، وحمزة، والكسائي، وخلف: بالياء التحتية في الفعلين، وهي قراءة ابن عباس، واختارها أبو عبيد، وقرأ الباقون بالمثناة من فوق، فيهما، وكان أبو عمرة يرى القراءتين جميعا، والمراد بالمتقين: كل من ثبتت له صفة التقوى؛ وقيل: المراد: من تقدّم ذكره، وهم الأمة الموصوفة بتلك الصفة، ووضع الظاهر موضع المضمر مدحا لهم، ورفعا من شأنهم.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/428.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَيْسُواْ﴾ أي: أهل الكتاب المذكورون في قوله تعالى: ﴿وَلَوَ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾، ﴿سَوَآءً﴾ في المعاصي، بل منهم من أصرَّ على الكفر، ومنهم من أسلم، نزلت الآية حين سبَّ اليهود من أسلم منهم وقالوا: ما أسلموا إِلَّا لأنَّهم من أشرارنا، ﴿مِنَ اَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّـةٌ قَآئِمَةٌ﴾ مستقيمة عادلة، وهم الذين أسلموا منهم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو قبله ثمَّ آمنوا به بعد مجيئه أو قبله، وماتوا قبله، والجملة مبيِّنة لعدم تساويهم، كما أَنَّ قوله: ﴿تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إلخ مبيِّن لقوله: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾، ومعادلُها محذوف، يقدَّر بعد قوله: من الصالحين هكذا، ومنهم من ليس كذلك وليسوا من الصالحين، ومن عادة العرب الاستغناء بذكر أحد الضدَّين عن الآخر، والآية كقوله: ﴿مِنْهُمُ الْمُومِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الآية: 110]، ومن الأمَّة القائمة عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة وأسيد بن عبيد وأضرابهم، وأربعون رجلا من نصارى نجران واثنان وثلاثون من نصارى الحبشة، النجاشيِّ ومن معه، وثلاثة من الروم على دين عيسى وصدَّقوا محمَّدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وكان من الأنصار فيهم قبل قدومه صلّى الله عليه وآله وسلّم : أسعد بن زرارة، والبراء بن معرور، ومحمَّد بن مسلمة، وأبو قيس صرمة بن أنس، كانوا موحِّدين يغتسلون من الجنابة، ويقومون بما يعرفون من دين إبراهيم حتَّى جاء صلّى الله عليه وآله وسلّم فصدَّقوه ونصروه، إِلَّا البراء بن معرور فمات قبل الهجرة.
2. ﴿يَتْلُونَ ءَايَاتِ اللهِ﴾ التوراة والإنجيل والزبور، ﴿ءَانَآءَ اللَّيْلِ﴾ ساعات اللَّيل، والساعة الواحدة: أنًى كعصًا، وإِنًى كرِضًا، وأَنْيٌ كظَبْي، وإِنْيٌ بكسر فسكون، وأَنْوٌ كجَرْو أبدلت الهمزة في الجمع ألفا، وصارت مَدَّة الهمزة أفعال، وأبدلت الياء أو الواو آخرا همزة بعد ألف أفعال.
3. ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ يصلُّون، أي: يتلون آيات الله حال كونهم في الصلاة قياما، وجاء الحديث: (إنِّي نُهيت أَن أقرأ راكعا أو ساجدا)، كما رواه في الإيضاح، ولفظ مسلم وغيْره عن عليِّ بن أبي طالب: (نهاني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن أقرأ راكعا أو ساجدا)، وفي رواية لمسلم: (ألا إنِّي نُهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا، فأمَّا الركوع فعظِّموا فيه الربَّ، وأمَّا السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمين أن يستجاب لكم)، وإنَّه لا قراءة في الركوع والسجود في هذه الأمَّة، وكذا في سجود مَن قبلَنا وركوعهم إن كانوا يركعون، وأجازها بعض في ركوع النفل وسجوده، وفي سجود بلا صلاة، وقيل: تجوز في سجود الصلاة كسجود التلاوة، ويناسبه ذكر الركوع في حديث النهي فيما فيه الركوع والسجود من الصلاة، ومن ذلك قول الديوان والإيضاح: إنَّه يقال في سجود التلاوة: ﴿سُبْحَانَ رَبـِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبـِّنَا لَمَفْعُولاً﴾ [سورة الإسراء: 108]، والآية في وصف أهل الكتاب الذين اتَّبعوا الحقَّ قبل البعثة، وإن قلنا: إنَّها في وصفهم بعدها فالآيات القرآن، وقد نهاهم صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقوموا اللَّيل أو يصلُّوا بالتوراة أو غيرها إِلَّا القرآن، وقد قال بعض: المراد صلاة العشاء وليست لأهل الكتاب، كما نصَّ عليه شرَّاح الحديث، أنَّهم لا يصلُّونها بتعجيل ولا تأخير ولا توسيط، وروي أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أخَّرها إلى ثلث اللَّيل أو نصفه، وقال: (أَمَا إنَّه ليس أحد من أهل الأديان يذكر الله في هذه الساعة غيركم) أخرجه ابن حبَّان والنسائي، وقال: (أمَا إنَّ هذا أفضل وقتها)، ثمَّ رخَّص لهم أن يصلُّوها قبل ذلك، وقيل: نفل بين المغرب والعشاء يسمَّى صلاة الغفلة، وقيل: الخضوع، وقيل: سجود التلاوة، قال رجل من العرب: أحبُّك يا رسول الله وأخاف أَن أفارقك يوم القيامة، فادعُ الله أن يجعلني رفيقك في الجنَّة، فقال: صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أعنِّي بكثرة السجود)
4. ﴿يُومِنُونَ بِاللهِ﴾ لا ككفَّار أهل الكتاب إذ نقضوا توحيدهم بالتثليث والبنوَّة، والتجسيم، ونحو ذلك، ﴿وَالْيَوْمِ الَاخِرِ﴾ لا كمن نقض إيمانه بدعوى بعث الأرواح دون الأجساد، ودعوى أربعين يوما في النار، ودعوى أنَّه لن يدخل الجنَّة إِلَّا من كان هودًا أو إِلَّا من كان نصارى، ﴿وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ لا كمن يداهن ويأمر بالمنكر وينهى عن المعروف من أهل الكتاب وغيرهم.
5. ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ أنواع العبادات وأفرادها، لا كمن يتباطأ فيها أو لا يفعلها، كسلا واتِّباعا للهوى، أو بعدم إيمانه بيوم الجزاء عليها، ومتى أمكن فعل الخير بلا مناغصة فسارِعْ إليه، ومتى أمكن مع تنغُّص له بمكدِّر أو قلق فأخِّره إلى وقت يمكن سالما، إِلَّا أنَّك لا تتركه خوفا من أَن تنسب للرياء، فالسرعة مخصوصة بتقديم ما ينبغي تقديمه، وهي لفرط الرغبة، فيؤْثِرها على التراخي، والعجلة مخصوصة بتقديم ما لا ينبغي تقديمه، وتطلق بمعنى المسارعة أيضًا، قال: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [سورة طه: 84]، كما يجوز إطلاق المسارعة في السوء، ولا كسائر أهل الكتاب ليسوا أمَّة قائمة، بل منحرفون عن الحقِّ، ولا يقومون اللَّيل للتعبُّد بتلاوة الآيات.
6. قال: ﴿فِي الْخَيْرَاتِ﴾ ولم يقل: (إلى الخيرات) لأنَّ المراد الرسوخ في قصدها، ﴿وَأُوْلَئِكَ﴾ الموصوفون بتلك الصفات، ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ صلحت أحوالهم فاستحقُّوا الثناء والثواب.
7. ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ﴾ أيُّها الأمَّة المذكورون في قوله: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ لا لخصوص الأمَّة القائمة من أهل الكتاب على الصحيح، ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ عبادة، ﴿فَلَن تُكْفَرُوهُ﴾ لن تمنعوا ثوابه، بل يشكركم الله عليه شكر إثابة، تعدَّى (كفر) لاثنين، والأوَّل نائب الفاعل، ﴿وَاللهُ عَلِيمُم بِالْمُتَّقِينَ﴾ بشارة بأن يجازيهم على تقواهم، وهم المذكورون، أو عامٌّ.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/354.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ جملة مستأنفة سيقت تمهيدا للثناء على من أقبل على الحق من أهل الكتاب وخلع الباطل ولم يراع سلفا ولا خلفا، وتذكيرا لقوله تعالى: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أي ليس أهل الكتاب متساوين ومتشاركين في المساوئ، ثم استأنف قوله بيانا لعدم استوائهم ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾
2. في قوله تعالى ﴿قَائِمَةً﴾ وجوه:
أ. الأول: أنها قائمة في الصلاة، وعبّر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ [الفرقان: 64]، وقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ [المزمل: 20]، وقوله: ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ [المزمل: 2]، وقوله: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238]
ب. الثاني: أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق، ملازمة له، غير مضطربة في التمسك به، كقوله: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ [آل عمران: 75] أي ملازما للاقتضاء، ثابتا على المطالبة، ومنه قوله تعالى: ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: 18]
ج. الثالث: أنها مستقيمة عادلة من قولك: أقمت العود فقام، بمعنى استقام.
الآناء الأوقات واحدها (إنا) مثل (معي) و(أمعاء) و(إني) مثل (نحيي) و(أنحاء) وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ جملة مستقلة مستأنفة، وليست حالا من فاعل ﴿يَتْلُونَ﴾ لما صح في السنة من النهي عن التلاوة في السجود، وذلك فيما رواه الإمام أحمد ومسلم عن ابن عباس، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألا إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم)، فمعنى الآية أنهم يقومون تارة ويسجدون أخرى، يبتغون الفضل والرحمة كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ [الفرقان: 64]، وقوله: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر: 7]، ويحتمل أن يكون المعنى: وهم يصلون، والصلاة تسمى سجودا وسجدة كما تسمى ركوعا وركعة وتسبيحا وتسبيحة، وعليه فالجملة يجوز فيها الوجهان، وتكرير الإسناد لتقوية الحكم وتأكيده.
3. ثم وصفهم تعالى بصفات أخر، مبينة لمباينتهم اليهود من جهة أخرى، بقوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾
4. ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي على الوجه الذي نطق به الشرع، وظاهر أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله، والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من المعاصي، وهؤلاء اليهود ينكرون أنبياء الله، ولا يحترزون عن معاصي الله، فلم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ والمعاد.
5. ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ تعريض بمداهنة اليهود في الاحتساب، بل بتعكيسهم في الأمر بإضلال الناس وصدّهم عن سبيل الله، فإنه أمر بالمنكر ونهي عن المعروف.
6. ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ صفة أخرى جامعة لفنون المحاسن المتعلقة بالنفس وبالغير، والمسارعة في الخير فرط الرغبة فيه، وفيه تعريض بتباطؤ اليهود فيها، بل بمبادرتهم إلى الشرور.
7. ﴿وَأُولَئِكَ﴾ أي المنعوتون بتلك الصفات الفاضلة ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي من عداد من صلحت أحوالهم عند الله تعالى واستحقوا رضاه، والوصف بالصلاح دالّ على أكمل الدرجات، فهو غاية المدح، ولذا وصفت به الأنبياء في التنزيل.
8. ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ أي لن يعدموا ثوابه، وإيثار صيغة المجهول للجري على سنن الكبرياء، وقرئ الفعلان بالخطاب ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ فيوفيهم أجورهم، وهؤلاء الموصوفون هم المذكورون في آخر السورة: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لله﴾ [آل عمران: 199] الآية.
9. قال البقاعيّ: أرشد السياق إلى أن التقدير: وأكثرهم ليسوا بهذه الصفات وقال الرازيّ: لما قال تعالى: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾، كان تمام الكلام أن يقال: (ومنهم أمّة مذمومة) إلا أنه أضمر ذكر الأمة المذمومة على مذهب العرب من أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الضد الآخر، وتحقيقه: أن الضدين يعلمان معا، فذكر أحدهما يستقل بإفادة العلم بهما، فلا جرم يحسن إهمال الضد الآخر، قال أبو ذؤيب:
çدعاني إليها القلب، إني لأمره...مطيع، فما أدرى أرشد طلابهاé
أراد أم غيّ، فاكتفى بذكر الرشد عن الغيّ، وهذا قول الفراء وابن الأنباريّ.
وقال الزجاج: لا حاجة إلى إضمار الأمة المذمومة لأن ذكرها قد جرى قبل، ولأنا قد ذكرنا أن العلم بالضدين معا، فذكر أحدهما مغن عن ذكر الآخر، كما يقال زيد وعمرو لا يستويان، زيد عاقل ديّن ذكي، فيغني هذا عن أن يقال: وعمرو ليس كذلك، فكذا هاهنا، لما تقدم قوله: ليسوا سواء، أغني عن ذلك الإضمار ـ انتهى ملخصا ـ أقول: لا مانع من كون الآية الآتية هي الشق الثاني المقابل للأول، فإن عنوان الذين كفروا مقابل بمفهومه لما قبله كما لا يخفى ـ والله أعلم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/389.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ كلام تام، أي ليس أهل الكتاب متساوين في هذه الأوصاف والأعمال القبيحة التي ذكرت آنفا؛ بل منهم المؤمنون وهم الأقلون؛ ومنهم الفاسقون وهم الأكثرون، كما قال في الآية المتقدمة: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ فهو بيان له بعد وصف الفاسقين، وذكر ما استحقت الأمة بسوء عملهم.
2. ولما بين وصف فاسقيهم كان من العدل الإلهي أن يبين وصف مؤمنيهم، ولذلك قال: ﴿ومن أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون﴾ الآيات قيل: إن هذه الأمة جماعة أسلموا من اليهود كعبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن سعد وأسيد بن عبيد رواه ابن جرير عن ابن عباس، وروي عن قتادة أنه كان يقول في الآية: (ليس كل القوم هلك قد كان لله فيهم بقية) بل روي عن ابن عباس أنه قال في الأمة القائمة: (أمة مهتدية قائمة على أمر الله لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه) حمل ابن جرير هذا القول على تلك الرواية، أي أن هذا مقبول فيمن أسلم منهم ولكنه لا ينطبق عليهم في حال الإسلام، لأن ما قاموا عليه هو ما ضيعه الآخرون وهو من دينهم وكتابهم، فالظاهر أن الرويات اختلط بعضها ببعض، أو المراد أن هؤلاء الذين وصفوا بالتمسك بما حفظوا من كتابهم والقيام بما عرفوا من دينهم هم الذين أسلموا بعد ذلك فيكون هذا الوصف لهم قبل الإسلام، وقد نقل الرازي في الآية قولين، أحدهما: أن المراد بهذه الأمة القائمة عبد الله بن سلام وأصحابه، والثاني: أن المراد بأهل الكتاب كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان، قال: (وعلى هذا القول يكون المسلمون من جملتهم)، وأي حاجة إلى إدخال المسلمين في أهل الكتاب عند إطلاقه وهو مخالف لعرف القرآن؟ والمسلمون مستغنون عن هذا الإدخال بقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ الآية وما هي من هذه ببعيد، إلا أن أكثر مفسرينا قد صعب عليهم أن يكون في أهل الكتاب أحد يؤمن بالله ويفعل الخير فلذلك اضطربوا في الآية وأمثالها وهي ظاهرة، قال محمد عبده: هذه الآية من العدل الإلهي في بيان حقيقة الواقع وإزالة الإيهام السابق، وهي دليل على أن دين الله واحد على ألسنة جميع الأنبياء، وأن كل من أخذه بإذعان، وعمل فيه بإخلاص، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فهو من الصالحين، وفي هذا العدل قطع لاحتجاج أهل الكتاب الذين يعرفون من أنفسهم الإيمان والإخلاص في العمل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ يعني الأستاذ أنه لولا مثل هذا النص لكان لهم أن يقولوا: لو كان هذا القرآن من عند الله لما ساوانا بغيرنا من الفاسقين ونحن مؤمنون به مخلصون له ـ وفيه استمالة لهم وتناهٍ عن التفرقة بين الأمم والملل التي لم يكن يعترف فيها أحد الفريقين بفضيلة ولا مزية للآخر، كأنه بمجرد مخالفته له في بعض الأشياء ـ وإن كان معذورا ـ تتبدل حسناته سيئات، وظاهر أن هذا كالذي قبله في أهل الكتاب حال كونهم على دينهم خلافا لمفسرنا (الجلال) وغيره الذين حملوا المدح على من أسلم منهم، فإن المسلمين لا يمدحون بوصف أنهم أهل الكتاب وإنما يمدحون بعنوان المؤمنون.
3. ثم إنه ذكر اختلاف المفسرين في قوله: ﴿قَائِمَةً﴾ ورجح أن معناها موجودة ثابتة على الحق، قال: وفي ذلك تعريض بالمنحرفين عن الحق بأنهم لا يعدون من أهل الوجود وإنما حكمهم حكم العد، وأطال في وصف من لا خير في وجودهم الذين قال في مثلهم الشاعر:
çخلقوا وما خلقوا لمكرمة...فكأنهم خلقوا وما خلقوا
رزقوا وما رزقوا سماح يد...فكأنهم رزقوا وما رزقواé
وقال الزمخشري في تفسير الكلمة في الكشاف: أمة قائمة مستقيمة عادلة من قولك: أقمت العود فقام بمعنى استقام.
4. إن استقامة بعض أهل الكتاب على الحق من دينهم لا ينافي ما حققناه في تفسير التوراة والإنجيل في أول السورة من ضياع بعض كتبهم وتحريف بعضهم لما في أيديهم منها، فإن من يعرف من المسلمين بعض السنة ويحفظ بعض الأحاديث النبوية فيعمل بما علم مستمسكا به مخلصا فيه يقال إنه قائم بالسنة السنية عامل بالحديث النبوي، وإن كان بعض الأحاديث قد نقل بالمعنى وبعضها ضعيف أو موضوع وبعض الناس كالحشوية حرفوها بل وحرفوا بعض آيات القرآن تحريفا معنويا ليدعموا بها مذاهبهم وآرائهم.
5. ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ فمعناه على القول بأن المراد بهم من دخل في الإسلام ظاهر، وعلى القول الآخر المختار أنهم يتلون ما عندهم من مناجاة الله ودعائه له والثناء عليه عز وجل وهي كثيرة في كتبهم لا سيما زبور (مزامير) داود عليه السلام، كقوله في المزمور السادس والثلاثين (5 ـ يا رب في السماوات رحمتك، 6 ـ أمانتك إلى الغمام 7 ـ ما أكرم رحمتك يا الله فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون 8 ـ يروون من دسم بيتك ومن نهر نعمتك تسقيهم 9 ـ لأن عندك ينبوع الحياة، بنورك ترى نورا 10 ـ أدم رحمتك للذين يعرفونك وعدلك للمستقيمي القلب 11 ـ لا تأتني رجل الكبرياء ويد الأشرار لا تزحزحني 12 ـ هناك سقط فاعلو الإثم؛ دحروا فلم يستطيعوا القيام)، وقوله في المزمور الخامس والعشرين: (1 ـ إليك يا رب أرفع نفسي 2 ـ يا إلهي عليك توكلت فلا تدعني أخزى، لا تشمت بي أعدائي 3 ـ كل منتظريك لا يخزوا أيضا، ليخز الغادرون بلا سبب 4 ـ طرقك يا رب عرفني، سبلك علمني 5 ـ دربني في حقك وعلمني، لأنك أنت إله خلاصي، 6 ـ إياك انتظرت اليوم كله اذكر مراحمك يا رب وإحسانك لأنها هي منذ الأزل 7 ـ لا تذكر خطايا صباي ولا معاصي، كرحمتك اذكرني أنت من أجل جودك يا رب)، وأمثال هذه الأدعية والمناجاة كثير جدا وإذا رآها العربي البليغ غريبة الأسلوب فليذكر أنها ترجمة ضعيفة وأن قراءتها بلغة أهل الكتاب أشد تأثيرا في النفس من قراءة ترجمتها هذه.
6. أما السجود الذي أسنده إليهم فهو إما عبارة عن صلاتهم وإما استعمال له بمعناه اللغوي، وهو التطامن والتذلل كما تقدم في تفسير قوله تعالى في خطاب مريم ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [آل عمران: 43]، ثم قال فيهم: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾
7. ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي يؤمنون إيمانا إذعانيا وهو ما يثمر الخشية لله والاستعداد لذلك اليوم لا إيمانا جنسيا لا حظ لصاحبه منه إلا الغرور والدعوى كما هو شأن الأكثرين من أبناء جنسهم.
8. ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ فيما بينهم وإن لم يكن لهم صوت في جمهور أمتهم لغلبة الفسق والفساد عليها كما هو مدون في التاريخ وبذلك تتفق الآيات الواردة فيهم، ولا غرابة في ذلك فقد اتبعنا سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى ترك سوادنا الأعظم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحيث يصح أن يقال: إن الأمة تركته إلا أفرادا قليلين لا تأثير لهم في المجموع.
9. ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ كما هو شأن المؤمن المخلص لا يتباطأ عما يعن له من الخير، وإنما يتباطأ الذين في قلوبهم مرض كما قال تعالى في المنافقين: ﴿وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا﴾ [النساء: 142] فلا غرو أن يقول فيهم بعد هذه الأعمال التي كانوا يواظبون عليها ﴿أولئك من الصالحين﴾ الذين صلحت نفوسهم فاستقامت أحوالهم وحسنت أعمالهم.
10. ثم قال: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ أي فلن يضيع ثوابه كما يكفر الشيء أي يستر حتى كأنه غير موجود، وقد سمى الله تعالى إثابته للمحسنين شكرا وسمى نفسه شكورا، فحسن في مقابلة هذا أن يعبر عن عدم الإثابة بالكفر الذي يقابل الشكر، وقال الزمخشري: إن (كفر) عدى هنا إلى مفعولين لتضمينه معنى الحرمان فالمعنى لن يحرموا جزاءه (والله عليم بالمتقين) وإنما يجزي العاملين بحسب ما يعلم من أمرهم وما تنطوي عليه نفوسهم من نياتهم وسرائرهم فمن آمن إيمانا صحيحا واتقى ما يفسد عليه ثمرات إيمانه فأولئك هم الفائزون، فلا عبرة بجنسيات الأديان، وإنما العبرة بالتقوى مع الإيمان(2).
__________
(1) تفسير المنار: 4/71.
(2) مع التنبيه إلى أن إقامة هؤلاء للكتاب يستدعي إيمانهم برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم واتباعهم لدينه، لأن كتبهم تحوي ذلك.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن وصف سبحانه أهل الكتاب فيما تقدم بذميم الصفات، وقبيح الأعمال وذكر الجزاء الذي استحقوه بسوء عملهم، أعقبه ببيان أنهم ليسوا جميعا على تلك الشاكلة، بل فيهم من هو متصف بحميد الخلال وجميل الصفات.
2. ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ أي ليس أهل الكتاب متساوين في تلك الصفات القبيحة، بل منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون، وهذه الجملة كالتأكيد لتلك.
3. بعد أن وصف الله تعالى الفاسقين وذكر سوء أعمالهم ـ وصف المؤمنين ومدحهم بثمانية أوصاف كل منها منقبة ومفخرة يستحق فاعلها الثواب عليها:
أ. ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ أي منهم جماعة مستقيمة على الحق، متبعة للعدل، لا تظلم أحدا، ولا تخالف أمر الدين، وكان من تمام الكلام أن يقال ومنهم أمة مذمومة، إلا أن العرب قد تذكر أحد الضدين وتستغنى به عن ذكر الآخر كما قال الشاعر:
çدعاني إليها القلب إني لأمرها...مطيع فما أدرى أرشد طلابهاé
يريد أم غيّ، وهذه الجملة مبينة لعدم التساوي مزيلة لإبهامه، والمراد بهذه الأمة جماعة من اليهود أسلموا كعبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن عبيد وأضرابهم كما رواه ابن جرير عن ابن عباس، وقال في تفسير الآية: الأمة القائمة أمة مهتدية قائمة على أمر الله لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه، وروى عن قتادة أنه كان يقول في الآية: ليس كل القوم هلك، قد كان لله فيهم بقية، وهذه الآية حجة على أن دين الله واحد على ألسنة جميع الأنبياء، وأن من أخذه مذعنا، وعمل به مخلصا، وأمر بمعروف ونهى عن منكر فهو من الصالحين، كما أن فيها استمالة لأهل الكتاب، وتقديرا للعدل الإلهي وقطعا لاحتجاج من يعرفون الإيمان والإخلاص، إذ لولا هذا النص لكان لهم أن يقولوا: لو كان هذا القرآن من عند الله لما ساوانا بغيرنا من الفاسقين، واستقامة بعضهم على الحق من دينهم لا ينافى ضياع بعض كتبهم، وتحريف بعضهم لما في أيديهم منها، ألا ترى أن من يحفظ بعض الأحاديث ويعمل بما علم، ويستمسك به مخلصا فيه ـ يقال إنه قائم بالسنة عامل بالحديث.
ب. ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ أي يتلون القرآن بالليل وهم يصلون متهجدين، وخص السجود بالذكر من بين أركان الصلاة لدلالته على كمال الخضوع والخشوع.
ج. ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي يؤمنون إيمان إذعان بهما على الوجه المقبول عند الله، ومن ثمرات ذلك الخشية والخضوع والاستعداد لذلك اليوم، لا إيمانا لا حظّ لصاحبه منه إلا الغرور والدعوى، كما هو حال سائر اليهود، إذ يؤمنون بالله واليوم الآخر، لكنه إيمان هو والعدم سنواء، لأنهم يقولون عزيز ابن الله، ويكفرون ببعض الرسل، ويصفون اليوم الآخر بخلاف صفته، ولما كان كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته، والخير للعمل به، وكان أفضل الأعمال الصلاة، وأفضل الأذكار ذكر الله، وأفضل العلوم معرفة المبدإ والمعاد ـ وصفهم الله بقوله: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ﴾ للدلالة على أنهم يعملون صالح الأعمال، وبقوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ للإشارة إلى فضل المعارف الحاصلة في قلوبهم.
د. ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ أي إنهم بعد أن كملوا أنفسهم علما وعملا كما تقدم، يسعون في تكميل غيرهم إما بإرشادهم إلى ما ينبغي بأمرهم بالمعروف، أو بمنعهم عما لا ينبغي بالنهى عن المنكر، وفي هذا تعريض باليهود المداهنين الصادّين عن سبيل الله.
هـ. ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ أي ويعملون صالح الأعمال راغبين فيها غير متثاقلين علما منهم بجلالة موقعها، وحسن عاقبتها، وإنما يتباطأ الذين في قلوبهم مرض، كما وصف الله المنافقين بقوله: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾، وهذه الصفة جماع الفضائل الدينية والخلقية، وفي ذكرها تعريض باليهود الذين يتثاقلون عن ذلك، وعبر بالسرعة ولم يعبر بالعجلة، لأن الأولى التقدم فيما ينبغي تقديمه وهى محمودة، وضدها الإبطاء، والثانية التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه، ومن ثم قال عليه السلام (العجلة من الشيطان، والتأنّى من الرحمن) وضدها: الأناة، وهى محمودة.
و. ﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي وهؤلاء الذين اتصفوا بجليل الصفات من الذين صلحت أحوالهم، وحسنت أعمالهم، فرضيهم ربهم، وفي هذا رد على اليهود الذين قالوا فيمن أسلم منهم: ما آمن بمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره، والوصف بالصلاح هو غاية المدح، ونهاية الشرف والفضل، فقد مدح الله به أكابر الأنبياء كإسماعيل وإدريس وذي الكفل فقال: ﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ وقال حكاية عن سليمان: ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾، ولأنه ضد الفساد، وهو ما لا ينبغي في العقائد والأفعال، فهو حصول ما ينبغي في كل منهما، وذلك منتهى الكمال، ورفعة القدر، وعلوّ الشأن.
4. ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ أي وما يفعلوا من الطاعات فلن يحرموا ثوابه ولن يستر عنهم كأنه غير موجود، ولما سمى الله إثابته للمحسنين شكرا في قوله: ﴿فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾، وسمى نفسه شاكرا في قوله: ﴿فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ حسن أن يعبر عن عدم الإثابة بالكفر، وهذه الجملة جاءت ردا على اليهود الذين قالوا لمن أسلم منهم: أنتم خسرتم بسبب هذا الإيمان، وإشارة إلى أنهم فازوا بالسعادة العظمى، والدرجات العليا، وفيها تعظيم لهم ليزيل من صدورهم أثر كلام أولئك الأوغاد.
5. ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ فهو يجزى العاملين بحسب ما يعلم من أحوالهم، وما تنطوي عليه سرائرهم، فمن كان إيمانه صحيحا واتقى الله فاز بالسعادة، وهذا كالدليل على ما قبله، لأن عدم الإثابة إما للسهو والنسيان، وإما للجهل، وذلك ممتنع في حقه، لأنه عليم بكل شيء، وإما للعجز أو البخل أو الحاجة، وكل ذلك محال عليه، لأنه خالق جميع الكائنات، وهو القادر على كل شيء، ولما انتفى كل هذا كان المنع من الجزاء محالا.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/35.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
هي صورة وضيئة للمؤمنين من أهل الكتاب، فقد آمنوا إيمانا صادقا عميقا، وكاملا شاملا، وانضموا للصف المسلم، وقاموا على حراسة هذا الدين.
1. آمنوا بالله واليوم الآخر.. وقد نهضوا بتكاليف الإيمان، وحققوا سمة الأمة المسلمة التي انضموا إليها ـ خير أمة أخرجت للناس ـ فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.
2. وقد رغبت نفوسهم في الخير جملة، فجعلوه الهدف الذي يسابقون فيه، فسارعوا في الخيرات، ومن ثم هذه الشهادة العلوية لهم أنهم من الصالحين.
3. وهذا الوعد الصادق لهم أنهم لن يبخسوا حقا، ولن يكفروا أجرا، مع الإشارة إلى أن الله ـ سبحانه ـ علم أنهم من المتقين، وهي صورة ترفع أمام الراغبين في هذه الشهادة، وفي هذا الوعد، ليحققها في ذات نفسه كل من يشتاق إلى نورها الوضيء في أفقها المنير.
هذا في جانب.. وفي الجانب الآخر، الكافرون، الكافرون الذين لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم؛ ولن تنفعهم نفقة ينفقونها في الدنيا، ولن ينالهم شيء منها في الآخرة لأنها لم تتصل بخط الخير الثابت المستقيم، الخير المنبثق من الإيمان بالله، على تصور واضح، وهدف ثابت، وطريق موصول، وإلا فالخير نزوة عارضة لا ثبات لها، وجنوح يصرّفه الهوى، ولا يرجع إلى أصل واضح مدرك مفهوم، ولا إلى منهج كامل شامل مستقيم.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/451.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر القرآن الكريم ﴿أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ في كثير من المواقف، وأدانهم في كثير منها، وكشف موقفهم من رسالة الإسلام، ومن رسول الإسلام، هذا الموقف العنادىّ القائم على الكيد، والتربص! وإذ كان أهل الكتاب، هم اليهود والنصارى، فقد فرق القرآن بين الفريقين، إذ كان موقفهم من الإسلام والمسلمين مختلفا.
2. كان اليهود في وجه عداوة ظاهرة وخفيّة لدعوة الإسلام ولرسول الإسلام، كما كانوا على كلمة سواء في الكيد لها والمكر بها.. على حين كان النصارى على درجات متفاوتة في موقفهم من تلك الدعوة.. تلقّاها بعضهم فآمن بها، ودخل فيها، وصار من أهلها.. وتلقاها بعض آخر متوقفا مترفقا، ومباعدا مقاربا.. أما أكثرهم عنادا وأشدهم مجافاة، فقد أنكر الدعوة، ونأى بنفسه عنها.. لا ينالها بسوء، ولا تناله هي بخير! ولهذا جاء قوله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾، جاء قول الله هنا محددا موقف كلّ من الفريقين من الإسلام، فاليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا، وهم والمشركون على سواء في هذه العداوة، مع أنهم أهل كتاب، يلتقى كتابهم ونبيهم مع كتاب الإسلام ونبيّ المسلمين، بنسب قريب، قريب.
3. والنصارى ـ لأنهم أهل كتاب ـ هم أقرب الناس مودة للذين آمنوا، إذ خلت نفوسهم من الحقد والحسد للناس، ولأنهم لا يرون احتجاز الخير السماوي عليهم وحدهم، حيث سمحت النصرانية لأن يدخل فيها الناس جميعا من جميع الأجناس والشعوب، على حين احتجزت اليهودية ما نزل من خير سماوي على اليهود.. لا يسمحون لأحد من غير اليهود أن يدين بدينهم أو أن يصبح في المؤمنين به.
4. في قوله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾.. تفرقة بين هاتين الفرقتين من أهل الكتاب.. اليهود والنصارى، وأنهم ليسوا على وضع واحد في موقفهم من الإسلام والمسلمين.
5. وإذا كانت الآية الكريمة قد فرقت بين الفرقتين، فإنها لم تحدد أي الفرقتين من أهل الكتاب هو المتّجه إليه الحكم في قوله تعالى؛ ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾، وفي إطلاق الحكم هكذا بحيث يدخل فيه الفريقان معا، حكمة، نتبين منها:
أ. أولا: أنّ في كلا الفريقين من أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ جماعات قائمة على الحق، مؤمنة بالله وباليوم الآخر، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
ب. ثانيا: كثرة كثيرة من النصارى يتجه إليهم هذا الحكم.. وقلة قليلة جدا من اليهود يدخلون في هذا الحكم أيضا.. كما يعلم ذلك من حال الفريقين الذي كشفه القرآن في الموقف الذي أشارت إليه الآيات التي ذكرناها من سورة المائدة.
ج. ثالثا: من صدق القرآن، ودقة أحكامه، أنه لم يجعل الحكم مطلقا في النصارى، ولم يخرج منه اليهود جميعا بلا استثناء.. إذ لا تخلو فرقة من الفرقتين من أخيار وأشرار، وإن غلب الأخيار في النصارى، وغلب الأشرار في اليهود.. بمعنى أنه ليس كل النصارى على إطلاقهم يقفون من الإسلام هذا الموقف المترفّق المسالم، وليس كل اليهود ـ بلا استثناء فرد أو عدة أفراد ـ يكيدون للإسلام هذا الكيد، ويمكرون به هذا المكر الذي يعيش فيه اليهود مع الدعوة الإسلامية.
6. في قوله تعالى: ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ وصف كاشف للنصارى، إذ كان دينهم يدعوهم إلى التبشير به وإذاعته في الناس، وليس كذلك اليهود، وما يفهمون من دينهم ـ كما أشرنا إلى ذلك في أكثر من موضع.
7. قوله تعالى: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ تتمّة لهذا الحكم الذي حكم به الله لهم، وهو أنهم إذ عدّوا في المؤمنين بالله فإن كل عمل خير يعملونه يتقبله الله، ويجزيهم عليه، وليس كذلك أعمال المشركين.. إن الشرك أحبطها، وحرم أهلها ثمرة قبولها عند الله.. ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ وملاك التقوى، الإيمان بالله وباليوم الآخر.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/561.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. استئناف قصد به إنصاف طائفة من أهل الكتاب، بعد الحكم على معظمهم بصيغة تعمّهم، تأكيدا لما أفاده قوله: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 110] فالضمير في قوله: ﴿لَيْسُوا﴾ لأهل الكتاب المتحدّث عنهم آنفا، وهم اليهود، وهذه الجملة تتنزّل من التي بعدها منزلة التمهيد.
2. ﴿سَوَاءٌ﴾ اسم بمعنى المماثل وأصله مصدر مشتق من التسوية، وجملة ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ الآية.. مبيّنة لإبهام ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ والإظهار في مقام الإضمار للاهتمام بهؤلاء الأمة، فالأمّة هنا بمعنى الفريق، وإطلاق أهل الكتاب عليهم مجاز باعتبار ما كان كقوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 2] لأنهم صاروا من المسلمين.
3. عدل عن أن يقال: منهم أمّة قائمة إلى قوله ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾: ليكون ذا الثناء شاملا لصالحي اليهود، وصالحي النّصارى، فلا يختصّ بصالحي اليهود، فإن صالحي اليهود قبل بعثة عيسى كانوا متمسّكين بدينهم، مستقيمين عليه، ومنهم الّذين آمنوا بعيسى واتّبعوه، وكذلك صالحو النّصارى قبل بعثة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا مستقيمين على شريعة عيسى وكثير منهم أهل تهجّد في الأديرة والصّوامع وقد صاروا مسلمين بعد البعثة المحمدية.
4. الأمّة: الطائفة والجماعة، ومعنى قائمة أنه تمثيل للعمل بدينها على الوجه الحقّ، كما يقال: سوق قائمة وشريعة قائمة، والآناء أصله أأناء بهمزتين بوزن أفعال، وهو جمع إني ـ بكسر الهمزة وفتح النّون مقصورا ـ ويقال أنى ـ بفتح الهمزة ـ قال تعالى: ﴿غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ﴾ [الأحزاب: 53] أي منتظرين وقته.
5. جملة ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ حال، أيّ يتهجّدون في اللّيل بتلاوة كتابهم، فقيّدت تلاوتهم الكتاب بحالة سجودهم، وهذا الأسلوب أبلغ وأبين من أن يقال: يتهجّدون لأنّه يدلّ على صورة فعلهم.
6. معنى ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ يسارعون إليها أي يرغبون في الاستكثار منها، والمسارعة مستعارة للاستكثار من الفعل، والمبادرة إليه، تشبيها للاستكثار والاعتناء بالسير السريع لبلوغ المطلوب، وفي للظرفية المجازية، وهي تخييلية تؤذن بتشبيه الخيرات بطريق يسير فيه السائرون، ولهؤلاء مزيّة السرعة في قطعه، ولك أن تجعل مجموع المركّب من قوله: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ تمثيلا لحال مبادرتهم وحرصهم على فعل الخيرات بحال السائر الراغب في البلوغ إلى قصده يسرع في سيره، وسيأتي نظيره عند قوله تعالى ﴿لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ في سورة العقود [176]
7. الإشارة بأولئك إلى الأمّة القائمة الموصوفة بتلك الأوصاف، وموقع اسم الإشارة التنبيه على أنّهم استحقوا الوصف المذكور بعد اسم الإشارة بسبب ما سبق اسم الإشارة من الأوصاف.
8. ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ تذييل للجمل المفتتحة بقوله تعالى: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ [آل عمران: 113] إلى قوله: ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: 114] وقرأ الجمهور: تفعلوا ـ بالفوقية ـ فهو وعد للحاضرين، ويعلم منه أنّ الصّالحين السّابقين مثلهم، بقرينة مقام الامتنان، ووقوعه عقب ذكرهم، فكأنّه قيل: وما تفعلوا من خير ويفعلوا، ويجوز أن يكون التفاتا لخطاب أهل الكتاب، وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف ـ بياء الغيبة ـ عائدا إلى أمّة قائمة.
9. الكفر: ضد الشكر أي هو إنكار وصول النّعمة الواصلة، قال عنترة:
çنبئت عمرا غير شاكر نعمتي...والكفر مخبثة لنفس المنعمé
وقال تعالى ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ وأصل الشكر والكفر أيتعديا إلى واحد، ويكون مفعولهما النّعمة كما في البيت، وقد يجعل مفعولهما المنعم على التوسّع في حذف حرف الجرّ، لأن الأصل شكرت له وكفرت له، قال النابغة: (شكرت لك النعمى)، وقد جمع بين الاستعمالين قوله تعالى ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 152] وقد عدّي ﴿تَكْفُرُونَ﴾ هنا إلى مفعولين: أحدهما نائب الفاعل، لأن الفعل ضمّن معنى الحرمان، والضّمير المنصوب عائد إلى خير بتأويل خير بجزاء فعل الخير على طريقة الاستخدام وأطلق الكفر هنا على ترك جزاء فعل الخير، تشبيها لفعل الخير بالنّعمة، كأنّ فاعل الخير أنعم على الله تعالى بنعمته مثل قوله: ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [التغابن: 17] فحذف المشبّه ورمز إليه بما ه من لوازم العرفية، وهو الكفر، على أنّ في القرينة استعارة مصرّحة مثل ﴿يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ﴾ [البقرة: 27]، وقد امتنّ الله علينا إذ جعل طاعتنا إيّاه كنعمة عليه تعالى، وجعل ثوابها شكرا، وترك ثوابها كفرا فنفاه، وسمّى نفسه الشكور، وقد عدّي الكفر أن هنا إلى النعمة على أصل تعديته.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/196.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا من إنصاف القرآن، فهو لا يعمم حكمه إلا حيث يكون التعميم هو الحق الذي لا شك فيه، وإن كان في قوم من هم جديرون بالثناء ذكرهم، وكذلك كان الشأن في ذكر أهل الكتاب، فيقول: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ [آل عمران] ويقول سبحانه: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف] وفي هذه الآية يذكر بالخير العظيم طائفة من هؤلاء فيقول الحكم العدل تعالت كلماته: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾
2. ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ أي ليسوا متساوين في هذه الأعمال وتلك الأخلاق، أو ليسوا متساوين مطلقا، فليسوا جميعا أشرارا، وإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق طائفة كبيرة من الناس اجتمعت على الشر اجتماعا مطلقا، بحيث يرتضيه الجميع ويقصدونه ويريدونه ويبتغونه عامدين مريدين معتدين، بل إن منهم الضال، ومنهم المضل، ومنهم الناطق بالحق الذي لا يجد داعيا، أو يحمل على السكوت في وسط نكران الضالين، ففي وسط طغيان فرعون، وانقماع قومه في إرادته، وجد مؤمن آل فرعون، ينطق فيهم قائلا كما حكى الله تعالى عنه: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر]
3. بعد أن ذكر سبحانه أنهم ليسوا سواء، وقد ذكر أحوال أشرارهم، أخذ يبين أحوال أخيارهم، ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ أي من أهل الكتاب الذين ذكرنا أوصاف الكثرة منهم ـ طائفة تؤم وتقصد موجودة حاضرة ليست ماضية خالية، فمعنى قائمة على هذا موجودة، وفسر الزمخشرى كلمة قائمة بمعنى مستقيمة على العدل والحق، مأخوذة من قولهم أقمت العود فقام واستقام، وقد ذكر سبحانه وتعالى في هذا الجزء من الآية الكريمة وصفين اثنين: أنهم يتلون آيات الله، والثاني أنهم يسجدون.
4. معنى ﴿يَسْجُدُونَ﴾ أي يخضعون ويتطامنون للحق ولا يجحدون، ويتجهون إلى ربهم، يرجون رضاه، ولا يستكبرون عن نداء الحق إذا دعوا، فكنى بالسجود عن الخضوع المطلق الذي يعد السجود مظهره، ويصح أن يراد به السجود الذي يقع في صلاة المسلمين على ما سنبين، وقد ذكر ذلك الوصف مصدّرا ب (هم) إذ يقول: وهم يسجدون، فلم يقل ويسجدون؛ للإشارة إلى أن الخضوع والإذعان للحق شأن من شؤونهم، وليس حالا تعرض لهم، إذ إن ذكر الضمير فيه تقوية الإسناد وتوثيق لدوامه واستمراره.
5. سؤال وإشكال: ما هو الكتاب الذي يتلونه كما أشار الوصف الأول؟ والجواب: عن هذا السؤال يستدعى بيان من هذه الطائفة التي استحقت تلك الأوصاف الجليلة التي وصفها الله تعالى بها، ونقول في ذلك: إن العلماء قد اختلفوا في ذلك على رأيين:
أ. أحدهما: أنها طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالله تعالى وبرسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأذعنوا للحق الذي جاء به ودعا إليه، ومن هؤلاء عبد الله بن سلام وطائفة من اليهود الذين كانوا يقيمون مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو ينطبق على النصارى وغيرهم الذين يهتدون بهدى الإسلام، ويرتضونه عن بيّنة دينا لهم، وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيهم وفي أمثالهم ممن يكونون في قابل الأيام: (ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة فأدبها وأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فله أجران) وعلى هذا الرأي يكون تفسير قائمة بمعنى موجودة؛ لأنها قد وجدت حقيقة، وارتضت الإسلام دينا.
ب. الثاني: أن هذه الطائفة من أهل الكتاب ولم تعتنق الإسلام، وكانت قبله أو بعده ولم تبلغها الدعوة على وجهها، ولم تحرف التوراة أو الإنجيل أو لم تأخذ بالمحرف منهما، وقد أثر ذلك الرأي عن بعض السلف، فقد روى عن ابن عباس أنه قال في معنى أمة قائمة: (أمة مهتدية قائمة على أمر الله لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه) وروى عن قتادة أنه كان يقول في الآية: (ليس كل القوم هلك، لقد كان فيهم بقية)، ويكون معنى ﴿قَائِمَةً﴾ على هذا التفسير بمعنى مستقيمة مهتدية مؤمنة بالحق مذعنة له.
6. اختار التفسير الثاني محمد عبده فيما نقله عنه صاحب المنار، فيقول: (وظاهر أن هذا كالذي قبله في أهل الكتاب حال كونهم على دينهم)، وآيات الكتاب التي يتلونها على ذلك هي البقية الصحيحة من كتبهم التي تشتمل على أدعية كلها توحيد وضراعة ونحو ذلك من أمثال بعض مزامير داوود، مثل ما جاء في المزمور الخامس والعشرين: (إليك يا رب أرفع نفسي، عليك توكلت، فلا تدعنى أخزى، لا تشمت بي أعدائي، كل منتظريك لا يخزون، ليخز الغادرون بلا سبب، طرقك يا رب عرفني، سبلك علمني، وربنى في حقك وعلمنى)، وأمثال هذه الأدعية والمناجاة لعلها البقية الباقية من تلك الكتب التي حرف فيها الكلم عن مواضعه.
7. عندى أن الآية الكريمة في أهل الكتاب الماضين الذين استقاموا على الحق، ولم يدركوا عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك لأن القرآن الكريم تكلم عن ماضي أهل الكتاب وحاضرهم، فحاضرهم كان سوءا، وذكر ماضيهم فبين أن بعضه كان سوءا وكان منهم أمة مقتصدة، فهذه الأوصاف في الأمة المقتصدة التي مضت، ويصح أن تطلق على المخلصين من أهل الكتاب الذين لم يبلغوا دعوة الإسلام، وكان فيهم إخلاص للحق وطلب له وإجابة لداعيه إن دعوا إليه، ويكونون داخلين بالقياس على الماضين.
8. ذكر سبحانه أوصافهم فقال تعالت كلماته:
أ. ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ هذا النص الكريم فيه بيان حال من أحوالهم، وهى الحال الدائمة المستمرة التي جعلتهم مستقيمين على الحق مهتدين بهديه، فإن الإيمان بالله تعالى حق الإيمان يجعل المؤمن يذعن للحق، ويخلص في كل ما يطلب، ولا يحب الشيء إلا لله، ويكون الله تعالى سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، فلا يكون منه إلا ما يكون للحق جل جلاله، وتكون كل مشاعره وأهوائه تبعا لأوامر الله تعالى ونواهيه، هذا هو الإيمان بالله، أما الإيمان باليوم الآخر، فإنه يعرف به حقيقة هذه الدنيا، وأنها لعب ولهو، وزينة وتفاخر، وأنه في هذه الحياة الآخرة يلقى الله سبحانه وتعالى، وأنه إذ يلقاه يجد كل ما عمل من خير محضرا، وما عمل من شر يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا، وإذا عمل حساب ذلك اللقاء ما أقدم على شر إلا مضطرا أو لماما.
ب. ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ هذا هو العمل الذي يفيضون به على غيرهم، ويشعرون بأن عليهم حقا بالنسبة للحق الذي أدركوه، وهو أن يتواصوا بالحق، ويتناهوا عن الباطل، ويأمروا بالمعروف الذي تقره العقول، ولا تنكره الفطرة المستقيمة، فإن المؤمن المذعن للحق يدعو إليه، ولا يسكت على باطل ولا يرتضيه، وتلك صفة أهل الخير من أهل الكتاب، وعلى عكس ذلك أهل الشر، فإنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، ولذا قال تعالى في أهل الشر منهم: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة]
ج. ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ هذه حال من أحوالهم المستمرة، وهى أنهم في خير مستمر، لا يجدون لحظة إلا يقومون فيها بخير، ولا تلوح لهم فرصة خير إلا يقدمون عليها، ولقد ذكر بعض العلماء هنا وجه البلاغة في التعبير ب (في) دون (إلى) إذ كان مقتضى الظاهر أن يقال يسارعون إلى الخيرات، ولكنه سبحانه وتعالى قال يسارعون في الخيرات، للإشارة إلى أن هؤلاء يسيرون في كل أعمالهم في سبيل الخير، فهم ينتقلون من خير إلى خير، في دائرة واحدة هي دائرة الخير، ينتقلون بين زواياها وأقطارها، ولا يخرجون منها، فهم لا ينتقلون مسارعين من شر إلى خير، بل إنهم ينتقلون من خير إلى خير، فكان التعبير ب (في) له موضعه من البيان.
د. ﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الإشارة هنا إلى الموصوفين بالصفات السابقة، من تلاوة الكتاب في خشوع وخضوع وتعرف لمراميه ومعانيه، وإذعان لحقائقه ومغازيه، ومن خضوعهم المطلق لله سبحانه وتعالى، ومن إيمانهم حق الإيمان بالله تعالى، وتصديقهم لكل ما جاء عن الله تعالى ببيناته وأدلته، ورجائهم لليوم الآخر، وخوفهم من عذابه، وترقبهم في كل ما يعملون لحسابه، فهذه الأوصاف كلها سلكتهم في عداد الصالحين، ولم تجعلهم في زمرة الفاسقين الذين ذمهم الله سبحانه وتعالى: والصالحون الذين دخل هؤلاء في جماعتهم هم الذين صلحت أحوالهم واستقامت أمورهم، وفي التعبير بقوله تعالى: ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ إشارة إلى أنهم بهذه المزايا، وتلك الصفات قد انسلخوا من عداد أهل الكتاب الذين ذمهم الله تعالى: وذكر أن أكثرهم فاسقون، فهم قد خرجوا من صفوف المذمومين إلى صفوف الممدوحين.
9. ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ في هذا النص الكريم بيان أن الله تعالى يحتسب ما يفعلون من خير، ويثيبهم عليه، و(ما) هنا شرطية، ولذا جزم الفعل بعدها، و(من) هنا تفيد العموم، أي إن يفعلوا أي خير قليلا كان أو كثير فلن يحرموا ثوابه، وقد أكد احتسابه ب (لن)، لأن النفي ب (لن) يفيد التوكيد، و(كفر) بمعنى ستر، وهى لا تتعدى إلى مفعولين، ولكن لتضمنها معنى (حرم) تعدت إلى مفعولين، ويقول في ذلك الزمخشري (فإن قلت: لم عدى إلى مفعولين وشكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد، تقول: شكر النعمة وكفرها؟ (قلت): ضمن معنى الحرمان فكأنه قيل فلن يحرموه، بمعنى فلن يحرموا جزاءه) وفي حذف هذا المضاف وهو الجزاء إشارة إلى أن الجزاء ثمرة الفعل دائما، وأن عمل العامل خيرا أو شرا يتضمن كسب الجزاء إن خيرا أو شرا، وذلك بالنسبة للثواب تفضّل من الله تعالى دائما.
10. في هذا النص الكريم إشارة إلى أن النية الطيبة في الخير مع سلامة العقيدة ونزاهة النفس تجعل العمل طيبا مرجو الثواب دائما، لأن الأساس دائما تقوى القلوب، ولذا قال تعالى في تذييل الآية: ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾، وفي هذا التذييل الكريم إشارات إلى أمور ثلاثة:
أ. أولها: أن تقوى القلوب هي أساس لكل خير، وهى المجنب من كل شر.
ب. الثاني: أن التقوى إذا كانت شأنا من شؤون النفس، صار الشخص لا يوصف إلا بأنه من المتقين، وصار عمل الخير كسجية له من السجايا.
ج. الثالث: أن الله عليم بكل ما تخفيه القلوب وهو يجزى بما يعلم، اللهم وفقنا لتقواك، وأنر بصيرتنا، وطهر قلوبنا من رجس الهوى، إنك سميع الدعاء.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1366.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآيات الثلاث واضحة المعنى لا تحتاج إلى تفسير، والمحصل منها ان أهل الكتاب ليسوا متساوين في الانحراف والضلال، بل منهم جماعة طيبة صالحة، وأكثر المفسرين حملوا هذا المدح على من أسلم من أهل الكتاب، وحسن إسلامه عقيدة وعملا.
2. ان الدعوة إلى الايمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كنبي مرسل من السماء إلى أهل الأرض ما زالت قائمة، حتى اليوم، والى آخر يوم، وهي موجهة إلى جميع الناس في الشرق والغرب دون استثناء: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾، أما الدليل على صدقها فمنطق العقل وثبوت المعجزة وصلاح الدين للحياة، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أصل ديني العقل)، وقال تعالى في كتابه المنزل على نبيه المرسل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾، وليس من غرضنا أن نستدل هنا على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.. وإنما الغرض أن نبين: هل من لم يؤمن بنبوة محمد مستحق للعقاب، أو لا بد من التفصيل؟
3. وقبل أن نفرّق بين العالم والجاهل، والقاصر والمقصر نشير إلى الأصول الرئيسية، والمقاييس الأولى لاستحقاق العقاب وعدمه، ومنها تتضح الحقيقة، والتمييز بين الأفراد، وقد تسالم الجميع على ان الإنسان كائنا من كان، وعلى أي دين كان لا يستحق العقاب الا بعد قيام الحجة عليه.. ولا تقوم الحجة عليه الا بعد استطاعته الوصول إلى دليل الحق، وقدرته على العمل به، ومع ذلك تركه من غير مبرر، فإذا لم يوجد على الحق دليل من الأساس، أو وجد، ولكن عجز الإنسان عن الوصول اليه، أو وصل اليه، وأدى حق النظر فيه، حتى بلغ النهاية، ومع ذلك خفي عليه الحق، إذا كان كذلك فهو معذور، لعدم إتمام الحجة عليه، لأن من لم يثبت الحق لديه لا يعاقب على تركه الا إذا قصّر في البحث.
4. وأيضا من القواعد الرئيسية التي تتصل بهذا البحث قاعدة: (الحدود تدرأ بالشبهات)، فلا يجوز لنا أن نحكم على تارك الحق بأنه مجرم يستحق العقاب، ما دمنا نحتمل ان له عذرا في تركه، وهذه القاعدة تنطبق على جميع الناس، لا على المسلمين فحسب، كما انها تشمل جميع الحدود بشتى أنواعها.. ومثلها قاعدة: (من أخطأ في اجتهاده فخطؤه مغفور له).. وهذه القاعدة عقلية لا يمكن تخصيصها بدين دون دين، أو بمذهب دون مذهب، أو بأصل أو بفرع.. إذا تمهد هذا نشرع بالتطبيق(2):
أ. أن يعيش الإنسان في بلد ناء عن الإسلام والمسلمين، ولم تبلغه الدعوة، وما سمع باسم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مدة حياته، ولا مرّ بخاطره من قريب أو بعيد أن في الدنيا دينا اسمه الإسلام، ونبيا اسمه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.. وليس من شك ان هذا معذور من حيث عدم استحقاقه للعقاب، لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، ولقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾، والعقل رسول باطني ما في ذلك ريب الا انه برهان مستقل على وجود الله، أما الدليل على ثبوت نبوة النبي فلا بد من توسط المعجزة، وظهورها على يده، مع حكم العقل باستحالة ظهورها على أيدي غير الأنبياء.
ب. ان يسمع بالإسلام وبمحمد، ولكنه يفقد القدرة على التمييز بين الحق والباطل، لقصوره وعدم استعداده لتفهم دليل الحق ومعرفته، وهذا معذور لأنه تماما كالطفل والمجنون.. ومثله إذا لم يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم صغيرا تقليدا لآبائه، وذهل عن عقيدته كبيرا، واستمر مطمئنا اليها غير شاك ولا متردد.. ان هذا معذور، لأن تكليف الذاهل غير المقصر كتكليف النائم، قال المحقق القمي: (ان التحرر من تقليد الآباء والأمهات لا يخطر على بال أكثر الناس، بل يصعب غالبا على العلماء المرتاضين الذين يحسبون انهم خلعوا التقليد عن أعناقهم)، وقال أيضا: (ان من لا يتفطن لوجوب معرفة الأصول يلحق بالبهائم والمجانين الذين لا يتعلق بهم تكليف)، وقال الشيخ الأنصاري في الرسائل فصل الظن في الأصول، الذي يقتضيه الانصاف بشهادة الوجدان قصور بعض المكلفين، وبهذا قال الكليني، وقال الشيخ الطوسي: (العاجز عن التحصيل بمنزلة البهائم)، أجل، إذا تنبه هذا الغافل من نفسه إلى وجوب المعرفة، أو قال له قائل: انك مبطل في عقيدتك، ومع ذلك أصر، ولم يبحث ويسأل فهو آثم، لأنه مقصر، وجهل المقصر ليس بعذر.
ج. أن لا يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، مع ان فيه الاستعداد الكافي الوافي لتفهم الحق، ولكنه أهمل ولم يكترث إطلاقا، أو بحث بحثا ناقصا، وترك قبل أن يبلغ النظر نهايته، كما هو شأن الأعم الأغلب، بخاصة شباب هذا الجيل، وهذا غير معذور، لأنه اخطأ من غير اجتهاد، وتمكن من معرفة الحق، وأهمل.. وبالأولى أن يؤاخذ ويعاقب من بحث واقتنع، ومع ذلك رفض الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم تعصبا وعنادا.
د. أن ينظر إلى الدليل، وهو متجه إلى الحق بإخلاص، ولكن لم يهتد إلى الوجه الذي يوجب الإيمان بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، اما لتمسكه بشبهة باطلة دون أن يلتفت إلى بطلانها، واما لسليقة عرجاء، وما إلى ذلك مما يصد عن رؤية الحق، وهذا ينظر إلى حاله: فان جحد ونفى النبوة عن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بقول قاطع فهو مؤاخذ ومستحق للعقاب، لأن من خفي عليه وجه الحق لا يجوز له أن يجزم ويقطع بنفيه إطلاقا، فقد يكون الحق موجودا، ومنع من الوصول إلى معرفته مانع، وهذا هو الغالب، فإن الأشياء الكونية موجودة في ذاتها، ومع ذلك لا نعلم منها إلا قليلا، وكذلك الشأن بالنسبة إلى الأنبياء والمصلحين، وأي انسان يحيط بكل شيء علما، وقد عبّر أهل المنطق والفلسفة عن ذلك بعبارات شتى: منها عدم العلم لا يدل على العدم.. عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.. كل من الجزم بالاثبات والنفي يحتاج إلى دليل.. وقد رأينا الكثير من العلماء الأكفاء ينسجمون مع هذه الحقيقة، فيتهمون آراءهم ويتحفظون في أقوالهم، ولا يتخذون من أنفسهم مقياسا للصواب، ولا يقولون: هذا الرأي مقدس لا ريب فيه، وما عداه ليس بشيء، بل ينظرون إلى كل الآراء على انها عرضة للتساؤل.. ولا شيء أدل على نقص العالم من غروره بنفسه، وتزكيته لعلمه، وازدرائه لرأي الغير وعقيدته.. وعلى هذا، فإن مجرد عدم اقتناع زيد من الناس بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يسوّغ له نفي النبوة عن النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم بقول قاطع.. وان فعل فهو مسؤول، بخاصة بعد أن رأى العديد من الغرباء الأكفاء الذين لم يتأثروا بالوراثة والبيئة، رآهم يؤمنون بمحمد ورسالته لا لشيء الا احتراما للحق، واعترافا بالواقع، هذا إذا جحد، أما إذا نظر إلى الدليل ولم يقتنع، ولكنه لم يجحد، بل وقف موقف المحايد من نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يثبت، ولم ينف، وفي الوقت نفسه نوى مخلصا أن يؤمن بالحق متى ظهر له، تماما كالفقيه العادل، يفتي بالشيء على نية العدول عنه متى استبان له الخطأ، أما هذا فهو غير مسؤول، لأن من أخطأ في اجتهاده من غير تقصير فلا يؤاخذ على خطأه بحكم العقل، والنقل أيضا، فعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (لو ان الناس إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا).. وفي رواية ثانية: (انما يكفر إذا جحد).. وقال الشيخ الأنصاري في كتابه المعروف ب (الرسائل)، فصل (الظن في الأصول): (لقد دلت الأخبار المستفيضة على ثبوت الواسطة بين الكفر والايمان)، أي ان الجاحد كافر، والمعتقد مؤمن، والشاك لا كافر ولا مؤمن، ومن الأحاديث التي يمكن الاستدلال بها على عدم مؤاخذة المجتهد غير المقصر إذا أخطأ فيما يعود إلى العقيدة، من هذه الأحاديث الحديث المشهور عند السنة والشيعة: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)
5. سؤال وإشكال: ان هذا الحديث خاص بخطإ المجتهد في الأحكام الفرعية، لا في المسائل العقائدية، كما ادعى جماعة من العلماء، والجواب: ان المبرر لعدم مؤاخذة المجتهد في الأحكام هو احتراسه وعدم تقصيره في البحث، وهذا المبرر موجود بالذات في المسائل العقائدية.. هذا، إلى ان جميع الفقهاء اتفقوا، ومنهم الذين خصوا هذا الحديث بالمجتهد في الفروع، اتفقوا كلمة واحدة على ان القاصر الذي يعجز عن ادراك العقيدة الحقة معذور، ونحن لا نرى أي فرق بينه وبين المجتهد الذي عجز بعد ان استنفد الجهد، لأن كلا منهما عاجز عن معرفة ما لم يصل اليه.
6. الخلاصة ان من جحد الحق، أي حق كان فهو مؤاخذ، سواء اجتهد أم لم يجتهد إلا إذا كان قاصرا كالبهائم، وان وقف من الحق موقفا محايدا لم يثبت ولم ينف ينظر: فإن وقف هذا الموقف دون أن يجتهد وينظر إلى الدليل، أو اجتهد اجتهادا ناقصا فهو مؤاخذ، وان كان قد نظر إلى الدليل، حتى بلغ الاجتهاد نهايته فهو معذور، على شريطة أن يبقى متجها إلى الحق عازما على العدول عن موقفه متى ظهر العكس.
7. سؤال وإشكال: ان القاصر الذي يعجز عن معرفة العقيدة الحقة ـ ومنها نبوة محمد ـ معذور، وكذلك المجتهد غير الجاحد، مع عدم تقصيره في الاجتهاد، فهل معنى هذا انه يجوز لنا أن نعاملهما معاملة المسلمين في الزواج والإرث، وما اليهما؟ والجواب: نريد بالعذر هنا عدم استحقاق العقاب في الآخرة.. وهذا شيء، والزواج والإرث في هذه الحياة شيء آخر.. وكل من لا يؤمن بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مهما كان السبب فلا يجوز أن نعامله معاملة المسلمين من حيث الإرث والزواج، سواء أكان من الناجين غدا، أم من الهالكين، كما ان من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، حتى ولو كان أفسق الفاسقين، بل ومن المنافقين أيضا.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/137.
(2) نرى أن البحث في هذا من التكلف، وهو نوع من إيجاد المبررات للذين ينفرون من الدين ومسؤولياته، كما أنه تدخل في الشؤون الإلهية، فالله وحده من يعذر أو لا يعذر، وقد شرحنا ذلك في محال مختلفة.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ السواء مصدر أريد به معنى الوصف أي ليسوا مستوين في الوصف والحكم فإن ﴿منهم أمة قائمة يتلون آيات الله﴾، ومن هنا يظهر أن قوله: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ في مقام التعليل يبين به وجه عدم استواء أهل الكتاب.
2. اختلف في قوله: ﴿قَائِمَةً﴾ فقيل: أي ثابتة على أمر الله، وقيل: أي عادلة، وقيل: أي ذو أمة قائمة أي ذو طريقة مستقيمة، والحق أن اللفظ مطلق يحتمل الجميع غير أن ذكر الكتاب وذكر أعمالهم الصالحة يعين أن المراد هو القيام على الإيمان والطاعة.
3. الآناء جمع إني بكسر الهمزة أو فتحها، وقيل: إنو وهو الوقت، والمسارعة المبادرة وهي مفاعلة من السرعة قال في المجمع،: والفرق بين السرعة والعجلة أن السرعة هي التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه، وهي محمودة وضدها الإبطاء، وهو مذموم، والعجلة هي التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه وهي مذمومة، وضدها الأناة وهي محمودة، انتهى، والظاهر أن السرعة في الأصل وصف للحركة، والعجلة وصف للمتحرك.
4. الخيرات مطلق الأعمال الصالحة من عبادة أو إنفاق أو عدل أو قضاء حاجة، وهو جمع محلى باللام، ومعناه الاستغراق، ويكثر إطلاقه على الخيرات المالية كما أن الخير يكثر إطلاقه على المال.
5. عد الله سبحانه لهم جمل مهمات الصالحات، وهي الإيمان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسارعة في كل خير، ثم وصفهم بأنهم صالحون فهم أهل الصراط المستقيم وزملاء النبيين والصديقين والشهداء لقوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾، قيل: المراد بهؤلاء الممدوحين عبد الله بن سلام وأصحابه.
6. ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾، من الكفران مقابل الشكر أي يشكر الله لهم فيرده إليهم من غير ضيعة كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾، وقال: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ إلى أن قال: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/385.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ قد تقدم قوله تعالى: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ولكن أعيد ليفصل الكلام في المؤمنين.
2. ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ ﴿أُمَّةٍ﴾ جماعة جمعهم الإيمان الصادق ﴿قَائِمَةً﴾ غير قاعدة لعزتهم بالإيمان، فهم مجاهدون في سبيل الله بخلاف المتخلفين الذين قال الله فيهم: ﴿وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ [التوبة:90]
3. ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ يقرؤون آيات القرآن الذي أنزله الله وجعله آيات للناس وهم يصلون، وسمى صلاتهم سجوداً لخضوعهم فيها لله، كما قال تعالى: ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ [البقرة:58]
4. ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ ساعاته أي يكررون الصلاة في الليل في أوله وأثنائه وآخره، وأشار بقوله: ﴿آيَاتِ اللهِ﴾ إلى ما في القرآن من الهدى والنور؛ لأن الآيات الدلائل.
5. ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ إيماناً كاملاً على يقين بتوحيده وعدله وما تدل عليه أسماؤه الحسنى مما يستلزم أن يخشوه ويراقبوه ويخشعوا له.
6. ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ الذي هو يوم الحساب والجزاء ما يستلزم الإستعداد له خوفاً وطمعاً، ويسارعون في الخيرات في الأعمال الصالحات لرغبتهم فيها وحرصهم عليها، فيستكثرون منها بقدر وسعهم.
7. ﴿وَأُولَئِكَ﴾ أهل الصفات المذكورة ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ فالصفات المذكورة هي الصلاح أو عنوان الصلاح.
8. ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ قُرئ ﴿يَفْعَلُوا﴾ بالياء المثناة من تحت والتاء المثناة من فوق وكذلك ﴿يُكْفَرُوهُ﴾ فالقراءة بالياء على أصل السياق في المؤمنين من أهل الكتاب، أما القراءة بالتاء المثناة من فوق فهي فيهم ـ أيضاً ـ لكنه إلتفات إليهم، أو ليعم المؤمنين كلهم، فلن يكفروا خيراً فعلوه بل يشكرون على القليل والكثير.
9. ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ الذين هم أهل لأن تقبل أعمالهم ولا يكفروا منها شيء، وكان عليماً بالمؤمنين من أهل الكتاب أهل الصفات المذكورة لأنه عليم بالمتقين منهم ومن غيرهم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/522.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قيل ـ كما في مجمع البيان ـ: (سبب نزول هذه الآية أنه لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة، قالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمد إلا شرارنا، فأنزل الله: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ إلى قوله: ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ عن ابن عباس وقتادة وابن جريح، وقيل: إنها نزلت في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم، كانوا على عهد عيسى عليه السّلام فصدّقوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عن عطاء)
2. لقد أشار القرآن فيما سبق من آيات إلى أن هناك من أهل الكتاب فئة مؤمنة استطاعت أن تتحرر من العقدة اليهودية التاريخية ضد الرسالات، ولكنها فئة قليلة وذلك قوله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، وفي هذه الآية حديث عن خصائص هذه الفئة وعن الامتيازات التي يمنحها الله لها في مقابل الفئة الأخرى المتمردة الكافرة:
أ. ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾، فهذه الفئة الطبيعة تتميز بالقيام لله في عباداتها الخاشعة في جوف الليل المتمثلة في السجود الخاشع المتبتل.
ب. ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾، في إيمانها الحق بالله واليوم الآخر، وفي انطلاقها من موقع المسؤولية الدينية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يفرضه الإسلام على الناس المؤمنين به، وفي مسارعتها في الخيرات انطلاقا من التوجيه الإلهي الذي يوحي للإنسان بأنّ عليه أن يسارع إلى فرص الخير باعتبارها الفرص التي قد لا تعوّض، ولهذا يظل المسلم في سباق دائم وسرعة مستمرة للحصول على الخير وتقديمه للآخرين في كل وقت وفي كل مكان.
ج. ويضيف القرآن إلى ذلك الصفة التي تعتبر كالنتيجة الطبيعية لهذه الأعمال: ﴿وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ لأن الصلاح الإنساني يمثل القاعدة الفكرية على الخط الصحيح، والسلوك العملي المنسجم مع تلك القاعدة.
3. ثم يؤكد القرآن لهؤلاء أن كل أعمالهم الخيّرة لن تكفر، أي لن تجحد في النتائج الطيبة التي يقدمها الله سبحانه للعالمين خيرا من الجنة والنعيم والقرب من رحمته ورضوانه: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ الذين يعيشون الخوف من الله والحب له في أعماق وجدانهم، فيدفعهم ذلك إلى طاعته في أوامره ونواهيه، والإخلاص له في كل أموره مما يجعلهم قريبين إلى الله محبوبين عنده، منفتحين على رضاه، فيجزيهم أحسن جزاء المتقين.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/228.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يقال: لما أسلم (عبد الله بن سلام) وهو من علماء اليهود وجماعة منهم، انزعجت اليهود، وبخاصة أحبارهم من هذا الحادث، وصاروا بصدد اتهامهم بالخيانة، وعيبهم بالشر فقال أحبارهم: (ما آمن بمحمّد إلّا شرارنا) وهم بذلك يهدفون إلى إسقاطهم من أعين اليهود حتّى لا يقتدى بهم الآخرون، فنزلت الآيات أعلاه للدفاع عن هذه الفئة المؤمنة.
2. بعد كلّ ذلك الذم لليهود، الذي تضمنته الآيات السابقة بسبب مواقفهم المشينة وأفعالهم الذميمة نجد القرآن ـ كما هو شأنه دائما ـ يراعي جانب العدل والإنصاف، فيحترم كلّ من تنزه عن ذلك السلوك الذميم الذي سار عليه اليهود، ويعلن بصراحة أنه لا يعمم ذلك الحكم، وإنه لا يمكن النظر إلى الجميع بنظرة واحدة دون التفريق بين من أقام على تلك الفعال، وبين من غادرها وطلب الحقّ، ولهذا يقول: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾، أجل ليس أهل الكتاب سواء، فهناك جماعة تطيع الله وتخافه، وتؤمن به وتهابه، وتؤمن بالآخرة وتعمل لها، وتقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3. بهذا يتورع القرآن الكريم عن إدانة العنصر اليهودي كافة، بل يركز على أفعالهم وأعمالهم وممارساتهم، ويحترم ويمدح كلّ من انفصل عن أكثريتهم الفاسدة، وخضع للحقّ والإيمان، وهذا هو أسلوب الإسلام الذي لا يعادي أحدا على أساس اللون والعنصر، بل إنما يعاديه على أساس اعتقادي محض، ويكافحه إذا كانت أعماله لا تنطبق مع الحقّ والعدل والخير، لا غير.
4. ثمّ إنه يستفاد من بعض الأحاديث أن الممدوحين في هذه الآية لم ينحصروا في (عبد الله بن سلام) وجماعته الذين أسلموا معه، بل شمل هذا المدح من نصارى نجران ومن نصارى الحبشة وأشخاص من أهل الروم كانوا قد أسلموا قبل ذلك، ويدل على ذلك أن الآية استخدمت لفظة ﴿أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ وهو كما نعرف تعبير يعم اليهود وغيرهم.
5. ثمّ إنّه سبحانه قال: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ معقبا بذلك على العبارات السابقة ومكملا للآية، ويعني بقوله أن هؤلاء الذين أسلموا واتخذوا مواقعهم في صفوف المتقين لن يضيع الله لهم عملا، وإن كانوا قد ارتكبوا في سابق حالهم ما ارتكبوه من الآثام، وما اقترفوه من المعاصي، ذلك لأنهم قد أعادوا النظر في سلوكهم وأصلحوا مسارهم، وغيروا موقفهم.
6. المراد من كلمة (الكفر) هنا هو ما يقابل الشكر، لأن الشكر يعني أصلا الاعتراف بالنعمة والجميل، والكفر يعني إنكار ذلك، فيكون المراد في هذه الآية هو أن الله لن ينكر أعمالهم الصالحة، ولن يتنكر لها.
7. كيف ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ وكأن هذه العبارة التي يختم بها سبحانه الآية الحاضرة تشير إلى حقيقة من الحقائق الهامة وهي: أن المتقين وإن كانوا قلة قليلة في الأغلب، وخاصة في جماعة اليهود الذين عاصروا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث كان المسلمون المهتدون منهم قلة ضعيفة، ومن شأن ذلك أن لا تلفت كميتهم النظر، ولكنهم مع ذلك يعلمهم الله بعلمه الذي لا يعزب عنه شيء، فلا موجب للقلق، ولا داعي للاضطراب ما دام سبحانه يعلم بالمتقين على قلتهم، ويعلم بأعمالهم، فلا يضيعها أبدا قليلة كانت أو كثيرة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/654.
61. الكفار ومصير أموالهم وأولادهم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈61⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 116 ـ 117]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لبعض أصحابه يعظه: اعلم أن ما قربك من الله يباعدك من النار، وما باعدك من الله يقربك من النار(1).
2. روي أنّه قال: في دعائه: اللهم لا تفعل بي ما أنا أهله، فإنك إن تفعل بي ما أنا أهله تعذبني ولم تظلمني، أصبحت أتقي عدلك ولا أخاف جورك، فيا من هو عدل لا يجور ارحمني(2).
3. روي أنّه قال في دعائه: الحمد لله الدائم الذي لا يزول، والعدل الذي لا يجور، والصافح عن الكبائر بفضله، والمعذب من عذب بعدله، لم يخف الفوت فحلم(3).
__________
(1) نهج البلاغة: الكتاب: 76.
(2) الكافي: 4/433.
(3) مهج الدعوات: ص 144.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ ريح فيها برد وجليد(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٤١.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فِيهَا صِرٌّ﴾ برد(1).
2. روي أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله: ﴿فِيهَا صِرٌّ﴾، قال: برد، قال: فهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول نابغة بني ذبيان(2):
çلا يبرمون إذا ما الأرض جللها... صر الشتاء من الإمحال كالأدمé
3. روي أنّه قال: السموم الحارة التي تقتل(3).
4. روي أنّه قال: ﴿رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ فيها نار(4).
__________
(1) سعيد بن منصور: ٥٢٢.
(2) الطستي في مسائله كما في الإتقان: ٢/١٠٤.
(3) تفسير الثعلبي: ٣/١٣٣.
(4) ابن أبي حاتم: ٣/٧٤١.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ حر، وبرد(1).
__________
(1) أبو الشيخ في العظمة: ٤/١٣٢٩.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ ريح فيها برد(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٧٠٧.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ مثل نفقة الكافر في الدنيا(1).
2. روي أنّه قال: يعني: نفقات الكفار، لا يكون لهم في الآخرة منها ثواب، وتذهب كما يذهب هذا الزرع الذي أصابته الريح فأهلكته(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٧٠٤.
(2) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٣١٤.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ برد شديد(1).
__________
(1) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره: ص٥٢.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ﴾ فحلقته، وأحرقته(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٤٢.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ معناه ساعاته.. واحدها إني(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فِيهَا صِرٌّ﴾ معناه برد شديد(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 111.
شرحبيل:
روي عن شرحبيل بن سعد (ت 123 هـ) أنّه قال: ﴿رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ الريح تجيء ببرد شديد؛ تهلك الزرع(1).
__________
(1) ابن المنذر: ١/٣٤٤.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال في صفة الله تعالى: هو نور ليس فيه ظلمة، وصدق ليس فيه كذب، وعدل ليس فيه جور، وحق ليس فيه باطل، كذلك لم يزل ولا يزال أبد الآبدين، وكذلك كان إذ لم يكن أرض ولا سماء(1).
__________
(1) التوحيد: ص 128.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَصَابَتْ﴾ الريح الباردة ﴿حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ﴾ فلم يبق منه شيئا، كما أهلكت الريح الباردة حرث الظلمة، فلم ينفعهم حرثهم، فكذلك أهلك الله نفقات سفلة اليهود ـ ومنهم كفار مكة ـ التي أرادوا بها الآخرة، فلم تنفعهم نفقاتهم، فذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ﴾ حين أهلك نفقاتهم؛ فلم تقبل منهم، ﴿وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٧.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ صر باردة أهلكت حرثهم، والعرب تدعوها: الضريب، تأتي الريح باردة فتصبح ضريبا؛ قد أحرق الزرع، تقول: ضرب الليلة: أصابه ضريب، تلك الصر التي أصابته(1).
2. روي أنّه قال: ثم اعتذر إلى خلقه، فقال: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ﴾ مما ذكره لك من عذاب من عذبناه من الأمم، ولكن ظلموا أنفسهم(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٧٠٦.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٤٢.
الكاظم:
روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنّه قال: إن الله تعالى العالم الذي لا يجهل، والعدل الذي لا يجور، والجواد الذي لا يبخل(1).
__________
(1) التوحيد: ص 76.
ابن سلام:
روي عن يحيى بن سلام (ت 200 هـ) أنّه قال: ﴿رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾: برد، وقال بعضهم: ريح باردة: ﴿أَصَابَتْ﴾ الريح: ﴿حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ﴾(1).
__________
(1) تفسير يحيى بن سلام: أنّه قال: ١/٤٥٤.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا﴾ هو ـ والله أعلم ـ أن بمثله يكون التناصر في الدّنيا، لكن الذي كان فيها لا ينفع في الآخرة، بل يكون كما قال الله عزّ وجل: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ﴾ الآية [عبس: 34]، ثم لا مال له، ثم ولا لو كان فينفع؛ وذلك أنهم ظنوا أن كثرة الأموال والأولاد تمنعهم من عذاب الله؛ كقولهم: ﴿نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [سبأ: 35]، فأخبر الله عزّ وجل: أن كثرة الأموال والأولاد لا تغني عنهم من عذاب الله شيئا.
2. ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ ضرب مثل نفقة الكفار التي أنفقوها بريح فيها صر أصابت حرث قوم، وذلك ـ والله أعلم ـ أنهم كانوا ينفقون ويعملون جميع الأعمال: من عبادة الأصنام والأوثان، ويقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3] ظنوا أن تلك الأعمال والنفقات التي أنفقوها في صد الناس ـ تنفعهم في الآخرة، وتقربهم إلى الله، فأخبر أنها لا تنفع، فكان كالريح التي فيها صرّ وبرد، ظنوا أن فيها رحمة، وشيئا ينفع زروعهم، وينمو بها، فإذا فيها نار أحرقت حرثهم؛ كما طمعوا من أعمالهم ونفقاتهم التي في الدنيا ـ بالآخرة؛ قربة وزلفة إليه، فإذا هي مهلكة لأبدانهم؛ كالريح التي فيها صرّ كانت مهلكة؛ محرقة لزروعهم وحرثهم
3. الصرّ: هو البرد الشديد، وقيل: الصر: الصوت؛ كقوله: ﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا﴾ [الذاريات: 29]، قيل: هي الصوت.
4. ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ قيل: مثل ما ينفقون في الصدّ عن سبيل الله، وفي قتال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا﴾ الآية [الأنفال: 36]، أي: يتأسفون على ما أنفقوا تأسف صاحب الزرع على ما كان أنفق فيه.
5. ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ والظلم: ما ذكرنا: هو وضع الشيء في غير موضعه، فهو ـ والله أعلم ـ قال هم الذين وضعوا أنفسهم في غير موضعها، لا أن وضع الله أنفسهم ذلك الموضع؛ لأنهم عبدوا غير الله، ولم يجعلوا أنفسهم خالصين سالمين لله، فهم الذين ظلموا أنفسهم؛ حيث أسلموها لغير الله، وعبدوا دونه، فذلك وضعها في غير موضعها؛ لأن وضعها موضعها هو أن يجعلوها خالصة لله، سالمة له.. وقيل: ما ضروا الله بعبادتهم غيره وبكفرهم به، إنما ضروا أنفسهم؛ إذ لا حاجة له إلى عبادتهم.. تقديم وتأخير، وأصل ذلك أن الله قد وضع كل نفس الخلقة بموضع العبودية، فجعلوها عبدة غيره.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/462.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾: أي فيها برد، والصر: هو البرد، قال الشاعر:
çليلُك يا واقدُ ليلٌ قُرُّ... أوقدْ فإنّ الريحَ ريحٌ صِرُّ
حتى يَرَى نارَك مَن يَمُرُّ... إن جلبتْ ضيفاً فأنت حُرُé
وقال آخر:
çلا يبرمون إذا ما الأرض حلّ بها... صر الشتاء من الأمحال كالأدمé
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 262.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ هذه الآية نزلت في أبي سفيان وأصحابه يوم بدر عند تظاهرهم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والصر البرد الشديد وقيل إنه صوت لهيب النار الذي يكون في الريح وأصله من الصرير وهو الصوت.. ظلموا أنفسهم: أي زرعوا في غير موضع الزرع وفي غير وقته فجاءت ريح فأهلكته فضرب الله سبحانه هذا مثلاً لهلاك بعضهم.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/150.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ﴾ على قولين:
أ. أحدهما: أنها نزلت في أبي سفيان وأصحابه يوم بدر عند تظاهرهم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. الثاني: أنها نزلت في نفقة المنافقين مع المؤمنين في حرب المشركين على جهة النفاق.
2. في الصّرّ تأويلان:
أ. أحدهما: هو البرد الشديد، وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي.
ب. الثاني: أنه صوت لهب النار التي تكون في الريح، وهو قول الزجاج، وأصل الصّر صوت من الصرير.
3. في قوله تعالى: ﴿أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: معناه أن ظلمهم اقتضى هلاك زرعهم.
ب. الثاني: يعني أنهم ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير موضع الزرع وفي غير وقته فجاءت ريح فأهلكته فضرب الله تعالى هذا مثلا لهلاك نفقتهم.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/419.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما ذكر تعالى أن عمل المتقين لن يضيع، وأنهم يجازون به، استأنف حكم الكافرين، وبين انه ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾ شيئاً من الله وإنما خص الأموال، والأولاد بالذكر في أنهم لا يغنون عن الكافر شيئاً وإن كان لا يغني عنهم غير هؤلاء أيضاً شيئا، لأنهما معتمد ما يقع به الاعتداد، ومما يعول عليه الإنسان ويرجوه للشدائد ويفيد النفي العام، لأنه إذا لم يغن عنه من هو حقيق بالغناء لمنع من لا يعجزه شيء فغناء من دونه أبعد.
2. ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ إنما سموا أصحاب النار، للزومهم فيها كما يقال هؤلاء أصحاب الصحراء إذا كانوا ملازمين لها، وقد يقال أصحاب العقار بمعنى ملاكه وأصحاب الرجل أتباعه وأعوانه وأصحاب العالم من يعني به الآخذون عنه، والمتعلمون عنه، فالاضافة مختلفة.
3. معنى ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ﴾ أي لن تدفع عنهم ضرر الولاء النازل بهم، ولو قيل أغناه كذا عن كذا أفاد أن أحد الشيئين صار بدلا من الآخر في نفي الحاجة، والغنى الاختصاص بما ينفي الحاجة، فان اختص بمال ينفي الحاجة، فذلك غنى، وكذلك الغنى بالجاه والاصحاب وغير ذلك، فأما الغنى في صفت الله فاختصاصه بكونه قادراً على وجه لا يعجزه شيء، وقولنا فيه: أنه غنى معناه أنه لا يجوز عليه الحاجة.
4. أصل النار النور، وهو مصدر، والنار جنس تجري مجرى الوصف في تضمنه معنى الأصل وزيادة عليه، لأنها جسم لطيف فيه حرارة ونور، ومنه امرأة نوار أي نافرة عن الشر عفيفة، لأنها كالنار في الامتناع، ومنه المنار الاعلام، لأنها كالنور في البيان، ومنه المنارة التي يسرج عليها.
5. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾:
أ. قيل: نزلت في أبي سفيان، وأصحابه يوم بدر، لما تظاهروا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الإنفاق.
ب. وقيل: بل نزلت في نفقة المنافقين مع المؤمنين في حروب المشركين على وجه النفاق للمؤمنين.
6. المثل الشبه الذي يصير كالعلم لكثرة استعماله فيما مشبه به، فلما كان إنفاق المنافق والكافر ضائعاً، ويستحق عليه العقاب والذم أشبه الحرث المهلك، فلذلك ضرب به المثل، وفي الآية حذف، وتقديرها مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ﴿رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ فحذف الإهلاك لدلالة آخر الكلام عليه وفيه تقدير آخر: مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح، فيكون تشبيه ذلك الإنفاق بالمهلك من الحرث بالرياح.
7. الريح جمعه رياح ومنه الروح، لدخول الريح الطيبة على النفس، وكذلك الارتياح، والتروح الراحة من التعب، لأنه بمنزلة الروح الذي يدخل على النفس بزوال التعب، ومنه الاستراحة، والمراوحة، لأنها تجلب الريح، ومنه الروح، لأنها كالريح في اللطافة ومنه الرائحة، لأن الريح تحملها إلى الحس، ومنه الرواح، لأنه رجوع كالريح، للاستراحة.
8. ﴿فيها صر﴾ قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والربيع، والسدي، وابن زيد، والضحاك: هو البرد وأصله الصوت من الصرير، قال الزجاج: الصر صوت لهب النار التي كانت في تلك الريح ويجوز أن يكون الصر صوت الريح الباردة الشديدة، وذلك من صفات الشمال، فإنها توصف بان لها قعقعة.
9. ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ﴾ نفي للظلم عن الله تعالى يعني في نفي استحقاقهم للثواب، واستحقاقهم للعقاب، وإن ذلك ليس بظلم منه تعالى ﴿وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بذلك، وإنما وصفهم بأنهم ظلموا أنفسهم، لأمرين:
أ. أحدهما: أن ظلمهم اقتضى هلاك حرثهم عقوبة لهم، لأنه لو هلك على جهة الابتلاء والمحنة لم يعتد بعاجل المضرة، للعوض الموفى عليه في العاقبة.
ب. الثاني: أن يكونوا ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير موضع الزرع أو في غير وقت الزراعة، فجاءت الريح فأهلكته تأديباً من الله لهم في وضع الشيء غير موضعه الذي هو حقه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/568.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الغنى: ضد الفقر، وهو الاختصاص بما ينفي الحاجة، ومعناه في صفات الله تعالى أنه لا يجوز عليه الحاجة؛ لأنه ليس بجسم، وهو قادر لذاته لا يعجزه شيء، وأغنى عنه: دَفَعَ عنه ضررًا لولاه لنزل به، وأغناه كذا عن كذا أن أحد الشيئين صار بدلاً من الآخر في نفي الحاجة.
ب. المصاحبة أصله الملازمة، ويقال لأتباع الرجل وأعوانه: أصحابه لملازمتهم إياه، وأصحاب النار لملازمتهم إياه بالدوام.
ج. النار: أصله من النور، وهو جسم لطيف، وفيه حرارة ونور واعتماد علوي.
د. الصِّرُّ: البرد يضر بالنبات، والصَّرْصَرُ: الريح الباردة، وأصل الباب الصوت من الصرير، قال الزجاج: والصِّرُّ صوت لهيب النار في تلك الريح، وقيل: صوت الريح الباردة الشديدة، والصَّرَّة شدة الصياح.
هـ. المثل: الشبه الذي يصير كالعلم لكثرة استعماله فيما يشبه.
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ﴾:
أ. قيل: نزل في أبي سفيان وأصحابه يوم بدر عند تظاهرهم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن اليماني.
ب. وقيل: بل في نفقة الكافرين مع المؤمنين في حرب المشركين على جهة النفاق، عن أبي على.
ج. وقيل: نزلت في نفقة تنفتلها اليهود على علمائهم.
د. وقيل: نزلت في جميع الكفار في نفقاتهم وصدقاتهم في الدنيا، عن مجاهد والأصم وأبي مسلم.
3. لما تقدم صفة المؤمنين وما أعد لهم عقبه ببيان حال الكافرين فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بِاللهِ ورسوله ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ﴾ أي لن تدفع عنهم.
4. ﴿أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾ شيئًا، وإنما ذكر المال؛ لأنه أعز الأشياء عليه، فلو فدى نفسه بجميع ماله لن يغني شيئًا، وذكر أولاده؛ لأنهم أقرب الناس إليه وأعزهم عليه، ولهم يكتسب، فهذان معتمد الخلق، فإذا لم يغنيا فغيرهما أحق.
5. ﴿مِنَ اللهِ﴾ أي من عذابه وما أراد بهم ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ الملازمون لها ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ دائمون.
6. ثم ضرب مثلا لإنفاقهم مبينًا أنهم مع كفرهم إن أمسكوا لا يغني عنهم شيئًا، وإن أنفقوا لا يقبل منهم، ولو افتدى به لا يُفْتَدَى، فقال تعالى: ﴿مَثَلُ﴾ شبه ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ﴾ ما يخرجون من أموالهم.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾:
أ. قيل: هو ما ينفقون على الكفار في عداوة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنه يبطل؛ لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم منصور من جهته تعالى حين يقتلهم ويسبي ذراريهم يبقى ذلك حسرة عليهم إذا عذبهم الله تعالى عليها في الآخرة.
ب. وقيل: هم أبو سفيان وأصحابه أنفقوا في حرب بدر وغيره.
ج. وقيل: هو ما ينفقه المنافقون رياء لله تعالى، عن أبي علي.
د. وقيل: هو ما ينفقون ويظنون أنها قربة، وليس كذلك.
هـ. وقيل: هو شركهم في الدين وإنفاقهم عليه متقربًا إلى الله تعالى، حكاه الأصم.
و. وقيل: هو صدقات الكافر ونفقاته في الدنيا تهلك لمكان كفره، ولا تقبل منه، وهذا ترغيب في الإيمان ليبقى به ثواب طاعاتهم.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ﴾:
أ. قيل: تقديره: كمثل حرث أصابته ريح فأهلكته، فشبه عملهم بالحرث، والصِّرّ الذي يهلك بالكفر الذي يبطل ثوابهم.
ب. وقيل: تقديره: مثل نفقاتهم كمثل مهلك ريح، فشبه الإنفاق بالمهلك من الحرث.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فِيهَا صِرٌّ﴾:
أ. قيل: برد شديد، عن ابن عباس والحسن وقتادة والربيع والسدي وابن زيد والضحاك والأصم وأبي علي.
ب. وقيل: السموم الحارة القاتلة، عن ابن عباس.
ج. وقيل: ريح فيها صوت ونار، عن الأصم.
10. ﴿أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ﴾ أي زرعهم ﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾:
أ. قيل: بالمعاصي، فظلمهم اقتضى هلاك حرثهم عقوبة لهم.
ب. وقيل: ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير موضع الزراعة وفي غير وقته، فجاءت الريح فأهلكته، وهو تأديب من الله تعالى وتعليم بأن يوضع الشيء موضعه.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ﴾:
أ. قيل: في إهلاك زرعهم؛ لأنهم استحقوا ذلك بظلمهم.
ب. وقيل: في قتلهم وسبيهم؛ لأنهم استحقوها بكفرهم.
ج. وقيل: في إحباط نفقاتهم؛ لأنه انحبط بكفرهم وضلالتهم.
12. ﴿وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ حيث فعلوا ما يستحقون به ذلك.
13. تدل الآيات الكريمة على:
أ. بطلان نفقة الكافر، وهو أحوج ما يكون إليها كرجل زرع فهلك زرعه، ورجا خيره أحوجَ ما يكون إليه.
ب. أنه لا ينتفع بعلمه لكفره وسوء اختياره، فتدل على العدل وبطلان الجبر.
ج. أنه لا يخلق الظلم؛ إذ لو كان أفعال العباد مخلوقة له لكان كل ظلم من جهته، فكان لا يصح نفيه، فيبطل قولهم في المخلوق، وأيضًا فإنه أضاف الظلم إلى العبد، وعندهم ليس بيده شيء.
د. أن المال والولد لا يغني عن عذاب الله تزهيدًا في زينة الدنيا، وترغيبًا في طاعة الله تعالى.
14. سؤال وإشكال: ما المحذوف من قوله: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ حتى يتقابل الكلام؟ والجواب: حذف منه إهلاك، وتقديره: مثل إهلاك ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل إهلاك ريح فيها صر، فحذف لدلالة ما بقي عليه.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/354.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الغنى: يقال: أغنى عنه إذا دفع عنه ضررا لولاه لنزل به، وإذا قيل: أغناه كذا عن كذا أفاد أن أحد الشيئين صار بدلا من الاخر في نفي الحاجة، والغنى: الاختصاص بما ينفي الحاجة، فإن اختص بمال ينفي الحاجة، فذلك غنى، وكذلك الغنى بالجاه، والأصحاب، وغير ذلك فأما الغني في صفات الله، فهو اختصاصه بكونه قادرا على وجه لا يعجزه شيء، وقولنا فيه إنه غني معناه أنه لا تجوز عليه الحاجة.
ب. أصحاب النار: إنما سموا بذلك لملازمتهم فيها، كما يقال هؤلاء أصحاب الصحراء: إذا كانوا ملازمين لها، وقد يقال أصحاب العقار بمعنى ملاكه، وأصحاب الرجل أتباعه وأعوانه، وأصحاب العالم المتعلمون منه، فالإضافات مختلفة، وأصل المصاحبة: الملازمة.
ج. النار: أصله من النور، وهو جسم لطيف فيه حرارة ونور واعتماد علوي.
د. الريح: واحدة الرياح، ومنه الروح لدخول الريح الطيبة على النفس، وكذلك الارتياح والتروح، والراحة من التعب، ومنه الروح: لأنها كالريح في اللطافة، ومنه الرائحة، لان الري تحملها إلى الحس.
هـ. الصر: البرد الشديد، وأصله من الصرير: وهو الصوت، قال الزجاج: الصر: صوت لهب النار التي كانت في تلك الريح، ويجوز أن يكون الصر: صوت الريح الباردة الشديدة، وذلك من صفات الشمال، فإنها توصف بأن لها قعقعة، والصر: شدة الصياح.
2. لما تقدم وصف المؤمنين، عقبه سبحانه ببيان حال الكافرين فقال ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ﴾ أي: لن تدفع عنهم ﴿أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ﴾ عذاب ﴿اللهِ شَيْئًا﴾ وإنما خص الأموال والأولاد بالذكر، لان هذين معتمد الخلق، وأعز الأشياء عليهم، فإذا لم يغنيا عن الانسان شيئا، فغيرهما غناؤه أبعد ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ أي: ملازموها ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي: دائمون.
3. ثم ضرب مثلا لانفاقهم فقال ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ﴾ أي: شبه ما ينفقون من أموالهم ﴿فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾:
أ. قيل: هو ما ينفقون على الكفار في عداوة الرسول.
ب. وقيل: هو ما أنفقه أبو سفيان وأصحابه ببدر وأحد، لما تظاهروا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ونفقاتهم في الدنيا، عن مجاهد، وفي الآية حذف وتقديره: مثل اهلاك ما ينفقون.
4. ﴿كَمَثَلِ﴾ اهلاك ﴿رِيحٌ﴾ فيها صر، فحذف الاهلاك لدلالة آخر الكلام عليه، وفيه تقدير آخر: مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح، فيكون تشبيه ذلك الانفاق من الحرث بالريح.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فِيهَا صِرٌّ﴾:
أ. قيل: برد شديد، عن ابن عباس والحسن وقتادة وجماعة.
ب. وقيل: السموم الحارة القاتلة، عن ابن عباس أيضا.
6. ﴿أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ﴾ أي: زرع قوم ﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾:
أ. قيل: بالمعاصي، فظلمهم اقتضى هلاك حرثهم عقوبة لهم.
ب. وقيل: ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير موضع الزراعة أو في غير وقتها فجاءت الريح ﴿فَأَهْلَكَتْهُ﴾ تأديبا لهم من الله في وضع الشيء غير موضعه الذي هو حقه ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ﴾ في اهلاك زرعهم، لأنهم استحقوا ذلك بظلمهم.
ج. وقيل: في قتلهم وسبيهم، لأنهم استحقوهما بكفرهم ﴿وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ حيث فعلوا ما استحقوا به ذلك.
7. قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر بالياء في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ والباقون بالتاء، إلا أبا عمرو، فإنه كان يحير.. ووجه القراءة بالياء أن يكون كناية عمن تقدم ذكره من أهل الكتاب، ليكون الكلام على طريقه واحدة، ووجه التاء: أنه خلطهم بغيرهم من المكلفين، ويكون خطابا للجميع في أن حكمهم واحد.
8. ﴿وَمَا يَفْعَلُوا﴾: ما للمجازاة و﴿يَفْعَلُوا﴾: مجزوم بالشرط، وإنما جوزي بما، ولم يجاز بكيف، لان ﴿مَا﴾ أمكن من ﴿كَيْفَ﴾ لأنها تكون معرفة ونكرة، لأنها للجنس، و﴿كَيْفَ﴾: لا تكون إلا نكرة، لأنها للحال، والحال لا يكون إلا نكرة، لأنها للفائدة.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/820.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ على أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنها في نفقات الكفّار، وصدقاتهم، قاله مجاهد.
ب. الثاني: في نفقة سفلة اليهود على علمائهم، قاله مقاتل.
ج. الثالث: في نفقة المشركين يوم بدر.. وقال السّدّيّ: إنما ضرب الإنفاق مثلا لأعمالهم في شركهم.
د. الرابع: في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين، ذكر هذين القولين أبو الحسن الماورديّ.
2. في الصّرّ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه البرد، قاله الأكثرون.
ب. الثاني: أنه النّار، قاله ابن عباس، قال ابن الأنباريّ: وإنما وصفت النّار بأنها صرّ لتصويتها عند الالتهاب.
ج. الثالث: أن الصّرّ: التّصويت، والحركة من الحصى والحجارة، ومنه: صرير النّعل، ذكره ابن الأنباريّ.
3. الحرث: الزّرع، وفي معنى ﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: ظلموها بالكفر، والمعاصي، ومنع حقّ الله تعالى.
ب. الثاني: بأن زرعوا في غير وقت الزّرع.
4. ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ﴾ قال ابن عباس: أي: ما نقصهم ذلك بغير جرم أصابوه، وإنما أنزل بهم ذلك لظلمهم أنفسهم بمنع حقّ الله منه.
5. هذا مثل ضربه الله لإبطال أعمالهم في الآخرة، وحدّثنا عن ثعلب، قال: بدأ الله عزّ وجلّ هذه الآية بالرّيح، والمعنى: على الحرث، كقوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ﴾ وإنما المعنى على المنعوق به، وقريب منه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ فخبّر عن (الأزواج) وترك (الذين)، كأنّه قال أزواج الذين يتوفّون منكم يتربّصن، فبدأ بالذين، ومراده: بعد الأزواج، وأنشد:
çلعلّي إن مالت بي الرّيح ميلة...عن ابن أبي ديّان أن يتندّماé
فخبّر عن ابن أبي ديان، وترك نفسه، وإنما أراد: لعلّ ابن أبي ديّان أن يتندّما إن مالت بي الرّيح ميلة، وقد يبدأ بالشيء، والمراد التّأخير، كقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾ والمعنى: ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودّة يوم القيامة.
__________
(1) زاد المسير: 1/318.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر الله تعالى في هذه الآيات مرة أحوال الكافرين في كيفية العقاب، وأخرى أحوال المؤمنين في الثواب جامعاً بين الزجر والترغيب والوعد والوعيد، فلما وصف من آمن من الكفار بما تقدم من الصفات الحسنة أتبعه تعالى بوعيد الكفار، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾
2. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قولان:
أ. الأول: المراد منه بعض الكفار ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجوهاً:
• أحدها: قال ابن عباس: يريد قريظة والنضير، وذلك لأن مقصود رؤساء اليهود في معاندة الرسول ما كان إلا المال والدليل عليه قوله تعالى في سورة البقرة ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: 41]
• ثانيها: أنها نزلت في مشركي قريش، فإن أبا جهل كان كثير الافتخار بماله ولهذا السبب نزل فيه قوله: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً﴾ [مريم: 74]، وقوله: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ [العلق: 17، 18]
• ثالثها: أنها نزلت في أبي سفيان، فإنه أنفق مالًا كثيراً على المشركين يوم بدر وأحد في عداوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. الثاني: أن الآية عامة في حق جميع الكفار، وذلك لأنهم كلهم كانوا يتعززون بكثرة الأموال، وكانوا يعيرون الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأتباعه بالفقر، وكان من جملة شبههم أن قالوا: لو كان محمد على الحق لما تركه ربه في هذا الفقر والشدة ولأن اللفظ عام، ولا دليل يوجب التخصيص فوجب إجراؤه على عمومه، وللأولين أن يقولوا: إنه تعالى قال بعد هذه الآية ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ﴾ [آل عمران: 177] فالضمير في قوله: ﴿يُنْفِقُونَ﴾ عائد إلى هذا الموضع، وهو قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ثم إن قوله: ﴿يُنْفِقُونَ﴾ مخصوص ببعض الكفار، فوجب أن يكون هذا أيضاً مخصوصاً.
3. إنما خص الله تعالى الأموال والأولاد بالذكر لأن أنفع الجمادات هو الأموال وأنفع الحيوانات هو الولد، ثم بيّن تعالى أن الكافر لا ينتفع بهما ألبتة في الآخرة، وذلك يدل على عدم انتفاعه بسائر الأشياء بطريق الأولى، ونظيره قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 88، 89]، وقوله: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ [البقرة: 48] الآية، وقوله: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ [آل عمران: 91]، وقوله: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى﴾ [سبأ: 37]، ولما بيّن تعالى أنه لا انتفاع لهم بأموالهم ولا بأولادهم، قال: ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
4. احتج أصحابنا(2) بهذه الآية على أن فساق أهل الصلاة لا يبقون في النار أبداً، فقالوا قوله: ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ كلمة تفيد الحصر فإنه يقال: أولئك أصحاب زيد لا غيرهم وهم المنتفعون به لا غيرهم، ولما أفادت هذه الكلمة معنى الحصر ثبت أن الخلود في النار ليس إلا للكافر.
5. ثم لما بيّن الله تعالى أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئاً، ثم إنهم ربما أنفقوا أموالهم في وجوه الخيرات، فيخطر ببال الإنسان أنهم ينتفعون بذلك، فأزال الله تعالى بقوله: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ تلك الشبهة، وبيّن أنهم لا ينتفعون بتلك الإنفاقات، وإن كانوا قد قصدوا بها وجه الله.
6. المثل الشبه الذي يصير كالعلم لكثرة استعماله فيما يشبه به وحاصل الكلام أن كفرهم يبطل ثواب نفقتهم، كما أن الريح الباردة تهلك الزرع، سؤال وإشكال: على هذا التقدير مثل إنفاقهم هو الحرث الذي هلك، فكيف شبه الإنفاق بالريح الباردة المهلكة؟ والجواب: المثل قسمان منه ما حصلت فيه المشابهة بين ما هو المقصود من الجملتين وإن لم تحصل المشابهة بين أجزاء الجملتين، وهذا هو المسمى بالتشبيه المركب، ومنه ما حصلت المشابهة فيه بين المقصود من الجملتين، وبين أجزاء كل واحدة منهما:
أ. فإذا جعلنا هذا المثل من القسم الأول زال السؤال.
ب. وإن جعلناه من القسم الثاني ففيه وجوه:
• الأول: أن يكون التقدير: مثل الكفر في إهلاك ما ينفقون، كمثل الريح المهلكة للحرث.
• الثاني: مثل ما ينفقون، كمثل مهلك ريح، وهو الحرث.
• الثالث: لعلّ الإشارة في قوله: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ﴾ إلى ما أنفقوا في إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في جمع العساكر عليه، وكان هذا الإنفاق مهلكاً لجميع ما أتوا به من أعمال الخير والبر وحينئذ يستقيم التشبيه من غير حاجة إلى إضمار وتقديم وتأخير، والتقدير: مثل ما ينفقون في كونه مبطلًا لما أتوا به قبل ذلك من أعمال البر كمثل ريح فيها صر في كونها مبطلة للحرث، وهذا الوجه خطر ببالي عند كتابتي على هذا الموضع، فإن انفاقهم في إيذاء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من أعظم أنواع الكفر ومن أشدها تأثيراً في إبطال آثار أعمال البر.
7. اختلفوا في تفسير هذا الإنفاق على قولين:
أ. الأول: أن المراد بالإنفاق هاهنا هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة سماه الله إنفاقاً كما سمى ذلك بيعاً وشراء في قوله: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ﴾ [التوبة: 111] إلى قوله: ﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾ [التوبة: 111]، ومما يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92] والمراد به جميع أعمال الخير وقوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 188] والمراد جميع أنواع الانتفاعات.
ب. الثاني: وهو الأشبه أن المراد إنفاق الأموال، والدليل عليه ما قبل هذه الآية وهو قوله: ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾ [آل عمران: 10]
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ﴾، وهل المراد منه جميع الكفار أو بعضهم، وفيه قولان:
أ. الأول: المراد بالإخبار عن جميع الكفار، وذلك لأن إنفاقهم إما أن يكون لمنافع الدنيا أو لمنافع الآخرة فإن كان لمنافع الدنيا لم يبق منه أثر ألبتة في الآخرة في حق المسلم فضلًا عن الكافر وإن كان لمنافع الآخرة لم ينتفع به في الآخرة لأن الكفر مانع من الانتفاع به، فثبت أن جميع نفقات الكفار لا فائدة فيها في الآخرة، ولعلّهم أنفقوا أموالهم في الخيرات نحو بناء الرباطات والقناطر والإحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل، وكان ذلك المنفق يرجو من ذلك الإنفاق خيراً كثيراً فإذا قدم الآخرة رأى كفره مبطلًا لآثار الخيرات، فكان كمن زرع زرعاً وتوقع منه نفعاً كثيراً فأصابته ريح فأحرقته فلا يبقى معه إلا الحزن والأسف، هذا إذا أنفقوا الأموال في وجوه الخيرات أما إذا أنفقوها فيما ظنوه أنه الخيرات لكنه كان من المعاصي مثل إنفاق الأموال في إيذاء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي قتل المسلمين وتخريب ديارهم، فالذي قلناه فيه أسد وأشد، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: 23] وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً﴾ [الأنفال: 36] وقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾ [النور: 39] فكل ذلك يدل على الحسنات من الكفار لا تستعقب الثواب، وكل ذلك مجموع في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27] وهذا القول هو الأقوى والأصح، وإنما فسرنا الآية بخيبة هؤلاء الكفار في الآخرة ولا يبعد أيضاً تفسيرها بخيبتهم في الدنيا، فإنهم أنفقوا الأموال الكثيرة في جمع العساكر وتحملوا المشاق ثم انقلب الأمر عليهم، وأظهر الله الإسلام وقواه فلم يبق مع الكفار من ذلك الإنفاق إلا الخيبة والحسرة.
ب. الثاني: المراد منه الإخبار عن بعض الكفار، وعلى هذا القول ففي الآية وجوه:
• الأول: أن المنافقين كانوا ينفقون أموالهم في سبيل الله ولكن على سبيل التقية والخوف من المسلمين وعلى سبيل المداراة لهم فالآية فيهم.
• الثاني: نزلت هذه الآية في أبي سفيان وأصحابه يوم بدر عند تظاهر هم على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
• الثالث: نزلت في إنفاق سفلة اليهود على أحبارهم لأجل التحريف.• الرابع: المراد ما ينفقون ويظنون أنه تقرب إلى الله تعالى مع أنه ليس كذلك.
9. اختلفوا في (الضر) على وجوه:
أ. الأول: قال أكثر المفسرين وأهل اللغة: الصر البرد الشديد وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد.ب. الثاني: أن الصر: هو السموم الحارة والنار التي تغلي، وهو اختيار أبي بكر الأصم وأبي بكر بن الأنباري، قال ابن الأنباري: وإنما وصفت النار بأنها صِرٌّ لتصويتها عند الالتهاب، ومنه صرير الباب، والصرصر مشهور، والصرة الصيحة ومنه قوله تعالى: ﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ﴾ [الذاريات: 29]، وروى ابن الأنباري بإسناده عن ابن عباس في ﴿فِيهَا صِرٌّ﴾ قال فيها نار.
10. على القولين فالمقصود من التشبيه حاصل، لأنه سواء كان برداً مهلكاً أو حراً محرقاً فإنه يصير مبطلًا للحرث والزرع فيصح التشبيه به.
11. احتج المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية على صحة القول بالإحباط، وذلك لأنه كما أن هذه الريح تهلك الحرث، فكذلك الكفر يهلك الإنفاق، وهذا إنما يصح إذا قلنا: إنه لولا الكفر لكان ذلك الإنفاق موجباً لمنافع الآخرة وحينئذ يصح القول بالإحباط، وأجاب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ عنه بأن العمل لا يستلزم الثواب إلا بحكم الوعد، والوعد من الله مشروط بحصول الإيمان، فإذا حصل الكفر فات المشروط لفوات شرطه لأن الكفر أزاله بعد ثبوته، ودلائل بطلان القول بالإحباط قد تقدمت في سورة البقرة.
12. سؤال وإشكال: لم لم يقتصر على قوله: ﴿أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ﴾ وما الفائدة في قوله: ﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾؟ والجواب: في تفسير قوله تعالى: ﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ وجهان:
أ. الأول: أنهم عصوا الله فاستحقوا هلاك حرثهم عقوبة لهم، والفائدة في ذكره هي أن الغرض تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب بالكلية حتى لا يبقى منه شيء، وحرث الكافرين الظالمين هو الذي يذهب بالكلية ولا يحصل منه منفعة لا في الدنيا ولا في الآخرة، فأما حرث المسلم المؤمن فلا يذهب بالكلية لأنه وإن كان يذهب صورة فلا يذهب معنى، لأن الله تعالى يزيد في ثوابه لأجل وصول تلك الأحزان إليه.
ب. الثاني: أن يكون المراد من قوله: ﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ هو أنهم زرعوا في غير موضع الزرع أو في غير وقته، لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وعلى هذا التفسير يتأكد وجه التشبيه، فإن من زرع لا في موضعه ولا في وقته يضيع، ثم إذا أصابته الريح الباردة كان أولى بأن يصير ضائعاً، فكذا هاهنا الكفار لما أتوا بالإنفاق لا في موضعه ولا في وقته ثم أصابه شؤم كفرهم امتنع أن لا يصير ضائعاً والله أعلم.
13. ثم قال تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ والمعنى أن الله تعالى ما ظلمهم حيث لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث أتوا بها مقرونة بالوجوه المانعة من كونها مقبولة لله تعالى قال الزمخشري: قرئ ولكن بالتشديد بمعنى ولكن أنفسهم يظلمونها، ولا يجوز أن يراد، ولكنه أنفسهم يظلمون على إسقاط ضمير الشأن، لأنه لا يجوز إلا في الشعر.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/337.
(2) يقصد أهل السنة، والأشاعرة خصوصا.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ اسم إن، والخبر ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا﴾، قال مقاتل: لما ذكر تعالى مؤمني أهل الكتاب ذكر كفارهم، وهو قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، وقال الكلبي: جعل هذا ابتداء فقال: إن الذين كفروا لن تغني عنهم كثرة أموالهم ولا كثرة أولادهم من عذاب الله شيئا، وخص الأولاد لأنهم أقرب أنسابهم إليهم، ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ ابتداء وخبر، وكذا و﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، وقد تقدم جميع هذا.
2. ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ ﴿مَا﴾ تصلح أن تكون مصدرية، وتصلح أن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف، أي مثل ما ينفقونه، ومعنى ﴿مثل ريح﴾ كمثل مهب ريح، قال ابن عباس: والصر البرد الشديد، قيل: أصله من الصرير الذي هو الصوت، فهو صوت الريح الشديدة، الزجاج: هو صوت لهب النار التي كانت في تلك الريح، وقد تقدم هذا المعنى في البقرة، وفي الحديث: إنه نهى عن الجراد الذي قتله الصر.
3. معنى الآية: مثل نفقة الكافرين في بطلانها وذهابها وعدم منفعتها كمثل زرع أصابه ريح باردة أو نار فأحرقته وأهلكته، فلم ينتفع أصحابه بشيء بعد ما كانوا يرجون فائدته ونفعه.
4. قال الله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾ بذلك ـ ﴿لكن أنفسهم يظلمون﴾ بالكفر والمعصية ومنع حق الله تعالى، وقيل: ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير وقت الزراعة أو في غير موضعها فأدبهم الله تعالى، لوضعهم الشيء في غير موضعه، حكاه المهدوي.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/178.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قيل: هم بنو قريظة والنضير، قال مقاتل: لما ذكر تعالى مؤمني أهل الكتاب ذكر كفارهم في هذه الآية، والظاهر أن المراد بذلك: كل من كفر بما يجب الإيمان به، لَنْ تُغْنِيَ﴾: لن تدفع، وخص الأولاد أنهم أحبّ القرابة وأرجاهم لدفع ما ينوبه.
2. ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ﴾ بيان لعدم إغناء أموالهم التي كانوا يعوّلون عليها، والصرّ: البرد الشديد، أصله: من الصرير الذي هو: الصوت، فهو صوت الريح الشديد، وقال الزجاج: صوت لهب النار التي في تلك الريح.
3. معنى الآية: مثل نفقة الكافرين في بطلانها، وذهابها، وعدم منفعتها، كمثل زرع أصابه ريح باردة، أو نار، فأحرقته، أو أهلكته، فلم ينتفع أصحابه بشيء منه بعد أن كانوا على طمع من نفعه وفائدته، وعلى هذا فلا بدّ من تقدير في جانب المشبه به، فيقال: كمثل زرع أصابته ريح فيها صرّ، أو: مثل إهلاك ما ينفقون؛ كمثل إهلاك ريح فيها صرّ؛ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم.
4. ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ﴾ أي: المنفقين من الكافرين ﴿وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بالكفر المانع من قبول النفقة التي أنفقوها، وتقديم المفعول: لرعاية الفواصل لا للتخصيص، لأن الكلام في الفعل باعتبار تعلقه بالفاعل، لا بالمفعول.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/428.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ قريظة والنضير وكان عنادهم بالمال، ومشركي قريش وعنادهم به وبالأولاد، وسائر المشركين بهما كذلك، ﴿لَن تُغْنِيَ﴾ تدفع، ﴿عَنْهُمُ أَمْوَالُهُمْ وَلَآ أَوْلَادُهُم﴾ والإنسان يدفع عن نفسه بماله تارة وبأولاده أخرى أو بهما، ﴿مِنَ اللهِ﴾ من عذابه، ﴿شَيْئًا﴾ مفعول به، أو لن تغني عنهم إغناء، ﴿وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ ملازموها، ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، وكان أبو جهل كثير الافتخار بالمال والولد، وأنفق أبو سفيان مالا كثيرا على المشركين يوم بدر ويوم أحد في عداوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، إِلَّا أنَّه أسلم بعدُ، وكان المشركون وأهل الكتاب كقريظة والنضير يعيِّرون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه بالفقر ويقولون: لو كان على الحقِّ لم يتركه ربُّه في الفقر والشدَّة، فأنزل الله: إنَّ المشركين وأهل الكتاب لم ينفعهم أموالهم وأولادهم.
2. ﴿مَثَلُ﴾ صفة ﴿مَا يُنفِقُونَ﴾ ينفق المشركون تقرُّبا إلى الله على الفقراء والأرحام، وفي تجهيز جيوش الكفر كأبي سفيان يوم أحد ويوم بدر، وعن الأصنام وسدنتها وشأنها، وخوفا أو رياء كإنفاق المنافقين، وكان نفاقهم بإضمار الشرك، وإنفاق اليهود على علمائهم لتحريف التوراة، والذي أقول به: إنَّ المراد ما تصدَّقوا به تقرُّبا إلى الله لقوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ﴾، ﴿فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ﴾ كمثل مُهلَك ريح ـ بفتح اللَّام ـ وهو الحرث، ﴿فِيهَا صِرٌّ﴾ حرٌّ أو برد أو صوت من تلك الريح أو من النار في تلك الريح، وأمَّا إنَّ جعلنا الصِّرَّ نفس الريح الباردة أو الحارَّة فالمعنى: كمثل ريح بعضها صرٌّ، أي: حارٌّ أو بارد، أو تأكيد، كقولك: برد بارد، وظل ظليل، أو تجريد بديعيٌّ بأن انتزع من الريح ريحا باردة مبالغة في بردها، أو فيها بردٌ باردٌ، كجدَّ جِدُّه.
3. ﴿اَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ﴾ زرع قوم، ﴿ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ﴾ بالكفر والمعاصي، قيَّد القوم بالظلم ليدلَّ على المبالغة؛ لأنَّ الإهلاك عن السخط يكون أشدَّ، ﴿فَأَهْلَكَتْهُ﴾ فلم ينتفعوا به، كذلك لا ينتفع دنيا ولا أخرى المشركون بما أنفقوا من أموالهم، ولو في تقرُّب إلى الله لم تقبل صدقتهم، ولم يؤثِّر إنفاقهم في عداوة الإسلام شيئًا.
4. ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ﴾ بتضييع نفقتهم، أو ما ظلم أصحاب الحرث في إهلاكه، ﴿وَلَكِنَ اَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بوضع النفقة في غير محلِّها، وبالبقاء على وصف لا تقبل معه نفقته، ولو وضعت في مواضعها وهو الشرك أو يظلمون أنفسهم بفعل ما يعاقبون عليه بإهلاك حرثهم، فالضمائر للمشركين أو لأصحاب الحرث، وأمَّا الضمير في ﴿ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ﴾ فلأصحاب الحرث.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/357.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ﴾ أي لن تدفع عنهم ﴿أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا﴾ أي من عذاب الله، وإن كان التصدق بالأموال يطفئ غضب الرب في حق المؤمنين، ويغفر لهم بموت أولادهم، أو استغفارهم ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
2. ولما بين تعالى أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئا، ثم إنهم ربما أنفقوها في وجوه الخيرات، فيخطر في البال أنهم ينتفعون بها، فأزال تلك الشبهة، وضرب لها مثلا بذهابها هباء منثورا بقوله سبحانه: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ من المكارم ويواسون فيه من المغارم ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ أي برد شديد كالصرصر ﴿أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بالكفر والمعاصي فباؤوا بغضب من الله ﴿فَأَهْلَكَتْهُ﴾ فكذا ريح الكفر إذا أصابت حرث إنفاق قومه تهلكه، فصار الظلم ريحا لحصوله من هوى النفس ذات برودة شديدة لكونه ظلم الكفر الذي هو الموت المعنويّ فأهلكته ـ قاله المهايميّ ـ
3. ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ﴾ بإهلاك حرثهم بإرسال ريح من عنده ﴿وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بإرسال ريح الظلم الكفريّ على حرثهم الأخرويّ.
4. سؤال وإشكال: الغرض تشبيه ﴿مَا أَنْفَقُوا﴾ في ضياعه، بالحرث الذي ضربته الصر، وقد جعل ما ينفقون ممثلا بالريح، فما وجه المطابقة للغرض؟ والجواب:
أ. هذا من التشبيه المركب وهو ما حصلت فيه المشابهة بين ما هو المقصود من الجملتين، وإن لم تحصل المشابهة بين أجزائيهما، والمقصود تشبيه الحال بالحال.
ب. ويجوز أن يراد: مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح فتحصل المشابهة.
5. قال ناصر الدين في (الانتصاف): والأقرب أن يقال أصل الكلام ـ والله أعلم ـ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم فأصابته ريح فيها صر فأهلكته، ولكن خولف هذا النظم في المثل المذكور لفائدة جليلة، وهو تقديم ما هو أهم، لأن الريح التي هي مثل العذاب، ذكرها في سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث، فقدمت عناية بذكرها، واعتمادا على أن الأفهام الصحيحة تستخرج المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه، ومثل هذا، في تحويل النظم لمثل هذه الفائدة، قوله تعالى: ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ [البقرة: 282] الآية، ومثله أيضا: أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، والأصل: أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، وأن أدعم بها الحائط إذا مال، وأمثال ذلك كثيرة والله الموفق.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/392.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف المفسرون في المراد بالذين كفروا:
أ. فقيل: هم بنو قريظة والنضير من اليهود وروي هذا القول عن ابن عباس، وهو الملائم للسياق من حيث كانت الآيات قبله في مؤمني أهل الكتاب ومن حيث حرص اليهود على المال والحياة، وأعَزُّها وآثَرُها حياةُ الأولاد.
ب. وقيل: هم مشركو قريش عامة، وقيل: بل هم أبو سفيان ورهطه خاصة ووجهوه بما نقل من إنفاقه المال الكثير على المشركين يوم بدر ويوم أحد.
ج. وقيل: إن الكلام في الكفار عامة لعموم اللفظ فهو على إطلاقه ويدخل فيه اليهود الذين كانوا مجاورين للمسلمين يومئذ وكذا مشركو مكة دخولا أوليا، قالوا: إنهم كانوا يتعززون بكثرة الأموال ويعيرون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأتباعه بالفقر ويقولون: لو كان محمد على الحق ما تركه به ربه في هذا الفقر والشدة.
د. وقيل: هم المنافقون إذ كان أكثرهم من الأغنياء، ومن كان كثير الأموال والأولاد قلما يشعر بحاجته إلى ما عند غيره من هداية أو علم أو أدب ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: 6 ـ 7] وقد سبق لنا بيان ذلك في تفسير قوله تعالى من هذه السورة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [آل عمران: 9]
2. قد فسر الجلال كغيره ﴿تُغْنِيَ﴾ بتدفع، أي لا تدفع شيئا من العذاب عنهم وإنما هو من الغناء بمعنى الكفاية، ولذلك رد هذا القول محمد عبده واختار أن ﴿شَيْئًا﴾ هو مفعول مطلق قال: أي لا تغني عنهم نوعا من أنواع الغناء أو لا تغني غناء ما قال: وذكر الأموال والأولاد لأن المغرور إنما يصده عن اتباع الحق أو النظر في دليله الاستغناء بما هو فيه من النعم وأعظمها الأموال والأولاد، فالذي يرى نفسه مستغنيا بمثل ذلك قلما يوجه نظره إلى طلب الحق أو يصغي إلى الداعي إليه: أي ومن لم يوجه نظره إلى الحق لا يبصره ومن لم يبصره تخبط في دياجير الضلال عمره حتى يتردى فيهلك الهلاك الأبدي ولا ينفعه في الآخر ماله فيفتدي به أو ينتفع بما كان أنفقه منه ولذلك قال: ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لأن طبيعة أرواحهم اقتضت أن يكونوا في تلك الهاوية المظلمة المستعرة.
3. ﴿إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدونمثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون﴾، قال الرازي في وجه الاتصال بين هذه الآيات وما قبلها: (اعلم أن الله تعالى ذكر في هذه الآيات مرة أحوال الكافرين في كيفية العقاب، وأخرى أحوال المؤمنين في الثواب، جامعا بين الزجر والترغيب، والوعد والوعيد، فلما وصف من آمن من الكافرين بما تقدم من الصفات الحسنة أتبعه تعالى بوعيد الكفار)
4. ثم مثل حالهم في إنفاق أموالهم التي فتنتهم فشغلهم عن الحق أو أغرتهم بمقاومته فقال: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ﴾، قال الراغب: مثل الشيء ـ بالتحريك ـ مثله وشبهه ويطلق على صفة الشيء، والمثل في الكلام عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر ليبين أحدهما الآخر ويصوره: أي ولو من بعض الوجوه لأن بيان الحقائق يكون على حسب المقاصد، والصر ـ بالكسر ـ والصرة شدة البرد وقيل هو البرد عامة حكيت الأخيرة عن ثعلب، وقال الليث الصر البرد الذي يضرب النبات ويحسه.. من لسان العرب وفي الكشاف: الصر الريح الباردة نحو الصرصر.. ثم قال الزمخشري: (فإن قلت: فما معنى قوله ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ قلت: فيه أوجه، أحدها: أن الصر في صفة الريح بمعنى الباردة فوصف بها القرة بمعنى (فيها قرة صر) كما تقول: (برد بارد) على المبالغة، الثاني: أن يكون الصر مصدرا في الأصل بمعنى البرد فيجيء به على أصله والثالث: أن يكون من قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ ومن قولك: إن ضيعني فلان ففي الله كاف وكافل، قال: وفي الرحمن للضعفاء كافي)، ونقل اللسان عن ابن الأنباري في الآية ثلاثة أقوال: (أحدها فيها صر أي برد والثاني فيها تصويت وحركة ونقل عن ابن عباس قول آخر: (فيها صر) قال فيها نار)ه يعني حرا شديدا وهو أحد قولين عنه ومن هنا أخذ الجلال قوله في تفسير الصر: حر وبرد، وأنكر عليه محمد عبده كلمة الحر؛ وقال: (إنه لا يهلك الحرث بمجرد إصابته وإنما يهلكه البرد فهو المراد حتما)، وقد اختلف في معنى أصل مادة الصر هل هو الصوت أو الشدة، والصواب أن الشدة تكون في الصوت ومنه ﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ﴾ كما تكون في البرد؛ فالصر هنا هو البرد الشديد حتما وهو قول ابن عباس الذي رواه عنه وعن غيره ابن جرير، ولعلهم أخذوا قولهم فيها نار من إحراق الزرع.
5. أما المعنى فقد قال محمد عبده: إن الريح المهلكة مثال للمال الذي ينفقونه في لذاتهم وجاههم ونشر سمعتهم وتأييد كلمتهم فيصدهم عن سبيل الله، وإن العقول والأخلاق الحسنة التي هي أصل جميع المنافع هي مثال الحرث أي إن المال الذي ينفقونه فيما ذكر هو الذي أفسد أخلاقهم وأهلك عقولهم بما صرفها عن النظر الصحيح ولفتها عن التفكر في عواقب الأمور، ثم أشار إلى ما قالوه في جعل التشبيه في المثل مركبا وهو أن حالهم فيما ينفقونه وإن كان في الخير كحال الريح ذات الصر المهلكة للزرع، فهم لا يستفيدون من نفقتهم شيئا، ومن المفسرين من جعل هذا فيما ينفقونه في عداوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومقاومة دعوته سواء كان المنفقون هم اليهود أم أهل مكة، ومنهم من جعل ذلك فيما ينفق المنافقون رياء أو تقية، وقد خاب الفريقان وخسروا بنصر الله نبيه والمؤمنين وبفضيحة المنافقين في سورة براءة، وبعض المفسرين يخص هذا الإنفاق بما يفعله الكافر على سبيل البر وهو لا يفيده في الآخر شيئا، إذ الإيمان شرط لقبول الأعمال ونفعها في تلك الدار.
6. أما وصف القوم الذين أهلكت الريح حرثهم بكونهم ظلموا أنفسهم فقد قال الزمخشري في الكشاف مبينا نكتته ما نصه: (فأهلك عقوبة لهم لأن الإهلاك عن سخط أشد وأبلغ)، وفي هامشه كتب بإملائه في ذلك: (أن النكتة في ذلك هي إفادة أن أولئك المنفقين لا يستفيدون شيئا منه لأن حرث الكافرين الظالمين هو الذي يذهب على الكلية إذ لا منفعة لهم فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة فأما حرث المسلم المؤمن فلا يذهب على الكلية لأنه وإن كان يذهب صورة إلا أنه لا يذهب معنى لما فيه من حصول أغراض لهم في الآخرة والثواب بالصبر على الذهاب)
7. إن الوصف يشعر بأن الجوائح قد تنزل بأموال الناس من حرث ونسل عقوبة على ذنوب اقترفوها ولكنه ليس نصا في ذلك، لما علمت من تعليل الكشاف آنفا، ولا يعارض ذلك ما ثبت من الأسباب الطبيعية لها، لأنه لا يستنكر على البارئ الحكيم الذي وضع سنن ارتباط الأسباب بالمسببات في عالم الحس أن يوفق بينهما وبين سننه الخفية في إقامة ميزان القسط في البشر لهدايتهم إلى ما به كمالهم من طريق العلوم الحسية التي يستفيدونها من النظر والتجربة، ومن طريق الإيمان بالغيب الذي يرشد إليه الوحي الإلهي، ويسمى ما ترتب عليه حدوث الشيء سببا له وما قارن المسبب من نفع بعض العباد وضر بعضهم به حكمة له، وكل من سبب الشيء وحكمته أو حكمه مقصود للخالق الحكيم.
8. رأينا في مذهب دارون العالم الطبيعي الشهير أن الحكمة في ألوان الثمار كالمشمش والخوخ والبرقوق هي إغراء أكلتها من الطير والناس بها لتأكلها، فيسقط عجمها على الأرض لينبت فيها بسهولة، فيحفظ نوعه بتجدد النسل أو ما هذا حاصله، ومن المعلوم بالضرورة أن لتلك الألوان أسبابا طبيعية تتعلق باستعداد نباتها وتأثير النور فيه، فهل تستنكر على حكمة من وفق بين أسباب تلك الألوان ذات البهجة في الثمار وبين مصلحة الطير بهدايته إليها، وحفظ النظام العام ببقاء أنواعها، أن يوفق بين أسباب إرسال العواصف والأعاصير وبين عقوبة الظالمين من البشر ليكون لهم زاجران عن الذنوب:
أ. أحدهما: حذر آثارها الطبيعية الضارة بهم فإن لكل ذنب ضررا لأجله كان محرما، إذ لا يحرم الله على عباده شيئا لإعناتهم.
ب. ثانيهما: ما يتخوف المؤمن من إصابة العقوبات الآفاقية إياه بذهاب الجوائح بماله إذا هو بغى وظلم.
9. سؤال وإشكال: من هذا القبيل: ما سألني عنه غير واحد من أهل العلم والبحث، وهو: ما معنى جعل الشهب رجوما للشياطين ومنعها إياهم من استراق السمع لمعرفة الوحي من الملائكة مع العلم بأن للشهب أسبابا طبيعية؟ والجواب: إن الحكيم الخبير ـ الذي يوفق أقدارا لأقدار فيجمع بين السبب ومسببه وبين أمور أخرى تسوقها أسباب خاصة بها لحكمة وراء تلك الأسباب ـ هو الذي جعل لهذه الظاهرة الطبيعية، تلك الحكمة الغيبية التي بينها الوحي ونطق بها الذكر، ومثلها في عالم الطبيعة كثير، ولعل لبعض الماديات تأثيرا في الأرواح الغيبية كتأثيرها في أرواحنا ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85]
10. أكتفي هنا بهذا التنبيه إلى هذه المسألة التي لم أر في كتاب ولم أسمع من لسان أحد قولا فيها، وإن لها لمواضع أخرى من التفسير كقوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30] وسنعقد لها فصلا في المقدمة، وهنالك نجيب عما يرد عليها من الشبهات.
11. قال تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾ يعني أولئك الذين أهلكت الريح ذات الصر حرثهم وذلك أنهم هم الذين كانوا ظلموا أنفسهم كما تقدم، فكان هلاك زرعهم عقوبة لهم لا إيذاء آنفا، وعلى هذا يكون قوله: ﴿وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ تأكيدا ذاهبا بكل شبهة، والظاهر المختار أن الضمير في قوله: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾ للمنفقين الذين ضرب المثل لبيان حالهم، فهم المقصودون بالذات والمعنى، ما ظلمهم الله بأن لم ينفعهم بنفقاتهم بل هم الذين ظلموا أنفسهم وحدها دون غيرها بإنفاق تلك الأموال في الطرق التي تؤدي إلى الخيبة والخسران بحسب سنة الله في أعمال الإنسان.
12. أما كونهم يظلمون أنفسهم دون غيرها أو دون أن يظلمهم أحد ـ كما تقدم أخذا من تقديم ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ على عامله ـ فهو ظاهر على القول بأن الآية نزلت فيما كان ينفقه أهل مكة كلهم أو بعضهم أو اليهود في عداوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومقاومته إذ كانوا هم الذين اختاروا ذلك لأنفسهم ولم يضروه صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه به بل كانوا سبب سيادته عليهم وتمكنه منهم، وظاهر أيضا على القول بأن المراد بتلك النفقات ما كان يضعه المنافقون في بعض طرق البر رياء وسمعة أو تقية من حيث إنها لا ينتفع بها في الآخرة، ويقولون مثل هذا في الكافر الذي ينفق في طرق البر حبا في البر ورغبه في الخير، فإنه وإن كان أحسن حالا من المرائي لا تفيده نفقته في الآخرة لأن شرطها الإيمان؛ وقد ظلم نفسه بترك النظر في الآيات والبينات عليه بعد ما ظهرت له أو بالجحود بعد النظر ونهوض الحجة، وإنما يعنون بقولهم أن نفقته لا تفيده في الآخرة أنها لا تجعله من أهل الجنة، ولا يوجد عاقل قط يقول إن الكافرين في الآخرة كلهم سواء لا فرق بين المحسن عملا والمسيء وبين فاعل الخير ومقترف الإثم، وسنعود إلى هذا البحث في مواضع أخرى.
__________
(1) تفسير المنار: 4/75.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بين سبحانه فيما سلف أحوال الكافرين، وما يحيق بهم من العقاب، وأحوال المؤمنين وما أعد لهم من الثواب، جامعا بين الزجر والترغيب، والوعد والوعيد، ثم وصف من آمن من الكفار بتلك الخلال الحسنة، والمفاخر التي عددها لهم ـ أتبع ذلك بوعيد الكفار وتيئيسهم بأنهم لن يجدوا يوم القيامة ما يدفع عنهم عذابه، ثم أردفه ببيان أن ما ينفقونه في هذه الحياة الدنيا، في لذاتهم وجاههم وتأييد كلمتهم لا يفيدهم شيئا، كزرع أصابته ريح فيها صرّ فأهلكته، فلم يستفد أصحابه منه شيئا.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا﴾ أي إن الذين كفروا من أهل الكتاب ومشركي مكة وغيرهم ممن كانوا يعيرون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأتباعه بالفقر، ويقولون: لو كان محمد على الحق ما تركه ربه في هذا الفقر الشديد، ويتفاخرون بكثرة الأموال والأولاد كما حكى الله عنهم: ﴿نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ لن تنفعهم هذه الأموال والأولاد يوم القيامة، واقتصر على ذكرهما، لأنهما من أعظم النعم، ومن كان يرتع في بحبوحة هذه النعم، فقلّما يوجه نظره إلى طلب الحق، أو يصغى إلى الداعي إليه، ومن ثم تراه يتخبط في ظلام دامس حتى يتردى في الهاوية، ويقع في المهالك، ولا ينفعه مال ولا ولد ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾، يوم يوضع الميزان، ويحاسب كل امرئ على النقير والقطمير، ونحو الآية قوله: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ وقوله: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ وقوله: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى﴾
3. ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي أولئك الملازمون للنار لا ينفكون عنها، لأن ظلمة أرواحهم، وفساد عقائدهم، وسوء أعمالهم، اقتضت خلودهم في تلك الهاوية المظلمة المستعرة التي وقودها الناس والحجارة، قد أعدت لكل من جحد بآيات ربه، وأعرض عن دعوة أنبيائه ورسله، ولم يصغ إلا لداعى الهوى والشهوات.
4. وبعد أن أبان أن أموالهم لا تغنى عنهم شيئا، ذكر أن ما ينفقونه من المال في سبل الخير لا يجديهم ليزيل ما ربما علق بالبال من أنهم ينتفعون به، وضرب لذلك مثلا فقال: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ﴾ أي إن ما ينفقونه في اللذات، ونشر الصيت، واكتساب الشهرة، وتأييد الكلمة، فيصدهم عن سبيل الله، ويفسد عقولهم وأخلاقهم التي هي عماد المنافع، كمثل ريح باردة أصابت حرث قوم فأهلكته.
5. خلاصة ذلك ـ أن حالهم فيما ينفقون وإن كان في الخير كحال الريح الشديدة البرد التي تهلك الزرع، فهؤلاء لا يستفيدون من نفقتهم شيئا، كما أن أصحاب ذلك الزرع كذلك، فهم إذا أنفقوا أموالهم في بناء الحصون والقلاع لصد العدو، وإقامة القناطر لحفظ المياه وأمن الطريق، وفي الإحسان إلى الضعفاء واليتامى وذوى الحاجات، ورجوا من ذلك الثواب الجزيل، ثم قدموا إلى الآخرة ورأوا كفرهم قد أبطل آثار ذلك الخير، كانوا كمن زرع زرعا وتوقع منه نفعا كثيرا، فأصابته ريح فأحرقته، فلا يبقى له إلا الحسرة والندامة، ونحو الآية قوله: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ وقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾، وجماع هذا كله قوله: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾
6. مما سلف تعلم أن هذا المثل ضرب لخيبتهم في الآخرة، وليس بالبعيد أن يكون أيضا مثلا لخيبتهم في الدنيا، ذاك أنهم أنفقوا الأموال الكثيرة في جمع العساكر، وتحملوا المشاق، ثم انقلب الأمر عليهم، فأظهر الله الإسلام وقواه، فلم يبق للكفار من ذلك الإنفاق إلا الخيبة والحسرة.
7. جعل الله هذا الحرث لقوم ظلموا أنفسهم، لإفادة أن المنفقين لا يستفيدون منه شيئا، إذ حرث الكافرين الظالمين هو الذي يذهب بلا منفعة في الدنيا ولا في الآخرة، أما حرث المسلم المؤمن فهو وإن ذهب حسا فهو لا يذهب معنى، لما فيه من الثواب بالصبر على ما يصيبه من النكبات والأحزان.
8. الخلاصة ـ إن الجوائح قد تنزل بأموال الناس من حرث ونسل عقوبة لهم على ذنوب اقترفوها، إذ لا يستنكر على القادر الحكيم الذي وضع السنن وربط الأسباب بمسبباتها في عالم الحس، أن يوفق بينها وبين سننه الخفية في إقامة ميزان القسط بين الناس، لهدايتهم إلى ما به كمالهم من طريق العلوم الحسية التي تستفاد من النظر والتجربة، ومن طريق الإيمان بالغيب الذي يرشد إليه الوحى الإلهي ونحن نسمى ما يترتب عليه حدوث الشيء سببا له، وما يلابس السبب من النفع لبعض والضر لآخرين حكمة له، وكل ذلك مقصود للفاعل الحكيم.
9. ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ أي وما ظلمهم الله بعدم انتفاعهم بنفقاتهم بل هم الذين ظلموا أنفسهم بإنفاق الأموال في السبل التي تؤدى إلى الخيبة والخسران على النهج الذي سنة الله في أعمال الإنسان والآية نزلت فيما كان ينفقه أهل مكة، أو ينفقه اليهود في عداوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومقاومته، لأنهم هم الذين اختاروا ذلك لأنفسهم، ولم يضروا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه، بل كان ذلك سبب سيادته عليهم، وتمكنه منهم، وقيل إنها نزلت فيما كان ينفقه المنافقون في بعض طرق البر رياء وسمعة أو تقيّة، وقيل إن المثل ينطبق على الكافرين الذين ينفقون أموالهم في طرق البر رغبة في الخير، لأن شرط الثواب على تلك الأعمال الإيمان، وقد ظلموا أنفسهم بترك النظر في الدلائل بعد ما ظهرت، أو بالجحود بعد النظر وإقامة الحجة.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/39.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هكذا ترتسم هذه الحقيقة في مشهد ينبض بالحركة ويفيض بالحياة على طريقة التعبير القرآني الجميل، إن أموالهم وأولادهم ليست بمانعتهم من الله، ولا تصلح فدية لهم من العذاب، ولا تنجيهم من النار، وهم أصحاب النار، وكل ما ينفقونه من أموالهم فهو ذاهب هالك، حتى ولو أنفقوه فيما يظنونه خيرا، فلا خير إلا أن يكون موصولا بالإيمان، ونابعا من الإيمان، ولكن القرآن لا يعبر هكذا كما نعبر، إنما يرسم مشهدا حيا نابضا بالحياة.
2. إننا ننظر فإذا نحن أمام حقل قد تهيأ للإخصاب، فهو حرث، ثم إذا العاصفة تهب، إنها عاصفة باردة ثلجية محرقة! تحرق هذا الحرث بما فيها من صرّ، واللفظة ذاتها كأنها مقذوف يلقى بعنف، فيصور معناه بجرسه النفاذ، وإذا الحرث كله مدمر خراب! إنها لحظة يتم فيها كل شيء، يتم فيها الدمار والهلاك، وإذا الحرث كله يباب! ذلك مثل ما ينفق الذين كفروا في هذه الدنيا ـ ولو كان ينفق فيما ظاهره الخير والبر ـ ومثل ما بأيديهم من نعم الأولاد والأموال.. كلها إلى هلاك وفناء.. دون ما متاع حقيقي ودون ما جزاء.
3. ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ فهم الذين تنكبوا المنهج الذي يجمع مفردات الخير والبر، فيجعلها خطا مستقيما ثابتا وأصلا، له هدف مرسوم، وله دافع مفهوم، وله طريق معلوم.. فلا يترك للنزوة العارضة، والرغبة الغامضة، والفلتة التي لا ترجع إلى منهج ثابت مستقيم، هم الذين اختاروا لأنفسهم الشرود والضلال والانفلات من عصمة الحبل الممدود، فإذا ذهب عملهم كله هباء ـ حتى ما ينفقونه فيما ظاهره الخير ـ وإذا أصاب حرثهم كله الدمار، فلم يغن عنهم مال ولا ولد.. فما في هذا ظلم من الله تعالى لهم، إنما هو ظلمهم لأنفسهم، بما اختاروه لأنفسهم من تنكب وشرود، وهكذا يتقرر أن لا جزاء على بذل وأن لا قيمة لعمل إلا أن يرتبط بمنهج الإيمان وإلا أن يكون باعثه الإيمان.
4. يقول الله هذا ويقرره فلا تبقى بعده كلمة لإنسان؛ ولا يجادل في هذا القرار إلا الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/451.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الحكم الواقع على الذين كفروا هنا عام، يشمل الكافرين جميعا، وإن كان يتجه أول ما يتجه إلى الكافرين من أهل الكتاب، الذين تحدثت عنهم الآيات السابقة، لأنهم كفروا مع ما في أيديهم من هدى، وطرحوا ما معهم من إيمان: بخلاف الكافرين أصلا.. وإن كان الكفر هو الكفر، إلا أن بعضه أشدّ من بعض سوءا، وأبغض وجها.
2. هؤلاء الكافرون من أهل الكتاب، ومن غير أهل الكتاب، سيلقون جزاء كفرهم يوم القيامة، حيث يلقون في نار جهنم خالدين فيها أبدا، وحيث لا يدفع عنهم هذا العذاب ما كان لهم في الدنيا من مال وولد، وإن ملأ وجه الأرض كثرة وعددا! أما هذه الأعمال التي عملوها في هذه الدنيا، واحتسبوها فيما هو للخير، فلن يجدوا لها أثرا يوم القيامة.. إن كفرهم بالله قد أحبطها، وأبطل آثارها، فهي أشبه بزرع تعب فيه زارعوه، وبذلوا له ما بذلوا من جهد، وفيما هم في انتظار جنى ثمره، جاءته ريح عاصف فأتت عليه، وأصارته هشيما، لا ينتفع بشيء منه.
3. ﴿رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ أي ريح تحمل في كيانها قوى التدمير والإتلاف.. والصّرّ هو البرد الشديد الذي يبلغ من شدته أن يحرق الزرع كما تحرق النار.
4. في قوله تعالى: ﴿أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾، إشارة إلى أن الظلم يحيط بأهله في الدنيا وفي الآخرة جميعا.. وأن للظالمين عند الله عقابا معجلا، وآخر مؤجلا، ليكون في ذلك عبرة ماثلة للناس، يرون فيها نقم الله لمن حادّ الله وحاربه!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/564.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ استئناف ابتدائي للانتقال إلى ذكر وعيد المشركين بمناسبة ذكر وعد الذين آمنوا من أهل الكتاب.
1. إنّما عطف الأولاد هنا لأن الغناء في متعارف النّاس يكون بالمال والولد، فالمال يدفع به المرء عن نفسه في فداء أو نحوه، والولد يدافعون عن أبيهم بالنصر، وقد تقدّم القول في مثله في طالعة هذه السورة.
2. كرّر حرف النّفي مع المعطوف في قوله: ﴿وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾ لتأكيد عدم غناء أولادهم عنهم لدفع توهّم ما هو متعارف من أن الأولاد لا يقعدون عن الذبّ عن آبائهم.
3. يتعلق ﴿مِنَ اللهِ﴾ بفعل ﴿لَنْ تُغْنِيَ﴾ على معنى (من) الابتدائية أي غناء يصدر من جانب الله بالعفو عن كفرهم، وانتصب (شيئا) على المفعول المطلق لفعل ﴿لَنْ تُغْنِيَ﴾ أي شيئا من غناء، وتنكير شيئا للتقليل.
4. جملة ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ عطف على جملة ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾، وجيء بالجملة معطوفة، على خلاف الغالب في أمثالها أن يكون بدون عطف، لقصد أن تكون الجملة منصبّا عليها التّأكيد بحرف (إنّ) فيكمل لها من أدلّة تحقيق مضمونها خمسة أدلة هي: التّكيد ب ﴿إِنَّ﴾، وموقع اسم الإشارة، والإخبار عنهم بأنّهم أصحاب النّار، وضمير الفصل، ووصف خالدون.
5. ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ استئناف بياني لأن قوله: ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ﴾.. يثير سؤال سائل عن إنفاقهم الأموال في الخير من إغاثة الملهوف وإعطاء الديات في الصلح عن القتلى، ضرب لأعمالهم المتعلّقة بالأموال مثلا، فشبّه هيئة إنفاقهم المعجب ظاهرها، المخيّب آخرها، حين يحبطها الكفر، بهيئة زرع أصابته ريح باردة فأهلكته، تشبيه المعقول بالمحسوس، ولمّا كان التّشبيه تمثيليا لم يتوخ فيه موالاة ما شبّه به إنفاقهم لأداة التّمثيل، فقيل: كمثل ريح، ولم يقل: كمثل حرث قوم.
6. الكلام على الريح تقدّم عند قوله تعالى ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ في سورة البقرة [164]، والصّر: البرد الشّديد المميت لكلّ زرع أو ورق يهبّ عليه فيتركه كالمحترق، ولم يعرف في كلام العرب إطلاق الصرّ على الرّيح الشّديد البرد وإنّما الصرّ اسم البرد، وأمّا الصرصر فهو الريح الشديدة وقد تكون باردة، ومعنى الآية غني عن التأويل، وجوز في (الكشاف) أن يكون الصرّ هنا اسما للريح الباردة وجعله مرادف الصرصر، وقد أقره الكاتبون عليه ولم يذكر هذا الإطلاق في الأساس ولا ذكره الراغب.
7. في قوله: ﴿فِيهَا صِرٌّ﴾ إفادة شدّة برد هذه الريح، حتّى كأنّ جنس الصر مظروف فيها، وهي تحمله إلى الحرث، والحرث هنا مصدر بمعنى المفعول: أي محروث قوم أي أرضا محروثة والمراد أصابت زرع حرث، وتقدّم الكلام على معاني الحرث عند قوله تعالى ﴿وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾ [آل عمران: 14] في أول السورة.
8. ﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ إدماج في خلال التمثيل يكسب التمثيل تفظيعا وتشويها وليس جزءا من الهيئة المشبّه بها، وقد يذكر البلغاء مع المشبّه به صفات لا يقصدون منها غير التحسين أو التقبيح كقول كعب بن زهير:
çشجّت بذي شبم من ماء محنية...صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
تنفي الرّياح القذى عنه وأفرطه...من صوب سارية بيض يعاليلé
فأجرى على الماء الذي هو جزء المشبّه به صفات لا أثر لها في التشبيه.
9. السامعون عالمون بأن عقاب الأقوام الذين ظلموا أنفسهم غاية في الشدّة، فذكر وصفهم بظلم أنفسهم لتذكير السامعين بذلك على سبيل الموعظة، وجيء بقوله: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ﴾ غير معطوف على ما قبله لأنّه كالبيان لقوله: ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ﴾
10. ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ الضمائر فيه عائدة على الذين كفروا، والمعنى أنّ الله لم يظلمهم حين لم يتقبل نفقاتهم بل هم تسبّبوا في ذلك، إذ لم يؤمنوا لأن الإيمان جعله الله شرطا في قبول الأعمال، فلما أعلمهم بذلك وأنذرهم لم يكن عقابه بعد ذلك ظلما لهم، وفيه إيذان بأنّ الله لا يخالف وعده من نفي الظلم عن نفسه.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/198.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أعمال الكافرين، أشار إلى مبعث جحودهم، وهو اغترارهم بأموالهم وأولادهم، واعتزازهم بما يملكون من حطام الدنيا وما فيها، وقد أشار إلى هذه الأموال وأولئك الأولاد ببيان أنها لن تغنى عنهم من الله شيئا، ولذا قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا﴾
2. ﴿لَنْ تُغْنِيَ﴾ يقال: أغناه عن هذا الأمر فلان أي كفاه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ [الحاقة]، وقوله تعالى: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ [الشعراء]، وقوله تعالى: ﴿لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا﴾ [يس]، وهى في كل هذا بمعنى لا يكفى عنه، وهى هنا من هذا الاستعمال، فمعنى قوله تعالى: ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا﴾ لن تكفى عنهم بدل الله شيئا من الغناء، فمن هنا هي التي تستعمل بمعنى بدل، والغناء يتضمن هنا أمرين: أحدهما سد الحاجة، والثاني دفع الأذى.
3. قد قرر الله تعالى أن هؤلاء الكفار لن تدفع عنهم أموالهم أذى، ولن تسد عنهم حاجة قط، في وقت هم في أشد الحاجة إلى معونة، وقرر ذلك بصيغة التأكيد، وذلك بالتعبير بـ (لن) لأن (لن) تفيد تأكيد النفي وإن أولئك الكفار ما كانوا يعتزون إلا بالمال والولد، فهذا قائلهم يقول: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ [الكهف]، ولقد كانوا يربطون بين المال وكل المعاني السامية، فكانوا يظنون أن كل الخير وكل الفضائل للأغنياء، وكل الرذائل للفقراء، فلا يتصور من الأغنياء إلا الخير، ولا يتصور من الفقراء إلا الشر، ولقد أخذ منهم العجب عندما أرسل الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو فقير، فقد قال الله تعالى عنهم: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف] وفي هذا بيان خطأ نظرهم، فالغنى والفقر لا يتجاوز كل منهما أنه قسمة الله تعالى للمعايش في هذه الحياة، أما رفع الدرجات فأمر آخر ليس مرتبطا بالمال قلة أو كثرة، ويشير إلى أن الرفعة تكون للفقراء ليسخر الأغنياء منهم، فيزداد الأولون من الله قربا، ويزداد الآخرون من الله بعدا.
4. إن الله سبحانه إذ قد حكم بذلك، وهو أن ﴿الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا﴾، فقد أشار إلى أن السبب في ذلك كفرهم؛ لأن التعبير بالموصول يشير إلى أن سبب هذا الحكم هو الكفر.
5. سؤال وإشكال: لماذا اعتبر النص الكريم الكفر سببا لعدم غناء الأموال والأولاد، مع أن طبيعة هذا الوجود تجعلها غير مغنية مؤمنا أو كافرا؟ والجواب: أن المؤمنين لا يعتقدون أن أموالهم وأولادهم تغنى عنهم من الله شيئا، فلم يكن ثمة حاجة للنفي بالنسبة لهم، وفوق ذلك فإن المؤمنين يتخذون من الأموال والأولاد سبيلا لرفع منار الحق وعزته، فهي تكفيهم بعض الكفاء، وإن كانت لا تغنيهم عن الله تعالى، ولأن كلمة ﴿تغنى﴾ في معناها دفع الأذى، والله سبحانه وتعالى منزل الأذى بالكافرين عقابا لجرائمهم ولشرورهم، وما تعرض المؤمن لهذا الأذى، فلا حاجة لهذا الدفع.
6. في ذلك النص السامي بحث لفظي وهو تكرار النفي في قوله تعالى: ﴿أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾ فـ (لا) هنا تفيد ثلاثة أمور:
أ. أولها: مزيد تأكيد للنفي الثابت ب (لن)
ب. وثانيها ـ أن تكرار (لا) يفيد أنهم كانوا يعتزون بالأموال والأولاد مجتمعين ويعتزون بأحدهما منفردا، فنفى سبحانه وتعالى الغناء عنهما مجتمعين ومنفردين أيضا.
ج. وثالثها ـ أن المال يكون قوة في مواضع، والولد يكون قوة في مواضع، فتكرار النفي يستبين أنه لا قوة تدفع مقت الله وغضبه لا من المال ولا من الولد.
7. بين سبحانه تبعد ذلك عذاب الله تعالى الواقع الذي ليس له من دافع، ولا يغنى فيه المال ولا الولد، فقال تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، الإشارة هنا إلى الذين كفروا، ليس لهم أمام الله ولى ولا نصير، ولا عون ولا دفاع، فالله سبحانه وتعالى يحكم عليهم وهو خير الحاكمين بأنهم أصحاب النار الخالدون فيها، فمعنى المصاحبة هنا الملازمة الدائمة المستمرة، و﴿لَعَلَّ﴾ في هذا التعبير إشارة إلى أنهم بعد أن كانوا يصطحبون في الدنيا أموالهم مفاخرين بها وأولادهم مستنصرين بهم، يصاحبون بدلهم في الآخرة نار الله الموقدة، وعذابه الأليم، وبعد أن تركوا نعيما غير مقيم استقبلهم شقاء دائم مستمر.
8. أكد سبحانه وتعالى الحكم العادل بعدة تأكيدات: منها التعبير بالإشارة المتضمن السلب من كل قوة كانوا يعتزون بها، ومنها ذكر مصاحبتهم للنار، ومنها بيان قصرهم على النار لا يتجاوزونها، ومنها ذكر الضمير (هم) فهو لتأكيد الحكم.
9. سؤال وإشكال: لماذا لا ينفعهم في الآخرة ما كانوا ينفقون من مالهم في الدنيا، وقد كان منهم جود وسخاء؟ والجواب: بين الله سبحانه مغبة ذلك الإنفاق وعاقبته، فقال تعالت كلماته: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ وفي هذا التشبيه بيّن سبحانه أن هذا الإنفاق ليس خالصا من الضرر في ذاته، فهو يحمل في ذاته ما يفسده ويجعله ضارا لا نفع فيه، وشرا لا يمازجه خير، فقد شبه سبحانه إنفاقهم في هذه الحياة من حيث اشتماله على الضار، وعدم إثماره وإنتاجه، بالريح التي لا ترسل لواقح، ولا تكون نسيما عليلا تلقى في النفوس بالبشر والحبور، ولا تكون ريحا يحمل للزرع عوامل النماء إذ يكون فيها غذاء، بل يكون فيها ما يميت الزرع والضرع، وهى الريح التي يكون فيها صرّ، والصر معناه البرد الشديد المميت للنبات.
10. معنى اشتمالها على الصر وصفها به أي أنها ريح صر فهي ريح قارة باردة مهلكة مفنية وليست منمية مبقية، وهنا يرد سؤال: لماذا ذكر الصر على أنه في الريح وأنها مشتملة عليه، وهى له ظرف وهو مظروف؟ وقد أجاب الزمخشري عن ذلك بأنه ضرب من ضروب المبالغة، وبأن (صر) مصدر في أصله فجيء به على أصله، كما تقول: ثوب فيه جمال، والكلام بمعنى جميل، وقد خرج تخريجات أخرى ليست واضحة، ونحن نرى أن التعبير بقوله تعالى: ﴿فِيهَا صِرٌّ﴾ يشير إلى أن الرياح فيها بطبيعتها رجاء، ولكنها اشتملت على ما يذهب بخيرها، وفي ذلك وصف من أوصاف من المشبه؛ وذلك لأن الإنفاق في ذاته قد يرجى منه النفع، ويظن فيه، ولكنه اشتمل في ذاته ما يذهب بخيره، ولا ينبت إلا باطلا، وذلك أنه بمقاصده التي لا يقصد بها وجه الله ولا نفع الناس، ولكن يقصد التفاخر والتباهى والتنافر، والاستطالة على الناس بفضول القول، يذهب كل خيره، فالتعبير بقوله سبحانه: ﴿فِيهَا صِرٌّ﴾ فيه إيماء إلى أن الأذى والضرر الذي لابس المشبّه وهو الإنفاق لم يكن من ذاته، ولكن من قلب المنفق ونيته، وغايته من الإنفاق، وإن هذا الانفاق ـ كما قلنا وكما أشار النص القرآني الكريم ـ يحمل في ذاته موجب رده.
11. وقد بيّن سبحانه أنه ضار مؤذ في الشطر الثاني من التشبيه، إذ قال سبحانه في وصف الريح: ﴿أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ﴾، الحرث هو الزرع، وأصل كلمة (حرث) فلح الأرض وإلقاء البذر فيها، ثم أطلقت في مجاز مشهور على ما هو نتيجة ذلك وهو الزرع، وقد أطلق على كل موضع يكون فيه إنتاج ولو لم يكن أرضا وزرعا، كما قال تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ [البقرة]
12. معنى التشبيه في جملته ـ كما دل على ذلك هذا النص الكريم والنص الذي سبقه ـ أن حال هذا الإنفاق الذي لم يقصد به وجه الله تعالى بل قصد به التفاخر وكسب الثناء وتحدث الناس بالعطاء، كمثل الريح التي تكون باردة بردا شديدا يتوقع منها الناس الخير لزرعهم، فتهلكه وتبيد خضراءه وتجعله حطاما، والجامع في هذا التشبيه بين المشبّه والمشبه به هو أن كليهما كان يرجى خيره، ولكن بما لابسه من ضر وأذى صار مؤذيا.
13. في هذا التشبيه بيان أن الضرر لاحق بهم من هذا الإنفاق؛ ولا حق بالناس، لأنهم كانوا يعينون به على الشر، إذ كانوا ينفقونه في محاربة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإيذاء المؤمنين؛ وهو سبب في استعلائهم واستكبارهم، ولو حرموا المال والإنفاق لكان خيرا لهم.
14. في النص القرآني إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى يعاقب بالريح من يظلمون أنفسهم بارتكاب المعاصي فقال سبحانه: ﴿أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ﴾ فإن هذا النص السامي يومئ إلى أن الله تعالى يرسل في الدنيا عقابا على أموال الظالمين فيهلكها، ولو اتخذوا الأسباب وما يجب اتخاذه من احتياط لحفظ الأموال، وإن ذلك التخريج لا يوجد ما يمنع من قبوله، بل الإذعان له لأن تدبير العبد واحتياطه، لا يمنع تقدير الرب وقضاءه، وإن الريح كانت سببا في نصرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في غزوة الأحزاب، فإن الله تعالى أرسل على المشركين ريحا ألقت الرعب في قلوبهم مع كمال العدة والعدد، وقال تعالى في ذلك: ﴿وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الأحزاب]، ولقد روى عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور)
15. إذا كان ذلك ثابتا فلما ذا نستبعد أن يعاقب بعض الظالمين في الدنيا بإصابة حرثهم بريح، لفساد نياتهم، ولاستخدامهم المال في غير مواضعه، وإن الذين يستبعدون ذلك هم الذين يفرطون في الإيمان بالأسباب العملية، ولا يذعنون للأحكام القدرية، وإن الزرع بالذات ليس لأحد أن يدّعى أنه يستطيع حمايته من الرياح والآفات، مهما يتخذ من الاحتياط، فإن للأجواء أثرها، وللآفات الوبائية حكمها، ولا سبيل إلى التوقي الكامل منها.
16. إذا كان الزرع وغيره مهما يتخذ من احتياط لحفظه لا يتقى الريح والآفات، فإنه لا يصح أن يكون ذلك نتيجة للمصادفة، فإن المصادفة بالنسبة لمداركنا، أما بالنسبة لأعمال الله تعالى فإن كل شيء عنده بمقادير، ومقصود بإرادته السرمدية، وهو يكون ثوابا أو عقابا أو إملاء يملى الله به للظالمين حتى حين، كما قال تعالى: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [القلم]، وقد قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ [الرعد].. إذن فالأمر في الريح يصيب الله بها بعض الظالمين لظلمهم حق لا ريب فيه.
17. ولقد أخبر الله تعالى أن الظالم يسيء إلى نفسه دائما، فقال: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، والضمير هنا يعود إلى الذين أصيب حرثهم بسبب ظلمهم، أي أن الله تعالى ما ظلمهم بالريح تصيبهم، إنما هم الذين ظلموا أنفسهم بفساد قلوبهم ونيتهم، واعتقادهم أنهم يستطيعون التحكم في القدر، وفي هذا إشارة إلى أولئك الذين أنفقوا في الإفساد للافتخار والخيلاء والاستكبار، في أن الله ما ظلمهم بإبطال إنفاقهم، إنما هم الذين ظلموا أنفسهم بأن تجنبوا إنفاق المال في الحلال بنية الحلال، بل أنفقوه في الحرام، وما أنفقوه في حلال إلا بنية الحرام، وجوز الزمخشري أن يعود الضمير إلى الذين ينفقون في هذه الحياة، وهو ظاهر كل الظهور، ونضرع إلى الله أن يلهمنا الإنصاف في أقوالنا وأفعالنا، وأن يرزقنا صدق القول، والإخلاص في أعمالنا له، إنه سميع الدعاء.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1372.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا﴾، قال الرازي وصاحب تفسير المنار: اختلف المفسرون في المراد بالذين كفروا، فقال جماعة: المراد بعض الكفار، وقال آخرون: بل المراد جميع الكفار، أما نحن فنرى ان المراد بهم كل من خالف الحق وعانده حرصا على مصلحته ومصلحة أولاده، وخوفا على ماله وثروته كافرا كان، أو مسلما.. أجل، ان لفظ الآية خاص بالكافرين، ولكن السبب الموجب لعدم الإغناء عام يشمل جميع المخالفين للحق بدافع من أهوائهم، وهم الذين وصفهم الله سبحانه بقوله في أكثر من آية بأنهم يبيعون الحق بأنجس الأثمان.
2. ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ﴾، الريح التي فيها صر هي الريح المهلكة لشدة بردها وسمومها، والمعنى ان الذين يجمعون الثروات من الحلال والحرام، ويخالفون من أجلها الحق، وينفقونها على جاههم وملذاتهم غير مكترثين بخلق ولا دين، ان هذا الإنفاق من هؤلاء قد أهلك عقولهم، وأفسد أخلاقهم، تماما كما تهلك الريح الباردة العاتية الزرع الذي قد تهيأ للاخصاب والانتاج.
3. وإذا ربحوا أياما من اللذة وإشباع الشهوات فقد خسروا أنفسهم، وباعوها للشيطان، ولهم في الآخرة عذاب الخلود.. وما ظلمهم الله ﴿وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، لأنهم اندفعوا وراء شهواتهم وأهوائهم مختارين.. قال الإمام علي عليه السلام: الناس في الدنيا رجلان: رجل باع نفسه فأوبقها ـ أي باع نفسه لهواه وشهوته فأهلكها ـ ورجل ابتاع نفسه فأعتقها، أي اشتراها وخلصها من أسر الشهوات.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/143.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ﴾، ظاهر وحدة السياق أن المراد بهؤلاء ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هم الطائفة الأخرى من أهل الكتاب الذين لم يستجيبوا دعوة النبوة، وكانوا يوطئون على الإسلام، ولا يألون جهدا في إطفاء نوره، وربما قيل: إن الآية ناظرة إلى حال المشركين فتكون التوطئة لما سيشير إليه من قصة أحد لكن لا يلائمه ما سيأتي من قوله: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾، فإن ذلك بيان لحال اليهود مع المسلمين دون حال المشركين، ومن هناك يظهر أن اتصال السياق لم ينقطع بعد، وربما جمع بعض المفسرين بين حمل هذه الآية على المشركين وحمل تلك على اليهود، وهو خطأ.
2. ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ الآية الصر البرد الشديد، وإنما قيد الممثل بقوله: ﴿فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ليدل على أنهم منقطعون عن الدار الآخرة فلا يتعلق إنفاقهم إلا بهذه الحياة، وقيد حرث القوم بقوله:﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ ليحسن ارتباطه بقوله بعده: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾
3. محصل الكلام أن إنفاقهم في هذه الحياة وهم يريدون به إصلاح شأنهم ونيل مقاصدهم الفاسدة لا يثمر لهم إلا الشقاء، وفساد ما يريدونه ويحسبونه سعادة لأنفسهم كالريح التي فيها صر تهلك حرث الظالمين، وليس ذلك إلا ظلما منهم لأنفسهم فإن العمل الفاسد لا يأتي إلا بالأثر الفاسد.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/387.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من أهل الكتاب وغيرهم لأنهم كذبوا بآيات الله لن تكفيهم ﴿أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾ شيئاً ﴿مِنَ﴾ عذاب ﴿اللهُ﴾ فلن تدفع عنهم نصيباً من النار، كقوله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ﴾ [غافر:47] ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ أهلها الذين يبقون فيها ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ باقون لا يموتون.
2. ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ﴾ فلن تغني عنهم أموالهم لا بالإنفاق العاجل، ولا يوم القيامة لو فرض أنها تكون يومئذ باقية معهم، فإنفاقها في الدنيا ضائع لا ثواب فيه؛ لأنه مَقْرونٌ بالمحبطات من كفرهم وجرائمهم، فمثله في حبوطه مثل زرع أرسل الله عليه ريحاً ﴿فِيهَا صِرٌّ﴾ ذات برد شديد عقوبة على معاصيهم التي هي ظلمهم أنفسهم فأهلكته.
3. ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بما يصدر منهم في الحين بعد الحين من الكفر وغيره من الجرائم المحبطات لإنفاقهم، وهذا السياق في الكافرين، وفي التحذير من الكفر، وفي الأمر بالثبات على الإسلام يستدعي التحذير من أهل النفاق لأنهم ضر على المسلمين ومحاربة للإسلام، فقال تعالى:
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/523.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أمّا الكافرون فإنهم فقدوا الاتصال بالله من خلال كفرهم، ففقدوا بذلك موقع القوّة الكبير، فلا قيمة بعد ذلك لما حصلوا عليه من أموال وأولاد، لأنها لا تغني عنهم شيئا في مجال الإنقاذ والنصرة؛ فإن النّار تنتظرهم بعذابها الخالد جزاء على كفرهم وعتوّهم وطغيانهم، وذلك هو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا﴾ لأن الله هو الذي أعطاهم ذلك كله، فليس لهم في ذاتهم أيّ دخل فيه، ليحقق لهم امتيازا ذاتيا أو قربا عمليا من الله، فكيف يحصلون على القيمة الإلهية من خلاله!؟ فلا يدفع عنهم ما يملكونه من ذلك أيّ نوع من العذاب الذي يستحقونه جزاء أعمالهم، ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لأن ذلك هو عقوبة الكفر الذي يبعد الإنسان عن التعلق بالله بأيّ سبب، في الوقت الذي لا يملك فيه عذرا لذلك.
2. أمّا إذا أنفقوا في سبيل الخير، فإن إنفاقهم لا يعود عليهم بشيء، فمثله ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ لأنه لا يرتكز على قاعدة التقوى بالله، فهم كمثل قوم كان لهم حرث يوحي بالنتائج المثمرة وكانت آمالهم تعيش معه، فجاءت ريح فيها صرّ أي برد شديد ﴿فَأَهْلَكَتْهُ﴾ وذلك كعقاب من الله لهم على أساس ظلمهم لأنفسهم بالتمرد والعصيان، وذلك هو جزاؤهم الطبيعي الذي جعله الله لكل إنسان كافر متمرّد.
3. ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ﴾ لأنه جعل لهم الإرادة الحرّة التي يستطيعون من خلالها أن يختاروا جانب الخير ويتركوا جانب الشر، ﴿وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بما اختاروه اتباعا لشهواتهم وأطماعهم، فهم لم يقصدوا بهذا الإنفاق الخير، بل قصدوا به الوصول إلى أغراضهم المنحرفة؛ فكانت نتيجته السلبية طبيعية، تماما كما هي قضية المقدمات والنتائج.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/233.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في مقابل العناصر التي تبحث عن الحقّ، وتؤمن به من الذين وصفتهم الآية السابقة، هناك عناصر كافرة ظالمة وصفهم الله سبحانه في هاتين الآيتين بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا﴾ لأنه لا ينفع في الآخرة سوى العمل الصالح والإيمان الخالص لا الامتيازات المادية، في هذه الحياة: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾
2. أشير في هذه الآية إلى الثروة والأولاد من بين بقية الإمكانات أن أهم الإمكانات المادية تنحصر في أمرين: الأول: الطاقة البشرية وقد ذكرت الأولاد كأفضل نموذج لها، الثاني: الثروة الاقتصادية، وأما بقية الإمكانات المادية الأخرى فتتفرع من هاتين.
3. إن القرآن ينادي بصراحة بأن الامتيازات المالية والقدرة البشرية الجماعية لا تعد امتيازا في ميزان الله، وأن الاعتماد عليها وحدها هو الخطأ الجسيم إلّا إذا قرنت بالإيمان والعمل الصالح، واستخدمت في سبيلهما، وإلّا فستؤول بأصحابها إلى الجحيم وعذابها الخالد، ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
4. ولما كان الكلام عن الثروة والمال كان لا بدّ من الإشارة إلى مسألة الإنفاق فيقول سبحانه: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ﴾، و(الصرّ) مأخوذ من (الإصرار) لغة، وتعني الشد بقوّة وشدّة، والمراد بها هنا هي الريح الشديدة سواء كانت مصحوبة بالبرد القارص، أو الحر اللافح.
5. في هذه الآية إشارة إلى كيفية إنفاق الكفّار وبذلهم المصحوب بالرياء، ضمن إعطاء مثل رائع يجسد مصير هذا الإنفاق والبذل، ويصوره في أبلغ تصوير.
6. القرآن يمثل إنفاق الكفّار بالريح الشديدة الباردة أو اللافحة جدّا التي إذا هبت على الزرع لا تبقي منه شيئا ولا تذر، بل تترك الزرع حطاما والأرض بلاقع.
7. إنه لا شكّ أن النسائم الخفيفة تنعش الزرع وتحيي الطبيعة، فنسائم الربيع تفتح الأزهار، وتصب في عروق الأشجار والنباتات روحا جديدة وحياة ونشاطا، وتساعد على لقاحها، وكذلك يكون الإنفاق الصحيح والبذل الذي ينبع من الإخلاص والإيمان، إنه يعالج مشاكل المجتمع كما يكون له أثر حسن وعميق في نفس الباذل المنفق، لأنه يرسخ فيها السجايا الإنسانية ويعمق مشاعر العطف واللطف والرفق والحبّ بما يستشعره من آثار إيجابية لإنفاقه، وبما يسببه الإنفاق في رفع الآلام الاجتماعية، وتوفير السعادة للآخرين، أما إذا تبدلت هذه النسائم الرقيقة إلى رياح عاصفة لافحة، أو زوبعة شديدة البرودة، فسوف تؤدي إلى إحراق جميع النباتات والأزهار أو تجميدها، وهذا هو حال غير المؤمن في إنفاقه، فإنه لا ينفق ماله بدافع صحيح، بل ينفقه رياء وسمعة وأهواء وأهداف شريرة، وبذلك يكون كالريح العاتية، اللافحة أو الباردة، تأتي على كلّ ما أنفقه كما تأتي على الزرع، فتصيبه بالجفاف والفناء، والدمار والهلاك.
8. إن مثل هذا الإنفاق لا يعالج أية مشكلة اجتماعية (لأنه صرف للمال في غير محله في الأغلب) كما لا ينطوي على أي أثر أخلاقي ونفسي للمنفق الباذل.
9. الذي يلفت النظر أن القرآن الكريم يقول في هذه الآية ﴿حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ وهو يشير إلى أن هؤلاء المزارعين تعرضوا لما تعرضوا له لأنهم تساهلوا في اختيار مكان الزرع وزمانه، ولأنهم زرعوا في أرض معرضة للرياح الشديدة، أو أنهم اختاروا للزرع وقتا يكثر فيه هبوب رياح السموم، وبهذا ظلموا أنفسهم، وكذلك حال غير المؤمن في إنفاقه، فإنه ظلم نفسه بإنفاقه غير الصحيح وغير المناسب من حيث الزمان والمكان والهدف، وبهذا عرض أمواله وثرواته للرياح.
10. من كلّ ما أشرنا إليه، وبملاحظة القرائن الموجودة في الآية تبين أن هذا التمثيل لإنفاق الكفّار بالزرع الذي أهلكته الرياح العاصفة تمثيل به من ناحيتين:
أ. الأولى: تشبيه لإنفاق الكافر بالزرع في غير محله وموسمه المناسب.
ب. الثانية: تشبيه لنواياه وأهدافه من الإنفاق بالرياح العاصفة الباردة أو السموم، ولهذا فإن المقام لا يخلو عن تقدير شيء محذوف وأن معنى قوله: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ﴾ أن مثل نوايا الكافر في الإنفاق مثل الرياح الباردة أو السموم التي تهب على الزرع فتفنيه.
11. قال جماعة من المفسّرين: إن هذه الآية إشارة إلى الأموال التي يستخدمها الكفّار للإيقاع بالإسلام وصد حركته، والتي يحركون بها الأعداء ضد النبي الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو الأموال التي يعطيها اليهود لأحبارهم ليحرفوا آيات الله عن مواضعها ويزيدوا أو ينقصوا في الكتب السماوية، ولكن من الواضح جدّا أن هذه الآية تنطوي على معنى واسع يشمل هذا الرأي وغيره.
12. ثمّ إنه سبحانه يعقب على ما قال بشأن إنفاق الكفّار الذي لا يعود عليهم إلّا بالوبال والويل بقوله: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.. أجل، إن العمل الفاسد لا يجر على صاحبه إلّا النتيجة الفاسدة، فما يحصده الكفّار من إنفاقهم من الوبال والبطلان، إنما هو بسبب نواياهم الباطلة الفاسدة من هذا الإنفاق.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/658.
62. التحذير من البطانة المنحرفة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈62⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران: 118]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ هم المنافقون(1).
2. روي أنّه قال: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من يهود؛ لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية؛ فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم منهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ الآية(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٧١٠.
(2) سيرة ابن هشام: ١/٥٥٨.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ نهى الله تعالى المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين، وأن يؤاخوهم، وأن يتولوهم دون المؤمنين(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٤٣.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ فالبطانة: الدّخيل.. والبطائن: الدّخلاء(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ معناه فسادا وشرّا(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 112.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ أما البطانة فهم المنافقون(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ ما ضللتم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٧١١.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً﴾ لا تستدخلوا المنافقين؛ فتولوهم دون المؤمنين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ من أفواه المنافقين(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ ما تكنّ صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم(3).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٧١٠.
(2) ابن جرير: ٥/٧١٣.
(3) ابن جرير: ٥/٧١٥.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ يضلونكم كما ضلوا، فنهاهم أن يستدخلوا المنافقين دون المؤمنين، أو يتخذوهم أولياء(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ ود المنافقون ما عنت المؤمنون في دينهم(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٤٣.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٤٤.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ لا يستدخل المؤمن المنافق دون أخيه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ في دينكم، يعني: أنهم يودون أن تعنتوا في دينكم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٧١١.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، يعني: المنافقين؛ عبد الله بن أبي، ومالك بن دخشم الأنصاري وأصحابه، دعاهم اليهود إلى دينهم، منهم: أصبغ ورافع ابني حرملة، وهما رؤوس اليهود، فزينوا لهما ترك الإسلام، حتى أرادوا أن يظهروا الكفر؛ فأنزل الله تعالى يحذرهما ولاية اليهود: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً﴾ يعني: اليهود: ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ يعني: من دون المؤمنين(1).
3. روي أنّه قال: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾، يعني: غيا(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾، يعني: ما أثمتم لدينكم في دينكم(1).
5. روي أنّه قال: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ﴾ يعني: ظهرت البغضاء: ﴿مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ يعني: قد ظهرت العداوة بألسنتهم(1).
6. روي أنّه قال: ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ﴾ يعني: ما تسر قلوبهم من الغش: ﴿أَكْبَرُ﴾ مما بدا بألسنتهم، ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ ففي هذا بيان لكم منهم، ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٧.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ هؤلاء المنافقون، ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ الآية(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٧١١.
الرسّي:
ذكر الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تأويل قوله تعالى: ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ هو: من غيركم، يقول سبحانه: لا تتخذوا بطانة من غير أهل دينكم، والبطانة في المقارنة هم: القرناء، كما البطانة في المخادنة هم: الخدناء؛ فمن قارن أحدا في المحل فهو له بالمجاورة: بطانة وقرين، كما أن من خادن أحدا بمحل هو له بالمخادنة: بطانة وخدين.
2. إنما قيل للبطانة بطانة: لأنها مخآصة ومقارنة؛ فنهى الله سبحانه المؤمنين: أن يتخذوا الظالمين أخلاء أو خدناء، أو جيرة أو قرناء؛ لأن من لا يدين دينهم لا يألونهم خبالا، وإن لم يظهروا لهم حربا ولا قتالا؛ لأنهم يرجعون أبدا بهم وفيهم، عيونا ذاكية لعدو الله عليهم، يجادلونهم بالباطل؛ ليدحضوا به حقهم ودينهم، ويعارضونهم فيه بزخرف القول؛ ليوهنوا به علمهم ويقينهم؛ فبعلم من عليم، وتقدير من حكيم، ما نهاهم الله عن موالاتهم ومخآلتهم، ومنعهم من مجاورتهم ومحآلتهم.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/178.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ نهي منه عز وجل للمؤمنين: أن يتخذوا بطانة، والبطانة هي: الخاصة الموثوق بهم، المحبون المكرمون؛ فنهاهم الله سبحانه: أن يتخذوا الكافرين بطانة وأولياء، ثم قال ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾، فأخبرهم أن هؤلاء الذين اتخذوهم بطانة لا يألونهم خبالا، والخبال هو: الإفساد والمكيدة والاحتيال.
2. ثم قال عز وجل: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾، فأخبر: أنهم يودون ما عنت به المؤمنون، والعنت هو: الهلاك؛ فأخبرهم: أنهم يودون ذلك ويحبونه ويشتهونه.
3. ثم قال: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ بقبح اللفظ، والكلام والطعن على المؤمنين، والإفساد على الصالحين، والمساعدة لمن حاربهم من الكافرين، ثم أخبر عز وجل أن ما تخفي صدورهم أكبر مما هم مضمرون، وله معتقدون في المؤمنين من التحسر عليهم، والطلب لهلاكهم، والتغيظ عليهم في جميع أحوالهم؛ فقلوبهم على المؤمنين وغرة، وأنفسهم عليهم حنقة، يطلبون لهم الغوائل، ويؤلبون عليهم القبائل، ثم أخبرهم سبحانه تبيينا بذلك للمؤمنين، وإيقافا على مكائد الفاسقين، فقال: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾، يقول: إن كنتم تفهمون(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/178.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾:
أ. قيل: نهى الله المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين، أو يؤاخوهم، أو يتولوهم دون المؤمنين.
ب. وقيل في حرف حفصة: (لا تتخذوا بطانة من دون أنفسكم)، يعنى: من دون المؤمنين.
ج. وعن ابن عباس قال (نهى الله المؤمنين أن يتخذوا اليهود والنصارى والمنافقين ـ بطانة دون إخوانهم من المؤمنين، فيحدثوهم ويفشوا إليهم سرّهم دون المؤمنين.
2. البطانة: قيل: هم الإخوان، ويجعلونهم موضع إفشاء سرّهم، والنهي عن اتخاذ الكافر بطانة لوجهين:
أ. أحدهما: العرف به؛ إذ كل يعرف بمن يصحبه.
ب. الثاني: الميل إليه بما يريه عدوه أنه حسن العشرة وحسن الصحبة، مع ما فيه الإسقاط عما به يستعان على أمر الدين، والإغفال عن حقه.
3. ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ يقولون: لا يتركون عهدهم في إفشاء أمركم، ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾:
أ. أي: يودون ويتمنون ما أثمتم.
ب. أي: ودوا أن تشاركوهم في أشياء تؤثمكم ويبعثكم عليه.
ج. وقيل: العنت: الضيق؛ أي: ذلك قصدهم؛ كالآية التي تتلوها.
4. ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾:
أ. من قال إن أول الآية في المنافقين يقول: قوله: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ ما ذكر في آية أخرى: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد: 30] أنهم كانوا يعرفون المنافق في لحن كلامه، وفي قوله: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ ما كان من التفريق بقوله: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ [آل عمران: 173]، وإظهار السرور بنكبتهم، كقوله: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ﴾ الآية [النساء: 72]، وقوله يظهرون.
ب. ومن قال بأن الآية في الكفار ـ فهو ظاهر.
5. ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ من الشتيمة والعداوة، ويضمرون أكثر من ذلك من الفساد والشرور، ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾:
أ. يحتمل قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ البينات.
ب. ويحتمل قوله: إن كنتم تنتفعون بعقولكم؛ لأنه عزّ وجل ذكر في غير آي من القرآن أنهم لا يعقلون، قد كان لهم عقول لكنهم لم ينتفعوا بعقولهم، فإذا لم ينتفعوا نفي عنهم العقل رأسا.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/464.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾: أي لا تتخذوا خاصة من غيركم، ومن هو معرض عن مذهبكم ودينكم.
2. معنى قوله: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ أي لا يطيقون محبتكم بغضاً وضلالاً، وجهلاً منهم وخبالاً.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 263.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين فيهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام أضافوا بعض المشركين من اليهود والمنافقين المودة لمصاحبتهم في الجاهلية ونهوا عن ذلك، والبطانة هم خاصة الرجل الذي يستبطنون أمره والأصل البطن ومنه بطانة الثوب لأنه يلي البطن.
2. ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ أي لا يقصرون في أمركم، والخبال إيغال وأصله الفساد ومنه الخبل الجنون ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ أي ودوا ضلالكم وأن تعنتوا في دينكم أي على العنت وهو المشقة ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ أي بدا منها ما يدل عليها ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ مما بدا.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/150.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ قيل إنها نزلت في قوم من المسلمين صافوا بعض المشركين من اليهود والمنافقين المودة لمصاحبة في الجاهلية فنهوا عن ذلك.
2. البطانة هم خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره، والأصل البطن، ومنه بطانة الثوب لأنها تلي البطن.
3. ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ أي لا يقصرون في أمركم، والخبال: النّكال، وأصله الفساد ومنه الخبل الجنون.
4. في قوله تعالى: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: ودوا إضلالكم عن دينكم، وهو قول السدي.
ب. الثاني: ودوا أن تعنتوا في دينكم أي تحملون على المشقة فيه، وهو قول ابن جريج، وأصل العنت المشقة.
5. ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ أي بدا منها ما يدل عليها، ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ ممّا بدا.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/419.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾: ذكر ابن عباس، والحسن: أن قوماً من المؤمنين خافوا بعض المشركين من اليهود، والمنافقين المودة لما كان بينهم في الجاهلية فنهاهم الله تعالى عن ذلك بهذه الآية.
2. البطانة: معناها هاهنا خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره ويسمون دخلاء أي لا تجعلوا من هذه صفته من غير المؤمنين، والبطن خلاف الظهر، فمنه بطانة الثوب خلاف ظهارته، لأنها تلى بطنه، وبطانة الرجل خاصته، لأنها بمنزلة ما يلي بطنه من ثيابه في القرب منه، ومنه البطنة وهو امتلاء البطن بالطعام، والبطان حزام البعير، لأنه يلي بطنه.
3. (من) في قوله تعالى: ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ تحتمل وجهين:
أ. أحدهما: أن تكون دخلت للتبعيض، والتقدير لا تتخذوا بعض المخالفين في الدين بطانة.
ب. الثاني: أن يكون دخولها لتبين الصفة كأنه قيل: لا تتخذوا بطانة من المشركين، وهو أعم وأولى، لأنه لا يجوز أن يتخذ مؤمن كافراً بطانة على حال.
ج. وقال بعضهم إن (من) زائدة، وهذا ليس بجيد، لأنه لا يجوز أن يحكم بالزيادة مع صحة حملها على الفائدة.
4. ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ معناه لا يقصرون في أمركم خبالا من قولهم ما ألوت في الحاجة جهداً، ولا أألو الامر ألوا أي لا أقصر جهداً، وقال الشاعر:
çجهراء لا تألو إذا هي أظهرت...بصراً ولا من عيلة تغنينيé
أي لا تقصر بصراً ولا تبصر، لأنها جهراء تطلب ذلك، فلا تجده.
ومنه الالية اليمين، ومنه قوله: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ﴾ معناه لا يقصر، وقيل لا يحلف، والأصل التقصير.
5. الخبال: معناه النكال، وأصله الفساد يقال في قوائمه خبل، وخبال أي فساد من جهة الاضطراب، ومنه الخبل الجنون، لأنه فساد العقل، ورجل مخبل الرأي أي فاسد الرأي، ومنه الاستخبال طلب إعادة المال لفساد الزمان.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَدُّوا﴾:
أ. قيل: معناه أحبوا ﴿مَا عَنِتُّمْ﴾ معناه إدخال المشقة عليكم.
ب. وقال السدي: معناه ﴿وَدُّوا﴾ ضلالكم عن دينكم، لأن الحمل بالضلال مشقة.
ج. وقيل معناه ﴿وَدُّوا﴾ أن يفتنوكم في دينكم أي يحملونكم على المشقة ذكره ابن جريج.
7. أصل العنت المشقة: عنت الرجل عنتاً إذا دخلت عليه المشقة، ومنه أكمة عنوت أي صعبة المسلك لمشقة السلوك فيها، وفلان يعنت فلاناً أي يحمله على المشقة الشديدة في ما يطالبه به، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾
8. موضع ﴿وَدُّوا﴾ يحتمل أن يكون نصباً لأنه صفة لبطانة ويجوز أن يكون له موضع من الاعراب، لأنه استئناف جملة.
9. ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ أي ظهر منها ما يدل على البغض ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ يعني العلامات ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾:
أ. قيل: يعني موضع نفعه لكم ومبلغ عائدته عليكم.
ب. وقيل: معناه ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ الفصل بين ما يستحقه الولي والعدو.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/571.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. البطانة: خاصة الرجل الَّذِينَ يستبطنون أمره، وأصله البطن خلاف الظهر، ومنه بطانة الثوب؛ لأنها تلي بطنه، وظهارة الثوب ما ظهر منه، ومنه بطانة الرجل خاصته؛ لأنه بمنزلة ما يلي بطنه من ثيابه في القرب منه.
ب. لاَ يَأْلُونَكُمْ: لا يقصرون في أمركم من قولهم: ما ألوت في الحاجة جهدًا، أو لا آلو في هذا الأمر أَلْوًا، أي لا أقصر جهدًا، ولا يَأْتَل أي لا يقصر.
ج. الخبال: الفساد، ويُقال: ما في قوائمه خَبْل وخبال أي فساد من جهة الاضطرار، ومنه سمي الجنون خَبَلاً وخَبْلاً بفتح الباء وسكونها لفساد عقله.
د. العنت: المشقة، عنت الرجل يعنت عنتًا: إذا دخلت عليه المشقة، وأعنته غيره يُعنته إعناتًا.
هـ. البغضاء فَعْلاَءُ من البغض.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت في قوم صافوا بعض المشركين من اليهود المودة لما كان بينهم في الجاهلية من الصداقة والحلف والجوار والرضاع، فنهاهم الله عن ذلك، عن ابن عباس والحسن.
ب. وقيل: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ويخالطونهم فنهوا عن ذلك، عن مجاهد وأبي مسلم والقاضي.
ج. وروى أبو أمامة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنهم الخوارج، فإن صح ذلك الخبر فهو، وإلا فالأليق أنها نزلت في المنافقين؛ لأن وصفهم يأتي من بعد.
3. لما تقدم ذكر المؤمنين وذكر الكفار وصفة كل واحد وما أعد لهم وأنهم لا يستوون، نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومخالطتهم خوف الفتنة، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾:
أ. أي صدقوا أو صاروا مؤمنين.
ب. وقيل: إنه خطاب للمنافقين وتقديره: يا أيها الَّذِينَ أظهروا الإيمان، حكاه الأصم، وليس بشيء؛ لأن ما بعده يدل على خلافه.
4. ﴿لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً﴾ أي أولياء وخواص تفشون إليهم أسراركم ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ أي من دون أهل ملتكم يعني من ملتكم، ثم بين العلة في المنع وشدة معاداتهم للمسلمين، فقال: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ﴾ أي لا يقصرون في أمركم، ولا يتركون جهدهم ﴿خَبَالًا﴾ أي فسادًا يعني يبالغون فيما يؤدي إلى فساد أموركم.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾:
أ. قيل: أي يحبون إدخال المشقة عليكم.
ب. وقيل: ودوا ضلالكم عن دينكم، عن السدي.
ج. وقيل: تمنوا أن تفتنوا في دينكم، عن ابن جرير، يعني تحملوا على المشقة فيه.
د. وقيل: مع إظهار محبتكم يودون أن ينزل بكم كل بلاء وضر في أنفسكم ودينكم، عن الأصم.
6. ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ أي ظهرت أمارات العداوة في كلامهم:
أ. قيل: بالشتيمة والوقيعة في المسلمين.
ب. وقيل: بإطلاع المشركين على أسرار المؤمنين.
ج. وقيل: هُوَ مَثَلٌ مِثْلُ قوله: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ عن الأصم وأبي مسلم، يعني يتبين في فلتات كلامه وسقطات لسانه ما يعلم به أنه عدو له.
د. وقيل: لمخالفتهم إياكم في الدين.
7. ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ﴾ يعني ما يكتمون في قلوبهم من العداوة والبغضاء للمسلمين ﴿أَكْبَرُ﴾ أي أعظم مما يظهرون في كلامهم ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ﴾:
أ. قيل: أي أظهرنا لكم من أمور هَؤُلَاءِ ما يعتبرون به.
ب. وقيل: بينا الحجج في بطلان أمرهم.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾:
أ. قيل: تعلمون موقع نفعه لكم ومبلغ عائدته عليكم.
ب. وقيل: إن كنتم تعلمون أن الفصل بين الولي والعدو هو الإخلاص وتركه.
ج. وقيل: إن كنتم تعلمون مواعظ الله ونفعها فاقبلوه.
د. وقيل: إن كنتم تعلمون أن المخالفين لكم في الدين غير ناصحين لكم فلا تطمئنوا إليهم.
هـ. وقيل: إن كنتم عقلاء فقد أتاكم من الله البيان الشافي، عن أبي مسلم.
9. تدل الآية الكريمة على:
أ. منع المؤمنين من اتخاذ الكافر بطانة يفشي إليه سره، ويستشيره في أمره؛ لأنه عدو له، ولأنه لا يدله على خير، ولا يمنعه عن غَيٍّ، وعن عمر أنه منع من الاستعانة بهم، واحتج بالآية، واختلف العلماء في الاستعانة بهم في الحروب، فمنهم من منع منه، ومنهم من أجازه، وإنما اختلفوا فيه لأنه خارج من الآية؛ لأنه يجوز أن يستعان به في الحرب، ولا يعتمد مشورته، فلا يكون بطانة له.
ب. أن هَؤُلَاءِ منافقون، يظهرون خلاف ما يضمرون تحذيرًا للمؤمنين من أن يطمئنوا إلى قولهم؛ لأن في قلوبهم الغيظ وإرادة الفساد وتمني العنت، فتدل على معجزة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث أخبر عن أسرارهم، ولا يمتنع أن ترد الآية في المنافقين ثم تحمل على جميع الكفار؛ لأن الواجب مراعاة اللفظ لا مراعاة السبب، وعلى هذا جميع آي القرآن.
10. قراءة العامة ﴿بَدَتِ الْبَغْضَاءُ﴾ بالتاء لتأنيث البغضاء، وعن عبد الله بدا البغضاء على التذكير؛ لتقدم الفعل، ولأن معنى البغضاء البغض.
11. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿مِن﴾ في قوله: ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ للتبعيض، يعني لا تتخذوا بعض المخالفين في الدين بطانة، وقيل ﴿مِن﴾ زائدة، وقيل: للتبيين، أي لا تتخذوا بطانة من الكافرين.
ب. ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ قيل: موضعه نصب؛ لأنه صفة لبطانة، وقيل: لا موضع له؛ لأنه استئناف بالجملة، و﴿مَا﴾ بمعنى المصدر تقديره: ودوا عَنَتَكُمْ كقوله: ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ أي بفرحكم، ونظائره يكثر.
ج. ﴿مَا عَنِتُّمْ﴾ محله نصب؛ لأن تقديره: ودوا العنت، كقولهم: وددت أن تذهب؛ أي وَدِدْتُ ذهابك.
د. ﴿خَبَالًا﴾ نصب على المفعول الثاني؛ لأن الأَلْوَ يتعدى إلى مفعولين، وقيل: نصب على المصدر أي: يخبلونكم خبالاً، وقيل: بنزع حرف الخافضة أي بالخبال، كقولك: أوجعته ضربًا، أي بالضرب.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/357.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. البطانة: خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره، مأخوذة من بطانة الثوب: الذي يلي البدن لقربه منه، وهي نقيض الظهارة، ويسمى بها الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، قال الشاعر:
çأولئك خلصاني نعم، وبطانتي... وهم عيبتي من دون كل قريبé
ب. لا يألونكم أي: لا يقصرون في أمركم خبالا، ولا يتركون جهدهم، يقال: ألا يألوا ألوا: إذا فتر وضعف وقصر، وما ألوته خيرا وشرا أي: ما قصرت في فعل ذلك، وقال امرؤ القيس:
çوما المرة ما دامت حشاشة نفسه... بمدرك أطراف الخطوب، ولا أليé
أي: مقصر في الطلب.
ج. الخبال: الشر والفساد، ومنه الخبل بفتح الباء وسكونها: للجنون، لأنه فساد العقل، ورجل مخبل الرأي أي: فاسد الرأي، ومنه الاستخبال: طلب إعارة المال لفساد الزمان، قال زهير: هنالك ان يستخبلوا المال يخبلوا، وان يسألوا يعطوا، وان ييسروا يغلوا
د. أصل العنت: المشقة عنت الرجل يعنت عنتا: دخلت عليه المشقة، وأكمة عنوت: صعبة المسلك لمشقة السلوك فيها، وأعنت فلان فلانا: حمله على المشقة الشديدة فيما يطالبه فيه، ومنه قوله تعالى ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت في رجال من المسلمين، كانوا يواصلون رجالا من اليهود، لما كان بينهم من الصداقة والقرابة والجوار والحلف والرضاع، عن ابن عباس.
ب. وقيل: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصادقون المنافقين، عن مجاهد.
3. نهى الله المؤمنين عن موالاة الكفار ومخالطتهم، خوف الفتنة منهم عليهم فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: صدقوا ﴿لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ أي: لا تتخذوا الكافرين أولياء، وخواص من دون المؤمنين تفشون إليهم أسراركم، ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ أي: من غير أهل ملتكم.
4. ثم بين تعالى العلة في منع مواصلتهم، فقال: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ أي: لا يقصرون فيما يؤدي إلى فساد أمركم، ولا يدعون جهدهم في مضرتكم، وقال الزجاج: لا يتقون في القائكم فيما يضركم، قال: وأصل الخبال ذهاب الشيء.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾:
أ. قيل: معناه تمنوا ادخال المشقة عليكم.
ب. وقيل: تمنوا اضلالكم عن دينكم، عن السدي.
ج. وقيل: تمنوا أن يعنتوكم في دينكم أي: يحملونكم على المشقة فيه، عن ابن عباس.
6. ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ معناه: ظهرت امارة العداوة لكم على ألسنتهم، وفي فحوى أقوالهم، وفلتات كلامهم.
7. ﴿وما تخفي صدورهم من البغضاء أكبر﴾ مما يبدون بألسنتهم ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ أي: أظهرنا لكم الدلالات الواضحات التي بها يتميز الولي من العدو ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾:
أ. أي: تعلمون الفضل بين الولي والعدو.
ب. وقيل: إن كنتم تعلمون مواعظ الله ومنافعها.
ج. وقيل: إن كنتم عقلاء فقد آتاكم الله من البيان الشافي.
8. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾: من للتبعيض، والتقدير: لا تتخذوا بعض المخالفين في الدين بطانة، ويجوز أن يكون لتبيين الصفة، فكأنه قال: لا تتخذوا بطانة من المشركين، وهذا أولى لأنه أعم، ولا يجوز ان يتخذ المؤمن الكافر بطانة على كل حال، وقيل: إن ﴿مِنَ﴾ ها هنا زائدة، وهذا غير حسن، لان الحرف إذا صح حمله في الفائدة، لا يحكم فيه بالزيادة.
ب. ﴿خَبَالًا﴾: نصب بأنه المفعول الثاني، لان الألو يتعدى إلى مفعولين، ويجوز أن يكون مصدرا لان المعنى يخبلونكم خبالا.
ج. موضع قوله: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾: يجوز أن يكون نصبا بأنه صفة لبطانة، ويجوز أن يكون لا موضع له من الاعراب، لأنه استئناف جملة.
د. ﴿مَا﴾ في قوله ﴿مَا عَنِتُّمْ﴾ مصدرية، وتقديره: ودوا عنتكم.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/820.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ قال ابن عباس، ومجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين، ويواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من القرابة، والصّداقة، والجوار، والرّضاع، والحلف، فنهوا عن مباطنتهم.
2. البطانة: قال الزجّاج: البطانة: الدّخلاء الذين يستبطنون أمره وينبسط إليهم، يقال: فلان بطانة لفلان، أي: مداخل له، مؤانس.
3. معنى لا يألونكم: لا يتّقون غاية في إلقائكم فيما يضرّكم.
4. ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ أي: ودّوا عنتكم، وهو ما نزل بكم من مكروه وضرّ، ويقال: فلان يعنت فلانا، أي: يقصد إدخال المشقّة والأذى عليه، وأصل هذا من قولهم: أكمة عنوت، إذا كانت طويلة، شاقّة المسلك، قال ابن قتيبة: ومعنى ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ أي: من غير المسلمين، والخبال: الشّرّ.
5. ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ قال ابن عباس: أي: قد ظهر لكم منهم الكذب، والشّتم، ومخالفة دينكم.
6. قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه الآية دلالة على أنّه لا يجوز الاستعانة بأهل الذّمّة في أمور المسلمين من العمّالات والكتبة، ولهذا قال أحمد: لا يستعين الإمام بأهل الذّمّة على قتال أهل الحرب، وروي عن عمر أنه بلغه أنّ أبا موسى استكتب رجلا من أهل الذّمّة، فكتب إليه يعنّفه، وقال: لا تردّوهم إلى العزّ بعد إذ أذلّهم الله.
__________
(1) زاد المسير: 1/319.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما شرح الله تعالى أحوال المؤمنين والكافرين شرع في تحذير المؤمنين عن مخالطة الكافرين، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً﴾
2. اختلفوا في أن الذين نهى الله المؤمنين عن مخالطتهم من هم؟ على أقوال:
أ. الأول: أنهم هم اليهود وذلك لأن المسلمين كانوا يشاورونهم في أمورهم ويؤانسونهم لما كان بينهم من الرضاع والحلف ظناً منهم أنهم وإن خالفوهم في الدين فهم ينصحون لهم في أسباب المعاش فنهاهم الله تعالى بهذه الآية عنه، وحجة أصحاب هذا القول أن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مخاطبة مع اليهود فتكون هذه الآية أيضاً كذلك.
ب. الثاني: أنهم هم المنافقون، وذلك لأن المؤمنين كانوا يغترون بظاهر أقوال المنافقين ويظنون أنهم صادقون فيفشون إليهم الأسرار ويطلعونهم على الأحوال الخفية، فالله تعالى منعهم عن ذلك، وحجة أصحاب هذا القول أن ما بعد هذه الآية يدل على ذلك وهو قوله وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آل عمران: 119] ومعلوم أن هذا لا يليق باليهود بل هو صفة المنافقين، ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئونَ [البقرة: 14]
ج. الثالث: المراد به جميع أصناف الكفار والدليل عليه قوله تعالى: بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من غير المؤمنين فيكون ذلك نهياً عن جميع الكفار وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: 1] ومما يؤكد ذلك ما روي أنه قيل لعمر بن الخطاب: هاهنا رجل من أهل الحيرة نصراني لا يعرف أقوى حفظاً ولا أحسن خطأ منه، فإن رأيت أن تتخذه كاتباً، فامتنع عمر من ذلك وقال: إذن اتخذت بطانة من غير المؤمنين، فقد جعل عمر هذه الآية دليلًا على النهي عن اتخاذ بطانة، وأما ما تمسكوا به من أن ما بعد الآية مختص بالمنافقين فهذا لا يمنع عموم أول الآية، فإنه ثبت في أصول الفقه أن أول الآية إذا كان عاماً وآخرها إذا كان خاصاً لم يكن خصوص آخر الآية مانعاً من عموم أولها.
3. البطانة: قال أبو حاتم عن الأصمعي: بطن فلان بفلان يبطن به بطوناً وبطانة، إذا كان خاصاً به داخلًا في أمره، فالبطانة مصدر يسمى به الواحد والجمع، وبطانة الرجل خاصته الذين يبطنون أمره وأصله من البطن خلاف الظهر، ومنه بطانة الثوب خلاف ظهارته، والحاصل أن الذي يخصه الإنسان بمزيد التقريب يسمى بطانة لأنه بمنزلة ما يلي بطنه في شدة القرب منه.
4. قوله تعالى: ﴿لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً﴾ نكرة في سياق النفي فيفيد العموم، أما قوله ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ أي من دون المسلمين ومن غير أهل ملتكم ولفظ ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ يحسن حمله على هذا الوجه كما يقول الرجل: قد أحسنتم إلينا وأنعمتم علينا، وهو يريد أحسنتم إلى إخواننا، وقال تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أي آباؤهم فعلوا ذلك.
5. في قوله تعالى: ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ احتمالان:
أ. أحدهما: أن يكون متعلقاً بقوله لا تَتَّخِذُوا أي لا تتخذوا من دونكم بطانة.
ب. الثاني: أن يجعل وصفاً للبطانة والتقدير: بطانة كائنات من دونكم.
6. سؤال وإشكال: ما الفرق بين قوله: (لا تتخذوا من دونكم بطانة)، وبين قوله: ﴿لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾؟ والجواب: قال سيبويه: إنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعني وهاهنا ليس المقصود اتخاذ البطانة إنما المقصود أن يتخذ منهم بطانة، فكان قوله: لا تتخذوا من دونكم بطانة أقوى في إفادة المقصود.
7. سؤال وإشكال: هذه الآية تقتضي المنع من مصاحبة الكفار على الإطلاق، وقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ﴾ [الممتحنة: 8]، وقال: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ﴾ [الممتحنة: 9] فكيف الجمع بينهما؟ والجواب: لا شك أن الخاص يقدم على العام.
8. لما منع الله تعالى المؤمنين من أن يتخذوا بطانة من الكافرين ذكر في علة هذا النهي أمورا:
أ. أحدها: قوله تعالى: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾:
• قال الزمخشري: يقال (ألا) في الأمر يألوا إذا قصر فيه، ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم: لا آلوك نصحاً، ولا آلوك جهداً على التضمين، والمعنى لا أمنعك نصحا ولا أنقصك جهداً.
• الخبال الفساد والنقصان، وأنشدوا: (لستم بيد إلا يداً أبدا مخبولة العضد)، أي فاسدة العضد منقوضتها، ومنه قيل: رجل مخبول ومخبل ومختبل لمن كان ناقص العقل، وقال تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا﴾ [التوبة: 47] أي فساداً وضررًا.
• ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ أي لا يدعون جهدهم في مضرتكم وفسادكم، يقال: ما ألوته نصحاً، أي ما قصرت في نصيحته، وما ألوته شرًّا مثله.
• انتصب الخبال بلا يألونكم لأنه يتعدى إلى مفعولين كما ذكرنا وإن شئت نصبته على المصدر، لأن معنى قوله: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ لا يخبلونكم خبالا.
ب. ثانيها: قوله تعالى: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾:
• يقال وددت كذا، أي أحببته و(العنت) شدة الضرر والمشقة قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ [البقرة: 220]
• ما مصدرية كقوله: ﴿ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ [غافر: 75] أي بفرحكم ومرحكم وكقوله: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا﴾ [الشمس: 5، 6] أي بنائه إياها وطحيه إياها.
• تقدير الآية: أحبوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر.
• قال الواحدي: لا محل لقوله: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ لأنه استئناف بالجملة وقيل: إنه صفة لبطانة، ولا يصح هذا لأن البطانة قد وصفت بقوله لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا فلو كان هذا صفة أيضاً لوجب إدخال حرف العطف بينهما.
• الفرق بين قوله تعالى: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ وبين قوله: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ في المعنى من وجوه:
● الأول: لا يقصرون في إفساد دينكم، فإن عجزوا عنه ودوا إلقاءكم في أشد أنواع الضرر.
● الثاني: لا يقصرون في إفساد أموركم في الدنيا، فإذا عجزوا عنه لم يزل عن قلوبهم حب إعناتكم.
● الثالث: لا يقصرون في إفساد أموركم، فإن لم يفعلوا ذلك لمانع من خارج، فحب ذلك غير زائل عن قلوبهم.
ج. ثالثها: قوله تعالى: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾
• البغضاء أشد البغض، فالبغض مع البغضاء كالضر مع الضراء.
• الأفواه جمع الفم والفم أصله فوه بدليل أن جمعه أفواه، يقال: فوه وأفواه كسوط وأسواط، وطوق وأطواق، ويقال رجل مفوه إذا أجاد القول، وأفوه إذا كان واسع الفم، فثبت أن أصل الفم فوه بوزن سوط، ثم حذفت الهاء تخفيفاً ثم أقيم الميم مقام الواو لأنهما حرفان شفويان.
• ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ إن حملناه على المنافقين ففي تفسيره وجهان:
● الأول: أنه لا بد في المنافق من أن يجري في كلامه ما يدل على نفاقه ومفارقة لطريق المخالصة في الود والنصيحة، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد: 30]
● الثاني: قال قتادة: قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضاً على ذلك، أما إن حملناه على اليهود فتفسير قوله: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ فهو أنهم يظهرون تكذيب نبيّكم وكتابكم وينسبونكم إلى الجهل والحمق، ومن اعتقد في غيره الإصرار على الجهل والحمق امتنع أن يحبه، بل لا بد وأن يبغضه، فهذا هو المراد بقوله: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾
• ثم قال تعالى: ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ يعني الذي يظهر على لسان المنافق من علامات البغضاء أقل مما في قلبه من النفرة، والذي يظهر من علامات الحقد على لسانه أقل مما في قلبه من الحقد.
9. ثم بيّن تعالى أن إظهار هذه الأسرار للمؤمنين من نعمه عليهم، فقال: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾:
أ. أي من أهل العقل والفهم والدراية.
ب. وقيل: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ الفصل بين ما يستحقه العدو والولي، والمقصود بعثهم على استعمال العقل في تأمل هذه الآية وتدبر هذه البينات.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/340.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أكد الله تعالى الزجر عن الركون إلى الكفار، وهو متصل بما سبق من قوله: ﴿إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [آل عمران]
2. البطانة مصدر، يسمى به الواحد والجمع، وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله من البطن الذي هو خلاف الظهر، وبطن فلان بفلان يبطن بطونا وبطانة إذا كان خاصا به، قال الشاعر:
çأولئك خلصائي نعم وبطانتي...وهم عيبتي من دون كل قريبé
3. نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم، ويقال: كل من كان على خلاف مذهبك ودينك فلا ينبغي لك أن تحادثه، قال الشاعر:
çعن المرء لا تسأل وسل عن قرينه...فكل قرين بالمقارن يقتديé
وفي سنن أبي داوود عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)، وروي عن ابن مسعود أنه قال: اعتبروا الناس بإخوانهم.
4. ثم بين تعالى المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة، فقال: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ يقول فسادا، يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة، على ما يأتي بيانه:
أ. وروي عن أبي أمامة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ قال: (هم الخوارج)
ب. وروي أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميا فكتب إليه عمر يعنفه وتلا عليه هذه الآية، وقدم أبو موسى الأشعري على عمر بحساب فرفعه إلى عمر فأعجبه، وجاء عمر كتاب فقال لأبي موسى: أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس؟ فقال: إنه لا يدخل المسجد، فقال لم! أجنب هو؟ قال: إنه نصراني، فانتهره وقال: لا تدنهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنهم وقد خونهم الله، وعن عمر قال: لا تستعملوا أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرشا، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى، وقيل لعمر: إن هاهنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين، فلا يجوز استكتاب أهل الذمة، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم.
5. انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء، روى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصم الله تعالى)، وروى أنس بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم غريبا)، فسره الحسن بن أبي الحسن فقال: أراد صلّى الله عليه وآله وسلّم لا تستشيروا المشركين في شي من أموركم، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمدا، قال الحسن: وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ الآية.
6. ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ أي من سواكم، قال الفراء: ﴿وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ﴾ أي سوى ذلك، وقيل: ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ يعني في السير وحسن المذهب.
7. معنى ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ لا يقصرون فيما فيه الفساد عليكم، وهو في موضع الصفة لـ ﴿بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾، يقال: لا آلو جهدا أي لا أقصر، وألوت ألوا قصرت، قال امرؤ القيس:
çوما المرء ما دامت حشاشة نفسه...بمدرك أطراف الخطوب ولا آلوé
8. الخبال: الخبل، والخبل: الفساد، وقد يكون ذلك في الأفعال والأبدان والعقول، وفي الحديث: من أصيب بدم أو خبل) أي جرح يفسد العضو، والخبل: فساد الأعضاء، ورجل خبل ومختبل، وخبله الحب أي أفسده، قال أوس:
çأبني لبينى لستم بيد...إلا يدا مخبولة العضدé
أي فاسدة العضد، وأنشد الفراء:
çنظر ابن سعد نظرة وبت بها...كانت لصحبك والمطي خبالاé
أي فساد.
9. انتصب ﴿خَبَالًا﴾ بالمفعول الثاني، لأن الألو يتعدى إلى مفعولين، وإن شئت على المصدر، أي يخبلونكم خبالا: وإن شئت بنزع الخافض، أي بالخبال، كما قالوا: أوجعته ضربا: ﴿وَمَا﴾ في قوله: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ مصدرية، أي ودوا عنتكم، أي ما يشق عليكم، والعنت المشقة، وقد مضى في البقرة) معناه.
10. ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ يعني ظهرت العداوة والتكذيب لكم من أفواههم، والبغضاء: البغض، وهو ضد الحب، والبغضاء مصدر مؤنث، وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه، فهم فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه، ومن هذا المعنى نهيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يشتحي الرجل فاه في عرض أخيه، معناه أن يفتح، يقال: شحى الحمار فاه بالنهيق، وشحى الفم نفسه، وشحى اللجام فم الفرس شحيا، وجاءت الخيل شواحي: فاتحات أفواهها، ولا يفهم من هذا الحديث دليل خطاب على الجواز فيأخذ أحد في عرض أخيه همسا، فإن ذلك يحرم باتفاق من العلماء، وفي التنزيل ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [الحجرات] الآية، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)، فذكر الشحو إنما هو إشارة إلى التشدق والانبساط.
11. في هذه الآية دليل على أن شهادة العدو على عدوه لا يجوز، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز، وروي عن أبي حنيفة جواز ذلك، وحكى ابن بطال عن ابن شعبان أنه قال: أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوه في شي وإن كان عدلا، والعداوة تزيل العدالة فكيف بعداوة كافر.
12. ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ إخبار وإعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم، وقرأ عبد الله بن مسعود: قد بدأ البغضاء) بتذكير الفعل، لما كانت البغضاء بمعنى البغض.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/179.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. البطانة: مصدر، يسمى به الواحد والجمع، وبطانة الرجل: خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله: البطن الذي هو خلاف الظهر، وبطن فلان بفلان، يبطن بطونا وبطانة: إذا كان خاصا به، ومنه قول الشاعر:
çوهم خلصائي كلّهم وبطانتي...وهم عيبتي من دون كلّ قريبé
2. ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ أي: من سواكم، قاله الفراء، أي: من دون المسلمين، وهم الكفار، أي: بطانة كائنة من دونكم، ويجوز أن يتعلق بقوله: ﴿لَا تَتَّخِذُوا﴾ وقوله: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾: في محل نصب صفة لبطانة، يقال: لا آلوك جهدا: أي لا أقصر، قال امرؤ القيس:
çوما المرء ما دامت حشاشة نفسه...بمدرك أطراف الخطوب ولا آلé
والمراد: لا يقصرون فيما فيه الفساد عليكم، وإنما عدّي إلى مفعولين: لكونه مضمنا معنى المنع، أي: لا يمنعونكم خبالا، والخبال والخبل: الفساد في الأفعال والأبدان والعقول، قال أوس:
çأبني لبينى لستم بيد...إلا يدا مخبولة العضدé
أي: فاسدة العضد.
3. ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ ما: مصدرية، أي: ودّوا عنتكم، والعنت: المشقة وشدة الضرر، والجملة مستأنفة، مؤكدة للنهي.
4. ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ﴾ هي شدة البغض، كالضراء: لشدة الضر، والأفواه: جمع فم، والمعنى: أنها قد ظهرت البغضاء في كلامهم، لأنهم لما خامرهم من شدة البغض والحسد أظهرت ألسنتهم ما في صدورهم، فتركوا التقية، وصرحوا بالتكذيب، أما اليهود: فالأمر في ذلك واضح، وأما المنافقون: فكان يظهر من فلتات ألسنتهم ما يكشف عن خبث طويتهم، وهذه الجملة لبيان حالهم: ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ لأن فلتات اللسان أقل مما تكنه الصدور، بل تلك الفلتات بالنسبة إلى ما في الصدور قليلة جدا.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/431.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً﴾ أصفياء تُطلعونهم على سرِّكم، وبطانة الرجل من يفشي إليه سرَّه ثقة به، وهو مفرد يستعمل في الواحد والاثنين والجماعة والمذكَّر والمؤنَّث، مستعار من بطانة الثوب والفراش بمعنى: الجانب الباطن منه، ﴿مِن دُونِكُمْ﴾ معشر المسلمين، مفعول ثان إن تعدَّى لاثنين، وإلَّا تعلَّق به، و(مِنْ) للابتداء.
2. ﴿لَا يَالُونَكُمْ خَبَالاً﴾ لا يقصرون لكم في الفساد، والأَلْوُ في الشيء التقصير فيه، ألَّا يألوا ألوًا: قصَّر، وتعدَّى لاثنين مع أنَّه لازم لتضمُّنه معنى منع أو نقص، أو حذف جارَّين، أي: لا يألون لكم في الخبال.
3. نزلت فيمن يوالي من المؤمنين والمنافقين لنحو قرابة وصداقة من الجاهليَّة ورضاع وجوار، أو يوالي المشركين كذلك ومن يوالي المنافقين اليهود لنحو ذلك، ومعنى قول أبي حيَّان: إنَّه تمييز محوَّل عن المفعول به مع أنَّه لازم: أنَّه محوَّل عن المفعول به الذي بواسطة الجارِّ، أي: لا يقصِّرون لكم خبالا.
4. ﴿وَدُّواْ﴾ تمنَّوْا، ﴿مَا عَنِتُّمْ﴾ عنتَكُم، أي: مشقَّتكم، لا يقصِّرون في فساد دينكم ودنياكم فإن عجزوا عن التأثير فحبُّ ذلك وتمنِّيه غير زائل عن قلوبهم، ﴿قَدْ بَدَت﴾ ظهرت لكم، وقيل: فيما بينهم، يظهرون عداوة المسلمين، والصحيح الأوَّل، ﴿الْبَغْضَآءُ﴾ العداوة، ﴿مِنَ اَفْوَاهِهِمْ﴾ ظهرت علامة العداوة في كلامهم الخارج من أفواههم، كالغيبة والبهت، ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُم﴾ من البغضاء، ﴿أَكْبَرُ﴾ مِمَّا بدا على ألسنتهم، وذلك أَنَّ مِن شأنهم أن يضمروا ما في صدورهم من بغض المؤمنين، ويتحرَّزوا عن ظهوره، ومع ذلك ينفلت عن ضرورة منهم ما يُعلَم به، فما يظهر أقلُّ مِمَّا خَفي في قلوبهم، المفرد: (فمٌ)، وميمه بدل من واو (فوه)، ولام الكلمة هاء وعينها واو والجمع التكسيري يدلُّ لذلك، وكذا التصغير على (فُوَيه)، والنَّسب على (فُوهيّ)
5. ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الَايَاتِ﴾ العلامات الدالَّة على البغضاء لكم، ﴿إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ما بيَّنا لكم، أو كنتم من أهل التمييز.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/359.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ أي أصحابا يستبطنون أمركم من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون، قال الزمخشريّ: (بطانة الرجل ووليجته خصيصه وصفيّه الذي يفضي إليه بشقوره ثقة به، شبّه ببطانة الثوب، كما يقال: فلان شعاري)، ومن أمثال العرب في سرار الرجل إلى أخيه ما يستره عن غيره: أفضيت إليه بشقوري ـ بضم الشين وقد تفتح ـ أي أخبرته بأمري، وأطلعته على ما أسره من غيره: وفي القاموس وشرحه: البطانة الصاحب للسر الذي يشاور في الأحوال، والوليجة وهو الذي يختص بالولوج والاطلاع على باطن الأمر، وقال الزجاج: البطانة الدخلاء الذين ينبسط إليهم ويستبطنون، يقال: فلان بطانة لفلان أي مداخل له موانس، وهؤلاء المنهي عنهم، إما أهل الكتاب، كما رواه ابن جرير وابن إسحاق عن ابن عباس: أنهم اليهود، وذلك لأن السياق في السورة، والسباق معهم، وقد كان بين الأنصار وبين مجاوريهم من اليهود ما هو معروف من سابق الرضاع والحلف، وإما المنافقون لقوله بعد: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا﴾ [آل عمران: 119].. إلخ، وهذه صفة المنافقين كقوله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة:14]، وربما كان يغتر بعض المؤمنين بظاهر أقوال المنافقين ويظنون أنهم صادقون فيفشون إليهم الأسرار، وإما جميع أصناف الكفار وقوفا مع عموم قوله تعالى: ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الممتحنة: 1]، ومما يؤكد ذلك ما رواه ابن أبي حاتم أنه قيل لعمر بن الخطاب: إن هاهنا غلاما من أهل الحيرة نصرانيا، حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتبا؟ فقال: قد اتخذت إذن بطانة من دون المؤمنين، قال الرازيّ: فقد جعل عمر هذه الآية دليلا على النهي من اتخاذ النصرانيّ بطانة، وقال الحافظ ابن كثير: ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب.
2. قال السيوطيّ في (الإكليل): قال الكيا الهراسيّ: (في الآية دلالة على أنه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في شيء من أمور المسلمين)، ووجه ذلك، كما قال القاشانيّ، أن بطانة الرجل صفيه وخليصه الذي يبطنه ويطلع على أسراره، ولا يمكن وجود مثل هذا الصديق إلا إذا اتحدا في المقصد واتفقا في الدين والصفة، متحابين في الله لغرض، كما قيل في الأصدقاء: نفس واحدة في أبدان متفرقة، فإذا كان من غير أهل الإيمان، فبأن يكون كاشحا أحرى.
3. ثم بيّن نفاقهم واستبطانهم العداوة بقوله: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ أي لا يقصرون بكم في الفساد، قال القاشانيّ: لأن المحبة الحقيقية الخالصة لا تكون إلا بين الموحدين لكونها ظل الوحدة، فلا تكون في غيرهم لكونهم في عالم التضادّ، بل ربما تتألفهم الجنسية العامة الإنسانية لاشتراكهم في النوع والمنافع والملاذ واحتياجهم إلى التعاون فيها، والمنافع الدنيوية واللذات النفسانية سريعة الانقضاء فلا تدوم المحبة عليها، بخلاف المحبة الأولى فإنها مستندة إلى أمر لا تغير فيه أصلا، قال الزمخشريّ: يقال: ألا في الأمر، يألو: إذا قصر فيه، ثم استعمل معدّى إلى مفعولين، في قولهم: لا آلوك نصحا، ولا آلوك جهدا، على التضمين، والمعنى: لا أمنعك نصحا ولا أنقصكه، والخبال الفساد.
4. ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ أي عنتكم، على أن (ما) مصدرية، والعنت شدة الضرر والمشقة، أي تمنّوا ما يهلككم ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ أي ظهر البغض الباطن حتى خرج من أفواههم لأنهم لا يتمالكون، مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها، أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين، وقد قيل: كوامن النفوس تظهر على صفحات الوجوه وفلتات اللسان.
5. ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ مما ظهر، لأن ظهوره ليس عن روية واختيار بل فلتة، ومثله يكون قليلا ﴿قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ﴾ الدالة على سوء اتخاذكم إياهم بطانة لتمتنعوا منها فتخلصوا في الدين وتوالوا المؤمنين وتعادوا الكافرين ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي من أهل العقل، أو تعقلون ما بيّن لكم فعملتم به.
6. سؤال وإشكال: كيف موقع هذه الجمل؟ والجواب: قال الزمخشريّ: يجوز أن يكون ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ﴾ صفة للبطانة، وكذلك ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ﴾، كأنه قيل: بطانة غير آليكم خبالا، بادية بغضاؤهم، وأما ﴿قَدْ بَيَّنَّا﴾ فكلام مبتدأ، وأحسن منه وأبلغ أن تكون مستأنفات كلها على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/393.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إن الآيات السابقة من أول السورة كانت في الحجاج مع أهل الكتاب، وكذا في المشركين بالتبع والمناسبة، وأن هذه الآيات وما بعدها إلى آخر السورة في بيان أحوال المؤمنين ومعاملة بعضهم لبعض وإرشادهم في أمرهم، أي إن أكثر الآيات السابقة واللاحقة في ذلك، ثم ذكر لبيان اتصال هذه الآية بما قبلها ثلاث مقدمات:
أ. إنه كان بين المؤمنين وغيرهم صلات كانت مدعاة إلى الثقة بهم والإفضاء إليهم بالسر واطلاعهم على كل أمر، منها المحالفة والعهد، ومنها النسب والمصاهرة، ومنها الرضاعة.
ب. إن الغرة من طبع المؤمن فإنه يبني أمره على اليسر والأمانة والصدق ولا يبحث عن العيوب، ولذلك يظهر لغيره من العيوب وإن كان بليدا ما لا يظهر له هو وإن كان ذكيا.
ج. إن المناصبين للمؤمنين من أهل الكتاب والمشركين كان همهم الأكبر إطفاء نور الدعوة وإبطال ما جاء به الإسلام وكان هم المؤمنين الأكبر نشر الدعوة وتأييد الحق، فكان الهمان متباينين، والقصدان متناقضين.
2. إذا كانت حالة الفريقين على ما ذكر فهي لا شك مقتضية لأن يفضي النسيب من المؤمنين إلى نسيبه من أهل الكتاب والمشركين والمحالف منهم لمحالفه من غيرهم بشيء مما في نفسه وإن كان من أسرار الملة التي هي موضوع التباين والخلاف بينهم، وفي ذلك تعريض مصلحة الملة للخبال، لذلك جعل الله تعالى للصلات بين المؤمنين وغيرهم حدا لا يتعدونه فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ إلى آخر الآيات.
3. ﴿بِطَانَةً﴾ الرجل وليجته وخاصته الذين يستنبطون أمره ويتولون سره، مأخوذ من بطانة الثوب وهو الوجه الباطن منه، كما يسمى الوجه الظاهر، ظهارة، و﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ معناه من غيركم و﴿يَأْلُونَكُمْ﴾ من الإلو، وهو التقصير والضعف، و(الخبال) في الأصل الفساد الذي يلحق الحيوان فيورثه اضطرابا كالأمراض التي تؤثر في المخ فيختل إدراك المصاب بها، أي لا يقصرون ولا ينون في إفساد أمركم.
4. الأصل في استعمال فعل (ألا) أن يقال فيه نحو (لا آلو في نصحك) وسمع مثل (لا آلوك نصحا) على معنى لا أمنعك نصحا؛ وهو ما يسمونه التضمين، و﴿عَنِتُّمْ﴾ من العنت وهو المشقة الشديدة و) البغضاء) شدة البغض.
5. أخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس قال: (كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من يهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم هذه الآية)، وأخرج عبد بن حميد أنها نزلت في المنافقين، وروى ابن جرير القولين عن ابن عباس، وذكر الرازي وجها ثالثا أنها في الكافرين والمنافقين عامة قال: (وأما ما تمسكوا به من أن ما بعد الآية مختص بالمنافقين فهذا لا يمنع عموم أول الآية، فإنه ثبت في أصول الفقه أن أول الآية إذا كان عاما وآخرها إذا كان خاصا لم يكن خصوص آخر الآية مانعا من عموم أولها)
6. أما المعنى فهو نهي المؤمنين أن يتخذوا لأنفسهم بطانة من الكافرين الموصوفين بتلك الأوصاف على القول بأن قوله: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ﴾ نعوت للبطانة هي قيود للنهي، وكذا على القول بأنه كلام مستأنف مسوق للتعليل، فالمراد واحد وهو: أن النهي خاص بمن كانوا في عداوة المؤمنين على ما ذكر:
أ. وهو أنهم لا يألونهم خبالا وإفسادا لأمرهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فهذا هو القيد الأول.
ب. والثاني قوله عز وجل: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ أي تمنوا عنتكم أي وقوعكم في الضرر الشديد والمشقة.
ج. والثالث والرابع قوله: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ أي قد ظهرت علامات بغضائهم لكم من كلامهم، فهي لشدتها مما يعوزهم كتمانها، ويعز عليهم إخفاؤها، على أن ما تخفي صدروكم منها أكبر مما يفيض على ألسنتهم من الدلائل عليها.
7. هذا النوع من البغضاء والعداوة مما يلقاه القائمون بكل دعوة جديدة في الإصلاح ممن يدعونهم إليه؛ وما كان المسلمون الأولون يعرفون سنة البشر في ذلك إذ لم يكونوا على علم بطبائع الملل وقوانين الاجتماع وحوادث التاريخ حتى أعلمهم الله به، ولذلك قال: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ يعني بالآيات هنا العلامات الفارقة بين من يصح أن يتخذ بطانة ومن لا يصح أن يتخذ لخيانته وسوء عاقبة مباطنته، أي إن كنتم تدركون حقائق هذه الآيات والفصول الفارقة بين الأعداء والأولياء فاعتبروا بها ولا تتخذوا أولئك بطانه.
8. وأنت ترى أن هذه الصفات التي وصف بها من نهى عن اتخاذهم بطانة أو فرض أن اتصف بها من هو موافق لك في الدين والجنس والنسب، لما جاز لك أن تتخذه بطانة لك إن كنت تعقل، فما أعدل هذا القرآن الحكيم وما أعلى هديه وأسمى إرشاده؟
9. لقد خفي على بعض الناس هذه التعليلات والقيود فظنوا أن النهي عن المخالف في الدين مطلقا، ولو جاء هذا النهي مطلقا لما كان أمرا غريبا ونحن نعلم أن الكافرين كانوا إلبا على المؤمنين في أول ظهور الإسلام إذ نزلت هذه الآيات لا سيما اليهود الذين نزلت فيهم على رأي المحققين، ولكن الآيات جاءت مقيدة بتلك القيود لأن الله تعالى ـ وهو منزلها ـ يعلم ما يعتري الأمم وأهل الملل من التغير في الموالاة والمعاداة كما وقع من هؤلاء اليهود، فإنهم بعد أن كانوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا في أول ظهور الإسلام قد انقلبوا فصاروا عونا للمسلمين في بعض فتوحاتهم (كفتح الأندلس)، وكذلك كان القبط عونا للمسلمين على الروم في مصر، فكيف يجعل عالم الغيب والشهادة الحكم على هؤلاء واحدا في كل زمان ومكان أبد الأبيد؟ ألا إن هذا مما تنبذه الدراية، ولا تروي غلته الرواية، فإن أرجح التفسير المأثور يؤيد ما قلناه.
10. قال ابن جرير يرد على قتادة القائل بأن الآية في المنافقين ويؤيد رأيه الموافق لما اخترناه ما نصه: (إن الله تعالى ذكره إنما نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغش للإسلام وأهله والبغضاء إما بأدلة ظاهرة دالة على أن ذلك من صفتهم، وإما بإظهار الموصوفين بتلك العداوة والشنآن والمناصبة لهم، فأما من لم يتأسوه معرفة أنه الذي نهاهم الله عز وجل عن مخالته ومباطنته فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته إلا بعد تعريفهم إياهم إما بأعيانهم وأسمائهم وإما بصفات قد عرفوهم بها وإذا كان ذلك كذلك وكان إبداء المنافقين بألسنتهم لهم والتودد إليهم كان بينا أن الذين نهى الله عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم على ما وصفهم الله تعالى به فعرفهم المؤمنون بالصفة التي نعتهم الله بها وأنهم هم الذين وصفهم الله تعالى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون ممن كان له ذمة وعهد من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه من أهل الكتاب لأنهم لو كانوا المنافقين لكان الأمر منهم على ما بيننا ولو كانوا الكفار ممن ناصب المسلمين الحرب لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانة من دون المؤمنين مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم، ولكنهم الذين كانوا بين أظهر المؤمنين من أهل الكتاب أيام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ممن كان له من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عهد وعقد من يهود بني إسرائيل)
11. هذا شيخ المفسرين وأشهرهم يجعل هذا النهي فيمن ظهرت عداوتهم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين معه ممن كان لهم عهد فخانوا فيه، كبني النضير الذين حاولوا قتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في أثناء ائتمانه لهم لمكان العهد والمحالفة، ويمنع أن يكون أراد به جميع الكافرين أو المنافقين، فهذا حكم من أحكام الإسلام في المخالفين أيام كان جميع الناس حربا للمسلمين، فهل ينكر أحد له مسكة من الإنصاف أنه في هذه القيود التي قيد بها بعد منتهى التساهل والتسامح مع المخالفين، إذ لم يمنع اتخاذ البطانة إلا ممن ظهرت عداوتهم وبغضاؤهم للمسلمين، فهم لا يقصرون في إفساد أمرهم ويتمنون لهم من الشر فوق ذلك، لو كانت هذه القيود للنهي عن استعمال المخالفين في كل شيء ومشاركتهم في كل عمل لكان وجه العدل فيها زاهرا، وطريق العذر فيها ظاهرا، فكيف وهي قيود لاتخاذهم بطانة يستودعون الأسرار ويستعان برأيهم وعملهم على شؤون الدفاع عن الملة وصون حقوقها ومقاومة أعدائها؟؟
12. ما أشبه هذا النهي في قيوده بالنهي عن اتخاذ الكفار أنصارا وأولياء إذ قيد بقوله عز وجل: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة: 8 ـ 9] وقد شرحنا هذا البحث في تفسير قوله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 28]
13. هذا التساهل الذي جاء به القرآن هو الذي أرشد عمر إلى جعل رجال دواوينه من الروم، وجرى الخليفتان الآخران وملوك بني أمية من بعده على ذلك إلى أن نقل الدواوين عبد الملك بن مروان من الرومية إلى العربية، وبهذه السيرة وذلك الإرشاد عمل العباسيون وغيرهم من ملوك المسلمين في نوط أعمال الدولة باليهود والنصارى والصائبين، ومن ذلك جعل الدولة العثمانية أكثر سفرائها ووكلائها في بلاد الأجانب من النصارى.
14. مع هذا كله يقول متعصبو أوروبا: (إن الإسلام لا تساهل فيه!!) رمتني بدائها وانسلت.. ألا إن التساهل قد أخرج عند المسلمين عن حده، حتى كتب محمد عبده في ذلك مقالة في العروة الوثقى صدرها بالآية التي نفسرها نوردها هنا برمتها لأنها تدخل في باب تفسير الآية والاعتبار بها على أكمل وجه (2).
__________
(1) تفسير المنار: 4/81.
(2) أورد هنا نص الرسالة، وهي طويلة، وفيما ذكره مغن عنها، ولذلك لم نثبتها.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كانت الآيات السالفة حجاجا مع أهل الكتاب والمشركين، وإلزامهم بالحجة، وبيانا لأحوال المؤمنين، وتذكيرا لهم بما يكون من سوء العاقبة يوم القيامة، يوم تبيض وجوه وتسوّد وجوه.. والكلام في هذه الآيات تحذير للمؤمنين من مخالطة الكافرين مخالطة تدعو إلى الإباحة بالأسرار، والاطلاع على شؤون المسلمين، مما تقضى المصلحة بكتمانه، وعدم معرفة الأعداء له، ومما دعا إلى هذا النهى أنه كانت بين المؤمنين وغيرهم صلات خاصة تدعو إلى الإباحة بالأسرار إليهم كالنسب والمصاهرة والرضاعة والعهد والمحالفة ـ إلى أنّ من طبيعة المؤمن أن يبنى أمره على اليسر والأمانة والصدق، ولا يبحث عن عيوب غيره.
2. لكن لما كان همّ المناصبين من أهل الكتاب والمشركين إطفاء نور الدعوة، وإبطال ما جاء به الإسلام، والمسلمون لم يكن لهم غرض إلا نشر هذه الدعوة بسائر الوجوه التي يرونها كفيلة بإعلاء كلمة الدين ـ اختلف المقصدان، وافترق الغرضان، فلم يكن من الحزم أن يفضى الإنسان بسره إلى عدوه، ويطلعه على خططه التي يدبرها للفوز ببغيته على أكمل الوجوه وأحكمها، وأقربها للوصول إلى الغرض، ومن ثم حذر الله المؤمنين من اطلاع أعدائهم على أسرارهم، لما في ذلك من تعريض مصلحة الملة للخبال والفساد، أخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس قال كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فأنزل الله فيهم هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة.
3. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ أي لا تتخذوا أيها المؤمنون الكافرين كاليهود والمنافقين أولياء وخواصّ لكم دون المؤمنين، إذا كانوا على تلك الأوصاف التي ذكرت في هذه الآية:
أ. لا يألونكم خبالا: أي لا يقصرون في مضرتكم، وإفساد الأمر عليكم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ب. يتمنون ضركم في دينكم ودنياكم أشد الضرر.
ج. يبدون البغضاء بأفواههم، ويظهرون تكذيب نبيكم وكتابكم، وينسبونكم إلى الحمق والجهل، ومن اعتقد حمق غيره وجهله لا يحبه.
د. ما يظهرونه على ألسنتهم من علامات الحقد أقل مما في قلوبهم منه.
4. هذه الأوصاف شروط في النهى عن اتخاذ البطانة من غير المسلمين، فإذا اعتراها تغيّر وتبدل كما وقع من اليهود، فبعد أن كانوا في صدر الإسلام أشد الناس عداوة للذين آمنوا ـ انقلبوا فصاروا عونا للمسلمين في فتوح الأندلس، وكما وقع من القبط إذ صاروا عونا للمسلمين على الروم في فتح مصر ـ فلا يمتنع حينئذ اتخاذهم أولياء وبطانة للمسلمين، فقد جعل عمر بن الخطاب رجال دواوينه من الروم، وجرى الخلفاء من بعده على ذلك، إلى أن نقل عبد الملك بن مروان الدواوين من الرومية إلى العربية، وعلى هذه السنة جرى العباسيون وغيرهم من ملوك المسلمين في نوط أعمال الدولة باليهود والنصارى حتى العصر الحاضر، فإن كثيرا من سفراء الدولة العثمانية ووكلائها من النصارى، ومع كل هذا يرمينا الأجانب بالتعصب، ويقولون: إن الإسلام لا تساهل فيه.
5. هذا النهى المقيد بتلك الأوصاف شبيه بالنهى عن اتخاذ الكفار أنصارا وأولياء في قوله: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾
6. ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحة التي يتميز بها الولي من العدو، ومن يصح أن يتخذ بطانة، ومن لا يصح أن يتخذ لخيانته، وسوء عاقبة مباطنته، إن كنتم تدركون حقائق هذه الآيات التي تفرق بين الأعداء والأولياء، وتعلمون قدر مواعظ الله وحسن عواقبها.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/43.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في نهاية الدرس الذي ابتدأ بيانا لما في سلوك أهل الكتاب من انحراف، وكشفا لما في جدالهم من مغالطة، وفضحا لما يريدونه بالمسلمين من سوء، وتوجيها للجماعة المسلمة لتنهض بتكاليفها، دون أن تلقي بالا إلى المجادلين المنحرفين الفاسقين.. في نهاية هذا الدرس، ونهاية هذا المقطع الطويل من السورة كلها يجيء التحذير للجماعة المسلمة من أن تتخذ من أعدائها الطبيعيين بطانة، وأن تجعل منهم أمناء على أسرارها ومصالحها، وهم للذين آمنوا عدو.
2. يجيء هذا التحذير في صورة شاملة خالدة، ما نزال نرى مصداقها في كل وقت، وفي كل أرض، صورة رسمها هذا القرآن الحي، فغفل عنها أهل هذا القرآن، فأصابهم من غفلتهم وما يزال يصيبهم الشر والأذى والمهانة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾
3. إنها صورة كاملة السمات، ناطقة بدخائل النفوس، وشواهد الملامح، تسجل المشاعر الباطنة، والانفعالات الظاهرة، والحركة الذاهبة الآئبة، وتسجل بذلك كله نموذجا بشريا مكرورا في كل زمان وفي كل مكان، ونستعرضها اليوم وغدا فيمن حول الجماعة المسلمة من أعداء، يتظاهرون للمسلمين ـ في ساعة قوة المسلمين وغلبتهم ـ بالمودة، فتكذبهم كل خالجة وكل جارحة، وينخدع المسلمون بهم فيمنحونهم الود والثقة، وهم لا يريدون للمسلمين إلا الاضطراب والخبال، ولا يقصرون في إعنات المسلمين ونثر الشوك في طريقهم، والكيد لهم والدس، ما وأتتهم الفرصة في ليل أو نهار.
4. ما من شك أن هذه الصورة التي رسمها القرآن الكريم هذا الرسم العجيب، كانت تنطبق ابتداء على أهل الكتاب المجاورين للمسلمين في المدينة؛ وترسم صورة قوية للغيظ الكظيم الذي كانوا يضمرونه للإسلام والمسلمين، وللشر المبيت، وللنوايا السيئة التي تجيش في صدورهم؛ في الوقت الذي كان بعض المسلمين ما يزال مخدوعا في أعداء الله هؤلاء، وما يزال يفضي إليهم بالمودة، وما يزال يأمنهم على أسرار الجماعة المسلمة؛ ويتخذ منهم بطانة وأصحابا وأصدقاء، لا يخشى مغبة الإفضاء إليهم بدخائل الأسرار.. فجاء هذا التنوير، وهذا التحذير، يبصر الجماعة المسلمة بحقيقة الأمر، ويوعيها لكيد أعدائها الطبيعيين، الذين لا يخلصون لها أبدا، ولا تغسل أحقادهم مودة من المسلمين وصحبة، ولم يجيء هذا التنوير وهذا التحذير ليكون مقصورا على فترة تاريخية معينة، فهو حقيقة دائمة، تواجه واقعا دائما.. كما نرى مصداق هذا فيما بين أيدينا من حاضر مكشوف مشهود، والمسلمون في غفلة عن أمر ربهم: ألا يتخذوا بطانة من دونهم، بطانة من ناس هم دونهم في الحقيقة والمنهج والوسيلة، وألا يجعلوهم موضع الثقة والسر والاستشارة.. المسلمون في غفلة عن أمر ربهم هذا يتخذون من أمثال هؤلاء مرجعا في كل أمر، وكل شأن، وكل وضع، وكل نظام، وكل تصور، وكل منهج، وكل طريق! والمسلمون في غفلة من تحذير الله لهم، يوادون من حاد الله ورسوله؛ ويفتحون لهم صدورهم وقلوبهم.
5. والله سبحانه يقول للجماعة المسلمة الأولى كما يقول للجماعة المسلمة في أي جيل: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/452.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذه الآيات يحذّر الله المؤمنين أن يأمنوا جانب هؤلاء الذين يكيدون لهم ولدينهم، ويبيّتون السوء للرسالة الإسلامية، ويصدون الناس عنها.
2. البطانة هم الذين يدنيهم الإنسان منه، ويتخذهم موضع سرّه، فيطلعهم على ما يخفيه ويبطنه عن غيرهم، وقوله تعالى: ﴿لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ أي لا تركنوا إلى أحد من غير دينكم، ولا تقاربوه هذه المقاربة التي يمكن أن يطلع منها على مواطن الضعف فيكم، فيكيد لكم.
3. في قوله تعالى: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ إشارة إلى السبب الداعي إلى الحذر من مخالطة هؤلاء الذين يعادون الإسلام ويكيدون له.. إنهم يجهدون كل جهدهم في النيل من المسلمين.. لا يقصّرون في أمر فيه نكاية بالمسلمين، وخبال لهم، وإضعاف لشأنهم.
4. في قوله تعالى: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ إشارة ثانية إلى ما في قلوب هؤلاء القوم من كراهية للمسلمين.. يتمنون لهم ما يعنتهم ويثقل كاهلهم من هموم وآلام.
5. في قوله تعالى: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ بيان شارح لتلك الأسباب التي تجعل المسلمين على حذر من هؤلاء القوم، وأمارة دالة على حقيقة تلك الأسباب.. فعلى ألسنة القوم ومن أفواههم تتساقط الكلمات المسمومة، التي يصوبونها في خبث ودهاء إلى الإسلام والمسلمين، وليس هذا الذي يتساقط من أفواههم إلا شيئا قليلا مما تنطوي عليه قلوبهم من حسد وغيظ، وما تفيض به مشاعرهم من عداوة وبغضاء.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/565.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآن إذ كشف الله دخائل من حول المسلمين من أهل الكتاب، أتمّ كشف، جاء موقع التحذير من فريق منهم، والتحذير من الاغترار بهم، والنهي عن الإلقاء إليهم بالمودة، وهؤلاء هم المنافقون، للإخبار عنهم بقوله: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾ [آل عمران: 119].. وأكثرهم من اليهود، دون الذين كانوا مشركين من الأوس والخزرج، وهذا موقع الاستنتاج في صناعة الخطابة بعد ذكر التمهيدات والإقناعات، وحقّه الاستئناف الابتدائي كما هنا.
2. البطانة ـ بكسر الباء ـ في الأصل داخل الثّوب، وجمعها بطائن، وفي القرآن ﴿بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ [الرحمن: 54] وظاهر الثوب يسمّى الظهارة ـ بكسر الظاء ـ، والبطانة أيضا الثوب الذي يجعل تحت ثوب آخر، ويسمّى الشعار، وما فوقه الدثار، وفي الحديث: (الأنصار شعار والنّاس دثار) ثمّ أطلقت الثّياب في شدة القرب من صاحبها.
3. معنى اتخاذهم بطانة أنهم كانوا يحالفونهم ويؤدّونهم من قبل الإسلام فلمّا أسلم من أسلم من الأنصار بقيت المودة بينهم وبين من كانوا أحلافهم من اليهود، ثمّ كان من اليهود من أظهروا الإسلام، ومنهم من بقي على دينه.
4. ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ يجوز أن تكون (من) فيه زائدة و(دون) اسم مكان بمعنى حولكم، وهو الاحتمال الأظهر كقوله تعالى في نظيره ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً﴾ [التوبة: 16] ويجوز أن تكون (من) للتبعيض و(دون) بمعنى غير كقوله تعالى: ﴿وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ﴾ [الفتح: 27] من غير أهل ملّتكم، وقد علم السامعون أنّ المنهي عن اتّخاذهم بطانة هم الذين كانوا يموّهون على المؤمنين بأنّهم منهم، ودخائلهم تقتضي التّحذير من استبطانهم.
5. جملة: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾:
أ. صفة لبطانة على الوجه الأول، وهذا الوصف ليس من الأوصاف الظاهرة التي تفيد تخصيص النكرة عمّا شاركها، لكنّه يظهر بظهور آثاره للمتوسّمين، فنهى الله المسلمين عن اتّخاذ بطانة هذا شأنها وسمتها، ووكلهم إلى توسّم الأحوال والأعمال، ويكون قوله: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ وقوله: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ﴾ جملتين في محلّ الوصف أيضا على طريقة ترك عطف الصفات، ويومئ إلى ذلك قوله: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي: قد بيّنا لكم علامات عداوتهم بتلك الصفات إن كنتم تعقلون فتتوسّمون تلك الصّفات، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾
ب. وعلى الاحتمال الثاني يجعل ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ وصفا، وتكون الجمل بعده مستأنفات واقعة موقع التعليل للنّهي عن اتّخاذ بطانة من غير أهل ملّتنا، وهذ الخلال ثابتة لهم فهي صالحة للتوصيف، ولتعليل النّهي، ذلك لأنّ العداوة النّاشئة عن اختلاف الدين عداوة متأصّلة لا سيما عداوة قوم يرون هذا الدّين قد أبطل دينهم، وأزال حظوظهم، كما سنبينه.
6. معنى ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ لا يقصّرون في خبالكم، والألو التقصير والترك، وفعله ألا يألو، وقد يتوسّعون في هذا الفعل فيعدّى إلى مفعولين، لأنّهم ضمّنوه معنى المنع فيما يرغب فيه المفعول، فقالوا لا آلوك جهدا، كما قالوا لا أدّخرك نصحا، فالظاهر أنّه شاع ذلك الاستعمال حتّى صار التضمين منسيا، فلذلك تعدّى إلى ما يدلّ على الشرّ كما يعدّى إلى ما يدلّ على الخير، فقال هنا: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ أي لا يقصّرون في خبالكم، وليس المراد لا يمنعونكم، لأن الخبال لا يرغب فيه ولا يسأل، ويحتمل أنّه استعمل في هذه الآية على سبيل التهكّم بالبطانة، لأنّ شأن البطانة أن يسعوا إلى ما فيه خير من استبطنهم، فلمّا كان هؤلاء بضدّ ذلك عبّر عن سعيهم بالضرّ، بالفعل الذي من شأنه أن يستعمل في السعي بالخير.
7. الخبال: اختلال الأمر وفساده، ومنه سمّي فساد العقل خبالا، وفساد الأعضاء.
8. ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ الود: المحبّة، والعنت: التعب الشّديد، أي رغبوا فيما يعنتكم و(ما) هنا مصدرية، غير زمانية، ففعل ﴿عَنِتُّمْ﴾ لمّا صار بمعنى المصدر زالت دلالته على المضي.
9. معنى ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ ظهرت من فلتات أقوالهم كما قال تعالى: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ فعبّر بالبغضاء عن دلائلها، وجملة ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ حالية.
10. ﴿الْآيَاتِ﴾ في قوله: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ بمعنى دلائل سوء نوايا هذه البطانة كما قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: 75] ولم يزل القرآن يربّي هذه الأمّة على إعمال الفكر، والاستدلال، وتعرّف المسبّبات من أسبابها في سائر أحوالها: في التّشريع، والمعاملة لينشئها أمّة علم وفطنة.
11. لكون هذه الآيات آيات فراسة وتوسّم، قال: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ولم يقل: إن كنتم تعلمون أو تفقهون، لأنّ العقل أعمّ من العلم والفقه، وجملة ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ مستأنفة.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/200.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية وما وليها من آيات فيها عود إلى التحذير مما يريده أهل الكتاب والمنافقون من أهل الإيمان والإخلاص، فقد قال تعالى من قبل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ [آل عمران] وبين وجوب الاعتصام بحبل الله تعالى وهو كتابه تعالت كلماته، وعظمت آياته، لتتم الوحدة الإسلامية، ثم ذكر من بعد ذلك بعض أحوال أهل الكتاب، وما عساه قد يكون في بعضهم من خير، وما عليه سائرهم من شر.
2. وفي هذه الآية يحذر تحذيرا شديدا من نوع آخر، فقد كان التحذير متجها إلى الحث على اليقظة الفكرية، حتى لا يفسد أهل الكتاب على المؤمنين دينهم الذي ارتضوا، فبين أنه لا يصح الاسترسال في إرضائهم، فإنه لا يرضيهم من المؤمن إلا أن يخرج عن دينه ويطرحه وراءه ظهريا، وأن يسير وراء ركبهم، ولقد قال سبحانه: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة]، فالتحذير هنالك للخوف على العقيدة أن يفسدها هؤلاء، أما التحذير هنا فهو للخوف من أن يفسد أولئك المنافقون من أهل الكتاب الجماعة الإسلامية، وينشروا فيها الاضطراب، وألا يكون نظام قائم ثابت الدعائم، ولذا قال سبحانه:
3. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ بطانة الرجل: خاصته الذين يعرفون خفايا أمره، ومكنون سره، ويستبطنون ما يخفى على غيرهم، فيعرفون موضع قوته وضعفه، ويتخذ منهم مستشاريه الذين يستشيرهم، ويستنصحهم إن احتاج إلى نصيحة، وأصل البطانة خلاف الظهارة، وتطلق على الثوب الخفي الذي يكون باطنا غير ظاهر، وقد استعير اللفظ للدلالة على الذين يختصون بالاطلاع على باطن أمر الشخص، وكأنه شبه الذين يختصون بشئون الشخص خفيها وظاهرها ببطانة الثوب التي تلاصق الجسم أو تقاربه، لقوة الاتصال في كل منهما، ولأن كليهما يمس ذاته وشخصه: بطانة الثوب تمسه حسا، وبطانة الرجل تمسه معنى، وكما أن الأولى أدرانها تكون أمكن في الأذى وتكون أسرع، كذلك الثانية تكون أمكن وأقوى تأثيرا وأسرع.
4. معنى النص الكريم أنه لا يجوز للمؤمنين أن يتخذوا مستشارين ونصحاء، يستبطنون أمورهم من دونهم أي من غيرهم، فمعنى (دونكم) هنا (غيركم) الذين لم يبلغوا ما أنتم فيه من قوة الإيمان والإخلاص للحق، ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ﴾ [الأنبياء] أي غيره الأقل منه.
5. صدّر النداء بوصف الإيمان للإشارة إلى أن مقتضى الإيمان ألا يستعينوا بأولئك الذين كفروا بآيات الله تعالى، وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، فقضية إيمانكم وكفرهم توجب ألا تأمنوهم في خاصة أموركم، ولقد كان السلف الصالح يأخذون بذلك الهدى القرآني فقد كان عمر ينهى عن اتخاذ الأعوان من أهل الكتاب وغيرهم، فقد قال: (لا تستعملوا أهل الكتاب، فإنهم يستحلون الرشا، واستعينوا على أموركم ورعيتكم بالذين يخشون الله تعالى) وقيل لعمر: إن هاهنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه، ولا أخطّ بقلم، أفلا يكتب عنك؟ فقال: (لا آخذ بطانة من دون المؤمنين)
6. وقد ذكر سبحانه الأوصاف والأحوال التي توجب الامتناع عن اتخاذ بطانة منهم، فذكر لهم أحوالا ثلاثة:
أ. أولها، وهى كافية في إبعادهم عن أسرار الدولة، وهى التي قال الله تعالى فيها: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾، والخبال كالخبل: الاضطراب والفساد وهما متلازمان، فلا اضطراب إلا ومعه فساده ولا فساد إلا يترتب عليه اضطراب، فهما معنيان متقاربان ومتلازمان، ومعنى (يألو) بقصر في بذل الخير ويبذل الأذى غير مقصر ولا متوان، بل ينتهز الفرص، وهى تتعدى إلى مفعول واحد، وقد تتعدى إلى مفعولين إذا تضمنت معنى المنع، ومعنى قوله تعالى: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ (لا يقصرون في جهد يبذلونه لضركم، ولا يمنعونكم خبالا واضطربا في الأمور)، أي لا يمنعونكم باذلين الجهد في تحقيق مقصدهم ومرادهم فسادا واضطرابا في الأمور، ليفسدوا عليكم دينكم، ويقوضوا دعائم دولتكم، ويخضدوا شوكتكم، ويكون أمركم بوارا بالفتن التي يبثونها، والريب التي يثيرونها، ولقد صدق الله تعالى كلماته، فمن وقت أن صارت بطانة الملوك والأمراء من أهل الكتاب، وأمور المسلمين فوضى، تختفى الفوضى السياسية عندما يكون الأمير أو الملك قويا، ولكن تكون في بث أفكار فاسدة، وآراء تحل الوحدة، وقد كان أول من اتخذ كتابا من أهل الكتاب معاوية بن أبى سفيان، وحسبك أن تعلم أنه في عهده انتشرت الإسرائيليات، والأفكار التي تثير الرّيب في الحقائق الإسلامية، وقد كان يوحنا الدمشقى كاتب عبد الملك بن مروان وأبوه الذي كان كاتبا لمعاوية يبثان الأفكار الفاسدة بين المسلمين، مثل ادعائهم عشق النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لزينب بنت جحش، ومثل إثارة الكلام في الطلاق الثلاث، بل الكلام في أصل الطلاق، وإثارتهم الكلام في أن الله متصف بصفة الكلام أو غير متصف، وأن القرآن قديم أو غير قديم، ومثل إثارتهم الكلام في الجبر والاختيار، وبذلك كانوا يحلون الوحدة الفكرية، ليتسنى لهم من بعد حل القوة الإسلامية، كما ظهرت النتائج من بعد.
ب. ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ هذا هو الوصف الثاني، أو الحال الثانية من أحوالهم، وهى سبب لإرادتهم البوار والفساد للمسلمين، فالأولى مظهر ونتيجة، والثانية باعث ودافع، فهم لا يودّون للمسلمين السعادة والرفاهية والخير والقوة بل يودون لهم الشقاء والتعس والأذى، وليس لعاقل أن يطلع خفايا أموره ويستنصح من لا يود له إلا الشر والأذى، ومعنى قوله تعالى: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ أي ودوا عنتكم وهلاككم، وإجهادكم وإنزال المشقة بكم، التي يترتب عليها تفريق جمعكم، وذهاب قوتكم، و(ما) في قوله تعالى: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ هي ما المصدرية التي يسميها علماء النحو الموصول الحرفى، وهى تؤول هي وما بعدها بمصدر.
ج. ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ البغضاء: البغض الشديد المستمكن الثابت الذي لا يتغير ولا يزول، فهي صفة ثابتة، وفرق بين البغض والبغضاء فالبغض حال تقبل الزوال، وأما البغضاء فهي كراهية يبعد زوالها، وهى على ذلك أخص من البغض المطلق، إذ هي بغض مقيد، وهى تظهر من عباراتهم وكلماتهم، كما قال تعالى: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد]، وليس معنى ذلك أن البغضاء لا تبدو إلا في الأقوال، بل تظهر أيضا في الأفعال، ولكن عند الفحص الدقيق، والوزن الصحيح، وإن ما يظهر على اللسان هو طفح مما امتلأ به القلب، فهي فيض الإناء وما يسيح منه، وما في الإناء أكثر وأغزر، وهو المادة الوفيرة التي كان منها طفح الكيل، ولذلك قال تعالى: ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ أي ما يطوون في صدورهم وتنطوي عليه نفوسهم أكثر مما يظهر، إذ إن ما يظهر هو الجزء الذي انبثق من الوكاء، أو هو في الحقيقة الرشح الذي ظهر من المسام التي تخفى ما وراءها، وهذا الوصف هو في الحقيقة توبيخ لأولئك الذين يأتمنونهم، وحالهم في البغضاء ظاهرة مكشوفة، غير مخفية ولا مستورة.
7. ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ختم الله تعالى هذه الأحوال بهذا النص الكريم، ليدعوهم إلى التفكير فيما هم مقبلون عليه، وليدعوهم إلى الحذر وتخير خاصتهم وبطانتهم، وخصوصا الحكام منهم، فإن البطانة تكون خيرا إن حضت على الخير، وتكون شرا إن حرضت على الشر، والعميق النظر المدرك المتعقل فيما يفعل هو الذي يدرك الأخيار من الأشرار، ولقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما روى البخاري (ما بعث الله من نبيّ ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالخير، وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر، وتحثه عليه، والمعصوم من عصمه الله)
8. الآيات المراد بها تلك البينات التي ذكرها صفات وأحوالا لهؤلاء يعرفون بها، وقد بينها الله للحكام إن كانوا يدركون الأمور بعقولهم لا بشهواتهم وأهوائهم، فمعنى ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ تدركون الأمور بعقولكم، وإن ذلك لحق، فما رأيت حاكما يتخذ خاصته من غير المؤمنين إلا إذا كان ممن غلبت عليه شهواته وأردته ودولته أهواؤه، وما رأيت حاكما مسلما يتجنب هؤلاء إلا إذا كان ممن غلب عقله هواه، وممن جنبه الله الزلل في الحكم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1379.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تكلم سبحانه في الآيات السابقة عن أهل الكتاب والمشركين والمرتدين الذين كفروا بعد ايمانهم، وتوعد الجميع، وألزمهم الحجة، ثم أمر المسلمين بتقوى الله، والاعتصام بحبله، والأمر بالمعروف، بعد هذا كله حذر سبحانه المسلمين من الكافرين الذين يضمرون السوء للإسلام والمسلمين، ويتمنون لهم الويلات والعثرات، حذرهم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾، وهذا بظاهره نهي للمسلمين عن كل من ليس على دينهم، دون استثناء.
2. سؤال وإشكال: المعروف عن رؤساء الأديان في جميع الطوائف انهم يبثون بين أتباعهم روح العداء والتعصب ضد أهل الطوائف الأخرى، وهذا هو القرآن يسير على نفس الطريق، حيث أمر المؤمنين به بالتباعد عن غيرهم، وحذرهم أن يتخذوا أولياء وخواصا إلا منهم وفيهم.. اذن، أين التساهل والتسامح في الإسلام؟ وأي فرق بين المسلمين، وبين اليهود الذين قال بعضهم لبعض: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾؟ والجواب: إن الآية لم تحذر المسلمين من غيرهم من حيث انهم لا يدينون بدين الإسلام.. كلا، وإنما حذرتهم من الذين ينصبون لهم المكائد والمصائد، وهذا المعنى صريح في قوله تعالى: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ أي يجتهدون، ولا يقصرون في مضرتكم، وافساد الأمر عليكم، وفي قوله: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ أي يتمنون لكم العنت والمشقة، وفي قوله: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ أي الطعن في دينكم ونبيكم وقرآنكم، ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ مما يفيض على ألسنتهم.. وأيضا من أوصاف الذين حذر الله منهم ﴿وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾.. ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾، كل هذه الأوصاف هي السبب الموجب للنهي عن اتخاذ البطانة.. وعلى هذا فكل من يتصف بهذه الأوصاف يجب الابتعاد عنه، ولا يجوز اتخاذه بطانة، سواء أحمل اسم مسلم، أو أي اسم آخر.. نحن الآن في سنة 1967، وفي 5 حزيران من هذه السنة دفع الاستعمار بإسرائيل إلى الاعتداء على الأراضي العربية، بعد أن مهد لها السبيل حثالة من صراصير الاستعمار، تنتمي بدينها إلى المسلمين وبقوميتها إلى العرب.. وهذه الحثالة أعظم جرما عند الله من الملحدين والمشركين الذين كفوا الأذى عن غيرهم.. إذن المسألة مسألة شر وخيانة وآثام، لا مسألة كفر، وعدم اسلام.
3. سؤال وإشكال: إذا كان الأمر كما ذكرت فلما ذا قال تعالى ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ ولم يقل من الخائنين المفسدين؟ والجواب: إن الآية نزلت في بعض المسلمين الذين كانوا يواصلون اليهود ـ كما قال المفسرون ـ وبديهة ان العبرة بالسبب الموجب لتشريع الحكم، لا بسبب نزوله، وتطبيقه على مورد من الموارد، وبكلمة ان الحكم يتبع ظاهر اللفظ إذا لم نعلم بسببه، أما إذا كنا على يقين من سببه التام فيكون مدار الحكم على السبب، لا على ظاهر اللفظ.
4. ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾، المراد بالآيات هنا العلامات الفارقة بين الذي يصح أن يتخذ بطانة، والخبيث الذي يجب الابتعاد عنه،
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/145.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ الآية سميت الوليجة بطانة وهي ما يلي البدن من الثوب وهي خلاف الظهارة لكونها تطلع على باطن الإنسان وما يضمره ويستسره.
2. ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ﴾ أي لا يقصرون فيكم، ﴿خَبَالًا﴾ أي شرا وفسادا، ومنه الخبل للجنون لأنه فساد العقل، ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾، ما مصدرية أي ودوا وأحبوا عنتكم وشدة ضرركم.
3. ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ أريد به ظهور البغضاء والعداوة من لحن قولهم وفلتات لسانهم ففيه استعارة لطيفة وكناية، ولم يبين ما في صدورهم بل أبهم قوله: ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ للإيماء إلى أنه لا يوصف لتنوعه وعظمته وبه يتأكد قوله: ﴿أَكْبَرُ﴾
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/387.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ قال الشرفي في (المصابيح): (وبطانة الرجل: خاصته وصفوته وثقته الذي سره عنده ويثق به ويعتمده، فبطانة الرجل الذين يستبطنون أمره)، وقال الراغب: (وتستعار البطانة لمن تختصه بالإطلاع على باطن أمرك قال عزّ وجل: ﴿لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ أي مختصاً بكم يستبطن أموركم)
2. ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ أي من دون المؤمنين، بحيث تكون البطانة أدخل من المؤمنين، كقوله تعالى: ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا﴾ [مريم:17] وقوله تعالى: ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا﴾ [الكهف:90] أي بينها وبينهم، وبينهم وبينها.
3. ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ لا يقصرون في إفساد عليكم، أي يجتهدون في الإفساد عليكم أو في إفسادكم ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ أحبوا عنتكم أن تعنتوا، أو ما قد وقع عليكم من عنت، فهم كانوا محبين أن يقع عليكم، والعنت: الضرر الشديد، وهذا كشف لسرهم لئلا يغترّ بهم المؤمنون إذا كانوا يوهمون أنهم يحبونهم.
4. ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ بما يبدر منهم من الكلام الذي يدل على البغضاء، وفي هذا الكلام تصوير بليغ لكثرة ما في قلوبهم من البغضاء، كأنها لكثرتها قد بدت من أفواههم، وهو كلام قَيِّم، لأن البغضاء الخفيفة قد يمكن كتمها، أما الشديدة فلا بد معها من فلتات لسان تدل عليها الحازم اللبيب ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ مما قد ظهر بدلالة الكلام ـ أي كلامهم.
5. ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ فلا عذر لكم بعد البيان الواضح الكافي لمن يعقل، وفي قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ إيقاظ من الغفلة وتحريك للحذر، ودلالة على أن من لم يفهم بعد هذا البيان فليس بعاقل؛ وفيه دلالة على أن القرآن خطاب عام للمسلمين لا يختص بفهمه الإمام ولا الشيخ، بل هو خطاب لكل من يعقل.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/524.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال صاحب مجمع البيان: (نزلت في رجال من المسلمين كانوا يواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من الصداقة والقرابة والجوار والحلف والرضاع، عن ابن عباس، وقيل: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصادقون المنافقين ويخالطونهم، عن مجاهد)
2. في هذه الآيات تحذير للمؤمنين من الاستسلام للثقة الساذجة بالفئات الأخرى التي تكيد للإسلام والمسلمين، وتحمل في داخلها الحقد والعداوة من موقع العقدة الحاقدة، وذلك بالكشف عن الخصائص الذاتية لهؤلاء في مواقفهم السلبية ضد الإسلام وأتباعه، والظاهر أن المراد بهم اليهود، فهم يعملون على الإضرار بالمسلمين ويجتهدون في إثارة كل عوامل الفساد والنقصان التي تحجب عنهم الرؤية الواضحة للأشياء، ويتمنون لهم التعب والمشقة في مواجهة قضايا الحياة، وتتفجر صدورهم بالحقد الكبير الذي يتجه نحو التدمير، وتنطلق ألسنتهم بكلمات البغضاء والعداوة التي يوجهونها للمسلمين عندما يتحدثون عنهم.. ولا بدّ للمسلمين من أن يعوا ذلك كله في حركة وعي عميق راصد للواقع بعيد عن السذاجة في تقييمه للأشخاص والأشياء، فلا يفوته شيء من الملاحظة، ولا يغيب عنه صفة من الصفات السلبية فيمن حوله، فإن الله قد بيّن لهم الآيات التي يتمكنون من خلالها التمييز بين الأشياء التي تنفعهم والتي تضرّهم، من أجل أن يركّز أقدامهم على الأرض الصلبة ويواجهوا الواقع من منطق العقل الذي يرصد ويتأمّل ويفكر.
3. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً﴾ واجهوا الواقع بمنطق الواعين الذين يتحركون في علاقاتهم على أساس الوعي العميق لانتماءات أصحابهم الذين تفرض عليهم الأوضاع العائلية والاجتماعية صحبتهم والتعامل معهم، في دراسة شاملة لكل منطلقاتهم والتزاماتهم وخلفياتهم الدينية والسياسية، لتكونوا حذرين في أحاديثكم معهم، في أسراركم التي تتحدّثون بها معهم، وفي أوضاع المسلمين التي تثيرونها معهم، وفي الأجواء الداخلية والخارجية التي يدخلونكم فيها من أجل مختلف التأثيرات السلبية والإيجابية مما يعملون على إثارته في ساحاتكم، فإن اختلاف الانتماء ـ لا سيما في حالات الصراع المرير ـ قد يؤدّي إلى الاختلاف في النوايا والدوافع والمواقف، الأمر الذي قد يكون موضع استغلال للعلاقات الحميمة من قبل أيّ طرف ضد الطرف الآخر للإساءة إلى فريقه لحساب الفريق الآخر.
4. ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ من هؤلاء الذين يختلفون معكم في الإسلام على مستوى الانتماء إلى الدين الآخر، أو إلى الخط الآخر ممن تخوضون معهم الصراع الحادّ على جميع المستويات أو على مستوى انتمائهم الإسلامي الظاهري مع استبطانهم الكفر، فلا تدخلوهم في الأجواء الخفية التي يتحرك فيها الواقع الإسلامي الداخلي، ولا تفسحوا لهم المجال ليكونوا في المواقع المتقدمة من الساحة الإسلامية في الوظائف التي توظفونهم فيها، والأماكن التي تضعونهم فيها بفعل علاقاتكم الخاصة بهم.
5. ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ فهم قد يظهرون لكم المحبة بطريقة شخصية؛ ولكنهم يخفون في أنفسهم العزيمة على الإيقاع بكم، والإضرار بمصالحكم، وإفساد أموركم، وتوجيه عقولكم في اتجاه الغفلة والجنون الفكري والشعوري والسياسي.. لأن الخطة الموضوعة لديهم في مواجهة الإسلام تفرض عليهم السير في هذا الاتجاه.
6. ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ فهم يحبون لكم الوقوع في المشقة والعناء في حربكم وسلمكم، فلا يريدون لكم الراحة في مشاريعكم الداخلية وفي أوضاعكم الخارجية، مما يجعل الصداقة غير ذات موضوع لديهم أمام الشخصية الاجتماعية التي تفرض عليهم المحافظة على وجودهم وامتيازاتهم في هذا الجو الإسلامي الجديد الذي قد يصادر بعض مصالحهم ويؤكد انتصاره عليهم، بحيث يؤدي إلى التعقيد في حالاتهم النفسية وأوضاعهم الخارجية.
7. ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ من خلال ما يظهر من فلتات ألسنتهم المعبّرة ـ تلقائيا ـ عما يضمرونه في داخلهم، لأنه من الصعب على الإنسان ـ حتى في حالات الحذر ـ إخفاء ما يضمره في نفسه، من خلال كلمة تنطلق هنا ـ من غير شعور ـ أو كلمة تقفز هنا في موقف انفصال أو نحوه، فتلك بعض دخائل النفس وغوامض الشعور، وهذا ما قرره أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام في قوله: (ما أضمر أحد شيئا إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه)
8. ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ من الحقد الدفين الكامن في نفوسهم، انطلاقا من إحساسهم الذاتي الفئوي بأنكم قادمون لإلغاء مواقعهم المتقدمة في امتدادهم الديني في ساحة الواقع، وتحطيم عنصريتهم المعقّدة.
9. ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ بما أظهرناه لكم من الدّلالات الواضحة على الخط الفاصل بين العدو والوليّ، سواء على مستوى اختلاف الانتماء الديني أو اهتزاز الحالات النفاقية الشريرة، مما يفرض عليكم الأخذ بأسباب الحذر في علاقتكم بهم، والتحرك من موقع الوعي في حركتكم معهم.
10. ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ فتتحركون في أوضاعكم وعلاقاتكم من قاعدة العقل الباحث عن أسرار الأشياء بما يكتشفه من حالة العمق العميق فيها، ليدفع الإنسان إلى التحرك في دائرة دفع الضرر وجلب النفع، فإن الإنسان السائر على هدى العقل لا يخطئ طريقه غالبا، ولا يلقي بنفسه في مواقع الهلاك.
11. إنّ فكرة هذه الآيات تعطينا مفهوما إسلاميا للعمل في نطاق العلاقات الاجتماعية، وخلاصته أنّ على المؤمنين أن يدرسوا طبيعة المواقف الفكرية المبدئية التي يتخذها الآخرون تجاههم، ويعملوا على التمييز بين الخلافات الطارئة والخلافات المعقّدة، وعلى التفريق بين الأشخاص الذين يعيشون الخلاف الفكري والعملي كمبدإ وبين الذين يعيشونه كعقدة، ويتابعوا التجربة في دراسة المشاعر الذاتية التي تحكم تصرف هؤلاء وتصرف أولئك، ليحددوا ـ من خلال ذلك ـ مواقفهم ومواقعهم في الساحة العامّة على المستوى الاجتماعي والسياسي والفكري، لئلا يقعوا تحت تأثير الأوضاع العاطفية التي تتمثل في البسمات المشرقة، والعيون اللامعة، والوجوه التي تتلوّن بحسب الألوان المتحركة تبعا للمزاج والشعور والتخيّل، فيثقوا بمن ليس في مستوى الثقة، فيؤدي ذلك إلى الوقوع في قبضة الكفر والضلال.
12. عاش المسلمون في تاريخهم الماضي وفي تاريخهم المعاصر كثيرا من الحالات العاطفية التي تحوّلت إلى نكسات وهزائم اجتماعية وسياسية، لأنهم خضعوا للأجواء السطحية، فانقادوا في خطوات المجاملة، وتخلّوا عن كثير من مواقعهم انطلاقا من المحافظة على علاقات مشبوهة وصداقات كاذبة، فأساؤوا بذلك إلى أنفسهم وإلى الإسلام بشكل عام.. كما واجهنا ذلك في الركض وراء حملة الشعارات الغائمة التي يثيرها البعض تحت ستار وحدة الأديان، أو وحدة الإنسانية، أو الوحدة الوطنية والقومية، وربما الإسلامية، من أجل أن يحققوا من خلال ذلك لأنفسهم ولمخططاتهم الفرص الكثيرة التي تتيح لهم القفز على المواقع، لأنهم يملكون في هذه الساحة قوّة لا يملكها أهل الحق، ولأنهم يرسمون هنا خطّة خفيّة لا يعرف أسرارها الطيبون من المسلمين، فينفّذون لهم ما يريدون باسم الوحدة مما لا يتيسر لهم الحصول عليه بدون ذلك، ولا تزال الخطة تتقدّم في كثير من المظاهر التي تخفي في داخلها الكثير من سياسة اللف والدوران واللعب على الحبال الكثيرة المطروحة في الساحة في حقل الدين والسياسة والاجتماع، وذلك هو ما يجب أن نستوحيه من الآيات لننطلق من خلالها إلى الأفق الرحب للعلاقات الإنسانية في الحياة، فلا نتجمد معها في نماذجها الخاصة، بل نعتبر الموضوع مجرد نموذج يفتح الطريق إلى مواجهة الواقع ـ من خلالها ـ في كل نموذج مماثل يحمل الخصائص والسمات نفسها، لينطلق المسلمون من نقطة الانفتاح الواعي الذي يستوعب كل التجارب، ويرصد كل النماذج، ليأخذوا منها الفكرة القائدة الرائدة التي تقود الحياة إلى الله على خط الرسالة والإسلام.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/238.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت عندما أقدم بعض المسلمين ـ بسبب ما كان بينهم وبين اليهود من الصداقة أو القرابة أو الجوار أو الحلف أو الرضاع ـ على ذكر أسرار المسلمين عندهم، وبهذا كان اليهود الذين يتظاهرون بالمودة للمسلمين ـ وهم ألدّ أعداء الإسلام في باطنهم ـ يطلعون على أسرار المسلمين، فنزلت هذه الآيات تحذر أولئك الرجال من المسلمين من مغبة هذه الصداقات والعلاقات، وتوصيهم بأن لا يتخذوا اليهود بطانة يسرون إليهم بأسرارهم، لأنهم لا يتورعون عن استخدام كلّ وسيلة ممكنة ـ حتّى هذه الأسرار ـ لإلحاق الأذى والضرر بكم، لأنهم يهمهم ـ دائما ـ أن تكونوا في نصب وتعب ومحن ومشاكل، وعناء وشقاء.
2. هذه الآية التي جاءت بعد الآيات السابقة التي تعرضت لمسألة العلاقات بين المسلمين والكفّار، تشير إلى قضايا حساسة بالغة الأهمية، وتحذر المؤمنين ـ ضمن تمثيل لطيف ـ بان لا يتخذوا من الذين يفارقونهم في الدين والمسلك أصدقاء يسرون إليهم ويخبرونهم بأسرارهم، وأن لا يطلعوا الأجانب على ما تحتفظ به صدورهم وما خفي من نواياهم وأفكارهم الخاصّة بهم، قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً﴾
3. ليست الصداقات والعلاقات بقادرة على أن تمنع أولئك الكفّار ـ بسبب ما يفارقون به المسلمين في العقيدة والمسلك ـ من إضمار الشر للمسلمين، وتمني الشقاء والعناء لهم ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ أي أحبوا في ضمائرهم ودخائل نفوسهم لو أصابكم العنت والعناء.
4. إنهم ـ لإخفاء ما يضمرونه تجاهكم ـ يحاولون دائما أن يراقبوا تصرفاتهم، وأحاديثهم كيلا يظهر ما يبطنونه من شر وبغض لكم، بيد أن آثار ذلك العداء والبغض تظهر أحيانا في أحاديثهم وكلماتهم، عندما تقفز منهم كلمة أو أخرى تكشف عن الحقد الدفين والحنق المستكن في صدورهم: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾، وتلك حقيقة من حقائق النفس يذكرها الإمام أمير المؤمنين علي عليه السّلام في إحدى كلماته إذ يقول: (ما أضمر أحد شيئا إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه)، إنه لا بدّ أن يرشح شيء إلى الخارج إذا ما امتلأ الداخل، كما يطفح الكيل فتنفضح السرائر، وتبدو الدخائل.
5. أوضح الله سبحانه في هذه الآية إحدى سبل التعرف على بواطن الأعداء ودخائل نفوسهم، ثمّ إنّه سبحانه يقول: ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ أي أن ما يبدو من أفواههم ما هي إلّا شرارة تحكي عن تلك النار القوية الكامنة في صدورهم.
6. ثمّ إنه تعالى يضيف قائلا: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي أن ما ذكرناه من الوسيلة للتعرف على العدو أمر في غاية الأهمية لو كنتم تتدبرون فيه، فهو يوقفكم على وسيلة جدا فعالة لمعرفة ما يكنه الآخرون ويضمرونه تجاهكم، وهو أمر في غاية الخطورة بالنسبة لأمنكم وحياتكم وبرامجكم.
7. حذر الله سبحانه المسلمين في هذه الآية من أن يتخذوا أعداءهم بطانة يسرون إليهم بأسرارهم وأمورهم وهو تحذير عام لا يختص بزمان دون زمان، ولا بمكان دون مكان، ولا بطائفة من المسلمين دون طائفة، فلا بدّ أن يحذر المسلمون من هذا العمل في جميع الأزمنة والأمكنة، حفاظا على أمن المسلمين وكيانهم، لكننا مع الأسف نجد الكثيرين من أتباع القرآن قد غفلوا عن هذا التحذير الإلهي المهم، فتعرضوا لتبعات هذا العمل وآثاره السلبية.
8. ها نحن نجد أعداء كثيرين يحيطون بالمسلمين من كلّ جانب، يتظاهرون بمحبة المسلمين وصداقتهم، وربّما أعلنوا تأييدهم في بعض الأمور، ولكنهم بما يظهرون ـ في بعض الأحيان ـ من مواقف عدائية يكشفون عن كذبهم، ومع ذلك ينخدع المسلمون بما يتظاهر هؤلاء الأعداء به من صداقة وحب وتأييد، ويعتمدون عليهم أكثر ممّا يعتمدون على إخوانهم من المسلمين المشاركين لهم في العقيدة والمصير، في حين أن الأعداء والأجانب لا يريدون للأمة الإسلامية إلّا الشقاء والتأخر، وإلّا الهلاك والدمار، ولا يألون جهدا في إثارة المشاكل في وجه المسلمين وإيجاد الصعوبات في حياتهم.
9. ولا نذهب بعيدا، فإن الأعوام الأخيرة شهدت حربين بين المسلمين وأعدائهم الصهاينة، ففي الحرب الاولى (حرب حزيران) تحمل المسلمون هزيمة ساحقة ونكسة قاطمة، في حين أنهم في حربهم الثانية (حرب رمضان) استطاعوا تحقيق انتصارات باهرة على الأعداء وتغيّرت الخارطة السياسية لصالحهم، وتمكنوا من دفن اسطورة الجيش الإسرائيلي والرعب والخوف في صحراء (سيناء) وهضبة (الجولان) منذ الأيّام الاولى للحرب، وذاق المسلمون أخيرا طعم النصر لأول مرّة في العقود الأخيرة.
10. ماذا حصل في هذه المدّة القصيرة التي شهدت هذا التحول الكبير؟ الجواب بحاجة إلى بحث طويل، ولكن من المتيقّن أن أحد الأسباب المؤثرة في تلك الهزيمة وهذا النصر هو أن الأجانب والذين كانوا يظهرون الود والصداقة للمسلمين كانوا على علم بأمر الحرب وتفاصيلها، ولكن في الحرب الثانية لم يطلع على أسرار الحرب سوى اثنان أو ثلاثة من رؤساء البلدان الإسلامية، وهذا هو أحد عوامل النصر، وشاهد حيّ على عظمة هذا الدستور السماوي والقرآني.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/661.
63. التحذير من الولاء للمعتدين وأحقادهم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈63⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 119]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ هكذا، وضع أطراف أصابعه في فيه(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٧٢٠.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ)
1. روي أنّه قال: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾، أي: بكتابكم وكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم(1).
__________
(1) سيرة ابن هشام: ١/٥٥٨.
أبو الجوزاء:
روي عن أبي الجوزاء (ت 83 هـ) أنّه قال: والذي نفسي بيده، لأن تمتلئ داري قردة وخنازير أحب إلي من أن يجاورني أحد من أهل الأهواء، لقد دخلوا في هذه الآية: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾(1).
__________
(1) أبو نعيم في حلية الأولياء: ٣/٧٨.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿خَلَوْا﴾ يعني: مضوا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٤٦.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال في الآية: نزلت في المنافقين من أهل المدينة، نهى المؤمنين أن يتولوهم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٧٠٩.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ هم المنافقون، يجامعونكم بألسنتهم على الإيمان، ويحبونكم على ذلك(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٤٤.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ فوالله، إن المؤمن ليحسن إلى المنافق، ويأوي له، ويرحمه، ولو أن المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن لأباد خضراءه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ﴾ إذا لقوا المؤمنين: ﴿قَالُوا آمَنَّا﴾ ليس بهم إلا مخافة على دمائهم وأموالهم؛ فصانعوهم بذلك(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٧١٨ بلفظ: ليحب، بدل: ليحسن، وابن أبي حاتم: ٣/٧٤٥.
(2) ابن جرير: ٥/٧١٩.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ﴾ الأصابع(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٧٢٠.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ﴾ يعني: أهل النفاق إذا لقوا المؤمنين: ﴿قَالُوا آمَنَّا﴾ ليس بهم إلا مخافة على دمائهم وأموالهم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٧١٩.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ﴾ معشر الأنصار ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ يعني: اليهود، ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾، يعني: المنافقين إذا لقوا المؤمنين أظهروا الإيمان؛ فيحبونهم على ما أظهروا لهم، ويرون أنهم صادقون بما يقولون، ولا يعلمون بما في قلوبهم من الشك والكفر بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ يعني: أهل النفاق، ﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بما في قلوبهم(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٤٤.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٤٥.
(3) ابن أبي حاتم: ٣/٧٤٦.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿هَا أَنْتُمْ﴾ معشر المؤمنين: ﴿أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ﴾ تحبون هؤلاء اليهود في التقديم لما أظهروا من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبما جاء به، ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ لأنهم ليسوا على دينكم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾، كتاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والكتب كلها التي كانت قبله(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾ يعني: صدقنا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبما جاء به، وهم كذبة، مثلها في المائدة: ﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ﴾ إلى آخر الآية(1).
4. روي أنّه قال: ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ يعني: اليهود، ﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ يعني: يعلم ما في قلوبهم من العداوة والغش للمؤمنين(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٨.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم قال عز وجل: ﴿ها أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُ﴾ إعلاما منه سبحانه للمؤمنين: أنكم تعاملونهم بالصحة، وليس في محبتكم لهم غش ولا مكيدة، وهم يعاملونكم بالبغض والخيانة، ووغر الصدور، والانطواء على أقبح الأمور.
2. ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾، ولا تكذبون شيئا من حكمه، ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾، يقول عز وجل: إذا لقوا المؤمنين أعطوهم ظاهرا من القول، ومحالا من الكلام، وإذا خلوا عضوا ـ كما ذكر الله سبحانه ـ عليهم الأنامل من الغيظ، والأنامل فهي: الأصابع، وهذا يفعله كل من اشتد غيظه، وعظم حنقه؛ تأسفا وتحسرا، إذا قصرت يده عما لا يقدر أن يناله، فإذا كان ذلك عض أنامله، فقال الله عز وجل أمرا منه لنبيه وللمؤمنين: أن يقولوا للكافرين عندما أخبرهم به سبحانه من غيظ الظالمين عليهم: ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾، يريد: أنكم لن تبلغوا ما تأملون، ولا تقدرون عليه، ولا تلحقونه أو تفنون.
3. معنى: ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ هو: عليم بما استجن في الصدور، واستتر في القلوب؛ وعلمه بغامض السر والخفيات، كعلمه بما بان وظهر من الأفعال المعلنات، الواضحات البينات، لا يخفى عليه شيء، وهو السميع العليم.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/178.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾: أي تحبون لهم التوبة والخير، وهم لكم ماقتون، لأن أولياء الله لا يبغضون أحداً في بدء أمرهم، لما هم عليه من كرم طباعهم، وبرهم وتعطفهم، ولطفهم وفضلهم، حتى يجب من الله على أعدائه السخط بعد مكابرتهم.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 263.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾:
أ. من قال إن أول الآية في المنافقين فهذا يدل له ويشهد؛ لأنه قال ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾ الآية، يقول: ها أنتم يا هؤلاء المسلمون تحبونهم ـ يعنى: المنافقين ـ ولا يحبونكم على دينكم.. وفي الآية بيان أن أولئك قوم يحبهم المؤمنون، إمّا بظاهر الإيمان أو بظاهر الحال، منهم من طلب مودتهم، فأطلع الله المؤمنين على سرّهم؛ لئلا يغترّوا بظاهرهم، وليكون حجة لهم ولرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بما أطلعه الله على ما أسرّوا
ب. ومن قال إن أوّل الآية في الكفار ـ يجعل قوله: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ على الابتداء، والقطع من الأوّل؛ لأنه وصفهم بصفة المنافقين، ووسمهم بسمتهم وليس في الأول ذلك.
2. ﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ هو على التمثيل، يقال عند شدة الغضب: فلان يعض أنامله على فلان، وذلك إذا بلغ الغضب غايته.
3. في قوله: ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ إنما كان يغيظهم ما كان للمسلمين من السعة، والنصر، والتكثر، والعز؛ فيكون في ذلك دعاء لهم بتمام ذلك، حتى لا يروا فيهم الغير، وفي حرف حفصة: (قل موتوا بغيظكم لن تضرونا شيئا إن الله عليم بذات الصدور) على الوعيد.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/465.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا خطاب للمؤمنين أعلمهم الله تعالى أن منافقي أهل الكتاب لا يحبونهم وأنهم هم يصحبون هؤلاء المنافقين بالبر والنصيحة، كما يفعله المحب، وإن المنافقين على ضد ذلك، فأعلمهم الله ما يسره المنافقون في باطنهم، وذلك من آيات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ قال الفراء: العرب إذا جاءت إلى اسم مكنى قد وصف بهذا، وهذان، وهؤلاء، فرقوا بين (ها) وبين (ذا) فجعلوا المكنى منهما في جهة التقريب، لا غير يقولون: ربما أعادوها فوصلوها بذا، وهذان وهؤلاء، فيقولون ها أنت هذا قائما، وها أنتم هؤلاء، قال الله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ﴾ فان كان الكلام على غير تقريب أو كان على خبر يكتفي كل واحد منهما بصاحبه بلا فعل، والتقريب لا بد فيه من فعل لنقصانه وأحبوا أن يفرقوا بين معنى التقريب، وبين معنى الاسم الصحيح، قال الازهري: يحتمل أولا أن يكون منادى كأنه قال يا أولاء، وقال نحاة البصريين (ها) للتنبيه، وأنتم مبتدأ وأولاء خبره ويحبونهم حال، وقال الفراء: يحبونهم خبر، وقال الزجاج: يجوز أن يكون أولاء بمعنى الذين ويحبونهم صلة ويكون التقدير الذين يحبونهم، ويجوز أن يكون حالا بمعنى ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ﴾ محبين لهم، ويكون (أنتم) مبتدأ وأولاء خبره، ويحبونهم حالا والمعنى انظروا إلى أنفسكم محبين لهم ولا يجوز أن تقول: ها قومك أولاء، كما جاز ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ﴾، لأن المضمر أحق ب (ها) التي للتنبيه، لأنه كالمبهم في عموم ما يصلح له، وليس كذلك الظاهر، وقال الفراء: إنما ذاك على جهة التقريب في المضمر، والاعتماد على غيره في الخبر، قال الحسن بن علي المغربي أولاء يعني به المنافقين، كما تقول ما أنت زيداً يحبه، ولا يحبك، وهذا مليح غير أنه يحتاج أن يقدر عامل في أولاء ينصبه، يفسره قوله: (يحبونهم) لأنه مشغول لا يعمل فيما قبله كقوله: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ﴾ في من نصبه وأولاء للرجال، وللنساء أولات، وهو مبني على الكسر، وكان الأصل السكون والألف قبلها ساكنة فحرك لالتقاء الساكنين على أصل الكسرة.
3. ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ الكتاب واحد في موضع الجمع، لأنه أريد به الجنس، كما يقال كثر الدرهم في أيدي الناس ويحتمل أن يكون مصدراً من قولك كتبت كتاباً، والمراد بالكتاب هاهنا كتب الله التي أنزلها على أنبيائه وفي إفراده ضرب من الإيجاز، واشعار بالتفصيل في الاعتقاد، لأنهم يؤمنون بها في الجملة، والتفصيل من حيث يؤمنون بما أنزل على ابراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وسائر الأنبياء.
4. ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾ معناه إذا رأوكم قالوا صدقنا ﴿وَإِذَا خَلَوْا﴾ مع أنفسهم.
5. ﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾:
أ. فالعض بالأسنان، ومنه العض علف الأمصار، لأن له مضغة في العض يسمن عليها المال، ومنه رجل عض: لزاز الخصم، لأنه يعض بالخصومة، وكذلك رجل عض فحاش، لأنه يعض بالفحش.
ب. والأنامل أطراف الأصابع في قول قتادة، والربيع، وأصلها النمل المعروف، فهو مشبه به في الرقة، والتصرف بالحركة، ومنه رجل نمل أي نمام، لأنه ينقل الأحاديث الكرهة كنقل النملة في الخفاء والكثرة، وواحد الأنامل أنملة، قال الزجاج ولم يأت على هذا المثال ما يعني به الواحد إلا شذ، فأما الجمع، فكثير نحو أفلس وأكعب.
6. ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ معناه الامر بالدعاء عليهم، وإن كان لفظه لفظ الأمر، كأنه قال قل: أماتكم الله بغيظكم وفيه معنى الذم لهم، لأنه لا يجوز أن يدعا عليهم هذا الدعاء إلا وقد استحقوه بقبيح ما أتوه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/573.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. خلا يخلو، خلاء من الخَلْوة، وخلا فلان إلى فلان إذا اجتمعا في الخلوة، وخلا المكان الذي لا شيء فيه، واختلفوا هل في العالم خلاء، فقالت البصرية من مشايخنا: فيها خلاء وملاء، وقال أبو القاسم: لا خلاء.
ب. العض بالأسنان معروف، وأصله عَضَضَ فأدغم أحدهما في الآخر.
ج. الأنامل جمع، واحدها: أَنْمُلة بفتح الميم وضمها، وهو أطراف الأصابع، وأصله النمل المعروف، وهو مشبه به في الدقة والتصرف بالحركة، ومنه رجل نَمِل أي نمام؛ لأنه ينقل الحديث كنقل النمل في الخفاء.
د. الغيظ: ما يغتاظ الإنسان منه.
2. لما تقدم النهي عن اتخاذ الكفار بطانة بيّن ما هم عليه من عداوة المؤمنين تأكيدًا للمنهي، فقال سبحانه: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ﴾ أيها المؤمنون ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾:
أ. قيل: يعني اليهود والمنافقين الَّذِينَ نهيتكم عن موالاتهم لما بينكم من المصاهرة والمحالفة والرضاعة والجوار ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ لما بينكم من مخالفة الدين.
ب. وقيل: تحبونهم أي تريدون لهم الإسلام، وهو خير الأشياء، وتدعونهم إلى الجنة، ولا يحبونكم؛ لأنهم يردونكم على الكفر والضلال وهو الهلاك.
ج. وقيل: يحبهم المؤمنون لما أظهروا من الإيمان، ولا يعلمون ما في قلوبهم، وهم لا يحبونكم لما في قلوبهم من الكفر والنفاق، عن أبي العالية ومقاتل.
3. ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ ذكر الكتاب بلفظ الواحد؛ لأنه ذهب به مذهب الجنس كقولهم: قد كثر الدرهم في أيدي الناس، قيل: لأنه مصدر من قولك: كتب كتابًا، فالكتاب ههنا بمعنى كُتب الله الذي أنزلها على أنبيائه، ومعناه تصدقون بجميع الكتب، وهم لا يصدِّقون بكتابكم.
4. ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ﴾ رأوكم ﴿قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا﴾ يعني خلا بعضهم إلى بعض ﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ﴾ أطراف الأصابع، عن قتادة والربيع ﴿مِنَ الْغَيْظِ﴾ من الغضب والحنق؛ لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم، ونصرة الله إياهم، وهذا مثل، وليس ثَمَّ عضّ، كقول الشاعر:
çإذَا رأَوْني أطال اللهُ غَيْظَهُمُ... عَضُّوا مِنَ الغَيْظِ أطرافَ الأَباهِيمِé
وقال أبو طالب: (يَعضّونَ غَيظًا خَلفَنا بِالأنَامِلِ)
5. ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم ﴿مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ صيغته صيغة الأمر، ومعناه:
أ. قيل: الدعاء عليهم، كأنه قيل: أماتكم الله بغيظكم، وفيه معنى الذم لهم.
ب. وقيل: معناه دام لكم الغيظ مما ترون من علو الإسلام إلى أن تموتوا.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾:
أ. قيل: أي بما تضمرونه في قلوبكم، فيجازيكم عليه.
ب. وقيل: عليم بما تضمرونه من النفاق والغيظ على المسلمين.
7. سؤال وإشكال: إذا قال: ﴿مُوتُوا﴾ فهلا صاروا كذلك؟ والجواب:
أ. لا، لأنه أراد التوبيخ لا التكوين.
ب. وقيل: سمعوا ذلك بواسطة.
ج. وقيل: لم يكونوا هم كذلك.
8. تدل الآية الكريمة على:
أ. أنها نزلت في المنافقين، وأن المؤمنين خوطبوا بترك موالاتهم، فيبطل ما حكاه الأصم عن بعضهم أن المخاطب به المنافقون.
ب. معجزة لنبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم لما أظهر من سرائرهم الجارية مجرى الغيب، ولعل اللطف في إظهار أقوالهم ليتحرز منهم.
ج. يدل قوله: ﴿قُلْ مُوتُوا﴾ أن صيغة الأمر تورد، ولا يراد به الأمر؛ لأنه يستحيل أن يأمرهم به؛ إذ الموت مقدور لله تعالى.
د. أن الحسود يكثر غمه وغيظه لما يرى من أثر نعم الله على غيره، وأنه عادة مذمومة.
هـ. أن ذلك القول والعض فِعْلُهم؛ لذلك ذمهم فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق.
9. ﴿هَا﴾ تنبيه، و﴿أَنْتُمْ﴾ كناية للمخاطبين، و﴿أُولَاءِ﴾ اسم الجمع المشار إليه، وأجاز الزجاج أن يكون ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ صلة بمعنى الَّذِينَ تحبونهم، وحالاً بمعنى ها أنتم أولاء محبين لهم، فأما الفراء فيجعل ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ خبرًا.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/360.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. العض بالأسنان معروف، ومنه العض علف الأمصار، لان له مضغة في العض يسمن عليها المال، ورجل عض لزاز الخصم، لأنه يعضه بالخصومة.
ب. الأنامل: أطراف الأصابع، وأصله النمل المعروف، فهي مشبهة به في الدقة والتصرف بالحركة، ومنه رجل نمل أي: نمام لأنه ينقل الأحاديث الكرهة كنقل النملة في الخفاء والكثرة.
2. قال الأزهري: يحتمل أن يكون أولاء منادى، كأنه قال: يا أولاء! وقال غيره: ها للتنبيه، وأنتم: مبتدأ، وأولاء: خبره، وتحبونهم: حال، وقال الزجاج: جائز أن يكون ﴿أُولَاءِ﴾ في معنى الذين: حالا، ﴿وَتُؤْمِنُونَ﴾: عطف على يحبون، ولا يجوز أن يقول: ها قومك أولاء، لان المضمر أحق بالهاء التي للتنبيه، لأنه كالمبهم في عموم ما يصلح له، وليس كذلك الظاهر.
3. ثم بين سبحانه ما هم عليه من عداوة المؤمنين، تأكيدا للنهي عن مصافاتهم، فقال: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ﴾، وقد مر ذكر معناه في الاعراب، وتقديره: ها أنتم الذين تحبونهم، أو ها أنتم أولاء محبين إذا قلنا إنه بمعنى الحال أي: تنبهوا في حال محبتكم إياهم، ولا يحبونكم هم:
أ. قيل: لما بينكم من مخالفة الدين.
ب. وقيل: تحبونهم تريدون لهم الاسلام، وتدعونهم إلى الجنة.
4. ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ لأنهم يريدون لكم الكفر والضلال، وفيه الهلاك، ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ الكتاب واحد في معنى الجمع، لأنه أراد الجنس، كما يقال: كثر الدرهم في أيدي الناس، ويجوز أن يكون مصدرا من قولك: كتبت كتابا، والمراة به كتب الله التي أنزلها على أنبيائه، وفي افراده ضرب من الايجاز، واشعار بالتفصيل في الاعتقاد، ومعناه: انكم تصدقون بها في الجملة والتفصيل من حيث تؤمنون بما أنزل على إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله، وعليهم وسائر الأنبياء، وهم لا يصدقون بكتابكم.
5. ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾ معناه: إذا رأوكم قالوا: صدقنا ﴿وَإِذَا خَلَوْا﴾ مع أنفسهم ﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ﴾ أي: أطراف الأصابع ﴿مِنَ الْغَيْظِ﴾ أي: من الغضب والحنق، لما يرون من ائتلاف المؤمنين، واجتماع كلمتهم، ونصرة الله إياهم، وهذا مثل: وليس هناك عض، كقول الشاعر:
çإذا رأوني أطال الله غيظهم.. عضوا من الغيظ، أطراف الأباهيمé
وقول أبي طالب: (يعضون غيظا خلفنا بالأنامل)
6. ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم ﴿مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾:
أ. قيل: صيغته صيغة الامر، والمعنى الدعاء، فكأنه قال: أماتكم الله بغيظكم، وفيه معنى الذم لهم، لأنهم لا يجوز أن يدعي عليهم هذا الدعاء، الا وقد استحقوه بما أتوه من القبيح.
ب. وقيل: معناه دام هذا الغيظ لما ترون من علو كلمة الاسلام إلى أن تموتوا.
7. ﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أي: بما يضمرونه من النفاق والغيظ على المسلمين.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/821.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ﴾ قال ابن عباس: كان عامّة الأنصار يواصلون اليهود ويواصلونهم، فلما أسلم الأنصار بغضهم اليهود، فنزلت هذه الآية.
2. الخطاب بهذه الآية للمؤمنين، قال ابن قتيبة: ومعنى الكلام: ها أنتم يا هؤلاء، فأمّا ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾، فالهاء والميم عائدة إلى الذين نهوا عن مصافاتهم.
3. في معنى محبّة المؤمنين لهم أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنها الميل إليهم بالطّباع، لموضع القرابة والرّضاع والحلف، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس.
ب. الثاني: أنها بمعنى الرّحمة لهم، لما يفعلون من المعاصي التي يقابلها العذاب الشّديد، وهذا المعنى منقول عن قتادة.
ج. الثالث: أنها لموضع إظهار المنافقين الإيمان، روي عن أبي العالية.
د. الرابع: أنها بمعنى الإسلام لهم، وهم يريدون المسلمين على الكفر، وهذا قول المفضّل، والزجّاج.
4. ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾ هذه حالة المنافقين، وقال مقاتل: هم اليهود.
5. الأنامل: أطراف الأصابع، قال ابن عباس: والغيظ: الحنق عليكم، وقيل: هذا من مجاز الكلام، ضرب مثلا لما حلّ بهم، وإن لم يكن هناك عضّ على أنملة.
6. معنى ﴿مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾: ابقوا به حتى تموتوا، وإنما كان غيظهم من رؤية شمل المسلمين ملتئما، قال ابن جرير: هذا أمر من الله تعالى لنبيه أن يدعو عليهم بأن يهلكم الله كمدا من الغيظ.
__________
(1) زاد المسير: 1/319.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ نوع آخر من تحذير المؤمنين عن مخالطة المنافقين، قال السيد السرخسي: ﴿هَا﴾ للتنبيه و﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ و﴿أُولَاءِ﴾ خبره و﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ في موضع النصب على الحال من اسم الإشارة، ويجوز أن تكون ﴿أُولَاءِ﴾ بمعنى الذين و﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ صلة له، والموصول مع الصلة خبر ﴿أَنْتُمْ﴾ وقال الفرّاء ﴿أُولَاءِ﴾ خبر و﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ خبر بعد خبر.
2. ذكر الله تعالى في هذه الآية أموراً ثلاثة، كل واحد منها على أن المؤمن لا يجوز أن يتخذ غير المؤمن بطانة لنفسه:
أ. الأول، ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ وفيه وجوه:
• أحدها: قال المفضل ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ لأنهم يريدون بقاءكم على الكفر، ولا شك أنه يوجب الهلاك.
• الثاني: ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ بسبب ما بينكم وبينهم من الرضاعة والمصاهرة ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ بسبب كونكم مسلمين.
• الثالث: ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ بسبب أنهم أظهروا لكم الإيمان ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ بسبب أن الكفر مستقر في باطنهم.
• الرابع: قال أبو بكر الأصم ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ بمعنى أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات والمحن ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ بمعنى أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمحن ويتربصون بكم الدوائر.
• الخامس: ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ بسبب أنهم يظهرون لكم محبة الرسول ومحب المحبوب محبوب ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ لأنهم يعلمون أنكم تحبون الرسول وهم يبغضون الرسول ومحب المبغوض مبغوض.
• السادس: ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ أي تخالطونهم، وتفشون إليهم أسراركم في أمور دينكم ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ أي لا يفعلون مثل ذلك بكم.
• وهذه الوجوه التي ذكرناها إشارة إلى الأسباب الموجبة لكون المؤمنين يحبونهم ولكونهم يبغضون المؤمنين، فالكل داخل تحت الآية، ولما عرفهم تعالى كونهم مبغضين للمؤمنين وعرفهم أنهم مبطلون في ذلك البغض صار ذلك داعياً من حيث الطبع، ومن حيث الشرع إلى أن يصير المؤمنون مبغضين لهؤلاء المنافقين.
ب. السبب الثاني، ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾، وفي الآية إضمار، والتقدير: وتؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤمنون به، وحسن الحذف لما بينا أن الضدين يعلمان معا فكان ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر، وذكر (الكتاب) بلفظ الواحد لوجوه:
• أحدها: أنه ذهب به مذهب الجنس كقولهم: كثر الدرهم في أيدي الناس.
• ثانيها: أن المصدر لا يجمع إلا على التأويل، فلهذا لم يقل الكتب بدلا من الكتاب، وإن كان لو قاله لجاز توسعا.
• تقدير الكلام: أنكم تؤمنون بكتبهم كلها وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالكم مع ذلك تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم، وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم، ونظيره قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾ [النساء: 104]
ج. السبب الثالث لقبح هذه المخالطة هو ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾، والمعنى: أنه إذا خلا بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة، وشدة الغيظ على المؤمنين حتى تبلغ تلك الشدة إلى عض الأنامل، كما يفعل ذلك أحدنا إذا اشتد غيظه وعظم حزنه على فوات مطلوبه، ولما كثر هذا الفعل من الغضبان، صار ذلك كناية عن الغضب حتى يقال في الغضبان: إنه يعض يده غيظا وإن لم يكن هناك عض، قال المفسرون: وإنما حصل لهم هذا الغيظ الشديد لما رأوا من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم.
3. ثم قال تعالى: ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ وهو دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به، والمراد من ازدياد الغيظ ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام وعزة أهله وما لهم في ذلك من الذل والخزي.
4. سؤال وإشكال: ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ أمر لهم بالإقامة على الغيظ، وذلك الغيظ كفر، فكان هذا أمرا بالإقامة على الكفر وذلك غير جائز، والجواب:
أ. قد بينا أنه دعاء بازدياد ما يوجب هذا الغيظ وهو قوة الإسلام فسقط السؤال.
ب. وأيضا فإنه دعاء عليهم بالموت قبل بلوغ ما يتمنون.
5. ﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (ذات) كلمة وضعت لنسبة المؤنث كما أن (ذو) كلمة وضعت لنسبة المذكر والمراد بذات الصدور الخواطر القائمة بالقلب والدواعي والصوارف الموجودة فيه وهي لكونها حالة في القلب منتسبة إليه فكانت ذات الصدور، والمعنى أنه تعالى عالم بكل ما حصل في قلوبكم من الخواطر والبواعث والصوارف، قال الزمخشري يحتمل أن تكون هذه الآية داخلة في جملة المقول وأن لا تكون:
أ. أما الأول: فالتقدير: أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظا إذا خلوا وقل لهم: إن الله عليم بما هو أخفي مما تسرونه بينكم، وهو مضمرات الصدور، فلا تظنوا أن شيئا من أسراركم يخفى عليه أما.
ب. الثاني: وهو أن لا يكون داخلا في المقول فمعناه: قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من اطلاعي إياك على ما يسرون، فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك، وهو ما أضمروه في صدورهم ولم يظهروه بألسنتهم.
6. ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ أمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله إياه أنهم يهلكون غيظا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به، كأنه قيل: حدث نفسك بذلك والله تعالى أعلم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/342.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ﴾ يعني المنافقين، دليله قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾، قاله أبو العالية ومقاتل، والمحبة هنا بمعنى المصافاة، أي أنتم أيها المسلمون تصافونهم ولا يصافونكم لنفاقهم، وقيل: المعنى تريدون لهم الإسلام وهم يريدون لكم الكفر، وقيل: المراد اليهود، قاله الأكثر، والكتاب اسم جنس.
2. قال ابن عباس: يعني بالكتب، واليهود يؤمنون بالبعض، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ﴾ [البقرة]
3. ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾ أي بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَإِذَا خَلَوْا﴾ فيما بينهم ﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ﴾ يعني أطراف الأصابع ﴿مِنَ الْغَيْظِ﴾ والحنق عليكم، فيقول بعضهم لبعض: ألا ترون إلى هؤلاء ظهروا وكثروا.
4. العض عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه، ومنه قول أبي طالب: (يعضون غيظا خلفنا بالأنامل)، وقال آخر:
çإذا رأوني أطال الله غيظهم...عضوا من الغيظ أطراف الأباهيمé
يقال: عض يعض عضا وعضيضا، والعض بضم العين: علف دواب أهل الأمصار مثل الكسب والنوى المرضوخ، يقال منه: أعض القوم، إذا أكلت إبلهم العض، وبعير عضاضي، أي سمين كأنه منسوب إليه، والعض بالكسر: الداهي من الرجال والبليغ المكر، وعض الأنامل من فعل المغضب الذي فاته ما لا يقدر عليه، أو نزل به ما لا يقدر على تغييره، وهذا العض هو بالأسنان كعض اليد على فائت قريب الفوات، وكقرع السن النادمة، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم، ويكتب هذا العض بالضاد الساقطة، وعظ الزمان بالظاء المشالة، كما قال:
çوعظ زمان يا ابن مروان لم يدع...من المال إلا مسحتا أو مجلفé
5. وواحد الأنامل أنملة بضم الميم ويقال بفتحها، والضم أشهر، وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال: هم الإباضية(2)، قال ابن عطية: وهذه الصفة قد تترتب في كثير من أهل البدع إلى يوم القيامة، قوله تعالى: ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ إن قيل كيف لم يموتوا والله تعالى إذا قال لشيء: كن فيكون، قيل عنه جوابان:.
أ. أحدهما: قال فيه الطبري وكثير من المفسرين: هو دعاء عليهم، أي قل يا محمد أدام الله غيظكم إلى أن تموتوا، فعلى هذا يتجه أن يدعو عليهم بهذا مواجهة وغير مواجهة بخلاف اللعنة،.
ب. الثاني: إن المعنى أخبرهم أنهم لا يدركون ما يؤملون، فإن الموت دون ذلك، فعلى هذا المعنى زال معنى الدعاء وبقي معنى التقريع والاغاطة، ويجري هذا المعنى مع قول مسافر ابن أبي عمرو:
çويتمنى في أرومتنا...ونفقأ عين من حسداé
وينظر إلى هذا المعنى قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾ [الحج]
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/182.
(2) هذا من الطائفية المقيتة.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ﴾ جملة مصدرة بحرف التنبيه، أي: أنتم أولاء الخاطئون في موالاتهم.
ثم بين خطأهم بتلك الموالاة بهذه الجملة التذييلية، فقال: ﴿تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ وقيل: إن قوله: ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ خبر ثان لقوله: أنتم؛ وقيل: إن أولاء: موصول، وتحبونهم: صلته، أي: تحبونهم لما أظهروا لكم الإيمان، أو لما بينكم وبينهم من القرابة ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ لما قد استحكم في صدورهم من الغيظ والحسد.
2. ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ أي: بجنس الكتاب جميعا، ومحل الجملة: النصب على الحال، أي: لا يحبونكم، والحال أنكم مؤمنون بكتب الله سبحانه التي من جملتها كتابهم، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم، وفيه توبيخ لهم شديد، لأن من بيده الحق أحق بالصلابة والشدة ممن هو على الباطل.
3. ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾ نفاقا وتقية، ﴿وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ تأسفا وتحسرا، حيث عجزوا عن الانتقام منكم، والعرب تصف المغتاظ والنادم بعضّ الأنامل والبنان.
4. ثم أمره الله سبحانه بأن يدعو عليهم، فقال: ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ وهو يتضمن استمرار غيظهم ما داموا في الحياة حتى يأتيهم الموت وهم عليه، ثم قال: ﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ فهو يعلم ما في صدوركم وصدورهم، والمراد بذات الصدور: الخواطر القائمة بها، وهو كلام داخل تحت قوله: ﴿قُلْ﴾ فهو من جملة المقول.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/432.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هَآ انتُمُ أُوْلَآءِ تُحِبُّونَهُمْ﴾ (هَا) للتنبيه، و(أُولَاءِ) منصوب على التخصيص، أو منادى بحرف محذوف على القلَّة، لأنَّه اسم إشارة، و(تُحِبُّونَهُمْ) خبر (أَنتُم)، أو (أُولَاءِ) خبر و(تُحِبُّونَهُمْ) صلته، أو (أُولَاءِ) مبتدأ ثان و(تُحِبُّونَهُمْ) خبره، أو (أُولَاءِ) خبر و(تُحِبُّونَهُمْ) خبر ثان، و(أَنتُم) و(أُولَاءِ) وواو (تُحِبُّونَ) للمخاطبين في موالاة الكفَّار، وإن جعلنا (أُولَاءِ) للكفَّار فهو مبتدأ خبره (تُحِبُّونَهُمْ)، أو منصوب على الاشتغال، أو الجملة خبر (أَنتُمْ) و(أُولَاءِ) إشارة لا غيرها.
2. ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ فهم في كفرهم أصلب منكم في إيمانكم، فهذا توبيخ للمخاطبين، ﴿وَتُومِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ كُتُبِ الله كلِّها لا ببعضها دون بعض، أو لا ببعض كتاب وكفر بباقيه، كفعل اليهود والنصارى، كأنَّه قيل: تؤمنون بكتبهم ولا يؤمنون بكتابكم، والعطف على (تُحِبُّونَهُمْ)، وتجوز الحاليَّة على تقدير المبتدإ، أي: تحبُّونهم والحال أنتم تؤمنون بكتب الله كلِّها، كتبهم وغيرها، وهم لم يؤمنوا بالقرآن، فقد أخطؤوا ولم ينصفوا.
3. ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا﴾ أظهروا مقتضى الإيمان وهم أهل الكتاب المشركون، وهو صلّى الله عليه وآله وسلّم عالم بأنَّهم لم يصدِّقوا كالنطق بكلمة الإخلاص، وكالصلاة منافَقَةً وتغريرًا، ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ﴾ عنكم، ﴿عَضُّواْ عَلَيْكُم﴾ أي: لكم، أي: لأجلكم، ﴿الَانَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ أي: اشتدَّ عليهم ائتلاف المؤمنين وغلبتهم لأجل الغيظ، إذ لم يقدروا على التشفِّي واحتاجوا إلى المدارأة، أو (مِن) للابتداء، ولا بدَّ أَن يكون عضُّ الأنامل كناية عن غير الغيظ لقوله: ﴿مِنَ الْغَيْظِ﴾، إِلَّا أن يقال: مجموع ذلك كناية، وعضُّ الأنامل كثير من الغضبان، فجعل كناية عن الغيظ.
4. ﴿قُلْ﴾ يا محمَّد، أو يا كُلّ مؤمن، بألسنتكم قولا يسمعونه، أو يوصل إليهم، إذ لا أقطعَ للحبِّ من جرح اللِّسان، وقيل: المراد بـ (قُلْ) الأمر باعتقاد بغضهم وتشديد عداوتهم، والدعاء بإهانتهم، وازدياد غيظهم أو دوامه، وأصله حاصل وإنَّما تطلب الزيادة والمداومة إلى أن يموتوا، ويلزم من دعاء ازدياد غيظهم إلى الهلاك أو إلى وقت الهلاك دعاء موتهم بالغيظ، ويلزم من قوَّة الإسلام دعاء ازدياد غيظهم إلى الهلاك.
5. ﴿مُوتُواْ بِغَيْظِكُم﴾ بسببه، أو معه غير مفارق لكم، ولا ترون ما يسرُّكم من افتراق المؤمنين وكونهم مغلوبين، وهذا دعاء بدوام ما يغيظهم وازدياده، وهو ائتلاف المؤمنين وغلبتهم، لا دعاء بدوام كفرهم، والأمر للتهوين إذ ليس في طاقتهم أن يموتوا ولو كانوا لم يطاوعوا الآمر به، وأنت خبير بأنَّ ذلك دعاء بدوام الخير للمؤمنين، وقد قيل: هذا من كناية الكناية، إذ عبَّر بدعاء موتهم من غيظ عن ملزومه الذي هو دعاء بازدياد غيظهم إلى حدِّ الهلاك، وعبَّر بازدياد غيظهم عن ملزومه الذي هو قوَّة الإسلام وعزَّة أهله.
6. ﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمُم بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أي: بخصلة أو اعتقادة أو مُضمَرات أو خواطر صاحبةِ الصدور، وليس في كلام العرب ذات الشيء بمعنى نفس الشيء، فلا تفسَّر الآية به، وهذا من جملة المقول أمره الله أن يقوله لهم، أو مستأنف، أو تعليل لـ (قُلْ)، أو لمحذوف، أي: لا تعجَب من إطْلاعي إيَّاك على سرائرهم، فإنَّه لا يخفى عنه ما في القلوب من غيظ وشدَّة، وغير ذلك من كلِّ ما يخطر في القلوب.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/359.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بيّن تعالى خطأهم في موالاتهم حيث يبذلونها لأهل البغضاء بقوله: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ أي تخالطونهم وتفشون إليهم أسراركم ولا يفعلون مثل ذلك بكم، وقوله: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ الواو للحال وهي منتصبة من ضمير المفعول في (لا يحبونكم) والمعنى لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم فلا تنكرون منه شيئا، فليس فيكم ما يوجب بغضهم لكم، فما بالكم تحبونهم وهم يكفرون بكتابكم كله؟.
2. لم تجعل الواو للعطف على ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ أو ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ كما ارتضاه أبو حيان لأنه في معرض التخطئة، ولا كذلك الإيمان بالكتاب فإنه محض الصواب، وإن اعتذر له بأن المعنى: يجمعون بين محبة الكفار والإيمان وهما لا يجتمعان، لبعده، والحالية مقررة للخطأ فتأمل، نقله الخفاجيّ، قال الزمخشريّ: فيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم، ونحوه: ﴿فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾ [النساء: 104]
3. ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾ نفاقا وتغريرا ﴿وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ أي من أجله، تأسفا وتحسرا، حيث لم يجدوا إلى التشفي سبيلا، وعضّ الأنامل عادة النادم العاجز والمغتاظ إذا عظم حزنه على فوات مطلوبه، ولما كثر هذا الفعل من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب، حتى يقال في الغضبان: إنه يعض يده غيظا، وإن لم يكن هناك عض.
4. ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به، والمراد بزيادة الغيظ زيادة ما يغيظهم من قوة الإسلام وعز أهله، وما لهم في ذلك من الذل والخزي والتبار، كذا في الكشاف.
5. ﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ فيعلم ما في صدورهم من البغضاء والحنق، وهو يحتمل أن يكون من (المقول) أي وقل لهم: إن الله عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل غيظا، وأن يكون خارجا عنه بمعنى: قل لهم ذلك ولا تتعجب من اطلاعي إياك على أسرارهم فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم، وقيل: هو أمر لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بطيب النفس، وقوة الرجاء، والاستبشار بوعد الله تعالى أن يهلكوا غيظا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به من غير أن يكون ثمة قول، كأنه قيل: حدث نفسك بذلك ـ أفاده أبو السعود ـ ثم بين تعالى تناهي عداوتهم بقوله:
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/395.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ القرآن ينطق بأفصح عبارة وأصرحها واصفا المسلمين بهذا الوصف الذي هو من أثر الإسلام وهو إنهم يحبون أشد الناس عداوة لهم الذين لا يقصرون في إفساد أمرهم وتمني عنتهم، على أن بغضاءهم لهم ظاهرة وما خفي فمنها أكبر مما ظهر، أولئك المبغضون هم الذين قال الله فيهم أو في طائفة منهم ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ﴾ [المائدة: 82] الخ يعني أولئك اليهود المجاورين لهم في الحجاز، أليس حب المؤمنين لأولئك اليهود الغادرين الكائدين وإقرار القرآن إياهم على ذلك لأنه أثر من آثار الإسلام في نفوسهم، هو أقوى البراهين على أن هذا الدين دين حب ورحمة وتساهل وتسامح لا يمكن أن يصوب العقل نظره إلى أعلى منه في ذلك؟ بلى، ولكن وجد في الناس من ينكر عليه ذلك ويصفه بضده زورا وبهتانا، بل تعصبا خرّوا عليه صما وعميانا.
2. من هم الذين يرمون الإسلام بأنه دين بغض وعدوان؟ لا أقول إنهم النصارى الذين كانوا أجدر بحبنا وودنا من اليهود لقوله تعالى في تتمة الآية التي استشهدنا بها آنفا ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾، بل هم قسوس أوروبا المتعصبون على الإسلام من حيث هو دين، وساستها المتعصبون على الإسلام من حيث هو شرع ونظام قامت به دول وممالك، فأوروبا التي تتهم الإسلام ـ والشرق الأدنى كله لأجل الإسلام ـ بالتعصب والبغضاء للمخالف هي التي أبادت من بلادها كل مخالف لدينها إلا الترك، فإنها لم تَقْوَ على إبادتهم حتى الآن، ولولا ما بين دولها من التنازع السياسي لقضت عليهم، فنصارى الشرق ومسلموه وكذا وثنيوه إنما اغترفوا غرفة من بحر وتعصب أوروبا، ولكنهم لا قوة لهم على الدفاع عن أنفسهم أمام أولئك المعتدين.
3. أما قوله تعالى: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ فمعناه أنكم تؤمنون بجميع ما أنزل الله من كتاب، سواء منه ما نزل عليكم وما نزل عليهم، فليس في نفوسكم من الكفر ببعض الكتب الإلهية أو النبيين الذين جاؤوا بها ما يحملكم على بغض أهل الكتاب، فأنتم تحبونهم بمقتضى إيمانكم هذا، وذكر بعضهم أن جملة ﴿وَتُؤْمِنُونَ﴾ حالية من قوله: ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾، والمعنى أنهم لا يحبونكم مع أنكم تؤمنون بكتابه وكتابكم فكيف لو كنتم لا تؤمنون بكتابهم كما أنهم لا يؤمنون بكتابكم؟ فأنتم أحق ببغضهم، أي ومع ذلك تحبونهم ولا يحبونكم.
4. قال ابن جرير: (في هذه الآية إبانة من الله عز وجل عن حال الفريقين أعني المؤمنين والكافرين ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب أولئك وغلظتهم على أهل الإيمان، كما حدثنا بشر.. عن قتادة: قوله ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ فوالله إن المؤمن ليحب المنافق ويأوي إليه ويرحمه ولو أن المنافق يقدر من المؤمن على ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه)، حدثنا القاسم.. عن ابن جريج قال: (المؤمن خير للمنافق من المنافق للمؤمن: يرحمه، ولو يقدر المنافق من المؤمن على مثل ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه)
5. هؤلاء أئمة التفسير من سلف الأمة يقولون إن المسلم خير للكافر وللمنافق منهما له حبا ورحمة ومعاملة، وكذلك قالوا في السني مع المبتدع كما بين ذلك ابن تيمية، قالوا: إن علامة أهل السنة أن يرحموا المخالف لهم ولا يقطعوا أخوته في الدين، ولذلك يذكرون في كتب العقائد: (لا نكفر أحدا من أهل القبلة)، بل كان رواة الحديث من أئمة أهل السنة كالإمام أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن يروون عن الخوارج والشيعة والمعتزلة لا يلتفتون إلى مذهب الراوي بل إلى عدالته في نفسه، ونتيجة هذا كله: أن الإنسان يكون في التساهل والمحبة والرحمة لإخوانه البشر على قدر تمسكه بالإيمان الصحيح وقربه من الحق والصواب فيه، وكيف لا يكون كذلك والله يقول لخيار المؤمنين: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ فبهذا نحتج على أن من يزعم أن ديننا يغرينا ببغض المخالف لنا كما نحتج على بعض الجاهلين منا بدينهم الذين يطعنون ببعض علمائهم وفضلائهم، لمخالفتهم إياهم في مذاهبهم وآرائهم، أو في ظنونهم وأهوائهم، والذين سرت إليهم عدوى المتعصبين، فاستحلوا هضم حقوق المخالفين لهم في الدين.
6. ثم قال تعالى شانه مبينا لشأن طائفة منهم أسندها إليهم في الجملة على قاعدة تكافل الأمة وكونها كشخص واحد: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾، كان بعض اليهود يظهرون الإيمان للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين نفاقا وخداعا، ومنهم من كان يظهره ثم يرجع عنه ليشكك المسلمين، كما تقدم في هذه السورة، وإذا خلا بعضهم إلى بعض أظهروا ما في نفوسهم من الغيظ والحقد الذي لا يستطيعون معه إلى التفشي سبيلا.
7. عض الأنامل كناية عن شدة الغيظ ويكنى به أيضا عن الندم ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ فإن الإسلام الذي هو سبب غيظكم لا يزداد باعتصام أهله به إلا عزة وقوة وانتشارا، وقال ابن جرير: (﴿مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ الذي على المؤمنين لاجتماع كلمتهم وائتلاف جماعتهم)
8. فليعتبر المسلمون اليوم بهذا لعلهم يتذكرون أنه ما حل بهم من الأرزاء إلا بزوال هذا الاجتماع والائتلاف وبالتفرق بعد الاعتصام ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ فهو يعلم ما تضم صدوركم من شعور الغيظ والبغضاء وموجدة الحقد والحسد، فكيف يخفى عليه ما تقولون في خلواتكم وما يبديه بعضكم لبعض من ذلك ويعلم كذلك ما تنطوي عليه صدورنا معشر المؤمنين من حب الخير والنصح لكم.
9. من مباحث اللفظ في الآيات قوله ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ﴾ أصله (أنتم هؤلاء) فقدمت أداة التنبيه التي تلحق اسم الإشارة (أولاء) على الضمير ويقال في المفرد (ها أناذا) وعلى ذلك فقس، وإعرابه: ها للتنبيه وأنتم مبتدأ وأولاء خبره وتحبونهم في موضع النصب على الحال أو خبر بعد خبر وجوز بعضهم أن تكون أولاء اسم موصول وتحبونهم صلته.
__________
(1) تفسير المنار: 4/89.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم ذكر نوعا آخر من التحذير عن مخالطة الكافرين واتخاذهم بطانة، وفيه تنبيه لهم على خطئهم في ذلك، وقد ضمنه أمورا ثلاثة كل منها يستدعى الكفّ عن مخالطتهم: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ أي إنكم تحبون هؤلاء الكفار الذين هم أشد الناس عداوة لكم، ولا يقصرون في إفساد أمركم، وتمنّى عنتكم، ويظهرون لكم العداوة والغش، ويتربصون بكم ريب المنون، فكيف بكم توادونهم وتواصلونهم؟ وحب المؤمنين لهم ـ وهم على تلك الشاكلة ـ من أقوى البراهين على أن هذا الدين دين رحمة وتساهل، لا يمكن أن يتصور ما هو أعظم منه في ذلك.
2. ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ أي إنكم تؤمنون بجميع ما أنزل الله من الكتب، سواء منها ما نزل عليكم وما نزل عليهم، فليس في نفوسكم جحد لبعض الكتب الإلهية، ولا للنبيين الذين جاؤوا بها، حتى يحملكم ذلك على بغض أهل الكتاب أما هم فيجحدون بعض الكتب وينكرون بعض النبيين.
3. خلاصة هذا: إنهم لا يحبونكم مع أنكم تؤمنون بكتابهم وكتابكم، فما بالكم لو كنتم لا تؤمنون بكتابهم، كما أنهم لا يؤمنون بكتابكم؟ فأنتم أحرى ببغضهم، ومع هذا تحبونهم ولا يحبونكم، قال ابن جرير: (في الآية إبانة من الله عزّ وجل عن حال الفريقين، أعنى المؤمنين والكافرين، ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب أولئك وغلظتهم على أهل الإيمان)، وقال قتادة: (فو الله إن المؤمن ليحب المنافق ويأوى إليه ويرحمه، ولو أن المنافق يقدر من المؤمن على ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه (أفناه وأهلكه)، وفي هذا توبيخ للمؤمنين بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم.
4. نحو الآية قوله: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ أي وإذا لقوا المؤمنين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ألانوا لهم القول حذرا على أنفسهم منهم، فقالوا: آمنا وصدقنا بما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإذا هم صاروا في خلاء حيث لا يراهم المؤمنون أظهروا شدة العداوة والغيظ منهم، حتى ليبلغ الأمر إلى عضّ الأنامل كما يفعل أحدنا إذا اشتد غيظه، وعظم حزنه على فوات مطلوبه، وإنما فعلوا ذلك لما رأوا من ائتلاف المؤمنين، واجتماع كلمتهم، وصلاح ذات بينهم، ونصر الله إياهم حتى عجز أعداؤهم أن يجدوا سبيلا إلى التشفي منهم، فاضطروا إلى مداراتهم.
5. ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ هذا دعاء عليهم بازدياد الغيظ حتى يهلكوا، كقولهم: دم بعزّ، وبت قرير عين، ونحو ذلك، والمراد بذلك ازدياد قوة الإسلام وعزّ أهله، وفي هذا عبرة للمسلمين لعلهم يتذكرون، فيعلموا أن ما حل بهم من الأرزاء ما كان إلا بزوال هذا الاجتماع، والتفرق بعد الاعتصام.
6. ﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ فيعلم ما تنطوي عليه صدوركم من البغضاء والحقد والحسد، ولا يخفى عليه ما تقولون في خلواتكم، وما يبديه بعضكم لبعض من تدبير المكايد ونصب الحيل للمؤمنين، وما تنطوي عليه صدور المؤمنين من حب الخير والنصح لكم، ويجازى كلّا على ما قدم من خير أو شر، واعتقد من إيمان أو كفر.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/47.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ يضبط الله سبحانه وتعالى أولئك المسلمين الذين ظلوا على ولائهم وصداقتهم لهؤلاء الأعداء، ويقدمهم للمسلمين متلبسين بفعلتهم تلك المنكرة، ويريهم بأعينهم مدى الغبن الذي أصابهم من تلك الصحبة.. إنهم يحبون من لا يحبهم، بل ومن يبيّت لهم الشر، ويدبر العدوان!
2. في قوله تعالى: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ إشارة ثانية إلى تلك الصحبة غير المتكافئة، فالمسلمون الذين يوادّون هؤلاء القوم، يؤمنون بالكتاب كله، أي بكتب الله المنزلة على رسله، وهى في مجموعها كتاب واحد، هو كتاب الله ـ وهؤلاء القوم لا يوادّون المؤمنين، ولا يؤمنون إلا بالكتاب الذي في أيديهم، ويكفرون بجميع الكتب السماوية، ومنها القرآن.
3. في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ سبب ثالث للمباعدة التي ينبغي أن تكون بين المسلمين وبين هذه الجماعة.. إنها تعيش مع المسلمين على نفاق.. يعطونهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.. يظهرون لهم أنهم على دينهم، وأنهم على وفاق معهم.. فإذا خلا بعضهم إلى بعض لبسوا الثوب الذي أخفوه في طيات نفاقهم وملّقهم، وأخذوا يدبّرون المكايد والمعاثر للإسلام وللمسلمين.
4. في قوله تعالى: ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ ما يملأ قلوب هذه الجماعة المنافقة اللئيمة كمدا وحسرة.. إنها لن تنال من الإسلام والمسلمين منالا، كما أن في هذا تطمينا للمؤمنين، بهذه البشرى السماوية التي كتب الله بها النصر للإسلام وأهله، والخزي والسوء على أعدائه ومناوئيه.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/566.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ استئناف ابتدائي، قصد منه المقابلة بين خلق الفريقين، فالمؤمنون يحبّون أهل الكتاب، وأهل الكتاب يبغضونهم، وكلّ إناء بما فيه يرشح، والشأن أنّ المحبّة تجلب المحبّة إلّا إذا اختلفت المقاصد والأخلاق.
2. تركيب ها أنتم أولاء ونظائره مثل ها أنا تقدم في قوله تعالى ـ في سورة البقرة [85] ـ: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾
3. لمّا كان التعجيب في الآية من مجموع الحالين قيل: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ فالعجب من محبّة المؤمنين إيّاهم في حال بغضهم المؤمنين، ولا يذكر بعد اسم الإشارة جملة في هذا التركيب إلّا والقصد التعجّب من مضمون تلك الجملة.
4. جملة ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ جملة حال من الضمير المرفوع في قوله: ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ لأنّ محلّ التّعجيب هو مجموع الحالين، وليس في هذا التعجيب شيء من التغليط، ولكنّه مجرد إيقاظ، ولذلك عقّبه بقوله: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ فإنّه كالعذر للمؤمنين في استبطانهم أهل الكتاب بعد إيمان المؤمنين، لأنّ المؤمنين لمّا آمنوا بجميع رسل الله وكتبهم كانوا ينسبون أهل الكتاب إلى هدى ذهب زمانه، وأدخلوا فيه التّحريف بخلاف أهل الكتاب إذ يرمقون المسلمين بعين الازدراء والضلالة واتّباع ما ليس بحقّ، وهذان النظران، منّا ومنهم، هما أصل تسامح المسلمين مع قوّتهم، وتصلّب أهل الكتابين مع ضعفهم.
5. جملة ﴿وَتُؤْمِنُونَ﴾ معطوفة على ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ كما أن جملة ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ﴾ معطوفة على ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ وكلّها أحوال موزّعة على ضمائر الخطاب وضمائر الغيبة، والتعريف في ﴿بِالْكِتَابِ﴾ للجنس وأكّد بصيغة المفرد مراعاة للفظه، وأراد بهذا جماعة من منافقي اليهود أشهرهم زيد بن الصتيت القينقاعي.
6. العضّ: شدّ الشيء بالأسنان، وعضّ الأنامل كناية عن شدّة الغيظ والتحسّر، وإن لم يكن عضّ أنامل محسوسا، ولكن كنّي به عن لازمه في المتعارف، فإنّ الإنسان إذا اضطرب باطنه من الانفعال صدرت عنه أفعال تناسب ذلك الانفعال، فقد تكون معينة على دفع انفعاله كقتل عدوّه، وفي ضدّه تقبيل من يحبّه، وقد تكون قاصرة عليه يشفي بها بعض انفعاله، كتخبّط الصّبي في الأرض إذا غضب، وضرب الرجل نفسه من الغضب، وعضّه أصابعه من الغيظ، وقرعه سنّه من النّدم، وضرب الكفّ بالكفّ من التحسّر، ومن ذلك التأوّه والصّياح ونحوها، وهي ضروب من علامات الجزع، وبعضها جبلّي كالصياح، وبعضها عادي يتعارفه النّاس ويكثر بينهم، فيصيرون يفعلونه بدون تأمّل، وقال الحارث بن ظالم المري:
çفأقبل أقوام لئام أذلّة...يعضّون من غيظ رؤوس الأباهمé
7. ﴿عَلَيْكُمْ﴾ على فيه للتّعليل، والضّمير المجرور ضمير المسلمين، وهو من تعليق الحكم بالذات بتقدير حالة معيّنة، أي على التئامكم وزوال البغضاء، كما فعل شاس بن قيس اليهودي فنزل فيه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 100]، ونظير هذا التعليق قول الشاعر:
çلتقرعنّ على السنّ من ندم...إذا تذكرت يوما بعض أخلاقيé
8. ﴿مِنَ الْغَيْظِ﴾ (من) للتعليل، والغيظ: غضب شديد يلازمه إرادة الانتقام.
9. ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ كلام لم يقصد به مخاطبون معيّنون لأنّه دعاء على الّذين يعضّون الأنامل من الغيظ، وهم يفعلون ذلك إذا خلوا، فلا يتصوّر مشافهتهم بالدّعاء على التّعيين ولكنّه كلام قصد إسماعه لكلّ من يعلم من نفسه الاتّصاف بالغيظ على المسلمين وهو قريب من الخطاب الّذي يقصد به عموم كل مخاطب نحو: ﴿ولَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكسورؤوسهم﴾ [السجدة: 12]
10. الدعاء عليهم بالموت بالغيظ صريحه طلب موتهم بسبب غيظهم، وهو كناية عن ملازمة الغيظ لهم طول حياتهم إن طالت أو قصرت، وذلك كناية عن دوام سبب غيظهم، وهو حسن حال المسلمين، وانتظام أمرهم، وازدياد خيرهم، وفي هذا الدعاء عليهم بلزوم ألم الغيظ لهم، وبتعجيل موتهم به، وكلّ من المعنيين المكني بهما مراد هنا، والتكنّي بالغيظ وبالحسد عن كمال المغيظ منه المحسود مشهور، والعرب تقول: فلان محسّد، أي هو في حالة نعمة وكمال.
11. ﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ تذييل لقوله: ﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ وما بينها كالاعتراض أي أنّ الله مطّلع عليهم وهو مطلعك على دخائلهم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/202.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد هذا أخذ سبحانه يقابل بين إخلاص المؤمنين، وحقد الكافرين الذين يتخذ بعض المسلمين منهم بطانة فقال: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾، الإشارة:
أ. إما أن تكون لعامة المؤمنين: من يتخذون بطانة من الكافرين، ومن لا يتخذون، ويكون المعنى ها أنتم أولاء أيها المؤمنون تحبونهم وترجون لهم الهداية والتوفيق، والخير والرشاد، وتؤمنون بالكتاب كله أي بالكتاب المنزل الذي يحوى شريعة الله تعالى التي لا تتغير ولا تتبدل، فالكتاب هنا جنس للكتب المنزلة كلها، وهم لا يحبونكم ولا يريدون الرشاد، واستمرار الهداية، بل يريدون إفساد أموركم.
ب. وإما أن يكون الخطاب للذين يخطئون ويتخذون منهم خاصة وبطانة ويطلعونهم على سر الأمور، ويكون المعنى ها أنتم أيها الذين أخطئوا تحبونهم وتقربونهم وتجعلونهم خواص لكم وهم لا يحبونكم، وأنتم أكمل إيمانا وأقوى يقينا، لأنكم تؤمنون بالكتاب المنزل كله، ففي ضمن إيمانكم التصديق بالصادق عندهم، وهم ناقصو الإيمان، فكيف تثقون بهم وهم منكرون جاحدون لما عندكم؟
2. ثم ذكر سبحانه حالا لهم تكشف عن كراهيتهم وبغضهم ونفاقهم، فقال سبحانه: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾، هذا بيان لنفاقهم، ولا يمكن أن يكون في بطانة المؤمنين إلا المنافق منهم، سواء أكان من المنافقين الذين أعلنوا الإسلام في ظاهر أحوالهم وعامة شؤونهم وأضمروا غيره، أم كان من الذين لم يدخلوا في ضمن المسلمين ظاهرا؛ إذ لا يمكن إلا أن يكون في قلبه حظ كبير من النفاق ما دام قد قبل أن يعمل خاصة وبطانة لمؤمن؛ لأنه لا يمكن أن يصل إلى هذه المنزلة إلا إذا أبطن غير ما يظهر، إن لم يكن في شؤون الاعتقاد ففي غيرها، فمن كان شأنه كذلك يكون منافقا لا محالة.
3. سؤال وإشكال: يصح أن يكون المراد المنافقين الذين أضمروا الكفر وأظهروا الإسلام، ويكون هذا واضحا، ويؤيده قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾ لأنهم يعلنون الإيمان، ولكن واضح أيضا أن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ عامة تشمل المنافقين وغير المؤمنين، فكيف نذكر بعد ذلك أوصاف المنافقين فقط؟ والجواب: أن النهى عام، وقد ذكر التعليل خاصا بالمنافقين، لأنهم الأقرب لئلا يعهد إليهم بخواص الأمور، إذ هم يعلنون الإسلام، ويبطنون غيره، فهم مظنة أن يخدع الحاكم فيهم، فدعاه القرآن الكريم إلى أن يتخير بطانته، وغيرهم لسان حالهم ينفر منهم إلا إذا كان الأمير أو الحاكم ممن لا يحسنون الحكم ولا معرفة المصلحة، وعلى النظر الأول، وهو أن يكون الكلام في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾ عاما لكل الكافرين يكون معنى: ﴿قَالُوا آمَنَّا﴾ أنهم يظهرون الرضا بحكم الإسلام والاطمئنان إليه، وأنهم يريدون قوة الدولة الإسلامية وعزتها، فليس الإيمان على حقيقته، بل معناه الرضا بقبول الحكم الإسلامي، ولا شك أن التخريج الآخر أوضح وأبين.
4. معنى ﴿وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ أن الحقد يأكلهم ولا يستطيعون إظهار الألم الشديد في حضرة المؤمنين، فيدخرون إظهاره حتى إذا خلوا أظهروه في أقسى مظاهره، وهى عض الأنامل من الغيظ، والأنامل قيل هي أطراف الأصابع، وقيل الأصابع نفسها، والمغيظ المحنق دائما يعض الأنامل، فهذا مظهر لأعلى درجات الغيظ، وإن لم يقع من بعض الناس بالفعل، ولذا قال الشاعر:
çفأقتل أقواما لئاما أذلة...يعضون من غيظ رؤوس الأباهمé
فهذا التعبير كناية عن بلوغ أقصى درجات الغيظ، وفي هذا إشارة إلى أن من يكون إحساسهم نحو المؤمنين كذلك لا يصح أن يوثق بهم في مهامهم؛ لأنهم منافقون، والمنافق ليس جديرا بالثقة، ولأنهم لا يسرهم من المؤمنين إلا أن يكونوا في خبال، وإنهم ما داموا لا يريدون إلا الشر بأهل الإيمان، فإنه يجب أن يستمروا على حالهم من الغيظ، لأن الخير فيما يغيظهم، ولذا قال سبحانه: ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾
5. ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ابتداء، ولكل مؤمن بالتبع له صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقوله: ﴿مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ ظاهره الأمر بالموت أو الدعاء بالموت، وحقيقته الدعوة إلى استمرارهم على غيظهم ما دام غيظهم سببه نجاح الإسلام ودعوته، وعموم هدايته وصلاح شأن المسلمين، فالأمر هنا طلب استمرارهم على غيظهم، فالمعنى استمروا على غيظكم، والاستمرار على الغيظ استمرار لسببه وهو نجاح الإسلام وقوته، وصيغة الأمر هنا للتهكم عليهم.
6. ﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ لإفادة أن ما يبيتونه للمسلمين يعلمه الله ويحاسبهم عليه ويعذبهم، فحالهم في الدنيا شر حال، وفي الآخرة العذاب الأليم، فلهم كمد الدنيا، وعذاب الآخرة، وقد جوز الزمخشري أن تكون تلك الجملة من مقول القول المأمور به في (قل) وأن تكون من قول الله تعالى، والمؤدى واحد، وهو أن الله عليم بالسرائر والضمائر، وفيها تطيب لنفوس النبيّ والذين آمنوا بأن الله تعالى ناصرهم وكاشف أمر أعدائهم إذا أطاعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، ولم يجعلوا من أولئك الأعداء بطانة لهم، حتى لا يمكنوهم من دخائل أمورهم، فيكون سر المسلمين مكشوفا، وأمر هؤلاء مستورا.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1383.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾، ظاهر الخطاب انه موجه إلى جماعة تنتمي إلى الإسلام، ولا يصح ان يتوجه إلى جميع المسلمين لا في العصر الأول، ولا في غيره، إذ لم يعهد ان كلمة المسلمين اتفقت على حب الكافرين في يوم من الأيام، وقال الطبري شيخ المفسرين، وتبعه كثير، قالوا ما معناه: (ان حب المسلمين لمن يكرههم من الكافرين دليل على ان الإسلام دين الحب والتساهل)، هذا سهو من الطبري ومقلديه، لأن الإسلام لا يتساهل أبدا مع المفسدين والخائنين، ولا شيء أدل على ذلك من هذه الآية نفسها التي فسّرها الطبري بالتساهل، والذي نراه ان المسألة ليست مسألة تساهل، وإنما هي مسألة خيانة ونفاق من بعض من انتسب إلى الإسلام، وفي الوقت نفسه يتجسس على المسلمين لحساب عدو الوطن والدين، كما هو شأن عملاء الاستعمار اليوم المعروفين بالطابور الخامس، وبالمرتزقة والانتهازيين، لأنهم يبيعون دينهم ووطنهم لكل من يدفع الثمن.
2. ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾، الألف واللام في الكتاب للجنس، والمعنى انكم تؤمنون بكل كتاب منزل من الله سواء أنزل عليكم أم عليهم، ولستم مثلهم يؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض.
3. ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾، رياء ونفاقا.. ولا ينبغي للمؤمن أن يوالي المنافقين والمراءين.
4. ﴿وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾، عضوا عليكم الأنامل كناية عن حقدهم ولؤمهم، ولا شيء يغيظ العدو مثل الفضيلة والخلق الكريم، ومثل الائتلاف واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين، وما تمكن العدو من المسلمين قديما وحديثا الا لشتاتهم وتفتيت وحدتهم.
5. ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾، هذا مثل قول العرب لمن يدعون عليه: (مت بدائك) أي أبقى الله داءك، حتى تموت به.. وبديهة ان هذا يقال للعدو إذا كان القائل قويا عزيزا، ولا قوة كالاجتماع والائتلاف.
6. ﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾، ذات الصدور كل ما يجول في خاطر الإنسان، وكل ما ينطوي عليه قلبه من دوافع الخير والشر، والقصد ان الله يعلم بحقدهم ولؤمهم، ويعاملهم بحسبه.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/147.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ﴾ الظاهر أن أولاء اسم إشارة ولفظة ها للتنبيه، وقد تخلل لفظة أنتم بين ها وأولاء، والمعنى أنتم هؤلاء على حد قولهم: زيد هذا وهند هذه كذا وكذا.
2. ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾، اللام للجنس أي وأنتم تؤمنون بجميع الكتب السماوية النازلة من عند الله: كتابهم وكتابكم، وهم لا يؤمنون بكتابكم.
3. ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾، أي إنهم منافقون، وقوله: ﴿وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ العض هو الأخذ بالأسنان مع ضغط، والأنامل جمع أنملة وهي طرف الإصبع، والغيظ هو الحنق، وعض الأنامل على شيء مثل يضرب للتحسر والتأسف غضبا وحنقا.
4. ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ دعاء عليهم في صورة الأمر وبذلك تتصل الجملة بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أي اللهم أمتهم بغيظهم إنك عليم بذات الصدور أي القلوب أي النفوس.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/4.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هَا﴾ حرف تنبيه مناسب لغفلة المؤمنين عن نفاق البطانة، وأنهم يحبونها توهماً أنها مؤمنة وهي لا تحب المؤمنين، والحال مختلف فهم مؤمنون بالكتاب كله، وهي لا تؤمن به كله، وأعظم من ذلك أنها تنافق فتظهر لكم الإيمان كذباً ﴿وَإِذَا خَلَوْا﴾ عنكم ﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ لفرط حسدهم لكم وعداوتهم.
2. ﴿الْأَنَامِلَ﴾ رؤوس الأصابع، وعضها: جعلها في أفواههم والاعتماد عليها بأسنانهم، وتعدّى عضّوا بقوله تعالى: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ لتضمنه معنى اغتاظوا أو نحوه، كقوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا﴾ [الكهف:42] أي حزيناً أو نحوه.
3. ﴿قُلْ﴾ لهم: ﴿مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ دعاء عليهم بالموت من غيظهم، وخطابهم بهذا الدعاء ليعلموا أن الله قد أطلع نبيه على ما يخفون في صدورهم ﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ فقد علم ما في صدوركم من الغيظ، وأظهرنا عليه.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/526.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم يدخل الأسلوب القرآني في عملية مقارنة بين المشاعر الطاهرة التي يشعر بها المسلمون تجاه الآخرين الذين يخالفونهم في الرأي، وبين المشاعر الخبيثة التي يشعر بها الآخرون ضدهم:
أ. فالمسلمون يتحركون من موقع محبّة الناس الذين يعيشون معهم في الحدود التي رسمها الله لهم، فإذا لم يصل الصراع إلى نتيجة، كان المجال واسعا للتعايش القائم على التوازن بين مصلحة الحياة وبين احترام الإنسان في تحمل مسئوليته في الحدود التي لا تمثل ضررا كبيرا على حركة الحياة، وهذا ما تدل عليه المجتمعات غير الإسلامية التي استطاعت العيش مع المجتمعات الإسلامية بكل احترام وعدالة ومحبّة في ضمن المواقع الإسلامية القانونية المنفتحة.
ب. أمّا الآخرون من اليهود وغيرهم، فإن الغالب فيهم هو الشعور بالحقد والبغض للمسلمين، فهم لا يحبونهم ولا يتعاطفون معهم، لأنهم لا يؤمنون بالمقدسات الإسلامية من الكتاب والنبي وغيرهما من الحقائق الإسلامية، بينما يؤمن المسلمون بالكتاب كله في ما أنزله الله على أنبيائه من لدن إبراهيم عليه السّلام إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهم لا يتعقّدون من شخصية أيّ رسول، بل يؤمنون برسالته في مواقعها التي حدّدها الله من الزمان والمكان، فلا يتجاوزونها إلى أبعد من ذلك، ولا يقفون موقفا سلبيا من أيّ كتاب من إنجيل وتوراة وغيرهما، وإن كانوا يتحفظون في بعض النصوص التي وقع فيها التحريف، وإذا التقى هؤلاء مع المؤمنين، أعلنوا لهم الإيمان والانسجام مع خط الالتزام، وتظاهروا بكل ما يتظاهر به المؤمنون، وإذا خلوا إلى بعضهم البعض وملكوا حريتهم في التعبير عن حالتهم النفسية المعقّدة عضّوا أناملهم من الغيظ لما يعيشونه من مشاعر الحقد للمسلمين، وهذه طريقة في التنفيس عن العقدة الداخلية السلبية عندما تقف الظروف حائلا بين الإنسان وبين الوصول إلى تفجير غيظه على صعيد الواقع العملي.. لكن الله سبحانه يواجههم بأنّ هذا الغيظ سوف يتصاعد حتى يدمّر أصحابه، لأن المسيرة الصاعدة للإسلام في قوته وانتصاره سوف تفوّت عليهم الفرصة التي يستطيعون من خلالها التنفيس عمّا يداخلهم من حقد ورغبة في التدمير؛ ويذكرهم بأنه عليم بذات الصدور فلا يخفى على الله من أمرهم شيء.
2. ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ﴾ لأن الله أرادكم ـ من خلال الإسلام المنفتح على الناس كلهم ـ أن تفتحوا قلوبكم بالمحبة للآخرين، لأن المسلم هو الذي يتحرك في حياته مع الآخرين على أساس الإخلاص الباحث عن حركة الحقيقة في الوجدان العام من مواقع التفكير والحوار، فهو يعمل على أن يهدي الآخر بالدخول إلى قلبه من خلال الشعور الطاهر، ليدخل إلى عقله من خلال الجو الملائم الذي لا يحمل في داخله أيّة حالة لرفض الآخر.
3. ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ من خلال أنهم تحركوا ـ في تربيتهم ـ من قاعدة العنصرية التي توحي إليهم بأنهم هم الذين يملكون الدرجة العليا في الإنسانية، وأن الآخرين لا يمثلون شيئا في حساباتهم إلا كما يمثله العبد أمام سيده، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنهم لا يرون فيكم إلا الفئة المضادة لتطلعاتهم ومخططاتهم من أجل السيطرة على العالم، مما يجعلهم لا يطيقون وجودكم ـ بالذات ـ فكيف يمكن أن يحملوا لكم الحب؟
4. ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ لأن القرآن جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وداعيا كل أتباعه إلى الإيمان بالكتاب الذي أنزله الله على رسوله موزعا بينهم في حاجات الناس، بحسب المراحل، من دون تفريق بين كتاب وكتاب، ورسول ورسول، أمّا هم فلا يؤمنون بكتابكم لأنهم لا يؤمنون بأن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم رسول الله وأن القرآن وحي من الله.
5. ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾ لتؤمّنوا لهم فتعتبروهم منكم فتدخلوهم في عمق خصوصياتكم، فيطلعوا على أسراركم التي تمنحهم الفرصة لاستغلالها في الإضرار بكم وتعطيل خططكم المعتمدة على بعض الأمور السرية في مواجهة العدو.
6. ﴿وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ في تعبير صارخ عن الحقد الدفين في نفوسهم من خلال هذا الانتصار الكبير للدعوة الإسلامية الذي أغلق عنهم الكثير من الساحات التي كانوا يتحركون فيها، محققين فيها مصالحهم ومآربهم الخاصة من خلال علاقاتهم المدروسة مع أهلها.
7. ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ فلن ينفعكم ذلك شيئا في إنجاح ما تخططون له من الكيد للإسلام والمسلمين، ولن يضر المسلمين شيئا في رعاية الله لهم في انتصاراتهم وفتوحاتهم وغلبتهم على الشرك كله، فلن يخفى أمركم على الله.
8. ﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ فهو المطّلع على أعماق عباده، وهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/240.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يحسب بعض المسلمين أن في مقدورهم أن يكسبوا حبّ الأعداء والأجانب إذا أعطوهم حبهم وودهم، وهو خطأ فظيع، وتصور باطل، يقول سبحانه: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾
2. إنه سبحانه يخاطب هذا الفريق من المسلمين ويقول لهم: إنكم تحبون من يفارقكم في الدين لما بينكم من الصداقة أو القرابة أو الجوار، وتظهرون لهم المودة والمحبة، والحال أنهم لا يحبونكم أبدا، وتؤمنون بكتبهم وكتابكم المنزل من السماء ـ على السواء ـ في حين أنهم لا يؤمنون بكتابكم ولا يعترفون بأنه منزل من السماء.
3. إن هذا الفريق من أهل الكتاب ينافقون ويخادعون ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾، ولا شكّ أن هذا الغيظ لن يضر المسلمين في الواقع، إذن فقل لهم يا رسول الله: ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ واستمروا على هذا الحنق فإنه لن يفارقكم حتّى تموتوا.
4. هذه هي حقيقة الكفّار التي غفلتم عنها، ولم يغفل عنها سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/664.
64. أحقاد المعتدين والصبر والتقوى
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈64⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 120]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: (إنّ من ورائكم قوما يلقون فيّ من الأذى والتشديد والقتل والتنكيل ما لم يلقه أحد في الامم السالفة، ألا وإنّ الصابر منهم الموقن بي العارف فضل ما يؤتى إليه فيّ لمعي في درجة واحدة)، ثمّ تنفّس الصعداء وقال: (آه آه على تلك الأنفس الزاكية والقلوب الرضيّة المرضيّة أولئك أخلّائي هم منّي وأنا منهم)(1).
2. روي أنّه قال: إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور(2).
3. روي أنّه قال: إن صبرت أدركت بصبرك منازل الأبرار، وإن جزعت أوردك جزعك عذاب النار(3).
__________
(1) مشكاة الأنوار: ص275.
(2) مستدرك الوسائل: 1/142.
(3) غرر الحكم الفصل: 10 رقم: 7.
السجاد:
روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) أنّه قال: (الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله، ومن صبر ورضي عن الله فيما قضى عليه ممّا أحبّ أو كره لم يقض الله له فيما أحبّ أو كره إلّا ما هو خير له(1).
__________
(1) مشكاة الأنوار: ص35.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ أنبأ الله المؤمنين بعدوهم، فقال: إن تصبكم حسنة يسؤهم ذلك(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٤٦.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: (الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة، وجهنّم محفوفة باللذّات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذّتها وشهوتها دخل النار(1).
__________
(1) أصول الكافي: 2/89.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾ إذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورا على عدوهم غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين؛ سرهم ذلك، أعجبوا وابتهجوا به، فهم كما رأيتم، كلما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته، وأوطأ محلته، وأبطل حجته، وأظهر عورته، فذلك قضاء الله فيمن مضى منهم، وفيمن بقي إلى يوم القيامة(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٧٢٢ دون أوله، وابن أبي حاتم: ٣/٧٤٧.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾ هم المنافقون، إذا رأوا من أهل الإسلام جماعة وظهورا على عدوهم غاظهم ذلك غيظا شديدا وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين؛ سرهم ذلك، وأعجبوا به(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٧٢٢.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه كتب إلى عبد الله المحض بن الإمام الحسن حين حمل هو وأهل بيته يعزّيه عمّا صار إليه: (بسم الله الرّحمن الرّحيم إلى الخلف الصالح والذرّيّة الطيّبة من ولد أخي وابن عمّي.. أمّا بعد فلئن كنت قد تفرّدت أنت وأهل بيتك ممّن حمل معك بما أصابكم، فما انفردت بالحزن والغيظ والكآبة وأليم وجع القلب دوني فلقد نالني من ذلك من الجزع والقلق وحرّ المصيبة مثل ما ذلك، ولكن رجعت إلى ما أمر الله جلّ جلاله به المتّقين من الصبر وحسن العزاء حين يقول لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [الطور: 48]، وحين يقول: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ [القلم: 48]، وحين يقول لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حين مثّل بحمزة ـ: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل: 126] وصبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يعاقب، وحين يقول: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه: 132] وحين يقول: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 156، 157] وحين يقول: ﴿إِنَّمَا يُوَفي الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10] وحين يقول لقمان لابنه: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: 17] وحين يقول عن موسى: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 128]، وحين يقول: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 3] وحين يقول: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ [البلد: 17] وبشّر وحين يقول: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155] وحين يقول: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا والله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 146] وحين يقول: ﴿وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ﴾ [الأحزاب: 35] وحين يقول: ﴿وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ [يونس: 109] وأمثال ذلك من القرآن كثير.. واعلم أي عمّ إنّ الله جلّ جلاله لم يبال بضرّ الدنيا لوليّه ساعة قطّ، ولا شيء أحبّ إليه من الضرر والجهد والبلاء مع الصبر، وأنّه تبارك وتعالى لم يبال بنعيم الدنيا لعدوّه ساعة قطّ، ولولا ذلك ما كان أعداؤه يقتلون أولياءه ويخيفونهم ويمنعونهم وأعداؤهم آمنون ومطمئنّون عالون ظاهرون، ولولا ذلك لما قتل زكريّا ويحيى ظلما وعدوانا في بغيّ من البغايا، ولولا ذلك ما قتل جدّك عليّ بن أبي طالب لما قام بأمر الله جلّ وعزّ ظلما وعمّك الحسين بن فاطمة اضطهادا وعدوانا، ولولا ذلك ما قال الله عزّ وجلّ في كتابه: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾ [الزخرف: 33] ولولا ذلك لما قال في كتابه: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: 55، 56] ولولا ذلك لما جاء في الحديث: إنّ الدنيا لا تساوى عند الله جناح بعوضة، ولولا ذلك ما سقى كافرا منها شربة من ماء، ولولا ذلك لما جاء في الحديث: لو أنّ مؤمنا على قلّة جبل لبعث الله له كافرا أو منافقا يؤذيه، ولولا ذلك لما جاء في الحديث: إذا أحبّ الله قوما أو أحبّ عبدا صبّ عليه البلاء صبا فلا يخرج من غمّ إلّا وقع في غمّ ولولا ذلك لما جاء في الحديث: ما من جرعتين أحبّ إلى الله عزّ وجلّ أن يجرعهما عبده المؤمن في الدنيا من: جرعة غيظ كظم عليها أو جرعة حزن عند مصيبة صبر عليها بحسن عزاء واحتساب، ولولا ذلك لما كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعون على من ظلمهم بطول العمر وصحّة البدن وكثرة المال والولد، ولولا ذلك ما بلغنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا خصّ رجلا بالترحّم عليه والاستغفار استشهد.. فعليكم يا عمّ وابن عمّ وبني عمومتي واخوتي بالصبر والرضا والتسليم والتفويض إلى الله جلّ وعزّ، والرضا والصبر على قضائه والتمسك بطاعته والنزول عند أمره، أفرغ الله علينا وعليكم الصبر وختم لنا ولكم بالأجر والسعادة، وأنقذكم وإيّانا من كلّ هلكة بحوله وقوّته أنّه سميع قريب وصلّى الله على صفوته من خلقه محمّد النّبي وأهل بيته(1).
__________
(1) مستدرك الوسائل: 1/138.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ﴾ يعني: النصر على العدو والرزق والخير؛ يسوء ذلك اليهود، يعني: أهل قريظة والنضير، ﴿وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ﴾ يعني: القتل والهزيمة والجهد: ﴿يَفْرَحُوا بِهَا﴾ يعني: اليهود، ﴿إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ يقول: أحاط علمه بأعمالهم، ومنهم من يقول: أنزلت في المنافقين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ لا يضركم قولهم شيئا، ﴿إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ أحاط علمه بأعمالهم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٤٧.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ إذا رأوا من المؤمنين جماعة وألفة ساءهم ذلك، وإذا رأوا منهم فرقة واختلافا فرحوا(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٧٢٢.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم أخبر عن اليهود، فقال سبحانه: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ﴾ يعني: الفتح والغنيمة يوم بدر ﴿تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ﴾ القتل والهزيمة يوم أحد ﴿يَفْرَحُوا بِهَا﴾(1).
2. روي أنّه قال: ثم قال للمؤمنين: ﴿وَأَنْ تَصْبِرُوا﴾ على أمر الله، ﴿وَتَتَّقُوا﴾ معاصيه؛ ﴿لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ يعني: قولهم، ﴿إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ أحاط علمه بأعمالهم(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٨.
الكاظم:
روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال لبعض أصحابه: إن تصبر تغتبط وإلّا تصبر ينفذ الله مقاديره، راضيا كنت أم كارها(1).
2. روي أنّه قال: ما أحد من شيعتنا يبتليه الله عزّ وجلّ ببلية فيصبر عليها إلّا كان له أجر ألف شهيد(2).
__________
(1) أصول الكافي: 3/144.
(2) المؤمن: ص16.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: رأس طاعة الله الصبر والرضا عن الله فيما أحبّ العبد أو كره، ولا يرضى عبد عن الله فيما أحبّ أو كره إلّا كان خيرا له فيما أحبّ أو كره(1).
2. روي أنّه قال: سبعة أشياء بغير سبعة أشياء من الاستهزاء: من استغفر بلسانه ولم يندم بقلبه فقد استهزأ بنفسه، ومن سأل الله التوفيق ولم يجتهد فقد استهزأ بنفسه، ومن استحزم ولم يحذر فقد استهزأ بنفسه، ومن سأل الله الجنّة ولم يصبر على الشدائد فقد استهزأ بنفسه، ومن تعوّذ بالله من النار ولم يترك شهوات الدنيا فقد استهزأ بنفسه، ومن ذكر الله ولم يستبق إلى لقائه فقد استهزأ بنفسه(2).
__________
(1) مشكاة الأنوار: ص33.
(2) كنز الكراجكي: 1/330.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم قال عز وجل: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾، فأخبر سبحانه: أنه إذا مس المؤمنين من الله حسنة، وأنعم عليهم نعمة، أو فتح عليهم فتحا ـ ساء هؤلاء الكفرة المذكورين وغمهم.
2. ثم قال سبحانه: ﴿وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾، ومعنى ﴿يَفْرَحُوا﴾ هو: يسروا ويستبشروا، ثم قال سبحانه: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾، فأخبر سبحانه: أنه محيط بأعمالهم، مجازي لهم على جميع أفعالهم، حافظ للمؤمنين من كيدهم؛ إذ هو سبحانه ذو الفضل والإحسان، على جميع أهل الطاعة والإيمان؛ وهذا معنى الآيات، وما يخرج تفسيرهن عليه، والله ولي التوفيق.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/178.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ ليس هذا وصف المنافقين في الظاهر؛ لأنهم كانوا يطمئنون عند الخيرات، لكنّه يحتمل أنهم كانوا يطمئنون بخيرات تكون لهم لا للمؤمنين.
2. ﴿وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾ ذكر في القصة:
أ. أنهم إذا رأوا للمسلمين الظفر على عدوهم والغنيمة ـ يسوؤهم ذلك، وإذا رأوا القتل والهزيمة عليهم ـ يفرحون به ويسرّون.
ب. وقيل: إذا رأوا للمؤمنين الخصب والسعة ـ ساءهم، وإذا رأوا لهم القحط والجدب وغلاء السعر ـ فرحوا به.
ج. لكن هذا يحتمل في كل خير رأوا لهم ـ اهتموا لذلك، وفي كل مصيبة ونكبة رأوا لهم ـ فرحوا بها.
3. ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ وعد النصر بشرط: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ أخبر أن المؤمنين إذا اتقوا وصبروا لا يضرهم كيدهم شيئا، حتى يعلم أن ما يصيب المؤمنين إنما يصيب بما كسبت أيديهم، ﴿إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ على الوعيد.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/466.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ قرأ عمرو، ونافع، وابن كثير (لا يضركم) خفيفة، الباقون مشددة الراء، وهما لغتان ضاره يضيره، وضره يضره ضراً بمعنى واحد.
2. ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ﴾ حسنة فالمراد بالحسنة هاهنا ما أنعم الله عليهم به من الألفة والغلبة باجتماع الكلمة، والمراد بالسيئة المحنة بإصابة العدو منهم لاختلاف الكلمة، وما يؤدي إليه من الفرقة هذا قول الحسن، وقتادة والربيع وابن جريج.
3. ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾ يعني تتقوا الله بامتناع معاصيه، وفعل طاعاته ﴿لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ﴾ فالكيد المكر الذي يغتال به صاحبه من جهة حيلة عليه ليقع في مكروه به، وأصله المشقة تقول: رأيت فلاناً يكيد بنفسه أي يقاسي المشقة في سياق المنية، ومنه المكايدة لا يراد ما فيه المشقة، والمكيدة الحيلة لايقاع ما فيه المشقة.
4. ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ مبني على الضم نحو مذ ولو فتح أو كسر لكان جائزاً في العربية وزعم بعضهم أنه رفع على حذف الفاء بتقدير، فلا يضركم وأنشد:
çفان كان لا يرضيك حتى تردني...الى قطري لا أخالك راضياé
وهذا ضعيف، لأن الحذف إنما يجوز، لضرورة الشعر والقرآن لا يحمل على ضرورة الشعر.
5. ﴿إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ معناه عالم به من جميع جهاته مقتدر عليه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/575.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الكيد والمكيدة: المكر، وأصله المعالجة، وكل شيء عالجته فأنت تكيده، والكيد الحرب أيضًا، يقال: غزا فلم يَلْقَ كيدًا؛ أي حربا، وقيل: أصلة المشقة، يقال: رأيته يكيد نفسه: يقاسي المشقة في أسباب المنية، والكيد: مكرٌ يحتال به صاحبه من جهة حيلة ليُوقِع في مكروه.
ب. المحيط: المطبق بالشيء من جميع جوانبه، يقال: حاط به، ومنه الحائط.
2. ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين الَّذِينَ تقدم ذكرهم، فقال سبحانه: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ﴾ أي تصيبكم أيها المؤمنون ﴿حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ تغمهم ﴿وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ﴾ مصيبة ﴿يَفْرَحُوا بِهَا﴾ قيل: الحسنة هو الظفر على الأعداء وعلو كلمة الإسلام، وتتابع الناس بالدخول فيه، والخصب في العيش، فيحزن المنافقون بذلك، والسيئة: محنة تصيب المؤمنين من جهة العدو، أو فرقة أو نحو ذلك، يفرحوا بها عن الحسن وقتادة والربيع وابن جريج وجماعة من المفسرين.
3. ﴿وَأَنْ تَصْبِرُوا﴾ على آذاهم، وعلى طاعة الله وطاعة رسوله، والجهاد في سبيله ﴿وَتَتَّقُوا﴾ تجانبوا مخالفة أمره ونهيه ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿كَيْدَهُمْ﴾ أي مكر المنافقين وما يحتالون عليكم ﴿شَيْئًا﴾ يعني لا قليلاً ولا كثيرًا؛ لأنه تعالى ينصركم، ويدفع شرهم ﴿إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ أي عالم بجميع ما يفعلونه ويضمرونه، قادر على دفع شرهم ومجازاتهم على كيدهم.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُحِيطٌ﴾:
أ. قيل: توسع، والمراد قدرته وعلمه يحيط بهم.
ب. وقيل: معناه عالم بضمائرهم، فيطلعكم عليه، فلا ينفذ كيدهم، عن أبي مسلم.
5. تدل الآية الكريمة على:
أ. عظم حسد المنافقين لأهل الإسلام وغيظهم حتى يفرحوا بمصائبهم، ويحزنوا بمسارهم.
ب. أن مع الصبر على أمر الله لا ينفذ كيدهم.
ج. أن نصرته تعالى العبد إنما تحصل بالتقوى والطاعة له، ومتى لم تحصل التقوى لا يحصل له النصر، وهو عام، فيدل أن ثواب الآخرة أيضًا لا يحصل إلا بالتقوى؛ لأنه من أعظم النصر.
6. قراءات ووجوه:
أ. قرأ العامة ﴿تَمْسَسْكُمْ﴾ بالتاء، وقرأ السلمي بالياء.
ب. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ بكسر الضاد وسكون الراء خفيفة، والباقون ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ بضم الضاد والراء مشددة، وهما لغتان ضَارَه يَضِيرُهُ ضيرًا مثل باع يبيع بيعًا، وضَرَّهُ يَضُرُّهُ ضَرًّا، مثل رد يرد ردًا بمعنى، وعن الضحاك بضم الضاد، وجزم الراء خفيفة من ضاره يضوره، وذكر الفراء عن الكسائي أنه سمع بعض أهل العالية يقول: لا ينفعني ذلك ولا يَضُورُني.
ج. قراءة العامة ﴿يَعْلَمُونَ﴾ بالياء، وقرأ الحسن وأبو حاتم بالتاء على الخطاب.
7. ﴿يَضُرُّكُمْ﴾ رفع، وهو مبني على الضم، وأصله يَضْرُرْكُم، أدغمت الراء في الراء، ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد، وضمة الراء الأخيرة اتباعًا لأقرب الحركات إليها، ولو فتحت أو كسرت لجاز في العربية، وقال بعضهم: إنه رفع على حذف الفاء، بتقدير: فلا يضركم، عن الفراء، ومن جزم فعلى جواب الجزاء ﴿وَأَنْ تَصْبِرُوا﴾ جَزْمٌ؛ لأنه شرط، ﴿وَتَتَّقُوا﴾ معطوف عليه، و﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ جواب.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/362.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الكيد والمكيدة: المكر الذي يغتال به صاحبه من جهة حيلة عليه ليقع في مكروه به، وأصله الشقة، يقال: رأيت فلانا يكيد بنفسه أي: يقاسي المشقة في سياق المنية، ومنه المكاءدة لايراد ما فيه من المشقة.
2. ثم أخبر سبحانه عن حال من تقدم ذكرهم، فقال: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ﴾ أي: تصبكم أيها المؤمنون نعمة من اله تعالى عليكم بها من الفه، أو اجتماع كلمة، أو ظفر بالأعداء ﴿تَسُؤْهُمْ﴾ أي: تحزنهم ﴿وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ﴾ أي: محنة بإصابة العدو منكم لاختلاف الكلمة، وما يؤدي إليه من الفرقة، ﴿يَفْرَحُوا بِهَا﴾، هذا قول الحسن وقتادة والربيع، وجماعة من المفسرين.
3. ﴿وَأَنْ تَصْبِرُوا﴾ على أذاهم، وعلى طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله، والجهاد في سبيله ﴿وَتَتَّقُوا﴾ الله بالامتناع عن معاصيه، وفعل طاعته ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ أيها الموحدون ﴿كَيْدَهُمْ﴾ أي: مكر المنافقين، وما يحتالون به عليكم ﴿شَيْئًا﴾ أي: لا قليلا، ولا كثيرا، لأنه تعالى ينصركم، ويدفع شرهم عنكم ﴿إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ أي: عالم بذلك من جميع جهاته، مقتدر عليه، لان أصل المحيط بالشئ: هو المطيف به من حواليه، وذلك من صفات الأجسام، فلا يليق به سبحانه.
4. قراءات ووجوه:
أ. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ خفيفة مكسورة الضاد، والباقون مشددة مضمومة الضاد والراء.. من قرأ ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ فهو من ضاره يضيره ضيرا، ومن قرأ ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ فهو من ضره يضره ضرا، والضير والضر بمعنى واحد، وقد جاء في القرآن ﴿لَا ضَيْرَ﴾، و﴿إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ﴾، ولا يضركم أصله لا يضرركم، نقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد، وأدغمت في الراء الثانية بعد أن ضمت اتباعا لأقرب الحركات إليها، والعرب تدغم في موضع الجزم، وأهل الحجاز يظهرون التضعيف، قال الزجاج: وهذه الآية جاءت فيها اللغتان جميعا، فقوله ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ﴾ على لغة أهل الحجاز، وقوله ﴿يَضُرُّكُمْ﴾ على لغة غيرهم من العرب، ويجوز لا يضركم ولا يضركم، فمن قال بالفتح فلأن الفتح خفيف يستعمل في التقاء الساكنين في التضعيف، ومن قال بالكسر، فعلى أصل التقاء الساكنين.
ب. قرأ الحسن وأبو حاتم ﴿تَعْلَمُونَ﴾ بالتاء على الخطاب، والقراءة المشهورة بالياء.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/823.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ﴾ قال قتادة: وهي الألفة والجماعة، والسّيئة: الفرقة والاختلاف، وإصابة طرف من المسلمين، وقال ابن قتيبة: الحسنة: النّعمة، والسّيئة: المصيبة.
2. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصْبِرُوا﴾ قولان:
أ. أحدهما: على أذاهم، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: على أمر الله، قاله مقاتل.
3. في قوله تعالى: ﴿وَتَتَّقُوا﴾ قولان:
أ. أحدهما: الشّرك، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: المعاصي، قاله مقاتل.
4. ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو (لا يضركم) بكسر الضاد، وتخفيف الراء، وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ: (لا يضرّكم) بضم الضاد وتشديد الراء، قال الزجاج: الضّرّ والضّير بمعنى واحد.
5. الكيد: قال ابن قتيبة: هو المكر، قال أبو سليمان الخطّابيّ: والمحيط: الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه، وأحاط علمه بالأشياء كلّها.
__________
(1) زاد المسير: 1/319.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
قوله تعالى: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ من تمام وصف المنافقين، فبيّن تعالى أنهم مع ما لهم من الصفات الذميمة والأفعال القبيحة مترقبون نزول نوع من المحنة والبلاء بالمؤمنين.
1. المس: أصله باليد ثم يسمى كل ما يصل إلى الشيء (ماسا) على سبيل التشبيه فيقال: فلان مسّه التعب والنصب، قال تعالى: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: 38] وقال: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ﴾ [الإسراء: 67] قال الزمخشري: المس هاهنا بمعنى الإصابة، قال تعالى: ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ﴾ [التوبة: 50] وقوله: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [النساء: 79] وقال: ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: 20، 21]
2. المراد من الحسنة هاهنا منفعة الدنيا على اختلاف أحوالها، فمنها صحة البدن وحصول الخصب والفوز بالغنيمة والاستيلاء على الأعداء وحصول المحبة والالفة بين الأحباب والمراد بالسيئة أضدادها، وهي المرض والفقر والهزيمة والانهزام من العدو وحصول التفرق بين الأقارب، والقتل والنهب والغارة، فبيّن تعالى أنهم يحزنون ويغتمون بحصول نوع من أنواع الحسنة للمسلمين ويفرحون بحصول نوع من أنواع السيئة لهم.
3. يقال ساء الشيء يسوء فهو سيء، والأنثى سيئة أي قبح، ومنه قوله تعالى: ﴿سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 66] والسوأى ضد الحسنى.
4. ﴿وَأَنْ تَصْبِرُوا﴾ يعني على طاعة الله وعلى ما ينالكم فيها من شدة وغم ﴿وَتَتَّقُوا﴾ كل ما نهاكم عنه وتتوكلوا في أموركم على الله ﴿لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو لا يضركم بفتح الياء وكسر الضاد وسكون الراء، وهو من ضاره يضيره، ويضوره ضورا إذا ضرّه، والباقون ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ بضم الضاد والراء المشددة وهو من الضر، وأصله يضرركم جزما، فأدغمت الراء في الراء ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد وضمت الراء الآخرة، اتباعا لأقرب الحركات وهي ضمة الضاد، وقال بعضهم: هو على التقديم والتأخير تقديره: ولا يضركم كيدهم شيئا إن تصبروا وتتقوا، قال الزمخشري: وروى المفضل عن عاصم لا يضركم بفتح الراء.
5. الكيد هو أن يحتال الإنسان ليوقع غيره في مكروه، وابن عباس فسّر الكيد هاهنا بالعداوة، و﴿شَيْئًا﴾ نصب على المصدر أي شيئا من الضر.
6. معنى الآية: أن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى واتقى كل ما نهى الله عنه كان في حفظ الله فلا يضره كيد الكافرين ولا حيل المحتالين، وتحقيق الكلام في ذلك هو أنه سبحانه إنما خلق الخلق للعبودية كما قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] فمن وفي بعهد العبودية في ذلك فالله سبحانه أكرم من أن لا يفي بعهد الربوبية في حفظه عن الآفات والمخافات، وإليه الإشارة بقوله: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2، 3] إشارة إلى أنه يوصل إليه كل ما يسره، وقال بعض الحكماء: إذا أردت أن تكبت من يحسد فاجتهد في اكتساب الفضائل.
7. ﴿إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ قرئ بما يعملون بالياء على سبيل المغايبة بمعنى أنه عالم بما يعملون في معاداتكم فيعاقبهم عليه، ومن قرأ بالتاء على سبيل المخاطبة، فالمعنى أنه عالم محيط بما تعملون من الصبر والتقوى فيفعل بكم ما أنتم أهله.
8. إطلاق لفظ المحيط على الله مجاز، لأن المحيط بالشيء هو الذي يحيط به من كل جوانبه، وذلك من صفات الأجسام، لكنه تعالى لما كان عالما بكل الأشياء قادرا على كل الممكنات، جاز في مجاز اللغة أنه محيط بها، ومنه قوله: ﴿وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ [البروج: 20]، وقال: ﴿وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 19]، وقال: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: 110]، وقال: ﴿وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾ [الجن: 28]
9. إنما قال: ﴿إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ ولم يقل: (إن الله محيط بما يعملون) لأنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه، أعني وليس المقصود هاهنا بيان كونه تعالى عالما، بينا أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى ومجازيهم عليها فلا جرم قد ذكر العمل والله أعلم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/344.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ قرأ السلمي بالياء والباقون بالتاء، واللفظ عام في كل ما يحسن ويسوء، وما ذكره المفسرون من الخصب والجدب واجتماع المؤمنين ودخول الفرقة بينهم إلى غير ذلك من الأقوال أمثلة وليس باختلاف.
المعنى في الآية: أن من كانت هذه صفته من شدة العداوة والحقد والفرح بنزول الشدائد على المؤمنين، لم يكن أهلا لأن يتخذ بطانة، لا سيما في هذا الأمر الجسيم من الجهاد الذي هو ملاك الدنيا والآخرة، ولقد أحسن القائل في قوله:
çكل العداوة قد ترجى إفاقتها...إلا عداوة من عاداك من حسدé
2. ﴿وَأَنْ تَصْبِرُوا﴾ أي على أذاهم وعلى الطاعة وموالاة المؤمنين ﴿وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾، يقال: ضاره يضوره ويضيره ضيرا وضورا، فشرط تعالى نفي ضررهم بالصبر والتقوى، فكان ذلك تسلية للمؤمنين وتقوية لنفوسهم، قلت ـ قرأ الحرميان وأبو عمرو ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ من ضار يضير كما ذكرنا، ومنه قوله ﴿لَا ضَيْرَ﴾، وحذفت الياء لالتقاء الساكنين، لأنك لما حذفت الضمة من الراء بقيت الراء ساكنة والياء ساكنة فحذفت الياء، وكانت أولى بالحذف، لأن قبلها ما يدل عليها، وحكى الكسائي أنه سمع ضاره يضوره) وأجاز ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ وزعم أن في قراءة أبي بن كعب لا يضرركم)، وقرأ الكوفيون: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ بضم الراء وتشديدها من ضر يضر]، ويجوز أن يكون مرفوعا على تقدير إضمار الفاء، والمعنى: فلا يضركم، ومنه قول الشاعر: من يفعل الحسنات الله يشكرها هذا قول الكسائي والفراء، أو يكون مرفوعا على نية التقديم، وأنشد سيبويه:إنك إن يصرع أخوك تصرع أي لا يضركم أن تصبروا وتتقوا، ويجوز أن يكون مجزوما، وضمت الراء لالتقاء الساكنين على إتباع الضم، وكذلك قراءة من فتح الراء على أن الفعل مجزوم، وفتح ﴿يَضُرُّكُمْ﴾ لالتقاء الساكنين لخفة الفتح، رواه أبو زيد عن المفضل عن عاصم، حكاه المهدوي، وحكى النحاس: وزعم المفضل الضبي عن عاصم ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ بكسر الراء لالتقاء الساكنين.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/184.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ هذه الجملة مستأنفة لبيان تناهي عداوتهم، وحسنة وسيئة: يعمان كل ما يحسن وما يسوء، وعبر بالمس في الحسنة، وبالإصابة في السيئة، للدلالة: على أن مجرد مس الحسنة يحصل به المساءة، ولا يفرحون إلا بإصابة السيئة؛ وقيل: إن المسّ مستعار لمعنى الإصابة، ومعنى الآية: أن من كانت هذه حالته لم يكن أهلا لأن يتخذ بطانة.
2. ﴿وَأَنْ تَصْبِرُوا﴾ على عداوتهم أو على التكاليف الشاقة ﴿وَتَتَّقُوا﴾ موالاتهم، أو ما حرّمه الله عليكم و﴿لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾، يقال: ضارّه يضوره ويضيره ضيرا وضيورا، بمعنى: ضرّه يضره، وبه قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وقرأ الكوفيون، وابن عامر: لا يضركم بضم الراء وتشديدها من ضرّ يضر، فهو على القراءة الأولى: مجزوم على أنه جواب الشرط، وعلى القراءة الثانية: مرفوع على تقدير إضمار الفاء كما في قول الشاعر: (من يفعل الحسنات الله يشكرها) قاله الكسائي والفراء؛ وقال سيبويه: إنه مرفوع على نية التقديم، أي: لا يضركم أن تصبروا، وحكى أبو زيد عن المفضل عن عاصم: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ بفتح الراء، وشيئا: صفة مصدر محذوف.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/432.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ﴾ تصِلْكم، تشبيها بمسِّ اليد، ﴿حَسَنَةٌ﴾ إمَّا أن تخرج عن الوصفيَّة فيكون بمعنى منفعة أو نعمة من أمور الدنيا، كنصر وغنم وخصب، وإمَّا أن تبقى عليها، وكأنَّه قيل: خصلة حسنة، وهي ما ذكر من خير الدنيا، ﴿تَسُؤْهُمْ﴾ تغمّهم وتكدِّر عليهم حالهم وتحزنهم، ﴿وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ﴾ مضرَّة أو خصلة سيِّئة كما مرَّ من شرِّ الدنيا، ﴿يَفْرَحُواْ بِهَا﴾ هذا آخر أوصافهم، فمن قوله: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ﴾ إلى هنا أوصاف لهم كما قبله، كأنَّه قيل: بلغوا الغاية في عداوتكم فكيف توالونهم؟ فاجتنبوهم، والمسُّ أقلُّ من الإصابة فإذا ساءهم أقلُّ خيرِنا لهم فغيره أولى، وإذا فرحوا بمصيبة عظيمة فغيرها مِمَّا هو أعظم أولى؛ ولذلك عبَّر بالمسِّ في موضع وبالإصابة في آخر.
2. ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ﴾ على عداوتهم ومضرَّاتهم ومشاقِّ التكليف، ﴿وَتَتَّقُواْ﴾ ربَّكم بترك موالاتهم وما حرَّم الله، ﴿لَا يَضِرْكُمْ﴾ بحفظ الله الموعود للصابر المتَّقي، وبتوسُّط أخذ الحذر وهو من الله أيضًا، ﴿كَيْدُهُمْ﴾ أي: احتيالهم في إيصال المكروه إليكم، ﴿شَيْئًا﴾ أي: ضَيرا لضعفه مع ما لكم من الأجر عليه في الآخرة، ﴿اِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ من الكيد وسائر المعاصي، ﴿مُحِيطٌ﴾ علما فيجازيهم.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/362.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ﴾ بظهوركم على العدوّ، ونيلكم الغنيمة، وخصب معاشكم، وتتابع الناس في دينكم ﴿تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ﴾ بإصابة العدوّ منكم، أو اختلاف بينكم، أو جدب أو بلية ﴿يَفْرَحُوا بِهَا﴾ ولا يعلمون ما لله تعالى في ذلك من الحكمة.
2. المس أصله باليد، ثم يسمى كل ما يصل إلى الشيء مسّا، والتعبير به في جانب الحسنة، وبالإصابة في جانب السيئة للتفنن، وقد سوى بينهما في غير هذا الموضع كقوله: ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ﴾ [التوبة: 50] وقوله: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [النساء: 79]، وقال: ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: 20 ـ 21]، قال ناصر الدين في (الانتصاف): (يمكن أن يقال: المس أقل تمكنا من الإصابة، وكأنه أقل درجاتها، فكأن الكلام ـ والله أعلم ـ إن تصبكم الحسنة أدنى إصابة تسؤهم ويحسدوكم عليها، وإن تمكنت الإصابة منكم وانتهى الأمر فيها إلى الحد الذي يرثي الشامت عنده منها، فهم لا يرثون لكم ولا ينفكّون عن حسدهم، ولا في هذه الحال، بل يفرحون ويسرون)، وهذا من أسرار بلاغة التنزيل، فدل التعبير على إفراطهم في السرور والحزن، فإذا ساءهم أقل خيرنا، فغيره أولى، وإذا فرحوا بأعظم المصائب مما يرثي له الشامت فهم لا يرجى موالاتهم أصلا، فكيف تتخذونهم بطانة؟
3. قال البقاعيّ: ولما كان هذا الأمر منكيا غائظا مؤلما داواهم بالإشارة إلى النصر بشرط التقوى والصبر فقال: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾ أي تصبروا على ما يبتليكم الله به من الشدائد والمحن والمصائب وتثبتوا على الطاعة وتنفوا الاستعانة بهم في أموركم والالتجاء إلى ولايتهم ﴿لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ لأن المتوكل على الله الصابر على بلائه، المستعين به لا يغيره: ظافر في طلبته، غالب على خصمه، محفوظ بحسن كلاءة ربه، والمستعين بغيره: مخذول موكول إلى نفسه، محروم عن نصرة ربه، أفاده القاشانيّ، وقيل: المراد بنفي الضرر عدم المبالاة به، لأن المتدرب بالاتقاء والصبر يكون قليل الانفعال، جريئا على الخصم، (الكيد) الاحتيال على إيقاع الغير في مكروه.
4. ﴿إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ قرئ بياء الغيبة، على معنى أنه عالم بما يعملون في معاداتكم من الكيد فيعاقبهم عليه، وبتاء الخطاب، أي بما تعملون من الصبر والتقوى فيجازيكم بما أنتم أهله، قال الرازيّ: (إطلاق لفظ (المحيط) على الله مجاز، لأن المحيط بالشيء هو الذي يحيط به من كل جوانبه، وذلك من صفات الأجسام، لكنه تعالى لما كان عالما بكل الأشياء، قادرا على كل الممكنات، جاز في مجاز اللغة أنه محيط بها، ومنه قوله: ﴿وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ [البروج: 20])، وما ذكره شبهة جهمية(2) مبناها قياس صفة القديم على الحوادث، وأخذ خاصتها به، وهو قياس مع الفارق، والسمعيات تتلقى من عرف المتكلم بالخطاب، لا من الوضع المحدث، فليس لأحد أن يجعل الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعاني، ثم يريد أن يفسر مراد الله تعالى بتلك المعاني.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/396.
(2) يقصد بالجهمية المنزهة الذين ينزهون الله عن المكان والجهة، وهو لقب يطلقه عليهم السلفية وأهل الحديث.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم قال الله تعالى مبينا حسدهم وسوء طويتهم: ﴿إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبهم سيئة يفرحوا بها﴾، المس في الأصل كاللمس، والمراد بتمسسكم هنا تصبكم، ولعل اختيار لفظ المس في جانب الحسنة والإصابة في جانب السيئة للإشعار بأن أولئك الكافرين يسوءهم ما يصيب المسلمين من خير وإن قل؛ بأن كان لا يزيد على ما يمس باليد.
2. إنما يفرحون بالسيئة إذا أصابت المسلمين إصابة يشق احتمالها، هذا ما كان يتبادر إلى فهمي ولكن رأيت صاحب الكشاف يجعلهما هنا بمعنى واحد، ويستدل باستعمال القرآن لكل منها في موضع الآخر، ويقول: إن المس مستعار للإصابة، ثم خطر لي أن أراجع تفسير أبي السعود فإذا هو يقول: (وذكر المس مع الحسنة، والإصابة مع السيئة للإيذان بأن مدار مساءتهم أدنى مراتب إصابة الحسنة ومناط فرحهم تمام إصابة السيئة، وإما لأن اليأس مستعار لمعنى الإصابة)، والأول هو الوجه وهو من دقائق البلاغة العليا، والحسنة المنفعة سواء كانت حسية أو معنوية، وأعظمها انتشار الإسلام ودخول الناس فيه وانتصار المسلمين على المعتدين عليهم المقاومين لدعوتهم، قال قتادة في بيان ذلك كما رواه عنه ابن جرير: (فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وحماية وظهورا على عدوهم غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا أو أصيب طرف من أطراف المسلمين سرهم ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به، فهم كلما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته وأوطأ محلته، وأبطل حجته وأظهر عورته، فذلك قضاء الله فيمن مضى منهم وفيمن بقي إلى يوم القيامة)
3. ثم أرشد الله المسلمين إلى ما إن تمسكوا به سلموا من كيدهم الذي يدفعهم إليه الحسد والبغضاء فقال: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾:
أ. ذهب بعضهم إلى أن المراد: وإن تصبروا على عداوتهم وتتقوا اتخاذهم بطانة وموالاتهم من دون المؤمنين لا يضركم كيدهم لكم وهم بمعزل عنكم.
ب. وذهب آخرون إلى أن المراد: وإن تصبروا على مشاق التكاليف وامتثال الأوامر عامة وتتقوا ما نهيتم عنه وحظر عليكم ـ ومنه اتخاذ البطانة منهم ـ لا يضركم كيدهم.
4. ﴿يَضُرُّكُمْ﴾ بتشديد الراء من الضرر، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب (يضركم) بكسر الضاد وسكون الراء المخففة من ضاره يضيره والضير بمعنى المضرة، وقال محمد عبده: إن الصبر يذكر في القرآن في مقام ما يشق على النفس، وحبس الإنسان سره عن وديده وعشيره ومعامله وقريبه مما يشق عليه فإن من لذات النفوس أن تفضي بما في الضمير إلى من تسكن إليه وتأنس به، فلما نهوا عن اتخاذ بطانة ممن دونهم من خلطائهم وعشرائهم وحلفائهم وعلل بما علل به من بيان بغضائهم وكيدهم حسن أن يذكروا بالصبر على هذا التكليف الشاق عليهم وباتقاء ما يجب اتقاؤه لأجل السلامة من عاقبة كيدهم، ويصح أن يراد بالتقوى الأخذ بوصاياه وامتثال أمره تعالى في البطانة وغيرها.
5. من الاعتبار في الآية أنه تعالى أمر المؤمنين بالصبر على عداوة أولئك المبغضين الكائدين وباتقاء شرهم ولم يأمرهم بمقابلة كيدهم وشرهم بمثله وهكذا شأن القرآن لا يأمر إلا بالمحبة والخير والإحسان ودفع السيئة الحسنة وإن أمكن كما قال: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34] فإن لم يمكن تحويل العدو إلى محب بدفع سيئاته بما هو أحسن منها فإنه يجيز دفع السيئة بمثلها من غير بغي ولا اعتداء، كما فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في معاملة بني النضير الذين نزلت الآية فيهم أولا بالذات، فإنه حالفهم ووادهم فنكثوا وخانوا غير مرة أعانوا عليه قريشا يوم بدر وادعوا أنهم نسوا العهد ثم أعانوا الأحزاب الذين تحزبوا لإبادة المسلمين، ثم حاولوا قتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فتعذرت موادتهم واستمالتهم بالمحبة وحسن المعاملة، فكان اللجأ إلى قتالهم وإجلائهم ضربة لازب.
6. ثم قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ قال محمد عبده ما مثاله: المحيط بالعمل هو الواقف على دقائقه، فهو إذا دل على طريق النجاة لعامل من كيد الكائدين والوسيلة للخلاص من ضررهم، فإنما يدل على الطريق الموصل للنجاة حتما، والوسيلة المؤدية إلى النجاح قطعا، فالكلام كالتعليل لكون الاستعانة بالصبر والتمسك بالتقوى شرطين للنجاح، وهناك وجه آخر وهو أن الخطاب بتعلمون عام للمؤمنين والكافرين جميعا ـ يعني على قراءة الحسن وأبي حاتم (تعلمون) بالمثناة الفوقية أو على الالتفات ـ ومن كان عالما بعمل فريقين متحادين محيطا بأسباب ما يصدر عن كل منهما ومقدماته، ونتائجه وغاياته، فهو الذي يعتمد على إرشاده في معاملة أحدهما للآخر ولا يمكن أن يعرف أحدهما من نفسه في حاضرها وآتيها ما يعرفه ذلك المحيط بعمله وعمل من يناهضه ويناصبه، فهداية الله تعالى للمؤمنين خير ما يبلغون به المآرب وينتهون به إلى أحسن العواقب.
7. الإحاطة إحاطتان: إحاطة علم وإحاطة قدرة ومنع، وهذا التفسير مبني على أن الإحاطة هنا إحاطة علم لتعلقها بالعمل، وذلك من المجاز الذي ورد في التنزيل كقوله تعالى: ﴿أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12] وقوله: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ﴾ [يونس: 39]، وأما الإحاطة بالشخص أو بالشيء قدرة فهي تأتي بمعنى منعه مما يراد به، وهذا ليس بمراد هنا، بمعنى منعه مما يريده وبمعنى التمكن منه، ومنه الإحاطة بالعدو، أي أخذه من جميع جوانبه بالفعل والتمكن من ذلك ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: 81] وقوله: ﴿إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [هود: 92] وقوله: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾ [يونس: 22] كل هذا من باب واحد وإن فسر كل قول بما يليق به، فيصح أن يكون منه ما نحن فيه والمعنى حينئذ أن الله قد دلكم يا معشر المؤمنين على ما ينجيكم من كيد عدوكم فعليكم بعد الامتثال أن تعلموا أنه محيط بأعمالهم إحاطة قدرة تمنعهم مما يريدون منكم معونة منه لكم كقوله: ﴿وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا﴾ [الفتح: 21] فعليكم بعد القيام بما يجب عليكم أن تتقوا به وتتوكلوا عليه.
__________
(1) تفسير المنار: 4/92.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾ أي إذا نالكم خير كانتصاركم على أعدائكم المقاومين لدعوتكم، ودخول الناس في دين الله أفواجا أحزنهم ذلك وعزّ عليهم، وإن نالتكم مساءة كالإخفاق في حرب، أو إصابة عدوّ لكم، أو حدوث اختلاف بين جماعتكم فرحوا بذلك، قال قتادة في بيان ذلك: (فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورا على عدوهم، غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين سرّهم ذلك، وأعجبوا به وابتهجوا، وهم كلما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته، وأوطأ محلته، وأبطل حجته، وأظهر عورته، وذلك قضاء الله فيمن مضى منهم وفيمن بقي إلى يوم القيامة)
2. ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ أي وإن تصبروا على مشاق التكاليف فتمتثلوا الأوامر، وتتقوا كل ما نهيتم عنه وحظر عليكم ـ ومن ذلك اتخاذ الكافرين بطانة ـ فلا يضركم كيدهم، لأنكم قد وفيتم لله بعهد العبودية، فهو يفي لكم بحق الربوبية، ويحفظكم من الآفات والمخافات كما قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾، قال بعض الحكماء: إذا أردت أن تكبت من يحسدك فاجتهد في اكتساب الفضائل.
3. جرت سنة القرآن أن يذكر الصبر في كل مقام يشق على النفس احتماله، ولا شك أن حبس الإنسان سره عن وديده وعشيره، ومعامله وقريبه مما يشق عليه، فإن من لذات النفوس أن تفضى بما في الضمير إلى من تسكن إليه وتأنس به.
4. ولما نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من دونهم من خلطائهم وعشرائهم وحلفائهم لما بدا منهم من البغضاء والحسد ـ حسن أن يذكّرهم بالصبر على هذا التكليف الشاق عليهم، واتقاء ما يجب اتقاؤه للسلامة من عواقب كيدهم.
5. في الآية عبرة للمسلمين في معاملة الأعداء، فإن الله أمر المؤمنين بالصبر على عداوة أولئك المبغضين الكافرين، واتقاء شرهم، ولم يأمرهم بمقابلة الشر بمثله، إذ من دأب القرآن ألا يأمر إلا بالمحبة والخير، ودفع السيئة بالحسنة كما قال: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾، فإن تعذر تحويل العدو إلى محب، بدفع سيئاته بما هو أحسن منها ـ جاز دفع السيئة بمثلها من غير بغى، كما فعل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مع بنى النّضير، فإنه حالفهم ووادّهم، فنكثوا العهد وخانوا، وأعانوا عليه عدوه من قريش وسائر العرب، وحاولوا قتله، فلم يكن هناك وسيلة لعلاجهم إلا قتالهم وإجلاؤهم من ديارهم.
6. ﴿إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ أي إنه تعالى عالم بعمل الفريقين، ومحيط بأسباب ما يصدر من كل منهما، ومقدماته، ونتائجه وغاياته، فهو الذي يعتمد على إرشاده في معاملة أحدهما للآخر، ولا يمكن أن يعرف أحدهما من نفسه ما يعمله ذلك المحيط بعمله، وعمل من يناهضه، ويناصبه العداوة، فهداية الله للمؤمنين خير وسيلة للوصول إلى أغراضهم ومآربهم، وهذه الجملة كالعلة لكون الاستعانة بالصبر والتمسك بالتقوى شرطين للنجاح.
7. خلاصة المعنى: إن الله قد دلكم على ما ينجيكم من كيد أعدائكم، فعليكم أن تمتثلوا وتعلموا أنه محيط بأعمالهم، وهو القادر على أن يمنعهم مما يريدون بكم، فثقوا به، وتوكلوا عليه.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/48.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾ ومرة بعد مرة تصفعنا التجارب المرة، ولكننا لا نفيق.. ومرة بعد مرة نكشف عن المكيدة والمؤامرة تلبس أزياء مختلفة ولكننا لا نعتبر، ومرة بعد مرة تنفلت ألسنتهم فتنم عن أحقادهم التي لا يذهب بها ود يبذله المسلمون، ولا تغسلها سماحة يعلمها لهم الدين.. ومع ذلك نعود، فنفتح لهم قلوبنا ونتخذ منهم رفقاء في الحياة والطريق!.. وتبلغ بنا المجاملة، أو تبلغ بنا الهزيمة الروحية أن نجاملهم في عقيدتنا فنتحاشى ذكرها، وفي منهج حياتنا فلا نقيمه على أساس الإسلام، وفي تزوير تاريخنا وطمس معالمه كي نتقي فيه ذكر أي صدام كان بين أسلافنا وهؤلاء الأعداء المتربصين! ومن ثم يحل علينا جزاء المخالفين عن أمر الله، ومن هنا نذل ونضعف ونستخذي، ومن هنا نلقى العنت الذي يوده أعداؤنا لنا، ونلقى الخبال الذي يدسونه في صفوفنا.
2. ها هو ذا كتاب الله يعلمنا ـ كما علم الجماعة المسلمة الأولى: كيف نتقي كيدهم، وندفع أذاهم، وننجو من الشر الذي تكنه صدورهم، ويفلت على ألسنتهم منه شواظ: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾:
أ. فهو الصبر والعزم والصمود أمام قوتهم إن كانوا أقوياء؛ وأمام مكرهم وكيدهم إن سلكوا طريق الوقيعة والخداع، الصبر والتماسك لا الانهيار والتخاذل؛ ولا التنازل عن العقيدة كلها أو بعضها اتقاء لشرهم المتوقع أو كسبا لودهم المدخول.
ب. ثم هو التقوى: الخوف من الله وحده، ومراقبته وحده.. هو تقوى الله التي تربط القلوب بالله، فلا تلتقي مع أحد إلا في منهجه، ولا تعتصم بحبل إلا حبله.. وحين يتصل القلب بالله فإنه سيحقر كل قوة غير قوته؛ وستشد هذه الرابطة من عزيمته، فلا يستسلم من قريب، ولا يواد من حاد الله ورسوله، طلبا للنجاة أو كسبا للعزة!
3. هذا هو الطريق: الصبر والتقوى.. التماسك والاعتصام بحبل الله، وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة الله وحدها، وحققوا منهج الله في حياتهم كلها.. إلا عزوا وانتصروا، ووقاهم الله كيد أعدائهم، وكانت كلمتهم هي العليا، وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة أعدائهم الطبيعيين، الذين يحاربون عقيدتهم ومنهجهم سرا وجهرا، واستمعوا إلى مشورتهم، واتخذوا منهم بطانة وأصدقاء وأعوانا وخبراء ومستشارين.. إلا كتب الله عليهم الهزيمة، ومكن لأعدائهم فيهم، وأذل رقابهم، وأذاقهم وبال أمرهم، والتاريخ كله شاهد على أن كلمة الله خالدة؛ وأن سنة الله نافذة، فمن عمي عن سنة الله المشهودة في الأرض، فلن ترى عيناه إلا آيات الذلة والانكسار والهوان.
4. بهذا ينتهي هذا الدرس؛ وينتهي كذلك المقطع الأول في السورة، وقد وصل السياق إلى ذروة المعركة؛ وقمة المفاصلة الكاملة الشاملة، ويحسن قبل أن ننهي هذا الدرس أن نقرر حقيقة أخرى، عن سماحة الإسلام في وجه كل هذا العداء، فهو يأمر المسلمين ألا يتخذوا بطانة من هؤلاء، ولكنه لا يحرضهم على مقابلة الغل والحقد والكراهية والدس والمكر بمثلها، إنما هي مجرد الوقاية للجماعة المسلمة وللصف المسلم، وللكينونة المسلمة.. مجرد الوقاية ومجرد التنبيه إلى الخطر الذي يحيطها به الآخرون.. أما المسلم فبسماحة الإسلام يتعامل مع الناس جميعا؛ وبنظافة الإسلام يعامل الناس جميعا؛ وبمحبة الخير الشامل يلقى الناس جميعا؛ يتقي الكيد ولكنه لا يكيد، ويحذر الحقد ولكنه لا يحقد، إلا أن يحارب في دينه، وأن يفتن في عقيدته، وأن يصد عن سبيل الله ومنهجه، فحينئذ هو مطالب أن يحارب، وأن يمنع الفتنة، وأن يزيل العقبات التي تصد الناس عن سبيل الله، وعن تحقيق منهجه في الحياة، يحارب جهادا في سبيل الله لا انتقاما لذاته، وحبا لخير البشر لا حقدا على الذين آذوه، وتحطيما للحواجز الحائلة دون إيصال هذا الخير للناس، لا حبا للغلب والاستعلاء والاستغلال.. وإقامة للنظام القويم الذي يستمتع الجميع في ظله بالعدل والسلام، لا لتركيز راية قومية ولا لبناء امبراطورية! هذه حقيقة تقررها النصوص الكثيرة من القرآن والسنة؛ ويترجمها تاريخ الجماعة المسلمة الأولى، وهي تعمل في الأرض وفق هذه النصوص.
5. إن هذا المنهج خير، وما يصد البشرية عند إلا أعدى أعداء البشرية، الذين ينبغي لها أن تطاردهم، حتى تقصيهم عن قيادتها.. وهذا هو الواجب الذي انتدبت له الجماعة المسلمة، فأدته مرة خير ما يكون الأداء، وهي مدعوة دائما إلى أدائه، والجهاد ماض إلى يوم القيامة.. تحت هذا اللواء.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/453.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ إرهاص بما سيصيب المسلمين في جهادهم في سبيل الله، من نصر وهزيمة.. وأنهم في حال انتصارهم على أعدائهم تفيض نفوس هذه الجماعة المنافقة حسرة وألما، وفي حال هزيمتهم تطير قلوبهم فرحا وطربا.
2. في التعبير عن الإصابة بالخير بلفظ المسّ، والتعبير عن الإصابة بالشر بلفظ الإصابة، ما يكشف عن مدى السقوط والتدلّى من مشارف الإنسانية العالية إلى الحضيض والوحل!
أ. فالمسّ بالخير، مجرّد المسّ، وهو الشيء القليل يصيب المسلمين، يفزع له اليهود ويضطربون، وتغلى مراجل نفوسهم غيظا وكمدا.. فكيف لو أصاب المسلمون من الخير شيئا كثيرا مما وعدهم الله به؟ إن ذلك مما يذهب بنفوس القوم مذاهب التّلف!
ب. وإصابة المسلمين بالشر، ينزل بهم، ويعمّهم بالبأساء والضراء.. ينظر إليه هؤلاء القوم نظرا يملأ نفوسهم بهجة، ويغمر قلوبهم رضى.. ولو كانوا على شيء من الإنسانية والمروءة لخفّوا لنجدة المكروبين، وبادروا إلى إغاثة المصابين، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فلا أقل من نظرة عطف وإشفاق، أو حسرة وألم، فإن لم يكن هذا ولا هذا أيضا فليكن موقف جمود وخمود.. أما أن يجد الإنسان في هذا الموقف مشاعر تتحرك فرحا وبهجة، وتتناغى شماتة وغبطة، فذلك هو الذي لا يعرف في إنسان غير إنسان اليهود! الخير القليل.. القليل جدا، يمسّ المسلمين مسّا، يحسدونهم عليه، وتختنق صدورهم به، حتى لتقتلهم الحسرة ويميتهم الكمد! والشر يصيب المسلمين إصابات قاتلة، ويرميهم بالمهلكات.. يجد فيه هؤلاء القوم سعادة ورضى، ولذة وسرورا.. ألا ما أخسّ الإنسان وأحقره، حين يتعرّى من مشاعر الإنسانية، وتشتمل عليه طباع حيّة خبيثة، أو نفس شيطان رجيم! بل ما أخسّ الإنسان وأحقره، حين يعيش في مسلاخ إنسان من هؤلاء الناس!
3. الموقف الحكيم الذي ينبغي أن يقفه المسلمون إزاء هذه الجماعة، هو ألا يشغلوا أنفسهم بها، ففي ذلك تعويق لهم، وتفويت لخير كثير كان يمكن أن يحصلوا عليه بهذا الجهد الذي يبذلونه في شغل أنفسهم بها.
4. وخير من هذا وأكثر عائدة على المسلمين هو أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن يقيموها على ما أمرهم الله، فذلك هو الذي يحصل لهم الصبر والتقوى، وهى القوة التي لا تغلب أبدا.. من ظفر بهما فقد ظفر بنصر الله وتأييده، أما هؤلاء المنافقون فأمرهم إلى الله.. ﴿إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾
5. هذا، ولم تشر الآيات إلى تلك الجماعة التي كشفت عن مساوئها وحذرت المسلمين أن يوادّوهم ويأمنوا جانبهم.. ذلك أن هذه الصفات هي علامات مميزة، وسمات معينة لجماعة معروفة من الناس، هم اليهود، لا يشاركهم غيرهم في هذه الصفات.. ومن هنا كان في ذكرها غنى عن ذكرهم، كما فيه تشهير بهم، وتشنيع عليهم، بوضعهم هذا الموضع، الذي إذا ذكرت فيه سيئة علقت بهم، وأشارت إليهم.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/567.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. زاد الله كشفا لما في صدورهم بقوله: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ أي تصبكم حسنة والمسّ الإصابة، ولا يختصّ أحدهما بالخير والآخر بالشرّ، فالتّعبير بأحدهما في جانب الحسنة، وبالآخر في جانب السيّئة، تفنّن، وتقدّم عند قوله تعالى: ﴿كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ في سورة البقرة [275]
2. الحسنة والسيّئة هنا الحادثة أو الحالة الّتي تحسن عند صاحبها أو تسوء وليس المراد بهما هنا الاصطلاح الشّرعي.
3. ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ أرشد الله المؤمنين إلى كيفية تلقّي أذى العدوّ: بأن يتلقّوه بالصّبر والحذر، وعبّر عن الحذر بالاتّقاء أي اتّقاء كيدهم وخداعهم، وقوله: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ أي بذلك ينتفي الضرّ كلّه لأنّه أثبت في أوّل الآيات أنّهم لا يضرّون المؤمنين إلّا أذى، فالأذى ضرّ خفيف، فلمّا انتفى الضرّ الأعظم الّذي يحتاج في دفعه إلى شديد مقاومة من القتال وحراسة وإنفاق، كان انتفاء ما بقي من الضرّ هيّنا، وذلك بالصّبر على الأذى، وقلّة الاكتراث به، مع الحذر منهم أن يتوسّلوا بذلك الأذى إلى ما يوصل ضرّا عظيما، وفي الحديث: (لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يدعون له ندّا وهو يرزقهم)
4. قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ ـ بكسر الضاد وسكون الراء ـ من ضاره يضيره بمعنى أضرّه، وقرأه ابن عامر، وحمزة، وعاصم، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف ـ بضم الضاد وضم الراء مشدّدة ـ من ضرّه يضرّه، والضمّة ضمّة اتباع لحركة العين عند الإدغام للتخلّص من التقاء الساكنين: سكون الجزم وسكون الإدغام، ويجوز في مثله من المضموم العين في المضارع ثلاثة وجوه في العربية: الضمّ لاتباع حركة العين، والفتح لخفّته، والكسر لأنّه الأصل في التخلّص من التقاء الساكنين، ولم يقرأ إلّا بالضمّ في المتواتر.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/204.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾ هذه صورة واضحة لأنهم لا يحبون المؤمنين، ويغيظهم صلاح حال المؤمنين، وإمداد الله تعالى بالنصر لهم، والمعنى إن أنزل الله لكم نعما ونصرا وأمرا حسنا نافعا في ذاته ويحسن في نظركم وينفعكم ساءهم ذلك، وأثار غيظهم وحسدهم، وإن نزلت بكم شديدة وأمر يسوء يفرحوا، وتستطار ألبابهم سرورا وحبورا.
2. عبر سبحانه وتعالى في جانب الحسنة بقوله: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ﴾ وفي جانب السيئة بقوله: ﴿وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾ للإشارة إلى تمكن الحقد والحسد في قلوبهم بحيث إن أي حسنة ولو مست ولم تغمر وتعم ـ تسؤهم؛ لأنهم يستكثرون كل خير للمؤمن مهما ضؤل كالشأن في كل الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولا يفرحون بالمصيبة التي تمس، فإنها لا تشفى غيظهم بل لا يفرحون إلا بالمصيبة التي تغمر وتعم وتستمر، وإن هذا كله يدل على أنهم يكيدون للمؤمنين ويبالغون في الكيد لهم، وإن دفع هذا الكيد يستدعى الصبر والتقوى، ولذا قال سبحانه: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾
3. ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ أي وإن تصبروا، فتضبطوا أنفسكم ولا تنساقوا في محبة من لا يستحق المحبة، وتتحملوا مشاق التكليفات، وتقاوموا العداوة بمثلها، وتردوا اعتداءهم بمثله، وتتقوا الله تعالى، وتتقوا أذاهم، فلا تتخذوا منهم بطانة ـ إن فعلتم ذلك لا يضركم كيدهم وتدبيرهم السيئ شيئا من الضرر مطلقا، وإن لم تفعلوا ذلك فلم تأخذوا حذركم منهم، وسهلتم دخول الغفلة عليكم، ولم تضبطوا أنفسكم عن محبتهم، فإنهم يستمكنون منكم بكيدهم، ولا منجاة لكم من شرهم.
4. قرئ قوله تعالى: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ بالضم على أن ذلك من قبيل التخلص من التقاء الساكنين بالضم، فإن الفعل مجزوم، فيفك الإدغام، ويتخلص من التقاء الساكنين بالضم أو الفتح، وقد قرئ بالفتح، كما قرئ (لا يضركم) من ضار يضير بمعنى ضر يضر.
5. ﴿إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ ذيل الله سبحانه الآية بهذا النص، ليطمئن المؤمنين ويهدد الكافرين، فالمعنى: الله تعالى محيط بما يعملون إحاطة علم وإحاطة قدرة، وإحاطة العلم فيها بيان أنه لا تخفى عليه خافية من كيدهم، وإحاطة القدرة مؤداها أنه محبط كل ما يدبرون ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [آل عمران]
6. هذه وصايا الله تعالى للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين بالنسبة لسياسة أمورهم مع مخالفيهم، يحترسون منهم، ولا يفرطون في الثقة بهم، فلا يتخذوا منهم بطانة وخاصة، وإلا كان الدمار والبوار والخبال، وهكذا نحن الآن، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1386.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾، شأن كل عدو، وقال المفسرون: ذكر المس في الحسنة للإشعار بأن أقل خير يناله المسلمون يسيء عدوهم، وذكر الاصابة في السيئة للإشعار بأنه كلما تمكنت السيئة من المسلمين ازداد عدوهم فرحا، وهذا أبلغ تعبير عن شدة العداوة.
2. ﴿وَأَنْ تَصْبِرُوا﴾ على طاعة الله، وأذى أعدائه ﴿وَتَتَّقُوا﴾ المحرمات والمعاصي ﴿لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾، من كان مع الله كان الله معه، ومن يتق الله يجعل له مخرجا.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/147.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾، المساءة خلاف السرور، وفي الآية دلالة على أن الأمن من كيدهم مشروط بالصبر والتقوى.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/4.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾ الحسنة هنا: بمعنى النعمة، مثل: النصر، والغنائم، ومعنى ﴿تَمْسَسْكُمْ﴾ تتصل بكم وتبلغكم، ومعنى ﴿تَسُؤْهُمْ﴾ تحزنهم ضد تسرهم ﴿وَإِنْ تُصِبْكُمْ﴾ مصيبة ﴿يَفْرَحُوا بِهَا﴾ لأنها ساءتكم، ومعنى ﴿يَفْرَحُوا﴾ يجتمع لهم بها سرور واطمئنان إلى أن أحوالكم متدهورة وأن دينكم سيذهب ولأخذ الثقة أو الاطمئنان أو نحوه في معنى الفرح كان الفرح بما آتانا من حاجات الدنيا مذموماً، قال تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ [الحديد:23] وفي قارون: ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص:76] فهو كقوله تعالى: ﴿وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا﴾ [يونس:7]، ولذلك كان الفرح بالدنيا مذموماً كالاطمئنان إليها، وكان الفرح بالحق الذي تحمد عقباه محموداً، قال تعالى: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس:58]؛ أما السرور بالنعمة فهو طبيعي، وقد جاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من أوجب المغفرة إدخالك السرور على أخيك المؤمن)
2. ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ ﴿لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ لأنهم يكيدون المؤمنين لإبطال أمرهم ومحو دينهم، والمؤمنون مع الصبر والتقوى مكتوب لهم النصر، قال تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة:123] وقال تعالى: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:249]
3. ﴿إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ فلا يدعه ينالكم، بل يصرفه عنكم أو يبطله، وهو مثل للسيطرة عليه والغلبة لأهله.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/526.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم يواجه الله تعالى المسلمين بمشاعر هؤلاء تجاه الأوضاع السلبية والإيجابية في داخل الحياة في المجتمع الإسلامي، فإذا واجهوا انتصارا وخيرا وبركة في ذلك المجتمع قابلوه بالألم والسوء، أمّا إذا واجهوا الشر الذي يصيب المسلمين في أنفسهم ودنياهم، فإنهم يواجهونه بمشاعر الفرح والسرور.
2. لكن الله يخاطب المسلمين بأن ذلك لن يضرهم شيئا إذا وقف المسلمون في مواقعهم المتقدمة، وقابلوا التحديات والصعوبات بالصبر الواعي المنفتح، وبالتقوى التي تجعلهم يقفون عند حدود الله في العقيدة والعمل، فإن الله محيط بما يعملونه، عالم بكل أسرارهم، فلا يخفى عليه شيء منها، ويكشف لرسوله منها ما يحميه من كل سوء.
3. وعلى ضوء هذا الاستعراض الوافي للصفات السلبية التي يتصف بها أعداء الإسلام، فإن القرآن يريد لهم أن لا يتخذوهم بطانة في ما يكلفونهم به من أعمال وأدوار تتصل بالقضايا المصيرية للإسلام والمسلمين، فيطلعون من خلال ذلك على الأسرار الخفية للواقع الإسلامي، فيستغلون هذه المعرفة في الكيد والتآمر على الإسلام والمسلمين.. وهذا خط عامّ في حركة المجتمع الإسلامي مع الفئات الأخرى المعادية من أهل الكتاب وغيرهم، بالمحافظة على دراسة الواقع الداخلي للأشخاص الذين يتسلمون مراكز المسؤولية الكبيرة في القضايا الإسلامية العامّة، ولكن ذلك لا يمنع من التعايش والتعاون في الأمور الأخرى التي يمكن فيها توفير بعض الحماية للأسرار، لأنها لا تتضمن سرّا ولا تمثل خطرا من قريب أو من بعيد.
4. ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ وتحزنهم عندما يرون من لطف الله بكم بما تفتحونه للإسلام من ساحات جديدة وفتح جديد، ﴿وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾ فإذا أصابكم العدوّ بسوء أو هزيمة أو حدث في داخلكم مشكلة أو فتنة، فإنهم يظهرون الشماتة والفرح بذلك، ولكن ذلك كله لا يحقق لهم أيّة غاية مما يريدونها، ولا ينزل بكم شرا لأنهم لا يملكون لكم أيّ ضرر إلا بمشيئة الله.
5. ﴿وَأَنْ تَصْبِرُوا﴾ على هذه المرحلة انتظارا للنتائج الأخيرة التي أعدّها الله لكم بالنصر الذي يحتاج إلى بعض الجهد والوقت، ﴿وَتَتَّقُوا﴾ بالالتزام بأوامره ونواهيه في حالة الحرب والسلم والشدة والرخاء، ﴿لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾، لأن الله هو الذي يملك النفع والضرر فلا يحدث منهما شيء إلا بإذنه، ﴿إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ فلا يغيب عنه شيء من أمرهم أو مخططاتهم، وهو القادر على دفع ذلك عنكم أيها المؤمنون الموحّدون.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/241.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثمّ إنّ الله يذكر علامة أخرى من علائم العداوة الكامنة في صدور الكفّار إذ يقول ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾، ولكن هل تضر هذه العداوة وما يلحقها من ممارسات ومحاولات شريرة بالمسلمين؟ هذا ما يجيب عنه ذيل الآية الحاضرة حيث يقول سبحانه: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾
2. على هذا يستفاد من ذيل هذه الآية أن أمن المسلمين، وسلامة حوزتهم من كيد الأعداء، يتوقف على استقامة المسلمين وحذرهم وتقواهم، ففي مثل هذه الحالة فقط يمكنهم أن يضمنوا أمنهم وسلامتهم من كيد الكائدين.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/664.
65. الاستعداد للقتال والجبناء
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈65⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 121 ـ 122]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عوف:
روي عن عبد الرحمن بن عوف (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن المسور بن مخرمة، أنه قال لعبد الرحمن بن عوف (ت 32 هـ): يا خال، أخبرني عن قصتكم يوم أحد؟ قال: اقرأ بعد العشرين ومائة من آل عمران تجد قصتنا: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ إلى قوله: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ قال هم الذين طلبوا الأمان من المشركين، إلى قوله: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ قال: هو تمني المؤمنين لقاء العدو، إلى قوله: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ قال هو صياح الشيطان يوم أحد: قتل محمد، إلى قوله: ﴿أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ قال ألقي عليهم النوم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾، قال هم الذين طلبوا الأمان من المشركين(2).
__________
(1) أبو يعلى: ٢/١٤٨.
(2) ابن المنذر: ١/٣٥٨.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾، قال يوم أحد(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ﴾، هم بنو حارثة، وبنو سلمة(2).
3. روي أنّه قال: عدد أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر، وكان المهاجرون منهم سبعة وسبعين، وكان الأنصار مائتين وستة وثلاثين(3).
4. روي أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله: ﴿تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، قال توطن المؤمنين لتسكن قلوبهم، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول الأعشى الشاعر(4):
çوما بوأ الرحمن بيتك منزلا... بأجياد غربي الفنا والمحرمé
5. روي أنّه قال: الفشل: الجبن(5).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٦.
(2) ابن جرير: ٦/١٤.
(3) ابن أبي حاتم: ٣/٧٥١.
(4) الطستيُّ في مسائله كما في الإتقان: ٢/١٠٤.
(5) ابن جرير: ٦/١٥.
عروة:
روي عن عروة بن الزبير (ت 94 هـ) أنّه قال: كانت وقعة أحد في شوال، على رأس سنة من وقعة بدر ـ ولفظ عبد الرزاق: على رأس ستة أشهر من وقعة بني النضير ـ، ورئيس المشركين يومئذ أبو سفيان بن حرب(1).
__________
(1) عبد الرزاق في مصنفه: ٩٧٣٥.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ توطن(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٤٨.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ مشى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يومئذ على رجليه يبوئ المؤمنين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾، هم بنو حارثة، وبنو سلمة يوم أحد(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٦.
(2) تفسير مجاهد: ص٢٥٨.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ الآية، قال هما طائفتان من الأنصار هما أن يفشلا، فعصمهم الله، وهزم عدوهم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٤.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، ذلك يوم أحد، غدا نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أهله إلى أحد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال، وأحد بناحية المدينة(1).
2. روي أنّه قال: كانت وقعة أحد في شوال يوم السبت لإحدى عشرة ليلة مضت من شوال، وكان أصحابه يومئذ سبعمائة، والمشركون ألفين أو ما شاء الله من ذلك(2).
3. روي أنّه قال: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ﴾، ذلك يوم أحد، والطائفتان بنو سلمة وبنو حارثة، حيان من الأنصار هموا بأمر فعصمهم الله من ذلك، وقد ذكر لنا: أنه لما أنزلت هذه الآية قالوا: ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا به، وقد أخبرنا الله أنه ولينا(3).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٦.
(2) البيهقي في الدلائل: ٣/٢٠١.
(3) ابن جرير: ٦/١٢.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ معناه تتّخذ لهم مصافا ومعسكرا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿تَفْشَلَا﴾ معناه تضعفا(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 112.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كان يوم أحد يوم بلاء وتمحيص، اختبر الله به المؤمنين، ومحق به المنافقين ممن كان يظهر الإسلام بلسانه وهو مستخف بالكفر، ويوم أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته، فكان مما نزل من القرآن في يوم أحد ستون آية من آل عمران، فيها صفة ما كان في يومه ذلك، ومعاتبة من عاتب منهم، يقول الله لنبيه: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(1).
2. روي أنّه قال: قاتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم بدر في رمضان سنة اثنتين، ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل يوم الخندق ـ وهو يوم الأحزاب وبني قريظة ـ في شوال سنة أربع(2).
3. روي عنه وعن ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم، كل قد حدث بعض الحديث عن يوم أحد: لما أصيبت قريش ـ أو من ناله منهم يوم بدر من كفار قريش ـ ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بعيره، مشى عبد الله ابن أبي ربيعة وعكرمة ابن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان ابن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمدا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينوننا بهذا المال على حربه، لعلنا ندرك منه ثأرا بمن أصاب، ففعلوا، فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وخرجت بحدها وحديدها، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة، ولئلا يفروا، وخرج أبو سفيان وهو قائد الناس، فأقبلوا حتى نزلوا بعينين: جبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة، فلما سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمون ـ بالمشركين ـ قد نزلوا حيث نزلوا؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إني رأيت بقرا تنحر، وأريت في ذباب سيفي ثلما، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها)، ونزلت قريش منزلها أحدا يوم الأربعاء، فأقاموا ذلك اليوم ويوم الخميس ويوم الجمعة، وراح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين صلى الجمعة، فأصبح بالشعب من أحد، فالتقوا يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث، وكان رأي عبد الله بن أبي مع رأي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يرى رأيه في ذلك؛ أن لا يخرج إليهم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يكره الخروج من المدينة، فقال رجال من المسلمين ـ ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته يوم بدر وحضوره ـ: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا؛ لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فقال عبد الله بن أبي: يا رسول الله، أقم بالمدينة، فلا تخرج إليهم، فوالله، ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منهم، فدعهم، يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر، وإن دخلوا قاتلهم النساء والرجال والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا، فلم يزل الناس برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم؛ حتى دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، ثم خرج عليهم وقد ندم الناس، وقالوا: استكرهنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل)، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد تحول عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس، ومضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى سلك في حرة بني حارثة، فذب فرس بذنبه، فأصاب ذباب سيف فاستله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وكان يحب الفأل ولا يعتاف ـ لصاحب السيف: (شم سيفك؛ فإني أرى السيوف ستستل اليوم)، ومضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى نزل بالشعب من أحد من عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وتعبأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للقتال، وهو في سبعمائة رجل، وأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على الرماة عبد الله بن جبير، والرماة خمسون رجلا، فقال: (انضح عنا الخيل بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كان علينا أو لنا فأنت مكانك، لا نؤتين من قبلك)، وظاهر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين درعين(3).
__________
(1) سيرة ابن هشام: ٢/١٠٦.
(2) البيهقي في الدلائل: ٣/٣٩٣.
(3) ابن إسحاق في السير: ١/٣٢٢.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أحد في ألف رجل، وقد وعدهم الفتح إن صبروا، فلما خرج رجع عبد الله بن أبي بن سلول في ثلاثمائة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم، فلما غلبوه وقالوا له: ما نعلم قتالا، ولئن أطعتنا لترجعن معنا، وقال: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾، فهم بنو سلمة وبنو حارثة، هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي، فعصمهم الله، وبقي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في سبعمائة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾، هم بنو سلمة، وبنو حارثة، هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي، فعصمهم الله، وبقي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في سبعمائة(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٣.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾، قال فغدا نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أهله إلى أحد، يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٦.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾، يعني: بني حارثة، وبني سلمة؛ حيين من الأنصار، وكانوا هموا ألا يخرجوا مع رسول الله، فعصمهم الله، وهو قوله: ﴿والله وَلِيُّهُمَا﴾(1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٣١٥.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَنْ تَفْشَلَا﴾، يعني: ترك المركز(1).
2. روي أنّه قال: ﴿والله وَلِيُّهُمَا﴾ حين عصمهما فلم يتركا المركز، وقالوا: ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا إذا كان الله ولينا(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، يعني: فليثق المؤمنون به(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٨.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَنْ تَفْشَلَا﴾ أي: أن يتخاذلا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿والله وَلِيُّهُمَا﴾، أي: المدافع عنهما ما هما به من فشلهما، وذلك أنه إنما كان ذلك منهما عن ضعف ووهن أصابهما، من غير شك أصابهما في دينهما، فتولى دفع ذلك عنهما برحمته وعائدته، حتى سلمتا من وهنهما وضعفهما، ولحقتا بنبيهما صلّى الله عليه وآله وسلّم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، أي: من كان به ضعف من المؤمنين أو وهن فليتوكل علي؛ أعنه على أمره، وأدفع عنه، حتى أبلغ به، وأقويه على نيته(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٤٩.
(2) ابن جرير: ٦/١٥.
(3) ابن المنذر: ١/٣٦٠.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تُبَوِّئُ﴾:
أ. قيل: تهيئ للمؤمنين أمكنة القتال.
ب. وقيل: ﴿تُبَوِّئُ﴾ تنزل المؤمنين.
ج. وقيل: ﴿تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ تتخذ للمؤمنين مقاعد لقتال المشركين.
د. وقيل: ﴿تُبَوِّئُ﴾ توطن.
هـ. وقيل: تستعد للقتال.
و. وكله يرجع إلى واحد.
2. اختلف في أي حرب كان، وأي يوم؟
أ. قال أكثر أهل التفسير: كان ذلك يوم أحد.
ب. وقيل: إنه كان يوم الخندق.
ج. وقيل: كان يوم الأحزاب.
د. لا يعلم ذلك إلا بخبر يصح أنه كان يوم كذا.
3. في ذلك أن الأئمة هم الذين يتولون أمر العساكر، ويختارون لهم المقاعد، وعليهم تعاهد إخوانهم، ودفع الخلل والضياع عنهم ما احتمل وسعهم، وعليهم طاعة الأئمة، وقبول الإشارة من الإمام، وذلك في قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59] ذكر مقاعد القتال في هذه الآية، لكن الذي لزم من ذلك في آية أخرى ـ ذكر الصف بقوله عزّ وجل: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف: 4]، وذكر في آية أخرى الثبات بقوله عزّ وجل: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا﴾ [الأنفال: 45] والأصل أنهم أمروا بالثبات، فالأحسن أن يختار لهم أمكنة لهم بها معونة على الثبات، والله أعلم، فيحتمل أن يكون أراد بالمقاعد القعود، وذلك أثبت للقتال وأدفع للعدو، وفيما ذكر الصف ذكر للجملة عليه بقوله عزّ وجل: ﴿إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ [الأنفال: 15، 16] فيه رخصة الحملة على العدو، وباجتهاد إن كان فيها تولى الأدبار.
4. يحتمل أن يكون أراد بالمقاعد: الأماكن والمواطن للقتال والحرب.
5. قوله تعالى: ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: سميع لمقالتكم؛ عليم بسرائركم.
ب. ويحتمل: سميع بذكركم الله والدعاء له؛ لأنهم أمروا بالذكر لله، والثبات للعدوّ بقوله عزّ وجل: ﴿فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا﴾ [الأنفال: 45]، وعليم بثوابكم.
ج. ويحتمل قوله: ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ البشارة من الله عزّ وجل بالنصر لهم، والأمن من ضرر يلحقهم؛ كقوله تعالى لموسى وهارون: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى﴾ ثم قال عزّ وجل: ﴿قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: 44 ـ 46] أمّنهما من عدوهما بقوله عزّ وجل: ﴿أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ فعلى ذلك يحتمل ذا في قوله عزّ وجل: ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ويكون سميع: أي: أسمع دعاءكم؛ بمعنى: أجيب، وأعلم ما به نصركم وظفركم
6. قوله تعالى: ﴿هَمَّتْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: أن همّوا همّ خطر.
ب. ويحتمل: أن همّوا همّ عزم.
7. كذلك هذا التأويل في قوله: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾ [يوسف: 24] همت هي همّ عزم، وهمّ هو بها همّ خطر، وهمّ الخطر يقع من غير صنع من صاحبه، وهمّ العزم يكون بالعزيمة والقصد.
8. ﴿هَمَّتْ أَنْ تَفْشَلا﴾ والفشل ليس مما ينهي عنه؛ لأنه يقع من غير فعله، لكنه ـ والله أعلم ـ همّوا أن يفعلوا فعل القتل والجبن وذكر في القصة أن الطائفتين:
أ. إحداهما كانت من بنى كذا، والأخرى من بنى كذا، فلا يجب أن يذكر إلا أن يقروا هم بذلك.
ب. وقيل: إنهم كانوا أقروا بذلك، وقالوا: نحن كنا فعلنا، وما نحب ألا يكون في قوله: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ ظهر لنا ولاية الله، ولو لم يكن لم يظهر.
9. ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ قد ذكرنا هذا في غير موضع: أن (الولي):
أ. قيل: هو الناصر.
ب. وقيل: هو الحافظ.
ج. وقيل: إنه أولى بهم.
10. ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ المؤمن من يعلم ـ علم اليقين ـ أن من نصره الله لا يغلبه شيء، ومن يخذله الله لا ينصره شيء، حق على المؤمنين ألا يتوكلوا ولا يثنوا إلا على الله، عزّ وجل.
11. فتوكل: أي اعتمد على ما وعد، واجتهد في الوفاء بما عهده، وفوض كل أمره إلى الله؛ إذ علم أنه ـ بكليته ـ لله، وإليه مرجعه، وبهذه الجملة عهد أن ينصر دينه، ولا يولّي عدوّه دبره.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/467.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ وكان ذلك في يوم أحد أي تتخذ منزلاً يتبوأ فيه المؤمنون ومعنى ذلك ترتب المؤمنين في موضعهم ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ بأقوال المنافقين عليم بما يضمرونه ويجوز أن يكون سميع بما يقوله المؤمنون عليم بما يضمرونه من خلوص النية.
2. ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ قيل: إنهما بنو سلمة وبنو حارثة حيان من الأنصار وقيل إنهم قوم من المهاجرين والأنصار وفي سبب همهم بالفشل أن عبدالله بن أبي بن سلول دعاهم إلى الرجوع عن لقاء المشركين يوم أحد فهما به، وقيل إنهم اختلفوا في الخروج إلى العدو والمقام حتى هموا بالفشل والفشل الجبن.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/151.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ اختلفوا في أي مكان كان على قولين:
أ. أحدهما: أنه كان يوم أحد، وهو قول ابن عباس، والربيع، وقتادة، والسدي، وابن إسحاق.
ب. الثاني: أنه كان يوم الأحزاب، وهو قول الحسن، ومجاهد.
2. ﴿تُبَوِّئُ﴾ أي تتخذ منزلا تبوئ فيه المؤمنين، ومعنى الآية: أنك ترتب المؤمنين في مواضعهم.
3. في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: سميع بما يقوله المنافقون، عليم بما يضمرونه من التهديد.
ب. الثاني: سميع لما يقوله المشيرون عليك، عليم بما يضمرون من نصيح الرأي وغش القلوب.
ج. الثالث: سميع لما يقوله المؤمنون عليم بما يضمرونه من خلوص النية.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ على قولين:
أ. أحدهما: أنهم بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار، وهو قول ابن عباس، وجابر بن عبد الله، والحسن، وقتادة.
ب. الثاني: أنهم قوم من المهاجرين والأنصار.
5. في سبب همّهم بالفشل قولان:
أ. أحدهما: أن عبد الله بن أبي بن سلول دعاهما إلى الرجوع عن لقاء المشركين يوم أحد، فهمّا به ولم يفعلا، وهذا قول السدي، وابن جريج.
ب. الثاني: أنهم اختلفوا في الخروج في الغدو والمقام حتى همّا بالفشل، والفشل الجبن.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/420.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في المعني بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾:
أ. قال ابن عباس، وقتادة والربيع، والسدي، وابن اسحق، وهو قول أبي جعفر عليه السلام: كان غدو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مبوئاً للمؤمنين يوم أحد.
ب. وقال الحسن ومجاهد: كان يوم الأحزاب.
2. النبوءة اتخاذ المواضع لصاحبه وأصلها اتخاذ منزل تسكنه، تقول بوأته منزله أبوئه تبوئة، ومنه المباءات المراح، لأنه رجوع إلى المستقر المتخذ وأبأت الإبل أبيئها اباءة إذا رددتها إلى المباءة، ومنه بوأت بالذنب أي رجعت به محتملا له.
3. في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه تهديد، والمراد ﴿سَمِيعٌ﴾ لما يقول المنافقون ﴿عَلِيمٌ﴾ بما يضمرون.
ب. الثاني: ﴿سَمِيعٌ﴾ لما يقوله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم للمؤمنين ﴿عَلِيمٌ﴾ بما يضمره تزكية له صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ج. الثالث: ﴿سَمِيعٌ﴾ ما يقوله المشيرون عليك ﴿عَلِيمٌ﴾ بما يضمرونه، لأنهم اختلفوا، فمنهم من أشار بالخروج، ومنهم من أشار بالمقام، وفيه تزكية للزاكي وتهدد للغاوي.
4. معنى ﴿تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ مثل تبوئ للمؤمنين حذف اللام، كما قال: ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ ويجوز ردفكم، فإذا عداه، فمعناه رتب المؤمنين على مواضعهم قدمة، وإذا لم يتعد فمعناه تتخذ لهم مواضع، ومثله قول الشاعر:
çاستغفر الله ذنباً لست محصيه...رب العباد إليه الوجه والعملé
ومعناه من ذنب.
5. العامل في ﴿إِذِ﴾ محذوف، وتقديره واذكر إذ غدوت من أهلك فحذف لدلالة الكلام عليه ولا يجوز أن يكون العامل غدوت، لأنه مضاف إليه بمنزلة الصلة له، والتقدير واذكر ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ وقال الزجاج العامل في ﴿إِذِ﴾: ﴿هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ والمعنى كانت التبوئة في ذلك الوقت.
6. اختلف في الطائفتين في قوله تعالى: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾:
أ. قيل: هما بنو سلمة وبنو حارثة حيان من الأنصار في قول ابن عباس، وجابر بن عبد الله، والحسن وقتادة، ومجاهد، والربيع، والسدي، وابن إسحاق، وابن زيد، وأبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام.
ب. وقال الجبائي: هما قوم من المهاجرين، والأنصار.
7. الفشل الجبن في قول ابن عباس تقول فشل يفشل فشلا، والجبن ليس من فعل الإنسان وتحقيقه على هذا همت بحال الفشل إلا أنه وضع كلام موضع كلام، وليس في الآية أن همهما بالفشل كان معصية، لأنه قد يكون من غير عزم على حال الفشل بل بحديث النفس به، ومن قال كان معصية قال هي صغيرة، لقوله ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾، وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال: فينا نزلت وما أحب أنها لم تكن، لقوله: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾
8. اختلف في سبب همهم بالفشل:
أ. في قول السدي، وابن جريج أن عبد الله ابن أبي بن سلول دعاهما إلى الرجوع إلى المدينة عن لقاء المشركين يوم أحد فهما به ولم يفعلاه.
ب. وقال أبو علي: بل كان ذلك باختلافهم في الخروج إلى العدو أو المقام حتى هموا بالفشل.
9. التاء مدغمة في الطاء في قوله: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ﴾ لأنها من مخرجها فصارت بمنزلتها مع مثلها نحو همت تفعل ومثله ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ﴾ ويجوز أيضاً إدغام الطاء في التاء إلا أنك تبقي الاطباق نحو ﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ﴾ والأول أحسن.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/576.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. غدا يغدو غُدُوًّا، والغدو: أول النهار، ومنه ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾، ويقال: غدا فلان يفعل كذا، أي أصبح.
ب. بوأت القوم: وطنتهم وأسكنتهم، وتبوؤوا هم إذا توطنوا، ويجوز تُبَوِّئُ للمؤمن وتُبَؤِّيُ المؤمنَ، كما جاز رَدِفَكُمْ وردف لكم بالتعدية؛ لأنه دخله معنى تُرَتب المؤمنين على مواضعهم، وترك التعدية؛ لأنه دخله معنى يتخذ لهم مواضع.
ج. المقاعد: مواضع القعود، واحدها مقعد، وأصله من القعود.
د. الفشل: الجبن، فَشِلَ يَفْشَل فشلاً، والفَشِل: الرجل الضعيف، والفشل: الضعيف، وفَشِل عن الحرب إذا جبن، والهم: ما هممت به، يقال: هم الرجل بكذا أي قصده وعزم عليه، ومنه ﴿وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾
هـ. التوكل: إظهار العجز والاعتماد على الغير، يقال: تواكل القوم إذا كان يكل بعضهم الأمر إلى بعض.
2. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: إنه لما أمر بالصبر ووعد بالنصر، عقبه بذكر نصره المسلمين يوم بدر وصبرهم على القتال، وذكر بعده امتحانهم في أُحُدٍ لما تركوا الصبر.
ب. وقيل: نَظْمُهُ إن تصبروا وتتقوا ينصركم، ولا يضركم كيدهم كما نصركم ببدر، وإن لم تصبروا ولم تتقوا نزل بكم ما نزل يوم أحد، حيث خالفوا أمر الرسول.
ج. وذكر أبو مسلم أنه يتصل بقوله: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ﴾ ثم بيّن قصة الفئتين في أُحُدٍ.
3. ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ﴾ أي اذكر يا محمد إذ أصبحت فخرجت في أول النهار ﴿مِنْ أَهْلِكَ﴾:
أ. قيل: يوم أحد، عن ابن عباس وقتادة والربيع والسدي، وابن إسحاق والأصم وأبي مسلم، وهو الأصح، قيل: إنه غدا من منزل عائشة فمشى على رجله إلى أُحُدٍ، عن الواقدي ومجاهد.
ب. وقيل: يوم بدر عن الحسن وأبي علي.
ج. وقيل: يوم الأحزاب، عن مجاهد ومقاتل.
4. ﴿تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي تهيئ وتمكن، يعني تمكنهم أماكن يقاتلون فيها، وأصله اتخاذ منزل لصاحب يسكنه، فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يبوئ لهم مواطن ليقفوا فيها ولا يفارقوها ﴿مَقَاعِدَ﴾ أي مواطن وأماكن ﴿لِلْقِتَالِ﴾ وللحرب.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾:
أ. قيل: سميع لما يقوله المنافقون عليم بما يضمرون، وهو تهديد.
ب. وقيل: سميع لما يقوله المؤمنون عليم بما يضمرونه تزكية لهم.
ج. وقيل: سميع بما يشيرون عليك عليم بما يضمرون؛ لأنهم اختلفوا فمنهم من أشار بالخروج، ومنهم من أشار بالمقام، وفيه تزكية للداعي والمؤمنين، وتهديد للكافرين.
6. ﴿إِذْ هَمَّتْ﴾ قصدت وعزمت ﴿طَائِفَتَانِ﴾ فرقتان:
أ. قيل: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة حيان من الأنصار، عن ابن عباس وجابر والحسن وقتادة والربيع والسدي، وابن زيد وابن إسحاق، وكان ذلك في حرب أحد.
ب. وقيل: طائفة من المهاجرين وطائفة من الأنصار قالوا: ما خرجنا لجهاد ولم نأخذ أُهُبَتَهُ وهموا بالانصراف، فعصمهم الله حتى حاربوا، عن أبي علي.
7. ﴿مِنْكُمْ﴾ من المسلمين ﴿أَنْ تَفْشَلَا﴾ أي تَجْبُنَا، واختلفوا في سبب الفشل:
أ. فقيل: إن عبد الله بن أبي دعاهما إلى الرجوع إلى المدينة وترك لقاء المشركين يوم أحد، فقال لهم: على ماذا نقتل أنفسنا، فهمّا به ولم يفعلا، عن السدي وابن جريج.
ب. وقيل: اختلافهم في الخروج إلى الحرب أو المقام؛ لأن بعضهم أشار بالخروج إلى أحد، وبعضهم بالمقام في المدينة، قال أبو علي: ولم تختلف الرغبة عن الجهاد، ولكن أشار كل واحد بما هو الصواب عنده، فعند وقوع التنازع أنزل الله تعالى هذه الآية.
ج. وقيل: إنه كان في حرب بدر اختلفوا؛ لأنهم خرجوا للعير بغير أهبة الحرب، عن أبي علي.
د. وقيل: فشلا بطلب الأمان من المشركين.
8. ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ أي ناصرهما ويواليهما ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، أي يكل أمورهم إليه.
9. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يهيّئ المقام لأصحابه، ويأمر كل أحد بالوقف في موضع.
ب. أن همهما بالفشل لم يكن كبيرة؛ لأنه قال: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ ولهذا قلنا: إن الصحيح أنهما لم يعزما على ترك الجهاد، ولكن قال أحدهما: الصواب في الخروج، وقال آخرون: الصواب في المقام، فأشار كل واحد بما هو الصلاح عنده.
ج. أن الواجب في الجهاد وغيره من الأحوال التوكل عليه تعالى.
د. أنه كان منهم هَمّ، ثم اختلفوا:
• فقيل: كان حديث النفس.
• وقيل: كان عزمًا وكان صغيرة.
• وقيل: كانت بمشاورة على ما بينا، عن أبي علي.
• وقيل: إنهم أشاروا بالخروج وحملوه عليه فدخل ولبس لْأمَتَهُ، فلما خرج ندموا فاعتذروا، فقال: ما كان لنبي أن يلبس لأمته ثم يضعها حتى يقاتل) فأخرجهم.
10. قصة ذلك على ما روى أبو إسحاق والسدي والواقدي والأصم وابن جرير وغيرهم حديث أُحُد، وزاد بعضهم ونقص آخر، ودخل حديث بعضهم في بعض، وجملة حديث أحد: أن المشركين نزلوا بأحد ورئيسهم أبو سفيان، ومعه امرأته هند، وجماعة من نساء مكة، وقد جاءوا لطلب دَخَلِ بدر، يوم الأربعاء في شوال سنة ثلاث من الهجرة، واستشار النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه، وقال: رأيت رؤيا كأن عليَّ درعا فأولتها المدينة، وكأن في ذُبابِ سيفي ثُلْمَةً، فأولتها هزيمة)، واختلفت الأنصار فقالت جماعة: أقيموا حتى يأتيكم عدوكم فتقتلوهم فيها، وبعضهم أشار بالخروج، وكان قوم لم يشهدوا بدرًا وحرصوا على الجهاد، فكثر منهم الحث على الخروج، فدخل ولبس لأْمَتَهُ، وخرج يوم الجمعة بعدما صلى الجمعة، وأصبح بالشِّعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة، وقيل: كان في ألف رجل، وقيل: في سبعمائة وخمسين، وقيل: ثلاثة آلاف، عن الزجاج، وخرجوا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: فرأى في منامه أن بقرًا تنحر، فَأَوَّلها مصيبة على أصحابه، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنكم ستلقون عدوكم، فإذا عاينوكم ولوا الأدبار فلا تطلبوا المدبرين، ولا تدعوا مصافكم) واختلفت الرواية، فقيل: إن عبد الله بن أُبَيٍّ اعتزل بثلث الناس، وهمت هاتان الطائفتان، وعصمهما الله فلم ينصرفوا، وذكر الأصم أن عبد الله بن أبي قال لأصحابه: إنما يظفر بعدوه بكم، وقد وعد أصحابه أنهم إذا عاينوهم انهزموا، فإذا رأيتموهم فانهزموا، فإن محمدًا وأصحابه سيتبعونكم ليكون الأمر على غير ما قال، وفيه نزل ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ﴾ فلما التقى الفئتان انهزم عدو الله في أصحابه، وثبت المؤمنون، فهزم الله تعالى المشركين، وترك المؤمنون مصافهم، فلما خالفوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كر عليهم المشركون، وانهزم المسلمون، وظاهر القرآن أنهم قريبون منه لقوله: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ ثم قال: ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ وكُسِرت رباعيته، وشج في وجهه، وضُربت يد طلحة وهو بين يديه، فشلَّتْ، وجبريل واقف بين يديه، فنادوا: يا أنصار الله، فرجع المهاجرون والأنصار، وقد قُتِلَ من المسلمين سبعون، وشد رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم بمن معه حتى كشفهم، قال الأصم: وزعم بعضهم أن ابن أُبي رجع بأصحابه حين رأى هزيمة المشركين للغنيمة، فلما كر المشركون نزل به وبأصحابه الجراح والقتل، وصلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على قتلى أحد ولم يغسلهم ودفنهم، وكان القتال يوم السبت، وكان الكفار مثلوا بجماعة، وكان حمزة أعظمهم مثلة، وممن وقف مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليّ والعباس وطلحة وأبو بكر وسعد ابن أبي وقاص، وكان يرمي بين يديه، وهو يقول: ارم فداك أبي وأمي، وعلي يقاتل بين يديه حتى قال جبريل ـ صلى الله عليه ـ: هذه هي المواساة، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (عليّ مني وأنا منه)، وروي أنه في أُحُدٍ سُمِعَ:
çلا سَيْفَ إلا ذو الفَقَارِ... ولا فتًى إلا عَلِيّé
11. قراءات ووجوه:
أ. قرأ العامة ﴿تُبَوِّئُ﴾ بالتشديد والهمز من قولهم: بَوَّأْتُهُ منزلاً أي أسكنته، وعن يحيى بن وثاب ﴿تُبَوِّئُ﴾ بالتخفيف غير مهموز من أَبْوَي يُبْوِى إِبْوَاء نحو: أوْوَى يُرْوِي إرواء، والأول أفصح وأظهر، ومنه ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وعن ابن مسعود ﴿تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي تهيئ لهم مواطن.
ب. قراءة العامة ﴿لِلْقِتَالِ﴾، وعن أشهب العقيلي ﴿مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾
ج. قراءة العامة ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ على التثنية، كناية عن الطائفتين، وعن ابن مسعود ﴿وَلِيُّهُمُ﴾؛ لأن الطائفتين جمع كقوله: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا﴾
12. مسائل لغوية ونحوية:
أ. اختلف في العامل في ﴿إِذِ﴾:
• قيل: محذوف تقديره: واذكروا إذ غدوت، فحذف الفعل لدلالة الكلام عليه عن أكثر النحاة.
• وقيل: هو عطف على ما تقدم في السورة من قوله: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ﴾ وتقديره: قد كان لكم آية في نصرة تلك الطائفة القليلة على الطائفة الكثيرة إذ غدا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن أبي مسلم.
• وقيل: العامل فيه قوله: ﴿مُحِيطٌ﴾ تقديره: والله بما تعلمون محيط، أي عالم بأحوالك وأحوالهم إذ غدوت، وإذ هَمّت لما مضى، ويجعل المستقبل ماضيًا، كقوله: ﴿إِذْ تَقُولُ﴾ يعني قلت، و﴿إِذَا﴾: توقيت للمستقبل، ويجعل الماضي مستقبلاً كقوله: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾
ب. ﴿تُبَوِّئُ﴾ حال من إذ غدوت، تقديره: وإذ غدوت مبوئًا للمؤمنين، فيكون محله نصبًا.
ج. ﴿هَمَّتْ طَائِفَتَانِ﴾ التاء مدغم في الطاء؛ لأنها من مخرجها، فصارت بمنزلتها، والتاء ساكنة، فلا بد من الإدغام نحو: همت تفعل، وقالت طائفة، ويجوز إدغام الطاء فيها إلا أنه ينفى الإطباق نحو ﴿أَحَطْتُ بِمَا﴾
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/364.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. التبوءة: اتخاذ الموضع للغير، يقال: بوأت القوم منازلهم، وبوأت لهم أيضا أي: أوطنتهم وأسكنتهم إياها، تبوأوهم أي: توطنوا، ومنه المباءة: المراح، لأنه رجوع إلى المستقر المتخذ، ومنه بوأت بالذنب أي: رجعت به محتملا له.
ب. الفشل: الجبن، يقال فشل يفشل فشلا والفشل: الرجل الضعيف.
2. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: لما أمر تعالى بالصبر في قوله ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾ عقبه بنصرة المسلمين يوم بدر، وصبرهم على القتال، ثم ذكر امتحانهم يوم أحد لما تركوا الصبر.
ب. وقيل: نظمه وان تصبروا ينصركم كما نصركم يوم بدر، وإن لم تصبروا نزل بكم ما نزل يوم أحد حيث خالفتم أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ج. وذكر أبو مسلم انه متصل بقوله ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ﴾ كما تقدم ذكره.
3. ﴿و﴾ اذكر يا محمد ﴿إذ غدوت من أهلك﴾ أي: خرجت من المدينة غدوة ﴿تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ﴾ أي تهئ للمؤمنين مواطن ﴿لِلْقِتَالِ﴾ وقيل: معناه تجلسهم وتقعدهم في مواضع القتال، ليقفوا فيها، ولا يفارقوها، واختلف في أي يوم كان ذلك:
أ. فقيل: يوم أحد، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
ب. وقيل: كان يوم الأحزاب، عن مقاتل.
ج. وقيل: يوم بدر عن الحسن.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
أ. قيل: ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ﴾ أي: يسمع ما يقوله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿عَلِيمٌ﴾ بما يضمرونه، لأنهم اختلفوا، فمنهم من أشار بالخروج، ومنهم من أشار بالمقام، وفيه تزكية للزاكي، وتهديد للغاوي.
ب. وقيل: سميع بقول المشيرين على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، عليهم بضمائرهم.
ج. وقيل: سميع بجميع المسموعات، عليم بجميع المعلومات.
5. ﴿إِذْ هَمَّتْ﴾ أي: قصدت وعزمت ﴿طَائِفَتَانِ﴾ أي: فرقتان ﴿مِنْكُمْ﴾ أي: من المسلمين ﴿أَنْ تَفْشَلَا﴾ أي: تجبنا، والطائفتان هما:
أ. قيل: بنو سلمة، وبنو حارثة، حيان من الأنصار، عن ابن عباس، وجابر بن عبد الله، والحسن وقتادة ومجاهد والربيع، وأبي جعفر عليه السلام، وأبي عبد الله عليه السلام.
ب. وقال الجبائي: نزلت في طائفة من المهاجرين، وطائفة من الأنصار، وكان سبب همهم بالفشل أن عبد الله بن أبي سلول، دعاهما إلى الرجوع إلى المدينة، عن لقاء المشركين يوم أحد، فهما به، ولم يفعلاه.
6. ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ أي: ناصرهما، روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: فينا نزلت، وما أحب انها لم تكن، لقوله: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾
7. قال بعض المحققين: هذا هم خطرة، لا هم عزيمة، لان الله تعالى مدحهما، وأخبر أنه وليهما، ولو كان هم عزيمة وقصد، لكان ذمهم أولى من مدحهم.
8. ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ في جميع أحوالهم وأمورهم.
9. ذكر غزوة أحد: عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: كان سبب غزوة أحد أن قريشا لما رجعت من بدر إلى مكة، وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر، لأنه قتل منهم سبعون، وأسر سبعون، قال أبو سفيان: يا معشر قريش! لا تدعوا نساءكم يبكين على قتلاكم، فان الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والعداوة لمحمد، فلما غزوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد، أذنوا لنسائهم في البكاء والنوح، وخرجوا من مكة في ثلاثة آلاف فارس، وألفي راجل، وأخرجوا معهم النساء، فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك، جمع أصحابه، وحثهم على الجهاد، فقال عبد الله بن أبي سلول: يا رسول الله! لا نخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها، فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة، على أفواه السكك، وعلى السطوح، فما أرادها قوم قط فظفروا بنا، ونحن في حصوننا، ودروبنا، وما خرجنا إلى عدو لنا قط، الا كان الظفر لهم علينا، فقام سعد بن معاذ وغيره من الأوس فقالوا: يا رسول الله! ما طمع فينا أحد من العرب، ونحن مشركون نعبد الأصنام، فكيف يطمعون فينا وأنت فينا، لا حتى نخرج إليهم فنقاتلهم، فمن قتل منا كان شهيدا، ومن نجا منا كان قد جاهد في سبيل الله، فقبل رسول الله رأيه، وخرج مع نفر من أصحابه يتبوأون موضع القتال، كما قال تعالى ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ الآية، وقعد عنه عبد الله بن أبي سلول، وجماعة من الخزرج اتبعوا رأيه، ووافت قريش إلى أحد، وكان رسول الله عبأ أصحابه، وكانوا سبع مائة رجل، ووضع عبد الله بن جبير في خمسين من الرماة على باب الشعب، وأشفق أن يأتي كمينهم من ذلك المكان، فقال لعبد الله بن جبير وأصحابه: ان رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة، فلا تبرحوا من هذا المكان، وان رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا والزموا مراكزكم، ووضع أبو سفيان خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا وقال: إذا رأيتمونا قد اختلطنا، فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم، وعبأ رسول الله أصحابه، ودفع الراية إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وحمل الأنصار على مشركي قريش، فانهزموا هزيمة قبيحة، ووقع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في سوادهم، وانحط خالد بن الوليد في مائتي فارس، على عبد الله بن جبير، فاستقبلوهم بالسهام، فرجع، ونظر أصحاب عبد الله بن جبير إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ينتهبون سواد القوم، فقالوا لعبد الله بن جبير: قد غنم أصحابنا ونبقى نحن بلا غنيمة؟ فقال لهم عبد الله: اتقوا الله فان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد تقدم الينا أن لا نبرح، فلم يقبلوا منه، وأقبلوا ينسل رجل فرجل حتى أخلوا مراكزهم، وبقي عبد الله بن جبير في اثني عشر رجلا، وكانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدي، من بني عبد الدار، فقتله علي عليه السلام، وأخذ الراية أبو سعد بن أبي طلحة، فقتله علي، وسقطت الراية فأخذها مسافع بن أبي طلحة فقتله علي، حتى قتل تسعة نفر من بني عبد الدار، حتى صار لواؤهم إلى عبد لهم أسود يقال له ثواب، فانتهى إليه علي عليه السلام فقطع يده اليمنى، فأخذ اللواء باليسرى، فضرب يسراه فقطعها، فاعتنقها بالجذماوين إلى صدره، ثم التفت إلى أبي سفيان فقال: هل أعذرت في بني عبد الدار؟ فضربه علي على رأسه فقتله، وسقط اللواء فأخذتها عمرة بنت علقمة الكنانية فرفعتها، وانحط خالد بن الوليد على عبد الله بن جبير، وقد فر أصحابه، وبقي في نفر قليل، فقتلهم على باب الشعب، ثم أتى المسلمين من أدبارهم، ونظرت قريش في هزيمتها إلى الراية قد رفعت، فلاذوا بها، وانهزم أصحاب رسول الله هزيمة عظيمة، وأقبلوا يصعدون في الجبال، وفي كل وجه، فلما رأى رسول الله الهزيمة كشف البيضة عن رأسه وقال: إلي أنا رسول الله، إلي أين تفرون عن الله تعالى، وعن رسوله! وكانت هند بنت عتبة في وسط العسكر، فكلما انهزم رجل من قريش، دفعت إليه ميلا ومكحلة، وقالت: إنما أنت امرأة فاكتحل بهذا، وكان حمزة بن عبد المطلب يحمل على القوم فإذا رأوه انهزموا، ولم يثبت له أحد، وكانت هند قد أعطت وحشيا عهدا لئن قتلت محمدا، أو عليا، أو حمزة، لأعطينك كذا وكذا، وكان وحشي عبدا لجبير بن مطعم حبشيا، فقال وحشي: أما محمد فلم أقدر عليه وأما علي فرأيته حذرا كثير الالتفات، فلا مطمع فيه، فكمنت لحمزة فرأيته يهد الناس هدا، فمر بي فوطئ على جرف نهر، فسقط، وأخذت حربتي فهززتها ورميته بها، فوقعت في خاصرته، وخرجت من ثنته فسقط، فأتيته فشققت بطنه، وأخذت كبده، وجئت به إلى هند، فقلت: هذه كبد حمزة، فأخذتها في فمها، فلاكتها، فجعله الله في فمها مثل الداعضة: وهي عظم رأى الركبة، فلفظتها ورمت بها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: فبعث الله ملكا فحمله، ورده إلى موضعه، قال: فجاءت إليه فقطعت مذاكيره، وقطعت أذنيه، وقطعت يده ورجله، ولم يبق مع رسول الله الا أبو دجانة سماك بن خرشة، وعلي، فكلما حملت طائفة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم استقبلهم علي، فدفعهم عنه، حتى تقطع سيفه، فدفع إليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سيفه ذا الفقار، وانحاز رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى ناحية أحد، فوقف، وكان القتال من وجد واحد، فلم يزل علي عليه السلام يقاتلهم حتى أصابه في رأسه ووجهه ويديه وبطنه ورجليه، سبعون جراحة، كذا أورده علي بن إبراهيم في تفسيره، فقال جبرائيل: ان هذه لهي المواساة يا محمد، فقال محمد: انه مني وأنا منه، فقال جبرائيل: وأنا منكما، قال أبو عبد الله: نظر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى جبرائيل بين السماء والأرض، على كرسي من ذهب، وهو يقول: لا سيف الا ذو الفقار، ولا فتى الا علي.
10. وروى ابن أبي إسحاق والسدي والواقدي وابن جرير وغيرهم قالوا: كان المشركون نزلوا بأحد يوم الأربعاء، في شوال، سنة ثلاث من الهجرة، وخرج رسول الله إليهم يوم الجمعة، وكان القتال يوم السبت، للنصف من الشهر، وكسرت رباعية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وشج في وجهه، ثم رجع المهاجرون والأنصار بعد الهزيمة، وقد قتل من المسلمين سبعون، وشد رسول الله بمن معه حتى كشفهم، وكان الكفار مثلوا بجماعة، وكان حمزة أعظم مثلة، وضربت يد طلحة فشلت، وسعد بن أبي وقاص كان يرمي بين يديه، وهو عليه السلام يقول: ارم فداك أبي وأمي.
11. مسائل لغوية ونحوية:
أ. العامل في ﴿إِذِ﴾:
• محذوف، وتقديره واذكر إذ غدوت.
• وقيل: هو عطف على ما تقدم في السورة من قوله: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا﴾ أي: في نصرة تلك الطائفة القليلة على الطائفة الكثيرة، إذ غدا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن أبي مسلم.
• وقيل: العامل فيه قوله ﴿مُحِيطٌ﴾ وتقديره والله عالم بأحوالكم وأحوالهم (إذ غدوت من أهلك)
ب. ﴿تُبَوِّئُ﴾: حال من ﴿غَدَوْتَ﴾
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/824.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ قال المفسرون: في هذا الكلام تقديم وتأخير، تقديره: ولقد نصركم الله ببدر، وإذ غدوت من أهلك.
2. تبوّئ: قال ابن قتيبة: تبوّئ، من قولك: بوّأتك منزلا: إذا أفدتك إياه، أو أسكنتكه، ومعنى مقاعد للقتال: المعسكر والمصاف.
3. اختلفوا في أيّ يوم كان ذلك، على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه يوم أحد، قاله عبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، وابن عباس، والزّهريّ، وقتادة والسّدّيّ، والرّبيع وابن إسحاق، وذلك أنه خرج يوم أحد من بيت عائشة إلى أحد، فجعل يصفّ أصحابه للقتال.. قال ابن جرير: وهو الأصحّ، لقوله تعالى: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ وقد اتّفق العلماء أن ذلك كان يوم أحد.
ب. الثاني: أنه يوم الأحزاب، قاله الحسن، ومجاهد، ومقاتل.
ج. الثالث: يوم بدر نقل عن الحسن أيضا.
4. ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ قال أبو سليمان الدّمشقيّ: سميع لمشاورتك إيّاهم في الخروج، ومرادهم للخروج؛ عليم بما يخفون من حبّ الشهادة.
5. ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ﴾ قال الزجاج: كانت التبوئة في ذلك الوقت، وتفشلا: تجبنا، وتخورا، ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾، أي: ناصرهما:
أ. قال جابر بن عبد الله: نحن هم بنو سلمة، وبنو حارثة، وما نحبّ أن لو لم يكن ذلك لقول الله: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾
ب. وقال الحسن: هما طائفتان من الأنصار همّتا بذلك، فعصمهما الله، وقيل: لمّا رجع عبد الله بن أبيّ في أصحابه يوم أحد، همّت الطّائفتان باتّباعه، فعصمهما الله.
6. التّوكل، قال ابن عباس: هو الثّقة بالله، وقال ابن فارس: هو إظهار العجز في الأمر والاعتماد على غيرك، ويقال: فلان وكلة تكلة، أي: عاجز، يكل أمره إلى غيره، وقال غيره: هو تفعّل من الوكالة، يقال: وكلت أمري إلى فلان فتوكّل به، أي: ضمنه، وقام به، وأنا متوكّل عليه، وقال بعضهم: هو تفويض الأمر إلى الله ثقة بحسن تدبيره.
__________
(1) زاد المسير: 1/320.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما قال الله تعالى ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ [آل عمران: 120] أتبعه بما يدلهم على سنة الله تعالى فيهم في باب النصرة والمعونة ودفع مضار العدو إذا هم صبروا واتقوا، وخلاف ذلك فيهم إذا لم يصبروا فقال: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ يعني أنهم يوم أحد كانوا كثيرين للقتال، فلما خالفوا أمر الرسول انهزموا، ويوم بدر كانوا قليلين غير مستعدين للقتال فلما أطاعوا أمر الرسول غلبوا واستولوا على خصومهم، وذلك يؤكد قولنا، وفيه وجه آخر وهو أن الانكسار يوم أحد إنما حصل بسبب تخلف عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، وذلك يدل على أنه لا يجوز اتخاذ هؤلاء المنافقين بطانة.
2. في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ ثلاثة أوجه:
أ. الأول: تقديره واذكر إذ غدوت.
ب. الثاني: قال أبو مسلم: هذا كلام معطوف بالواو على قوله: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾ [آل عمران: 13] يقول: قد كان لكم في نصر الله تلك الطائفة القليلة من المؤمنين على الطائفة الكثيرة من الكافرين موضع اعتبار لتعرفوا به أن الله ناصر المؤمنين، وكان لهم مثل ذلك من الآية إذ غدا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال.
ج. الثالث: العامل فيه محيط: تقديره والله بما يعملون محيط وإذ غدوت.
3. اختلفوا في أن هذا اليوم أي يوم هو؟
أ. فالأكثرون: أنه يوم أحد: وهو قول ابن عباس والسدي وابن إسحاق والربيع والأصم وأبي مسلم.. حجة من قال بهذا وجوه:
أ. الأول: أن أكثر العلماء بالمغازي زعموا أن هذه الآية نزلت في وقعة أحد.
ب. الثاني: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ﴾ [آل عمران: 123] والظاهر أنه معطوف على ما تقدم، ومن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه، وأما يوم الأحزاب، فالقوم إنما خالفوا أمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد لا يوم الأحزاب، فكانت قصة أحد أليق بهذا الكلام لأن المقصود من ذكر هذه القصة تقرير قوله: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ فثبت أن هذا اليوم هو يوم أحد.
ج. الثالث: أن الانكسار واستيلاء العدو كان في يوم أحد أكثر منه في يوم الأحزاب لأن في يوم أحد قتلوا جمعا كثيرا من أكابر الصحابة ولم يتفق ذلك يوم الأحزاب فكان حمل الآية على يوم أحد أولى.
ب. وقيل: إنه يوم بدر، وهو قول الحسن.
ج. وقيل إنه يوم الأحزاب وهو قول مجاهد ومقاتل.
4. روي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره فقال عبد الله وأكثر الأنصار: يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم والله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخل عدو علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر موضع وإن دخلوا قتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خائبين وقال آخرون: أخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب لئلا يظنوا أنا قد خفناهم، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إني قد رأيت في منامي بقرا تذبح حولي فأولتها خيرا ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأوليه هزيمة ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم) فقال قوم من المسلمين من الذين فاتتهم (بدر) وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد أخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا به حتى دخل فلبس لأمته، فلما لبس ندم القوم، وقالوا: بئسما صنعنا نشير على رسول الله والوحي يأتيه، فقالوا له اصنع يا رسول الله ما رأيت، فقال: (لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل) فخرج يوم الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال، فمشى على رجليه وجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدرا خارجا قال له تأخر، وكان نزوله في جانب الوادي، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وأمر عبد الله بن جبير على الرماة، وقال: ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم لأصحابه: اثبتوا في هذا المقام، فإذا عاينوكم ولوكم الأدبار، فلا تطلبوا المدبرين ولا تخرجوا من هذا المقام، ثم إن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لما خالف رأي عبد الله بن أبي شق عليه ذلك، وقال: أطاع الولدان وعصاني، ثم قال لأصحابه: إن محمداً إنما يظفر بعدوه بكم، وقد وعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا، فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا فيتبعوكم، فيصير الأمر على خلاف ما قاله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما التقى الفريقان انهزم عبد الله بالمنافقين، وكان جملة عسكر المسلمين ألفاً، فانهزم عبد الله بن أبي مع ثلاثمائة، فبقيت سبعمائة، ثم قواهم الله مع ذلك حتى هزموا المشركين، فلما رأى المؤمنون انهزام القوم، وكان الله تعالى بشرهم بذلك، طمعوا أن تكون هذه الواقعة كواقعة بدر، فطلبوا المدبرين وتركوا ذلك الموضع، وخالفوا أمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد أن أراهم ما يحبون، فأراد الله تعالى أن يفطمهم عن هذا الفعل لئلا يقدموا على مخالفة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وليعلموا أن ظفرهم إنما حصل يوم بدو ببركة طاعتهم لله ولرسوله، ومتى تركهم الله مع عدوهم لم يقوموا لهم فنزع الله الرعب من قلوب المشركين، فكثر عليهم المشركون وتفرق العسكر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما قال تعالى: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ [آل عمران: 153] وشج وجه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وكسرت رباعيته وشلت يد طلحة دونه، ولم يبق معه إلا أبو بكر وعلي والعباس وسعد، ووقعت الصيحة في العسكر أن محمداً قد قتل، وكان رجل يكنى أبا سفيان من الأنصار نادى الأنصار وقال: هذا رسول الله، فرجع إليه المهاجرون والأنصار، وكان قتل منهم سبعون وكثر فيهم الجراح، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (رحم الله رجلًا ذب عن إخوانه) وشد على المشركين بمن معه حتى كشفهم عن القتلى والجرحى.
5. المقصود من القصة أن الكفار كانوا ثلاثة آلاف والمسلمون كانوا ألفاً وأقل، ثم رجع عبد الله بن أبي مع ثلاثمائة من أصحابه فبقي الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مع سبعمائة، فأعانهم الله حتى هزموا الكفار، ثم لما خالفوا أمر الرسول واشتغلوا بطلب الغنائم انقلب الأمر عليهم وانهزموا ووقع ما وقع، وكل ذلك يؤكد قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ [آل عمران: 120] وأن المقبل من أعانه الله، والمدبر من خذله الله.
6. ﴿تُبَوِّئُ﴾ يقال: بوأته منزلًا وبوأت له منزلًا أي أنزلته فيه، والمباءة والباءة المنزل، ﴿مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ أي مواطن ومواضع، وقد اتسعوا في استعمال المقعد والمقام بمعنى المكان، ومنه قوله تعالى: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ [القمر: 55] وقال: ﴿قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ﴾ [النمل: 39] أي من مجلسك وموضع حكمك وإنما عبر عن الأمكنة هاهنا بالمقاعد لوجهين:
أ. الأول: وهو أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أمرهم أن يثبتوا في مقاعدهم لا ينتقلوا عنها، والقاعد في مكان لا ينتقل عنه فسمى تلك الأمكنة بالمقاعد، تنبيهاً على أنهم مأمورون بأن يثبتوا فيها ولا ينتقلوا عنها البتة.
ب. الثاني: أن المقاتلين قد يقعدون في الأمكنة المعينة إلى أن يلاقيهم العدو فيقوموا عند الحاجة إلى المحاربة فسميت تلك الأمكنة بالمقاعد لهذا الوجه.
7. العامل في قوله تعالى: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ﴾ وجوه:
أ. الأول: قال الزجاج: العامل فيه التبوئة، والمعنى كانت التبوئة في ذلك الوقت.
ب. الثاني: العامل فيه قوله: ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
ج. الثالث: يجوز أن يكون بدلًا من ﴿إِذْ غَدَوْتَ﴾
8. الطائفتان حيان من الأنصار: بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس لما انهزم عبد الله بن أبي همت الطائفتان باتباعه، فعصمهم الله، فثبتوا مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن العلماء من قال إن الله تعالى أبهم ذكرهما وستر عليهما، فلا يجوز لنا أن نهتك ذلك الستر.
9. سؤال وإشكال: الهم بالشيء هو العزم، فظاهر الآية يدل على أن الطائفتين عزمتا على الفشل والترك وذلك معصية فكيف بهما أن يقال والله وليهما؟ والجواب: الهم قد يراد به العزم، وقد يراد به الفكر، وقد يراد به حديث النفس، وقد يراد به ما يظهر من القول الدال على قوة العدو وكثرة عدده ووفور عدده، لأن أي شيء ظهر من هذا الجنس صح أن يوصف من ظهر ذلك منه بأنه هم بأن يفشل من حيث ظهر منه ما يوجب ضعف القلب، فكان قوله: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ لا يدل على أن معصية وقعت منهما، وأيضاً فبتقدير أن يقال: إن ذلك معصية لكنها من باب الصغائر لا من باب الكبائر، بدليل قوله تعالى: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ فإن ذلك الهم لو كان من باب الكبائر لما بقيت ولاية الله لهما.
﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ قرأ عبد الله ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ كقوله: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ [الحجرات: 9]، وفي المعنى وجوه:
أ. الأول: أن المراد منه بيان أن ذلك الهم ما أخرجهما عن ولاية الله تعالى.
ب. الثاني: كأنه قيل: الله تعالى ناصرهما ومتولي أمرهما فكيف يليق بهما هذا الفشل وترك التوكل على الله تعالى؟
ج. الثالث: فيه تنبيه على أن ذلك الفشل إنما لم يدخل في الوجود لأن الله تعالى وليهما فأمدهما بالتوفيق والعصمة، والغرض منه بيان أنه لولا توفيقه سبحانه وتسديده لما تخلص أحد عن ظلمات المعاصي، ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى بعده هذه الآية ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾
10. سؤال وإشكال: ما معنى ما روي عن بعضهم عند نزول هذه الآية أنه قال: والله ما يسرنا أنا لم نهم بما همت الطائفتان به، وقد أخبرنا الله تعالى بأنه وليهما؟ والجواب: معنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية، وأن تلك الهمة ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى.
11. ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ التوكل: تفعل، من وكل أمره إلى فلان إذا اعتمد فيه كفايته عليه ولم يتوله بنفسه، وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يدفع الإنسان ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على الله، وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك التوكل.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/345.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ العامل في ﴿إِذِ﴾ فعل مضمر تقديره: واذكر إذ غدوت، يعني خرجت بالصباح، ﴿مِنْ أَهْلِكَ﴾ من منزلك من عند عائشة.
2. ﴿تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ هذه غزوة أحد وفيها نزلت هذه الآية كلها، وقال مجاهد والحسن ومقاتل والكلبي: هي غزوة الخندق، وعن الحسن أيضا يوم بدر، والجمهور على أنها غزوة أحد، يدل عليه قوله تعالى: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ [آل عمران] وهذا إنما كان يوم أحد، وكان المشركون قصدوا المدينة في ثلاثة آلاف رجل ليأخذوا بثأرهم في يوم بدر، فنزلوا عند أحد على شفير الوادي بقناة مقابل المدينة، يوم الأربعاء الثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة، على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة، فأقاموا هنالك يوم الخميس والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمدينة، فرأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في منامه أن في سيفه ثلمة، وأن بقرا له تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة، فتأولها أن نفرا من أصحابه يقتلون، وأن رجلا من أهل بيته يصاب، وأن الدرع الحصينة المدينة، أخرجه مسلم، فكان كل ذلك على ما هو معروف مشهور من تلك الغزاة، وأصل التبوء اتخاذ المنزل، بوأته منزلا إذا أسكنته إياه، ومنه قول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) أي ليتخذ فيها منزلا، فمعنى ﴿تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ تتخذ لهم مصاف، وذكر البيهقي من حديث أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: رأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشا وكأن ضبة سيفي انكسرت فأولت أني أقتل كبش القوم وأولت كسر ضبة سيفي قتل رجل من عترتي، فقتل حمزة وقتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم طلحة، وكان صاحب اللواء، وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب: وكان حامل لواء المهاجرين رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: أنا عاصم إن شاء الله لما معي، فقال له طلحة بن عثمان أخو سعيد ابن عثمان اللخمي: هل لك يا عاصم في المبارزة؟ قال نعم، فبدره ذلك الرجل، فضرب بالسيف على رأس طلحة حتى وقع السيف في لحيته فقتله، فكان قتل صاحب اللواء تصديقا لرؤيا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (كأني مردف كبشا)
3. العامل في إذ ﴿تَبُوءَ﴾ أو ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، والطائفتان: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر يوم أحد، ومعنى ﴿أَنْ تَفْشَلَا﴾ أن تجبنا، وفي البخاري عن جابر قال: فينا نزلت إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل، لقول الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا﴾، وقيل: هم بنو الحارث وبنو الخزرج وبنو النبيت، والنبيت هو عمرو بن مالك من بني الأوس، والفشل عبارة عن الجبن، وكذلك هو في اللغة.
4. الهم من الطائفتين كان بعد الخروج لما رجع عبد الله بن أبي بمن معه من المنافقين فحفظ الله قلوبهم فلم يرجعوا، فذلك قوله تعالى: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ يعني قلوبهما عن تحقيق هذا الهم، وقيل: أرادوا التقاعد عن الخروج، وكان ذلك صغيرة منهم، وقيل: كان ذلك حديث نفس منهم خطر ببالهم فأطلع الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم عليه فازدادوا بصيرة، ولم يكن ذلك الخور مكتسبا لهم فعصمهم الله، وذم بعضهم بعضا، ونهضوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فمضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى أطل على المشركين، وكان خروجه من المدينة في ألف، فرجع عنه عبد الله بن أبي بن سول بثلاثمائة رجل مغاضبا، إذ خولف رأيه حين أشار بالقعود والقتال في المدينة إن نهض إليهم العدو، وكان رأيه وافق رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأبى ذلك أكثر الأنصار، ونهض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمسلمين فاستشهد منهم من أكرمه الله بالشهادة، قال مالك: قتل من المهاجرين يوم أحد أربعة، ومن الأنصار سبعون.
5. المقاعد: جمع مقعد وهو مكان القعود، وهذا بمنزلة مواقف، ولكن لفظ القعود دال على الثبوت، ولا سيما أن الرماة كانوا قعودا، هذا معنى حديث غزاة أحد على الاختصار.
6. كان مع المشركين يومئذ مائة فرس عليها خاله بن الوليد، ولم يكن مع المسلمين يومئذ فرس، وفيها جرح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر وهشمت البيضة من على رأسه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وجزاه عن أمته ودينه بأفضل ما جزى به نبيا من أنبيائه على صبره، وكان الذي تولى ذلك من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عمرو بن قميئة الليثي، وعتبة بن أبي وقاص، وقد قيل: إن عبد الله بن شهاب جد الفقيه محمد بن مسلم بن شهاب هو الذي شج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في جبهته، قال الواقدي: والثابت عندنا أن الذي رمى في وجه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ابن قميئة، والذي أدمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص، قال الواقدي بإسناده عن نافع بن جبير قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحية ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وسطها كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد الله ابن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، وأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع! خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك، وأكبت الحجارة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى سقط في حفرة، كان أبو عامر الراهب قد حفرها مكيدة للمسلمين، فخر صلّى الله عليه وآله وسلّم على جنبه واحتضنه طلحة حتى قام، ومص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري من جرح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الدم، وتشبثت حلقتان من درع المغفر في وجهه صلّى الله عليه وآله وسلّم فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما بثنيتيه فسقطتا، فكان أهتم يزينه هتمه، وفي هذه الغزاة قتل حمزة، قتله وحشي، وكان وحشي مملوكا لجبير بن مطعم، وقد كان جبير قال له: إن قتلت محمدا جعلنا لك أعنة الخيل، وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلنا لك مائة ناقة كلها سود الحدق، وإن أنت قتلت حمزة فأنت حر، فقال وحشي: أما محمد فعليه حافظ من الله لا يخلص إليه أحد، وأما علي ما برز إليه أحد إلا قتله، وأما حمزة فرجل شجاع، وعسى أن أصادفه فأقتله، وكانت هند كلما تهيأ وحشي أو مرت به قالت: إيها أبا دسمة اشف واستشف، فكمن له خلف صخرة، وكان حمزة حمل على القوم من المشركين، فلما رجع من حملته ومر بوحشي زرقه بالمزراق فأصابه فسقط ميتا ورضي عنه، قال ابن إسحاق: فبقرت هند عن كبد حمزة فلاكتها ولم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها فقالت:
çنحن جزيناكم بيوم بدر...والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر...ولا أخي وعمه بكري
شفيت نفسي وقضيت نذري...شفيت وحشي غليل صدري
فشكر وحشي علي عمري...حتى ترم أعظمي في قبريé
فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن عبد المطلب فقالت:
çخزيت في بدر وبعد بدر...يا بنت وقاع عظيم الكفر
صبحك الله غداة الفجر...ملهاشميين الطوال الزهرب
كل قطاع حسام يفري...حمزة ليثي وعلي صقري
إذ رام شيب وأبوك غدى...فخضبا منه ضواحي النحرé
ونذرك السوء فشر نذر
وقال عبد الله بن رواحة يبكي حمزة:
çبكت عيني وحق لها بكاها...وما يغني البكاء ولا العويل
على أسد الإله غداة قالوا...أحمزة ذاكم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعا...هناك، وقد أصيب به الرسول
أبا يعلى لك الأركان هدت...وأنت الماجد البر الوصول
عليك سلام ربك في جنان...مخالطها نعيم لا يزول
ألا يا هاشم الأخيار صبرا...فكل فعالكم حسن جميل
رسول الله مصطبر كريم...بأمر الله ينطق إذ يقول
ألا من مبلغ عني لؤيا...فبعد اليوم دائلة تدول
وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا...وقائعنا بها يشفى الغليل
نسيتم ضربنا بقليب بدر...غداة أتاكم الموت العجيل
غداة ثوى أبو جهل صريعا...عليه الطير حائمة تجول
وعتبة وابنه خرا جميعا...وشيبة عضه السيف الصقيل
ومتركنا أمية مجلعبا...وفي حيزومه لدن نبيل
وهام بني ربيعة سائلوها...ففي أسيافها منها فلول
ألا يا هند لا تبدي شماتا...بحمزة إن عزكم ذليل
ألا يا هند فابكي لا تملي...فأنت الواله العبرى الهبولé
ورثته أيضا أخته صفية، وذلك مذكور في السيرة، أجمعين.
7. ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ التوكل في اللغة إظهار العجز والاعتماد على الغير وواكل فلان إذا ضيع أمره متكلا على غيره، واختلف العلماء في حقيقة التوكل، فسئل عنه سهل بن عبد الله فقال: قالت فرقة أرض الرضا بالضمان، وقطع الطمع من المخلوقين، وقال قوم: التوكل ترك الأسباب والركون إلى مسبب الأسباب، فإذا شغله السبب عن المسبب زال عنه اسم التوكل، قال سهل: من قال إن التوكل يكون بترك السبب فقد طعن في سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأن الله تعالى يقول: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ [الأنفال] فالغنيمة اكتساب، وقال تعالى: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال] فهذا عمل، وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله يحب العبد المحترف)، وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقرضون على السرية، وقال غيره: وهذا قول عامة الفقهاء، وأن التوكل على الله هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض، واتباع سنة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم في السعي فيما لأبد منه من الأسباب من مطعم ومشرب وتحرز من عدو وإعداد الأسلحة واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة، وإلى هذا ذهب محققو الصوفية، لكنه لا يستحق اسم التوكل عندهم مع الطمأنينة إلى تلك الأسباب والالتفات إليها بالقلوب، فإنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى، والكل منه وبمشيئته، ومتى وقع من المتوكل ركون إلى تلك الأسباب فقد انسلخ عن ذلك الاسم، ثم المتوكلون على حالين:
أ. الأول ـ حال المتمكن في التوكل فلا يلتفت إلى شي من تلك الأسباب بقلبه، ولا يتعاطاه إلا بحكم الأمر،.
ب. الثاني: حال غير المتمكن وهو الذي يقع له الالتفات إلى تلك الأسباب أحيانا غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية، والبراهين القطعية، والأذواق الحالية، فلا يزال كذلك إلى أن يرقيه الله بجوده إلى مقام المتوكلين المتمكنين، ويلحقه بدرجات العارفين.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/185.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. العامل في (إذ) فعل محذوف، أي: واذكر إذ غدوت من منزل أهلك، أي: من المنزل الذي فيه أهلك، وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه الآية نزلت في غزوة أحد، وقال الحسن: في يوم بدر، وقال مجاهد، ومقاتل، والكلبي: في غزوة الخندق.
2. ﴿تُبَوِّئُ﴾ أي: تتخذ لهم مقاعد للقتال، وأصل التبوّء: اتخاذ المنزل، يقال: بوّأته منزلا: إذا أسكنته إياه، والفعل: في محل نصب على الحال.
3. معنى الآية: واذكر إذ خرجت من منزل أهلك تتخذ للمؤمنين مقاعد للقتال، أي: أماكن يقعدون فيها، وعبر عن الخروج بالغدوّ الذي هو الخروج غدوة، مع كونه صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج بعد صلاة الجمعة كما سيأتي، لأنه قد يعبر بالغدوّ والرواح عن الخروج والدخول من غير اعتبار أصل معناهما، كما يقال: أضحى، وإن لم يكن في وقت الضحى.
4. ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ هو بدل من إذ غدوت، أو متعلق بقوله: تبوّئ، أو بقوله: سميع عليم؛ والطائفتان: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر يوم أحد؛ والفشل: الجبن؛ والهمّ من الطائفتين كان بعد الخروج، لما رجع عبد الله بن أبيّ بمن معه من المنافقين، فحفظ الله قلوب المؤمنين، فلم يرجعوا، وذلك قوله: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/433.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ﴾ أي خرجت ﴿مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ﴾ أي تنزل ﴿الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ﴾ أي أماكن ومراكز يقفون فيها ﴿لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ذهب الجمهور وعلماء المغازي إلى أن هذه الآية نزلت في وقعة أحد، والسر في سوق هذه الوقعة الأحديّة وإيلائها البدرية، وهو تقرير ما سبق، فإن المدعي فيما قبلها المساءة بالحسنة والمسرة بالمصيبة وسنة الله تعالى فيهم في باب النصر والمعونة ودفع مضار العدوّ، إذا هم صبروا واتقوا، والتغيير إذا غيروا، أي اذكر لهم ما يصدق ذلك من أحوالكم الماضية حين لم يصبروا في أحد، فأصيبوا وسرّت الأعداء مصيبتكم، وحين صبروا واتبعوا فنصروا وساء العدوّ نصرهم، وفي توجيه الخطاب إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم تهييج لغيره إلى تدقيق النظر واتباع الدليل، من غير أدنى وقوف مع المألوف ـ كذا يستفاد من تفسير البقاعيّ ـ
2. هذه الآية هي افتتاح القصة، وقد أنزل فيها ستون آية، وأشير في هذه السورة إلى بعض الحكم والغايات المحمودة التي في هذه الوقعة، كما سيذكر(2).
3. سؤال وإشكال: فسر أكثر العلماء ﴿غَدَوْتَ﴾ بأصلها، وهو الخروج غدوة أي بكرة، ثم استشكلوا أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج إلى أحد بعد صلاة الجمعة كما اتفقت عليه كلمة أهل السير، فكيف المطابقة؟ والجواب:
أ. منهم من أجاب بأنه المراد غدوة السبت، وأنه كان في صباحه التبوؤ للمقاعد إلا أنه لا يساعده (من أهلك) لأنه لم يكن وقتئذ أهله معه.
ب. ومنهم من قال المراد غدوة الجمعة أي: اذكر إذ غدوت من أهلك صبيحة الجمعة إلى أصحابك في مسجدك تستشيرهم في أمر المشركين، ثم قال وبنى من (غدوت) حالا إعلاما بأن الشروع في السبب شروع في مسببه، فقال (تبوئ المؤمنين) أي صبيحة يوم السبت.
ج. وكان يخطر لي أن الأقرب جعل الغدوّ بمعنى الخروج غير مقيد بالبكرة، وكثيرا ما يستعمل كذلك، ثم رأيت في فتح البيان ما استظهرته فحمدت الله على الموافقة ونصه: (وعبر عن الخروج بالغدوّ الذي هو الخروج غدوة مع كونه صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج بعد صلاة الجمعة، لأنه قد يعبر بالغدوة والرواح عن الخروج والدخول من غير اعتبار أصل معناهما، كما يقال (أضحى) وإن لم يكن في وقت الضحى)، قال البقاعيّ: (ولما كان رجوع عبد الله بن أبيّ المنافق، كما يأتي في صريح الذكر آخر القصة، من الأدلة على أن المنافقين، فضلا عن المصارحين بالمصارمة، متصفون بإخبار الله تعالى عنهم من العداوة والبغضاء، مع أنه كان سببا في هم الطائفتين من الأنصار بالفشل ـ كان إيلاء هذه القصة للنهي عن اتخاذ بطانة السوء الذين لا يقصرون عن فساد، في غاية المناسبة، ولذلك افتتحها سبحانه بقوله مبدلا من ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ﴾ دليلا على ما قبله من أن بطانة السوء لا يألونهم خبالا.
4. ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ﴾ أي بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس ﴿أَنْ تَفْشَلَا﴾ أي تكسلا وتجبنا وتضعفا لرجوع المنافقين عن نصرهم وولايتهم فعصمهما الله، فمضيا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ ناصرهما، ومتولي أمرهما، فأمدهما بالتوفيق والعصمة، ﴿وَعَلَى اللهِ﴾ وحده دون ما عداه استقلالا أو اشتراكا.
5. ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ في جميع أمورهم، فإنه حسبهم، والتوكل: تفعل من وكل أمره إلى فلان إذا اعتمد في كفايته عليه، ولم يتوله بنفسه، وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يدفع الإنسان ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على الله، وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك التوكل.
6. روى الشيخان عن جابر قال فينا نزلت، ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ ـ قال نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل لقوله تعالى: والله وليهما، أي لفرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية، وإن تلك الهمّة ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/398.
(2) ذكر هنا ما جرى في غزوة أحد، والتي سبق ذكرها.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ﴾ اذكر لنفسك وأصحابك إذ غدوت، لأجل ما ترتَّب على غدوِّك، أو اذكر الحادث إذ غدوت، ﴿مِنَ اَهْلِكَ﴾ أهل المدينة الأوس والخزرج، أمره بالذكر ليعلِّم أصحابه عاقبة الصبر وسوء المخالفة إذ خالفوك فاشتغلوا بطلب الغنائم، وقد أمرتهم أَن لا يبرحوا في ثغر أحد، وظنُّوا الأمر كأمر بدر، وإنَّما نُصروا يوم بدر وغنموا ببركة صبرهم وطاعتهم لله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، بخلاف يوم أحد، فخالفوا أمره فكان القتل والأسر فيهم، فهذا تقرير لقوله: ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضِرْكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾، فإن لم يصبروا وخالفوا أمرك نُصِر عليهم العدوُّ، وتقريرٌ لقوله: ﴿لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ﴾ فإنَّ عبد الله بن أُبي بن سلول انخزل بثلاثمائة عمدا لخدلان المسلمين، والمراد بالغدوِّ مطلق الذهاب، استعمالا للمقيَّد في المطلق؛ لأنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج بعد أن صلَّى الجمعة لا أوَّل النهار، وسلول أمُّ عبد الله بن أُبَيٍّ لا جدَّ له، فهو مكتوب (ابن سلول) بالألف وتنوين أُبَيٍّ، ويجوز أَن يكون الغدوُّ على ظاهرِه، وأهلُه مَن بات معه خارجا، فإنَّه خرج من بيت عائشة على رجليه بعد صلاة الجمعة، وقد أقام المشركون الأربعاء والخميس وبات ليلة السبت سابع شوَّال أو خامس عشر، سنة ثلاث ـ عند بعض ـ في شعب أُحُد، على أقلّ من فرسخ من المدينة، وَلَمَّا أصبح غدا يُنَزِّلُ أصحابَهُ في منازل القتال، كما قال: ﴿تُبَوِّئُ الْمُومِنِينَ﴾ تنزِّلهم، ﴿مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ مراكز له شبَّهها بمواضع القعود، مبالغة في ملازمتها وعدم التخلُّف عنها.
2. خرج صلّى الله عليه وآله وسلّم بألف، وقيل: بتسعمائة وخمسين رجلا والمشركون، ثلاثة آلاف، وفيهم مائتا فرس، وجعل ظهره وعسكره إلى أُحُد في عدوة الوادي، وسوَّى صفوفهم، وأجلس جيشا رماة خمسين رجلا، وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير، وكان معلَّما بثياب بيض بسفح الجبل، وقال: (انضحوا عنَّا بالنبل، لا يأتون من ورائنا، ولا تبرحوا ولو رأيتم الطير تخطفنا أو رأيتمونا غالبين، وإذا عاينوكم وولَّوكم الأدبار فلا تتَّبعوهم)، وَلَمَّا بلغ عبد الله بن أُبي موضعا يسمَّى الشوط رجع بثلاثمائة وتبعهم أبو جابر السلمي يقول: أنشدكم الله في نبيِّكم وأنفسكم، وبقي المسلمون سبعمائة أو ستُّمائة وخمسين، وهزموا المشركين وَلَمَّا ترك الجيش الرماة مركزهم وأكبُّوا على الغنيمة خرج عليهم خالد مع كمينه، واجتمع إليه من تفرَّق من المشركين، فهرب المسلمون ولم يبق مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إِلَّا سبعة من الأنصار ورجلان من قريش في رواية، أو اثنا عشر وثلاثون، وبسطتُ قصَّة أُحد في شرح النونيَّة (تيمَّم نجدا في تلهُّفه الجاني)، وقصد الكفَّار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فشجُّوا رأسه، وكسروا رباعيته، وثبت معه طلحة، ووقاه بيده فشلت أصبعه، وجرح في أربعة وعشرين موضعا وغشي على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فاحتمله طلحة ورجع به، وكلَّما أدركه مشرك وضع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقاتل حتَّى أوصله موضعا فيه جملة من الصحابة، ولم يفرَّ أبو بكر ولا عمر ولا عليٌّ ونحوهم، ولكن كانوا في موضع غير موضع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وصيح أنَّ محمَّدًا قُتل، وكان في جملة من معه رجل من الأنصار يكنَّى أبا سفيان، فنادى: هذا رسول الله! فرجع إليه المهاجرون والأنصار، وقد قُتل منهم سبعون وأُسر سبعون، وكثر الجراح فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (رحم الله رجلا ذَبَّ عن إخوانه)، وشدَّ المشركين بمن معه حتَّى كفَّهم عن القتلى والجرحى، وأعانهم الله حتَّى هزموا المشركين عن القتلى والجرحى.
3. سبب انخزال عبد الله بن أُبي بثلاثمائة أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم استشار أصحابه وعبد الله بن أبي ولم يدعه قبل ذلك فقال هو وأكثر الأنصار: (أقم يا رسول الله بالمدينة ولا تخرج إليهِم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدوٍّ إلَّا أصاب منَّا، ولا دخلها علينا إِلَّا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا، فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشرِّ مجلس، أي: لا ماء ولا طعام، وإن رجعوا رجعوا خائبين)، وأعجب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا الرأي، وقال بعض أصحابه وشبَّان مِمَّن لم يحضر بدرا وتمنَّى الحرب واستشهد يوم أحد: (اخرج بنا إلى أعدائنا الأكالب لئلَّا يروا أنَّا خفناهم)، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (قد رأيت في منامي بقرة مذبوحة حولي فأولتها خيرا، ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأوَّلته هزيمة، ورأيت كأنِّي أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن نقيم فيها أقمنا، فإن دخلوا قتلناهم)، ويقال: ذبْح البقر قتلُ ناس من أصحابه، والذبابة في سيفه قتل رجل من أهله، فلم يزالوا حتَّى دخل منزله ولبس لامة الحرب صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وتقلَّد سيفه، وأخذ رمحه، وألقى القوس على ظهره، فخرج إليهم تامَّ السلاح، فقالوا: بئس ما صنعنا، نشير عليك والوحي ينزل عليك! واعتذروا، فقالوا: أقم إن شئت يا رسول الله فقال: (ما ينبغي لنبيٍّ لبس لامة الحرب أن يرجع حتَّى يقاتل)، وشقَّ خروجه على عبد الله بن أُبيِّ وقال: أطاع الوِلدان وعصاني، وقال لأصحابه: إِنَّمَا يظفر بعدوِّهم بكم وقد وعد أصحابه أنَّ أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا، فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا يتبعوكم، فيصير الأمر خلاف ما قاله، ففعلوا ولم يؤثر ذلك، بل غلب المسلمون أعداءهم حتَّى ترك الرماة موضعهم، نزع الرعب من قلوب المشركين فكرُّوا راجعين وخرج الكمين.
4. ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ﴾ للأقوال، ﴿عَلِيمٌ﴾ بالنيَّات والأفعال والأوصاف، ﴿اِذْ﴾ متعلِّق بـ (عَلِيمٌ)، ويقدَّر مثله لـ (سَمِيعٌ) أو بدل من (إِذْ)، ﴿هَمَّت﴾ عزمت، أو أرادت، وذلك عزم وإرادة لاتِّباع عبد الله بن أُبي.
5. يقال: أوَّل ما يخطر بالقلب خاطرٌ، وإذا قوي فحديث النفس، وإذا زاد قوَّة فعزم، وبعد ذلك قول أو فعل، قال بعضهم:
çمراتب القصد خمس: هاجس ذكروا...وخاطر، فحديثُ النفس فاستمعا
يليه همٌّ، فعزم كلُّها رفعت...إِلَّا الأخير ففيه الأخذ قد وقعاé
يعني العقاب، وقيل: المراد في الآية حديث النفس لا العزم والإرادة؛ لقوله تعالى: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾، والله لا يكون وليًّا لمن عزم على خذلان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأمَّا مجرَّد التحدُّث في النفس فلا يأباه ذلك؛ لأنَّ النفس لا تخلو عند الشدَّة من بعض الجزع، فتثبت بولاية الله على الحقِّ، قلت لا يأبى قوله: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ من أن يراد العزم والإرادة؛ لأنَّ الله تعالى يكون وليًّا ولو للمشرك بأن يردَّه للإسلام إِلَّا أن يُراد المتبادَر.
6. ﴿طَّآئِفَتَانِ مِنكُم﴾ أيُّها المؤمنون، بنو سَلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس، وقيل: طائفة من المهاجرين وطائفة من الأنصار جناحَا العسكر يمينا وشمالا، والثالث القلب وهو وسطه، والرابع والخامس مقدَّمه ومؤخَّره، فسمِّي الجيش: خميسا، ﴿أَن تَفْشَلَا﴾ بأن تفشلا عن الحرب جبنا وقالتا: علَامَ نقتل أنفسنا أو أولادنا؟ وثبتتا لقول أبي جابر السلمي لعبد الله بن أُبي: أنشدكم الله... إلى آخر ما مرَّ، قال عبد الله بن أبي: (لو نعلم قتالا لاتَّبعناكم)، ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ يليهما بالمنع عن الفشل أو ناصرهما، وعليه فهذا توبيخ، كيف تفشلان والحال أَنَّ الله وعدهما النصر على لسان نبيِّه إن صبرتا؟ والتوبيخ كما يكون على الفعل يكون على العزم والتردُّد.
7. ﴿وَعَلَى اللهِ﴾ لا على غيره، متعلِّق بـ (يَتَوَكَّل) من قوله: ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُومِنُونَ﴾ قُدِّم للحصر وطريق الاهتمام والفاصلة، والفاء صلة، أو في جواب شرط تقديره: إن فشلتا فتوكَّلوا أنتم، أو إن صعب الأمر فَلْتَتَوكلا هما وغيرهما على الله لينصرهم كما نصرهم ببدر لتوكُّلهم، وأخرج فاء الجواب عند الصدر على القلَّة.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/363.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآيات وعشرات بعدها نزلت في شأن غزوة أحد ويتوقف فهمها على الوقوف على قصة تلك الغزوة ولو إجمالا، فوجب لذلك أن نأتي قبل تفسيرها بما يعين القارئ على فهمهما ويبين له مواقع تلك الأخبار وما فيها من الحكم والأحكام(2).
2. إن المؤمنين لم ينكسروا في هذه الغزوة ولم ينتصروا بل نال العدو منهم ونالوا منه، وإنما كبرت عليهم لأنهم حرموا النصر وقتل منهم 70 وكانوا يرجون أن يهزموا المشركين ويردوهم مدحورين؛ وسيأتي في الآيات بيان الأسباب والحكم فيما كان، وقال ابن القيم في زاد المعاد: قال ابن عباس: (ما نصر رسول الله في موطن نصره يوم أحد) فأنكر عليه ذلك فقال: بيني وبين من أنكر كتاب الله إن الله يقول: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه)
3. والتمسوا القتلى فرأوا أن المشركين قد مثلوا بهم، وكان التمثيل بحمزة شر تمثيل، وروي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حلف ليمثلن بهم عندما يظفره الله بهم، فنهاه الله عن ذلك فكفر عن يمينه وكان ينهى عن التمثيل بالقتلى فلم يفعله المسلمون، وخرج نساء من المدينة لمساعدة الجرحى وكانت فاطمة عليها السلام هي التي داوت جرح والدها صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنه بعد أن مص الدم منه والد أبي سعيد الخدري حتى أنقاه تولته هي، ففي الصحيحين عن أبي حازم أنه سُئل عن جرح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن كان يسكب الماء وبما دووي، كانت فاطمة ابنته تغسله وعلي يسكب الماء بالمجن (الترس) فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فألصقتها فاستمسك الدم.
4. ولما انكفأ المشركون راجعين ظن المسلمون أنهم يريدون المدينة فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لعلي: (اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون؟ فإن هم جنبوا الخيل وامتصوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، فوالذي نفس محمد بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم، ثم لأناجزنهم فيها) فرآهم علي قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة، ولما عزموا على الرجوع أشرف أبو سفيان على المسلمين وناداهم: موعدكم الموسم ببدر، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (قولوا: نعم قد فعلنا)، ولما كان المشركون في الطريق تلاوموا فيما بينهم وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا أصبتم شوكتهم وحدهم وتركتموهم وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فنادى الناس وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم وقال: (لا يخرج معنا إلا من شهد القتال) فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف وقالوا: (سمعا وطاعة) وذلك من خوارق قوة الإيمان وآياته الكبرى، فإن هؤلاء المستجيبين كان قد برح بهم التعب والجراح تبريحا فسار بهم حتى بلغوا حمراء الأسد، وأقبل معبد الخزاعي إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأسلم فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله فلحقه بالروحاء، فقال: ما وراءك يا معبد؟ فقال: محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابه، فقال: ما تقول؟ قال: ما أرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة، فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم، قال: فلا تفعل فإني لك ناصح، فرجعوا على أعقابهم إلى مكة، ولقى أبو سفيان بعض المشركين يريد المدينة فقال: هل لك أن تبلغ محمدا رسالة وأوقر لك راحلتك زبيبا إذا أتيت إلى مكة؟ قال: نعم، قال: أبلغ محمدا أنا قد أجمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه، فلما بلغ النبي والمؤمنين قوله قالوا: (حسبنا الله ونعم الوكيل)
5. وقد كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يدفن الرجلين والثلاثة من شهداء أُحد في قبر واحد وربما كانوا يلفون بثوب واحد لقلة الثياب، ولم يغسلوا ولم يصلّ عليهم، كما في صحيح البخاري، وإن زعم بعض أهل السير أنه صلى عليهم، ولما أراد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الرجوع إلى المدينة ركب فرسه وأمر المسلمين أن يصطفوا فاصطفوا خلفه وعامتهم جرحى واصطف خلفهم النساء وهن أربع عشرة امرأة كن بأصل أحد، فقال: (استووا حتى أثني على ربي، فاستووا فقال: اللهم لك الحمد لا قابض لما بسطت، ولا باسط لم قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت؛ ولا مباعد لما قربت، اللهم أبسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعت منا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق) أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وغيرهم، ولكن قال الذهبي: إنه على نظافة إسناده منكر وأخشى أن يكون موضوعا، ولما رجعوا قال المنافقون فيمن قتل: لو كانوا أطاعوا ولم يخرجوا لما قتلوا.
6. إذا تمهد هذا فلنشرع في تفسير الآيات، ونقول: إن وجه اتصالها بما قبلها هو أنه تعالى نهاهم في تلك عن اتخاذ بطانة من الأعداء المعروفين بالعداوة لهم وأعلمهم ببغضهم إياهم وإن خادعهم أفراد منهم بدعوى الإيمان وأنهم إن يصبروا ويتقوا ما يجب اتقاؤه لا يضرهم كيدهم شيئا؛ وبعد هذا البيان ذكرهم في هذه الآيات بوقعة أُحد وما كان فيها من كيد المنافقين إذ قالوا ما قالوا أولا وآخرا وإذا خرجوا انشقوا ورجعوا ليخذلوا المؤمنين ويوقعوا الفشل فيهم، ومن كيد المشركين وتألبهم الذي لم يكن له من دافع إلا الصبر حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا موقعهم وإلا التقوى ومنها ـبل أهمها ـ طاعة الرسول فيما أمر به هؤلاء الرماة، وذكرهم أيضا بوقعة بدر إذ نصرهم على قلتهم بصبرهم وتقواهم.
7. ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ أي واذكر بعد هذا يا محمد إذ خرجت من بيت أهلك غدوة، وذلك سحر يوم السبت سابع شوال من سنة ثلاث للهجرة ﴿تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾، أي توطنهم وتنزلهم أماكن ومواضع في الشعب من أُحد لأجل القتال فيها، فمنها موضع للرماة وموضع للفرسان وموضع لسائر المؤمنين.
8. المقاعد جمع مقعد وهو في الأصل مكان القعود كالمجلس لمكان الجلوس والمقام لمكان القيام، ثم استعملت هذه الألفاظ كلها بمعنى المكان توسعا، وقيل: تبوئة المقاعد تسويتها وتهيئتها.
9. ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ لم يخف عنه شيء مما قيل في مشاورتك لمن معك في أمر الخروج إلى لقاء المشركين في أُحد أو انتظارهم في المدينة، فهو قد سمع أقوال المشيرين وعلم نيّة كل قائل، وأن منهم المخلص في قوله وإن أخطأ في رأيه كالقائلين بالخروج إليهم، ومنهم غير المخلص في قوله وإن كان صوابا كعبد الله ابن أبي ومن معه من المنافقين، ويصح أن يكون الوصفان الكريمان متعلقا للظرف في الآية التالية كما نبينه في تفسيرها.
10. ذهب ابن جرير إلى أن الخطاب في هذه الآية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد به أصحابه يضرب لهم مثلا أو مثلين على صدق وعده في الآية السابقة: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ بتذكيرهم بما كان يوم أحد من وقوع المصيبة بهم عند ترك الرماة الصبر والتقوى ـ وذنب الجماعة أو الأمة لا يكون عقابه قاصرا على من اقترفه بل يكون عاما ـ وبما كان يوم بدر إذ نصرهم على قلتهم وذلتهم، وهذا الرأي يتفق مع ما ذكرناه في وجه الاتصال بين الآيات.
11. ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ قال ابن جرير: يعني بذلك جل ثناؤه والله سميع عليم حين همت طائفتان منكم أن تفشلا، والهم حديث النفس وتوجهها إلى الشيء والفشل ضعف مع جبن، وقيل إن هذا بدل من قوله: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ﴾ وقيل متعلق بتبوئ، أي كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يتخذ المعسكر للمؤمنين وينزل كل طائفة منهم منزلا في وقت همت فيه طائفتان منهم بالفشل افتتانا بكيد المنافقين الذين رجعوا من المعسكر، والطائفتان هما بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار كما تقدم في القصة.
12. ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا﴾ أي متولي أمورهما لصدق إيمانهما، لذلك صرف الفشل عنهما وثبتهما فلم يجيبا داعي الضعف الذي ألم بهما عند رجوع نحو ثلث العسكر، بل تذكروا ولاية الله للمؤمنين فوثقا به توكلا عليه.
13. ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أمثالهم، لا على حولهم وقوتهم، ولا أعوانهم وأنصارهم، وإنما يبذلون حولهم وقوتهم، ويأخذون أهبتهم وعدتهم، إقامة لسنن الله تعالى في خلقه إذ جعل الأسباب مفضية إلى المسببات وهو الفاعل المسخر للسبب والمسبب والموفق بينهما فينصر الفئة القليلة على الكثيرة إن شاء كما نصر المؤمنين يوم بدر
__________
(1) تفسير المنار: 4/96.
(2) ذكر هنا قصة غزوة أحد كما هي في كتب السيرة، وقد سبق ذكرها.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. من هذه الآيات إلى ستين آية بعدها نزلت في غزوة أحد، فوجب ذكر طرف من أخبار هذه الواقعة ليستعين به القارئ على فهمها، ويعرف مواقع أخبارها، ويستيقن من حكمها وأحكامها، ولكن عليك أن تعرف قبل هذا، أن قريشا اغتاظت من هجرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه إلى المدينة، وحقدوا على أهلها إيواءهم للمسلمين، وتهددوهم، فكان لا بد من الاستعداد للدفاع، وقد صار النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم داعية للدين، ورئيسا لحكومة المدينة، وقائدا لجيشها، هذا، وقد أدى دفاع المسلمين عن أنفسهم إلى سلسلة من الغزوات، بها انتشر الإسلام بسرعة لم تعهد في التاريخ، وقد اشترك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في تسع منها أشهرها(2)
2. إذا علمت ما تقدم سهل عليك فهم هذه الآيات، وما بعدها مما له صلة بهذه الوقعة الهامة في تاريخ الإسلام، وما فيها من عظة وعبرة للمسلمين، فقد كانت نبراسا لهم في كل حروبهم وأعمالهم في حياة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبعده ـ إذ علموا أن مخالفة القائد الأعظم لها أسوأ الآثار، وأن كل ما حدث فيها إنما جر إليه الطمع في الغنيمة، وجمع حطام الدنيا، وهو ظل زائل وعرض مفارق.
3. بعد أن نهى الله المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين كاشفوهم بالعداوة، ثم أعلمهم ببغضهم إياهم، ثم أمرهم بالصبر والتقوى وأنهم إذا فعلوا ذلك لا يضرهم كيدهم شيئا ـ ذكّرهم في هذه الآيات بوقعة أحد، وما كان فيها من كيد المنافقين، إذ أذاعوا عن المؤمنين من قالة السوء ما أذاعوا، ثم خرجوا معهم، وانشقوا عنهم في الطريق، ورجعوا بثلث الجيش، ليوقعوا الفشل بين صفوفهم ويخذلوهم أمام عدوهم وما كان من كيد المشركين وتألبهم عليهم، ولم يكن لذلك من واق إلا الصبر حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا مواقعهم، وإلا تقوى الله، ومن أهم دعائمها طاعة الرسول فيما به أمر وعنه نهى، وذكّرهم أيضا بما كان يوم بدر من نصرهم على عدوهم على قلتهم، إذ جعلوا الصبر جنتهم، وتقوى الله عدّتهم، فأصابوا من عدوهم ما أصابوا، وكان لهم الفلج عليهم مما لا يزال مكتوبا في صحيفة الدهر مثلا خالدا لصدق العزيمة، والبعد عن مطامع هذه الحياة.
4. ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ أي واذكر لهم أيها الرسول وقت خروجك من بيتك غدوة وهى غدوة سحر يوم السبت سابع يوم من شوال من سنة ثلاث للهجرة؛ تهيئ أمكنة للقتال، منها مواضع للرماة، ومواضع للفرسان، ومواضع لسائر المؤمنين.
5. ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي والله سميع لما يقول المؤمنون لك فيما شاورتهم فيه من موضع لقائك عدوك وعدوهم، كقول من قال اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم في خارج المدينة، وقول من قال لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا، ولما تشير به أنت عليهم، عليم بأصلح تلك الآراء لك ولهم وبنيّة كل قائل؛ من أخلص منهم في قوله وإن أخطأ في رأيه كالقائلين بالخروج إليهم، ومن لم يخلص في قوله؛ وإن كان صوابا كعبد الله بن أبىّ ومن معه من المنافقين، قال ابن جرير: ضرب الله مثلا أو مثلين على صدق وعده في الآية السابقة ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ بتذكيرهم بما كان يوم أحد من وقوع المصيبة بهم عند ترك الرماة الصبر (وذنب الجماعة أو لأمة لا يكون عقابه قاصرا على من اقترفه بل يكون عاما) وبما كان يوم بدر إذ نصرهم على قلتهم وذلتهم.
6. ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ أي والله سميع عليم حين همت بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس؛ وكانا جناحى عسكر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أن تضعفا وتجبنا عن القتال حين رأوا انخزال عبد الله بن أبىّ ومن معه عن رسول الله، وهذا الهمّ لم يكن عزيمة ممضاة، ولكنها كانت حديث نفس؛ وقلما تخلوا النفس عند الشدة من بعض الهلع؛ فإن ساعدها صاحبها ذمّ؛ وإن ردها إلى الثبات والصبر فلا بأس بما فعل؛ ومما يدل على أن ذلك الهمّ لم يصل إلى حد العصيان قوله تعالى:
7. ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ أي متولى أمورهما لصدق إيمانهما؛ لذلك صرف الفشل عنهما وثبتهما؛ فلم يجيبا داعى الضعف الذي ألمّ بهما عند رجوع المنافقين؛ وكانوا نحو ثلث العسكر؛ بل تذكروا ولاية الله للمؤمنين؛ فوثقا به وتوكلا عليه.
8. ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أي إن المؤمنين ينبغي أن يدفعوا ما يعرض لهم من جزع أو مكروه بالتوكل على الله؛ لا بحولهم وقوتهم؛ ولا بأنصارهم وأعوانهم، بعد أخذ الأهبة والعدّة تحقيقا لسنن الله في خلقه؛ إذ جعل الأسباب مفضية إلى المسببات؛ وهو الخالق للسبب والمسبب؛ والموجد للصلة بينها، فبقدرته تعالى ينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة كما نصر المؤمنين يوم بدر على قلة منهم في العدد والعدد والسلاح؛ وفي سائر عتاد الجيش.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/51.
(2) ذكر هنا قصة غزوة أحد كما هي في كتب السيرة، وقد سبق ذكرها.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. من معركة الجدل والمناظرة، والبيان والتنوير، والتوجيه والتحذير ـ فيما سبق من السورة ـ ينتقل السياق إلى المعركة في الميدان.. معركة أحد.
2. غزوة أحد لم تكن معركة في الميدان وحده؛ إنما كانت معركة كذلك في الضمير.. كانت معركة ميدانها أوسع الميادين، لأن ميدان القتال فيها لم يكن إلا جانبا واحدا من ميدانها الهائل الذي دارت فيه.. ميدان النفس البشرية، وتصوراتها ومشاعرها، وأطماعها وشهواتها، ودوافعها وكوابحها، على العموم.. وكان القرآن هناك، يعالج هذه النفس بألطف وأعمق، وبأفعل وأشمل ما يعالج المحاربون أقرانهم في النزال! وكان النصر أولا، وكانت الهزيمة ثانيا، وكان الانتصار الكبير فيها بعد النصر والهزيمة.. انتصار المعرفة الواضحة والرؤية المستنيرة للحقائق التي جلاها القرآن؛ واستقرار المشاعر على هذه الحقائق استقرار اليقين.
3. تمحيص النفوس، وتمييز الصفوف، وانطلاق الجماعة المسلمة ـ بعد ذلك ـ متحررة من كثير من غبش التصور، وتميع القيم، وتأرجح المشاعر، في الصف المسلم، وذلك بتميز المنافقين في الصف إلى حد كبير، ووضوح سمات النفاق وسمات الصدق، في القول والفعل، وفي الشعور والسلوك، ووضوح تكاليف الإيمان، وتكاليف الدعوة إليه، والحركة به، ومقتضيات ذلك كله من الاستعداد بالمعرفة، والاستعداد بالتجرد، والاستعداد بالتنظيم، والتزام الطاعة والاتباع بعد هذا كله، والتوكل على الله وحده، في كل خطوة من خطوات الطريق، ورد الأمر إلى الله وحده في النصر والهزيمة، وفي الموت والحياة، وفي كل أمر وفي كل اتجاه.
4. كانت هذه الحصيلة الضخمة التي استقرت في الجماعة المسلمة من وراء الأحداث، ومن وراء التوجيهات القرآنية بعد الأحداث، أكبر وأخطر ـ بما لا يقاس ـ من حصيلة النصر والغنيمة.. لو عاد المسلمون من الغزوة بالنصر والغنيمة.. وقد كانت الجماعة المسلمة إذ ذاك أحوج ما تكون لهذه الحصيلة الضخمة.. كانت أحوج إليها ألف مرة من حصيلة النصر والغنيمة، وكان الرصيد الباقي منها للأمة المسلمة في كل جيل أهم وأبقى كذلك من حصيلة النصر والغنيمة، وكان تدبير الله العلوي من وراء ما بدا في الموقعة من ظواهر النقص والضعف والتميع والغبش في الصف المسلم، ومن وراء الهزيمة التي نشأت عن هذه الظواهر.. كان تدبير الله العلوي من وراء هذا الذي وقع وفق سنة الله الجارية، حسب أسبابه الطبيعية الظاهرة، تدبيرا كله الخير للجماعة المسلمة في ذلك الحين، لتنال هذه الحصيلة الضخمة من العبرة والتربية، والوعي والنضج، والتمحيص والتميز، والتنسيق والتنظيم، وليبقى للأمة المسلمة في أجيالها المتعاقبة هذا الرصيد من التجارب والحقائق والتوجيهات التي لا تقدر بثمن، ولو كان هذا الثمن هو النصر والغنيمة! لقد انتهت المعركة في ميدان الأرض، ليبدأها القرآن في ميدانها الأكبر: ميدان النفس، وميدان الحياة الشاملة للجماعة المسلمة، وصنع بهذه الجماعة ما تصنعه يد الله، عن علم وعن حكمة، وعن خبرة، وعن بصيرة، وكان ما شاءه الله وما دبره، وكان فيه الخير العظيم، من وراء الضر والأذى والابتلاء الشاق المرير.
5. لعل مما يلفت النظر في التعقيب القرآني على أحداث المعركة هو ذلك الازدواج العجيب بين استعراض مشاهدها ووقائعها، والتوجيهات المباشرة على هذه المشاهد والوقائع.. وبين التوجيهات الأخرى المتعلقة بتصفية النفوس، وتخليصها من غبش التصور، وتحريرها من ربقة الشهوات، وثقلة المطامع، وظلام الأحقاد، وظلمة الخطيئة، وضعف الحرص والشح، والرغبات الدفينة.
6. لعل مما يلفت النظر أكثر، الكلام ـ في صدد التعقيب على معركة حربية ـ عن الربا والنهي عنه، وعن الشورى والأخذ بها، على الرغم مما كان للشورى من معقبات ظاهرية في النتائج السيئة للمعركة! ثم.. سعة المساحة التي يعمل فيها المنهج القرآني في النفس البشرية، وفي الحياة الإنسانية، وتعدد نقط الحركة فيها، وتداخلها، وتكاملها العجيب.
7. لكن الذين يدركون طبيعة هذا المنهج الرباني لا يعجبون لشيء من ذلك الازدواج وهذه السعة، وهذا التداخل، وهذا التكامل، فالمعركة الحربية في الحركة الإسلامية ليست معركة أسلحة وخيل ورجال وعدة وعتاد، وتدبير حربي فحسب.. فهذه المعركة الجزئية ليست منعزلة عن المعركة الكبرى في عالم الضمير، وعالم التنظيم الاجتماعي للجماعة المسلمة.. إنها ذات ارتباط وثيق بصفاء ذلك الضمير، وخلوصه، وتجرده، وتحرره من الأوهاق والقيود التي تطمس على شفافيته، وتقعد به دون الفرار إلى الله! وكذلك هي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع التنظيمية التي تقوم عليها حياة الجماعة المسلمة، وفق منهج الله القويم، المنهج الذي يقوم على الشورى في الحياة كلها ـ لا في نظام الحكم وحده ـ وعلى النظام التعاوني لا النظام الربوي، والتعاون والربا لا يجتمعان في نظام!
8. القرآن كان يعالج الجماعة المسلمة، على إثر معركة لم تكن ـ كما قلنا ـ معركة في ميدان القتال وحده، إنما كانت معركة في الميدان الأكبر، ميدان النفس البشرية، وميدان الحياة الواقعية.. ومن ثم عرج على الربا فنهى عنه؛ وعرج على الإنفاق في السراء والضراء فحض عليه؛ وعرج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة؛ وعرج على كظم الغيظ والعفو عن الناس، وعلى الإحسان والتطهر من الخطيئة بالاستغفار، والتوبة وعدم الإصرار؛ فجعلها كلها مناط الرضوان، كما عرج على رحمة الله المتمثلة في رحمة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ولين قلبه للناس، وعلى مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات، وعلى الأمانة التي تمنع الغلول، وعلى البذل والتحذير من البخل في نهاية ما نزل في التعقيب على الغزوة من آيات.
9. عرج على هذا كله، لأنه مادة إعداد الجماعة المسلمة للمعركة في نطاقها الواسع؛ الذي يتضمن المعركة الحربية في إطاره ولا يقتصر عليها، معركة التعبئة الكاملة للانتصار الكبير، الانتصار على النفس والشهوات والمطامع والأحقاد، والانتصار في تقرير القيم والأوضاع السليمة لحياة الجماعة الشاملة.
10. عرج على هذا كله ليشير إلى وحدة هذه العقيدة في مواجهة الكينونة البشرية ونشاطها كله، ورده كله إلى محور واحد: محور العبادة لله، والعبودية له، والتوجه إليه في حساسية وتقوى، وإلى وحدة منهج الله في الهيمنة على الكينونة البشرية كلها، في كل حال من أحوالها، وإلى الترابط بين جميع هذه الأحوال في ظل هذا المنهج، وإلى وحدة النتائج النهائية للنشاط الإنساني كله، وتأثير كل حركة من حركات النفس، وكل جزئية من جزئيات التنظيم في هذه النتائج النهائية.
11. هذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة، فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية، والذين تولوا يوم التقى الجمعان في (أحد) إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب، والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدؤوا المعركة بالاستغفار من الذنوب، والالتجاء إلى الله، والالتصاق بركنه الركين، والتطهر من الذنوب إذن والالتصاق بالله، والرجوع إلى كنفه من عدة النصر، وليست بمعزل عن الميدان! واطراح النظام الربوي إلى النظام التعاوني من عدة النصر؛ والمجتمع التعاوني أقرب إلى النصر من المجتمع الربوي، وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر، فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة، والتضامن والتواد في المجتمع المتسامح قوة ذات فاعلية كذلك.
12. كذلك كان من الحقائق التي اتكأ عليها السياق من بدئه إلى نهايته.. حقيقة قدر الله، ورد الأمر إليه جملة، وتصحيح التصور في هذه النقطة تصحيحا حاسما جازما، وفي الوقت ذاته تقرير سنة الله في ترتيب العواقب التي تحل بالبشر على ما يصدر من سعيهم ونشاطهم، وخطئهم وإصابتهم، وطاعتهم ومعصيتهم، وتمسكهم بالمنهج وتفريطهم فيه، واعتبارهم بعد هذا كله ستارا للقدرة، وأداة للمشيئة، وقدرا من قدر الله يحقق به ما يشاء سبحانه.
13. في النهاية.. إشعار الجماعة المسلمة أن ليس لها من أمر النصر شيء، إنما هو تدبير الله لتنفيذ قدره، من خلال جهادها، وأجرها هي على الله، وليس لها من ثمار النصر شيء من أشياء هذه الأرض، ولا لحسابها الخاص يؤتيها الله النصر إذ يشاء، إنما لحساب الأهداف العليا التي يشاؤها الله، وكذلك الهزيمة، فإنها حين تقع بناء على جريان سنة الله، وفق ما يقع من الجماعة المسلمة من تقصير وتفريط، إنما تقع لتحقيق غايات يقدرها الله بحكمته وعلمه؛ لتمحيص النفوس، وتمييز الصفوف، وتجلية الحقائق، وإقرار القيم، وإقامة الموازين، وجلاء السنن للمستبصرين، ولا قيمة ولا وزن في نظر الإسلام للانتصار العسكري أو السياسي أو الاقتصادي؛ ما لم يقم هذا كله على أساس المنهج الرباني، في الانتصار على النفس، والغلبة على الهوى، والفوز على الشهوة، وتقرير الحق الذي أراده الله في حياة الناس، ليكون كل نصر نصرا لله ولمنهج الله، وليكون كل جهد في سبيل الله ومنهج الله، وإلا فهي جاهلية تنتصر على جاهلية، ولا خير فيها للحياة ولا للبشرية، إنما الخير أن ترتفع راية الحق لذات الحق، والحق واحد لا يتعدد، إنه منهج الله وحده، ولا حق في هذا الكون غيره، وانتصاره لا يتم حتى يتم أولا في ميدان النفس البشرية، وفي نظام الحياة الواقعية، وحين تخلص النفس من حظ ذاتها في ذاتها، ومن مطامعها وشهواتها، ومن أدرانها وأحقادها، ومن قيودها وأصفادها، وحين تفر إلى الله متحررة من هذه الأثقال والأوهاق، وحين تنسلخ من قوتها ومن وسائلها ومن أسبابها، لتكل الأمر كله إلى الله، بعد الوفاء بواجبها من الجهد والحركة، وحين تحكم منهج الله في الأمر كله، وتعد هذا التحكيم هو غاية جهادها وانتصارها.
14. حين يتم هذا كله يحتسب الانتصار في المعركة الحربية أو السياسية أو الاقتصادية انتصارا، في ميزان الله، وإلا فهو انتصار الجاهلية على الجاهلية، الذي لا وزن له عند الله ولا قيمة! ومن ثم كان ذلك الازدواج، وكان ذلك الشمول، في التعقيب على المعركة التي دارت يوم أحد، في ذلك الميدان الفسيح، الذي يعد ميدان القتال جانبا واحدا من جوانبه الكثيرة.
15. قبل أن نأخذ في استعراض ذلك التعقيب القرآني على أحداث المعركة يحسن أن نلخص وقائعها كما وردت في روايات السيرة؛ لندرك مواضع التعقيب والتوجيه حق الإدراك، ولنراقب طريقة التربية الإلهية بالقرآن الكريم، في تناول الوقائع والأحداث(2).
16. هذه بعض اللقطات من المعركة التي تجاور فيها النصر والهزيمة، لا تفرق بينهما إلا لحظة من الزمان، وإلا مخالفة عن الأمر، وإلا حركة من الهوى، وإلا لفتة من الشهوة! والتي تجاورت فيها القيم العالية والسفوح الهابطة! والنماذج الفريدة في تاريخ الإيمان والبطولة، وفي تاريخ النفاق والهزيمة! وهي مجموعة تكشف عن حالة من عدم التناسق في الصف حينذاك، كما تكشف عن حالة من الغبش في تصورات بعض المسلمين.. وهذه وتلك أنشأت ـ وفق سنة الله وقدره ـ هذه النتائج التي ذاقها المسلمون؛ وهذه التضحيات الجسام، التي تتراءى على قمتها تلك التي أصابت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والتي لا شك أن الصحابة حين ذاك كانوا يحسونها بعمق وعنف، ويرونها أشد ما نالهم من الآلام، وقد دفعوا الثمن غاليا ليتلقوا الدرس عاليا، وليمحص الله القلوب ويميز الصفوف، وليعد الجماعة المسلمة للمهمة العظمى التي ناطها بها: مهمة القيادة الراشدة للبشرية، وإقرار منهج الله في الأرض في صورته المثالية الواقعية، فلننظر إذن كيف عالج القرآن الكريم الموقف بطريقة القرآن.
17. إن النص القرآني لا يتتبع أحداث المعركة للرواية والعرض؛ ولكنه يتتبع دخائل النفوس وخوالج القلوب؛ ويتخذ من الأحداث مادة تنبيه وتنوير وتوجيه، وهو لا يعرض الحوادث عرضا تاريخيا مسلسلا بقصد التسجيل؛ إنما هو يعرضها للعبرة والتربية واستخلاص القيم الكامنة وراء الحوادث؛ ورسم سمات النفوس، وخلجات القلوب، وتصوير الجو الذي صاحبها؛ والسنن الكونية التي تحكمها؛ والمبادئ الباقية التي تقررها، وبذلك تستحيل الحادثة محورا أو نقطة ارتكاز لثروة ضخمة من المشاعر والسمات، والنتائج والاستدلالات، يبدأ السياق منها؛ ثم يستطرد حولها؛ ثم يعود إليها؛ ثم يجول في أعماق الضمائر، وفي أغوار الحياة؛ ويكرر هذا مرة بعد مرة، حتى ينتهي برواية الحادث إلى نهايتها وقد ضم جناحيه على حفل من المعاني والدلائل والقيم والمبادئ، لم تكن رواية الحادث إلا وسيلة إليها، ونقطة ارتكاز تتجمع حواليها، وحتى يكون قد تناول ملابسات الحادث وعقابيله في الضمائر، فجلاها، ونقاها، وأراحها في مواضعها، فلا تجد النفس منها حيرة ولا قلقا، ولا تحس فيها لبسا ولا دخلا.
18. ينظر الإنسان في رقعة المعركة، وما وقع فيها ـ على سعته وتنوعه ـ ثم ينظر إلى رقعة التعقيب القرآني، وما تناوله من جوانب؛ فإذا هذه الرقعة أوسع من تلك، وأبقى على الزمن، وألصق بالقلوب، وأعمق في النفوس، وأقدر على تلبية حاجات النفس البشرية، وحاجات الجماعة الإسلامية، في كل موقف تتعرض له في هذا المجال، على تتابع الأجيال، فهي تتضمن الحقائق الباقية من وراء الأحداث الزائلة، والمبادئ المطلقة من وراء الحوادث المفردة، والقيم الأصيلة من وراء الظواهر العارضة، والرصيد الصالح للتزود بغض النظر عن اعتبارات الزمان والمكان، وهذه الحصيلة الباقية تدخرها النصوص القرآنية لكل قلب يتفتح بالإيمان، في أي زمان وفي أي مكان، وسنعرض لها متجمعة ـ إن شاء الله ـ بعد استعراضها متفرقة في النصوص.
19. ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ هكذا يبدأ باستعادة المشهد الأول للمعركة واستحضاره ـ وقد كان قريبا من نفوس المخاطبين الأولين بهذا القرآن ومن ذاكرتهم، ولكن ابتداء الحديث على هذا النحو، واستحضار المشهد الأول بهذا النص، من شأنه أن يعيد المشهد بكل حرارته وبكل حيويته؛ وأن يضيف إليه ما وراء المشهد المنظور ـ الذي يعرفونه ـ من حقائق أخرى لا يتضمنها المشهد المنظور، وأولها حقيقة حضور الله ـ سبحانه ـ معهم، وسمعه وعلمه بكل ما كان وما دار بينهم، وهي الحقيقة التي تحرص التربية القرآنية على استحضارها وتقريرها وتوكيدها وتعميقها في التصور الإسلامي، وهي هي الحقيقة الأساسية الكبيرة، التي أقام عليها الإسلام منهجه التربوي، والتي لا يستقيم ضمير على المنهج الإسلامي، بكل تكاليفه، إلا أن تستقر فيه هذه الحقيقة بكل قوتها، وبكل حيويتها كذلك: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
20. الإشارة هنا إلى غدو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد لبس لأمته ودرعه؛ بعد التشاور في الأمر، وما انتهى إليه من عزم على الخروج من المدينة للقاء المشركين خارجها.. وما أعقب هذا من تنظيم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم للصفوف، ومن أمر للرماة باتخاذ موقفهم على الجبل، وهو مشهد يعرفونه، وموقف يتذكرونه.. ولكن الحقيقة الجديدة فيه هي هذه: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، ويا له من مشهد، الله حاضره! ويا له من موقف، الله شاهده! ويا لها من رهبة إذن ومن روعة تحف به، وتخالط كل ما دار فيه من تشاور، والسرائر مكشوفة فيه لله، وهو يسمع ما تقوله الألسنة ويعلم ما تهمس به الضمائر.
21. اللمسة الثانية في هذا المشهد الأول، هي حركة الضعف والفشل التي راودت قلوب طائفتين من المسلمين؛ بعد تلك الحركة الخائنة التي قام بها رأس النفاق (عبد الله بن أبي بن سلول) حين انفصل بثلث الجيش، مغضبا أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يأخذ برأيه، واستمع إلى شباب أهل المدينة! وقال: (لو نعلم قتالا لاتبعناكم!) فدل بهذا على أن قلبه لم يخلص للعقيدة؛ وأن شخصه ما يزال يملأ قلبه، ويطغى في ذلك القلب على العقيدة.. العقيدة التي لا تحتمل شركة في قلب صاحبها، ولا تطيق لها فيه شريكا! فإما أن يخلص لها وحدها، وإما أن تجانبه هي وتجتويه! ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، وهاتان الطائفتان ـ كما ورد في الصحيح ـ من حديث سفيان بن عيينة ـ هما بنو حارثة وبنو سلمة، أثرت فيهما حركة عبد الله بن أبيّ، وما أحدثته من رجة في الصف المسلم، من أول خطوة في المعركة، فكادتا تفشلان وتضعفان، لولا أن أدركتهما ولاية الله وتثبيته، كما أخبر هذا النص القرآني: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا﴾، قال عمر سمعت جابر بن عبد الله يقول: فينا نزلت: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ قال نحن الطائفتان.. بنو حارثة وبنو سلمة.. وما نحب (أو وما يسرني) أنها لم تنزل، لقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا﴾
22. وهكذا يكشف الله المخبوء في مكنونات الضمائر؛ والذي لم يعلمه إلا أهله، حين حاك في صدورهم لحظة؛ ثم وقاهم الله إياه، وصرفه عنهم، وأيدهم بولايته، فمضوا في الصف.. يكشفه لاستعادة أحداث المعركة، واستحياء وقائعها ومشاهدها، ثم.. لتصوير خلجات النفوس، وإشعار أهلها حضور الله معهم، وعلمه بمكنونات ضمائرهم ـ كما قال لهم: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ـ لتوكيد هذه الحقيقة وتعميقها في حسهم، ثم لتعريفهم كيف كانت النجاة؛ وإشعارهم عون الله وولايته ورعايته حين يدركهم الضعف، ويدب فيهم الفشل، ليعرفوا أين يتوجهون حين يستشعرون شيئا من هذا وأين يلتجئون، ومن ثم يوجههم هذا الوجه الذي لا وجه غيره للمؤمنين: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، على وجه القصر والحصر.. على الله وحده فليتوكل المؤمنون، فليس لهم ـ إن كانوا مؤمنين ـ إلا هذا السند المتين.
23. هكذا نجد في الآيتين الأوليين، اللتين يستحضر بهما القرآن مشهد المعركة وجوها، هذين التوجيهين الكبيرين الأساسيين في التصور الإسلامي، وفي التربية الإسلامية: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، نجدهما في أوانهما المناسب، وفي جوهما المناسب؛ حيث يلقيان كل إيقاعاتهما، وكل إيحاءاتهما، في الموعد المناسب؛ وقد تهيأت القلوب للتلقي والاستجابة والانطباع.. ويتبين ـ من هذين النصين التمهيديين ـ كيف يتولى القرآن استحياء القلوب وتوجيهها وتربيتها؛ بالتعقيب على الأحداث، وهي ساخنة! ويتبين الفرق بين رواية القرآن للأحداث وتوجيهها، وبين سائر المصادر التي قد تروي الأحداث بتفصيل أكثر؛ ولكنها لا تستهدف القلب البشري، والحياة البشرية، بالإحياء والاستجاشة، وبالتربية والتوجيه، كما يستهدفها القرآن الكريم، بمنهجه القويم.
24. هكذا يبدأ الحديث عن المعركة التي لم ينتصر فيها المسلمون ـ وقد كادوا ـ وهي قد بدأت بتغليب الاعتبارات الشخصية على العقيدة عند المنافق عبد الله بن أبي؛ وتابعه في حركته أتباعه الذين غلبوا اعتباره الشخصي على عقيدتهم، وبالضعف الذي كاد يدرك طائفتين صالحتين من المسلمين، ثم انتهت بالمخالفة عن الخطة العسكرية تحت مطارق الطمع في الغنيمة! فلم تغن النماذج العالية التي تجلت في المعركة، عن المصير الذي انتهت إليه، بسبب ذلك الخلل في الصف، وبسبب ذلك الغبش في التصور.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/458.
(2) ذكر هنا قصة غزوة أحد كما هي في كتب السيرة، وقد سبق ذكرها.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. القتال الذي تشير إليه الآية هو القتال الذي حدث في معركة أحد، وقد أصيب فيها المؤمنون بعدد غير قليل من الشهداء والجرحى، كما ستشير الآيات التالية إلى هذا الحدث، وما وقع فيه.
2. مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن اليهود الذين يكيدون للإسلام ويتربصون به، قد وجدوا فيما أصاب المسلمين يوم (أحد) مقالا يقولونه فيهم وفي أمداد السماء التي أمدهم الله بها يوم بدر، والتي عدّها اليهود مزاعم وأباطيل.. فلما كان ما أصيب به المسلمون في يوم أحد، أظهر اليهود الشماتة، وأخذوا يلقون إلى أسماع المنافقين ومن في قلوبهم مرض بالشكوك والريب في أمر محمد ودعوته، وهذا ما حدّث القرآن الكريم عنه في الآية قبل هذه الآية: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾
3. قوله تعالى: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ تذكير للنبيّ والمسلمين بغزوة أحد، وما كان فيها من أحداث، حيث أصيب المسلمون، وابتلوا في أنفسهم، وكان في هذا ما أشمت اليهود والمنافقين، وأطلق ألسنتهم بقالة السوء في الإسلام، ونبي الإسلام، وهو ما حدّث عنه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾
4. في غزوة أحد خرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من أهله غدوة، أي مبكرا، ليلقى قريشا وجموعها التي أقبلت حتى أشرفت على المدينة، عند جبل (أحد).. وهناك بوّأالنبيّ المؤمنين مقاعد للقتال، ووضع كل جماعة في مكانها من المعركة.
5. في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ تذكير للمسلمين، وتحذير لغيرهم من المشركين والمنافقين، من قدرة الله على كشف ما في الصدور، حتى لتصير الخواطر كأنها أصوات تسمع، أو كأنها مسطورات ترى وتقرأ.. فلا تخفى على الله خافية، مما يدور في الصدور من خير أو شر.
6. ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ هو من أنباء ما في الصدور التي كشف عنها علم الله، ففي جيش المسلمين وقع في بعض النفوس شيء من التردد والخوف، وكاد ذلك يكون واقعا يدفع صاحبه إلى الفرار من المعركة قبل وقوعها.
7. في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ بيان لرحمة الله ولطفه بهاتين الطائفتين من المؤمنين، إذ ربط على قلوبهم، وجلى عنهم خواطر الشك والريب، وثبّت أقدامهم على طريق الجهاد، فسلم لهم دينهم، وكان للمسلمين منهم قوة وعونا في مواجهة العدو.
8. الهمّ بالشيء تحديث النفس به، ومراودة صاحبها عليه، دون أن يتخذ مظهرا عمليّا.
9. لم يذكر القرآن الكريم اسم هاتين الجماعتين اللتين همّتا هذا الهمّ السيئ، لأن رحمة الله تداركتهما، فلم يقع منهما ما يسوء، وكان من تمام رحمة الله ولطفه بهما أن ستر عليهما هذا الهمّ الذي همّتا به! ثم انظر في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ وكيف ترى أن ولاية الله لهما قد ألقت عليهما سترا من بهاء وجلال، فكانا من أولياء الله وأنصار الله، ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ فهل مع لطف اللطيف ورحمة الرحيم يبقى على الإنسان ذنب أو حوب؟ وكلا، ثم كلا!
10. كعادة المفسّرين، في مثل هذه الأمور التي يذكر فيها القرآن الأحداث مطلقة، من غير تحديد أزمانها أو أمكنتها، أو أشخاصها، حيث لا تؤثر الأزمان ولا الأمكنة ولا الأشخاص في العبر والعظات المستخلصة من الحدث ـ نراهم يجهدون الجهد كله في البحث عن متعلقات الحدث، من زمان ومكان وأشخاص، يجلبونها من كل واد، ويلتقطونها من كل فم، ثم يلقونها بين يدى الحدث جثثا هامدة، مستجدية مستخزية!
11. هنا ذكر المفسرون مقولات كثيرة في هاتين الطائفتين، ولو أخذ بتلك المقولات جميعها لشملت المسلمين كلهم، من مهاجرين وأنصار! ونحن نحترم صمت القرآن هنا، ولا نقول من هما هاتان الطائفتان ـ لأنا لا ندرى على وجه اليقين من هما، ولو درينا لم نر داعية للقول ـ وحسبنا أن نعلم من هذا الحدث أمورا.. منها:
أ. أولا: أن المؤمن لا يخلو في حال من أن تطرقه وساوس سوء، أو تدور في نفسه نزعات شر.
ب. وثانيا: أن صدق الإيمان، وإخلاص النية يصلان الإنسان بربه، فيجد من أمداد لطفه ورحمته، ما يأخذ بيده إذا عثر، ويشد من عزمه إذا ضعف، وفي هذا يقول الله في يوسف ـ عليه السّلام ـ وقد جاءته أمداد السماء، فصرفت عنه السوء الذي كاد يلمّ به: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾.
ج. ثالثا: أن ما يهمّ به المؤمن من سوء، وما تحدثه به نفسه من وساوس الشر، لا يؤاخذ عليه، حتى يتحول هذا الهمّ وتلك الوساوس إلى عمل، يؤثّر أثره في الناس، وفي الحياة.
12. على أن الاستسلام لهواجس الشر، والاستماع الطويل لوساوس السوء، قد يمكّن لها في كيان الإنسان، ويعطى لها سلطانا عليه، بحيث تصبح يوما فإذا هي مالكة زمام الإنسان، موجهة له، وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يخلى نفسه من تلك الوساوس، فإنه يستطيع أن يصرفها عنه كلما طرقته، وألا يعطيها شيئا من قلبه أو عقله، بل يشغلهما بما هو أجدى وأولى.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/569.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وجود حرف العطف في قوله: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ﴾ مانع من تعليق الظرف ببعض الأفعال المتقدّمة مثل ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ [آل عمران: 118]، ومثل ﴿يَفْرَحُوا بِهَا﴾ [آل عمران: 120] وعليه فهو آت كما أتت نظائره في أوائل الآي والقصص القرآنية، وهو من عطف جملة على جملة وقصة على وذلك انتقال اقتضابي فالتقدير: واذكر إذ غدوت، ولا يأتي في هذا تعلّق الظرف بفعل ممّا بعده لأنّ قوله: ﴿تُبَوِّئُ﴾ لا يستقيم أن يكون مبدأ الغرض، وقوله: ﴿هَمَّتْ﴾ لا يصلح لتعليق ﴿إِذْ غَدَوْتَ﴾ لأنّه مدخول (إذ) أخرى.
2. مناسبة ذكر هذه الوقعة عقب ما تقدّم أنّها من أوضح مظاهر كيد المخالفين في الدّين، المنافقين، ولمّا كان شأن المنافقين من اليهود وأهل يثرب واحدا، ودخيلتهما سواء، وكانوا يعملون على ما تدبّره اليهود، جمع الله مكائد الفريقين بذكر غزوة أحد، وكان نزول هذه السورة عقب غزوة أحد كما تقدّم، فهذه الآيات تشير إلى وقعة أحد الكائنة في شوّال سنة ثلاث من الهجرة حين نزل مشركو مكّة ومن معهم من أحلافهم سفح جبل أحد، حول المدينة، لأخذ الثّأر بما نالهم يوم بدر من الهزيمة، فاستشار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه فيما يفعلون وفيهم عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، فأشار جمهورهم بالتحصّن بالمدينة حتّى إذا دخل عليهم المشركون المدينة قاتلوهم في الديار والحصون فغلبوهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين، وأشار فريق بالخروج ورغبوا في الجهاد وألحّوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم برأي المشيرين بالخروج، ولبس لأمته، ثمّ عرض للمسلمين تردّد في الخروج فراجعوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: (لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتّى يحكم الله بينه وبين عدوّه)، وخرج بالمسلمين إلى جبل أحد وكان الجبل وراءهم، وصفّهم للحرب، وانكشفت الحرب عن هزيمة خفيفة لحقت المسلمين بسبب مكيدة عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، إذا انخزل هو وثلث الجيش، وكان عدد جيش المسلمين سبعمائة، وعدد جيش أهل مكّة ثلاثة آلاف، وهمّت بنو سلمة وبنو حارثة من المسلمين بالانخذال، ثمّ عصمهم الله، فذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ أي ناصرهما على ذلك الهمّ الشيطاني، الّذي لو صار عزما لكان سبب شقائهما، فلعناية الله بهما برّأهما الله من فعل ما همّتا به، وفي (البخاري) عن جابر بن عبد الله قال (نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وفينا نزلت ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ وما يسرّني أنّها لم تنزل والله يقول: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ وانكشفت الواقعة عن مرجوحية المسلمين إذ قتل منهم سبعون، وقتل من المشركين نيف وعشرون وقال أبو سفيان يومئذ: (اعل هبل يوم بيوم بدر والحرب سجال) وقتل حمزة ومثّلت به هند بنت عتبة بن ربيعة، زوج أبي سفيان، إذ بقرت عن بطنه وقطعت قطعة من كبده لتأكلها لإحنة كانت في قلبها عليه إذ قتل أباها عتبة يوم بدر، ثمّ أسلمت بعد وحسن إسلامها(2)، وشجّ وجه النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يومئذ وكسرت رباعيته، والغدوّ: الخروج في وقت الغداة.
3. (من) في قوله: ﴿مِنْ أَهْلِكَ﴾ ابتدائية، والأهل: الزوج، والكلام بتقدير مضاف يدلّ عليه فعل ﴿غَدَوْتَ﴾ أي من بيت أهلك وهو بيت عائشة، و﴿تُبَوِّئُ﴾ تجعل مباء أي مكان بوء، والبوء: الرجوع، وهو هنا المقرّ لأنّه يبوء إليه صاحبه، وانتصب ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ على أنّه مفعول أوّل ل (تبوئ)، ومقاعد مفعول ثان إجراء لفعل تبوّئ مجرى تعطي، والمقاعد جمع مقعد، وهو مكان القعود أي الجلوس على الأرض، والقعود ضدّ الوقوف والقيام، وإضافة مقاعد لاسم ﴿لِلْقِتَالِ﴾ قرينة على أنّه أطلق على المواضع اللّائقة بالقتال الّتي يثبت فيها الجيش ولا ينتقل عنها لأنّها لائقة بحركاته.
4. أطلق المقاعد هنا على مواضع القرار كناية، أو مجازا مرسلا بعلاقة الإطلاق، وشاع ذلك في الكلام حتّى ساوى المقرّ والمكان، ومنه قوله تعالى: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ [القمر: 55]، وكلمة مقاعد جرى فيها على الشريف الرضي نقد إذ قال في رثاء أبي إسحاق الصابئ:
çأعزز عليّ بأن أراك وقد خلا...عن جانبيك مقاعد العوّادé
ذكر ابن الأثير في المثل السائر أن ابن سنان قال: إيراده هذه اللّفظة في هذا الموضع صحيح إلّا أنّه موافق لما يكره ذكره لا سيما وقد أضافه إلى من تحتمل إضافته إليه وهم العوّاد، ولو انفرد لكان الأمر سهلا، قال ابن الأثير: قد جاءت هذه اللّفظة في القرآن فجاءت مرضية وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ ألا ترى أنّها في هذه الآية غير مضافة إلى من تقبح إضافتها إليه.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/205.
(2) هذه دعوى عريضة، فحسن الإسلام يعلمه الله تعالى وحده، خاصة ممن ظهرت عداوته، لكن للأسف أشاعت الفئة الباغية أن قريشا بريئة من النفاق، ولذلك اعتبرتهم أسلموا، بل حسن إسلامهم.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى ما بيته أعداء المسلمين من خبال وأذى ينزلونه بهم إن اتخذوا منهم بطانة يلقون إليهم بالمودة ويكشفون سرائرهم لهم، وبين أن أولئك المنافقين تسوؤهم مصلحة المؤمنين، وتسرهم مساءتهم، وأنه لا علاج إلا أن تحذروهم وتصبروا عليهم، وتتقوا الله تعالى، وتصونوا أنفسكم عن تمكينهم من الأذى، وفي هذه الآيات يشير سبحانه إلى بعض صنيعهم في شديدة للمسلمين، وكيف كانوا يبثون الشك والفوضى في نفوس المجاهدين، مما جعل بعضهم يفكر في أن يفشل ويعجز وتخور عزيمته، ولقد أشار سبحانه في ذلك إلى غزوة أحد وغزوة بدر، فقال سبحانه: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ هذه الآية وما تليها نزلت في غزوة أحد، إذ خرج النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في السحر من السابع من شوال في السنة الثالثة من حجرة عائشة، وأخذ يصف المؤمنين للقتال، ويقف كل فريق منهم في موقفه، وقد جعل الرماة من وراء المقاتلين، وأمرهم بأن يكونوا وراء ظهور المقاتلين ينضحون عنهم بالنبل، وقال لأميرهم: (انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك، لا نؤتين من قبلك) وأمر الجيش كله ألا يتحرك إلا عندما يأذنه بالحركة، حتى إن أحد الأنصار استشرف للقتال وتمناه عندما رأى قريشا قد سرّحت أفراسها وإبلها في زروع المسلمين، وقال: (أترعى زروع بنى قيلة (يعنى الأنصار) ولما تضارب)
2. هذا مؤدى قوله تعالى: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ ومعنى غدوت: أصبحت مبكرا مسارعا إلى تنظيم جيش المؤمنين جيش الله تعالى، والغدوة والغداة أول النهار، ويذكر الغدو والغداة أول النهار، ويذكر الغدو مقابلا بالآصال أي وقت العصر وقبل المغرب، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ [النور]، وقوبلت الغداة بالعشى، ويطلق الغدو على الذهاب ويكون مقابلا للرواح، ومن ذلك قوله تعالى في الرياح: ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ [سبأ] وذلك لأن الذهاب عادة يكون في البكور.
3. ﴿تُبَوِّئُ﴾ معناه تسهل وتنظم وتثبت، وأصله من البواء وهو مساواة الأجزاء في المكان، وبوأت له مكانا سويته، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا﴾ [يونس]، وعلى ذلك يكون معنى قوله تعالى: ﴿تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ أي تسوى لهم بالتنظيم والترتيب مقاعد للقتال، فهي إذا تتضمن معنى التنظيم والتهيئة والاستعداد، ولقاء المشركين صفا واحدا، كأنهم بنيان مرصوص.
4. هذا التنظيم إنما هو بيان مواقف القتال، وموضع كل فريق في الموقف الذي يقفه، ولكن النص السامي الكريم قال: ﴿مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ فعبر عن المواقف بالمقاعد للإشارة إلى وجوب الثبات والسكون، حتى لا يتحركوا إلا بأمر من القائد الأعظم وهو النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد كان الثبات سبب النصر في غزوة أحد، والهزيمة كان سببها عدم الاستمرار في البقاء في مواقفهم، ذلك أن الرماة عندما رأوا المؤمنين قد انقضوا بأمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على المشركين يقتلونهم ويزيلونهم عن مواقفهم، تركوا مواقفهم وذهبوا وراء المؤمنين يغنمون ويأخذون، فانقض عليهم من ورائهم فرسان المشركين، فتفرقوا، وهذا قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [آل عمران] ومن هنا كانت إصابة المسلمين في موقعة أحد.
5. ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذا النص السامي لبيان أنه تعالى مطلع على ما كان يجرى بين المؤمنين وبين النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من مشاورات، وما استقر عليه رأى كثرتهم، ثم نزوله صلّى الله عليه وآله وسلّم عند رأى الكثرة، ثم عدول الكثرة إلى رأى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم قول النبيّ لهم معتزما إمضاء ما قرروا أولا، وإن كان غير رأيه الذي مال إليه، ليعلمهم أن التردد ولو للصواب المحتمل ضرره أكثر من المضى ولو في الرأي المحتمل للخطإ فإن صواب الحروب وخطأها، لا يتبين، وإن التردد فيها يقتل، والمضاء فيها ينصر، وبين بهذا التذييل أيضا أن الله تعالى عليم بخفايا القلوب، فهو يعلم ما تهم به قلوب المؤمنين، وما توسوس به قلوب المنافقين، وما يبثونه من روح الذعر والهلع في نفوس المؤمنين، وبحديثهم مستجابا في قلوب ضعفاء الإيمان، وهم الذين قال القرآن عنهم: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾
6. ولقد علم الله ما كان من المؤمنين والمنافقين من مناقشات عندما ساور المدينة المشركون في العام الثالث، وأرادوا أن يثأروا من الدماء التي أصابتهم في بدر، فقد جمع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه ليستشيرهم في الأمر، أيخرجون إليهم، أم يبقون حتى يجيء العدو إليهم في الديار، فقال بعض المؤمنين: (أقم يا رسول الله بالمدينة، ولا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خائبين)، وعارض ذلك الرأي الأكثرون ممن لم يحضروا بدرا فقالوا: (اخرج بنا يا رسول الله إلى هؤلاء الأكلب لا يرون أنّا قد جبنّا عنهم)، وما زال أولئك الذين لم يحضروا بدرا بالرسول حتى نزل عند رأيهم، وقد كان إلى الأول أميل، وتركهم وعاد إلى أهله ليلبس لأمة الحرب، فتلاوم المسلمون فيما بينهم، وقال قائلهم: بئسما صنعنا، نشير على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والوحى يأتيه؟ فلما جاء إليهم الرسول قالوا: اصنع يا رسول الله ما رأيت، فقال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ذو العزم: (ما كان لنبي لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه)، وقد خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ألف من أصحابه، وكان عدد المشركين ثلاثة آلاف، وكان مع المسلمين طائفة من المنافقين، على رأسهم عبد الله بن أبى ابن سلول، فرأى أن يحدث الخلل في الصفوف فرجع ومعه نحو ثلاثمائة ممن على شاكلته وضعاف الإيمان، وبرز تخاذله بأنه كان يرى ألا يخرج إليهم المؤمنون وأن يبقوا بالمدينة، ومنهم من زعم أنه لا قتال، وقالوا: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾
7. وقد ظهرت عداوة المنافقين، وبرزت نياتهم، وتكشفت سرائرهم، حتى إن أعمى منهم قد مر النبيّ في بعض أصحابه بحائطه (أي بستانه) فأخذ يحثو التراب في وجوههم، ويقول وقد أخذ حفنة بيده: لو أنى أعلم أنى لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك فابتدره القوم ليقتلوه، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر) وفي وسط تلك الزوبعة التي أثارها المنافقون بانشقاقهم عن الجمع وعودتهم إلى المدينة ألقوا الرعب في قلوب بعض الضعفاء، حتى لقد هم بعض المؤمنين بالفشل، وهذا هو ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾
8. الهمّ هو حديث النفس واتجاهها إلى أمر معين من غير تنفيذ، فحديث النفس هو ما يأخذ طريق التنفيذ، فإذا أخذ طريق التنفيذ فهو إرادة وعزيمة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾ والفشل ضعف مع جبن، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال] ومن ذلك أيضا قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ ومعنى النص اذكر أيّها النبيّ الكريم أنت وأمتك أثر إفساد المنافقين إذ اتخذتم منهم بطانة، اذكر ذلك إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا، أي إذ حدثت نفسها طائفتان من المؤمنين لا من المنافقين أن تفشلا وتضعفا في وقت الشديدة والكريهة، مع أن الله تعالى وليهما وناصرهما، ومن يكون الله معه لا ينهزم إلا إذا خالف أوامر الله وأوامر نبيه وقائده الأعلى، فذكر ولاية الله تعالى في هذا المقام لسببين:
أ. أحدهما: أن المنافقين استطاعوا أن يؤثروا في المؤمنين ذلك التأثير السيئ مع أن المؤمن يشعر دائما بولاية الله تعالى وعزته، وأنه سبحانه وتعالى ينصر من ينصره، وهو القوى العزيز، وأن هذا يوجب أن يعمل الهادي والمرشد على أن يصون نفوس المؤمنين من أن يدخل إليها شياطين الإنس من المنافقين والمخادعين.
ب. الثاني: أن ذلك فيه معنى التوبيخ لأولئك الذين تأثرت نفوسهم بأولئك المنافقين لأنه ما كان ينبغي لهم أن يستمعوا إلى دعاية المنافقين، أو أن يفتحوا لها بابا تدخل منه إلى قلوبهم، ولكن هكذا البشر تتسرب إلى نفوسهم وسوسة الشيطان من حيث لا يشعرون.
9. إن الطائفتين اللتين همتا بالفشل هما بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج، وكانا جناحى العسكر يوم أحد، وقد ذكر البخاري عن جابر قال فينا نزلت: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل لقول الله عزّ وجل: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾
10. ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ وإذا كان الله سبحانه وتعالى ولىّ المؤمنين حتى من يهم أن يضعف متأثرا بحركات المنافقين، فإنه سبحانه وتعالى هو الذي يتوكل عليه المؤمنون، والمؤمن بوصف كونه مؤمنا لا يعتمد على حليف أو نصير، وإنما يعتمد على الله تعالى وحده، فإذا كان المنافقون قد خذلوا المؤمنين في ساعة العسرة فإن الله معهم وناصرهم، ولن يخذلهم ما داموا آخذين بأوامره منتهين عن نواهيه، ولن يتمكن منهم في هذه الحال أعداؤهم ﴿وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ [البروج]
11. التوكل الحقيقي لا يستدعى ترك الأسباب، فإنه لا توكل إلا بعد الأخذ بالأسباب، إذ إن حقيقة التوكل الذي طالب الله تعالى به هو أنه يأخذ بالأسباب ويستعد، ثم يترك الأمور لله تعالى، فإنه قد يعرض للإنسان ما ليس في حسبانه، فعليه أن يترك تلك المنطقة الغيبية لعلام الغيوب، والدليل على أن التوكل في القرآن والسنة يستدعى اتخاذ الأسباب، أنه يجتمع مع الجهاد والمشاورة، فالله تعالى يقول: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ [آل عمران]، وفي الآية التي نتكلم في معانيها السامية جاء الأمر بالتوكل بعد أن أخذ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال، ويأخذ الأهبة ويستعد، وإذا كان التوكل ترك الأسباب فلم كان الأمر بالعمل والقتال وغيره من التكليفات التي تكون سببا لنتائج شرعية.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1387.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية، وعشرات الآيات بعدها نزلت في وقعة أحد التي نلخصها بما يلي(2).
2. ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾، الغدوة والغداة ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وتبوئ تهيئ وتدبر، والمقاعد واحدها مقعد، أي مكان القعود، والمعنى اذكر أيها الرسول وقت خروجك غدوة من بيتك تدبر أمكنة للرماة، وللفرسان، ولسائر المؤمنين الذين كانوا معك.
﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ الطائفتان هما بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، كادت تؤثر فيهما حركة المنافق عبد الله بن أبيّ، لولا ان أدركتهما ولاية الله وتثبيته، وقوله تعالى: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ دليل قاطع على انه سبحانه يمنح التوفيق والعناية لناس من عباده، دون ناس، لأن معناه انه لا يدع الطائفتين تفران وتفشلان، والله سبحانه أعلم، حيث يجعل عطاءه وعنايته، كما انه أعلم، حيث يجعل رسالته.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/148.
(2) ذكر هنا قصة غزوة أحد كما هي في كتب السيرة، وقد سبق ذكرها.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. رجوع إلى ما بدأت به السورة من تنبيه المؤمنين بما هم عليه من الموقف الصعب، وتذكيرهم بنعم الله عليهم من إيمان ونصر وكفاية، وتعليمهم ما يسبقون به إلى شريف مقصدهم، وهدايتهم إلى ما يسعدون به في حياتهم وبعد مماتهم، وفيها قصة غزوة أحد، وأما الآيات المشيرة إلى غزوة بدر فإنما هي من قبيل الضميمة المتممة ومحلها محل شاهد القصة وليست مقصودة بالأصالة على ما سيجيء.
2. ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ إذ ظرف متعلق بمحذوف كاذكر ونحوه، وغدوت من الغدو وهو الخروج غداة، والتبوئة تهيئة المكان للغير أو إسكانه وإيطانه المكان، والمقاعد جمع، وأهل الرجل كما ذكره الراغب ـ من يجمعه وإياهم نسب أو بيت أو غيرهما كدين أو بلد أو صناعة، يقال: أهل الرجل لزوجته ولمن في بيته من زوجة وولد وخادم وغيرهم، وللمنتسبين إليه من عشيرته وعترته، ويقال: أهل بلد كذا لقاطنيه، وأهل دين كذا لمنتحليه، وأهل صناعة كذا لصناعها وأساتيدها، ويستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع ويختص استعماله بالإنسان فأهل الشيء خاصته من الإنسان، والمراد بأهل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصته وهم جمع، وليس المراد به هاهنا شخص واحد بدليل قوله: ﴿غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ إذ يجوز أن يقال: خرجت من خاصتك ومن جماعتك ولا يجوز أن يقال: خرجت من زوجتك وخرجت من أمك، ولذا التجأ بعض المفسرين إلى تقدير في الآية فقال: إن التقدير: خرجت من بيت أهلك، لما فسر الأهل بالمفرد، ولا دليل يدل عليه من الكلام.
3. سياق الآيات مبني على خطاب الجمع وهو خطاب المؤمنين على ما تدل عليه الآيات السابقة واللاحقة ففي قوله: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، التفات من خطابهم إلى خطاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكان الوجه فيه ما يلوح من آيات القصة من لحن العتاب فإنها لا تخلو من شائبة اللوم والعتاب والأسف على ما جرى وظهر من المؤمنين من الفشل والوهن في العزيمة والقتال، ولذلك أعرض عن مخاطبتهم في تضاعيف القصة وعدل إلى خطاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يخص به فقال: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾، وقال: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾، وقال: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾، وقال: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾، وقال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾، وقال: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا﴾ الآية، فغير خطاب الجمع في هذه الموارد إلى خطاب المفرد، وهي موارد تحبس المتكلم الجاري في كلامه عن الجري فيه لما تغيظه وتهيج وجده، بخلاف مثل قوله في ضمن الآيات: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ﴾، وقوله: ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾، لأن العتاب فيهما بخطاب الجمع أوقع دون خطاب المفرد، وبخلاف مثل قوله في ضمن الآيات: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ الآية، لأن الامتنان ببعثة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع أخذه غائبا أوقع وأشد تأثيرا في النفوس، وأبعد من الوهم والخطور، فتدبر في الآيات تجد صحة ما ذكرناه.
4. معنى الآية: واذكر إذ خرجت بالغداة من أهلك تهيئ للمؤمنين مقاعد للقتال أو تسكنهم وتوقفهم فيها والله سميع لما قيل هناك، عليم بما أضمرته قلوبهم.
5. المستفاد من قوله: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾، قرب المعركة من داره صلّى الله عليه وآله وسلّم فيتعين بذلك أن الآيتين ناظرتان إلى غزوة أحد فتتصل الآيتان بالآيات الآتية النازلة في شأن أحد لانطباق المضامين على وقائع هذه الغزوة، وبه يظهر ضعف ما قيل: إن الآيتين في غزوة بدر، وكذا ما قيل: إنهما في غزوة الأحزاب، والوجه ظاهر.
6. ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾) أي سميع يسمع ما قيل هناك، عليم يعلم ما كان مضمرا في قلوبكم، وفيه دلالة على كلام جرى هناك بينهم، وأمور أضمروها في قلوبهم، والظاهر أن قوله: ﴿إِذْ هَمَّتْ﴾، متعلق بالوصفين.
7. ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ الهم ما هممت به في نفسك وهو القصد، والفشل ضعف مع الجبن.
8. ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾، حال والعامل فيه قوله: ﴿هَمَّتْ﴾، والكلام مسوق للعتاب واللوم، وكذا قوله: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، والمعنى: أنهما همتا بالفشل مع أن الله وليهما ولا ينبغي لمؤمن أن يفشل وهو يرى أن الله وليه، ومع أن المؤمنين ينبغي أن يكلوا أمرهم إلى الله ومن يتوكل على الله فهو حسبه، ومن ذلك يظهر ضعف ما قيل: إن هذا الهم هم خطرة لا هم عزيمة لأن الله تعالى مدحهما، وأخبر أنه وليهما، ولو كان هم عزيمة وقصد لكان ذمهم أولى إلى مدحهم، وما أدري ماذا يريد بقوله: إنه هم خطرة، أمجرد الخطور بالبال وتصور مفهوم الفشل؟ فجميع من هناك كان يخطر ببالهم ذلك، ولا معنى لذكر مثل ذلك في القصة قطعا، ولا يسمى ذلك هما في اللغة، أم تصورا معه شيء من التصديق، وخطورا فيه شوب قصد؟ كما يدل عليه ظهور حالهما عند غيرهما، ولو كان مجرد خطور من غير أي أثر لم يظهر أنهما همتا بالفشل، على أن ذكر ولاية الله لهم ووجوب التوكل على المؤمن إنما يلائم هذا الهم دون مجرد الخطور، على أن قوله: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾، ليس مدحا بل لوم وعظة على ما يعطيه السياق كما مر، ولعل منشأ هذا الكلام ما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال: فينا نزلت، وما أحب أنها لم تكن، لقوله: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾، ففهم من الرواية أن جابرا فهم من الآية المدح، ولو صحت الرواية فإنما يريد جابر أن الله تعالى قبل إيمانهم وصدق كونهم مؤمنين حيث عد نفسه وليا لهم، والله ولي الذين آمنوا والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت، لا أن الجملة واقعة موقع المدح في هذا السياق الظاهر في العتاب.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/5.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما انتهى زجر المؤمنين عن مؤاخاة المنافقين والاطمئنان بهم لأنهم العدو الأكبر، أتبع سبحانه ذلك قصة معركة أحد، وما كان فيها من أعمال المنافقين، وما كان فيها من ضرر المعصية، وما كان فيها من النصر قبل المعصية، وقد توسعت قصتها واشتملت على فوائد كثيرة وتربية دينية، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿تُبَوِّئُ﴾ تجعل أماكن يثبتون فيها، وتأمرهم أن يتخذوها مَبَاءَةً يرجعون إليها كلما فارقوها لحاجة، فليس لأحد أن يترك مكانه المعيّن له، ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ﴾ لأمرك لهم بالثبات في أماكنهم عليم بمن يطيع ومن يعصي، وسميع بكل قول ﴿عَلِيمٌ﴾ بكل شيء.
2. ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ قال الشرفي في المصابيح: (وفي هاتين الطائفتين يقول المرتضى عليه السلام: سئل عن هذه المسألة أبي الهادي إلى الحق رحمه الله؟ فقال: هما بنو سلمة وبنو حارثة، فكانت بنو سلمة نحو سلع، وبنو حارثة نحو أحد حين عبّأ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الناس وذلك يوم [الخندق])، قال الشرفي: (ويدل قوله: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ أي ناصرهما على أن ذلك لم يكن منهما معصية، وعلى أنهما لم يعزما على ترك الجهاد وإنما هو حديث نفس..)
3. قول الإمام الهادي عليه السلام: (نحو أحد) لعله يعنى تفشلا نحو أحد، و(أحد) هو جبل حول المدنية وعنده كانت المعركة فمعنى همت أن تفشلا حدثتهما أنفسهما بالفرار، ولعل سبب ذلك ما وقع من الخلاف في الرأي ورجوع عبد الله ابن أبيّ ومعه جماعة إلى المدينة فنظرتا إلى قلة المجاهدين في جنب كثرة العدو.
4. ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ المتولي لشأنهما، المحسن لرعايتهما، المدبر لهما ما فيه الخير لهما من النصر أو الشهادة أو غير ذلك؛ لأنه عالم الغيب، والقادر على كل شيء، وهو لا يريد لأوليائه إلا ما هو خير لهم، فعليهم أن يكلوا أمرهم إليه، ويتكلوا عليه في الجهاد، ولا يترددوا فيه بعد ما أمروا به؛ لأنه خير لهم ولا يكون فيه لهم إلا ما هو خير لهم، كقوله تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَمَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ [التوبة:51 ـ 52] فهذا معنى ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، وفائدة هذا: أن يجاهدوا باذلين أنفسهم لله مسلمين لأمره لا يتوقفون حتى يثقوا بالنصر وقهر العدو، فتفسير ﴿وَلِيُّهُمَا﴾ بقوله: ناصرهما في هذا السياق وأمثاله، خلاف الظاهر عندي.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/528.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كانت واقعة أحد من أهمّ الوقائع الإسلامية الحربية التي عاش المسلمون فيها حالة النصر كأفضل ما يكون، ثم حوّلوها إلى هزيمة منكرة بفعل الممارسات الخاطئة التي انحرف فيها الكثيرون من المقاتلين عن الهدف الذي يفرض عليهم الانضباط في ما تقتضيه خطّة الحرب من مواقع ومواقف.
2. في هذه المعركة انطلقت قريش إلى حرب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد هزيمتها الساحقة في بدر من أجل الثأر لكرامتها وقتلاها، والقضاء على قوّة الإسلام المتنامية المتصاعدة في بداياتها، عندما عرف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالخبر استعد لقتالهم وخرج في ألف مقاتل، ولكن عبد الله بن أبي ـ رأس المنافقين في المدينة ـ استطاع أن يدفع ثلاثمائة منهم إلى التراجع.. وحاول ذلك مع حيّين من الأنصار، وهما بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس، فلم يفلح بعد أن كاد يصل إلى خطته، ورسم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الخطّة للمعركة، وكان من ضروراتها سدّ بعض الثغرات التي تطل على أرض المعركة مما يعتبر نقطة ضعف في دفاعات المسلمين، فجعل على تلك الثغرة الواقعة في جبل خلف جيش المسلمين خمسين من الرماة، بقيادة عبد الله بن جبير وأمرهم بالثبات في كل الحالات، سواء كانت الغلبة للمسلمين أم للكافرين.. ودارت المعركة التي تروي تفاصيلها كتب السيرة، وهزم المشركون وتغلّب المسلمون عليهم واندفعوا في جمع الغنائم، واعتبر الرماة الواقفون على الجبل أن المعركة انتهت، وخافوا أن تفوتهم فرصة الحصول على نصيبهم من الغنائم، وبدأوا يخلون أماكنهم؛ وناشدهم قائدهم أن يلتزموا بأوامر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلم يسمع له إلا عشرة رجال منهم، وحانت من خالد بن الوليد التفاتة ـ وكان من المنهزمين مع المشركين ـ فرأى خلوّ الثغرة، فقصدهم بكتيبة من المشركين فقتل العشرة بأجمعهم، وانضمت فلول المشركين إلى خالد، فانطلقوا في عملية التفاف مباغتة، فدارت الدائرة على المسلمين حتى تعرضت حياة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم للخطر، إذ أصابته حجارة من المشركين، فكسرت رباعيته، وشجّ في وجهه، وجرحت جبهته، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجهه.. وفر المسلمون عنه، ولم يبق معه إلّا نفر قليل كان في طليعتهم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام وأبو دجانة، وسهل بن حنيف، فدافعوا عنه دفاع المستميت.. وقتل حمزة في المعركة بحربة وحشي، وذلك بإغراء هند له، واستخرجت كبده فلاكتها.. وكان عدد القتلى من المشركين اثنين وعشرين قتيلا، وعدد شهداء المسلمين سبعين.
3. عاجلت هذه السّورة تجربة المعركة، وتحدثت عن نقاط الضعف والقوّة فيها، وأثارت في وعي المسلمين الكثير من المفاهيم الإسلامية المتعلقة بحركة المعركة وموقع القيادة في خطّ السير ومدى تأثير وجودها وغيابها، في موضوع الالتزام بالمسيرة والاستمرار على المبدأ، وتابعت المسلمين في المعركة وهم يتأمّلون ويخافون ويندفعون ويواجهون الأعداء وينهزمون أمامهم.. ولاحظت كيف تتحكم بهم جوانب الضعف البشري، ووقفت معهم لتدفعهم إلى مواجهتها بشجاعة المؤمن الذي يعترف بها بصراحة في محاولة لتحويلها إلى نقاط قوّة بالجهد والإيمان والمعاناة.. وأعطتنا درسا عمليّا في التأكيد على الجانب السلبي في الشخصية التاريخية بالقوّة نفسها التي تؤكد على الجانب الإيجابي فيها، على أساس الواقعية الإنسانية في الإنسان، وعدم إغفال الضعف في التجربة الحيّة بحجّة أن ذلك يسيء إلى قداسة التاريخ وعظمة أبطاله، مما يترك انطباعا سلبيّا عند الأجيال المقبلة بفقدان النماذج الكثيرة التي تصلح للقدوة البشرية، فلا يبقى لنا إلّا الأنبياء والأولياء الذين يتميزون بميزة العصمة في ملكاتهم وطاقاتهم الروحيّة، الأمر الذي يوحي للأجيال بأنّ تكليف الأنبياء يختلف عن تكليفهم، فإذا تميّزوا بخلق أو عمل، فليس معنى ذلك أن علينا أن نلتزم بهذا الخلق أو ذلك العمل، لأننا لا نملك ما يملكون من طاقات.. فلا بدّ لنا من تاريخ أبيض ناصع يؤرخ للبطولات البشرية العادية التي تنطلق فيها الإيجابيات بدون سلبيات، لتتصاعد لدينا الثقة بالإمكانيات التي تكمن في داخل الإنسان العادي للارتفاع إلى المستوى الأعلى، ولكننا نعتقد أن هذه الحجّة لا ترتكز على أساس إسلامي واقعي، وذلك من خلال ملاحظتين:
أ. الأولى: إن الفكرة القائلة بأنّ سيرة الأنبياء والأولياء لا تعتبر أساسا للدعوة إلى القدوة لأنهم فوق مستوانا غير صحيحة، لأن الأنبياء في ممارساتهم الروحيّة والعملية لا يتحركون من مستوى فوق مستوى البشر، بل يعيشون في الحياة بالطاقات البشرية العادية التي تتكامل وتتصاعد بالوعي والمعاناة، وهذا ما أكّده القرآن في أكثر من آية، في حديثه عن بشرية الأنبياء وخطأ العقيدة التي تفرض لهم شيئا فوق هذا في تكوينهم الذاتي، وفي هذا الاتجاه كانت الدعوة الإلهية إلى التأسي برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]
ب. الثانية: إن قيمة القدوة في التجربة الإنسانية تكمن في واقعيتها التي توحي بأنّ الخطأ والانحراف في بعض مراحل العمل، لا يعني سقوط الإنسان ونهايته في حساب العقيدة والمصير، بل يمكن له أن يقوم من سقطته ويصحّح خطأه ويقوّم انحرافه واعوجاجه، ليستقيم له الطريق نحو الهدف، ممّا يعني أن على الإنسان السعي الدائب في خطّ التكامل في حالات النقصان وعدم الانسحاق أمام الحالات السلبية.. وهذا ما أكده القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201]، فلا مانع من أن يطوف بك الشيطان ـ وأنت تقيّ ـ، لأن المهمّ هو أن لا تظل مع الشيطان في وحيه وانحرافه؛ وبذلك يكون التاريخ تاريخا للتجربة الإنسانية الناجحة التي تدفع إلى الأخذ بأسباب النجاح، وتمنعنا من تقديس الأخطاء والخطايا باسم عصمة الخاطئين المخطئين.
4. عالجت هذه الآية كثيرا من الجوانب الإنسانية المتحركة في المعركة، وأثارت كثيرا من الأجواء.. ونعتقد أن من واجب الباحثين الإسلاميين الذين يدرسون طبائع المعارك الإسلامية أن لا يكتفوا بالتاريخ العادي الذي يدرس الجوانب الظاهرة في الحادثة ولا ينفذ إلى تحليل الحالات الإنسانية الداخلية في التجربة، بل عليهم أن يحاولوا الانطلاق إلى القرآن الذي هو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ليعرفوا حجم المعركة بأسلوب عميق شامل، وسنحاول ـ بعون الله ـ أن نتابع دراسة معركة أحد من خلال هذه الآيات الكريمة.
5. تبدأ الآيات بهاتين الآيتين اللتين قدّمناهما أمام الحديث: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ لقد بدأ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يدبّر أمر المعركة في بداية النهار، وهو معنى الغدوة الذي يمثل الفترة ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس؛ فقد انطلق صلّى الله عليه وآله وسلّم لتحديد مواقع المسلمين في المعركة من أجل الإعداد للنصر، ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فهو الذي لا يعزب عن علمه شيء مما يحتاج إلى أن يسمع أو يبصر، لأنه محيط بذلك كله.
6. بدأت حركة النفاق تعمل لتخذل المؤمنين وتبعدهم عن المشاركة في القتال من أجل إضعاف الجبهة الإيمانية، كوسيلة من وسائل تقوية خط الشرك وسلطته، لأن ذلك هو الذي يمنحهم فرصة استعادة نفوذهم التي فقدوها عند ظهور الإسلام.. واستطاعوا أن يزلزلوا بعض النفوس ويضعفوا بعض العزائم.. فـ ﴿هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ وتتراجعا، وقد نلاحظ في هذه الفقرة من الآية، أنها لم تتحدث عما تحدث به المؤرّخون من انسحاب ثلاثمائة رجل من الذين أعدّهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم للمعركة، مما يوحي بأن ذلك غير صحيح، لأن الآية تحدثت عن حالة التردد ومحاولة الانسحاب كظاهرة من ظواهر الضعف الموجودة في المجتمع الإسلامي آنذاك، ولتنبّه المؤمنين إلى مثل هذه الحالة من أجل المستقبل، ولو كان ما نقله المؤرخون صحيحا، لكان ذلك أشد خطورة على المسيرة، وأكثر حاجة للتأكيد عليه، لأنه يمثّل حالة التراجع التي تعني الانسحاب من مسئولية الإيمان بطريقة حاسمة.
7. هناك ملاحظة أخرى جديرة بالتأمّل، وهي أن التعبير القرآني عبّر عن الانسحاب بكلمة (الفشل)، مما يوحي بأنّ الجانب العملي من حياة المسلم يعتبر حالة فشل بالنسبة إلى إيمان المؤمن، فالإيمان الذي لا يعبر عن نفسه بالعمل في خط الطاعة هو إيمان فاشل، لأنه لم ينجح في التجربة المرّة في صراع الإنسان مع الشيطان، وهذه نقطة لا بدّ من التركيز عليها في أساليب التربية بالإيحاء بأنّ الإيمان يمرّ ـ في الحياة ـ بتجربة النجاح والفشل، كما هو الحال في كل قضية تستتبع المعاناة، مما يرفع من درجة استعداد المؤمن في المجاهدة من أجل الحفاظ على نجاحه في خط الإيمان.
8. أمّا كلمة ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ فتحمل في داخلها تعميق الشعور للمؤمن بالرعاية الإلهية له في حالات الضعف والزلزال النفسي الناتج عن الضغوط الصعبة المحيطة به، مما يجعله يحس بالأمن والطمأنينة بحماية الله له في أوقات الغفلة، وربما كان في التعبير بكلمة (الولي) من الحنان والحميميّة ما يملأ النفس بأصفى المشاعر وأنقاها وأسماها في علاقة الإنسان بالله.
9. ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ وهي دعوة للمؤمنين أن يتحركوا من فكرة ﴿وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 68] ليتوجهوا إليه في حالات الضعف، أو في الأوضاع التي يخافون أن يضعفوا أمامها مستقبلا، فإن التوكل على الله يمثّل أرقى أنواع الإيمان، لأنه يمثّل الاستسلام لله من خلال الثقة المطلقة به في أوقات الشدة والرخاء واليسر والعسر، الأمر الذي يزرع في نفسه الثقة بالحاضر والمستقبل في كل عمل من أعمال الدنيا والآخرة.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/244.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. من هنا تبدأ الآيات التي نزلت حول واحدة من أهم الأحداث الإسلامية ألا وهي معركة (أحد) لأن القرائن التي توجد في الآيتين الحاضرتين يستفاد منها أن هاتين الآيتين نزلتا بعد معركة أحد، وتشير إلى بعض وقائعها المرعبة، وعلى هذا أكثر المفسّرين.
2. في البدء تشير الآية الأولى إلى خروج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من المدينة لاختيار المحل الذي يعسكر فيه عند (أحد) وتقول ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾، أي واذكر عندما خرجت غدوة من المدينة تهيئ للمؤمنين مواطن للقتال لغزوة (أحد)
3. كانت بين المسلمين في ذلك اليوم آراء مختلفة وكثيرة ـ كما ستعرفها قريبا ـ حول الموطن الذي ينبغي أن يعسكر فيه المسلمون، بل وكيفية مقابلة الأعداء القادمين، وأنه يتعيّن عليهم أن يتحصنوا بالمدينة، أم يخرجوا إليهم ويحاربوهم خارجها، وكان هناك خلاف شديد في الرأي بين المسلمين في هذه الأمور، فاختار النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد المشاورة رأي الأغلبية، والتي كانت تتألف ـ في الأكثر من الشباب المتحمسين، وهو الخروج من المدينة ومقاتلة العدو خارجها، بعد الاستقرار عند جبل (أحد)
4. من الطبيعي أن يكون هناك بين المسلمين من كان يخفي أشياء وأمورا يحجم عن الإفصاح بها لعلل خاصة، ومن الممكن أن تكون عبارة ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ناظرة إلى هذه الأمور المكنونة، فهو سبحانه سميع لما يقولون، عليم بما يضمرون.
5. ثمّ إنّ الآية الثانية تشير إلى زاوية أخرى من هذا الحدث إذ تقول: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، والطائفتان كما يذكر المؤرخون هما (بنو سلمة) من الأوس و(بنو حارثة) من الخزرج، فقد صممت هاتان الطائفتان على التساهل في أمر هذه المعركة والرجوع إلى المدينة، وهمتا بذلك، وقد كان سبب هذا الموقف المتخاذل هو أنهما كانتا ممّن يؤيد فكرة البقاء في المدينة ومقاتلة الأعداء داخلها بدل الخروج منها والقتال خارجها، وقد خالف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا الرأي، مضافا إلى أن (عبد الله بن أبي سلول) الذي التحق بالمسلمين على رأس ثلاثمائة من اليهود عاد هو وجماعته إلى المدينة، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عارض بقاءهم في عسكر المسلمين، وقد تسبب هذا في أن تتراجع الطائفتان المذكورتان عن الخروج مع النبي وتعزما على العودة إلى المدينة من منتصف الطريق.
6. لكن يستفاد من ذيل الآية أن هاتين الطائفتين عدلتا عن هذا القرار، واستمرتا في التعاون مع بقية المسلمين، ولهذا قال سبحانه ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ يعني أن الله ناصرهما فليس لهما أن تفشلا إذا كانتا تتوكلان على الله بالإضافة إلى تأييده سبحانه للمؤمنين.
7. ثمّ لا بدّ من التنبيه إلى نقطة هامة وهي أن ذكر هذه المقاطع من غزوة (أحد) بعد الآيات السابقة التي تحدثت عن لزوم عدم الوثوق بالكفّار، إشارة إلى نموذج واحد من هذه الحقيقة، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كما أسلفنا وكما سيأتي تفصيله ـ لم يسمح ببقاء اليهود ـ الذين تظاهروا بمساعدة المسلمين ـ في المعسكر الإسلامي، لأنهم كانوا أجانب على كلّ حال، ولا يمكن السماح لهم بأن يبقوا بين صفوف المسلمين فيطلعوا على أسرارهم في تلك اللحظات الخطيرة، وأن يكونوا موضع اعتماد المسلمين في تلك المرحلة الحساسة.
8. هنا لا بدّ من الإشارة ـ قبل أي شيء ـ إلى مجموعة الحوادث التي وقعت في هذه الغزوة(2).
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/667.
(2) ذكر هنا قصة غزوة أحد كما هي في كتب السيرة، وقد سبق ذكرها.
66. بدر والنصر والمدد
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈66⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 123 ـ 126]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ صبيحة تسع عشرة من رمضان؛ صبيحة بدر(1).
__________
(1) ابن المنذر: ١/٣٦٢.
أبو رافع:
روي عن أبي رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (ت 40 هـ) أنّه قال: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه، ويكره أن يخالفهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر، وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة، وكذلك صنعوا، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا، فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا، قال: وكنت رجلا ضعيفا، وكنت أعمل القداح، أنحتها في حجرة زمزم، فوالله، إني لجالس فيها أنحت القداح، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه بشر، حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، قال قال أبو لهب: هلم إلي، يا ابن أخي، فعندك الخبر، قال فجلس إليه، والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال لا شيء، والله، إن كان إلا أن لقيناهم، فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاءوا، وايم الله، مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق ما بين السماء والأرض، ما يليق لها شيء، ولا يقوم لها شيء، قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك الملائكة(1).
__________
(1) أحمد: ٣٩/٢٩٠.
ابن أبي أوفى:
روي عن عبد الله بن أبي أوفى (ت 47 هـ): كنا محاصري قريظة والنضير ما شاء الله أن نحاصرهم، فلم يفتح علينا، فرجعنا، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بغسل، فهو يغسل رأسه إذ جاءه جبريل صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا محمد، وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها!؟ فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بخرقة، فلف بها رأسه ولم يغسله، ثم نادى فينا، فقمنا كالين معيين لا نعبأ بالسير شيئا، حتى أتينا قريظة والنضير، فيومئذ أمدنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة، وفتح الله لنا فتحا يسيرا، فانقلبنا بنعمة من الله وفضل(1).
__________
(1) ابن عساكر في تاريخه: ٣١/٤١.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله: ﴿مُسَوِّمِينَ﴾، معلمين، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سودا، ويوم أحد عمائم حمرا(1).
2. روي أنّ نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: ﴿مُسَوِّمِينَ﴾، قال الملائكة عليهم عمائم بيض مسومة، فتلك سيما الملائكة، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت الشاعر وهو يقول(2):
çولقد حميت الخيل تحمل شكة... جرداء صافية الأديم مسومهé
3. روي أنّه قال: ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ أتوا مسومين بالصوف، فسوم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف(3).
4. روي أنّه قال: كان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة، وكان أبو اليسر رجلا مجموعا، وكان العباس رجلا جسيما، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأبي اليسر: (كيف أسرت العباس، أبا اليسر؟)، قال يا رسول الله، لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده، هيئته كذا وكذا، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لقد أعانك عليه ملك كريم(4).
5. روي أنّه قال: لم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا؛ لا يضربون(5).
6. روي أنّه قال: حدثني رجل من بني غفار، قال أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة، فننتهب مع من ينتهب، قال فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم، حيزوم، قال فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك، ثم تماسكت(6).
7. روي أنّه قال: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمرا، ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر، وكانوا يكونون عددا ومددا لا يضربون(7).
8. روي أنّه قال: مر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعبد الله بن رواحة الأنصاري وهو يذكر أصحابه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أما إنكم الملأ الذين أمرني الله أن أصبر نفسي معكم، ثم تلا هذه الآية: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]، أما إنه ما جلس عدتكم إلا جلس معهم عدتهم من الملائكة، إن سبحوا الله سبحوه، وإن حمدوا الله حمدوه، وإن كبروا الله كبروه، ثم يصعدون، فيقولون: يا ربنا، عبادك سبحوك فسبحنا، وكبروك فكبرنا، وحمدوك فحمدنا، فيقول ربنا: يا ملائكتي، أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقولون: فيهم فلانٌ وفلانٌ الخطاء! فيقول: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم(8).
__________
(1) الطبراني في الكبير: ١١/١٩٣.
(2) مسائل نافع: ٢٣٧.
(3) ابن جرير: ٦/٣٦.
(4) أحمد: ٥/٣٣٤.
(5) ابن جرير: ٦/٢٣.
(6) ابن جرير: ٦/٢٢.
(7) سيرة ابن هشام: ١/٦٣٣.
(8) المعجم الصغير: 2/109.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: في يوم حنين أمد الله رسوله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، ويومئذ سمى الله الأنصار مؤمنين(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٥٢.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ﴾ من وجههم وغضبهم(1).
2. روي أنّه قال: بدر: ماء عن يمين طريق مكة بين مكة والمدينة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾ الآية: كان هذا موعدا من الله يوم أحد، عرضه على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: أن المؤمنين إن اتقوا وصبروا أمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، ففر المسلمون يوم أحد، وولوا مدبرين؛ فلم يمدهم الله(3).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٣١.
(2) ابن جرير: ٦/١٨.
(3) ابن جرير: ٦/٢٧.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كانت بدر بئرا لرجل من جهينة، يقال له: بدر، فسميت به(1).
2. روي أنّه قال: إن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يمد المشركين، فشق ذلك عليهم؛ فأنزل الله: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ﴾ إلى قوله: ﴿مُسَوِّمِينَ﴾، قال فبلغت كرزا الهزيمة؛ فلم يمد المشركين، ولم يمد المسلمون بالخمسة(2).
__________
(1) ابن أبي شيبة: ١٤/٣٥٤.
(2) ابن أبي شيبة: ١٤/٣٥٨.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ﴾ إلى: ﴿بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ في قصة بدر(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَيَأْتُوكُمْ﴾، يعني: الكفار، فلم يقتلوهم تلك الساعة، وذلك يوم أحد(2).
3. روي أنّه قال: ﴿مِنْ فَوْرِهِمْ﴾ من غضبهم(3).
4. روي أنّه قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر(4).
5. روي أنّه قال: لم يقاتلوا معهم يومئذ الملائكة، ولا قبله ولا بعده، إلا يوم بدر(5).
__________
(1) الدرّ المنثور: عَبد بن حُمَيد.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٥٣.
(3) ابن جرير: ٦/٣١.
(4) ابن جرير: ٦/٢٥.
(5) ابن المنذر: ١/٣٦٩.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مِنْ فَوْرِهِمْ﴾ من وجههم هذا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ عليهم سيما القتال(2).
3. روي أنّه قال: كانت بدر متجرا في الجاهلية(3).
4. روي أنّه قال: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾ الآية: هذا يوم أحد، فلم يصبروا ولم يتقوا؛ فلم يمدوا يوم أحد، ولو مدوا لم يهزموا يومئذ(4).
5. روي أنّه قال: لم يمد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد ولا بملك واحد؛ لقول الله: ﴿إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾ الآية(4).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٩.
(2) ابن جرير: ٦/٣٧.
(3) ابن المنذر: ٨٧٤.
(4) ابن جرير: ٦/٢٧.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ وأنتم قليل، وهم يومئذ بضعة عشر وثلاثمائة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ الآية: هذا يوم بدر(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٩.
(2) ابن جرير: ٦/٢١.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: (كانت على الملائكة العمائم البيض المرسلة يوم بدر(1).
__________
(1) الكافي: 6/461.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: بدر: ماء بين مكة والمدينة، التقى عليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمشركون، وكان أول قتال قاتله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
2. روي أنّه قال: بدر: ماء بين مكة والمدينة، التقى عليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمشركون، وكان أول قتال قاتله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذكر لنا: أنه قال لأصحابه يومئذ: (أنتم اليوم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت)، وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، وألف المشركون يومئذ، أو راهقوا ذلك(1).
3. روي أنّه قال: ﴿بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ عليهم سيما القتال، وذلك يوم بدر، أمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٨.
(2) ابن جرير: ٦/٣٧.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ﴾ وهو اسم لموضع كان لرجل يقال له بدر؛ فسمي به(1).
2. روي أنّه قال: ﴿مِنْ فَوْرِهِمْ﴾ معناه من غضبهم هذا(1).
3. روي أنّه قال: ﴿بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ معناه معلمين بالصّوف في نواصي الخيل وأذنابها(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 112.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ أمدوا بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف، ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾، وذلك يوم بدر، أمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٢٥.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ما اجتمع ثلاثةٌ من المؤمنين فصاعدا إلا حضر من الملائكة مثلهم، فإن دعوا بخير أمنوا، وإن استعاذوا من شر دعوا الله ليصرفه عنهم، وإن سألوا حاجة تشفعوا إلى الله وسألوه قضاها(1).
2. روي أنّه قال: لو أن شيعتنا استقاموا لصافحتهم الملائكة، ولأظلهم الغمام، ولأشرقوا نهارا، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولما سألوا الله شيئا إلا أعطاهم(2).
__________
(1) الكافي: 2/187.
(2) تحف العقول: ص 302.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ قليل عددكم في عدد الكفار يوم بدر(1).
__________
(1) ابن المنذر: ١/٣٦٢.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ ولا تعصوه؛ ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ربكم في النعم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِذْ تَقُولُ﴾ يا محمد ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ يوم أحد ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ عليكم من السماء، وذلك حين سألوا المدد(1).
3. روي أنّه قال: فقال سبحانه: ﴿بَلَى﴾ يمددكم ربكم بالملائكة؛ ﴿إِنْ تَصْبِرُوا﴾ لعدوكم، ﴿وَتَتَّقُوا﴾ معاصيه(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ﴾ وما جعل المدد من الملائكة: ﴿إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ﴾ يعني: ولكي تسكن ﴿قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ النصر ليس بقلة العدد ولا بكثرته، ولكن النصر من عند الله: ﴿الْعَزِيزِ﴾ يعني: المنيع في ملكه، ﴿الْحَكِيمُ﴾ في أمره، حكم النصر للمؤمنين، نظيرها في الأنفال(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٩.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ وأنتم أقل عددا، وأضعف قوة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾ أي: تصبروا لعدوي، وتطيعوا أمري(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ﴾ وجههم هذا مددا لهم، أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ لما أعرف من ضعفكم، وما النصر إلا من عندي بسلطاني وقدرتي، وذلك أن العز والحكم إلي، لا إلى أحد من خلقي(4).
5. روي أنّه قال: وكان بدر موسما من مواسم العرب، يجتمع لها سوق كل عام، فيقيم ثلاثا(5).
__________
(1) ابن جرير: ٦/١٦.
(2) ابن المنذر: ١/٣٦٧ من طريق إبراهيم بن سعد، وابن أبي حاتم: ٣/٧٥٣.
(3) ابن المنذر: ١/٣٦٨.
(4) ابن جرير: ٦/٣٩.
(5) ابن المنذر: ١/٣٦٢.
الواقدي:
روي عن الواقدي (ت 159 هـ) أنّه قال: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ فلم يصبروا وانكشفوا، فلم يمدوا(1).
__________
(1) البيهقي في دلائل النبوة: ٣/٢٥٦.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ لو شاء الله أن ينصركم بغير الملائكة فعل(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٣٩.
الكاظم:
روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنّه قال في قول الله عز وجل: ﴿مُسَوِّمِين﴾: العمائم، اعتم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فسدلها من بين يديه ومن خلفه، وأعتم جبريل فسدلها من بين يديه ومن خلفه(1).
__________
(1) الكافي: 6/460.
ابن عيينة:
روي عن سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) أنّه قال: على كل مسلم أن يشكر الله في نصره ببدر، يقول الله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٥١.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنه قيل له: جعلت فداك، ما ترى آخذ برا أو بحرا؛ فإن طريقنا مخوفٌ شديد الخطر؟ فقال: اخرج برا، ولا عليك أن تأتي مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتصلي ركعتين في غير وقت فريضة، ثم لتستخير الله مئة مرة ومرة، ثم تنظر فإن عزم الله لك على البحر، فقل الذي قال الله عز وجل: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [هود: 41]، فإن اضطرب بك البحر فاتك على جانبك الأيمن وقل: بسم الله، اسكن بسكينة الله، وقر بوقار الله، واهدأ بإذن الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. وإن خرجت برا فقل الذي قال الله عز وجل: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ﴾ [الزخرف: 13 ـ 14]، فإنه ليس من عبد يقولها عند ركوبه فيقع من بعير أو دابة، فيصيبه شيء بإذن الله، فإذا خرجت من منزلك فقل: بسم الله، آمنت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، فإن الملائكة تضرب وجوه الشياطين، ويقولون: قد سمى الله، وآمن بالله، وتوكل على الله، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله(1).
__________
(1) الكافي: 3/471.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ يذكرهم عزّ وجل ألا يتكلوا إلى أنفسهم لكثرتهم ولقوتهم ولعدّتهم، ولا يثقوا بأحد سواه، بل على الله يتوكلون، وإليه يكلون، وبه يثقون؛ لأنه أخبر أنهم كانوا أذلة ضعفاء فنصرهم، وأمدّ لهم بالملائكة حتى قهر عدوهم ـ مع ضعفهم، وقلة عددهم ـ يوم بدر، ويوم أحد: كانوا أقوياء كثيري العدد؛ فوكلوا إلى أنفسهم، فكانت الهزيمة عليهم.
2. ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ يعني: اتقوا معاصيه، ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ فيه دلالة أن الشكر إنما يكون في طاعته، واتقاء معاصيه، وأن المحنة إنما تكون في الشكر لما أنعم عليه، والتكفير لما سبق منه من الجفاء والغفلة.
3. ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ وذكر في سورة الأنفال: ﴿بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: 9]، فاختلف فيه:
أ. قيل: كانوا عشرة آلاف؛ لأنه ذكر مرة: ثلاثة آلاف، ومرة: خمسة آلاف، ومرة: ألفا ـ مردفين؛ فيكون ألفان، فذلك عشرة آلاف.
ب. وقيل: كانوا تسعة آلاف: ثلاثة آلاف وخمسة آلاف، وألف.
ج. وقيل: كانوا كلهم خمسة آلاف: ثلاثة آلاف؛ وألفان مدد لهم.
4. ثم اختلف في موعده:
أ. قال بعضهم: كان يوم أحد.
ب. وقال آخرون: يوم بدر.
5. ﴿فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: 9] يوم بدر، ولا ندري كيف كانت القصة؟ وليس لنا إلى معرفة القصة حاجة؛ سوى أن فيه بشارة للمؤمنين بالنصر لهم، والمعونة بقوله: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ جعل في ذلك تسكين قلوب المسلمين.
6. اختلف في (قتال الملائكة):
أ. قال بعضهم: قاتل الملائكة الكفار.
ب. وقال آخرون: لم يقاتلوا، ولكن جاؤوا بتسكين قلوبهم ما ذكر في الآية، ولا يحتمل القتال؛ لأنه ذكر في الآية: ﴿وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ [الأنفال: 44]، ولو كانوا يقاتلون لم يكن لما يقلل معنى؛ ولأن الواحد منهم كاف لجميع المشركين، ألا ترى أن جبريل عليه السلام كيف رفع قريات لوط إلى السماء فقلبها!؟ فدلّ لما ذكرنا.
ج. وقيل: قاتلوا يوم بدر، ولم يقاتلوا يوم أحد.
د. فلا ندري كيف كان الأمر؟
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُسَوِّمِينَ﴾:
أ. قيل: (منزلين)؛ (ومسوّمين) سواء، وهو من الإرسال؛ ومن التسويم.
ب. وقيل: معلمين بعلامة، وذلك ـ والله أعلم ـ ليعلم المؤمنين حاجتهم إلى العلامة، لا أن الملائكة يحتاجون إلى العلامة؛ وكذلك روي عن نبيّ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال لأصحابه يوم بدر: (تسوّموا؛ فإنّ الملائكة قد تسوّمت)
8. ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ ليعلم أنّ في النصر لطفا من الله لا يوصل إليه بشيء من خلقه؛ لأنه نفاه عنهم مع مدد الملائكة؛ ليعلم أن كل منصور على آخر ـ إنما كان ذلك من الله ـ عزّ وجل.
9. ما ذكر من حضور الملائكة الحرب فهو ـ والله أعلم ـ:
أ. في حق محنة الملائكة، ولله أن يمتحنهم بما شاء من الحضور والمعونة، والكف عن ذلك، أو الدعاء لأوليائه بالنصر، وبما شاء الله من الوجوه التي يمتحن بها عباده، وفيهم من قد امتحنه على الأرزاق والأرواح، والأمطار والأعمال، وأنواع الأذكار والأفعال؛ إذ هم خلق اصطفاهم واختارهم لعبادته وطاعته في جميع ما يأمرهم؛ ليجل به قدرهم، ويعلى رتبتهم، ثم لو أذن لهم بالمعونة أعانوا المؤمنين على قدر الإذن لهم؛ إذ هم ـ على ما وصفهم الله ـ: ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: 27]، وقوله: ﴿يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ﴾ [فصلت: 38] وغير ذلك مما وصفهم بالطاعة له، والاتباع لأمره، وما أكرمهم من هيبة جلاله، وخوف عقابه، صلوات الله عليهم أجمعين.
ب. كان للمؤمنين في حضور الملائكة أنواع البشارات فيما لم يكن أذن لهم بالقتال، وأنواع الآيات فيما قد أذن لهم، على ما ذكر من أمر بدر وغيره؛ مما أخبر الله عزّ وجل من إرسال جنوده، وهزيمة أعدائه؛ بمنّه وفضله، من ذلك: ما قال الله عزّ وجل: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية [الأنفال: 12]، أن يكون الله يؤيّدهم بما به تشجيع قلوب المؤمنين على ما قد أمكن أعداءه من أنواع الوساوس، التي لديها تضطرب قلوبهم، وتزل أقدامهم، فمثله يمكن أولياءه في تشجيع المؤمنين، ليسكن قلوبهم، ويثبت أقدامهم
ج. أن يكون الذي جبل عليه الخلق أن يكون كل أحد عند معاينة الحاجة إلى دعائه، وما يحتمل وسعه من معونة؛ عليه أقبل وبه أرغب؛ فيكون للمؤمنين بحضورهم رجاء النصر بدعائهم، ويخرج قوله: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا﴾ الآية [غافر: 51]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ﴾ والله أعلم.
د. أو كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في عصرهم يبشرهم بحضورهم؛ فيكون لهم بذلك فضل ثبات وقرار حياة منهم بما أعلموا اطلاعهم على ذلك، أو يكون لهم فضل قوة بذلك، وإقبال على الأمر؛ على ما جبل الخلق من الإقبال على الأمور المهمة، وإذا كثروا على ذلك قوله: ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾ [التوبة: 25] ولعلهم ـ أيضا ـ بما يطمعون أنهم لو أطاعوا الله، وثبتوا لأعدائه ـ أن لهم النصر والدفع، فكان ذلك بعض ما يستبشرون؛ وعلى ذلك أكثر ما بلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالهزيمة، إنما كان يصرف قلوبهم إلى بعض ما جبل عليه البشر من حبّ الدنيا، والإعجاب بالكثرة، ونحو ذلك، ثم من أعظم الأعلام في ذلك ما قال الله عزّ وجل: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ فتكون البشارة والطمأنينة بالذي جبل عليه البشر على ما بينت، ويكون النصر من عند الله، الذي متى أراد نصر أحد لن يغلب، قلّت أعوانه أو كثرت، وذلك لطف من الله العزيز العليم؛ يريهم النصر من الوجه الذي لا يعلمه إلا هو، وفي حال الأنفس من أنفسهم أن يقوم لعدوهم؛ ليعلموا عظيم لطفه الذي بمثله ارتفعت درجات الأخيار، وشرفت منازلهم، ولو كان لهم بالإذن؛ على ما ذكر من قوة جبريل عليه السلام في قلب قريات لوط بجناح واحد، لم يكن يقوم لمثله أهل الأرض، فضلا عن عدد يسير منهم، ولكنهم لا يتقدمون بين يدي الله، والله لم يكن أذن لهم في القتال عند كل مشهد.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/469.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله عز وجل: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ﴾ أي من وقتهم ذلك، ومن آخر ساعتهم، ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾: أي معلمين بعلامات مزينين، والمسوم هو الذي قد علم بعلامة يبين بها عن غيره، قال أبو طالب يمدح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم:
çأمين نجيب في العباد مسوم... بخاتم رب قاهر للخواتمé
2. ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾: أي وما جعل لله هبوط الملائكة لقتلهم، وإنما أهبطهم الله ليثبت قلوبكم بنزولهم، ولينصركم الله ببركتهم وقربهم وحضورهم، وما النصر إلا من عند الله، لأنكم لم تكونوا لتقتلوا عسكراً معقوداً مع قلتكم وضعفكم، لولا أن الله أعانكم ونصركم، فلا تحسبوا ولا توهموا أن ذلك النصر منكم.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 263.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ وبدر ماء نزلوا عليه كان لرجل يسمى بدراً.
2. ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ وأنتم تضعفون عن مقاومة العدو ويجوز أن يكون أذلة عن الحرب بقلة العدد وضعف الحال وكان المهاجرون يومئذ سبعة وسبعين رجلاً والأنصار مائتين وثلاثين رجلاً وكان المشركون ما بين تسعمائة وألف..
3. ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني يوم بدر ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ والكفاية مقدار سد الخلة والاكتفاء الاقتصار والإمداد عطاء الشيء حالاً بعد حال والأصل الإمداد من المد وهو الزيادة ومنه مد الماء وهو زيادته ﴿بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾ يعني من وجههم هذا ومن غضبهم وأصل الفور من فور القدر وهو غليانه عند شدة الحمأ وفور الغضب منه لأنه كفور القدر ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ قرئ بكسر الواو ومعنى أنهم سوموا خيلهم أي أعلموها، وتقرأ بفتح الواهي أي هي معلمة وقيل إن الله سبحانه وتعالى أنزل الملائكة يوم بدر وكانت خيلهم بلقاً وعلى رؤوسهم عمائم صفر وكان عددهم خمسة آلاف.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/151.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ بدر ماء نزلوا عليه كان لرجل يسمى بدر، قال الزبير بن بكار هو بدر بن النضر بن كنانة فسمي باسم صاحبه، وهذا قول الشعبي، وقال غيره بل هو اسم له من غير إضافة إلى اسم صاحب.
2. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ قولان:
أ. أحدهما: الضعف عن مقاومة العدو.
ب. الثاني: قلة العدد وضعف الحال، قال ابن عباس: كان المهاجرون يوم بدر سبعة وسبعين رجلا، والأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلا، وكان المشركون ما بين تسعمائة وألف.
3. ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني يوم بدر، ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ والكفاية مقدار سد الخلة، والاكتفاء الاقتصار عليه، والإمداد إعطاء الشيء حالا بعد حال، والأصل في الإمداد هو الزيادة ومنه مد الماء وهو زيادته.
4. في قوله تعالى: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: يعني من وجههم هذا، وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة.
ب. الثاني: من غضبهم هذا، وهو قول مجاهد والضحاك وأبي صالح، وأصل الفور فور القدر، وهو غليانها عند شدة الحمى، ومنه فور الغضب لأنه كفور القدر.
5. ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ قرأ بكسر الواو ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، ومعناها: أنهم سوّموا خيلهم بعلامة، وقرأ الباقون بفتح الواو، ومعناها: أنها سائمة وهي المرسلة في المرعى.
6. اختلفوا في التسويم على قولين:
أ. أحدهما: أنه كان بالصوف في نواصي الخيل وآذانها، وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد، والضحاك.
ب. الثاني: أن الملائكة نزلت يوم بدر على خيل بلق وعليهم عمائم صفر، وهو قول هشام بن عروة.
7. اختلفوا في عددهم:
أ. قال الحسن: كانوا خمسة آلاف.
ب. وقال غيره: كانوا ثمانية آلاف.
8. قال ابن عباس: لم يقاتل الملائكة إلا يوم بدر.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/421.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ هذه الآية نزلت في وصف ما من الله تعالى على المؤمنين من النصر والامداد بالملائكة وظفر المؤمنين بالمشركين مع قلة المؤمنين وقوة المشركين، فإنه روي عن ابن عباس أنه قال: كان المهاجرون يوم بدر سبعة وسبعين رجلا والأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلا الجميع ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وكان المشركون نحواً من ألف رجل.
2. بدر: ما بين مكة والمدينة وقال الشعبي سمي بدراً لأن هناك ماء لرجل يسمى بدراً، فسمي الموضع باسم صاحبه، وقال الواقدي عن شيوخه إنما هو اسم للموضع كما يسمى كل بلد باسم يخصه من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه.
3. ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ جملة في موضع الحال، والذلة الضعف عن المقاومة، وضدها العزة، وهي القوة على الغلبة، ويقال للجمل المنقاد من غير صعوبة: ذلول لانقياده انقياد الضعيف، فأما الذليل فإنما ينقاد على مشقة، ومنه تذليل الطريق، ونحوه، وهو توطئة الأصل، وفيه الضعف عن المقاومة.
4. ﴿أَذِلَّةً﴾ جمع ذليل وفعيل قياسه أن يجمع على فعلاء إذا كان صفة، مثل ظريف وظرفاء، وكريم وكرماء، وعليم وعلماء، وشريك وشركاء، فجمع على أفعلة كراهية التضعيف، فعدل إلى جمع الأسماء نحو قفيز وأقفزة، فقيل ذليل وأذلة وعزيز وأعزة.
5. وصفهم الله تعالى بأنهم أذلة لأنهم كانوا ضعفاء قليلي العدد قليلي العدة، وروي عن بعض السلف الصالح أنه قرأ (وأنتم ضعفاء) قال ولا يجوز وصفهم بأنهم أذلة، وفيهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان صاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم بدر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة.
6. ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ معناه اتقوا معاصيه واعملوا بطاعته، ويجوز أن يكون المراد اتقوا عقاب الله بترك المعاصي، والعمل بطاعته، لأن أصل الاتقاء هو الحجز بين الشيئين بما يمنع من وصول أحدهما إلى الآخر كما تقول اتقاه بالترس أو غيره.
7. وجه إدخال هذه الآية وهي متعلقة بقصة بدر بين قصة أحد أن الله تعالى وعد المؤمنين النصر يوم أحد إن صبروا وثبتوا أن يمدهم بالملائكة كما نصرهم يوم بدر، وأمدهم بالملائكة فلما لم يصبروا وتركوا مراكزهم أصاب العدو منهم ما هو معروف.
8. ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ قرأ ابن عامر وحده منزلين بتشديد الزاي الباقون بالتخفيف، التقدير اذكروا ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ﴾ وفيه إخبار أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لقومه: ألن يكفيكم يوم بدر بأن أمدكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، ثم قال ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ يعني يوم أحد، وقال ابن عباس، والحسن وقتادة، ومالك بن ربيعة وغيرهم: ان الامداد بالملائكة كان يوم بدر، وقال ابن عباس لم يقاتل الملائكة عليه السلام إلا يوم بدر، وكانوا في غيره من الأيام عدة ومدداً، وقال الحسن: كان جميعهم خمسة آلاف، وقال غيره: كانوا ثمانية آلاف.
9. ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ الكفاية مقدار يسد به الخلة تقول: كفاه يكفيه كفاية، فهو كاف: إذا قام بالأمر، واستكفيته أمراً فكفاني، واكتفى به اكتفاء، وكفاك هذا الأمر أي حسبك، والفرق بين الاكتفاء والاستغناء، أن الاكتفاء هو الاقتصار على ما ينفي الحاجة والاستغناء الاتساع فيما ينفي الحاجة، فلذلك يوصف تعالى بأنه غني بنفسه لاتساع مقدوره من حيث كان قادراً لنفسه لا يعجزه شيء.
10. ﴿أَنْ يُمِدَّكُمْ﴾ فالامداد هو إعطاء الشيء حالا بعد حال، والمعني في الآية ان الله أعطاهم القوة في أنفسهم ثم زادهم قوة بالملائكة والمد في السير هو الاستمرار عليه، وامتد بهم السير: إذا طال، واستمر، ومددت الشيء إذا جذبته، والمد زيادة الماء تقول: مد الماء وأمد الجرح وأمددت العسكر، والمادة زيادة مستمرة، والمدة أوقات مستمرة إلى غاية، والمداد ما يكتب به، والمد مكيال مقداره ربع الصاع.
11. ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم (مسومين) بكسر الواو، الباقون بفتحها، والقراءة بالكسر أقوى، لأن الأخبار وردت بأنهم سوموا خيلهم بعلامة جعلوها عليها، وقال ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد، والضحاك: كانوا علموا بالصوف في نواصي الخيل وأذنابها، وروى هشام عن عروة قال نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بُلق وعليهم عمائم صفر، قال السدي، وغيره من أهل التأويل: معنى (مسومين) معلمين، ومن قرأ بالفتح أراد معنى مرسلين من الإبل السائمة يعني المرسلة في المرعى، والسيما العلامة قال الله تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ فالتسويم العلامة قال الشاعر:
çمسومين بسيما النار أنفسهم...لا مهتدين ولا بالحق راضيناé
وأصل الباب السوم في المرعى، وهو الاستمرار فيه فمنه السيماء، لأنهم كانوا يعلمونها: إذا أرسلت في المرعى لئلا تختلط، ومنه السوم في البيع، ومنه سوم الريح استمرارها في هبوبها، ومنه سوم الخسف، لأنه استمرار في إلزام الشر.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ فَوْرِهِمْ﴾:
أ. قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والربيع، والسدي وابن زيد: معناه من وجههم.
ب. وقال مجاهد والضحاك وأبو صالح من غضبهم.
13. على القول الأول إنما هو فور الانتداب لهم، وهو ابتداؤه، وعلى القول الثاني فور الغضب، وهو غليانه، وأصل الفور فور القدر، وهو غليانها عند شدة الحمى، فمنه فورة الغضب، لأنه كفور القدر بالحمى، ومنه جاء فلان على الفور أي على أشد الحمى، لفعله قبل أن تبرد نفسه، ومنه فارت العين بالماء أي جاشت به ومنه الفوارة، لأنها تفور بالماء كما تفور القدر بما فيها.
14. سؤال وإشكال: كيف قال في الآية الأولى ان الامداد بثلاثة آلاف، وفي هذه بخمسة آلاف، وهذا ظاهر التناقض!؟ والجواب: لا تناقض في ذلك، لأن في الآية الأولى وعد الله المؤمنين على لسان نبيه بأن يمدهم بثلاثة آلاف منزلين، ثم قال: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾ يعني تصبروا على الجهاد، والقتال، وتتقوا معاصي الله ﴿وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ﴾ وهذا يعني ان رجعوا إليكم، لأن الكفار في غزاة أحد بعد انصرافهم ندموا لمَ لم يعبروا على المدينة وهموا بالرجوع، فأوحى الله تعالى إلى نبيه أن يأمر أصحابه بالتهيؤ للرجوع إليهم، وقال لهم: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ ثم قال: إن صبرتم على الجهاد وراجعتم الكفار، أمدكم الله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، فأخذوا في الجهاز فبلغ ذلك قريشاً فخافوهم أن يكون قد التأم اليهم من كان تأخر عنهم وانضم إليهم غيرهم، فدسوا نعيم بن مسعود الاشجعي حتى قصدهم بتعظيم أمر قريش واسرعوا، والقصة معروفة ولذلك قال قوم من المفسرين: ان جميعهم ثمانية آلاف وقال الحسن جميعهم خمسة آلاف منهم الثلاثة آلاف المنزلين على أن الظاهر يقتضي أن الامداد بثلاثة آلاف كان يوم بدر، لأن قوله: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ متعلق بقوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ ثم استأنف حكم يوم أحد، فقال: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ﴾ يعني رجعوا عليكم بعد انصرافهم أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، والقصة في ذلك معروفة على ما بيناه، وعلى هذا لا تنافي بينهما، وهذا قول البلخي رواه عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: لم يمدوا يوم أحد ولا بملك واحد.
15. سؤال وإشكال: لمَ لم يمدوا بالملائكة في سائر الحروب؟ والجواب: ذلك تابع للمصلحة فإذا علم الله المصلحة في إمدادهم أمدهم.
16. اختلف في الهاء في قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ﴾:
أ. قيل: هي عائدة على ذكر الأمداد والوعد فيعود على معلوم بالدلالة عليه غير مذكور باسمه لأن يمدد يدل على الذكر للامداد ومثله ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ أي الشمس، وقال لبيد:
çحتى إذا ألقت يداً في كافر...وأجن عورات الثغور ظلامهاé
أي القت الشمس فرد الضمير إلى معلوم ليس بمذكور.
ب. وقال قوم: ان الضمير راجع إلى الامداد نفسه.
17. الاول أقوى لأن البشرى في صفات الانزال وذلك يليق بذكر الامداد.
18. الفرق بين قوله: ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ وقوله (واطمئنانا لقلوبكم)، أن الوعد في أحدهما اطمئنان، وفي الآخر سببه الاطمئنان، فهو أشد في تحقيق الكلام من أجل دخول اللام.
19. ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ معناه أن الحاجة لازمة في المعونة وان أمدهم بالملائكة فإنهم لا يستغنون عن معونته طرفة عين في تقوية قلوبهم وخذلان عدوهم بضعف قلوبهم إلى غير ذلك من الأمور التي لا قوام لهم إلا بها ولا متكل لهم إلا عليها.
20. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ وقد ينصر المؤمنون بعضهم بعضاً وبعض المشركين بعضا؟ والجواب: لأن نصر بعض المؤمنين بعضاً من عند الله لأنه بمعونته وحسن توفيقه، وأما نصر المشركين بعضهم، لبعض، فلا يعتد به، لأنه بخذلان الله من حيث أن عاقبته إلى شر مآل من العقاب الدائم.
21. ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ معناه هاهنا العزيز في انتقامه من الكفار بأيدي المؤمنين، الحكيم في تدبيره للعالمين ليعلمهم بأن حربهم للمشركين يجري على إعزاز الدين، والحكمة في تدبير المكلفين ومعنى العزيز المنيع باقتداره.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/579.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. البدر: بدر السماء؛ سمي بذلك لتمامه وامتلائه، وكل شيء تم فهو بدر، ومنه البَدْرَةُ بدرة المال، وعين بدرة: ممتلئة، وغلام بدر: ممتلئ شبابًا، وبدر: ماء معروف، واختلفوا فيه:
• قيل: كان ماء لرجل يسمى بدرًا، فسمي باسم صاحبه عن الشعبي.
• وقيل: بل اسم البئر كما يسمى البلد باسمٍ من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه، عن الواقدي وشيوخه، وأنكروا قول الشعبي.
ب. أذلة: جمع ذليل كعزيز وأعِزَّة، سؤال وإشكال: لماذا جاء فَعِيل وأَفْعِلَة في الصفة، وإنما بابه فَعِيل وفُعَلاء كظريف وظرفاء، وشريك وشركاء؟ والجواب: لكراهة التضعيف، فعدل إلى جمع الأسماء كقفيز وأقفزة، فقيل: ذليل وأذلة، والذلة الضعف عن المقاومة، ونقيضه العزة، وهي القوة على الغلبة، ومنه الذَّلُول المنقاد من غير صعوبة.
ج. الاتقاء: الحجز بين الشيئين بما يمنع وصول أحدهما إلى الآخر نحو: اتقاه بالترس، ومنه التقوى؛ لأنه الحاجز من عذاب الله.
د. الكفاية: مقدار يسد الخَلَّةَ، كفاه يكفيه كفاية فهو كاف إذا قام بالأمر، واستكفيته أمرًا فكفاني.
هـ. الإمداد: إعطاء الشيء حالاً بعد حال، وأصله المد في الشيء، وهو استمرار فيه، ومنه المدد تارة؛ لِمَا قال المفضل: كل ما كان على جهة الزيادة فيه قيل: مده يمده مدًا، ومنه ﴿وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ﴾ وقيل: المد في الشر والإمداد في الخير، ومنه ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ وفي الخير ﴿وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ﴾
و. الفور: فَوْرُ القِدْر وهو غليانه عند شدة الحُمَّى، ومنه: جاء على الفور؛ أي على ابتداء الحمى قبل أن تبرد عنه نفسه، وفارت العين بالماء: جاشت، وقيل: الفور القصد إلى الشيء بحدة.
ز. السِّيماء: العلامة، ومنه التسويم، ومنه ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ﴾ وأصله السوم من المرعى، وهو الاستمرار فيه، فمنه السيما؛ لأنهم كانوا يُعَلِّمونها إذا أرسلت في المرعى لئلا تختلط.
2. اختلف في سبب نزول الآيات الكريمة:
أ. قيل: بَلَغَ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين يوم بدر أن كُرْزَ بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وبلغ كُرْزًا هزيمة القوم، فلم يأتهم ولم يمدهم، عن الشعبي.
ب. وقيل: إن أصحاب رسوْل الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سألوا الله أن ينصرهم بالملائكة يوم أحد كما أمدهم يوم بدر، فنزلت الآية.
3. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: لما أمرهم بالصبر ليأتيهم النصر بين ما فعل بهم يوم بدر.
ب. وقيل: نبه المؤمنين لما أصابهم يوم أحد إن حل بكم بأُحُد فقد نصركم ببدر لما لم تخالفوا أمر الرسول.
4. ﴿وَلَقَدْ﴾ تأكيد للكلام ﴿نَصَرَكُمُ﴾ أعانكم أيها المؤمنون ﴿بِبَدْرٍ﴾ قيل: هو ماء بين مكة والمدينة، وبه التقى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمشركون ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾:
أ. قيل: أذلاء عند أبي سفيان وأصحابه فهو مضاف.
ب. وقيل: أراد: بقلة العدد وضعف الحال وقلة السلاح، ولا شبهة أنه لا يطلق على من ينصره الله تعالى أنه ذليل.
واختلفوا: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾:
أ. قيل: اجتنبوا معاصيه واعملوا بطاعته لتقوموا بشكر نعمته.
ب. وقيل: اتقوا عقابه بطاعته فيما أمركم به.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾:
أ. قيل: فيه تقديم وتأخير تقديره: لقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة لعلكم تشكرون، فاتقوا الله لتكونوا شاكرين.
ب. وقيل: فاتقوا الله لتكونوا بالتقوى شاكرين لنعمه عليكم يوم بدر.
6. ﴿إِذْ تَقُولُ﴾ يا محمد ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ من أصحابك ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ يغنيكم ﴿أَنْ يُمِدَّكُمْ﴾ يعطيكم مددًا لكم، واختلفوا متى قال هذا، ومتى كان هذا الوعد؟
أ. فقيل: يوم بدر أمدوا بالملائكة، عن ابن عباس والحسن وقتادة وأبي علي وأبي مسلم.
ب. وقيل: بل كان يوم أحد، وَعَدَهُمُ الله المدد إن صبروا، عن عكرمة والضحاك.
7. اختلفوا بكم أُمِدُّوا:
أ. قيل: بخمسة آلاف عن ابن عباس وقتادة.
ب. وقيل: بثمانية آلاف، عن جماعة.
ج. وقيل: بألف عن الشعبي.
د. وقيل: لم يمدوا بشيء، عن الأصم، قال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر وفيما سوى ذلك كانوا عددًا ومددًا.
8. ﴿بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ يعني أنزلهم الله تعالى من السماء إلى الأرض لنصرتكم ﴿بَلَى﴾ تصديق لوعد الله، أي يفعل كما وعدكم ويزيدكم ﴿إِنْ تَصْبِرُوا﴾ في الجهاد وعلى ما أمركم الله تعالى: ﴿وَتَتَّقُوا﴾ معاصي الله ومخالفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَأْتُوكُمْ﴾:
قيل: يعني المشركين.
وقيل: الواو للتفخيم، والمعنى يأتوكم يعني الملائكة مددًا الثلاثة آلاف.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾:
أ. قيل: مِنْ وَجْهِهِمْ، عن ابن عباس والحسن وقتادة والربيع والسدي وابن زيد، فعلى هذا هو من فور الانتداب لهم، وهو ابتداؤه.
ب. وقيل: من غضبهم هذا، وكانوا غضبوا يوم أحد ليوم بدر مما لقوا، عن مجاهد والضحاك وأبي صالح، وهو من فور الغضب وهو غليانه.
ج. وقيل: في مسيرهم هذا في قصدهم إليكم، عن أبي علي.
﴿يُمْدِدْكُمْ﴾ يعطيكم مددًا لكم ونصرة ﴿رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾:
قيل: بالكسر أي مُعْلِمِين أعلموا أنفسهم، وبالفتح مُعْلَمين أي سومهم الله أي أعلمهم.
وقيل: مرسلين.
11. ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ اختلفوا في هذه السمة:
أ. قيل: بالصوف في نواصي الخيل وأذنابها، عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك.
ب. وقيل: نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بلق، وعليهم عمائم صفر، عن هشام بن عروة.
ج. وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال يوم بدر: (سوموا فإن الملائكة سومت بالصوف الأبيض، وفي قلانسهم ومعافرهم)
د. وقيل: كانوا على خيل بلق، عن الربيع.
هـ. وقيل: كانت عليهم عمائم بيض أرسلوها بين أكتافهم، عن علي وابن عباس.
و. وقيل: كانت عليهم سيماء الملائكة، عن عكرمة.
ز. وقيل: سيماء المؤمنين، عن السدي.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى﴾:
أ. قيل: أي ما جعل الإمداد والوعد به.
ب. وقيل: ما جعل النصر إلا بشرى، عن أبي مسلم.
13. ﴿بُشْرَى﴾ أي بشارة لكم لتستبشروا به ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ يعني لتسكن قلوبكم فلا تخافون كثرة عدد العدو وقلة عددكم ﴿وَمَا النَّصْرُ﴾ يعني المعونة ﴿إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾:
أ. قيل: مع أمداد الملائكة وكثرة العدو النصرة من الله، حتى لو لم ينصره لم يغنوا شيئًا.
ب. وقيل: هذا النصر بإمداد الملائكة من عنده.
14. ﴿الْعَزِيزِ﴾ القادر على انتقامه من الكفار بأيدي المؤمنين ﴿الْحَكِيمُ﴾:
أ. قيل: في تدبيره للعالمين.
ب. وقيل: الحكيم في ابتلاء بعضهم ببعض.
15. أجمع أهل التفسير والسير أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر، وأنهم قاتلوا، غير الأصم، فإنه أنكر ذلك أشد الإنكار، والذي يبطل قوله القرآن وإجماع الأمة قبله وما روي في الآثار والسير حتى دخل في حد التواتر، واستدل الأصم بقوله تعالى: ﴿وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ قال: فكيف يقلل، وهم خمسة آلاف وستة آلاف، وروي أن المشركين رأوهم، قال: ولأنه لو كان كذلك لم يكن في الوقعة معجزة، وإنما يكون كما جرت العادة بين الناس بغلبة الكثير على القليل، والجواب على ما ذكره من وجوه:
أ. أما الأول فلم يرهم المشركون، وإنما رُئِيَ بعضهم في وقت دون وقت، ويجوز أن يروهم ومع ذلك يقللهم في أعينهم، كما قلل الناس في أعينهم معجزة.
ب. وعن الثاني: أن المعجزة بإمداد الملائكة والنصرة، فلا مانع يمنع من ذلك.
16. روى ابن أبي أوفى أنه تعالى أمدهم يوم بني قريظة والنضير، أمدهم بثلاثة آلاف، واختلفوا في أحد على أقوال:
أ. فمنهم من قال: نزلوا وهزموا المشركين، فلما عصى أصحابه صعدوا، ومنهم من قال: وعدهم بنزولهم إن صبروا، فلم يصبروا فلم ينزلهم، ومنهم من قال: لم يمدهم يومئذ أصلاً.
ب. وقيل: إنه أمدهم يوم الأحزاب حتى انصرف المشركون إلى مكة.
17. جميع مغازيه ست وعشرون غزوة، قاتل في سبع:
أ. منها: بدر الكبرى، كان يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان سنة ثنتين من الهجرة، وذلك أن جبريل أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يخبره بعير أبي سفيان المقبلة من الشام، فخرج في خِفٍّ من أصحابه، وبلغ ذلك أبا سفيان، فَغَيَّرَ الطريق، وبعث النفير إلى مكة فخرجوا حتى أتوا بدرًا، فرأى بعضهم الحرب وبعضهم الكف، ثم اتفقوا على الحرب، فقتل جماعة، وأسر جماعة منهم العباس، ثم فدى الأسارى، وكان المسلمون يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر، والمشركون تسعمائة ونَيِّفًا، قال ابن عباس: كان المهاجرون يوم بدر سبعة وسبعين رجلاً والأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلاً، وصاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم علي بن أبي طالب، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، ويقال: لم يكن وقعة كوقعة بدر حضرها المهاجرون والأنصار ومؤمنو الجن، وعليهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمدوا بالملائكة، وحضر الملأ من قريش وحضر إبليس وكفار الجن.
ب. ومنها: أُحد في شوال سنة ثلاث، والخندق وقريظة في شوال سنة أربع، وبني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس، وخيبر في سنة ست، والفتح في رمضان سنة ثمان، وحنين والطائف في شوال سنة ثمان.
ج. وأول مغازيه بدر، وآخرها تبوك، وسراياه ست وستون.
18. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن الحق يكون في القليل؛ لأن الحق كان معهم ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيهم، فتدل أن القليل يغلب الكثير بنصرة الله تعالى.
ب. النصرة تكون بإمداد الملائكة، وبتقوية قلوب المؤمنين وتثبيت أقدامهم، وإلقاء الرعب في قلوب الكفار.
ج. إثبات الملائكة، وأنهم مختصون بالقوة والأجنحة.
د. أن مع الإمداد والكثرة أيضًا لا يُستغنى عن نصرة الله تعالى، وفيه تنبيه على أن العبد ينبغي له أن يتوكل عليه، وينقطع إليه.
19. قراءات ووجوه:
أ. قرأ العام ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ وعن أبي (ألا يكفيكم)
ب. اختلفوا في ﴿مُنْزِلِينَ﴾ فقرأ ابن عامر مشددة الزاي مفتوحة على التكثير، وهي قراءة الحسن ومجاهد، وقرأ الآخرون بفتح الزاي مخففة اعتبروا قوله: ﴿وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾
ج. اختلفوا في ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بكسر الواو، وقرأ ابو جعفر ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب بفتح الواو، وقال علي بن عيسى: الاختيار الكسر لتظاهر الأخبار أتهم سوموا خيلهم بعلامة جعلوها عليها، فمن قرأ بالفتح فمعناه مرسلين من الإبل السائمة المرسلة في المرعى، وقيل: من كسر أراد سوموا خيلهم، ومن فتح أراد به أنفسهم، والسُّوَمةُ العلامة التي يُعَلِّم بها الفارس نفسه في الحرب.
20. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ﴾ تقديره: أن يكفيكم إمدادكم؛ لأن ﴿أَنْ﴾ وما عملت فيه اسم، وقوله: ﴿يُمْدِدْكُمْ﴾ ولم يقل يمدكم بالإدغام، كما قال: ﴿أَنْ يُمِدَّكُمْ﴾ لأن هذا جواب المجازاة فقد سكنت لام الفعل فلا يدغمه؛ لأن تقديره: إن تصبروا وتتقوا يمددكم.
ب. الهاء في قوله: ﴿وَمَا جَعَلَهُ﴾ قيل: تعود على الإمداد، فهو يعود علي معلوم بالدلالة، غير مذكور باسمه؛ لأن ﴿يُمْدِدْكُمْ﴾ يدل على الإمداد، ومثل هذا في قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾، ومنه قول لبيد: (حتى إذا ألقت يدا في كافر)، يعني الشمس، وقيل: يعود على النصر، عن أبي مسلم.
ج. ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ﴾ نصب بلام كي أي لتطمئن قلوبكم به، أي بما فعله بشرى وهو النصر.
د. سؤال وإشكال: ﴿بُشْرَى﴾ اسم فلم عطف عليه ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ﴾، وهو فعل، وعطف الفعل على الاسم لا يجوز؟ والجواب:
• قيل: الواو محذوف تقديره: لتطمئن.
• وقيل: إنه معطوف على محله، تقديره: لتبشروا به ولتطمئن.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/370.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. بدر: ما بين مكة والمدينة، وقال الشعبي: سمي بدرا لان هناك ماء لرجل يسمى بدرا، فسمي الموضع باسم صاحبه، وقال الواقدي: هو اسم للموضع، وكل شيء تم فهو بدر، وسمي بدر السماء بدرا لتمامه وامتلائه، وعين بدرة: ممتلئة.
ب. يكفيكم: يقال استكفيته الامر فكفاني وكفاك هذا الامر أي: حسبك، والفرق بين الاكتفاء والاستغناء ان الاكتفاء هو الاقتصار على ما ينفي الحاجة.
ج. الاستغناء: الاتساع فيما ينفي الحاجة.
د. الامداد هو اعطاء الشيء حالا بعد حال، والمد في السير هو الاستمرار عليه، وامتد بهم السير: إذا طال واستمر، وأمددت الجيش بمدد، وأمد الجرح فهو ممد: إذا صارت فيه المدة، ومد النهر: إذا جرى، يقال مد النهر، ومده نهر آخر، ويقال مده في الشر، وأمده في الخير.
هـ. أصل الفور: فور القدر، فهو غليانها عند شدة الحمى، ومنه فورة الغضب، لأنه كفور القدر، ومنه فارت العين بالماء: إذا جاشت به، ومنه الفوارة لأنها تفور بالماء، كما تفور القدر بما فيها، ومنه جاء على الفور أي: على ابتداء الحمى قبل أن تبرد عنه نفسه، وقيل: الفور القصد إلى الشيء بحدة.
2. ثم بين الله تعالى ما فعله بهم من النصر يوم بدر فقال: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ﴾ أيها المؤمنون ﴿بِبَدْرٍ﴾ بتقوية قلوبكم، وبما أمدكم به من الملائكة، وبالقاء الرعب في قلوب أعدائكم.
3. ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ أي: ضعفاء عن المقاومة، قليلو العدد، قليلو العدة، جمع ذليل، وروي عن ابن عباس أنه قال: كان المهاجرون يوم بدر سبعة وسبعين رجلا، والأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلا، والجميع ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وكان المشركون نحوا من ألف رجل، وروي عن بعض الصادقين انه قرأ (وأنتم ضعفاء) وقال: لا يجوز وصفهم بأنهم أذلة وفيهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان صاحب راية رسول الله يوم بدر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وقيل: سعد بن معاذ.
4. ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ أي: اجتنبوا معاصيه، واعملوا بطاعته، ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي: لتقوموا بشكر نعمته.
5. ﴿إذا تقول﴾ خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أي: إذ تقول يا محمد ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ من أصحابك: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ﴾ هو اخبار بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لقومه: ألن يكفيكم يوم بدر ان جعل ربكم ثلاثة آلاف من الملائكة مددا لكم؟
أ. قال ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم: ان الامداد بالملائكة كان يوم بدر.
ب. وقال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة الا يوم بدر، وكانوا في غيره من الأيام عدة ومددا.
ج. وقال الحسن: كان جميعهم خمسة آلاف، فمعناه: يمددكم ربكم بتمام خمسة آلاف.
د. وقال غيره: كانوا ثمانية آلاف، فمعناه بخمسة آلاف أخر.
هـ. وقيل: إن الوعد بالامداد بالملائكة كان يوم أحد، وعدهم الله المدد ان صبروا، عن عكرمة والضحاك.
6. ﴿مُنْزِلِينَ﴾ أنزلهم الله من السماء إلى الأرض لنصرتكم، ﴿بَلَى﴾ تصديق للوعد أي: يفعل كما وعدكم، ويزيدكم ﴿إِنْ تَصْبِرُوا﴾ معناه: ان صبرتم على الجهاد، وعلى ما أمركم الله تعالى ﴿وَتَتَّقُوا﴾ معاصي الله، ومخالفة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَيَأْتُوكُمْ﴾ يعني المشركين ان رجعوا إليكم.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾:
أ. قيل: أي: من وجههم هذا، عن ابن عباس والحسن وقتادة والربيع والسدي، وعلى هذا فإنما هو من فور الابتدار لهم، وهو ابتداؤه.
ب. وقيل: معناه من غضبهم هذا، عن مجاهد وأبي صالح والضحاك، وكانوا قد غضبوا يوم أحد ليوم بدر، مما لقوا، فهو من فور الغضب وهو غليانه.
8. ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ﴾ أي: يعطكم مددا لكم ونصرة، وإنما قال ذلك، لان الكفار في غزوة أحد ندموا بعد انصرافهم لم لم يغيروا على المدينة، وهموا بالرجوع، فأوحى الله إلى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يأمر أصحابه بالتهيؤ للرجوع إليهم، وقال لهم ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾، ثم قال: إن صبرتم على الجهاد، وراجعتم الكفار، أمدكم الله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، فأخذوا في الجهاد، وخرجوا يتبعون الكفار على ما كان بهم من الجراح، فأخبر المشركين من مر برسول الله، أنه خرج يتبعكم، فخاف المشركون ان رجعوا أن تكون الغلبة للمسلمين، وأن يكون قد التأم إليهم من كان تأخر عنهم، وانضم إليهم غيرهم، فدسوا نعيم بن مسعود الأشجعي، حتى يصدهم بتعظيم أمر قريش، وأسرعوا في الذهاب إلى مكة، وكفى الله المسلمين أمرهم، والقصة معروفة، ولذلك قال قوم من المفسرين: ان جميعهم ثمانية آلاف، وقال الحسن: خمسة آلاف جميعهم، منهم ثلاثة آلاف المنزلين، على أن الظاهر يقتضي أن الامداد بثلاثة آلاف كان يوم بدر، لان قوله ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ الآية يتعلق بقوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ﴾ الآية، ثم استأنف حكم يوم أحد فقال: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾ أي: ان يرجعوا إليكم بعد انصرافهم، أمدكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، وهذا قول البلخي، ورواه عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: لم يمدوا يوم أحد، ولا بملك واحد، وعلى هذا فلا تنافي بين الآيتين.
9. سؤال وإشكال: كيف لم يمدوا بالملائكة في سائر الحروب؟ والجواب: ان ذلك تابع للمصلحة، فإذا علم الله في امدادهم المصلحة أمدهم.
10. ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ بالكسر أي: معلمين أعلموا أنفسهم، ومسومين بالفتح: سومهم الله أي: أعلمهم:
أ. قال ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم: كانوا أعلموا بالصوف في نواصي الخيل وأذنابها.
ب. وقال عروة: نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بلق، وعليهم عمائم صفر.
ج. وقال علي وابن عباس: كانت عليهم عمائم بيض، وأرسلوا أذنابها بين أكتافهم.
د. قال السدي: معنى مسومين بالفتح: مرسلين من الناقة السائمة أي: المرسلة في المرعى.
11. ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ﴾ أي: وما جعل الله الامداد والوعد به، فالهاء عائدة على غير مذكور باسمه، وهو معلوم بدلالته عليه، لان يمدد يدل على الامداد، وبشرى لكم أي: بشارة لكم لتستبشروا به، ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ أي: ولتسكن قلوبكم فلا تخافوا كثرة عدد العدو، وقلة عددكم.
12. ﴿وَمَا النَّصْرُ﴾ أي: وما المعونة ﴿إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾:
أ. قيل: معناه: ان الحاجة إلى الله تعالى لازمة في المعونة، وان أمدكم بالملائكة فلا استغناء لكم عن معونته طرفة عين، في تقوية قلوبكم، وخذلان عدوكم، بضعف قلوبهم إلى غير ذلك.
ب. وقيل: إن معناه وما هذا النصر بامداد الملائكة، الا من عند الله.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الْعَزِيزِ الْحَكِيمُ﴾:
أ. قيل: ﴿الْعَزِيزِ﴾ أي: القادر على انتقامه من الكفار بأيدي المؤمنين ﴿الْحَكِيمُ﴾ في تدبيره للمؤمنين وللعالمين، وإنما قال ذلك ليعلمهم أن حربهم للمشركين إنما هو لاعزاز الدين.
ب. وقيل: العزيز المنيع باقتداره، والحكيم: في تدبيره للخلق.
14. فصل وجيز في ذكر مغازي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: قال المفسرون: جميع ما غزا رسول الله بنفسه ستة وعشرون غزاة، وأول غزاة غزاها غزوة الأبواء، ثم غزوة بواط، ثم غزوة العشيرة، ثم غزوة بدر الأولى، ثم غزوة بدر الكبرى، ثم غزوة بني سليم، ثم غزوة السويق، ثم غزوة ذي أمر، ثم غزوة أحد، ثم غزوة الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوة ذات الرقاع، ثم غزوة بدر الأخيرة، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان، ثم غزوة بني قرد، ثم غزوة بني المصطلق، ثم غزوة الحديبية، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة الفتح فتح مكة، ثم غزوة حنين، ثم غزوة الطائف، ثم غزوة تبوك، قاتل منها في تسع غزوات: غزوة بدر الكبرى، وهو يوم الجمعة، السابع عشر من رمضان، سنة اثنتين من الهجرة وأحد وهو في شوال، سنة ثلاث من الهجرة، والخندق وبني قريظة، في شوال سنة أربع، وبني المصطلق وبني لحيان، في شعبان سنة خمس، وخيبر، سنة ست، والفتح، في رمضان ثمان، وحنين والطائف، في شوال سنة ثمان، فأول غزوة غزاها بنفسه، فقاتل فيها بدر، وآخرها تبوك، وأما عدد سراياه فستة وثلاثون سرية، على ما عد في مواضعه.
15. قراءات ووجوه:
أ. قرأ ابن عامر ﴿مُنْزِلِينَ﴾ مشددة الزاي، وقرأ الآخرون ﴿مُنْزِلِينَ﴾ مخففة.. حجة من قرأ ﴿مُنْزِلِينَ﴾ بالتخفيف: قوله ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾، و﴿لو أنزلنا ملكا﴾، ولأن الانزال يعم التنزيل وغيره، وحجة ابن عامر: ﴿ما تنزل الملائكة﴾، و﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾، لان تنزل مطاوع نزل و(لو اننا نزلنا إليهم الملائكة)
ب. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ بكسر الواو، وقرأ الباقون بفتحها.. قال أبو الحسن: من قرأ ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ بالكسر فلأنهم سوموا الخيل، ومن قرأ ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ فلأنهم سوموا، وقال مسومين: معلمين، ويكون مرسلين من سوم الخيل: إذا أرسلها، ومنه السائمة، وقال علي بن عيسى: ان اختيار الكسر لتظاهر الاخبار بأنهم سوموا خيلهم بعلامة، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (سوموا فان الملائكة قد سومت)
16. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾: في موضع نصب على الحال.
ب. ﴿أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ﴾: في موضع رفع بأنه فاعل: ألن يكفيكم امدادكم.
ج. ﴿مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾: هذا في موضع جر صفة لفورهم.
د. ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾: معطوف على قوله ﴿بُشْرَى لَكُمْ﴾ لان تقديره لتبشروا به، ولتطمئن.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/828.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ﴾ في تسمية بدر قولان:
أ. أحدهما: أنها بئر لرجل اسمه بدر، قاله الشّعبيّ.
ب. الثاني: أنه اسم للمكان الذي التقوا عليه، ذكره الواقديّ عن أشياخه.
2. ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ أي لقلّة العدد والعدد ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي لتكونوا من الشّاكرين.
﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ﴾ قال الشّعبيّ: قال كرز بن جابر لمشركي مكّة: إني أمدّكم بقومي، فاشتدّ ذلك على المسلمين، فنزلت هذه الآية، وفي أيّ يوم كان ذلك؟ فيه قولان:
أ. أحدهما: يوم بدر، قاله ابن عباس، وعكرمة ومجاهد، وقتادة.. وهو الأصحّ.
ب. الثاني: يوم أحد، وعدهم فيه بالمدد إن صبروا، فلمّا لم يصبروا لم يمدّوا، روي عن عكرمة، والضّحّاك، ومقاتل.
3. الكفاية: مقدار سدّ الخلّة، والاكتفاء: الاقتصار على ذلك، والإمداد: إعطاء الشيء بعد الشيء.
4. ﴿مُنْزِلِينَ﴾ قرأ الأكثرون بتخفيف الزاي، وشدّدها ابن عامر.
5. في قوله تعالى: ﴿وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنّ معناه: من وجههم وسفرهم هذا، قاله ابن عباس والحسن، وقتادة ومقاتل، والزجّاج.
ب. الثاني: من غضبهم هذا، قاله عكرمة، ومجاهد، والضّحّاك في آخرين.
6. قال ابن جرير: من قال من وجههم، أراد ابتداء مخرجهم يوم بدر، ومن قال من غضبهم أراد ابتداء غضبهم لقتلاهم يوم بدر، وأصل الفور ابتداء الأمر يؤخذ فيه، يقال: فارت القدر: إذ ابتداء ما فيها بالغليان، ثمّ اتّصل، وقال ابن فارس: الفور: الغليان، يقال: فارت القدر تفور، وفار غضبه: إذا جاش، ويقولون: فعله من فوره، أي: قبل أن يسكن.
7. في يوم فورهم قولان:
أ. أحدهما: أنه يوم بدر، قاله قتادة.
ب. الثاني: يوم أحد، قال مجاهد، والضّحّاك: كانوا غضبوا يوم أحد ليوم بدر ممّا لقوا.
8. ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم بكسر الواو، والباقون بفتحها، فمن فتح الواو، أراد أن الله سوّمها، ومن كسرها، أراد أن الملائكة سوّمت أنفسها، وقال الأخفش: سوّمت خيلها، وفي الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال يوم بدر: (سوّموا فإنّ الملائكة قد سوّمت) ونسب الفعل إليها، فهذا دليل الكسر، قال ابن قتيبة: ومعنى مسوّمين: معلّمين بعلامة الحرب، وهو من السّيماء، والسّومة: العلامة التي يعلّم بها الفارس نفسه، قال عليّ عليه السلام: وكان سيماء خيل الملائكة يوم بدر، الصّوف الأبيض في أذنابها ونواصيها، وقال أبو هريرة: العهن الأحمر، وقال مجاهد: كانت أذناب خيولهم مجزوزة، وفيها العهن، وقال هشام بن عروة: كانت الملائكة على خيل بلق، وعليهم عمائم صفر، وروى ابن عباس عن رجل من بني غفار قال حضرت أنا وابن عمّ لي بدرا، ونحن على شركنا، فأقبلت سحابة، فلما دنت من الجبل سمعنا فيها حمحمة الخيل، وسمعنا فارسا يقول: أقدم حيزوم، فأمّا صاحبي فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك، ثمّ انتعشت، وقال أبو داوود المازني: إني لأتبع يوم بدر رجلا من المشركين لأضربه، فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنّ غيري قد قتله.
9. في عدد الملائكة يوم بدر خمسة أقوال:
أ. أحدها: خمسة آلاف، قاله الحسن، وروى محمد بن جبير بن مطعم عن عليّ عليه السلام قال: بينا أنا أمتح من قليب بدر، إذ جاءت ريح شديدة لم أر أشدّ منها، ثمّ جاءت ريح شديدة لم أر أشدّ منها إلا التي كانت قبلها، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشدّ منها، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألفين من الملائكة، وكان مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكانت الرّيح الثانية ميكائيل نزل في ألفين من الملائكة عن يمين رسول الله، وكانت الرّيح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن يسار رسول الله، وكنت عن يساره، وهزم الله أعداءه.
ب. الثاني: أربعة آلاف، قاله الشّعبيّ.
ج. الثالث: ألف، قاله مجاهد.
د. الرابع: تسعة آلاف، ذكره الزجّاج.
هـ. الخامس: ثمانية آلاف، ذكره بعض المفسرين.
10. ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ﴾ يعني المدد ﴿إِلَّا بُشْرَى﴾، أي: إلا بشارة تطيّب أنفسكم، ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾، فتسكن في الحرب، ولا تجزع، والأكثرون على أنّ هذا المدد يوم بدر، وقال مجاهد: يوم أحد، وروي عنه ما يدل على أن الله أمدّهم بالملائكة في اليومين جميعا، غير أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر.
11. ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ أي: ليس بكثرة العدد والعدد.
__________
(1) زاد المسير: 1/321.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في علاقة قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ بما قبله وجهان:
أ. الأول: أنه تعالى لما ذكر قصة أحد أتبعها بذلك قصة بدر، وذلك لأن المسلمين يوم بدر كانوا في غاية الفقر والعجز، والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة، ثم إنه تعالى سلّط المسلمين على المشركين فصار ذلك من أقوى الدلائل على أن العاقل يجب أن لا يتوسل إلى تحصيل غرضه ومطلوبه إلا بالتوكل على الله والاستعانة به والمقصود من ذكر هذه القصة تأكيد قوله: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ [آل عمران: 120] وتأكيد قوله: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 122]
ب. الثاني: أنه تعالى حكى عن الطائفتين أنهما همتا بالفشل، ثم قال: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ يعني من كان الله ناصراً له ومعيناً له فكيف يليق به هذا الفشل والجبن والضعف؟ ثم أكد ذلك بقصة بدر فإن المسلمين كانوا في غاية الضعف ولكن لما كان الله ناصراً لهم فازوا بمطلوبهم وقهروا خصومهم فكذا هاهنا، فهذا تقرير وجه النظم.
2. في بدر أقوال:
أ. الأول: بدر اسم بئر لرجل يقال له بدر فسميت البئر باسم صاحبها هذا قول الشعبي.
ب. الثاني: أنه اسم للبئر كما يسمى البلد باسم من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه وهذا قول الواقدي وشيوخه، وأنكروا قول الشعبي وهو ماء بين مكة والمدينة.
3. ﴿أَذِلَّةً﴾ جمع ذليل قال الواحدي: الأصل في الفعيل إذا كان صفة أن يجمع على فعلاء كظريف وظرفاء وكثير وكثراء وشريك وشركاء إلا أن لفظ فعلاء اجتنبوه في التضعيف لأنهم لو قالوا: قليل وقللاء وخليل وخللاء لاجتمع حرفان من جنس واحد فعدل إلى أفعلة لأن من جموع الفعيل: الأفعلة، كجريب وأجربة، وقفيز وأقفزة فجعلوه جمع ذليل أذلة، قال الزمخشري: الأذلة جمع قلة، وإنما ذكر جمع القلة ليدل على أنهم مع ذلهم كانوا قليلين.
4. ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ في موضع الحال، وإنما كانوا أذلة لوجوه:
أ. الأول: أنه تعالى قال: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8] فلا بد من تفسير هذا الذل بمعنى لا ينافي مدلول هذه الآية، وذلك هو تفسيره بقلة العدد وضعف الحال وقلة السلاح والمال وعدم القدرة على مقاومة العدو ومعنى الذل الضعف عن المقاومة ونقيضه العز وهو القوة والغلبة، روي أن المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وما كان فيهم إلا فرس واحد، وأكثرهم كانوا رجالة، وربما كان الجمع منهم يركب جملًا واحداً، والكفار قريبين من ألف مقاتل ومعهم مائة فرس مع الأسلحة الكثيرة والعدة الكاملة.
ب. الثاني: لعل المراد أنهم كانوا أذلة في زعم المشركين واعتقادهم لأجل قلة عددهم وسلاحهم، وهو مثل ما حكى الله عن الكفار أنهم قالوا ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ [المنافقون: 8]
ج. الثالث: أن الصحابة قد شاهدوا الكفار في مكة في القوة والثروة وإلى ذلك الوقت ما اتفق لهم استيلاء على أولئك الكفار، فكانت هيبتهم باقية في قلوبهم واستعظامهم مقرراً في نفوسهم فكانوا لهذا السبب يهابونهم ويخافون منهم.
5. ثم قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ أي في الثبات مع رسوله ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته أو لعلّ الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها، فوضع الشكر موضع الإنعام، لأنه سبب له.
6. ثم قال تعالى: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾، واختلف المفسرون في أن هذا الوعد حصل يوم بدر، أو يوم أحد ويتفرع على هذين القولين بيان العامل في ﴿إِذِ﴾ فإن قلنا هذا الوعد حصل يوم بدر كان العامل في ﴿إِذِ﴾ قوله: ﴿نَصَرَكُمُ اللهُ﴾ [آل عمران: 123] والتقدير: إذ نصركم الله ببدر وأنتم أذلة تقول للمؤمنين، وإن قلنا إنه حصل يوم أحد كان ذلك بدلًا ثانيا من قوله: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ﴾:
أ. الأول: أنه يوم أحد، وهو مروي عن ابن عباس والكلبي والواقدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق، ونظم الآية على هذا التأويل أنه تعالى ذكر قصة أحد، ثم قال: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أي يجب أن يكون توكلهم على الله لا على كثرة عددهم وعددهم فلقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فكذلك هو قادر على مثل هذه النصرة في سائر المواضع، ثم بعد هذا أعاد الكلام إلى قصة أحد فقال: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ﴾، والحجة عليه من وجوه:
• الحجة الأولى: أن يوم بدر إنما أمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بألف من الملائكة قال تعالى في سورة الأنفال: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ﴾ [الأنفال: 9] فكيف يليق ما ذكر فيه ثلاثة آلاف وخمسة آلاف بيوم بدر؟.
• الحجة الثانية: أن الكفار كانوا يوم بدر ألفاً أو ما يقرب منه والمسلمون كانوا على الثلث منهم لأنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، فأنزل الله تعالى يوم بدر ألفا من الملائكة، فصار عدد الكفار مقابلًا بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين فلا جرم وقعت الهزيمة على الكفار فكذلك يوم أحد كان عدد المسلمين ألفاً، وعدد الكفار ثلاثة آلاف، فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم، كما في يوم بدر، فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة آلاف من الملائكة ليصير عدد الكفار مقابلًا بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين، فيصير ذلك دليلًا على أن المسلمين يهزمونهم في هذا اليوم كما هزموهم يوم بدر ثم جعل الثلاثة آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة قلوب المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم، ومعلوم أن هذا المعنى إنما يحصل إذا قلنا إن هذا الوعد إنما حصل يوم أحد.
• الحجة الثالثة: أنه تعالى قال في هذه الآية ﴿وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران: 125] والمراد ويأتوكم أعداؤكم من فورهم، ويوم أحد هو اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء، فأما يوم بدر فالأعداء ما أتوهم، بل هم ذهبوا إلى الأعداء، سؤال وإشكال: لو جرى قوله تعالى: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ﴾ في يوم أحد، ثم إنه ما حصل هذا الإمداد لزم الكذب، والجواب:
● هذا الشرط لا جرم لم يحصل المشروط.
● لا نسلم أن الملائكة ما نزلت، روى الواقدي عن مجاهد أنه قال حضرت الملائكة يوم أحد ولكنهم لم يقاتلوا، وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أعطى اللواء معصب بن عمير فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تقدم يا مصعب فقال الملك لست بمصعب فعرف الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه ملك أمد به، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال كنت أرمي السهم يومئذ فيرده علي رجل أبيض حسن الوجه وما كنت أعرفه، فظننت أنه ملك، فهذا ما نقوله في تقرير هذا الوجه.
ب. الثاني: أن هذا الوعد كان يوم بدر، وهو قول أكثر المفسرين، واحتجوا على صحته بوجوه:
• الحجة الأولى: أن الله تعالى قال: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ [آل عمران: 123]، ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ كذا وكذا، فظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى نصرهم ببدر حينما قال الرسول للمؤمنين هذا الكلام، وهذا يقتضي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال هذا الكلام يوم بدر.
• الحجة الثانية: أن قلة العدد والعدد كانت يوم بدر أكثر وكان الاحتياج إلى تقوية القلب ذلك اليوم أكثر، فكان صرف هذا الكلام إلى ذلك اليوم أولى.
• الحجة الثالثة: أن الوعد بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقاً غير مشروط بشرط، فوجب أن يحصل، وهو إنما حصل يوم بدر لا يوم أحد، وليس لأحد أن يقول إنهم نزلوا لكنهم ما قاتلوا لأن الوعد كان بالإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد بل لا بد من الإعانة، والإعانة حصلت يوم بدر ولم تحصل يوم أحد
7. أجاب القائلون بأن هذا الوعد كان يوم بدر عن دلائل المخالفين، فقالوا:
أ. أما الحجة الأولى: وهي قولكم: الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما أمد يوم بدر بألف من الملائكة، فالجواب عنها من وجهين:
• الأول: أنه تعالى أمد أصحاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بألف ثم زاد فيهم ألفين فصاروا ثلاثة آلاف، ثم زاد ألفين آخرين فصاروا خمسة آلاف، فكأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لهم: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بألف من الملائكة فقالوا بلى، ثم قال ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف فقالوا بلى، ثم قال لهم: إن تصبروا وتتقوا يمددكم ربكم بخمسة آلاف، وهو كما روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لأصحابه: (أيسركم أن تكونوا ربع أهل الجنة قالوا نعم قال أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة قالوا نعم قال فإني أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة)
• الوجه الثاني في الجواب: أن أهل بدر إنما أمدوا بألف على ما هو مذكور في سورة الأنفال، ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قريش بعدد كثير فخافوا وشق عليهم ذلك لقلة عددهم، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءهم مدد فأنا أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة، ثم إنه لم يأت قريشاً ذلك المدد، بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قريش، فاستغنى عن إمداد المسلمين بالزيادة على الألف.
ب. أما الحجة الثانية: وهي قولكم: إن الكفار كانوا يوم بدر ألفاً فأنزل الله ألفاً من الملائكة ويوم أحد ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثة آلاف، فالجواب: إنه تقريب حسن، ولكنه لا يوجب أن لا يكون الأمر كذلك، بل الله تعالى قد يزيد وقد ينقص في العدد بحسب ما يريد.
ج. أما الحجة الثالثة: وهي التمسك بقوله: ﴿وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ﴾ [آل عمران: 125]، فالجواب عنه: أن المشركين لما سمعوا أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه قد تعرضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم واجتمعوا وقصدوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم إن الصحابة لما سمعوا ذلك خافوا فأخبرهم الله تعالى: أنهم إن يأتوكم من فورهم يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة فهذا حاصل ما قيل في تقرير هذين القولين، والله أعلم بمراده.
8. اختلفوا في عدد الملائكة، وضبط الأقوال فيها:
أ. من الناس من ضم العدد الناقص إلى العدد الزائد، فقالوا: لأن الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه، والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتقوى ومجيء الكفار من فورهم، فلا بد من التغاير وهو ضعيف، لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة بشرط أن تكون الثلاثة التي جزؤها مشروطة بذلك الشرط.. وعلى هذا التقدير فإن حملنا الآية على قصة بدر كان عدد الملائكة تسعة آلاف لأنه تعالى ذلك الألف، وذكر ثلاثة آلاف، وذكر خمسة آلاف، والمجموع تسعة آلاف، وإن حملناها على قصة أحد، فليس فيها ذلك الألف، بل فيها ذكر ثلاثة آلاف، وخمسة آلاف، والمجموع: ثمانية آلاف.
ب. ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد.. وعلى هذا التقدير، قالوا: عدد الملائكة خمسة آلاف، ثم ضم إليها ألفان آخران، فلا جرم وعدوا بالألف ثم ضم إليه ألفان فلا جرم وعدوا بثلاثة آلاف، ثم ضم إليها ألفان آخران فلام جر وعدوا بخمسة آلاف،.
ج. قد حكينا عن بعضهم أنه قال أمد أهل بدر بألف فقيل: إن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك على المسلمين، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لهم: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ يعني بتقدير أن يجيء المشركين مدد فالله تعالى يمدكم أيضا بثلاثة آلاف وخمسة آلاف، ثم إن المشركين ما جاءهم المدد، فكذا هاهنا الزائد على الألف ما جاء المسلمين.
د. هذه وجوه كلها محتملة والله أعلم بمراده.
9. أجمع أهل التفسير والسير أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار، قال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر وفيما سواه كانوا عدداً ومدداً لا يقاتلون ولا يضربون، وهذا قول الأكثرين، أما أبو بكر الأصم، فإنه أنكر ذلك أشد الإنكار، واحتج عليه بوجوه:
أ. الحجة الأولى: إن الملك الواحد يكفي في إهلاك الأرض، ومن المشهور أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت المدائن الأربع لقوم لوط وبلغ جناحه إلى الأرض السابعة، ثم رفعها إلى السماء وقلب عاليها سافلها، فإذا حضر هو يوم بدر، فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار؟ ثم بتقدير حضوره، فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة؟.
ب. الحجة الثانية: أن أكابر الكفار كانوا مشهورين وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة.
ج. الحجة الثالثة: الملائكة لو قاتلوا لكانوا إما أن يصيروا بحيث يراهم الناس أو لا يراهم الناس فإن رآهم الناس فإما أن يقال إنهم رأوهم في صورة الناس أو في غير صورة الناس:
• فإن كان الأول فعلى هذا التقدير صار المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف، أو أكثر، ولم يقل أحد بذلك، ولأن هذا على خلاف قوله تعالى: ﴿وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ [الأنفال: 44] وإن شاهدوهم في صورة غير صور الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق فإن من شاهد الجن لا شك أنه يشتد فزعه ولم ينقل ذلك ألبتة.
• وأما القسم الثاني: وهو أن الناس ما رأوا الملائكة فعلى هذا التقدير: إذا حاربوا وحزوا الرؤوس، ومزقوا البطون وأسقطوا الكفار عن الأفراس، فحينئذ الناس كانوا يشاهدون حصول هذه الأفعال مع أنهم ما كانوا شاهدوا أحداً من الفاعلين، ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات، وحينئذ يجب أن يصير الجاحد لمثل هذه الحالة كافراً متمرداً، ولما لم يوجد شيء من ذلك عرف فساد هذا القسم أيضاً.
د. الحجة الرابعة: أن هؤلاء الملائكة الذين نزلوا، إما أن يقال: إنهم كانوا أجساماً كثيفة أو لطيفة، فإن كان الأول وجب أن يراهم الكل وأن تكون رؤيتهم كرؤية غيرهم، ومعلوم أن الأمر ما كان كذلك، وإن كانوا أجساماً لطيفة دقيقة مثل الهواء لم يكن فيهم صلابة وقوة، ويمتنع كونهم راكبين على الخيول وكل ذلك مما ترونه.
10. هذه الشبهة ـ إنكار إنزال الملائكة يوم بدر، وأنهم قاتلوا الكفار ـ إنما تليق بمن ينكر القرآن والنبوّة، فأما من يقر بهما فلا يليق به شيء من هذه الكلمات، فما كان يليق بأبي بكر الأصم إنكار هذه الأشياء مع أن نص القرآن ناطق بها وورودها في الأخبار قريب من التواتر، روى عبد الله بن عمر قال لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا، ويقولون: لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر والشبهة المذكورة إذا قابلناها بكمال قدرة الله تعالى زالت وطاحت فإنه تعالى يفعل ما يشاء لكونه قادراً على جميع الممكنات ويحكم ما يريد لكونه منزّهاً عن الحاجات.
11. اختلفوا في كيفية نصرة الملائكة:
أ. قال بعضهم: بالقتال مع المؤمنين.
ب. وقال بعضهم: بل بتقوية نفوسهم وإشعارهم بأن النصرة لهم وبإلقاء الرعب في قلوب الكفار، والظاهر في المدد أنهم يشركون الجيش في القتال إن وقعت الحاجة إليهم، ويجوز أن لا تقع الحاجة إليهم في نفس القتال وأن يكون مجرد حضورهم كافياً في تقوية القلب.
ج. وزعم كثير من المفسرين أنهم قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا في سائر الأيام.
12. ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ معنى الكفاية هو سد الخلة والقيام بالأمر، يقال كفاه أمر كذا إذا سد خلته، ومعنى الإمداد إعطاء الشيء حالًا بعد حال قال المفضل: ما كان على جهة القوة والإعانة قيل فيه أمده يمده، وما كان على جهة الزيادة قيل فيه: مده يمده ومنه قوله: ﴿وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ﴾ [لقمان: 27]، قال الزمخشري: إنما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر الله ومعنى ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ إنكار أن لا يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة وإنما جيء بلن التي هي لتأكيد النفي للإشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عددهم كالآيسين من النصر.
13. ثم قال تعالى: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾، بلى: إيجاب لما بعد (لن) يعني بل يكفيكم الإمداد فأوجب الكفاية، ثم قال: ﴿إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾ يعني والمشركون يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بأكثر من ذلك العدد وهو خمسة آلاف، فجعل مجيء خمسة آلاف من الملائكة مشروطة بثلاثة أشياء، الصبر والتقوى ومجيء الكفار على الفور، فلما لم توجد هذه الشرائط لا جرم لم يوجد المشروط.
14. الفور مصدر من: فارت القدر إذا غلت، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ [هود: 40] قيل إنه أول ارتفاع الماء منه ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة، يقال جاء فلان ورجع من فوره، ومنه قول الأصوليين الأمر للفور أو التراخي، والمعنى حدة مجيء العدو وحرارته وسرعته.
15. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ بكسر الواو أي معلمين علموا أنفسهم بعلامات مخصوصة، وأكثر الأخبار أنهم سوموا خيولهم بعلامات جعلوها عليها، والباقون بفتح الواو، أي سومهم الله أو بمعنى أنهم سوموا أنفسهم، فكان في المراد من التسويم في قوله: ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ قولان:
أ. الأول: السومة العلامة التي يعرف بها الشيء من غيره، ومضى شرح ذلك في قوله: ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ [آل عمران: 14] وهذه العلامة يعلمها الفارس يوم اللقاء ليعرف بها، وفي الخبر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال يوم بدر: (سوموا فإن الملائكة قد سومت)، قال ابن عباس: كانت الملائكة قد سوموا أنفسهم بالعمائم الصفر، وخيولهم وكانوا على خيل بلق، بأن علقوا الصوف الأبيض في نواصيها وأذنابها، وروي أن حمزة بن عبد المطلب كان يعلم بريشة نعامة، وأن علياً كان يعلم بصوفة بيضاء وأو الزبير كان يتعصب بعصابة صفراء وأن أبا دجانة كان يعلم بعصابة حمراء.
ب. الثاني: إنه بمعنى المرسلين مأخوذاً من الإبل السائمة المرسلة في الرعي، تقول أسمت الإبل إذا أرسلتها، ويقال في التكثير سومت كما تقول أكرمت وكرمت.
فمن قرأ ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ بكسر الواو فالمعنى أن الملائكة أرسلت خيلها على الكفار لقتلهم وأسرهم، ومن قرأ بفتح الواو فالمعنى أن الله تعالى أرسلهم على المشركين ليهلكوهم كما تهلك الماشية النبات والحشيش.
16. ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ﴾ الكناية في قوله: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ﴾ عائدة على المصدر، كأنه قال: وما جعل الله المدد والإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تنصرون فدل ﴿يُمْدِدْكُمْ﴾ على الإمداد فكنى عنه، كما قال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام: 121] معناه: وإن أكله لفسق فدل ﴿تَأْكُلُوا﴾ على الأكل فكنى عنه وقال الزجاج ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ﴾ أي ذكر المدد ﴿إِلَّا بُشْرَى﴾ والبشرى اسم من الإبشار ومضى الكلام في معنى التبشير في سورة البقرة في قوله: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: 25]
17. سؤال وإشكال: ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ﴾ فعل، وقوله: ﴿إِلَّا بُشْرَى﴾ اسم وعطف الفعل على الاسم مستنكر، فكان الواجب أن يقال إلا بشرى لكم واطمئناناً، أو يقال إلا ليبشركم ولتطمئن قلوبكم به فلم ترك ذلك وعدل عنه إلى عطف الفعل على الاسم؟ والجواب: من وجهين:
أ. الأول: في ذكر الإمداد مطلوبان، وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر، فأحدهما إدخال السرور في قلوبهم، وهو المراد بقوله: ﴿إِلَّا بُشْرَى﴾.الثاني: حصول الطمأنينة على أن إعانة الله ونصرته معهم فلا يجبنوا عن المحاربة، وهذا هو المقصود الأصلي ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين هذين الأمرين في المطلوبية فكونه بشرى مطلوب ولكن المطلوب الأقوى حصول الطمأنينة، فلهذا أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة، فقال: ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ﴾ ونظيره قوله: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ [النحل: 8] ولما كان المقصود الأصلي هو الركوب أدخل حرف التعليل عليها، فكذا هاهنا.
ب. الثاني: قال بعضهم في الجواب: الواو زائدة والتقدير وما جعله الله إلا بشرى لكم لتطمئن به قلوبكم.
18. ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ الغرض منه أن يكون توكلهم على الله لا على الملائكة وهذا تنبيه على أن إيمان العبد لا يكمل إلا عند الإعراض عن الأسباب والإقبال بالكلية على مسبب الأسباب.
19. ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ العزيز إشارة إلى كمال قدرته، والحكيم إشارة إلى كمال علمه، فلا يخفى عليه حاجات العباد ولا يعجز عن إجابة الدعوات، وكل من كان كذلك لم يتوقع النصر إلا من رحمته ولا الإعانة إلا من فضله وكرمه.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/349.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ﴾ كانت بدر يوم سبعة عشر من رمضان، يوم جمعة لثمانية عشر شهرا من الهجرة، وبدر ماء هنالك وبه سمي الموضع، وقال الشعبي: كان ذلك الماء لرجل من جهينة يسمى بدرا، وبه سمي الموضع، والأول أكثر، وقال الواقدي وغيره: بدر اسم لموضع غير منقول، وسيأتي في قصة بدر في سورة الأنفال إن شاء الله تعالى.
2. ﴿أَذِلَّةً﴾ معناها قليلون، وذلك أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلا، وكان عدوهم ما بين التسعمائة إلى الالف، و﴿أَذِلَّةً﴾ جمع ذليل، واسم الذل في هذا الموضع مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزة، ولكن نسبتهم إلى عدوهم وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض تقتضي عند التأمل ذلتهم وأنهم يغلبون، والنصر العون، فنصرهم الله يوم بدر، وقتل فيه صناديد المشركين، وعلى ذلك اليوم ابتني الإسلام، وكان أول قتال قاتله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم:
أ. وفي صحيح مسلم عن بريدة قال: غزا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سبع عشرة غزوة، قاتل في ثمان منهن، وفيه عن ابن إسحاق قال: لقيت زيد بن أرقم فقلت له: كم غزا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ قال تسع عشرة غزوة، فقلت: فكم غزوه أنت معه؟ فقال: سبع عشرة غزوة، قال فقلت: فما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العسير أو العشير.
ب. هذا كله مخالف لما عليه أهل التواريخ والسير، قال محمد بن سعد في كتاب الطبقات له: إن غزوات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سبع وعشرون غزوة، وسراياه ست وخمسون، وفي رواية ست وأربعون، والتي قاتل فيها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بدر وأحد والمريسيع والخندق وخيبر وقريظة والفتح والطائف، قال ابن سعد: هذا الذي اجتمع لنا عليه، وفي بعض الروايات أنه قاتل في بني النضير وفي وادي القرى منصرفه من خيبر وفي الغابة.
ج. إذا تقرر هذا نقول: زيد وبريدة إنما أخبر كل واحد منهما بما في علمه أو شاهده، وقول زيد: (إن أول غزاة غزاها ذات العسيرة) مخالف أيضا لما قال أهل التواريخ والسير، قال محمد بن سعد: كان قبل غزوة العشيرة ثلاث غزوات، يعني غزاها بنفسه.
د. وقال ابن عبد البر في كتاب الدرر في المغازي والسير، أول غزاة غزاها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم غزوة ودان غزاها بنفسه في صفر، وذلك أنه وصل إلى المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، أقام بها بقية ربيع الأول، وباقي العام كله، إلى صفر من سنة اثنتين من الهجرة، ثم خرج في صفر المذكور واستعمل على المدينة سعد بن عبادة حتى بلغ ودان فوادع بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا، وهي المسماة بغزوة الأبواء، ثم أقام بالمدينة إلى شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة، ثم خرج فيها واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون حتى بلغ بواط من ناحية رضوى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا، ثم أقام بها بقية ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى، ثم خرج غازيا واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وأخذ على طريق ملك إلى العسيرة.
هـ. ذكر ابن إسحاق عن عمار بن ياسر قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع فلما نزلها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أقام بها شهرا فصالح بها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة فوادعهم، فقال لي علي بن أبي طالب: هل لك أبا اليقظان أن تأتي هؤلاء؟ نفر من بني مدلج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون، فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ثم غشينا النوم فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء من الأرض فنمنا فيه، فو الله ما أهبنا إلا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بقدمه، فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء فيومئذ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعلي: (ما بالك يا أبا تراب)، فأخبرناه بما كان من أمرنا فقال: (ألا أخبركم بأشقى الناس رجلين) قلنا: (بلى يا رسول الله، فقال: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذه ـ ووضع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يده على رأسه ـ حتى يبل منها هذه) ووضع يده على لحيته، فقال أبو عمر: فأقام بها بقية جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، ووادع فيها بني مدلج ثم رجع ولم يلق حربا، ثم كانت بعد ذلك غزوة بدر الأولى بأيام قلائل.
و. هذا الذي لا يشك فيه أهل التواريخ والسير، فزيد بن أرقم إنما أخبر عما عنده، والله أعلم، ويقال: ذات العسير بالسين والشين، ويزاد عليها هاء فيقال: العشيرة، ثم غزوة بدر الكبرى وهي أعظم المشاهد فضلا لمن شهدها، وفيها أمد الله بملائكته نبيه والمؤمنين في قول جماعة العلماء، وعليه يدل ظاهر الآية، لا في يوم أحد.
3. من قال: إن ذلك كان يوم أحد جعل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ﴾ إلى قوله: ﴿تَشْكُرُونَ﴾ اعتراضا بين الكلامين، هذا قول عامر الشعبي، وخالفه الناس، تظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت يوم بدر وقاتلت، ومن ذلك:
أ. قول أبي أسيد مالك بن ربيعة وكان شهيد بدر: لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أمتري، رواه عقيل عن الزهري عن أبي حازم سلمة بن دينار، قال ابن أبي حاتم: لا يعرف للزهري عن أبي حازم غير هذا الحديث الواحد، وأبو أسيد يقال إنه آخر من مات من أهل بدر، ذكره أبو عمر في الاستيعاب وغيره.
ب. وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: (اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آت ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من الإسلام لا تعبد في الأرض) فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال] فأمده الله تعالى بالملائكة، قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ يسمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه [كضربة السوط] فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة) فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين، وذكر الحديث، وسيأتي تمامه في آخر ﴿الْأَنْفَالِ﴾ إن شاء الله تعالى، فتظاهرت السنة والقرآن على ما قاله الجمهور، والحمد لله.
ج. وعن خارجة بن إبراهيم عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لجبريل: (من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم)؟ فقال جبريل: (يا محمد ما كل أهل السماء أعرف)
د. وعن علي أنه خطب الناس فقال: بينا أنا أمتح من قليب بدر جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط، ثم ذهبت، ثم جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط إلا التي كانت قبلها، قال: وأظنه ذكر: ثم جاءت ريح شديدة، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألف من الملائكة مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان أبو بكر عن يمينه، وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنا في الميسرة.
هـ. وعن سهل بن حنيف قال: لقد رأيتنا يوم بدر وأن أحدنا يشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه.
و. وعن الربيع بن أنس قال: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به، ذكر جميعه البيهقي.
ز. وقال بعضهم: إن الملائكة كانوا يقاتلون وكانت علامة ضربهم في الكفار ظاهرة، لأن كل موضع أصابت ضربتهم اشتعلت النار في ذلك الموضع، حتى إن أبا جهل قال لابن مسعود: أنت قتلني!؟ إنما قتلني الذي لم يصل سناني إلى سنبك فرسه وإن اجتهدت.
4. إنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة لتسكين قلوب المؤمنين، ولأن الله تعالى جعل أولئك الملائكة مجاهدين إلى يوم القيامة، فكل عسكر صبر واحتسب تأتيهم الملائكة ويقاتلون معهم، وقال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وفيما سوى ذلك يشهدون ولا يقاتلون إنما يكونون عددا أو مددا، وقال بعضهم: إنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة أنهم كانوا يدعون ويسبحون، ويكثرون الذين يقاتلون يومئذ، فعلى هذا لم تقاتل الملائكة يوم بدر وإنما حضروا للدعاء بالتثبيت، والأول أكثر، قال قتادة: كان هذا يوم بدر، أمدهم الله بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف، فذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ وقوله: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ [آل عمران] وقوله: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران] فصبر المؤمنون يوم بدر واتقوا الله فأمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة على ما وعدهم، فهذا كله يوم بدر، وقال الحسن: فهؤلاء الخمسة آلاف ردء للمؤمنين إلى يوم القيامة، قال الشعبي: بلغ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى المسلمين، فأنزل الله تعالى: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ ـ إلى قوله: ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ فبلغ كرزا الهزيمة فلم يمدهم ورجع، فلم يمدهم الله أيضا بالخمسة آلاف، وكانوا قد مدوا بألف، وقيل: إنما وعد الله المؤمنين يوم بدر إن صبروا على طاعته، واتقوا محارمه أن يمدهم أيضا في حروبهم كلها، فلم يصبروا ولم يتقوا محارمه إلا في يوم الأحزاب، فأمدهم حين حاصروا قريظة، وقيل: إنما كان هذا يوم أحد، وعدهم الله المدد إن صبروا، فما صبروا فلم يمدهم بملك واحد، ولو أمدوا لما هزموا، قاله عكرمة والضحاك، فإن قيل: فقد ثبت عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: رأيت عن يمين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعن يساره يوم بدر رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد، قيل له: لعل هذا مختص بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، خصه بملكين يقاتلان عنه، ولا يكون هذا إمدادا للصحابة، والله أعلم.
5. نزول الملائكة سبب من أسباب النصر لا يحتاج إليه الرب تعالى، وإنما يحتاج إليه المخلوق فليعلق القلب بالله وليثق به، فهو الناصر بسبب وبغير سبب، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس]، لكن أخبر بذلك ليمتثل الخلق ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل، ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب]، ولا يقدح ذلك في التوكل، وهو رد على من قال: إن الأسباب إنما سنت في حق الضعفاء لا للأقوياء، فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه كانوا الأقوياء وغيرهم هم الضعفاء، وهذا واضح.
6. ﴿مَدَّ﴾ في الشر وأمد في الخير، وقد تقدم في البقرة، وقرأ أبو حياة ﴿مُنْزِلِينَ﴾ بكسر الزاي مخففا، يعني منزلين النصر، وقرأ ابن عامر مشددة الزاي مفتوحة على التكثير، ثم قال: ﴿بَلَى﴾ وتم الكلام،﴿إِنْ تَصْبِرُوا﴾ شرط، أي على لقاء العدو، ﴿وَتَتَّقُوا﴾ عطف عليه، أي معصيته، والجواب ﴿يُمِدَّكُمْ﴾، ومعنى ﴿مِنْ فَوْرِهِمْ﴾ من وجههم، هذا عن عكرمة وقتادة والحسن والربيع والسدي وأبي زيد، وقيل: من غضبهم، عن مجاهد والضحاك، كانوا قد غضبوا يوم أحد ليوم بدر مما لقوا، وأصل الفور القصد إلى الشيء والأخذ فيه بجد، وهو من قولهم: فارت القدر تفور فورا وفورانا إذا غلت، والفور الغليان، وفار غضبه إذا جاش، وفعله من فوره أي قبل أن يسكن، والفوراة ما يفور من القدر، وفي التنزيل ﴿وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ [هود]، قال الشاعر: (تفور علينا قدرهم فنديمها)
7. ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ بفتح الواو اسم مفعول، وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي ونافع، أي معلمين بعلامات، و﴿مُسَوِّمِينَ﴾ بكسر الواو اسم فاعل، وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير وعاصم، فيحتمل من المعنى ما تقدم، أي قد أعلموا أنفسهم بعلامة، وأعلموا خيلهم، ورجح الطبري وغيره هذه القراءة، وقال كثير من المفسرين: مسومين أي مرسلين خيلهم، في الغارة، وذكر المهدوي هذا المعنى في ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ بفتح الواو، أي أرسلهم الله تعالى على الكفار، وقاله ابن فورك أيضا.
8. على القراءة الأولى اختلفوا في سيما الملائكة، فروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما أن الملائكة اعتمت بعمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم، ذكره البيهقي عن ابن عباس وحكاه المهدوي عن الزجاج، إلا جبريل فإنه كان بعمامة صفراء على مثال الزبير بن العوام، وقال ابن إسحاق، وقال الربيع: كانت سيماهم أنهم كانوا على خيل بلق، قلت: ذكر البيهقي عن سهيل بن عمرو قال: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يقتلون ويأسرون، فقوله: معلمين دل على أن الخيل البلق ليست السيما، والله أعلم، وقال مجاهد: كانت خيلهم مجزوزة الأذناب والأعراف معلمة النواصي والأذناب بالصوف والعهن، وروي عن ابن عباس: تسومت الملائكة يوم بدر بالصوف الأبيض في نواصي الخيل وأذنابها، وقال عباد بن عبد الله بن الزبير وهشام بن عروة والكلبي: نزلت الملائكة في سيما الزبير عليهم عمائم صفر مرخاة على أكتافهم، وقال ذلك عبد الله وعروة ابنا الزبير، وقال عبد الله: كانت ملاءة صفراء اعتم بها الزبير.
9. دلت الآية على اتخاذ الشارة والعلامة للقبائل والكتائب يجعلها السلطان لهم، لتتميز كل قبيلة وكتيبة من غيرها عند الحرب، وعلى فضل الخيل البلق لنزول الملائكة عليها، ولعلها نزلت عليها موافقة لفرس المقداد، فإنه كان أبلق ولم يكن لهم فرس غيره، فنزلت الملائكة على الخيل البلق إكراما للمقداد، كما نزل جبريل معتجرا بعمامة صفراء على مثال الزبير، والله أعلم.
10. دلت الآية أيضا على لباس الصوف وقد لبسه الأنبياء والصالحون، وروى أبو داوود وابن ماجه واللفظ له عن أبي بردة عن أبيه قال قال لي أبي: لو شهدتنا ونحن مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا أصابتنا السماء لحسبت أن ريحنا ريح الضأن، ولبس صلّى الله عليه وآله وسلّم جبة رومية من صوف ضيقة الكمين، رواه الأئمة، ولبسها يونس صلّى الله عليه وآله وسلّم، رواه مسلم.
11. ما ذكره مجاهد من أن خيلهم كانت مجزوزة الأذناب والأعراف فبعد، فإن في مصنف أبي داوود عن عتبة بن عبد السلمي أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: لا تقصوا نواصي الخيل ولا معارفها ولا أذنابها فإن أذنابها مذابها ومعارفها دفاؤها ونواصيها معقود فيها الخير، فيقول مجاهد يحتاج إلى توقيف من أن خيل الملائكة كانت على تلك الصفة، والله أعلم.
12. دلت الآية على حسن الأبيض والأصفر من الألوان لنزول الملائكة بذلك، وقد قال ابن عباس: من لبس نعلا أصفر قضيت حاجته، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: البسوا من ثيابكم البياض فإنه من خير ثيابكم وكفنوا فيه موتاكم وأما العمائم فتيجان العرب ولباسها، وروى ركانة ـ وكان صارع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فصرعه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ركانة: وسمعت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس) أخرجه أبو داوود قال البخاري: إسناده مجهول لا يعرف سماع بعضه من بعض.
13. ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ﴾ الهاء للمدد، وهو الملائكة أو الوعد أو الإمداد، ويدل عليه ﴿يُمْدِدْكُمْ﴾ أو للتسويم أو للإنزال أو العدد على المعنى، لأن خمسة آلاف عدد.
14. ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ اللام لام كي، أي ولتطمئن قلوبكم به جعله، كقوله: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا﴾ [فصلت] أي وحفظا لها جعل ذلك، ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ يعني نصر المؤمنين، ولا يدخل في ذلك نصر الكافرين، لأن ما وقع لهم من غلبة إنما هو إملاء محفوف بخذلان وسوء عاقبة وخسران.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/191.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ﴾ جملة مستأنفة، سيقت لتصبيرهم، بتذكير ما يترتب على الصبر من النصر، وبدر: اسم لماء كان في موضع الوقعة؛ وقيل: هو اسم الموضع نفسه، وسيأتي سياق قصة بدر في الأنفال إن شاء الله، وأذلة: جمع قلة، ومعناه: أنهم كانوا بسبب قلتهم أذلة، وهو: جمع ذليل، استعير للقلة، إذ لم يكونوا في أنفسهم أذلة، بل كانوا أعزة، والنصر: العون، وقد شرح أهل التواريخ والسير غزوة بدر وأحد بأتم شرح فلا حاجة لنا في سياق ذلك هاهنا.
2. ﴿إِذْ تَقُولُ﴾ متعلق بقوله: ﴿نَصَرَكُمُ﴾ والهمزة في قوله: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ للإنكار منه صلّى الله عليه وآله وسلّم عليهم عدم اكتفائهم بذلك المدد من الملائكة، ومعنى الكفاية: سدّ الخلة والقيام بالأمر؛ والإمداد في الأصل: إعطاء الشيء حالا بعد حال، والمجيء بلن: لتأكيد النفي، وأصل الفور: القصد إلى الشيء والأخذ فيه بجدّ، وهو من قولهم: فارت القدر، تفور فورا وفورانا، إذا غلت، والفور: الغليان، وفار غضبه: إذا جاش، وفعله من فوره: أي قبل أن يسكن، والفوّارة ما يفور من القدر، استعير للسرعة، أي: إن يأتوكم من ساعتهم هذه يمددكم ربكم بالملائكة في حال إتيانهم، لا يتأخر عن ذلك.
3. ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ بفتح الواو اسم مفعول، وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي ونافع، أي: معلمين بعلامات، وقرأ أبو عمرو، وابن كثير، وعاصم: ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ بكسر الواو اسم فاعل، أي: معلمين أنفسهم بعلامة، ورجح ابن جرير هذه القراءة، والتسويم: إظهار سيما الشيء، قال كثير من المفسرين: ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ أي: مرسلين خيلهم في الغارة؛ وقيل: إن الملائكة اعتمت بعمائم بيض؛ وقيل: حمر، وقيل: خضر؛ وقيل: صفر، فهذه العلامة التي علموا بها أنفسهم، حكي ذلك عن الزجاج؛ وقيل: كانوا على خيل بلق؛ وقيل: غير ذلك.
4. ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ﴾ كلام مبتدأ غير داخل في مقول القول، والضمير في قوله: ﴿جَعَلَهُ﴾ للإمداد المدلول عليه بالفعل، أو للتسويم، أو للإنزال، ورجح الأوّل الزجاج، وصاحب الكشاف.
5. ﴿إِلَّا بُشْرَى﴾ استثناء مفرّغ من أعم العام، والبشرى: اسم من البشارة، أي: إلا لتبشروا بأنكم تنصرون، ولتطمئن قلوبكم به، أي: بالإمداد، واللام لام كي، جعل الله ذلك الإمداد بشرى بالنصر وطمأنينة للقلوب، وفي قصر الإمداد عليهما إشارة إلى عدم مباشرة الملائكة للقتال يومئذ ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ لا من عند غيره، فلا تنفع كثرة المقاتلة ووجود العدة.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/434.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ لما ذكر تعالى قصة أحد أتبعها بذكر قصة بدر، وذلك لأن المسلمين يوم بدر كانوا في غاية الضعف عددا وعددا، والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة، ثم إنه تعالى نصر المسلمين على الكافرين، فصار ذلك من أقوى الدلائل على أن ثمرة التوكل عليه تعالى والصبر والتقوى هو النصر والمعونة والتأييد، و(بدر) موضع بين الحرمين، إلى المدينة أقرب، يقال هو منها على ثمانية وعشرين فرسخا، أو اسم بئر هناك حفرها رجل اسمه بدر.
2. ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي راجين أن تشكروا ما أنعم به عليكم بتقواكم من نصرته، وقد أشير في مواضع من التنزيل إلى غزوة بدر، وكانت في شهر رمضان، السنة الثانية من الهجرة(2).
3. ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ﴾ لتقويتكم ونصركم ودفع أعدائكم ﴿بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ من سمائه لقتال أعدائه.
4. ﴿بَلَى﴾ إما من تتمة مقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم للمؤمنين أو ابتداء خطاب من الله تعالى تأييدا لقول نبيه وزيادة على ما وعدهم تكرما وفضلا، أي: نعم يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف ولكنه يزيدكم ﴿إِنْ تَصْبِرُوا﴾ على قتالهم ﴿وَتَتَّقُوا﴾ الفرار عنهم ﴿وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾ أي ساعتهم هذه فلا تنزعجوا بمفاجأتهم ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ﴾ في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ بكسر الواو أي معلمين أنفسهم بأداة الحرب على عادة الفرسان يوم اللقاء ليعرفوا بها، وقرئ بفتح الواو أو معلّمين من قبله تعالى، روى البخاريّ عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال يوم بدر: هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب.
5. في وعده صلّى الله عليه وآله وسلّم للمؤمنين بالإمداد بقوله: ﴿إِذْ تَقُولُ﴾ وجهان:
أ. الأول: أنه كان في يوم بدر، فإن سياق ما قبله يدل عليه وهو قوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ﴾ فـ (إذ) ظرف ل (نصركم)، أي نصركم وقت قولك للمؤمنين وقد أظهروا العجز واستغاثوا ربهم، سؤال وإشكال: ما الجمع بين هذه الآية، على هذا الوجه، وبين قوله في سورة الأنفال في قصة بدر: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: 9]؟ والجواب: أن التنصيص على الألف هاهنا لا ينافي الثلاثة آلاف فما فوقها، لقوله (مردفين) بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم، وذلك أنهم لما استغاثوا أمدهم بألف ثم أمدهم بتمام ثلاثة آلاف، ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف لما صبروا واتقوا، وكان هذا التدريج ومتابعة الإمداد أحسن موقعا وأقوى لتقويتهم، وأسرها من أن يأتي مرة واحدة، وهو بمنزلة متابعة الوحي، ونزوله مرة بعد مرة، قال الربيع بن أنس: أمد الله المسلمين بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف، ومما يؤيد هذا الوجه أن سياق بدر في الأنفال من قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ﴾ [الأنفال: 7]، الآيات شبيهة بهذا السياق هنا، كما يذوقه من تدبره.
ب. الثاني: أن هذا الوعد كان يوم أحد، فإن القصة في سياق أحد، وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضا في أثنائها؛ ليذكرهم بنعمته عليهم، لما نصرهم ببدر وهم أذلة، وإنه كذلك هو قادر على نصرهم في سائر المواطن، ثم عاد إلى قصة أحد، وأخبر عن قول رسوله لهم: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ﴾ الآية، ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف، فهذا من قول رسوله، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى، وهذا بخمسة آلاف، وإمداد بدر بألف، وهذا معلق على شرط، وذاك مطلق، والقصة في هذه السورة هي قصة أحد مستوفاة مطولة، وبدر ذكرت فيها اعتراضا، والقصة في الأنفال قصة بدر مستوفاة مطولة، فالسياق هنا غير السياق في الأنفال ـ أشار لذلك ابن القيّم في (زاد المعاد)
6. انتصر للوجه الأول العلامة أبو السعود، وبين ضعف الثاني بأوجه وجيهة، ونقل الخازن عن ابن جرير أنه قال: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر عن نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال للمؤمنين: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ﴾؟ فوعدهم الله بثلاثة آلاف من الملائكة مددا لهم، ثم وعدهم بعد الثلاثة الآلاف، خمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا الله، ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة آلاف ولا بالخمسة آلاف، ولا على أنهم لم يمدّوا بهم، وقد يجوز أن يكون الله عز وجل أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدهم، وقد يجوز أن يكون لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك، ولا خبر عندنا صحّ من الوجه الذي يثبت أنهم أمدّوا بالثلاثة الآلاف، ولا بالخمسة الآلاف، وغير جائز، أن يقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم به الحجة، ولا خبر به كذلك، فنسلم لأحد الفريقين قوله، غير أن في القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة وذلك قوله: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: 9]، فأما في يوم أحد فالدلالة على أنهم لم يمدّوا أبين منها في أنهم أمدوا، وذلك أنهم لو أمدوا، لم يهزموا، وينال منهم ما نيل منهم، فالصواب فيه من القول أن يقال كما قال تعالى ذكره، سؤال وإشكال: فما تصنع بحديث سعد بن أبي وقاص المرويّ في الصحيحين أنه قال رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض، كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل؟ والجواب: إنما كان ذلك للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة، لأنه صبر ولم يهزم كما انهزم أصحابه يوم أحد.
7. الإمداد، لغة الإعانة، والمراد هنا إعانة الجيش، وهل إعانة الملائكة للجيش بالقتال معهم للحديث السابق، ولحديث عائشة في الصحيحين قالت: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الخندق ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل فقال: قد وضعت السلاح؟ والله ما وضعناه، اخرج إليهم! قال فإلى أين؟ قال هاهنا ـ وأشار إلى بني قريظة، فخرج النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إليهم ـ أو هي بتكثير سواد المسلمين وتثبيت قلوبهم، كما قال تعالى في الأنفال: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ [الأنفال: 12]، أو بهما معا وهو الظاهر، وقد سئل السبكيّ عن الحكمة في قتال الملائكة، مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه، فأجاب بأن ذلك لإرادة أن يكون الفضل للنبيّ وأصحابه، وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش، رعاية لصورة الأسباب التي أجراها الله تعالى في عباده، والله فاعل الجميع.
8. ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ﴾ أي ما جعل الإمداد بالملائكة إلا لتستبشروا به فتزداد قوة قلوبكم وشجاعتكم ونجدتكم ونشاطكم ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ﴾ أي تسكن ﴿قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ أي فلا تجزع من كثرة عدوكم وقلة عددكم ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ وحده لا من الملائكة ولا من غيرهم، فالأسباب الظاهرة بمعزل من التأثير، وفيه توثيق للمؤمنين، وعدم إقناط من النصر عند فقدان أسبابه وأماراته ﴿الْعَزِيزِ﴾ أي الذي لا يغالب في حكمه ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه حكمته الباهرة.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/403.
(2) ذكر هنا ما جرى في غزوة بدر، والتي سبق ذكرها.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ﴾ لتوكُّلكم، ﴿بِبَدْرٍ﴾ في بدر، موضع وماء بين مكَّة والمدينة، سمِّي لبئرٍ فيه تسمَّى بدرا، لصفاء مائها ورؤية البدر فيه، أو لاستدارتها كالبدر، أو لكونها لرجل من جهينة يسمَّى بدرا، وقيل: اسم لموضع، وقيل: اسم للوادي، ﴿وَأَنتُمُ أَذِلَّةٌ﴾ لم يقل: ذلائل لمناسبة جمع القلَّة قلَّتهم، وقلَّة المركب والسلاح، وكانوا يتعاقبون على نواضحهم سبعين بعيرا، معهم ثلاثة أدرع وثمانية سيوف، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من الأنصار إِلَّا ستَّة وسبعين من المهاجرين، فيهم فرس واحد للمقداد بن عمرو، وهو المقداد بن الأسود، وهو أوَّل من قاتل من المسلمين على فرس، وقيل: فَرَسان، والمشركون ألف معهم مائة فرس، وبسطت بدرا في (شرح النونيَّة)، والذلُّ بحسب ما ذُكر بمعنى القلَّة لا بمعنى ذلِّ القلب أو اللِّسان أو البدن، أو المراد أَذِلَّة في ظنِّ الأعداء لِمَا يَرَوْنَ من قلَّتهم وقلَّة ما لهم، وأمَّا بالحجَّة وحسن العاقبة فهم الأعزَّة، لقوله تعالى: ﴿وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُومِنِينَ﴾ [سورة المنافقون: 8]، والآية إغراء بالتوكُّل وتذكير للنعمة ولقدرة الله.
2. ﴿فَاتَّقُواْ اللهَ﴾ في الثبات، ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ بالتقوى نِعَمَهُ من النصر وغيره، أو لعلَّكم ينعم الله عليكم، فسمَّى الإنعام شكرا لأنَّ الإنعام سببه وملزومه.
3. ﴿إِذْ تَقُولُ﴾ متعلِّقة بـ (نَصَرَ)، فالكلام في وقعة بدر، وهو الراجح، أو بدل ثان إن جعلت (إذ) قبلها بدلاً، أو بدلٌ من (إِذْ) قبلها، أو منصوبة بـ (اُذكر)، والجمهور أنَّ هذا تمام قصَّة بدر، وقيل: من تمام قصَّة أُحد فصل بينهما بقوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُم﴾، وأفرد الخطاب بالنبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنَّ وقوع النصر ببشارته، والمراد بهذا الوقت الوقت الممتدُّ الذي وقع فيه ما ذكر بعده، وصيغة المضارع لاستحضار الحال الماضية كأنَّها مشاهدة، وإلَّا فمقتضى الظاهر: (إذ قلتَ)، ﴿لِلْمُومِنِينَ﴾ حين أظهروا العجز عن القتال، لكون كرز بن جابر يريد أن يمدَّ المشركين، وذلك في بدر، وَلَمَّا بلغته الهزيمة لم يمدَّهم.
4. ﴿أَلَنْ يَّكْفِيَكُمُ أَنْ يُّمِدَّكُمْ﴾ يعينكم، ويقال في الزيادة: مدَّه مدًّا، وقيل: أمدَّه في الخير ومدَّه في الشرِّ، والإمداد والمدُّ: إعطاء الشيء حالا بعد حال، ولو فُسِّر بالزيادة مطلقًا ـ رباعيًّا أو ثلاثيًّا ـ في الخير أو الشرِّ لجاز.
5. ﴿رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ ءَالَافٍ مِّنَ الْمَلَآئِكَةِ مُنزَلِينَ﴾ من السماء الثالثة، الاستفهام توبيخ أو تقرير، وكان النفي بـ (لَنْ) لأنَّها أبلغ، وهي للتأبيد، أظهرَ ما فيهم من شِبه الإيَّاس من النصر، أي أظهر الله ما فيهم إلخ، سبب نفيه بـ (لَنْ)، كما تدلُّ على هذا المعنى عبارة (روح البيان) ونصُّها: (وكلمة (لَنْ) للإشعار بأنَّهم كانوا حينئذ كالآيسين من النصر لضعفهم)]، وقلَّتهم بالنسبة لعدوِّهم، وفي وصفهم بالإنزال تعظيم، ﴿بَلَى﴾ إثبات للكفاية المنفيَّة بـ (لَنْ)، وفي الأنفال: ﴿أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ﴾ [سورة الأنفال: 9]، وذلك في بدر أمدَّهم بألف أوَّلاً وزادهم ألفين لضعف قلوبهم بمدد أهل الشرك، فذلك ثلاثة آلاف، وقلَّة العدد وضعف القلب إِنَّمَا هما في بدر، مع أنَّها أوَّل حرب، فاحتاجت للتقوية بالملائكة، وزادهم خمسة آلاف كما قال الله تعالى: ﴿إِن تَصْبِرُواْ﴾ في لقاء العدوِّ الكثير، ﴿وَتَتَّقُواْ﴾ ربَّكم بترك المخالفة، ﴿وَيَاتُوكُم﴾ أي: المشركون، أو أصحاب كرز الذي أراد أن يمدَّهم.
6. ﴿مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا﴾ أي: ساعتهم هذه، تسمية للمحلِّ ـ وهو الزمان هنا ـ باسم الحالِّ، وهو السرعة هنا، وأصله: أوَّل الشيء، أو شبَّه السرعة بفوْر القدر أو الماء ثمَّ أطلق على الزمان اليسير، و(مِنْ) بمعنى في، أو للابتداء، أو المراد: بسبب غضبهم هذا عليهم.
7. ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَافٍ مِّنَ الْمَلَآئِكَةِ مُسَوَّمِينَ﴾ فذلك ثمانية آلاف، أو أُمِدُّوا يوم بدر بألف وزادهم ألفين فذلك ثلاثة آلاف ثمَّ ألفين فذلك خمسة آلاف، أو أمدُّوا بألف وثلاثة وخمسة فذلك تسعة آلاف، أو أمِدُّوا بألف فقط كما في الأنفال، وبلغهم أنَّ المشركين أمِدُّوا فخافوا فوعد الله لهم إن جاء المشركين مدد أمِدُّكم بثلاثة آلاف من الملائكة أو خمسة ولم يجئ المشركين مدد لانصراف مددهم لَمَّا سمعوا بهزيمتهم فقصرهم على الألف، والراجح أنَّ الإمداد بألفٍ في أُحد، وقيل: لم يُمَدوا في أُحد لأنَّه شرَط للإمداد الصبرَ والتقوى وإتيانَ أصحاب كرز ولم يأتوا، وعن مجاهد: حضرت الملائكة يوم أحد ولم يقاتلوا، أعطى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مصعب بن عمير اللواء فقُتل فأخذه ملك في صورته، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (تقدَّم يا مصعب)، فقال الملك: (لست بمصعب!)، فعرف صلّى الله عليه وآله وسلّم أنَّه ملك، وقال ابن أبي وقَّاص: (كنت أرمي السهم فيرده عليَّ رجل أبيض حسن الوجه وما كنت أعرفه، فظننت أنَّه ملك)، ولكن في مسلم: أنَّ ميكائيل وجبريل قاتَلا في أُحد أشدَّ القتال، فيقال: لكن وحدهما لا غيرهما من الملائكة، وقيل: الإمداد في هذه السورة في قصَّة أُحد لكن اعترض في الكلام بذكر بدر، وقصرت أَلْف الأنفال على أُحد وشرط للزيادة الصبر والثبات ولم يكونا فلم تكن، وذلك للقتال، ولا يُنافي حضورهم بلا قتال، واتَّفقوا أنَّهم قاتلوا يوم بدر، وذلك تأنيس وإذن في وجه من القتال مخصوص، وإلَّا فالملك الواحد يقتلهم كلَّهم بمرَّة، أو يقلع الأرض من أسفلها، والله قادر أن يقتلهم في أقلّ من لحظة بلا قاتل، ولكنَّه يجري الأمر على ما يشاء وبصورة الأسباب، وكانوا يقولون للمؤمنين: عدوُّكم قليل والله معكم، ويَظهَرون للناس، وربَّما عرفهم المسلمون، وهذه حكمته كما قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى﴾
8. التسويم: التعليم بعلامة في أبدانهم أو خيولهم، جَعلوا لذلك علامات، وكانت سيما الملائكة في بدر عمائم بيضا أرسلوا أطرافها على ظهورهم من بين أكتافهم، والصوف في نواصي الخيل وأذنابها، إِلَّا جبريل فعمامته صفراء كعمامة الزبير، وعن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير: كانت على الزبير عمامة صفراء فكانت عمائم الملائكة صفرا وخيلهم بلقٌ كفرس المقداد، وذلك إكرام للزبير والمقداد، ويوم حنين بعمائم حُمر، ويروى: يوم بدر بعمائم سود ويوم أحد بعمائم حمر، ويروى: جزت أذناب خيولهم يوم بدر في نواصيها الصوف، أو التسويم: الإرسال، ولا يفعلون إِلَّا ما أرسلوا إليه، من تسويم الدابَّة بمعنى إرسالها للرعي وحدها، بمعنى أنَّه لا يؤتى لها بعلف.
9. ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ﴾ أي: الإمداد بالملائكة الذي أمدَّكم به ببدر، أو الوعد بالإمداد، أو التسويم، أو تنزيل الملائكة، أو النصر، والصحيح الأوَّل، أو الموعود به في أحد المتوقِّف إنجازه على الصبر والثبات، ولا إشكال في التبشير على وعد وشرط، ﴿إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ﴾ ما أثبته الله قصدا لشيء إِلَّا بشرى، أي: [لا] لأجلِ شيء إِلَّا للبشرى، أو ما صيَّره إِلَّا بشرى، وهو اسم مصدر بمعنى التبشير، وهو الإخبار بخير يظهر به أثر الفرح في البَشَرَة، أي: جلدة الوجه، وإذا استعملت في الشرِّ فتهكُّمٌ، أو مشاكلة، وقيل: حقيقة لظهور أثر البؤس على البَشَرة أيضًا، والصحيح أنَّه مجاز في الشرِّ لأنَّه لا يُستعمل فيه إِلَّا لقرينة.
10. ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ﴾ تسكن عن الخوف، ﴿قُلُوبُكُم بِهِ﴾ عطف على المعنى، أي: للبشرى وللتَّطْمِين، وفاعل الاِطمئنان غير فاعل الجعل والتبشير فجُرَّ باللام، أو يقدَّر: وفعلتُ ذلك لتطمئنَّ به قلوبكم، والنفوس جُبِلت على مراعاة الأسباب، روى ابن إسحاق أَنَّ سعد بن مالك كان يرمي في غزوة أحد وفتى شابٌّ كان ينبل له، كلَّما فني النبل أتاه به، وقال: (ارم يا أبا إسحاق! ارم يا أبا إسحاق!)، فلمَّا انجلت المعركة سأل عنه فلم يعرف.
11. ﴿وَمَا النَّصْرُ﴾ المعهود الواقع بإمداد الملائكة، ﴿إِلَّا مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ لا تتوهَّموا أنَّه بكثرة الملائكة يوم بدر ولا بكثرة العدد والعُدَّة في موضع ما، ومن حكمته أن يذِلَّ الكثير ويعزَّ القليل إذا شاء ولو بلا واسطة.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/367.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ﴾ وهو ماء أو بئر بين مكة والمدينة كان لرجل اسمه بدر فسمي باسمه، ثم أطلق اللفظ على المكان الذي هو فيه، وقد كانت فيه أول غزوة قاتل فيها النبي المشركين في 17 رمضان من السنة الثالثة للهجرة فنصره الله عليهم نصرا مؤزرا.
﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ أي نصركم في حالة ذلة كنتم فيها على قلتكم ـ كما يفيده لفظ أذلة، إذ هو جمع قلة ـ وقد كانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلا، والمراد بكونهم أذلة أنهم لا منعة لهم إذ كانوا قليلي العدة من السلاح والظهر (أي ما يركب) والزاد، ولا غضاضة في الذل إلا إذا كان عن قهر من البغاة والظالمين ولم يكن المؤمنون بمقهورين ولا مستذلين من الكافرين، وإنما كانت قوتهم في أوائل تكونها ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ فإن التقوى هي التي تعدكم للقيام في مقام الشكر على النعم التي يسديكم إياها، فمن لم يرض نفسه بالتقوى غلب عليه اتباع الهوى فلا يرجى له أن يكون شاكرا بصرف النعمة إلى ما وهبت لأجله من الحكم والمنافع.
2. ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ قيل: إن هذا متعلق بقوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ﴾ وقيل إنه خاص بوقعة أُحد التي ورد فيها هذا السياق كقوله: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ متعلق بتبوئ أو بسميع أو بدل من إذ الأولى، والتقدير تبوئهم مقاعد للقتال في الوقت الذي همّ فيه بعضهم بالفشل مع أن الله نصركم ببدر على قلة وذلة ـ وفي الوقت الذي كنت تقول فيه للمؤمنين، ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ وهذا هو المختار، والتقدير على الأول: إن الله نصركم ببدر في ذلك الوقت الذي كنت تقول فيه لهم: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ الخ أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ الخ فبلغت كرزا الهزيمة فلم يمد المشركين، ورواه ابن جرير عن الشعبي وعن غيره وذكر الخلاف في حصول هذا الإمداد بالفعل، وأن بعضهم يقول إنه لم يحصل، وبعضهم قال إنه حصل يوم بدر، ونقل عن بعضهم أن الوعد بالإمداد وإن لم يحصل ببدر عام في كل الحروب، وأنهم أمدوا في حرب قريظة والنضير والأحزاب ولم يمدوا يوم أُحد لأنهم لم يصبروا ولم يتقوا، وروي عن الضحاك أن هذا كان موعدا من الله يوم أًُحد عرضه على نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أن المؤمنين إن اتقوا وصبروا أمدهم بخمسة آلاف، وروي نحوه عن ابن زيد قال) قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم ينظرون المشركين أليس الله يمدنا كما أمدنا يوم بدر؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين وإنما أمدكم يوم بدر بألف، قال: فجاءت الزيادة ﴿بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائمة مسومين﴾
3. الفور في الأصل فوران القدر ونحوها ثم استعير الفور للسرعة ثم سميت به الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج من صاحبها على شيء؛ فمعنى يأتوكم من فورهم من ساعتهم هذه بدون إبطاء، مسومين من التسويم قرأها ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بكسر الواو المشدّدة والباقون بفتحها، وقد ورد سوّمه الأمر بمعنى كلفه إياه وسوّم فلانا خلاه وسوّمه في ماله حكمه وصرفه، وسوّم الخيل أرسلها، وكل هذه المعاني ظاهرة على قراءة فتح الواو من ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ فيصح أن يكون المعنى أن هؤلاء الملائكة يكونون مكلفين من الله بتثبيت قلوب المؤمنين، أو محكمين ومصرفين فيما يفعلونه في النفوس من إلهام النصر بتثبيت القلوب والربط عليها، أو مرسلين من عنده تعالى، أما قراءة كسر الواو (مسوِّمين) فهي من قولهم سوّم على القوم إذا أغار عليهم ففتك بهم ولو بالإعانة المعنوية على ذلك، وقال بعض المفسرين إنه من التسويم بمعنى إظهار سيما الشيء أي علامته أي معلمين أنفسهم أو خيلهم، وهو كما ترى لولا الرواية لم يخطر على بال أحد منهم ويمكن أن يُقال مسومين للمؤمنين بما يظهر عليهم من سيما تثبيتهم إياهم.
4. قال ابن جرير بعد ذكر الخلاف في هذا الإمداد ما نصه: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر عن نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة، ثم وعدهم بعد بثلاثة الآلاف خمسة ألاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا، ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بثلاثة الآلاف ولا بخمسة الآلاف، ولا على أنهم لم يمدوا بهم، وقد يجوز أن يكون الله أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أن الله أمدهم، وقد يجوز أن يكون الله لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك، ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف ولا بالخمسة الآلاف، وغير جائز أن يُقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم الحجة به، ولا خبر به فنسلم لأحد الفريقين قوله، غير أن في القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة وذلك قوله: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: 9] أما في أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها في أنهم لو أمدوا وذلك أنهم لو أمدوا لهم يهزموا وينل منهم ما نيل منهم)
5. أما معنى هذا الإمداد بالملائكة فهو من قبيل إمداد العسكر بما يزيد عددهم أو عدتهم وقوتهم ولو النفسية وهذا هو الظاهر، وهاك بيانه: الإمداد من المد، والمد في الأصل عبارة عن بسط الشيء كمد اليد والحبل أو عن الزيادة في مادته كمد النهر بنهر أو سيل آخر، قال تعالى: ﴿أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات﴾ [المؤمنون: 55 ـ 56]؟ فالإمداد يكون بالمال وهو ما يتمول وينتفع به ويكون بالأشخاص، والإمداد بالملائكة يصح أن يكون من قبيل الإمداد بالمال الذي يزيد في قوة القوم وأن يكون من الإمداد بالأشخاص الذين ينتفع بهم ولو نفعا معنويا وذلك أن الملائكة أرواح تلابس النفوس فتمدها بالإلهامات الصالحة التي تثبتها وتقوي عزيمتها، ولذلك قال عز وجل: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾
6. ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ قال ابن جرير: يعني تعالى ذكره وما جعل الله وعده إياكم ما وعدكم به من إمداده إياكم بالملائكة الذين ذكر عددهم إلا بشرى لكم يبشركم بها ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ يقول وكي تطمئن بوعده الذي وعدكم من ذلك قلوبكم فتسكن إليه ولا تجزع من كثرة عدد عدوكم وقلة عددكم ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ يعني وما ظفركم إن ظفرتم بعدوكم إلا بعون الله لا من قبل المدد الذي يأتيكم من الملائكة.
7. الظاهر أن يكون التقدير وما جعل الله ذلك القول الذي قاله لكم الرسول وهو: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ الخ إلا بشرى يفرح بها روعكم وتنبسط به أسارير وجوهكم وطمأنينة لقلوبكم التي طرقها الخوف من كثرة عدوكم واستعدادهم، أي إن قول الرسول له هذا التأثير في تقوية القلوب وتثبيت النفوس، وإنما أرجعنا ضمير (جعله) إلى قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لا إلى وعد الله عز وجل لأن الآيتين السابقتين ليستا وعدا من الله بالإمداد بالملائكة وإنما هما إخبار عما قاله الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد أخبر تعالى في تينك الآيتين أن رسوله قال لأصحابه ذلك القول وبيّن في هذه الآية فائدة ذلك القول ومنفعته مع بيان الحقيقة، وهي أن النصر بيد الله العزيز أي القوى الذي لا يمتنع عليه شيء، الحكيم الذي يدبر الأمر على خير سنن، ويقيمه بأحسن سنن؛ فيهدي لأسباب النصر الظاهرة والباطنة من يشاء؛ ويصرف عنهما من يشاء، فإن حصل الإمداد بالملائكة فعلا فما يكون إلا جزءا من أجزاء سبب النصر أو فردا من أفراده، ومنه إلقاء الرعب والخوف في قلوب الأعداء، ومنه سائر الأسباب المعروفة من الصبر والثبات وحسن التدبير ومعرفة المواقع وغير ذلك، فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سلك إلى أحد أقرب الطرق وأخفاها عن العدو وعسكر في أحسن موضع وهو الشعب (الوادي) وجعل ظهر عسكره إلى الجبل وجعل الرماة من ورائهم، فلما اختل بعض هذه التدبيرات لم ينتصروا.
8. ذكر بعض أهل السير أن الملائكة قاتلت يوم أحد وهو ما نفاه ابن جرير، وقد ذكرنا عبارته، بل روي عن ابن عباس أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر، وفيما عداه كانوا عددا ومددا لا يقاتلون، وأنكر أبو بكر الأصم قتال الملائكة وقال: (إن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط، فإذا حضر هو يوم بدر فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار، وبتقدير حضوره أي فائدة في إرسال سائر الملائكة؟ وأيضا فإن أكابر الكفار كانوا مشهورين وقاتِلُ كل منهم من الصحابة معلوم، وأيضا لو قاتلوا فإما أن يكونوا بحيث يراهم الناس أو لا، وعلى الأول يكون المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف وأكثر ولم يقل أحد بذلك، وأنه خلاف قوله: ﴿وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ [الأنفال: 44] ولو كانوا في غير صورة الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق ولم ينقل ذلك ألبتة؛ وعلى الثاني كان يلزم جز الرؤوس وتمزق البطون وإسقاط الكفار من غير مشاهدة فاعل، ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات فكان يجب أن يتواتر ويشتهر بين الكافر والمسلم والموافق والمخالف، وأيضا إنهم لو كانوا أجساما كثيفة وجب أن يراهم الكل، وإن كانوا أجساما لطيفة هوائية فكيف ثبتوا على الخيول)، ذكر ذلك الرازي والنيسابوري، فالرازي أورد هذا عن الأصم وذكر حججه مفصلة كعادته بقوله: الحجة الأولى ـ الحجة الثانية الخ؛ ولخصه النيسابوري عنه بما ذكرناه واعترض الرازي عليه بأن مثل هذا إنما يصدر من غير المؤمنين، وكان يجب أن يرد عليه بما يدفع هذه الحجج أو يبيّن لها مخرجا.
9. ليس في القرآن الكريم نص قاطع بأن الملائكة قاتلت بالفعل فيحتج به الرازي على أبي بكر الأصم، وإنما جاء ذكر الملائكة في سياق الكلام عن غزوة بدر في سورة الأنفال على أنها وعد من الله تعالى بإمداد المؤمنين بألف من الملائكة وفسّر هذا الإمداد بقوله عز وجل: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال: 12] قال ابن جرير في معنى التثبيت: (يقول قووا عزمهم وصححوا نياتهم في قتال عدوهم من المشركين، وقيل: كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم) فأنت ترى أنه جزم بأن عمل الملائكة في ذلك اليوم إنما كان موضوعه القلوب بتقوية عزيمتها، وتصحيح نيتها، وذكر قول من قال إن ذلك كان بمعونتهم في القتال بصيغة تدل على ضعفه (قيل)، وجعل قوله تعالى: ﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ من تتمة خطاب الله للمؤمنين وهو الظاهر، وبعض المفسرين يجعله بيانا لما تثبت به الملائكة النفوس أي إنها تلقي فيها اعتقاد إلقاء الرعب في قلوب المشركين، وبهذا يندفع ما قاله الأصم ولا يبقى محل لحججه فإنه لا ينكر أن الملائكة أرواح يمكن أن يكون لها اتصال ما بأرواح بعض البشر وتأثير فيها بالإلهام أو تقوية العزائم، ويؤيده قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى﴾ كما قال مثل ذلك في هذه السورة.
10. هذا ما كان يوم بدر، وسيأتي بسطه في تفسير سورة الأنفال إن أحيانا الله تعالى، وأما يوم أحد فالمحققون على أنه لم يحصل إمداد بالملائكة ولا وعد من الله بذلك، وإنما أخبر الله عن رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه ذكر ذلك لأصحابه وجعل الوعد به معلقا على ثلاثة أمور: الصبر والتقوى وإتيان الأعداء من فورهم، ولم تتحقق هذه الشروط فلم يحصل الإمداد كما تقدم، ولكن القول أفاد البشارة والطمأنينة.
11. سؤال وإشكال: ما الحكمة وما السبب في إمداد الله المؤمنين يوم بدر بملائكة يثبتون قلوبهم، وحرمانهم من ذلك يوم أحد حتى أصاب العدو منهم ما أصاب؟ والجواب: يعلم من اختلاف حال المؤمنين في ذينك اليومين، فنذكره هنا مجملا مع بيان فلسفته الروحانية، وندع التفصيل فيه إلى تفسير الآيات هنا وفي سورة الأنفال، فإن ما هنا تفصيل لما في وقعة أحد من الحكم وما في سورة الأنفال تفصيل لما كان في وقعة بدر من ذلك:
أ. كان المؤمنون يوم بدر في قلة وذلة من الضعف والحاجة فلم يكن لهم اعتماد إلا على الله تعالى وما وهبهم من قوة في أبدانهم ونفوسهم، وما أمرهم به من الثبات والذكر إذ قال: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: 15] فبذلوا كل قواهم وامتثلوا أمر ربهم، ولم يكن في نفوسهم استشراف إلى شيء ما غير نصر الله وإقامة دينه والذود عن نبيه لا في أول القتال ولا في أثنائه، فكانت أرواحهم بهذا الإيمان وهذا الصفاء قد علت وارتقت حتى استعدت لقبول الإلهام من أرواح الملائكة والتقوى بنوع ما من الاتصال بها.
ب. وأما يوم أحد فقد كان بعضهم في أول الأمر على مقربة من الافتتان بما كان من المنافقين، ولذلك همت طائفتان منهم أن تفشلا، ثم إنهم لما تثبتوا وباشروا القتال انتصروا وهزموا المشركين الذين هم أكثر من ثلثهم، فكان بعد ذلك أن خرج بعضهم عن التقوى وخالفوا أمر الرسول، وطمعوا في الغنيمة وفشلوا وتنازعوا في الأمر فضعف استعداد أرواحهم، فلم ترتق إلى أهلية الاستمداد من أرواح الملائكة فلم يكن لهم منهم مدد، لأن الإمداد لا يكون إلا على حسب الاستعداد.
12. هذا هو السبب لما حصل بحسب ما يظهر لنا، وأما حكمته فهي تمحيص المؤمنين كما سيأتي في قوله: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ﴾ وتربيتهم بالفعل على إقامة سنن الله تعالى في الأسباب والمسببات كما سيأتي في قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ [آل عمران: 137] وبيان أن هذه السنن حاكمة حتى على الرسول، وأن قتل الرسول أو موته لا ينبغي أن يكون مثبطا للهمم ولا داعية إلى الانقلاب على الأعقاب، وأنه ليس له من أمر العباد شيء، وأن كل ما يصيبهم من المصائب فهو نتيجة عملهم إذ هو عقوبة طبيعية لهم، وغير ذلك مما بينه الله تعالى في قوله: ﴿أو لما أصابتكم مصيبة﴾ [آل عمران: 165] الخ وقوله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ [آل عمران: 144] الخ وغيرهما، فلا نتعجله قبل الكلام في تفسير الآيات الناطقة به، وما هي ببعيد.
13. من نكت البلاغة المؤدية لما ذكرنا من اختلاف الحالين في الواقعتين أنه تعالى قال هنا: ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ وقال في سورة الأنفال: ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ﴾ [الأنفال: 10] والفرق بينهما أن المؤمنين لم يكن لهم يوم بدر ما تطمئن به قلوبهم غير وعد الله وبشارته لهم على لسان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولذلك كان من دعائه يومئذ: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا) قال عمر راوي هذا الحديث: فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله كفاك مناشدتك لربك فإنه سينجز لك ما وعدك، وأنزل الله يومئذ ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ﴾[350] [الأنفال: 9]، رواه أحمد ومسلم وغيرهما، فكان بهذا الوعد اطمئنان قلوبهم لا بسواه فلذلك قدم (به) على (قلوبكم) وأما يوم أحد فلم تكن الحال كذلك كما علم مما تقدم آنفا، فلم تعد البشارة أن تكون مما يطمئن به القلب فقال: ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ من غير قصر.
__________
(1) تفسير المنار: 4/110.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ أي إنكم إن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا وينصركم ربكم كما نصركم على أعدائكم وأنتم يومئذ في قلة من العدد وفي غير منعة من الناس؛ حتى أظهركم على عدوكم مع كثرة عددهم وعظيم منعتهم؛ فأنتم اليوم أكثر عددا منكم حينئذ؛ فإن تصبروا لأمر الله ينصركم كما نصركم في ذلك اليوم، ولا ضير في الذل إذا لم يكن عن قهر من البغاة والظالمين، ولم يكن المؤمنون بمقهورين ولا بمستذلّين من الكفار، وإنما كانت قوتهم أول تكوّنها.
2. ﴿فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي فاتقوا الله ربكم بطاعته واجتناب محارمه، لتعدّوا أنفسكم لشكره، على ما منّ به عليكم من النصر على أعدائكم وإظهار دينكم، ولما هداكم له من الحق الذي ضل عنه مخالفوكم، إذ من لم يروّض نفسه بالتقوى يغلب عليه الهوى واتباع الشهوات، فلا يرجى منه الشكر لأنعم الله بصرفها فيما خلقت لأجله من الحكم والمنافع.
3. ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي ولقد نصركم الله ببدر في ذلك الحين الذي كنت تقول فيه لهم: ألن يكفيكم.. أخرج ابن أبى شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشّعبى أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمدّ المشركين، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله ـ ألن يكفيكم أن يمدّكم ربكم ـ إلى قوله: من الملائكة مسوّمين، فبلغته هزيمة المشركين فلم يمدّ أصحابه، ولم يمدّوا بالخمسة الآلاف.
4. ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ قال الفخر الرازي في التفسير الكبير: أجمع أهل التفسير والسير أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر، وأنهم قاتلوا الكفار، قال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر، وفيما سواه كانوا عددا ومددا لا يقاتلون ولا يضربون.
5. ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ أي بلى يكفيكم ذلك، ثم وعدهم بالزيادة بشرط الصبر والتقوى حثا لهم عليهما وتقوية لقلوبهم، أي إن تصبروا على لقاء العدو ومناهضتهم، وتتقوا معصية الله، ومخالفة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويجئكم المشركون من ساعتهم هذه ـ يمدكم بخمسة آلاف من الملائكة، ليعجل نصركم، ويسهل فتحكم.
6. قال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر عن نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة، ثم وعدهم بعد الثلاثة، الآلاف بخمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا، ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف، ولا بالخمسة الآلاف، ولا على أنهم لم يمدوا بهم، وقد يجوز أن يكون الله أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أن الله أمدهم، وقد يجوز أن يكون الله لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك، ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف، ولا بالخمسة الآلاف، وغير جائز أن يقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم الحجة به، ولا خبر فنسلم لأحد الفريقين قوله: غير أن في القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة، وذلك قوله: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾، أما في أحد فالدلالة على أنهم لم يمدّوا أبين منها في أنهم أمدّوا، وذلك أنهم لو أمدوا لم يهزموا وينل منهم ما نيل.
7. الإمداد بالملائكة يصح أن يكون من قبيل الإمداد بالمال الذي يزيد في قوة القوم، وأن يكون من الإمداد بالأشخاص الذين ينتفع بهم ولو نفعا معنويا، وذلك أن الملائكة أرواح تلابس النفوس فتمدها بالإلهامات الصالحات التي تثبّتها وتقوى عزيمتها.
8. ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ﴾ قال الزجاج: (وما جعل الله ذكر المدد إلا بشرى)، يعنى وما جعل الله ذلك القول الذي قاله الرسول لكم ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ الآية، إلا بشرى يفرخ بها روعكم، وطمأنينة لقلوبكم التي طرقها الخوف من كثرة عدد عدوكم وعظيم استعداده، وفي هذا إيماء إلى أن في ذكر الإمداد غايتين:
أ. إدخال السرور في القلوب.
ب. حصول الطمأنينة ببيان أن معونة الله ونصرته معهم، فلا يجبنوا عن المحاربة.
9. ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ العزيز هو القوى الذي لا يمتنع عليه شيء، والحكيم هو الذي يدبّر الأمور على خير السنن وأقوم الوسائل، فيهدى لأسباب النصر الظاهرة والباطنة من يشاء، ويصرفهما عمن يشاء، والمراد ـ أنه يجب توكلكم على الله لا على الملائكة، فيجب على العبد ألا يتكل على الأسباب فقط، بل يقبل على مسبب الأسباب، إذ هو الذي لا يعجز عن إجابة الدعوات، فعليكم ألا تتوقعوا النصر إلا من رحمته، ولا المعونة إلا من فضله وكرمه، فإن حصل الإمداد بالملائكة فليس ذلك إلا جزءا من أسباب النصر، وهناك أسباب أخرى كإلقاء الرعب في قلوب الأعداء، ومعرفة المواقع، كما فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ سلك إلى أحد أقرب الطرق وأخفاها على العدو، وعسكر في أحسن موضع وهو الشّعب (الوادي) وجعل ظهر عسكره إلى الجبل، وجعل الرماة من ورائهم، إلى نحو ذلك من الأسباب التي تمكنه من الظهور على عدوه، والغلبة عليه، فلما اختل بعض هذه التدبيرات، وفات الرماة مواضعهم لم ينتصروا.
10. الذي عليه أهل العلم أنه لم يحصل يوم أحد إمداد بالملائكة ولا وعد من الله بذلك، وإنما أخبر عن رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال ذلك لأصحابه وجعل الوعد به معلقا على شروط ثلاثة: الصبر، التقوى، إتيان الأعداء من فورهم، ولم تتحقق هذه الشروط، فلم يحصل الإمداد، ولكن القول أفاد البشارة والطمأنينة، وحصل الإمداد بالفعل في وقعة بدر كما تقدم ذكره، وسيأتي مزيد تفصيل له في سورة الأنفال.
11. سؤال وإشكال: لم أمدّ الله المؤمنين يوم بدر بملائكة يثبتون قلوبهم، وحرمهم من ذلك يوم أحد حتى أصاب العدو منهم ما أصاب! والجواب: أن المؤمنين كانوا يوم بدر في قلة وذلة من الضعف والحاجة، فلم يكن لهم اعتماد إلا على الله، وما وهبهم من قوة في أبدانهم ونفوسهم، وما أمرهم به من الثبات والذكر إذ قال: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ولم يكن في نفوسهم تطلع إلى شيء سوى النصر، وإقامة الدين والدفاع عن حوزته، فكانت أرواحهم بهذا الإيمان مستعدة لقبول الإلهام من أرواح الملائكة والتقوّى بالاتصال بها، أما في يوم أحد فقد كان بعضهم في أول القتال قريبا من الافتتان بما كان من المنافقين، ومن ثم همت طائفتان منهم أن تفشلا، ولكن الله ثبتهما وباشرا القتال مع بقية المؤمنين حتى انتصروا وهزموا المشركين، ثم خرج بعضهم عن التقوى وخالفوا أمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وطمعوا في الغنيمة وتنازعوا في الأمر ففشلوا وضعف استعداد أرواحهم، فلم ترتق إلى الاستمداد من أرواح الملائكة، فلم يكن لهم منهم مدد.
12. حكمة ما حصل تمحيص المؤمنين كما سيأتي في قوله: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ﴾ الآية، وتربيتهم بالفعل على إقامة سنن الله تعالى في ارتباط الأسباب بالمسببات، ومعرفة أن هذه السنن حاكمة حتى على الرسول، وأن قتل الرسول أو موته لا ينبغي أن يثبط الهمم، ولا يدعو إلى الانقلاب على الأعقاب، وأن كل ما يصيب العباد من مصائب فهو نتيجة عملهم، وعقوبة طبيعية على أفعالهم، إلى نحو ذلك من الأسرار التي ستعلمها بعد.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/56.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قبل أن يمضي في الاستعراض والتعقيب على أحداث المعركة التي انتهت بالهزيمة، يذكرهم بالمعركة التي انتهت بالنصر ـ معركة بدر ـ لتكون هذه أمام تلك، مجالا للموازنة وتأمل الأسباب والنتائج؛ ومعرفة مواطن الضعف ومواطن القوة، وأسباب النصر وأسباب الهزيمة، ثم ـ بعد ذلك ـ ليكون اليقين من أن النصر والهزيمة كليهما قدر من أقدار الله؛ لحكمة تتحقق من وراء النصر كما تتحقق من وراء الهزيمة سواء، وأن مرد الأمر في النهاية إلى الله على كلا الحالين، وفي جميع الأحوال: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾، والنصر في بدر كان فيه رائحة المعجزة ـ كما أسلفنا ـ فقد تم بغير أداة من الأدوات المادية المألوفة للنصر.
2. لم تكن الكفتان فيها ـ بين المؤمنين والمشركين ـ متوازنتين ولا قريبتين من التوازن، كان المشركون حوالي ألف، خرجوا نفيرا لاستغاثة أبي سفيان، لحماية القافلة التي كانت معه، مزودين بالعدة والعتاد، والحرص على الأموال، والحمية للكرامة، وكان المسلمون حوالي ثلاثمائة، لم يخرجوا لقتال هذه الطائفة ذات الشوكة، إنما خرجوا لرحلة هينة، لمقابلة القافلة العزلاء وأخذ الطريق عليها؛ فلم يكن معهم ـ على قلة العدد ـ إلا القليل من العدة، وكان وراءهم في المدينة مشركون لا تزال لهم قوتهم، ومنافقون لهم مكانتهم، ويهود يتربصون بهم.. وكانوا هم بعد ذلك كله قلة مسلمة في وسط خضم من الكفر والشرك في الجزيرة، ولم تكن قد زالت عنهم بعد صفة أنهم مهاجرون مطاردون من مكة، وأنصار آووا هؤلاء المهاجرين ولكنهم ما يزالون نبتة غير مستقرة في هذه البيئة! فبهذا كله يذكرهم الله ـ سبحانه ـ ويرد ذلك النصر إلى سببه الأولى في وسط هذه الظروف: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
3. إن الله هو الذي نصرهم؛ ونصرهم لحكمة نص عليها في مجموعة هذه الآيات، وهم لا ناصر لهم من أنفسهم ولا من سواهم، فإذا اتقوا وخافوا فليتقوا وليخافوا الله، الذي يملك النصر والهزيمة؛ والذي يملك القوة وحده والسلطان، فلعل التقوى أن تقودهم إلى الشكر؛ وأن تجعله شكرا وافيا لائقا بنعمة الله عليهم على كل حال.
4. هذه هي اللمسة الأولى في تذكيرهم بالنصر في بدر.. ثم يستحضر مشهدها ويستحيي صورتها في حسنهم، كأنهم اللحظة فيها: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾، وكانت هذه كلمات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم بدر، للقلة المسلمة التي خرجت معه؛ والتي رأت نفير المشركين، وهي خرجت لتلقى طائفة العير الموقرة بالمتاجر، لا لتلقى طائفة النفير الموقرة بالسلاح! وقد أبلغهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ما بلغه يومها ربه، لتثبيت قلوبهم وأقدامهم، وهم بشر يحتاجون إلى العون في صورة قريبة من مشاعرهم وتصوراتهم ومألوفاتهم.
5. أبلغهم كذلك شرط هذا المدد.. إنه الصبر والتقوى؛ الصبر على تلقي صدمة الهجوم، والتقوى التي تربط القلب بالله في النصر والهزيمة: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾
6. فالآن يعلمهم الله أن مرد الأمر كله إليه، وأن الفاعلية كلها منه ـ سبحانه ـ وأن نزول الملائكة ليس إلا بشرى لقلوبهم؛ لتأنس بهذا وتستبشر، وتطمئن به وتثبت، أما النصر فمنه مباشرة، ومتعلق بقدره وإرادته بلا واسطة ولا سبب ولا وسيلة: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾
7. هكذا يحرص السياق القرآني على رد الأمر كله إلى الله، كيلا يعلق بتصور المسلم ما يشوب هذه القاعدة الأصيلة: قاعدة رد الأمر جملة إلى مشيئة الله الطليقة، وإرادته الفاعلة، وقدره المباشر، وتنحية الأسباب والوسائل عن أن تكون هي الفاعلة، وإنما هي أداة تحركها المشيئة، وتحقق بها ما تريده، ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾
8. وقد حرص القرآن الكريم على تقرير هذه القاعدة في التصور الإسلامي، وعلى تنقيتها من كل شائبة، وعلى تنحية الأسباب الظاهرة والوسائل والأدوات عن أن تكون هي الفاعلة.. لتبقى الصلة المباشرة بين العبد والرب، بين قلب المؤمن وقدر الله، بلا حواجز ولا عوائق ولا وسائل ولا وسائط، كما هي في عالم الحقيقة.
9. بمثل هذه التوجيهات المكررة في القرآن، المؤكدة بشتى أساليب التوكيد، استقرت هذه الحقيقة في أخلاد المسلمين، على نحو بديع، هادئ، عميق، مستنير، عرفوا أن الله هو الفاعل ـ وحده ـ وعرفوا كذلك أنهم مأمورون من قبل الله باتخاذ الوسائل والأسباب، وبذل الجهد، والوفاء بالتكاليف.. فاستيقنوا الحقيقة، وأطاعوا الأمر، في توازن شعوري وحركي عجيب!
10. لكن هذا إنما جاء مع الزمن، ومع الأحداث، ومع التربية بالأحداث، والتربية بالتعقيب على الأحداث، كهذا التعقيب، ونظائره الكثيرة، في هذه السورة.
11. في هذه الآيات يستحضر مشهد بدر والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يعدهم الملائكة مددا من عند الله؛ إذا هم استمسكوا بالصبر والتقوى والثبات في المعركة ـ حين يطلع المشركون عليهم من وجههم هذا.. ثم يخبرهم بحقيقة المصدر الفاعل ـ من وراء نزول الملائكة ـ وهو الله، الذي تتعلق الأمور كلها بإرادته، ويتحقق النصر بفعله وإذنه.
12. ﴿اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (فهو العزيز) القوي ذو السلطان القادر على تحقيق النصر، وهو ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي يجري قدره وفق حكمته، والذي يحقق هذا النصر ليحقق من ورائه حكمة.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/470.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كانت موقعة بدر، ثم موقعة أحد بعدها، تجربتين مثيرين في مسيرة الدعوة الإسلامية، وفي كشف معالم الطريق الذي يسير فيه المسلمون تجاه تلك القوى المتربصة بهم، وبالدّين الذي آمنوا به.. بدأت دعوة الإسلام هامسة، متخافتة، تمشى على خفوت وخشية بين ظلام الشرك، ووسط معاقل المشركين.. فلما أخذ صوتها يعلو ويبلغ الأسماع، أجلب عليها المشركون بجبروتهم وعتوّهم يلاحقون الجماعة القليلة المستضعفة، حتى كادت تختنق الدعوة في مهدها، لولا أن ثبت الله أقدام المؤمنين، وربط على قلوبهم، فصبروا على ما أوذوا، وخرجوا عن أموالهم وديارهم وأهليهم، فارّين بدينهم في وجوه الأرض.. حتى كانت هجرة النبي الكريم إلى المدينة، فتحدّد بذلك خط سير الدعوة، كما تحدد الأفق الذي ستشرق منه شمسها، وتنتشر أضواؤها، وفي المدينة قامت الخمائر الأولى لدولة الإسلام.. فكان المهاجرون والأنصار الكتيبة الأولى التي أمسكت راية الحق لتلقى بها الشرك كلّه، والكفر كلّه، والنفاق كلّه، وفي موقعة بدر كان أول صدام بين الإسلام، والكفر.. الإسلام كله، والشرك كلّه.. ولو أن هذه المعركة انتهت بالقضاء على هذه الجماعة القليلة المسلمة، لما قامت للإسلام بعدها قائمة، ولما كان إسلام ولا مسلمون بعدها، ولكن الله بالغ أمره، فلقد قضت إرادته سبحانه أن تغلب تلك الفئة القليلة دولة الشرك، وأن تنالها بيد قوية قاهرة، فتقتل وتأسر، كما تشاء! وتشهد الدنيا كلها من تلك المعركة (معجزة، قاهرة متحدية، وأن الإسلام ليس أمرا من أمور هذه الدنيا التي يقتتل الناس عليها، وإنما هو نور من نور الله، لا تطفئه الأفواه، ولا تحجبه الأيدي، وأنه بالغ الذي الذي أراد الله أن يبلغه: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾.. ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ﴾ وتفعل المعجزة فعلها فيمن شهد المعركة، وفيمن سمع أخبارها من المسلمين، والمشركين، والكافرين.. فكثير من المشركين والكافرين، الذين شهدوا المعركة، أو سمعوا أخبارها، قد دارت رؤوسهم بها، وأخذوا يراجعون حسابهم مع الإسلام، ويحددون موقفهم من النبيّ وفي كل يوم يزداد العقلاء قربا من الإسلام، على حين يزداد الحمقى والسفهاء، حمقا وسفاهة وبعدا!
2. أما المسلمون فقد امتلأت قلوبهم طمأنينة بالدين الذي آمنوا به، وبالنبيّ الذي استجابوا له، واتبعوا سبيله.. ثم نظر ناظرهم إلى آفاق بعيدة، فرأى يد الإسلام تنال ما تشاء.. وتبلغ ما تريد في كل أفق تتجه إليه.. لا يمتنع عليها شيء، ولا يحول دونها حائل.. إنها تقاتل تحت راية الله، وتضرب أعداءها بيد الله.. فمن يقف لها، أو يردّ ضربتها؟ ألم تشارك ملائكة السماء في القتال مع المسلمين؟ وهل تهزم جبهة تقاتل معها الملائكة، ولو كانت عدد أصابع اليد أو اليدين؟ لقد كان هذا الشعور مستوليا على المسلمين، بعد أن فرغوا من معركة بدر، وبعد أن عادوا وقد امتلأت أيديهم من الغنائم والأسرى، وبعد أن ملئوا أرض المعركة من أعدائهم، جثثا وأشلاء! ولكن، ما هكذا تدبير الله وتقديره فيما بين الناس، وفيما بين الحق والباطل! إنه لا بد من بذل وتضحية، ومن معاناة وابتلاء! وإلا فأين المحقّون وأين المبطلون؟ وأين إحسان المحسنين وإفساد المفسدين؟ وأين ما أعطى صاحب الحق من نفسه وماله، للحق الذي في يده؟ وكيف تكون إثابة المحسن وجزاء العامل، إن لم يكن عمل وإحسان؟ إن العدل الإلهي يقضى بأن يجازى المحسن، ويعاقب المسيء..! وفي مجال الصراع بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، يمتاز المحقّون من البطلين، وينعزل الأخيار عن الأشرار.
3. إذا كانت معركة بدر قد دارت على تلك الصورة الفريدة بين المعارك، ليثبّت الله بها الراية التي ركزها للإسلام، فإن ما يستقبل المسلمون بعد ذلك من معارك لن يكون على تلك الصورة التي شهدوها يوم بدر، وأن عليهم أن يبلوا بلاءهم مع عدوّهم، وأن يستعينوا عليه بالصبر والتقوى، فذلك هو السلاح الذي وضعه الله في أيديهم، والذي إن حاربوا به عدوّهم كتب الله لهم النصر، وإن قلّ عددهم، وتضاعفت أعداد قوى الشرّ المتصدية لهم! هكذا ينبغي أن يعرف المسلمون ما يجب أن يكون عليهم أمرهم، وهم مقدمون على لقاء العدو، الذي جاءهم بكل غيظه وحنقه، ليثأر للهزيمة التي نقيها في معركة بدر! وها هم أولاء المسلمون يتأهبون للقاء المشركين، الذين جمعوا جموعهم، يريدون أن يقتحموا بها المدينة، ويدمروها على من فيها من المهاجرين والأنصار! ويستشير النبي أصحابه.. ويكثر القول، ويختلف الرأي ثم يعلو الصوت القائل بلقاء العدو خارج المدينة، ويرى النبي الكريم أن يستجيب للأغلبية، وإن كان يرى خلاف ذلك، فيلبس لباس الحرب، ويضع لامته على رأسه، ويؤذن أصحابه بأنه خارج معهم إلى لقاء المشركين، وهنا يستشعر المسلمون الندم، ويرون أنّهم على أمر لم يكن يريده النبيّ، فأقبلوا عليه يسألونه أن يكون عند رأيه الذي رآه.. فأبى عليهم ذلك، وقال: (ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل).. وذلك أنه أقام أمره على عزيمة، وبهذه العزيمة لبس لبوس الحرب.. وما كان له أن يرجع بعد ما عزم.. فإن هذا الرجوع يعنى انحلال العزيمة، إذ ليس ثمّة ما يمنع بعد هذا أن يعزم عزما آخر، ويعود فليبس عدّة الحرب.. وهكذا تستولى عليه حال من التردد بين الإقدام والإحجام.. وليس بعد هذا اجتماع لعزيمة، أو استقامة على رأى.. وفي هذا ما فيه من ضياع وخذلان، لأى أمر، وفي كل عمل، يدخل عليه التردد من أي باب! ولهذا كان أمر الله لنبيّه الكريم: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ قاطعا الطريق إلى التردد بعد العزيمة، التي تجيء عن مناصحة ومشاورة!
4. خرج النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بأصحابه للقاء العدوّ، ومع المسلمين هذا الشعور الذي وقع في نفوسهم من حملهم النبيّ على هذا الخروج ـ الشعور بالندم والحسرة ـ الأمر الذي لو صحبهم إلى المعركة لأفسد عليهم موقفهم من عدوهم، ولاغتال الكثير من عزمهم وقوّتهم! وهنا يتلقّى الرسول الكريم من ربّه، ما يذهب بمرارة هذا الأسى الذي وجده، ووجده معه أصحابه، في مجلس الشورى، وما انتهى إليه، فجاء قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ ـ جاء قوله تعالى في هذه الآيات، ليذكّر النبي والمسلمين بما كان لله عليهم من فضل، في هذا النّصر العظيم، الذي امتلأت به أيديهم يوم بدر.. وفي هذه الصورة التي ترتفع للمسلمين من معركة بدر، تهبّ عليهم ريح الطمأنينة، وتدخل على قلوبهم السكينة والأمن، فيلقون عدوّهم بعزم جميع، وإرادة مصممة على النصر، واثقة من عون الله وتأييده.
5. في تلك الحال التي تمتد فيها أبصار المسلمين إلى معركة بدر، وتتعلق عيونهم بالمشاهد الواردة عليهم من ذكرياتها ـ تمتلئ أسماعهم بما يتلو عليهم الرسول الكريم، مما يتلقى من آيات ربه: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾.. ويستشعر المسلمون من كلمات الله هذه أنهم من الله على حال غير الحال التي كانوا عليها يوم بدر.. إذ قد جاء وعد الله بإمدادهم بالملائكة يوم بدر غير مشروط بشرط، بل هو وعد مطلق، لا بد من تحقيقه.. وقد تحقق.
6. أمّا هذا الوعد الكريم الذي يتلقونه من الله في هذا اليوم ـ يوم أحد ـ فهو مشروط بشرطين: أن يصبروا، وأن يتقوا.. وتحقيق هذين الشرطين، شرط لتحقيق ما وعدوا به من النصر، إذن فهم مطالبون بشيء جديد، من الصبر والتقوى، غير ما كانوا عليه يوم بدر، وغير ما هم عليه اليوم، من صبر وتقوى، وإنهم لو أعطوا المطلوب من الصبر والتقوى، لوجدوا في أنفسهم من روح الله، قوة تعدل خمسة آلاف من تلك القوى التي ساندتهم، وقاتلت معهم يوم بدر! ثم يستمع المسلمون بعد هذا إلى قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ فيستشعرون أن تلك الأمداد العلويّة، لا تجيء إليهم من بعيد، وإنما هي شرارات من الإيمان والصبر، تنطلق من داخل أنفسهم، فتشتعل بنور الله، فإذا هي قوى يبلغ بها الإنسان في ميدان القتال، ما لا يبلغ خمسة من الرجال، لا يملكون تلك القوى في هذا الميدان!
7. بعد أن استحضرت الآيتان (121، 122) المقدمات الأولى لمعركة أحد، إذ غدا النبيّ خارجا منزله إلى حيث يلقى العدو، الذي وقف عند مشارف المدينة، يفكر في دخولها ولقاء المسلمين فيها، أو محاصرتهم داخلها إلى أن يخرجوا للقائه.. ولكن رأى النبي وأصحابه كان قد انتهى ـ بعد مشاورات كثيرة كادت تؤدى إلى فرقة وانقسام في صفوف المسلمين ـ انتهى إلى لقاء العدو ـ خارج المدينة عند (أحد) ـ بعد أن استحضرت الآيتان السابقتان، هذه المقدمات الأولى للمعركة ـ جاءت آيات القرآن الكريم بعد هذا مباشرة، تحدّث المسلمين بمعركة بدر التي كانوا قد خاضوها منذ عام، مع هذا العدو الذي جاء إليهم بعدد عديد، وعتاد كثير، على حين كانوا هم في أعداد قليلة، وعدة هزيلة، ولكن الله أيدهم بنصره، وكتب الهزيمة والخزي والخذلان على عدوهم.
8. في إثارة هذه الأحداث من معركة بدر في خواطر المسلمين، وهم على مشارف معركة جديدة توشك أن تبدأ بينهم وبين هذا العدو، الذي عرفوه، وذاقوا طعم النصر عليه، ورأوا رأى العين أمداد السماء لهم يومئذ ـ في إثارة هذه الأحداث، في هذه اللحظة الحاسمة، ما يطمئن الخواطر المضطربة، وما يقطع على المسلمين هذا الجدل المحتدم بينهم ـ في لقاء العدو، داخل المدينة أو خارجها، ذلك ليعرفوا أن مكان لقاء العدو ليس هو العامل الأول في المعركة، وليس العدد ولا العتاد هو كل شيء في كسب النصر، وإنما السلاح العامل أولا وقبل كلّ شيء في بلوغ النصر، هو الإيمان بالله، وتوجيه القلوب إليه، وإخلاص النية في الجهاد في سبيله، فذلك هو الذي يجعل ميزان المؤمن يرجح عشرة من غير المؤمنين في ميدان الحرب، وليس ذلك بالذي يعفى المؤمنين من النظر في إعداد العدة للقاء العدو، واتخاذ الحيطة والحذر منه، وسدّ المنافذ والثغرات التي ينفذ منها إليهم، فهذا كلّه وكثير غيره، هو من عدد النصر وأسلحته، التي يجد منها المؤمن قوة، إلى قوة إيمانه وتوكله على الله.
9. ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ صورة قوية نابضة بالحياة، تجمع في كلماتها القليلة تلك، كل مشاهد المعركة، وتستحضر كل أشخاصها، ومشخصاتها، من بدئها إلى خاتمتها، وأول ما يذكر المسلمون عن هذا اليوم، وأهمّ ما يجدونه في خواطرهم منه، أنهم انتصروا نصرا حاسما، من حيث كان لا يرجى لمثلهم نصر في هذه الموقعة، لقلة عددهم، وضالة عدّتهم، مع كثرة عدوّهم، وقوة عدده! وهنا أمر لا يدع لأحد شكّا حتى عند من لا يؤمنون بالله، هو أن يدا قوية غير منظورة لأحد، هي التي أدارت تلك المعركة، وقلبت أوضاعها، وبدّلت موازينها!
10. الذلّة التي وصف القرآن بها المسلمين هنا ليست ذلّة نفسيّة، ولا ضعفا قلبيا، وإنما هي ذلّة حاجة وعوز، وقلة في المال والرجال، بحيث يخفّ ميزان أصحابها في أعين الناس، حين ينظرون إلى ظاهرهم هذا، فوصف المؤمنين بالذلّة هنا، إنما هو وصف للحال الظاهر منهم للناس.. أما في حقيقة أنفسهم، فهم من إيمانهم بالله، وثقتهم فيه، وتوكلهم عليهم واستعلائهم على حاجات الجسد، ومتاع الحياة ـ هم في عزّة عزيزة، تستخف بكل قوى المادة وعتوّها.
11. ﴿فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ تعقيب على هذه النعمة التي أنعم الله بها على النبيّ وأصحابه، يوم بدر، فمكّن لهم من رقاب أعدائهم، ومنحهم النصر عليهم، ذلك النصر الذي لم يتوقعه أحد، فحقّ على المؤمنين أن يزداد إيمانهم بالله، وإقبالهم عليه، حتى يبلغ بهم هذا الإيمان وذلك الإقبال منازل المتقين، وعن هذه التقوى يكون الشكران لله على ما أنعم عليهم.. بل إن هذه التقوى في صميمها هي شكران لله أعظم الشكران وأكمله، فما شكر الله، ولا حمده، ولا عرف فضله وقدره من لم يتّقه حق تقواه، فيأتى ما استطاع من أوامره، ويجتنب ما استطاع من نواهيه، فإنه بغير التقوى تكون العبادات والطاعات مجرّد مظاهر جوفاء، لا ثمرة لها، ولا جزاء عليها.. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾
12. ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ هو عرض وتذكير لما كان في يوم بدر من أمداد السماء للمسلمين، حين بشرهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن الله ممدّهم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين من عالمهم العلوىّ، ليشاركوا فى معركة الحق، ولينصروا أنصار الله، المجاهدين في سبيله.
13. ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ هو تأكيد لهذا الوعد الكريم من الله تعالى الذي تحقق يوم بدر بهذا المدد السماوي، والذي شهد المسلمون آياته يوم بدر.. ثم هو عرض لوعد آخر معلّق على ما يكون عند المؤمنين من صبر وتقوى، فإن كان منهم هذا لم يكن المدد السماوي ثلاثة آلاف ملك وحسب، بل إن الله سبحانه وتعالى سيمدهم بخمسة آلاف في هذه المعركة التي توشك أن تنشب بينهم وبين المشركين، في أحد، والملائكة المسوّمون: هم المعلّمون، أي لهم شارات يعرفون بها.
14. سؤال وإشكال: ما هذا المدد السماويّ؟ وما هي صورته؟ وكيف يكون عمله في المعركة؟ وهل يكون على هيئة الرجال، أو الفرسان.. أو بين الرجال والفرسان؟ أم ماذا؟ والجواب: من وجوه:
أ. أولا: أنه يجب التصديق تصديقا مطلقا بما أخبر به القرآن، وأن الملائكة قد كانوا بالأعداد التي ذكرها لله، وأنهم كانوا جندا مع جنود الله في تلك المعركة.
ب. ثانيا: أن هذا المدد السماويّ كان روحا من عند الله، لبست المؤمنين، وأحاطت بهم، فكانت قوة راسخة في قلوبهم، ودروعا حصينة على صدورهم، وسيوفا قاطعة في أيديهم! وما كان لهذه القوى أن تظهر عيانا للناس، وإلا كانت فتنة لهم.. ولكن يجد المؤمنون أثرها في أنفسهم، كما يجد المشركون مسّها الرعب لقلوبهم!
ج. ثالثا: تجسيد هذه القوى السماوية للمسلمين في الخبر الذي أخبروا به، وتحديد أعدادها، هو لتطمين قلوب المؤمنين، وتثبيت أقدامهم.
د. رابعا: أن هذه القوى السماوية لو جسّدت لكانت رجالا وفرسانا، ولو عدّت لكان حسابها في الرجال والفرسان بثلاثة آلاف من المقاتلين.
هـ. خامسا: في قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ إشارة إلى أن هذا التجسيد، وتحديد العدد لتلك القوى السماوية التي تعمل معهم، إنما هو لتطمين قلوبهم، وليكون لهم من فرحة هذه البشرى قوة يرون منها خاتمة هذه المعركة قبل بدئها، وأنهم هم المنتصرون.
و. سادسا: كانت أعداد المسلمين يوم بدر نحو ثلاثمائة، وكان حساب المسلم في قتاله للمشركين يومئذ بعشرة منهم كما يقول الله تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾، فالمسلمون الذين قاتلوا يوم بدر وإن كانوا ثلاثمائة، هم في قوتهم، وفي حسابهم في المقاتلين ثلاثة آلاف..!
15. على هذا، فإن لنا أن نفهم أن هذه الثلاثة آلاف التي كانت مددا من السماء يوم بدر، قد كانت قوى سماوية، وأرواحا علوية لبست المسلمين، فإذا كل رجل منهم عشرة رجال! بل عشرة أرواح علوية سماوية، بل عشرة ملائكة.. ﴿وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَوَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ﴾، هذا، وقد جاء في سورة الأنفال في غزوة بدر قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
16. هنا نجد المدد السماويّ ألفا من الملائكة لا ثلاثة آلاف، ولكن في قوله تعالى: ﴿بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ وفي وصف الملائكة بالمردفين ـ ما يشعر بأن وراءهم أمدادا أخرى، تجيء مرادفة لهم، وفي أعقابهم، ويؤيد هذا قراءة السّدّى: ﴿أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾
17. كذلك يجيء التعقيب على هذا المدد السماوي، بأنه لم يكن إلا بشرى للمؤمنين وتطمينا لقلوبهم، كما جاء ذلك في آية آل عمران؛ التي نحن بين يديها الآن! وقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ﴾ وقوله في سورة الأنفال: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى﴾ بزيادة (لكم) هناك، لاختلاف المقامين:
أ. حيث أن الخطاب في آية الأنفال كان والمسلمون يواجهون الحدث مواجهة واقعية، ويتلقون بشريات السماء وهم مشتبكون مع العدو، فلا حاجة إلى تعيينهم بقوله سبحانه ﴿لَكُمْ﴾
ب. على خلاف ما جاء في آية آل عمران، إذ كان نزولها والمسلمون مقدمون على حرب المشركين، في أحد، فجاءت هذه الآية مع أخواتها لتذكرهم بفضل الله عليهم في يوم بدر، فكان التعيين بقوله ﴿لَكُمْ﴾ هنا لازما، إذ كان كثير من المسلمين الذين يشهدون أحدا اليوم لم يشهدوا بدرا بالأمس!
18. كذلك ما جاء في قوله تعالى في آل عمران: ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ وفي الأنفال: ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ﴾ فلاختلاف المقامين اختلف الأداء للمعنى المراد:
أ. فالمسلمون الذين خوطبوا في سورة الأنفال كانوا في مواجهة المعركة في بدر، وقلوبهم مضطربة واجفة تنظر إلى ما يطلع عليها من فضل الله ورحمته، فقدم ما بشّروا به من أمداد السماء، وهو المشار إليه بالضمير في (به) على القلوب لأنه هو المطلوب لها.
ب. أما في آية آل عمران، فهو تذكير بهذا الحدث، فجاء ذكره على الأسلوب الذي يقتضيه النظم المعتاد في لغة العرب.. الفعل، فالفاعل، فالمتعلقات: ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾
19. ويشبه هذا ما جاء في قوله تعالى هنا في آل عمران: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ وما جاء في سورة الأنفال: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، وأحسبك لا يخفى عليك الحال الداعي لاختلاف الأداء اللفظي في الآيتين، ولكن لا بأس من أن نشير إليه، كما أشرنا إلى سابقيه من قبل!
أ. ففي آية الأنفال تقرير وتوكيد لعزة الله وحكمته: ﴿إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، وهذا التقرير والتوكيد لازمان في هذا الموقف، الذي كان يقفه المسلمون في قلّتهم، وضالة شأنهم إزاء الجيش القوى الزاحف عليهم، فإذا جاءتهم البشرى بنصر الله، محمولة بما وعدهم على لسان نبيّه، ثم أتبعت هذه البشرى بالتذكير بعزة الله وحكمته في هذا الأسلوب المؤكد ﴿إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ كان لذلك وقعه في القلوب وأثره في النفوس!
ب. أما في آية آل عمران، فالشأن مختلف.. إنها حديث عن أمر وقع، رأى منه المسلمون رأى العين كيف كانت عزة الله وكيف كانت حكمته.. فيكفى هنا أن يذكر الله وعزته وحكمته.. ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ دون توكيد، إذ كان يعيش المسلمون مع الحدث الواقع، الذي هو أثر من آثار عزة الله وحكمته.
20. طبيعي أن مثل هذه الفروق الدقيقة في الصور اللفظية التي تعرض لموضوع واحد، فيقع في النظم تقديم وتأخير، أو زيادة وحذف ـ لا يلتفت إليها، ولا يقام لها وزن في معايير البلاغة، إلا أن يكون ذلك في نظم القرآن الكريم، حيث كل شيء بحساب وتقدير، ولكل حرف وزنه، الذي يرجح موازين الدنيا جميعا.. وذلك وجه مشرق من وجوه الإعجاز القرآني.. (تنزيل من عزيز حكيم).. فسبحان من هذا كلامه.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/573.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إذ قد كانت وقعة أحد لم تنكشف عن نصر المسلمين، عقّب الله ذكرها بأن ذكّرهم الله تعالى نصره إيّاهم النصر الّذي قدّره لهم يوم بدر، وهو نصر عظيم إذ كان نصر فئة قليلة على جيش كثير، ذي عدد وافرة، وكان قتلى المشركين يومئذ سادة قريش، وأئمّة الشرك، وحسبك بأبي جهل بن هشام، ولذلك قال تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ أي ضعفاء، والذلّ ضد العزّ فهو الوهن والضعف، وهذا تعريض بأنّ انهزام يوم أحد لا يفلّ حدّة المسلمين لأنّهم صاروا أعزّة، والحرب سجال.
2. ﴿فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ اعتراض بين جملة ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ﴾، ومتعلّق فعلها أعني: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، والفاء للتفريع والفاء تقع في الجملة المعترضة على الأصحّ، خلافا لمن منع ذلك من النحويين.. فإنّه لمّا ذكّرهم بتلك المنّة العظيمة ذكّرهم بأنّها سبب للشكر فأمرهم بالشكر بملازمة التّقوى تأدّبا بنسبة قوله تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 70]، ومن الشكر على ذلك النّصر أن يثبتوا في قتال العدو، وامتثال أمر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن لا تفلّ حدّتهم هزيمة يوم أحد.
3. ظرف ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ زماني وهو متعلّق بـ ﴿نَصَرَكُمُ﴾ لأنّ الوعد بنصرة الملائكة والمؤمنين كان يوم بدر لا يوم أحد، هذا قول جمهور المفسّرين، وخصّ هذا الوقت بالذكر لأنّه كان وقت ظهور هذه المعجزة، وهذه النّعمة، فكان جديرا بالتذكير والامتنان، والمعنى: إذ تعد المؤمنين بإمداد الله بالملائكة، فما كان قول النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لهم تلك المقالة إلّا بوعد أوحاه الله إليه أن يقوله.
4. الاستفهام في قوله: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ تقريري، والتقريري يكثر أن يورد على النّفي، كما قدّمنا بيانه عند قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ في سورة البقرة [243]، وإنّما جيء في النّفي بحرف لن الّذي يفيد تأكيد النّفي للإشعار بأنّهم كانوا يوم بدر لقلّتهم، وضعفهم، مع كثرة عدوّهم، وشوكته، كالآيسين من كفاية هذا المدد من الملائكة، فأوقع الاستفهام التّقريري على ذلك ليكون تلقينا لمن يخالج نفسه اليأس من كفاية ذلك العدد من الملائكة، بأن يصرّح بما في نفسه، والمقصود من ذلك لازمه، وهذا إثبات أنّ ذلك العدد كاف.
5. لأجل كون الاستفهام غير حقيقي كان جوابه من قبل السائل بقوله: ﴿بَلَى﴾ لأنّه ممّا لا تسع المماراة فيه كما سيأتي في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ في سورة الأنعام [19]، فكان (بلى) إبطالا للنفي، وإثباتا لكون ذلك العدد كافيا، وهو من تمام مقالة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم للمؤمنين.
6. جاء ـ في سورة الأنفال [9] ـ عند ذكره وقعة بدر أن الله وعدهم بمدد من الملائكة عدده ألف بقوله: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ وذكر هنا أنّ الله وعدهم بثلاثة آلاف ثمّ صيّرهم إلى خمسة آلاف، ووجه الجمع بين الآيتين أنّ الله وعدهم بثلاثة آلاف ثمّ صيّرهم إلى خمسة آلاف، ووجه الجمع بين الآيتين أنّ الله وعدهم بألف من الملائكة وأطمعهم بالزّيادة بقوله: ﴿مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: 9] أي مردفين بعدد آخر، ودلّ كلامه هنا على أنّهم لم يزالوا وجلين من كثرة عدد العدوّ، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألن يكفيكم أن يمدّكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين)، أراد الله بذلك زيادة تثبيتهم ثمّ زادهم ألفين إن صبروا واتّقوا، وبهذا الوجه فسّر الجمهور، وهو الذي يقتضيه السياق، وقد ثبت أنّ الملائكة نزلوا يوم بدر لنصرة المؤمنين، وشاهد بعض الصّحابة طائفة منهم، وبعضهم شهد آثار قتلهم رجالا من المشركين.
7. وصف الملائكة بمنزلين للدلالة على أنّهم ينزلون إلى الأرض في موقع القتال عناية بالمسلمين قال تعالى: ﴿مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الحجر: 8]، وقرأ الجمهور: منزلين ـ بسكون النّون وتخفيف الزاي ـ وقرأه ابن عامر ـ بفتح النّون وتشديد الزاي ـ، وأنزل ونزّل بمعنى واحد.
8. الضميران: المرفوع والمجرور، في قوله: ﴿وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ﴾ عائدان إلى الملائكة الّذين جرى الكلام عليهم، كما هو الظاهر، وعلى هذا حمله جمع من المفسّرين، وعليه فموقع قوله: ﴿وَيَأْتُوكُمْ﴾ موقع وعد، فهو المعنى معطوف على ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ﴾ وكان حقّه أن يرد بعده، ولكنّه قدّم على المعطوف عليه، تعجيلا للطمأنينة إلى نفوس المؤمنين، فيكون تقديمه من تقديم المعطوف على المعطوف عليه، وإذا جاز ذلك التّقديم في عطف المفردات كما في قول صنّان بن عبّاد اليشكري:
çثمّ اشتكيت لأشكاني وساكنه...قبر بسنجار أو قبر على قهدé
قال ابن جنّي في شرح أبيات الحماسة: قدّم المعطوف على المعطوف عليه، وحسّنه شدّة الاتّصال بين الفعل ومرفوعه (أي فالعامل وهو الفعل آخذ حظّه من التقديم ولا التفات لكون المعطوف عليه مؤخّرا عن المعطوف) ولو قلت: ضربت وزيدا عمرا كان أضعف، لأنّ اتّصال المفعول بالفعل ليس في قوّة اتّصال الفاعل به، ولكن لو قلت: مررت وزيد بعمرو، لم يجز من جهة أنّك لم تقدم العامل، وهو الباء، على حرف العطف، ومن تقديم المفعول به قول زيد:
çجمعت وعيبا غيبة ونميمة...ثلاث خصال لست عنها بمرعويé
ومنه قول آخر:
çلعن الإله وزوجها معها...هند الهنود طويلة الفعلé
ولا يجوز وعيبا جمعت غيبة ونميمة، وأمّا قوله: عليك ورحمة الله السلام فممّا قرب مأخذه عن سيبويه، ولكن الجماعة لم تتلقّ هذا البيت إلّا على اعتقاد التّقديم فيه، ووافقه المرزوقي على ذلك، وليس في كلامهما أن تقديم المعطوف في مثل ما حسن تقديمه فيه خاص بالضرورة في الشعر، فلذلك خرّجنا عليه هذا الوجه في الآية وهو من عطف الجمل، على أن عطف الجمل أوسع من عطف المفردات لأنّه عطف صوري، ووقع في (مغني اللبيب) ـ في حرف الواو ـ أنّ تقديم معطوفها على المعطوف عليه ضرورة، وسبقه إلى ذلك ابن السّيد في شرح أبيات الجمل، والتفتازانيّ في شرح المفتاح، كما نقله عنه الدماميني في (تحفة الغريب)
9. جعل جمع من المفسّرين ضميري الغيبة في قوله: ﴿وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ﴾ عائدين إلى طائفة من المشركين، بلغ المسلمين أنّهم سيمدّون جيش العدوّ يوم بدر، وهم كرز بن جابر المحاربي، ومن معه، فشقّ ذلك على المسلمين وخافوا، فأنزل الله تعالى: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ الآية، وعليه درج (الكشاف) ومتابعوه، فيكون معاد الضّميرين غير مذكور في الكلام، ولكنّه معلوم للنّاس الّذين حضروا يوم بدر، وحينئذ يكون ﴿يَأْتُوكُمْ﴾ معطوفا على الشرط: أي إن صبرتم واتّقيتم وأتاكم كرز وأصحابه يعاونون المشركين عليكم يمددكم ربّكم بأكثر من ألف ومن ثلاثة آلاف بخمسة آلاف، قالوا فبلغت كرزا وأصحابه هزيمة المشركين يوم بدر فعدل عن إمدادهم فلم يمدّهم الله بالملائكة، أي بالملائكة الزائدين على الألف، وقيل: لم يمدّهم بملائكة أصلا، والآثار تشهد بخلاف ذلك.
10. ذهب بعض المفسّرين الأوّلين: مثل مجاهد، وعكرمة، والضحاك، والزهري: إلى أن القول المحكي في قوله تعالى: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ قول صادر يوم أحد، قالوا وعدهم الله بالمدد من الملائكة على شرط أن يصبروا، فلمّا لم يصبروا واستبقوا إلى طلب الغنيمة لم يمددهم الله ولا بملك واحد، وعلى هذا التفسير يكون ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ بدلا من ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ﴾ وحينئذ يتعيّن أن تكون جملة ﴿وَيَأْتُوكُمْ﴾ مقدمة على المعطوفة هي عليها، للوجه المتقدّم من تحقيق سرعة النّصر، ويكون القول في إعراب ﴿وَيَأْتُوكُمْ﴾ على ما ذكرناه آنفا من الوجهين.
11. معنى ﴿مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾ المبادرة السّريعة، فإنّ الفور المبادرة إلى الفعل، وإضافة الفور إلى ضمير الآتين لإفادة شدّة اختصاص الفور بهم، أي شدّة اتّصافهم به حتّى صار يعرف بأنّه فورهم، ومن هذا القبيل قولهم خرج من فوره، و(من) لابتداء الغاية، والإشارة بقوله (هذا) إلى الفور تنزيلا له منزلة المشاهد القريب، وتلك كناية أو استعادة لكونه عاجلا.
12. ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ قرأه الجمهور ـ بفتح الواو ـ على صيغة اسم المفعول من سوّمه، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، ويعقوبـ بكسر الواو ـ بصيغة اسم الفاعل، وهو مشتقّ من السّومة ـ بضم السين ـ وهي العلامة مقلوب سمة لأنّ أصل سمة وسمة، وتطلق السومة على علامة يجعلها البطل لنفسه في الحرب من صوف أو ريش ملوّن، يجعلها على رأسه أو على رأس فرسه، يرمز بها إلى أنّه لا يتّقي أن يعرفه أعداؤه، فيسدّدوا إليه سهامهم، أو يحملون عليه بسيوفهم، فهو يرمز بها إلى أنّه واثق بحمايته نفسه بشجاعته، وصدق لقائه، وأنّه لا يعبأ بغيره من العدوّ، وتقدّم الكلام عليها في تفسير قوله تعالى: ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ [آل عمران: 14] في أوّل هذه السورة، وصيغة التفعيل والاستفعال تكثران في اشتقاق الأفعال من الأسماء الجامدة، ووصف الملائكة بذلك كناية على كونهم شدادا.
13. أحسب أنّ الأعداد المذكورة هنا مناسبة لجيش العدوّ لأنّ جيش العدوّ يوم بدر كان ألفا فوعدهم الله بمدد ألف من الملائكة فلمّا خشوا أن يلحق بالعدوّ مدد من كرز المحاربي، وعدهم الله بثلاثة آلاف أي بجيش له قلب، وميمنة وميسرة كلّ ركن منها ألف، ولمّا لم تنقشع خشيتهم من إمداد المشركين لأعدائهم وعدهم الله بخمسة آلاف، وهو جيش عظيم له قلب وميمنة وميسرة ومقدّمة وساقة، وذلك هو الخميس، وهو أعظم تركيبا وجعل كلّ ركن منه مساويا لجيش العدوّ كلّه.
14. يجوز أن تكون جملة ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى﴾ في موضع الحال من اسم الجلالة في قوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ﴾ [البقرة: 123] والمعنى لقد نصركم الله ببدر حين تقول للمؤمنين ما وعدك الله به في حال أنّ الله ما جعل ذلك الوعد إلّا بشرى لكم وإلّا فإنّه وعدكم النصر كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ﴾ [الأنفال: 70] الآية، ويجوز أن يكون الواو للعطف عطف الإخبار على التذكير والامتنان، وإظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار للتنويه بهذه العناية من الله بهم، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين.
15. ضمير النصب في قوله: ﴿جَعَلَهُ﴾ عائد إلى الإمداد المستفاد من ﴿يُمْدِدْكُمْ﴾ [آل عمران: 125] أو إلى الوعد المستفاد من قوله: ﴿إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾ [آل عمران: 125] الآية، والاستثناء مفرّغ، و﴿بُشْرَى﴾ مفعول ثان ل (جعله) أي ما جعل الله الإمداد والوعد به إلّا أنّه بشرى، أي جعله بشرى، ولم يجعله غير ذلك، و(لكم) متعلّق ب (بشرى)، وفائدة التصريح به مع ظهور أن البشرى إليهم هي الدلالة على تكرمة الله تعالى إيّاهم بأن بشّرهم بشرى لأجلهم كما في التصريح بذلك في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: 1]
16. البشرى اسم لمصدر بشّر كالرّجعى، والبشرى خبر بحصول ما فيه نفع ومسرّة للمخبر به، فإنّ الله لمّا وعدهم بالنّصر أيقنوا به فكان في تبيين سببه وهو الإمداد بالملائكة طمأنة لنفوسهم لأنّ النفوس تركن إلى الصّور المألوفة.
17. الطمأنة والطّمأنينة: السكون وعدم الاضطراب، واستعيرت هنا ليقين النّفس بحصول الأمر تشبيها للعلم الثابت بثبات النفس أي عدم اضطرابها، وتقدّمت عند قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾، وعطف ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ﴾ على ﴿بُشْرَى﴾ فكان داخلا في حيّز الاستثناء فيكون استثناء من علل، أي ما جعله الله لأجل شيء إلّا لأجل أن تطمئن قلوبكم به.
18. جملة ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ تذييل أي كلّ نصر هو من الله لا من الملائكة، وإجراء وصفي العزيز الحكيم هنا لأنّهما أولى بالذكر في هذا المقام، لأنّ العزيز ينصر من يريد نصره، والحكيم يعلم من يستحق نصره وكيف يعطاه.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/207.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ بعد أن أشار سبحانه إلى تأثير أهل السوء مع كثرة المؤمنين ـ في غزوة أحد وكيف حاولوا أن يوهنوا عزائم المؤمنين أخذ سبحانه وتعالى يبين غزوة بدر، وقد كانت وليس بين المؤمنين منافقون؛ لأن أولئك المنافقين ما دخلوا إلا بعد أن وجدوا أن كلمة الله هي العليا، فأظهروا الإسلام وأبطنوا غيره، وكان منهم يهود ومنهم مشركون، فكان المسلمون قلة، ولكن لأنه لم يكن بينهم منافقون، ولم يتخذوا بطانة من غيرهم نصرهم الله سبحانه وتعالى، والمعنى أن الله تعالى نصركم والحال أنكم كنتم قليلا وكنتم مستضعفين في الأرض كما قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الأنفال]، وذكر هذا يدل على أمرين:
أ. أحدهما: أنه لا بد من التفويض إلى الله تعالى مع أخذ الأسباب.
ب. الثاني: أن القلة مع نقاء القلوب وتلاقى العزائم يكون معها النصر؛ لأن توحيد الغرض قوة في ذاته تكافئ قوة العتاد والعدة.
2. سؤال وإشكال: كيف يعبر القرآن الكريم عن المسلمين بأنهم كانوا أذلّة قبل بدر، والذلة أمر نفسي، وما كانوا كذلك في أي دور من أدوارهم، فأولئك الضعفاء الذين كانوا يفتنون في دينهم فلا يغيرون هم في عزة نفسية أكثر من مضطهديهم، والله تعالى يقول: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون] ويقول في وصف المؤمنين: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة] ويقول تعالى: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح]؟ والجواب: أن الذلّة التي وصف بها المؤمنون قبل بدر هي مظاهرها من ضعف العدة، وقلة العدد وقلة المال، حتى إنه لم يكن معهم ظهر، وقد خرجوا للقاء المشركين في بدر، وقد قال الزمخشري في معنى كلمة أذلة: (والأذلة جمع قلة، والذلان جمع الكثرة، وجاء بجمع القلة، ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلا، وذلتهم ما كان بهم من ضعف الحال، وقلة السلاح والمال، والمركوب، وذلك أنهم خرجوا على النواضح، يعتقب النفر منهم على البعير الواحد، وما كان بينهم إلا فرس واحد، وقلتهم أنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وكان عددهم في حال كثرة زهاء ألف مقاتل، ومعهم مائة فرس والشكة والشوكة)، فليست الذلة ذلة النفوس إنما هي ظاهر الحال وما كان فيه من ضعف.
3. ﴿فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ إذا كان النصر من عنده تعالى، وهو ولى المؤمنين، فعليهم أن يتقوه، والتقوى معناها استشعار هيبته وجبروته وعظمته وقوته، وأنه إن أراد بقوم خيرا فلا يستطيع أهل الدنيا أن يمنعوه، وإذا أراد بقوم سوءا فلا يستطيع أن يمنعه من قوة الله تعالى، فلا عزة إلا منه، ولا ذلة إلا في عصيانه، وأن التقوى على هذا المعنى توجب الشكر، ولذلك قال بعد الأمر بالتقوى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي اتقوا الله تعالى وهابوه، وأقروا بأن الكبرياء له وحده في السماوات والأرض، رجاء أن تشكروه بهذه التقوى، والرجاء من العبيد لا من الله تعالى، فهو الغنى الحميد، فالتقوى هي في الحقيقة شكر الله تعالى، لأنه سبحانه هو المنعم وهو المتفضل في كل ما يتعلق بالإنسان من نعم هذا الوجود، وشكره أن تعرف حق ما أسدى، وما تدل عليه النعم من جلال الله وعظمته، فاللهم وفقنا لتقواك، ليتحقق منا شكرك، إنك أنت العلى الوهاب.
4. ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ اختلف المفسرون في هذه الآيات، أهي في غزوة بدر الكبرى التي جعل الله فيها الكلمة العليا للمسلمين، والكلمة السفلى للمشركين، والتي خرجت بالمؤمنين من حال الضعف في الأرض إلى حال القوة فيها؟ أم هي في غزوة أحد التي اختبر الله المؤمنين إذ لم يتبعوا أمر الله تعالى الذي يتضمن الطاعة للرسول ولأولى الأمر، فبين لهم سبحانه وتعالى نتيجة المخالفة بذلك الاختبار الشديد:
أ. قال بعض المفسرين: إن الآية في غزوة بدر الكبرى، لأن الله تعالى يقول قبل هذه الآية مباشرة: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، فقد ذكر النصر مجملا في هذه الآية فيكون ما بعدها تفصيلا لمجملها، وتكون هذه الآيات الكريمة التي نتكلم في معانيها السامية بيانا لأسباب هذا النصر، وهذا يتفق مع السياق.
ب. وقال أكثر المفسرين: إن هذه الآيات في غزوة أحد، فقوله: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ [آل عمران] في موضع البيان أو البدل من قوله تعالى: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران]، والرواية تؤيد ذلك إذ روى عن كثيرين من التابعين أن إمداد الله بالملائكة كان في بدر بألف، كما قال تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال]، وقد ذكر الضحاك في قوله تعالى: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ﴾ أن هذا كان موعدا من الله يوم أحد، عرضه الله على نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد روى أن المجاهدين قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم ينظرون المشركين: أليس الله تعالى يمدنا كما أمدنا يوم بدر، فقال رسول الله: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ﴾، ويرجح شيخ المفسرين ابن جرير أن هذه الآية في غزوة أحد.
5. نختار أن هذه الآية في غزوة أحدلأن الآيات من بعد ذلك ستتكلم على نتائج غزوة أحد في تفصيل بيّن، وما كانت الإشارة إلى بدر إلا من قبيل التذكير بحال المجاهدين في الغزوتين، وأن حالهم في الأولى أوجبت النصر، وما كان في أثناء القتال أنتجت ذلك القرح الذي أصاب المسلمين في تلك الغزوة وهى أحد: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾
6. على الرأي المختار وهو أنها في غزوة أحد تكون كلمة (إذ) ظرف زمان بدل من (إذ) في قوله تعالى: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ ففي هذا النص السامي بيان حال الوهن الذي أصاب بعض المؤمنين، وفي هذه الآيات التي نتكلم في معناها، عمل الله ونبيه على علاج هذا الوهن، وهو بالبشرى التي يزفها لهم من تأييد لهم بالملائكة ينزلون إليهم، وإن ذكر عدد الملائكة هنا مناسب لعدد المشركين؛ لأن عدد المشركين كان نحو ثلاثة آلاف أو يزيدون، وعدد المسلمين كان نحو ألف؛ انخذل منهم نحو ثلثهم قبل القتال، وهم أولئك الذين اتبعوا رأس النفاق عبد الله بن أبىّ، كما أن عدد الملائكة كان مساويا لعدد المشركين كانوا نحو ألف، وعدد المؤمنين نحو ثلاثمائة، وإن هذا مما يزكى أن الآية التي نتكلم في معانيها السامية نزلت في غزوة أحد.
7. قوله تعالى على لسان نبيه: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ﴾ تومئ إلى أن حالا من الخور قد اعترت نفوس بعض المحاربين، إذ إن الاستفهام كان منصبا على (لن) التي تفيد النفي المؤكد، والمعنى: أمن المؤكد أنه لا يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، وهذا فرق ما بين الاستفهام إذا دخل على (لا) والاستفهام إذا دخل على (لن) فالأول استفهام منصب على نفى غير مؤكد، والثاني استفهام منصب على نفى مؤكد، وذلك يدل على خور قد اعترى بعضهم، فكانت الحال في الابتداء عن بعض المحاربين تومئ إلى احتمال هزيمة.
8. معنى الآية الكريمة في الجملة: تذكر حالهم أيها النبيّ الكريم فبعضهم همّ بأن يفشل، وأن قوما قد نكصوا على أعقابهم، وأثر ذلك في نفوس غيرهم، وأنك بأمر ربك وعدتهم بأن يمدهم الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، أي ينزلهم الله تعالى إلى أفئدتهم فؤادا فؤادا، ويكون منهم النصر العزيز بأمر الله تعالى.
9. هذه الحال، وهى ابتلاء الوهن على نفوس بعض المسلمين، جعلت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بأمر ربه يعدهم وعدا أوفى، ويزيل احتمال عدم الكفاية من مدد الله، ويؤكد الكفاية فيقول تعالى: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ (بلى) هنا إجابة لحاجتهم من المعونة الروحية، وفيها معنى الإضراب عن الإمداد الكثير إلى الإمداد الأكثر، والمعنى: يكفيكم أن يمدكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة، ونرى من المقابلة بين النصين الكريمين أن النص الأول فيه استنكار للنفي المؤكد بـ (لن) من أن ثلاثة آلاف لا يكفى، وفي هذا النص تأكيد بأنه يكفيهم خمسة آلاف، ولكن الكفاية لا تتحقق في ثلاثة آلاف أو خمسة آلاف إلا بشرط، وهو الصبر، والتقوى، ولذا قال تعالى: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا﴾ أي إن تسربلتم سربال الصبر، واستشعرتم تقوى الله، وعلمتم أن النصر من عنده، فإنكم لا محالة منتصرون، وسيمدكم الله بروح منه، أولئك الملائكة الأطهار، وإن الصبر هو قوة الحروب، والصبر يتقاضى أن يضبط المجاهد نفسه فلا ينساق وراء هوى المال، وأن يضبط نفسه فلا يفر في لقاء، والتقوى تتقاضى التوكل بعد الأخذ في الأسباب، والاعتماد على القوى القهار الغالب على كل شيء، فبالتقوى والصبر تفيض الروحانيات المؤيدة التي هي مدد الله من الملائكة.
10. معنى ﴿وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ﴾ أي من ساعتهم، والأصل في الفور أنه مأخوذ من فوران القدر، ونحوها، ثم استعير للسرعة، ثم صار بمعنى التعقيب وعدم التراخي، ويطلق على كل حال لا تأخير فيها ولا بطء، ومعنى ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ أي مكلفين أو مرسلين.
11. معنى النص الكريم: إن تصبروا وتتقوا ويأتوا من ساعتهم وقد استعددتم له أتم استعداد، فإن الله تعالى ممدكم بخمسة آلاف من الملائكة ـ يرسلها تأييدا لكم.
12. قرر بعض العلماء أن الله أمد المؤمنين في بدر بالملائكة، ولم يمدهم بها في أحد، وقد قال في ذلك الطبري: إن الله أخبر عن نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة، ثم وعدهم بعد الثلاثة آلاف بخمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم، ولا دلالة في الآية على أنهم امتدوا بالثلاثة آلاف، ولا بالخمسة الآلاف ولا على أنهم لم يمدوا بهم ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة آلاف، ولا بالخمسة، وغير جائز أن يقال في ذلك إلا بخير تقوم الحجة به، غير أن في القرآن دلالة على أنهم أمدوا يوم بدر بألف، وذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال] أما في أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها في أنهم أمدوا، وذلك أنهم لو أمدوا لم يهزموا ونيل منهم ما نيل منهم)
13. نحن نوافق شيخ المفسرين في ذلك، ذلك أن شرط الإمداد كان الصبر والتقوى؛ والصبر أي ضبط النفس لم يكن من الرماة الذين أمرهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يحموا ظهر المؤمنين، فلا يتحركون سواء أكانت الجولة الأولى للمؤمنين أم كانت عليهم.
14. سؤال وإشكال: ما معنى الإمداد؟ وهل نزل الملائكة إلى الأرض حاملين السيوف مقاتلين في صفوف المؤمنين؟ والجواب: لقد ذكر بعض الرواة أنهم نزلوا ذلك النزول، ويكون معنى الإمداد هو الإمداد الحسى الذي يرى ويسمع ولكن ليست هذه الرواية هي المشهورة وإن الحق في الموضوع أنهم لم يروا مقاتلين، ولا محاربين.. الإمداد من مده بمعنى بسطه، ثم أطلق على الزيادة في المال والقوة، ويصح أن يطلق بمعنى الإمداد الروحي، وليس معنى الإمداد الروحي هو تقوية العزيمة فقط، بل معناه أن الله يفيض بأرواح الملائكة المطهرين، فتكون في قلوب المؤمنين تثبتهم وتقويهم، وتطهر نفوسهم، وتجعلها نحو الدين، ثم تفيض هذه الأرواح من الملائكة فتثبط المشركين وتخذلهم وتلقى الرعب في قلوبهم، فعمل الملائكة تثبيت المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، ولذا قال تعالى في غزوة بدر الكبرى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ [الأنفال] وعلى ذلك نحن نميل إلى أن نزول الملائكة نزول روحي، والأرواح الطاهرة المطهرة تحل في قلوب أهل الحق، إذا وجد عندهم الاستعداد لتلقيها، والاستعداد لتلقيها يكون بالتقوى وتخليص النفس من أهوائها، وضبط المشاعر والإحساس، حتى يكون الجو الروحي الذي يمكن أن تنزل فيه تلك الأرواح التي هي نور خلقه الله تعالى، ولذلك كان الشرط في نزول الملائكة، وإمدادهم للمؤمنين، أن يصبر المؤمنون جميعا ويتقوا، ولا يكون في فريق منهم ما يجعل للهوى في قلبه سبيلا فيمنعه من ذلك التلقي الروحي.
15. ذلك هو رأى الطبري فقد ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إذ قال: (قووا عزائمهم، وصححوا نياتهم، في قتال عدوهم من المشركين، وقيل كان ذلك بمعونتهم إياهم بقتال أعدائهم)، ونرى بهذا أنه اعتبر من قال إنهم قاتلوا معهم قوله ضعيف، ولذا عبر عنه بقيل، وقد أنكر أبو بكر الأصم من فقهاء الحنفية قتال الملائكة، وقرر أن ذلك إن كان فهو من أعظم المعجزات ولم يذكر قط أنه معجزة، ولأن ملكا واحدا يكفى لدك مدائن، فلا تكون ثمة حاجة لعدد من الملائكة ألفا أو ثلاثة آلاف أو خمسة آلاف، وإنما المراد تقوية القلوب والعزائم، قد قام الدليل من النقل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
16. ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ أي وما جعل الله تعالى ذلك الوعد الذي ساقه على لسان رسوله لكم إلا تبشيرا لكم بالنصر إن أخذتم الأهبة، وسلكتم الجادة واستقمتم في إطاعة القائد الحكيم، والمدبر العظيم، وقد كنتم في حاجة إلى هذا الوعد، إذ أصاب بعضكم الوهن عندما رجع المنافقون بجموعهم وهم ثلث الجيش يقولون: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ حتى لقد همت طائفتان منكم أن تفشلا؛ ولذلك قال تعالى: ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ فهذا الوعد الإلهي الذي جاء على لسان النبيّ الأمي كان للتبشير بالفوز إن صبروا واتقوا، ولتطمئن قلوبهم به وليذهب فزع الذين أصابهم الفزع عندما كان من المنافقين ما كان.
17. سؤال وإشكال: كيف تكون البشرى مع أن النتيجة لم تكن نصرا، والبشرى يكون فيها الفوز ولا فوز هنا، والله سبحانه وتعالى لا يتخلف قوله ولا وعده؟ والجواب: إن تلك البشارة مقرونة بشرطها من جانبهم وهى أن يتقوا ويصبروا، وما صبروا أو على الأقل ما صبر الرماة منهم لأنهم ما ضبطوا أنفسهم، بل خالفوا نهى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، واتبعوا هواهم فكان ما كان، وفوق ذلك فإن البشرى قد تحققت في أن الله تعالى ألقى في قلوب المشركين الرعب عندما تلاوموا فيما بينهم بعد أن أصابوا من المؤمنين قرحا، وقال قائلهم: (لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكتهم وحدهم وقد بقى منهم رؤوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم) وما زالوا حتى أجمعوا الكرة على المؤمنين ولكن الله تعالى أركسهم وخذلهم، وألقى في قلوبهم الرعب، فرضوا من الغنيمة بالإياب.
18. ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ هذا تقوية لمعنى البشرى، ورد على كل الأوهام التي ثارت، وفيها أمر لهم بالتفويض لربهم، وأنهم إن كانوا قد أصابتهم جراح لأخطاء ارتكبوها، ومخالفات للطاعة وقعوا فيها، فإن الله تعالى لم يتخل عنهم، ولا نصر إلا من عنده، لأن كل شيء بيده، وقد حرم المشركين من ثمرات ما فعلوا حتى عادوا من غير نصر نالوه، وإنه يعدكم النصر منه متى أخذتم بالأسباب، وتركتم عوامل الخذلان، وقد وصف ذاته الكريمة بأنه عزيز حكيم؛ لأن ذلك هو الذي يناسب المقام، فالله سبحانه عزيز غالب قهار لا يغلب، وهو حكيم لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وقد وعد بالنصر، فالنصر آت لا ريب فيه.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1393.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذه الآيات يذكّر الله المسلمين بوقعة بدر التي انتهت بالنصر، وبدر بئر بين مكة والمدينة، كانت لرجل يسمى بدرا، فسميت البئر باسمه، وكانت قوافل قريش التجارية إلى الشام تمر ببدر، وجدّ المسلمون في مهاجمة هذه القوافل التي كانت برئاسة أبي سفيان، وخرج المشركون حوالى ألف مقاتل بالعدة والعدد لحماية احدى هذه القوافل، والتحموا مع المسلمين، وكانوا 313 رجلا، وكانت هذه الوقعة نصرا مؤزرا للمسلمين، وكارثة كبرى على المشركين، وكان لها دوي عظيم في أرجاء البلاد العربية.
2. ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، هذا تذكير بنصر الله للمسلمين يوم بدر لتقوى قلوبهم، وكانوا آنذاك في قلة من العدد، وفي غير منعة من العدة، إذ كان عدد المسلمين 313 رجلا، ولم يكن معهم الا فرس واحد، وكان المشركون حوالى ألف، ومعهم مائة فرس، ومع ذلك قتل من المشركين 70، وأسر 70، وانهزم الباقون.
3. القصد من تذكيرهم هذا أن يبين لهم ان الانتصار في معركة من المعارك لا يعد نصرا حاسما، ولا الانكسار في معركة من المعارك يكون انكسارا نهائيا، وإنما النصر النهائي للصابرين الثابتين، والمتقين المخلصين، وقد دلت الأحداث والحروب قديما وحديثا على هذه الحقيقة وصحتها بخاصة الحرب العامة الأخيرة التي ابتدأت سنة 1939، وانتهت سنة 1945.
4. ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، كان هذا القول من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم بدر: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾، أي نازلين من السماء.
5. ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾، بلى إيجاب للنفي، أي يكفيكم هذا الامداد، وضمير الغائب في يأتوكم للمشركين، وضمير المخاطب للمؤمنين، ومن فورهم أي من ساعتهم، ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾، مسومين من السيماء، أي لهم علامة تدل عليهم.
6. دل قول الله هذا دلالة لا تقبل التأويل انه جلت قدرته قد أمد المسلمين بالملائكة في بعض حروبهم، وقد دلت الروايات الكثيرة، واتفق المسلمون على ان الله أنزل الملائكة يوم بدر لنصرة المؤمنين، واختلفوا في إنزالهم يوم أحد، وليس من شك ان الله سبحانه أنزل الملائكة يوم بدر لنصرة المؤمنين، ولكن لا نعلم نوع هذا النصر: هل كان نصرا ماديا كالقتال، أو نصرا معنويا كتخويف المشركين، وحصول الطمأنينة للمؤمنين؟ الله أعلم.. ولا يجب علينا البحث والتنقيب عن ذلك: على انه إذا بحثنا فلن نصل إلى يقين.
7. هناك أدلة تفيد ان الملائكة تتصور بصورة البشر، منها ما أخبر الله به عن ضيف ابراهيم عليه السلام في الآية 51 وما بعدها من سورة الحجر: ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾، ومنها عن ضيوف لوط الآية 77 سورة هود، ومنها قوله تعالى: ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ ـ 17 مريم)، ومنها ان جبريل كان يأتي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في صورة دحية الكلبي.. ولكن تصور الملائكة بصورة البشر لا يحتم انهم قاتلوا من أجل المسلمين، بل من الجائز أن يناصروهم بطريق آخر غير القتال.
8. سؤال وإشكال: ان الله سبحانه قال في الآية 9 من سورة الأنفال: ﴿أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾، وقال في الآية 124 من آل عمران: ﴿يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾، وقال في الآية التي بعدها بلا فاصل: ﴿إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾، هل أمدهم الله أولا بألف، ثم بثلاثة، ثم بخمسة، حتى صار المجموع تسعة، أو ماذا؟ والجواب: مما أجيب به عن ذلك:
أ. ان الله أمدهم أولا بألف مردفين، أي لهم تبع، ثم ضم إلى الألف ألفين، فصاروا ثلاثة، ثم ضم إلى الثلاثة ألفين آخرين، فصار المجموع خمسة.
ب. وقال قائل: ان الله أمد المسلمين يوم بدر بألف، ثم بلغهم ان بعض المشركين يريد أن يمد قريشا بعدد كبير من المقاتلين، فخاف المسلمون، وشق ذلك عليهم، لقلة عددهم، فوعدهم بخمسة آلاف من الملائكة ان جاء المدد إلى قريش، ولكن بثلاثة شروط، وهي الصبر والتقوى ومجيء الكفار على الفور، كما نطقت الآية: ﴿إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾.. ولكن هذا المدد لم يأت قريشا، فاستغنى المسلمون عن الامداد بالزيادة على الألف.
9. ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾، الهاء في (جعله) يعود على غير مذكور بلفظه وهو الامداد والوعد به، وإنما استخرجناه من يمدد، وهو المعبر عنه بالمصدر المتصيد، والمعنى ان الله سبحانه أمدكم بالملائكة، أو وعدكم بالامداد، لتسكن قلوبكم، فلا تخافوا من كثرة العدد في عدوكم ولا تيأسوا لقلة عددكم.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/151.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾) إلى آخر الآية ظاهر السياق أن تكون الآية مسوقة سوق الشاهد لتتميم العتاب وتأكيده فتكون تؤدي معنى الحال كقوله: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾، والمعنى: وما كان ينبغي أن يظهر منكم الهم بالفشل وقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة، وليس من البعيد أن يكون كلاما مستقلا سيق مساق الامتنان بذكر نصر عجيب من الله بإنزال الملائكة لإمدادهم ونصرهم يوم بدر.
2. لما ذكر تعالى نصره إياهم يوم بدر وقابل ذلك بما هم عليه من الحال ـ ومن المعلوم أن كل من اعتز فإنما يعتز بنصر الله وعونه فليس للإنسان من قبل نفسه إلا الفقر والذلة ـ ولذلك قال: ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾، ومن هنا يعلم أن قوله: ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ لا ينافي أمثال قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، فإن عزتهم إنما هي بعزة الله، قال تعالى: ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾، وذلك بنصر الله المؤمنين كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، فإذا كان الحال هذا الحال فلو اعتبر حال المؤمنين من حيث أنفسهم لم يكن لهم إلا الذلة، على أن واجهة حال المؤمنين أيضا يوم بدر كانت تقضي بكونهم أذلة قبال ما كان عليه المشركون من القوة والشوكة والزينة، ولا ضير في إضافة الذلة النسبية إلى الأعزة، وقد أضافها الله سبحانه إلى قوم مدحهم كل المدح حيث قال: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾
3. ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ الإمداد من المد وهو إيصال المدد على نعت الاتصال، ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾ بلى كلمة تصديق والفور والفوران: الغليان يقال: فار القدر إذا غلا وجاش، ثم أستعير للسرعة والعجلة فاستعمل في الأمر الذي لا ريث فيه ولا مهلة فمعنى من فورهم هذا من ساعتهم هذه.
4. الظاهر أن مصداق الآية هو يوم بدر، وإنما هو وعد على الشرط وهو ما يتضمنه قوله: ﴿إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾، وأما ما يظهر من بعض المفسرين أنه وعد بإنزال الملائكة إن جاءوهم بعد فورهم هذا يعني يوم بدر بأن يكون المراد ﴿مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾ هو يوم بدر لا في يوم بدر، وكذا ما يظهر من بعض آخر أنه وعد بإنزالهم في سائر الغزوات بعد بدر كأحد وحنين والأحزاب فمما لا دليل عليه من لفظ الآية، أما يوم أحد فلا محل لاستفادة نزول الملائكة فيه من الآيات وهو ظاهر، وأما يوم الأحزاب ويوم حنين فالقرآن وإن كان يصرح بنزول الملائكة فيهما فقد قال في قصة الأحزاب: ﴿إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾، وقال: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾ إلى أن قال: ﴿وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾ إلا أن لفظ هذه الآية: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾ قاصر عن إفادة عموم الوعد.
5. أما نزول ثلاثة آلاف يوم بدر فلا ينافي قوله تعالى في سورة الأنفال: ﴿فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ لمكان قوله: ﴿مُرْدِفِينَ﴾ أي متبعين لآخرين وهم الألفان الباقيان المكملان للعدد على ما ذكر في هذه الآيات.
6. ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ﴾ الضمير راجع إلى الإمداد، ولفظة عند ظرف يفيد معنى الحضور، وقد كان أولا مستعملا في القرب والحضور المكاني المختص بالأجسام ثم توسع فاستعمل في القرب الزماني ثم في مطلق القرب والحضور المعنوي كيفما كان، وقد استعمل في القرآن في مختلف الفنون.
الذي يفيده في هذا المقام أعني قوله: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ بالنظر إلى ما سبقه من قوله: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ هو المقام الربوبي الذي ينتهي إليه كل أمر وحكم، ولا يكفي عنه ولا يستقل دونه شيء من الأسباب، فالمعنى: أن الملائكة الممدين ليس لهم من أمر النصر شيء بل هم أسباب ظاهرية يجلبون لكم البشرى وطمأنينة القلب، وإنما حقيقة النصر من الله سبحانه لا يغني عنه شيء، وهو الله الذي ينتهي إليه كل أمر، العزيز الذي لا يغلب، الحكيم الذي لا يجهل.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/8.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ﴿أَذِلَّةً﴾ بالفقر، وقلة العدة للجهاد مع قلتهم في العدد، فالأذلة هنا مقابل الأعِزّاء، وذلك لأنهم كانوا مستضعفين لقلة عددهم وكثرة أعدائهم في الأرض، وإنما اعتزوا بالجهاد في (بدر) والصبر، حتى نصرهم الله وأعزهم وأخرجهم بنصره من الذلة إلى العزة.
2. ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ باجتناب معاصيه من الفشل عن الجهاد وغيره ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ بالتقوى، فالجهاد وسائر الطاعات من الشكر ونعمة النصر يوم بدر يجب عليكم شكرها فاتقوا الله رجاء أن تشكروا النعمة.
3. ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ ﴿إِذِ﴾ هذه هي الثالثة في هذه القصة، فلعل الأولى منصوبة بـ (أذكر) وما بعدها بدل من الأولى، تقول يا محمد لتشجع المؤمنين: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ لتثبتوا على الجهاد ﴿أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ﴾ اللطيف بكم الذي هو وليكم ﴿بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ من السماء بأمر الله، ينزلهم إمداداً لكم وتأييداً.
4. ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ ﴿بَلَى﴾ جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ألا يزيد على ثلاثة آلاف فأجيب بلى يزيد بأن يجعل المدد خمسة آلاف من الملائكة.
5. ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ أهل سمات وعلامات، والسمة: العلامة، وكانوا يتخذون السمات لتحدي الأبطال، مثل ريشة يغرزها البطل في عمامته، أو عصابة حمراء يعصب بها رأسه، والوعد هذا مشروط بالصبر والتقوى؛ لئلا يبطل الابتلاء بالجهاد وبذل النفوس لله فالإمداد متوقف على أن يصبروا في الجهاد ويتقوا الله فلا يخالفوا أمراً من أوامر الله ورسوله، وأما الآية التي قبلها فليس فيها وعد بالمدد، وإنما هو عرض عليهم وسؤال: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ وليس ذلك وعداً، إنما الوعد في الثانية، ولكنه مشروط بالصبر والتقوى.
6. ﴿وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾ أي الأعداء إن أتوكم في فورهم هذا، أي لم يتراخ إتيانهم ولم يتأخر، ولعلهم قد أقبلوا فكان فورهم مواصلتهم الهجوم حتى يأتوا المؤمنين.
7. ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ وما جعل هذا الوعد المشروط ﴿إِلَّا بُشْرَى﴾ تستبشرون بها أي تسرون، وفي هذا السرور معونة وتخفيف من الشّدّة، فهو رحمة.
8. جعل الله هذا الوعد ﴿ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ لأنه يفيد: أنكم إذا صبرتم واتقيتم، جاء المدد وعند ذلك ترجون النصر، ومقتضى ذلك: أنكم تفهمون من هذا الوعد أنكم لن تغلبوا إن تصبروا وتتقوا وذلك سبب لاطمئنان قلوبكم وذهاب القلق الذي سببه قلتكم وكثرة الأعداء.
9. ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ لا من الملائكة، ولا من كثرة العدد، لأن النصر يكون بتقوية القلوب والأبدان، وإلقاء الرعب في قلوب الأعداء المخذولين وهذا لا يقدر عليه إلا الله ﴿الْعَزِيزِ﴾ الغالب الذي لا ينال ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي يفعل ما هو حكمه وخير، وفيه إشارة إلى أنه إن نصر المؤمنين فالحكمة تقتضي النصر وإن حبس عنهم النصر وأصيبوا فالحكمة تقتضي ذلك.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/529.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذه الآيات حديث عن معركة بدر التي كانت أوّل معركة بين المسلمين والمشركين، وقد واجه فيها المسلمون التحدي الكبير في صراع القوة الذي حدد للمسيرة الإسلامية طريقها الطويل على هدى مواجهة القوة بالقوة على أساس الحق والعدل.. وكانوا في موقع الضعف من حيث العدد والعدّة بينما كانت قريش التي تمثل قوّة الشرك، كبيرة فيهما معا، ولكن الله أراد للمسلمين النصر، فأودع بينهم ـ من خلال إيمانهم ـ روح الإرادة والعزم على المجابهة حتى النهاية والتضحية حتى الاستشهاد، وأثار في جوّ المعركة لونا من ألوان الغيب الإلهي المتمثل في نزول الملائكة بطريقة خفيّة من أجل دعم الروح المعنوية التي كانت معرّضة للانهيار بفعل الظروف الصعبة المحيطة بالمعركة التي لم تكن معدّة إعدادا دقيقا.
2. سؤال وإشكال: لم هذه الإثارة لمعركة بدر في أجواء معركة أحد؟ هل المقصود هو ربط الذكريات بمثلها في خلق جوّ من التشجيع النفسي حتى يقدم الناس على المعارك الجديدة بروحية المعارك القديمة، أو أن المقصود هو ما ذكره البعض من بيان قضية حاسمة وهي أن الانتصار في معركة من المعارك لا يعدّ نصرا حاسما، ولا الانكسار في معركة من المعارك يكون انكسارا نهائيا، وإنّما النصر النهائي للصابرين الثابتين والمتقين المخلصين، أو أن هناك شيئا آخر ربما يكون أبعد من هذا الوجه أو ذاك، وإن كان غير مناف لهما من حيث الجوّ العام؟ والجواب: لعل المقصود من ذلك ـ والله العالم ـ هو التأكيد على ربط النصر بالله في المعارك الإسلامية الفاصلة، حتى يظل المؤمن مشدودا لله في حربه في عمليّة تعميق الإحساس بالقوة، وعدم الخضوع للأوضاع الاستعراضية المضادة التي يراد منها هزيمة المسلمين روحيا ونفسيّا، وذلك باستحضار قوّة الله وعنايته بعباده المؤمنين ورعايته لهم في كل أوضاعهم ومشاكلهم، والشعور بأنّ قوّتهم لا تمثّل إلّا ظلا خفيفا من ظلال قوّة الله ورحمته؛ فهم يشكّلون ـ في هذا المجال ـ دور الإرادة المنفعلة بخالقها لا دور القوّة المستقلة بذاتها.. فإذا كان النصر، ذكروا الله بالإحساس بالامتنان على ما هيّألهم من أسبابه، وإذا كانت الهزيمة، ذكروا الله معها وعرفوا بأنها كانت نتيجة طبيعية لعدم الأخذ بأسباب النصر، ولنسيان الله في أكثر حالاتهم.. وهكذا يتأكد الإيمان بالله كحقيقة تهز كيانهم بالحركة والإشراق والانفتاح على الحياة بكل عناصرها الفاعلة المتنوّعة، فلا يبقى مجرد فكرة تعيش في زاوية مغلقة من زوايا الشخصية الإنسانية بشكل عادي جامد، وهذا ما يريد القرآن أن يثيره في أعماق الشخصية وفي كل النشاطات الإنسانية، بأن يظل الإنسان خاضعا لعبوديته لله واستسلامه له في أموره حتى ليشعر أنه لا يستطيع أن يحرّك أيّ شيء إلّا بالله ومن الله، وهذا ما نواجهه بارزا في هذه الآيات.
3. ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ ضعفاء لا تملكون أيّة فرصة عادية للقوّة والعزة ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ في مسيرتكم وفي وعيكم للدور الذي يجب أن تقوموا به في الجهاد في سبيل الله والعمل من أجله.. ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ لأن التدبّر في آفاق نصر الله لعباده المستضعفين يفرض الشكر العملي على الإنسان في كل ممارساته ومنطلقاته.
4. كان المؤمنون يعيشون حالة نفسيّة سيّئة عندما كانوا يدخلون في عملية المقارنة المادية بين قوّتهم وقوّة المشركين، فلا يجدون أيّ أساس للشعور بالتكافؤ فضلا عن التفوق، لأن أيّا من هذين المبدأين يخضع في طبيعته لمعادلات عددية ومادّية غير موجودة لدى المسلمين، وربّما أثار ذلك في نفوسهم بعض المشاعر السلبية التي قد تشارك في دفعهم إلى الهزيمة، فأراد الله أن يدخل الطمأنينة إلى قلوبهم بالإيحاء لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يدخل معهم في حوار من أجل غرس الثقة في نفوسهم.
5. ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ من السماء!؟ وكان هذا أمرا مثيرا لهم، فإذا كانت قريش تبلغ ألفا في عدد المقاتلين القادمين إلى المعركة، فها هم الملائكة، الذين يتمتعون بقوّة هائلة لا تصمد أمامها أيّة قوّة إنسانية، ينضمون إليهم بثلاثة أضعاف عدد قريش.
6. تبلغ الإثارة حدّا تصاعديا يساهم في تقوية المشاعر إلى مستوى أفضل، فها هو العدد يتزايد، ولكن بشرط واحد وهو الصبر على كل تحديات المعركة، وتقوى الله في كل خطواتها في ما تفرضه من انضباط والتزام بكل تعاليم الله وأحكامه.. ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾ ويعاجلوكم بالحرب قبل أن يكمل استعدادكم للمجابهة ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ أي معلّمين ـ من السيماء ـ.
7. سؤال وإشكال: لكن هل دخل الملائكة ساحة الحرب، وهل كانت المهمّة الموكولة إليهم أن يقاتلوا المشركين؟ وإذا كان الأمر كذلك ـ كما تحب بعض الروايات أن تقول ـ فما هي قيمة المسلمين، وما هو دورهم في المعركة؟ وكيف يمكن أن يقتل من المسلمين العدد الذي قتل منهم في المعركة، في الوقت الذي يقف الملائكة كشركاء معهم في القتال!؟ والجواب: ربّما توحي الآية الآتية بأن القضية كانت إمدادا معنويا يقصد من خلاله رفع الروح المعنوية لدى المسلمين بالشعور بأن الملائكة يطوفون بأجواء المعركة، فيشعرون بالأمن والطمأنينة والاندفاع نحو العدوّ بشدّة وقوّة، وهذا ما نستقربه، وإن كنا لا نجزم به، لأنّ من الممكن أن يكون هناك تفسيرات تتصل بالغيب الذي لا نستطيع تفسيره بطريقة مادية، ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ فليست القضية أن يقاتل الملائكة ليكون النصر مستندا إليه، فإن النصر من عند الله، فالله هو الذي يهيّئ للنصر أسبابه، ويرعاه بألطافه، ويخلق الظروف الموضوعية التي تنفتح به على النتائج الحاسمة، ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾، أمّا هدف ذلك فهو إسقاط قوّة الكفر أو إضعافها.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/251.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد انتهاء معركة (أحد) عاد المشركون المنتصرون إلى مكّة بسرعة، ولكنّهم بدا لهم في أثناء الطريق أن لا يتركوا هذا الانتصار دون أن يكملوه ويجعلوه ساحقا، أليس من الأحسن أن يعودوا إلى المدينة، وينهبوها ويلحقوا بالمسلمين مزيدا من الضربات القاضية وأن يقتلوا محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا كان لا يزال حيّا ليتخلصوا من الإسلام والمسلمين ويطمئن بالهم من ناحيتهم بالمرّة، لهذا صدر قرار بالعودة إلى المدينة، ولا ريب أنه كان أخطر مراحل معركة (أحد) بالنظر إلى ما كان قد لحق بالمسلمين من القتل والجراحة والخسائر، الذي كان قد سلب منهم كلّ طاقة للدخول في معركة جديدة أو لاستئناف القتال، فيما كان العدو في ذروة القوّة والروحية العسكرية التي كانت تمكن العدو من تحقيق انتصارات جديدة، وإحراز النتيجة لصالحه، فنهاية هذه العودة ونتيجتها كانت معروفة سلفا.
2. بلغ خبر العودة هذه إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولولا شهامته البالغة، وقدرته المكتسبة من الوحي على الأخذ بزمام المبادرة لانتهى تاريخ الإسلام وحياته عند تلك النقطة.
3. في هذه المرحلة الحساسة بالذات نزلت الآيات الحاضرة لتقوي روحية المسلمين وتصعد من معنوياتهم، وفي أعقاب ذلك صدر أمر من النبي إلى المسلمين بالتهيؤ لمقابلة المشركين، فاستعد جميع المسلمين حتّى المجروحين ـ ومنهم الإمام علي عليه السّلام الذي كان يحمل في جسمه أكثر من ستين جراحة ـ لمقابلة المشركين، وخرجوا بأجمعهم من المدينة لذلك، فبلغ هذا الخبر مسامع زعماء قريش فأرعبتهم هذه المعنوية العالية التي يتمتع بها المسلمون وظنوا أن عناصر جديدة التحقت بالمسلمين وإن هذا يمكن أن يغير نتائج المواجهة الجديدة لصالح المسلمين، ولذلك فكروا في العدول عن قرارهم بمهاجمة المدينة، حفاظا على قواهم، وهكذا قفلوا راجعين إلى مكة بسرعة، وانتهت القضية عند هذا الحدّ.
4. إليك شرحا للآيات التي نزلت لتقوّي روحية المسلمين، وتجبر ما نزل بهم من هزيمة في هذه المعركة، فقد بدأت هذه الآيات بتذكير المسلمين بما تحقق لهم من نصر ساحق بتأييد الله لهم في (بدر) إذ قال سبحانه ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ وقد كان الهدف من هذا التذكير هو شد عزائم المسلمين وزرع الثقة في نفوسهم والاطمئنان إلى قدراتهم، والأمل بالمستقبل، فقد نصرهم الله وهم على درجة كبيرة من الضعف، وقلة العدد وضآلة العدة (حيث كان عددهم 313 مع امكانيات بسيطة قليلة، وكان عدد المشركين يفوق ألف مقاتل مع امكانيات كبيرة)، فإذا كان الأمر كذلك فليتقوا الله، وليجتنبوا مخالفة أوامر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليكونوا بذلك قد أدوا شكر المواهب الإلهية ﴿فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
5. ثمّ تتعرض الآية اللاحقة لذكر بعض التفاصيل حول ما جرى في (بدر) إذ قالت: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ أي اذكروا واذكر أيّها النبي يوم كنت تقول للمسلمين الضعفاء آنذاك اخرجوا وسيمدكم الله بالملائكة ألا يكفيكم ذلك لتحقيق النصر الساحق على جحافل المشركين المدججين بالسلاح؟ نعم أيها المسلمون لقد تحقّق لكم ذلك في (بدر) نتيجة صبركم واستقامتكم، واليوم يتحقّق لكم ذلك أيضا إذا أطعتم أوامر النبي، وسرتم وفق تعليماته وصبرتم: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ﴾ ﴿هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾
6. على أن نزول الملائكة هذا لن يكون هو العامل الأساسي لتحقيق هذا الانتصار لكم بل النصر من عند الله، وليس نزول الملائكة إلّا لتطمئن قلوبكم ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾، فهو العالم بسبل النصر ومفاتيح الظفر، وهو القادر على تحقيقه.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/677.
67. التدبير الإلهي والكفار المعتدون
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈67⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 127 ـ 129]
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من تكذيب(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٥٨.
ابن المسيب:
روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) والشعبي وابن إسحاق أنّهم قالوا: لما رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمون يوم أحد ما بأصحابهم من جدع الآذان والأنوف، وقالوا: لئن أدالنا الله تعالى منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا، ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد، فأنزل الله تعالى هذه الآية(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٤٦.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ يغفر لمن يشاء الكثير من الذنوب، ﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ على الصغيرة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٥٨.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: مكث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكة خمس عشرة سنة، منها أربع أو خمس يدعو إلى الإسلام سرا وهو خائف، حتى بعث الله على الرجال الذين أنزل فيهم: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾... ثم أمر بالخروج إلى المدينة، فقدم في ثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول، ثم كانت وقعة بدر، ففيهم أنزل الله: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ﴾ [الأنفال: ٧]، وفيهم نزلت: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ﴾ [القمر: ٤٥]، وفيهم نزلت: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ﴾ [المؤمنون: ٦٤]، وفيهم نزلت: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، وفيهم نزلت: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾، أراد الله القوم، وأراد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم العير... وفيهم نزلت: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا﴾ [آل عمران: ١٣] في شأن العير(1).
1. روي أنّه قال: أدمى رجل من هذيل يقال له عبد الله بن قمئة وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد، فدعا عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان حتفه أن سلط الله عليه تيسا فنطحه حتى قتله(2).
__________
(1) عبد الرزاق: ٥/٣٦١.
(2) أورده الثعلبي: ٣/١٤٧ عن عكرمة وقتادة.
سالم:
روي عن سالم بن عبد الله بن عمر (ت 106 هـ) قال وقوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ نزلت في سهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، والحارث بن هشام، كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعو في الصلاة، فنزلت فيهم هذه الآية(1).
__________
(1) ابن منده في معرفة الصحابة: ٢/٦٧٣.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ)
1. روي أنّه قال: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾ هذا يوم بدر، قطع الله طائفة منهم، وبقيت طائفة(1).
2. روي أنّه قال: بلغني: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما انكشف عنه أصحابه يوم أحد كسرت رباعيته، وجرح وجهه، فقال وهو يصعد على أحد: (كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم، وهو يدعوهم إلى ربهم!؟)، فأنزل الله مكانه: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ الآية(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٤٠.
(2) ابن جرير: ٦/٤٤.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قطع الله يوم بدر طرفا من الكفار، وقتل صناديدهم ورؤوسهم وقادتهم في الشر(1).
2. روي أنّه قال: ذكر لنا: أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد، وقد جرح في وجهه، وأصيب بعض رباعيته، وفوق حاجبه، فقال ـ وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم ـ: (كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم، وهو يدعوهم إلى ربهم!؟)، فأنزل الله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ الآية(2).
3. روي أنّه قال: أن رباعية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أصيبت يوم أحد، أصابها عتبة بن أبي وقاص، وشجه في وجهه، فكان سالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (كيف يفلح قوم صنعوا هذا بنبيهم!؟)، فأنزل الله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ الآية(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٤٠.
(2) ابن جرير: ٦/٤٥.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾ معناه ليهلك ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ أي يصرعهم(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 113.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: التقوا ببدر، أصحاب رسول الله يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، والمشركون بين الألف والتسع مائة، وكان ذلك يوم الفرقان(1).
__________
(1) ابن المنذر: ١/٣٦٢.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ذكر الله قتلى المشركين بأحد، وكانوا ثمانية عشر رجلا، فقال: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، ثم ذكر الشهداء، فقال: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا﴾ الآية(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾، معناه: ليهدم ركنا من أركان الشرك بالقتل والأسر، فقتل من سادتهم وقادتهم يوم بدر سبعين، وأسر منهم سبعين(2).
3. روي أنّه قال: ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ يلعنهم(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٤١.
(2) تفسير الثعلبي: ٣/١٤٥.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فقطع الله يوم بدر طرفا من الكفار، وقتل صناديدهم ورؤساءهم، وقادتهم في الشر(1).
2. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد، وقد شج في وجهه، وأصيبت رباعيته، فهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يدعو عليهم، فقال: (كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى الشيطان، ويدعوهم إلى الهدى ويدعونه إلى الضلالة، ويدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار!؟)، فهم أن يدعو عليهم؛ فأنزل الله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ الآية؛ فكف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الدعاء عليهم(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٤٠.
(2) ابن جرير: ٦/٤٥.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ يهزمهم(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٤٥.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لْيَقْطَعْ﴾ لكي يقطع ﴿طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من أهل مكة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَيَنْقَلِبُوا﴾ إلى مكة ﴿خَائِبِينَ﴾ لم يصيبوا ظفرا ولا خيرا، فلم يصبر المؤمنون، وتركوا المركز، وعصوا، فرفع عنهم المدد، وأصابتهم الهزيمة بمعصيتهم، فيها تقديم(1).
3. روي أنّه قال: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ فيهديهم لدينه، ﴿أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ على كفرهم، ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾(2).
4. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ لَكَ﴾ يا محمد: ﴿مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾، وذلك أن سبعين رجلا من أصحاب الصفة فقراء كانوا إذا أصابوا طعاما فشبعوا منه تصدقوا بفضله، ثم إنهم خرجوا إلى الغزو محتسبين إلى قتال قبيلتين من بني سليم: عصية، وذكوان، فقاتلوهم، فقتل السبعون جميعا، فشق على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه قتلهم، فدعا عليهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أربعين يوما في صلاة الغداة؛ فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾(2).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٩٩.
(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٠٠.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، أي: ليقطع طرفا من المشركين بقتل ينتقم به منهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ بقتل ينتقم به منهم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾ أو يردهم خائبين، أي: يرجع من بقي منهم خائبين؛ لم ينالوا شيئا مما كانوا يأملون(3).
4. روي أنّه قال: ثم قال لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾، أي: ليس لك من الحكم في شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم، أو أتوب عليهم برحمتي، فإن شئت فعلت، أو أعذبهم بذنوبهم ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾، أي: قد استحقوا ذلك بمعصيتهم إياي(4).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٤٠.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٥٦.
(3) ابن جرير: ٦/٤١.
(4) ابن جرير: ٦/٤٣.
ابن سلام:
روي عن يحيى بن سلام (ت 200 هـ) أنّه قال: فيها تقديم وتأخير؛ قال ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾، ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾، ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾(1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٣١٧.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾:
أ. قال قتادة: كان يوم بدر قتل صناديدهم وقادتهم في الشر.
ب. وقيل: ﴿طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ جماعة.
ج. وقيل: ﴿طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ﴾ يعني: أهل مكة.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾:
أ. قيل: يخزيهم.
ب. وعن ابن عباس قال: الكبت: الهزيمة.
ج. وقيل: الكبت: هو الصرع على وجهه.
3. ﴿فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾، الخائب: هو الذي لم يظفر بحاجته، أي: رجعوا ولم يصيبوا ما أمّلوا.
4. ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ إنما أنت عبد مأمور؛ فليس لك من الأمر؛ إنما ذلك إلى الواحد القهار، الذي لا شريك له ولا ندّ؛ كقوله: ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله﴾ [آل عمران: 154]
5. ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ الآية، فيه: أنه كان من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم معنى قولا وفعلا، حتى ترك قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ ولكنا لا نعلم ذلك المعنى، غير أنه:
أ. قيل في بعض القصّة: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شج يوم أحد في وجهه، وكسرت رباعيته، فدعا عليهم؛ فنزل قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾
ب. وقيل: إن سرية من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرجوا إلى قتال المشركين يقاتلونهم حتى قتلوا جميعا، فشق على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه بقتلهم، فدعا عليهم باللعنة ـ يعني: على المشركين ـ أربعين يوما في صلاة الغداة؛ فنزل قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾
ج. وعن ابن عمر قال قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد: (اللهمّ العن أبا سفيان، اللهمّ العن فلانا، حتى لعن نفرا منهم)، فنزل قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ الآية.
د. وقيل: إن نفرا من المسلمين انهزموا، فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزل: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾، فأمره بكف الدعاء عنهم، والله أعلم بالقصّة في ذلك.
6. قوله تعالى: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. فإن كانت القصة في الكفار فكأنه طلب التوبة والهدى، وأفرط في الشفقة فقال: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ فيهديهم لدينه، ﴿أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ على كفرهم؛ ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ كقوله: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: 56]
ب. فإن كان في المؤمنين فقوله: ﴿يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ عن ذنبهم الذي ارتكبوا، ﴿أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ بذنبهم، ولا يعفو عنهم، والله أعلم بذلك.
7. في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ الآية دلالة ما ذكرنا في قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ إنما الأمر إلى الله، الذي له ما في السماوات وما في الأرض، هو الذي يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء.
8. في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ جواز العمل بالاجتهاد؛ لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم عمل بالاجتهاد لا بالأمر، حتى منع عنه.
9. قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل أن يكون على أثر أمر مما جبل عليه البشر ما رأى في ذلك صلاح الخلق، ومما عليه التدبير بحيث الإطلاق فقيل هذا، وإن كان على ما رأيت فليس لك من أمر هذا شيء، وإنما الذي إليك الصفح عن ذلك والإعراض، والله أعلم ما كان.
ب. ويحتمل أن يكون يبتدئ القول به من غير أن يسبق منه ما يعاتب عليه أو يمنع منه؛ ليكون ـ أبدا ـ متقبلا الإذن له في كل شيء والأمر، ولا يطمع نفسه في شيء لم يسبق له البشارة به، على أن النهي والوعيد أمران جائزان، وإن كان قد عصم عن ركوب المنهي، ووجوب الوعيد؛ إذ هنالك تظهر رتبة العصمة، ولا قوة إلا بالله.
ج. والظاهر أن يكون على إثر أمر استعجل ذلك من: دعاء الإهلاك أو الهداية لقبول الحق والخضوع له؛ فيقول: ليس لك شيء من ذلك في أحد على الإشارة إليه، إنما ذلك إلى الله، يصنع فيهم ما عنده من الثواب أو التعذيب، على قدر ما يعلم من إقبالهم على الطاعة له أو نفاذهم عنها، والله أعلم.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/472.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله عز وجل: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾: يريد أنه فعل ذلك ليقطع طرفاً منهم بالقتل، و﴿يَكْبِتَهُمْ﴾: أي يردهم ويغيظهم ويخزيهم حتى يرجعوا منهزمين خائبين، ولا يظفروا بما أرادوا من هلاك المؤمنين.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 263.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني يوم بدر بقتل من كان من صناديد المشركين وقادتهم إلى الكفر وإنما قال ليقطع طرفاً ولم يقل وسطاً لأن الطرف أقرب إلى المؤمنين من الوسط فاختص القطع مما هو إليهم كما قال ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾ [التوبة:123]، ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾ والكبت الصرع على الوجه والفرق بين الخائب والآيس أن الخيبة لا تكون إلا من بعد أمره واليأس قد يكون من قبل أمره.
2. ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ أي فيما ندبره ونفعله في أصحابك وإنما ذلك إلى الله عز وجل فيما يفعله من اللطف بهم في التوبة عليهم واستصلاحهم أو في عذابهم والانتقام منهم.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/151.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه كان يوم بدر بقتل صناديدهم وقادتهم إلى الكفر، وهذا قول الحسن وقتادة.
ب. الثاني: أنه كان يوم أحد، وكان الذي قتل منهم ثمانية عشر رجلا، وهذا قول السدي.
2. ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾ ولم يقل وسطا لأن الطرف أقرب للمؤمنين من الوسط، فاختص القطع بما هو إليهم أقرب كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾ [التوبة: 123] ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾
3. في قوله تعالى: ﴿يَكْبِتَهُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: يحزنهم، وهو قول قتادة، والربيع.
ب. الثاني: الكبت: الصرع على الوجه، وهو قول الخليل.
4. الفرق بين الخائب والآيس أن الخيبة لا تكون إلا بعد أمل، واليأس قد يكون قبل أمل.
5. في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: ليس لك من الأمر شيء في عقابهم واستصلاحهم، وإنما ذلك إلى الله تعالى في أن يتوب عليهم أو يعذبهم.
ب. الثاني: ليس لك من الأمر شيء فيما تريده وتفعله في أصحابك وفيهم، وإنما ذلك إلى الله تعالى فيما يفعله من اللطف بهم في التوبة والاستصلاح أو في العذاب والانتقام.
ج. الثالث: أنزلت على سبب لما كسرت رباعيته صلّى الله عليه وآله وسلّم.
6. اختلفوا في السبب فيه على قولين:
أ. أحدهما: أن قوما قالوا بعد كسر رباعيته: كيف يفلح قوم نالوا هذا من نبيهم، وهو حريص على هدايتهم فنزلت هذه الآية، وهذا قول ابن عباس، وأنس بن مالك، والحسن، وقتادة، والربيع.
ب. الثاني: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم همّ بعد ذلك بالدعاء عليهم فاستأذن فيه، فنزلت هذه الآية فكف وإنما لم يؤذن فيه لما في المعلوم من توبة بعضهم.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/423.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يحتمل أن يتصل بثلاثة أشياء:
أ. أحدها: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ﴾
ب. الثاني: بقوله: ولقد نصركم الله ببدر ليقطع طرفاً.
ج. الثالث: ذلك التدبير ليقطع طرفاً.
2. اختلف في اليوم الذي قطع فيه الطرف من الذين كفروا:
أ. قيل: هو يوم بدر بقتل صناديدهم ورؤسائهم وقادتهم إلى الكفر في قول الحسن، والربيع، وقتادة.
ب. وقال السدي: هو يوم أحد قتل منهم ثمانية عشر رجلا.
3. إنما قال: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾ منهم ولم يقل ليقطع وسطاً منهم، لأنه لا يوصل إلى الوسط منهم إلا بعد قطع الطرف، ومثله ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ﴾ والمراد بالآية ليقطع قطعة منهم.
4. ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ فالكبت الخزي، ومعناه أو يخزيهم في قول الربيع، وقتادة، وقال الخليل: الكبت صرع الشيء على وجهه كبتهم الله فانكبتوا، وحقيقة الكبت شدة وهن يقع في القلب فربما صرع الإنسان لوجهه للخور الذي يدخله.
5. ﴿فَيَنْقَلِبُوا﴾ أي فيرجعوا ﴿خَائِبِينَ﴾ الخائب المنقطع عما أمل، ولا تكون الخيبة إلا بعد الأمل، لأنها امتناع نيل ما أمل، واليأس قد يكون قبل الأمل ويكون بعده، واليأس والرجاء نقيضان يتعاقبان كتعاقب الخيبة والظفر، يقال: خاب يخيب خيبة وخيبه الله تخييباً، والخيبة حرمان المراد.
6. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾:
أ. روي عن أنس بن مالك وابن عباس، والحسن، وقتادة، والربيع: انه لما كان من المشركين يوم أحد من كسر رباعية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وشجه حتى جرت الدماء على وجهه، قال كيف يفلح قوم نالوا هذا من نبيهم، وهو مع ذلك حريص على دعائهم إلى ربهم، فنزلت هذه الآية، فأعلمه الله أنه ليس إليه فلاحهم وأنه ليس إليه إلا أن يبلغ الرسالة ويجاهد حتى يظهر الدين، وكان الذي كسر رباعيته وشجه في وجهه عتبة بن أبي وقاص، فدعا عليه السلام عليه الا يحول عليه الحول حتى يموت كافراً، فمات كافراً قبل حول الحول.
ب. وقيل: انه هم بالدعاء عليهم، فنزلت الآية تسكيناً له، فكف عن ذلك.
ج. وقال أبو علي الجبائي: انه استأذن ربه يوم أحد في الدعاء عليهم، فنزلت الآية، فلم يدع عليهم بعذاب الاستئصال وإنما لم يؤذن فيه لما كان في المعلوم من توبة بعضهم، وإنابته، فلم يجز أن يقتطعوا عن التوبة بعذاب الاستئصال.
7. سؤال وإشكال: كيف قال ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ مع أن له أن يدعوهم إلى الله ويؤدي إليهم ما أمره بتبليغه؟ والجواب: لأن معناه ليس لك من الأمر شيء في عقابهم أو استصلاحهم حتى تقع إنابتهم، فجاء الكلام على الإيجاز، لأن المعنى مفهوم لدلالة الحال عليه وأيضاً فإنه لا يعتد بما له في تدبيرهم مع تدبير الله لهم، فكأنه قال ليس لك من الأمر شيء على وجه من الوجوه.
8. في قوله تعالى: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أو يلطف لهم بما يقع معه توبتهم، فيتوب عليهم بلطفه لهم.
ب. والآخر: أو يقبل توبتهم إذا تابوا، كما قال تعالى: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ ولا تصح هذه الصفة إلا لله عز وجل، لأنه يملك الجزاء بالثواب، والعقاب.
9. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ مع ما في المعلوم من أن بعضهم يؤمن؟ والجواب: لأنهم يستحقون ذلك باجرامهم بمعنى أنه لو فعل بهم لم يكن ظلماً، وان كان لا يجوز أن يقع لوجه آخر يجري مجرى تبقيتهم لاستصلاح غيرهم.
10. في نصب ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: أنه بالعطف على ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ) (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ ويكون ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه كما تقول: ضربت زيداً فافهم ذاك وعمراً.
ب. الثاني: أن تكون أو بمعنى إلا أن، كأنّه قال: ليس لك من الأمر شيء) إلا أن يتوب الله عليهم أو يعذبهم فيكون أمرك تابعاً لأمر الله برضاك بتدبيره فيه قال امرؤ القيس:
çفقلت له: لا تبك عينك إنما...نحاول ملكا أو نموت فنعذراé
أراد إلا أن نموت أو حتى نموت.
11. عموم قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ يقتضي أن له تعالى ملك ما في السماوات، وما في الأرض، وأن له التصرف فيهما كيف شاء بلا دافع، ولا مانع، غير أنه لا بد من تخصيص هذا العموم من حيث أنه ينزه عن الصاحبة والولد على كل وجه، وأوجه ما قلناه.
12. إنما ذكر لفظ (ما) لأنها أعم من (من) لأنها تتناول ما يعقل، وما لا يعقل، لأنها تفيد الجنس ولو قال من في السماوات ومن في الأرض لم يدخل فيه إلا العقلاء إلا أن يحمل على التغليب وذلك ليس بحقيقة.
13. ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ دليل على أن حسن العفو عن مستحق العذاب، وان لم يتب لأنه لم يشترط فيه التوبة.
14. ﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ يعني ممن يستحق العذاب، لأن من لا يستحق العذاب لا يشأ عذابه، لأنه ظلم يتعالى الله عن ذلك وفي ذلك دلالة على جواز العفو بلا توبة، لأنه علق عذابه بمشيئته، فدل على أنه لو لم يشأ، لكان له ذلك، ولا يلزم على ما قلناه الشك في جواز غفران عقاب الكفار، لأن ذلك أخرجناه من العموم بدلالة إجماع الأمة على أنه لا يغفر الشرك، وبقوله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ ولولا ذلك لكنا نجوز العفو عنهم أيضاً.
15. وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه لما قال ليس لك من الأمر شيء عقب ذلك بأن الأمر كله لله في السماوات والأرضين.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/584.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الطرف: طرفُ الشيءِ خلافُ الوسط، ونظيره الحَرْفُ.
ب. الكبت: مصدر كبت الله العدو إذا صرفه وأذله، وقيل: الكبت صرع الشيء على وجهه، كبتهم الله فانكبتوا، عن الخليل، وقيل: الكبت شدة وهو يقع في القلب، فربما صرع الإنسان لوجهه للخور الذي يدخله.
ج. الخائب: المنقطع عما أمل، ولا تكون الخيبة إلا بعد الأمل، وهو حرمان التبعية، خاب خيبة، وخيّبَهُ تخييبًا.
2. اختلف في علاقة قوله تعالى: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾ بما قبله:
أ. قيل: نصركم الله ببدر ليقطع طرفًا.
ب. وقيل: وما النصر إلا من عند الله ليقطع طرفًا.
ج. وقيل: ذلك التدبير ليقطع طرفًا.
3. اختلف في سبب الآية الكريمة:
أ. قيل: لما كان من المشركين يوم أحد من كسر رباعية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وشج وجهه وقتل المؤمنين قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: كيف يفلح قوم نالوا هذا من نبيهم)، وهو مع ذلك حريص على دعائهم إلى ربهم، فنزلت الآية إنه ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ عن أنس بن مالك وابن عباس والحسن وقتادة والربيع، يعني أن فلاحهم ليس إليه.
ب. وقيل: أدمى رجل من هذيل وجه رسول الله يوم أحد، فدعا عليه، فسلط الله عليه تيسًا فنطحه حتى قتله، وشج عتبة بن أبي وقاص رأسه ورباعيته، فدعا عليه، فما حال الحول عليه حتى مات، فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن عكرمة.
ج. وقيل: هَمَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يدعو عليهم بأحد ويلعنهم، فنزلت الآية تسكينًا له، وتُعْلِمه أن فيهم من يؤمن، فكف عنه، عن الربيع والكلبي.
د. وقيل: لما رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما بأصحابه وعمه من المثلة، ورأى المسلمون من قطع الآذان وجدع الأنوف قالوا: لئن أدالنا الله منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعن سالم عن أبيه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يلعن أبا سفيان، والحارث بن هشام، وصفوان بن أمية، فأنزل الله تعالى هذه الآية فأسلموا، وحسن إسلامهم.
هـ. وقيل: استأذن ربه في أن يدعو عليهم بالاستئصال، فنزلت الآية ولم يؤذن، فلم يَدْعُ، عن أبي علي.
و. وقيل: نزلت في أهل بئر معونة سبعين رجلاً من قراء الصحابة، بعثهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في صفر سنة أربع من الهجرة ليعلموا الدين، فقتلهم عامر بن الطفيل، فقنت عليهم شهرًا، فنزلت الآية عن مقاتل.
ز. الأصح أنها نزلت في أحد لأن أكثر العلماء عليه، وسياق الكلام يقتضي ذلك.
4. لما تقدم أنه تعالى نصرهم، وأمدهم بالملائكة بين الغرض فيه فقال تعالى: ﴿لْيَقْطَعْ﴾ يعني ذلك النصر والإمداد ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾:
أ. قيل: أي ليهلك طائفة كقوله: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ﴾
ب. وقيل: ليهدم ركنًا من أركان الشرك بالقتل والأسر.
5. إنما قال: ﴿طَرَفًا﴾ والمراد قطعه، ولم يقل وسطًا؛ لأنه لا يوصل إلى الوسط منهم إلا بعد قطع الطرف، واليوم الذي قطع الطرف ﴿مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾:
أ. قيل: يوم بدر قُتل صناديد قريش ورؤساؤهم والقادة إلى الكفر، قُتل منهم سبعون وأُسر سبعون، عن الحسن وقتادة والربيع.
ب. وقيل: يوم أحد، وكانوا قتلوا منهم ثمانية عشر رجلاً، عن السدي.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾:
أ. قيل: يخزيهم بالخيبة مما أملوا من الظفر بكم، عن قتادة والربيع.
ب. وقيل: يردهم عنكم منهزمين؛ لأن الكبت هو الرد عن أبي علي.
ج. وقيل: يهزمهم، عن الكلبي والأصم.
د. وقيل: يصرعهم على وجوههم، عن يمان.
هـ. وقيل: يلعنهم، عن السدي.
و. وقيل: يهلكهم، عن أبي عبيدة.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾:
أ. قيل: لم ينالوا مما أملوا شيئًا من الظفر بكم.
ب. وقيل: ليقطع طرفًا من الَّذِينَ كفروا فينقلب الباقون خائبين.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾:
أ. قيل: ليس لك من هذه الأمور شيء.
ب. وقيل: ليس إليك كقوله: ﴿هَدَانَا لِهَذَا﴾ أي إلى هذا.
ج. وقيل: هذا اعتراض، وتقدير الكلام: ليقطع طرفًا منهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم قد استحقوا ذلك وليس إليك من هذه الأربعة شيء، وذلك إلى الله تعالى.
د. وقيل: نصركم ليقطع طرفًا أو يكبتهم وليس لك ولا لغيرك من هذا النصر شيء عن أبي مسلم.
هـ. وقيل: معناه ليس لك من أمر خَلْقي شيء إلا بتنفيذ أمري، وليس لك من تعذيبهم شيء.
و. وقيل: ليس لك من مصالح العباد شيء إلا ما أوحي إليك.
ز. وقيل: ليس لك مسألة هلاكهم؛ لأنه تعالى أعلم بالمصالح، أو يتوب عليهم.
ح. وقيل: ليس لك من أن تعذبهم أو تتوب عليهم شيء.
ط. ولا شبهة أن الآية عامة، والمراد به الخصوص، فحملت على بعض ما بينا.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾:
أ. قيل: بلطفه ليتوبوا.
ب. وقيل: ليقبل توبتهم إذا تابوا.
10. ﴿أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ يعني إن يعذبهم الله ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ استحقوا ذلك العذاب العظيم بظلمهم.
11. اختلف في علاقة قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ بما قبله:
أ. قيل: لما نفى عن غيره أشياء أثبتها لنفسه كما تقدم بَيَّنَ الوَجْهَ في ذلك بقوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ دالاً بذلك على قدرته على جميع ذلك، عن علي بن عيسى.
ب. وقيل: لما جرى ذكر الكفار، وأنه إما أن يهزمهم أو يقتلهم أو يتذكر متذكر فيتوب فيغفر له، أو يصر على كفره فيعذبه بيَّن أنه قادر على جميع ذلك وأنه عنده يسير؛ لأن له ما في السماوات والأرض، عن أبي مسلم.
ج. وقيل: إنه يتصل بقوله: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ ثم بيّن أنه يغفر لمن يشاء، وهو التائب، ويعذب من يشاء، وهو المُصِرّ، عن الأصم.
د. وقيل: هو معاتبة للذين عصوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بما أمرهم يوم أحد، عن ابن إسحاق.
12. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ مدًا وملكًا وخلقًا واقتدارًا على الجميع يصرفهم كيف يشاء إيجادًا وإفناءً وإعادة.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾
أ. قيل: يغفر تفضلاً ويعذب استحقاقًا.
ب. وقيل: هو مجمل وتفسيره في قوله: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ وفي قوله: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لمَن تَابَ وَءَامَنَ﴾ فبين من يغفر له ومن لا يغفر له.
14. ﴿وَاللهُ غَفُورٌ﴾ يستر الذنوب على عباده ﴿رَحِيمٌ﴾ لا يعذبه إن تاب.
15. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن ما يتصل بالنصرة والظفر وقبول التوبة والتعذيب فهو إلى الله تعالى، وليس إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم منه شيء، وإنما إليه الهداية والدعاء.
ب. أن العذاب يُسْتَحَقُّ بالظلم، ولا معصية إلا وهي ظلم.
ج. أن التوبة تؤثر في إزالة العذاب؛ لأن تقديره: أو يتوب عليهم إذا تابوا، أو يعذبهم إذا أصروا.
د. أن الأمر كله إليه تعالى، وأن الغفران والتعذيب إليه، قال القاضي: والآية واردة في الكفار، والغفران مشروط بالتوبة، والتعذيب مشروط بالإصرار.
16. نصب ﴿لْيَقْطَعْ﴾ لأن تقديره: لكي يقطع، ونصب ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ لأنه معطوف على قوله: ﴿لْيَقْطَعْ﴾ أي لكي يقطع، ولكي يكبتهم، فأما ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾:
أ. فقيل: نصب لأنه عطف على ﴿لْيَقْطَعْ﴾ تقديره: ليقطع طرفا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم، ويكون قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه كقولك: ضْربت زيدًا فافهم ذلك وعمرًا، عن الفراء، أو بمعنى إلا أن، كأنه قيل: ليس لك من الأمر شيء إلا أن يتوب الله عليهم أو يعذبهم، فيكون أمرك تابعًا لأمر الله برضاك بتدبيره فيهم.
ب. وقيل ﴿أَوْ﴾ بمعنى ﴿حَتَّى﴾؛ أي ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم أو يعذبهم، حكاه الفراء.
ج. وقيل: نصب بإضمار ﴿أَنْ﴾ تقديره: ليس لك من الأمر شيء، أو من أن يتوب عليهم، أو من أن يعذبهم.
د. ﴿مَا﴾ لما لا يعقل، و﴿مِنَ﴾ لِمَن يعقل، فذكر ههنا ﴿مَا﴾؛ لأنه ذهب به مذهب الجنس، فدخل فيه الجميع.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/376.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الكبت: الخزي، وهو مصدر كبت الله العدو أي: أخزاه وأذله، وقال الخليل: الكبت صرع الشيء على وجهه، كبتهم الله فانكبتوا، وحقيقة الكبت: شدة الوهن الذي يقع في القلب، وربما صرع الانسان لوجهه للخور الذي يدخله.
ب. الخائب: المنقطع عما أمل، ولا يكون الخيبة الا بعد الامل، لأنها امتناع نيل ما أمل، واليأس: قد يكون قبل الامل، وقد يكون بعده، واليأس والرجاء نقيضان يتعاقبان كتعاقب الخيبة والظفر.
ج. إنما ذكر لفظ ﴿مَا﴾ لأنها أعم من من، فإنها تتناول ما يعقل، وما لا يعقل، لأنها تفيد الجنس، ولو قال: من في السماوات، لم يدخل فيه الا العقلاء، إلا أن يحمل على التغليب، وذلك ليس بحقيقة.
2. ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ اختلف في وجه اتصاله بما قبله:
أ. فقيل: يتصل بقوله ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ ومعناه: أعطاكم الله هذا النصر، وخصكم به، ليقطع طائفة من الذين كفروا بالأسر والقتل.
ب. وقيل: هو متصل بقوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ﴾ أي: ولقد نصركم الله ببدر، ليقطع طرفا.
ج. وقيل: معناه ذلك التدبير ليقطع طرفا أي: قطعة منهم، والمعنى: ليهلك طائفة منهم.
د. وقيل: ليهدم ركنا من أركان الشرك بالقتل والأسر.
3. اختلف في اليوم الذي قطع الله فيه الطرف من الذين كفروا:
أ. قيل: يوم بدر، قتل فيه صناديدهم، ورؤساءهم، وقادتهم إلى الكفر، في قول الحسن والربيع وقتادة.
ب. وقيل: هو يوم أحد، قتل فيه منهم ثمانية عشر رجلا.
4. إنما قال: ﴿لقطع طرفا منهم﴾، ولم يقل ليقطع وسطا منهم، لأنه لا يوصل إلى الوسط منهم الا بقطع الطرف، ولأن الطرف أقرب إلى المؤمنين، فهو كما قال: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾:
أ. قيل: معناه: أو يخزيهم بالخيبة مما أملوا من الظفر بكم، عن قتادة والربيع.
ب. وقيل: معناه يردهم عنكم منهزمين، عن الجبائي والكلبي.
ج. وقيل: يصرعهم الله على وجوههم.
د. وقيل: يظفركم عليهم، عن المبرد.
هـ. وقيل: يلعنهم، عن السدي.
و. وقيل: يهلكهم، عن أبي عبيدة.
6. ﴿فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾ لم ينالوا مما أملوا شيئا.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾:
أ. قيل: هو متصل بقوله: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ فيكون معناه: نصركم الله ليقطع طرفا منهم ويكبتهم وليس لك ولا لغيرك من هذا النصر شيء، عن أبي مسلم.
ب. وقيل: انه اعتراض بين الكلامين.
8. ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ متصل بقوله ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾، فيكون التقدير: ليقطع طرفا منهم أو يكبتهم، أو يتوب عليهم، أو يعذبهم، فإنهم قد استحقوا العذاب، وليس لك أي: ليس إليك من هذه الأربعة شيء، وذلك إلى الله تعالى.
9. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روي عن أنس بن مالك وابن عباس والحسن وقتادة والربيع انه لما كان من المشركين يوم أحد، ما كان من كسر رباعية الرسول، وشجه حتى جرت الدماء على وجهه، قال: كيف يفلح قوم نالوا هذا من نبيهم صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ وهو مع ذلك حريص على دعائهم إلى ربهم، فأعلمه الله أنه ليس إليه فلاحهم، وأنه ليس إليه إلا أن يبلغ الرسالة، ويجاهد حتى يظهر الدين، وإنما ذلك إلى الله تعالى، وكان الذي كسر رباعيته وشجه في وجهه، عتبة بن أبي وقاص، فدعا عليه بأن لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا، فمات كافرا قبل أن يحول الحول، وأدمى وجهه رجل من هذيل يقال له عبد الله بن قمية، فدعا عليه فكان حتفه ان سلط الله عليه تيسا فنطحه حتى قتله، وروي انه كان يمسح الدم على وجهه، ويقول: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)، فعلى هذا يمكن أن يكون على وجل من عنادهم واصرارهم على الكفر، فأخبره تعالى انه ليس إليه الا ما أمر به من تبليغ الرسالة، ودعائهم إلى الهدى، وذلك مثل قوله: ﴿فلعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين﴾
ب. وقيل: انه استأذن ربه في يوم أحد في الدعاء عليهم، فنزلت الآية، فلم يدع عليهم بعذاب الاستيصال، وإنما لم يؤذن له فيه، لما كان في المعلوم من توبة بعض، عن أبي علي الجبائي.
ج. وقيل: أراد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يدعو على المنهزمين عنه من أصحابه يوم أحد، فنهاه الله عن ذلك، وتاب عليهم، ونزلت الآية: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ أي: ليس لك أن تلعنهم، وتدعو عليهم، عن عبد الله بن مسعود.
د. وقيل: لما رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمون ما فعل بأصحابه، وبعمه حمزة، من المثلة من جدع الأنوف والأذان، وقطع المذاكير، قالوا: لئن أدالنا الله منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا بنا، ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط، فنزلت الآية، عن محمد بن إسحاق والشعبي.
هـ. وقيل: نزلت في أهل (بئر معونة) وهم سبعون رجلا من قراء أصحاب رسول الله، وأميرهم المنذر بن عمرو، بعثهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى (بئر معونة) في صفر، سنة أربع من الهجرة، على رأس أربعة أشهر من أخد، ليعلموا الناس القرآن والعلم، فقتلهم جميعا عامر بن الطفيل، وكان فيهم عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر، فوجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من ذلك وجدا شديدا، وقنت عليهم شهرا، فنزل: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾، عن مقاتل.
و. الأصح انها نزلت في أحد، لان أكثر العلماء عليه، ويقتضيه سياق الكلام.
10. إنما قال: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾، مع أن له صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يدعوهم إلى الله، ويؤدي إليهم بتبليغهم، لان معناه ليس لك شيء من أمر عقابهم، واستيصالهم، أو الدعاء عليهم، أو لعنهم حتى تقع إنابتهم، فجاء الكلام على الايجاز، لان المعنى مفهوم لدلالة الكلام عليه، وأيضا فإنه لا يعتد بما له صلّى الله عليه وآله وسلّم في تدبيرهم، مع تدبير الله لهم، فكأنه قال: ليس لك من الامر شيء على وجه من الوجوه.
11. في قوله تعالى: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: أو يلطف لهم بما يقع معه توبتهم، فيتوب عليهم بلطفه لهم.
ب. والاخر: أو يقبل توبتهم إذا تابوا كقوله: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾، ولا يصح هذه الصفة الا لله تعالى، لأنه يملك الجزاء بالثواب، والعقاب.
12. ﴿أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ أي: يعذبهم الله تعالى إن لم يتوبوا ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ أي: مستحقون للعذاب بظلمهم.
13. في هذه الآية دلالة على أن ما يتعلق بالنصر والظفر، وقبول التوبة والتعذيب، فإنما هو إلى الله، وليس للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من ذلك شيء، وإنما إليه الهداية والدعاء، فكأنه قال: لا ترفع عنهم السيف إلى أن يتوبوا فيتوب عليهم، أو يقوموا على كفرهم، فيعذبهم بظلمهم.
14. ثم لما قال تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ عقب ذلك بأن الامر كله له فقال: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ملكا وملكا، وخلقا واقتدارا، على الجميع، يصرفهم كيف يشاء، ايجادا وافناء وإعادة.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾
أ. قيل: ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ من المؤمنين ذنوبهم، فلا يؤاخذهم بها، ولا يعاقبهم عليها، رحمة منه وفضلا، ﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ أي: ويعذب الكافرين، ومن يشاء من مذنبي المؤمنين، ان مات قبل التوبة عدلا، ويدل عليه مفسرا قوله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، ولولا ذلك لكنا نجوز العفو على الجميع عقلا.
ب. وقيل: إنما أبهم الله الامر بالتعذيب والمغفرة، فلم يبين من يغفر له، ومن يشاء تعذيبه، ليقف المكلف بين الخوف والرجاء، فلا يأمن من عذاب الله تعالى، ولا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون، ويلتفت إلى هذا قول الصادق عليه ا لسلام: لو وزن رجاء المؤمن وخوفه لاعتدلا.
ج. وقيل: إنما علق الغفران أو العذاب بالمشيئة، لان المشيئة مطابقة للحكمة، فلا يشاء الا ما تقتضي الحكمة مشيئة، وسئل بعضهم: كيف يعذب الله عباده بالاجرام مع سعة رحمته؟ فقال: رحمته لا تغلب حكمته، إذ لا تكون رحمته برقة القلب، كما تكون الرحمة منا.
د. وعن ابن عباس قال: معنى الآية يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، ممن لم يتب.
16. نصب ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ على وجهين: أحدهما: أن يكون عطفا على ﴿لْيَقْطَعْ﴾ ويكون قوله (ليس لك من الامر شيء) اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه، كما تقول: ضربت زيدا، فافهم ذلك وعمرا، والاخر: أن يكون أو بمعنى إلا أن فكأنه قال: ليس لك من الامر شيء الا ان يتوب الله عليهم، أو يعذبهم، فيكون أمرك تابعا لامر الله لرضاك بتدبيره فيهم.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/831.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾ معناه: نصركم ببدر ليقطع طرفا، قال الزجّاج: أي: ليقتل قطعة منهم، وفي أيّ يوم كان ذلك فيه قولان:
أ. أحدهما: في يوم بدر، قاله الحسن، وقتادة، والجمهور.
ب. الثاني: يوم أحد، قتل منهم ثمانية وعشرون، قاله السّدّيّ.
2. في قوله تعالى: ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ سبعة أقوال:
أ. أحدها: أن معناه: يهزمهم، قاله ابن عباس، والزجّاج.
ب. الثاني: يخزيهم، قاله قتادة، ومقاتل.
ج. الثالث: يصرعهم، قاله أبو عبيد، واليزيديّ، وقال الخليل: هو الصّرع على الوجه.
د. الرابع: يهلكهم، قاله أبو عبيدة.
هـ. الخامس: يلعنهم، قاله السّدّيّ.
و. السادس: يظفّر عليهم، قاله المبرّد.
ز. السابع: يغيظهم، قاله النّصر بن شميل واختاره ابن قتيبة، وقال ابن قتيبة: أهل النّظر يرون أن التاء فيه منقلبة عن دال، كأنّ الأصل فيه: يكبدهم، أي: يصيبهم في أكبادهم بالحزن والغيظ، وشدّة العداوة، ومنه يقال: فلان قد أحرق الحزن كبده، وأحرقت العداوة كبده، والعرب تقول: العدوّ: أسود الكبد، قال الأعشى:
çفما أجشمت من إتيان قوم...هم الأعداء والأكباد سودé
كأنّ الأكباد لمّا احترقت بشدّة العداوة، اسودّت، ومنه يقال للعدو: كاشح، لأنه يخبأ العداوة في كشحه، والكشح: الخاصرة، وإنما يريدون الكبد، لأن الكبد هناك، قال الشاعر: (وأضمر أضغانا عليّ كشوحها)، والتّاء والدّال متقاربتا المخرج، والعرب تدغم إحداهما في الأخرى، وتبدل إحداهما من الأخرى، كقولهم: هرت الثوب وهرده: إذا خرقه، وكذلك: كبت العدوّ، وكبده، ومثله كثير.
3. ﴿فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾ قال الزجّاج: الخائب: الذي لم ينل ما أمّل، وقال غيره: الفرق بين الخيبة واليأس، أنّ الخيبة لا تكون إلا بعد الأمل، واليأس قد يكون من غير أمل.
4. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ خمسة أقوال:
أ. أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كسرت رباعيّته يوم أحد، وشجّ في جبهته حتى سال الدّم على وجهه، فقال: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيّهم، وهو يدعوهم إلى ربّهم عزّ وجلّ!؟) فنزلت هذه الآية، أخرجه مسلم في أفراده من حديث أنس، وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والرّبيع.
ب. الثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، لعن قوما من المنافقين، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر.
ج. الثالث: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم همّ بسبّ الذين انهزموا يوم أحد، فنزلت هذه للآية، فكفّ عن ذلك، نقل عن ابن مسعود، وابن عباس.
د. الرابع: أن سبعين من أهل الصّفّة، خرجوا إلى قبيلتين من بني سليم، عصيّة وذكوان، فقتلوا جميعا، فدعا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عليهم أربعين يوما، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل بن سليمان.
هـ. الخامس: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لما رأى حمزة ممثّلا به، قال (لأمثّلنّ بكذا وكذا منهم) فنزلت هذه الآية، قاله الواقديّ.
5. في معنى قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ قولان:
أ. أحدهما: ليس لك من استصلاحهم أو عذابهم شيء.
ب. الثاني: ليس لك من النّصر والهزيمة شيء، وقيل: إنّ (لك) بمعنى (إليك)
6. ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ قال الفرّاء: في نصبه وجهان؛ إن شئت جعلته معطوفا على قوله تعالى: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾ وإن شئت جعلت نصبه على مذهب (حتى) كما تقول: لا أزال معك حتى تعطيني.
7. ولمّا نفى الأمر عن نبيّه، أثبت أنّ جميع الأمور إليه بقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾
__________
(1) زاد المسير: 1/323.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ واللام في ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾:
أ. قيل: متعلق بقوله: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ والمعنى أن المقصود من نصركم بواسطة إمداد الملائكة هو أن يقطعوا طرفاً من الذين كفروا، أي يهلكوا طائفة منهم ويقتلوا قطعة منهم.
ب. قيل: إنه راجع إلى قوله: ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾، ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾ ولكنه ذكر بغير حرف العطف لأنه إذا كان البعض قريباً من البعض جاز حذف العاطف، وهو كما يقول السيد لعبده: أكرمتك لتخدمني لتعينني لتقوم بخدمتي حذف العاطف، لأن البعض يقرب من البعض، فكذا هاهنا.
2. ﴿طَرَفًا﴾ أي طائفة وقطعة وإنما حسن في هذا الموضع ذكر الطرف ولم يحسن ذكر الوسط لأنه لا وصول إلى الوسط إلا بعد الأخذ من الطرف، وهذا يوافق قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ﴾ [التوبة: 123]، وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ [الرعد: 41]
3. ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه، يقال: كبته فانكبت هذا تفسيره، ثم قد يذكر والمراد به الاخزاء والإهلاك واللعن والهزيمة والغيظ، والإذلال، فكل ذلك ذكره المفسرون في تفسير الكبت.
4. ﴿خَائِبِينَ﴾ الخيبة هي الحرمان والفرق بين الخيبة وبين اليأس أن الخيبة لا تكون إلا بعد التوقع، وأما اليأس فإنه قد يكون بعد التوقع وقبله، فنقيض اليأس الرجاء، ونقيض الخيبة الظفر.
5. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ قولان:
أ. الأول: وهو المشهور: أنها نزلت في قصة أحد، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا على ثلاثة أوجه:
• أحدها: أنه أراد أن يدعو على الكفار فنزلت هذه الآية والقائلون بهذا ذكروا احتمالات:
● أحدها: روي أن عتبة بن أبي وقاص شجه وكسر رباعيته فجعل يمسح الدم عن وجهه وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم وهو يقول: (كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم) ثم أراد أن يدعو عليهم فنزلت هذه الآية
● ثانيها: ما روى سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لعن أقواماً فقال: (اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحرث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أميّة) فنزلت هذه الآية ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ فتاب الله على هؤلاء وحسن إسلامهم.
● ثالثها: أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب وذلك لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما رآه ورأى ما فعلوا به من المثلة قال (لأمثلن منهم بثلاثين)، فنزلت هذه الآية.
● قال القفال، وكل هذه الأشياء حصلت يوم أحد، فنزلت هذه الآية عند الكل فلا يمتنع حملها على كل الاحتمالات.
• الثاني: أنها نزلت بسبب أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أراد أن يلعن المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا فمنعه الله من ذلك وهذا القول مروي عن ابن عباس.
• الثالث: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أراد أن يستغفر للمسلمين الذين انهزموا وخالفوا أمره ويدعو عليهم فنزلت الآية.. فهذه الاحتمالات والوجوه كلها مفرعة على قولنا إن هذه الآية نزلت في قصة أحد.
ب. الثاني: أنها نزلت في واقعة أخرى، وهي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث جمعاً من خيار أصحابه إلى أهل بئر معونة ليعلموهن القرآن فذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره وأخذهم وقتلهم فجزع من ذلك الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم جزعاً شديداً ودعا على الكفار أربعين يوماً، فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل، وهو بعيد لأن أكثر العلماء اتفقوا على أن هذه الآية في قصة أحد، وسياق الكلام يدل عليه وإلقاء قصة أجنبية عن أول الكلام وآخره غير لائق.
6. سؤال وإشكال: ظاهر هذه الآية يدل على أنها وردت في أمر كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يفعل فيه فعلًا، وكانت هذه الآية كالمنع منه، وعند هذا يتوجه الإشكال، وهو أن ذلك الفعل إن كان بأمر الله تعالى، فكيف منعه الله منه؟ وإن قلنا إنه ما كان بأمر الله تعالى وبإذنه، فكيف يصح هذا مع قوله: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ [النجم: 3] وأيضاً دلت الآية على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالأمر الممنوع عنه في هذه الآية إن كان حسناً فلم منعه الله؟ وإن كان قبيحاً، فكيف يكون فاعله معصوما؟ والجواب: من وجوه:
أ. الأول: أن المنع من الفعل لا يدل على أن الممنوع منه كان مشتغلًا به فإنه تعالى قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وسلم ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65] وأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ما أشرك قط وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ﴾ [الأحزاب: 1] فهذا لا يدل على أنه ما كان يتقي الله، ثم قال: ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ﴾ وهذا لا يدل على أنه أطاعهم، والفائدة في هذا المنع أنه لما حصل ما يوجب الغم الشديد، والغضب العظيم، وهو مثلة عمه حمزة، وقتل المسلمين، والظاهر أن الغضب يحمل الإنسان على ما لا ينبغي من القول والفعل، فلأجل أن لا تؤدي مشاهدة تلك المكاره إلى ما لا يليق من القول والفعل نص الله تعالى على المنع تقوية لعصمته وتأكيداً لطهارته.
ب. الثاني: لعله صلّى الله عليه وآله وسلّم إن فعل لكنه كان ذلك من باب ترك الأفضل والأولى، فلا جرم أرشده الله إلى اختيار الأفضل والأولى، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَخَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ﴾ [النحل: 126، 127] كأنه تعالى قال إن كنت تعاقب ذلك الظالم فاكتف بالمثل، ثم قال ثانياً: وإن تركته كان ذلك أولى، ثم أمره أمراً جازما بتركه، فقال: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ﴾
ج. الثالث: لعلّه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما مال قلبه إلى اللعن عليهم استأذن ربه فيه، فنص الله تعالى على المنع منه، وعلى هذا التقدير لا يدل هذا النهي على القدح في العصمة.
7. في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ قولان:
أ. الأول: أن معناه ليس لك من قصة هذه الواقعة ومن شأن هذه الحادثة شيء وعلى هذا فنقل عن المفسرين عبارات:
• أحدهما: ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أوحي إليك.
• ثانيها: ليس لك من مسألة إهلاكهم شيء، لأنه تعالى أعلم بالمصالح فربما تاب عليهم.
• ثالثها: ليس لك في أن يتوب الله عليهم، ولا في أن يعذبهم شيء.
ب. الثاني: أن المراد هو الأمر الذي يضاد النهي، والمعنى: ليس لك من أمر خلقي شيء إلا إذا كان على وفق أمري، وهو كقوله: ﴿أَلَا لَهُ الْحُكْمُ﴾ [الأنعام: 62] وقوله: ﴿لله الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ [الروم: 4]
8. ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ لى القولين المقصود من الآية منعه صلّى الله عليه وآله وسلّم من كل فعل وقول إلا ما كان بإذنه وأمره وهذا هو الإرشاد إلى أكمل درجات العبودية، ثم اختلفوا في أن المنع من اللعن لأي معنى كان؟
أ. منهم من قال: الحكمة فيه أنه تعالى ربما علم من حال بعض الكفار أنه يتوب، أو إن لم يتب لكنه علم أنه سيولد منه ولد يكون مسلماً براً تقياً، وكل من كان كذلك، فإن اللائق برحمة الله تعالى أن يمهله في الدنيا وأن يصرف عنه الآفات إلى أن يتوب أو إلى أن يحصل ذلك الولد فإذا حصل دعاء الرسول عليهم بالإهلاك، فإن قبلت دعوته فات هذا المقصود، وإن لم تقبل دعوته كان ذلك كالاستخفاف بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى من اللعن وأمره بأن يفوض الكل إلى علم الله تعالى.
ب. ومنهم من قال: المقصود منه إظهار عجز العبودية وأن لا يخوض العبد في أسرار الله تعالى في ملكه وملكوته، هذا هو الأحسن عندي والأوفق لمعرفة الأصول الدالة على حقيقة الربوبية والعبودية.
9. ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ ذكر الفرّاء والزجاج وغيرهما في هذه الآية قولين:
أ. أحدهما: أن قوله: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ عطف على ما قبله، والتقدير: ليقطع طرفاً من الذين كفروا، أو يكبتهم، أو يتوب عليهم، أو يعذبهم، ويكون قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ كالكلام الأجنبي الواقع بين المعطوف والمعطوف عليه، كما تقول: ضربت زيداً، فاعلم ذلك عمراً، فعلى هذا القول هذه الآية متصلة بما قبلها.
ب. الثاني: أن معنى ﴿أَوْ﴾ هاهنا معنى حتى، أو إلا أن كقولك: لألزمنك أو تعطيني حقي والمعنى: إلا أن تعطيني أو حتى تعطيني، ومعنى الآية ليس ذلك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم، أو يعذبهم فتتشفى منهم.
10. ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ مفسر عند أصحابنا(2) بخلق التوبة فيهم وذلك عبارة عن خلق الندم فيهم على ما مضى، وخلق العزم فيهم على أن لا يفعلوا مثل ذلك في المستقبل قال أصحابنا: وهذا المعنى متأكد ببرهان العقل وذلك لأن الندم عبارة عن حصول إرادة في المضي متعلقة بترك فعل من الأفعال في المستقبل، وحصول الإرادات والكراهات في القلب لا يكون بفعل العبد، لأن فعل العبد مسبوق بالإرادة، فلو كانت الإرادات فعلًا للعبد لافتقر العبد في فعل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى ويلزم التسلسل وهو محال، فعلمنا أن حصول الإرادة والكراهات في القلب ليس إلا بتخليق الله تعالى وتكوينه ابتداء، ولما كانت التوبة عبارة عن الندم والعزم، وكل ذلك من جنس الإرادات والكراهات، علمنا أن التوبة لا تحصل للعبد إلا بخلق الله تعالى، فصار هذا البرهان مطابقاً لما دل عليه ظاهر القرآن، وهو قوله: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾، وأما المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ فإنهم فسروا قوله: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ إما بفعل الألطاف أو بقبول التوبة.
11. قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. إن كان الغرض من الآية منعه من الدعاء على الكفر صح الكلام وهو أنه تعالى سماهم ظالمين، لأن الشرك ظلم قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]
ب. وإن كان الغرض منها منعه من الدعاء على المسلمين الذين خالفوا أمره صح الكلام أيضاً، لأن من عصى الله فقد ظلم نفسه.
12. قوله تعالى: ﴿أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل أن يكون المراد من العذاب المذكور في هذه الآية عذاب الدنيا، وهو القتل والأسر.
ب. وأن يكون عذاب الآخرة، وعلى التقديرين فعلم ذلك مفوض إلى الله.
13. ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ جملة مستقلة، إلا أن المقصود من ذكرها تعليل حسن التعذيب، والمعنى: أو يعذبهم فإنه إن عذبهم إنما يعذبهم لأنهم ظالمون.
14. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ المقصود من هذا تأكيد ما ذكره أولًا من قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران: 128] والمعنى أن الأمر إنما يكون لمن له الملك، وملك السماوات والأرض وليس إلا لله تعالى فالأمر في السماوات والأرض ليس إلا لله، وهذا برهان قاطع.
15. إنما قال: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ولم يقل (من) لأن المراد الإشارة إلى الحقائق والماهيات، فدخل فيه الكل.
16. أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ يحتجون بقوله تعالى: ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ على أنه سبحانه له أن يدخل الجنة بحكم إلهيته جميع الكفار والمردة، وله أن يدخل النار بحكم إلهيته جميع المقربين والصدّيقين وأنه لا اعتراض عليه في فعل هذه الأشياء ودلالة الآية على هذا المعنى ظاهرة والبرهان العقلي يؤكد ذلك أيضاً، وذلك أن فعل العبد يتوقف على الإرادة وتلك الإرادة مخلوقة لله تعالى، فإذا خلق الله تلك الإرادة أطاع، وإذا خلق النوع الآخر من الإرادة عصى، فطاعة العبد من الله ومعصيته أيضاً من الله، وفعل الله لا يوجب على الله شيئاً ألبتة، فلا الطاعة توجب الثواب، ولا المعصية توجب العقاب، بل الكل من الله بحكم إلهيته وقهره وقدرته، فصح ما ادعيناه أنه لو شاء يعذب جميع المقربين حسن منه، ولو شاء يرحم جميع الفراعنة حسن منه ذلك، وهذا البرهان هو الذي دل عليه ظاهر قوله تعالى: ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾
17. سؤال وإشكال: أليس أنه ثبت أنه لا يغفر للكفار ولا يعذب الملائكة والأنبياء، والجواب: مدلول الآية أنه لو أراد لفعل ولا اعتراض عليه، وهذا القدر لا يقتضي أنه يفعل أو لا يفعل، وهذا الكلام في غاية الظهور.
18. ثم ختم الكلام بقوله: ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ والمقصود بيان أنه وإن حسن كل ذلك منه إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب لا على سبيل الوجوب بل على سبيل الفضل والإحسان.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/355.
(2) يقصد أهل السنة، والأشاعرة خصوصا.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي بالقتل، ونظم الآية: ولقد نصركم الله ببدر ليقطع، وقيل: المعنى وما النصر إلا من عند الله ليقطع، ويجوز أن يكون متعلقا بـ ﴿يُمْدِدْكُمْ﴾، أي يمددكم ليقطع، والمعنى: من قتل من المشركين يوم بدر، عن الحسن وغيره، السدي: يعني به من قتل من المشركين يوم أحد وكانوا ثمانية عشر رجلا.
2. معنى ﴿يَكْبِتَهُمْ﴾ يحزنهم، والمكبوت المحزون، وروي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جاء إلى أبي طلحة فرأى ابنه مكبوتا فقال: (ما شأنه)؟، فقيل: مات بعيره، وأصله فيما ذكر بعض أهل اللغة يكبدهم أي يصيبهم بالحزن والغيظ في أكبادهم، فأبدلت الدال تاء، كما قلبت في سبت رأسه وسبده أي حلقه، كبت الله العدو كبتا إذا صرفه وأذله، كبده، أصابه في كبده، يقال: قد أحرق الحزن كبده، وأحرقت العداوة كبده، وتقول العرب للعدو: أسود الكبد، قال الأعشى:
çفما أجشمت من إتيان قوم...هم الأعداء والأكباد سودé
كأن الأكباد لما احترقت بشدة العداوة اسودت، وقرأ أبو مجلز (أو يكبدهم) بالدال، والخائب: المنقطع الأمل، خاب يخيب إذا لم ينل ما طلب، والخياب: القدح لا يوري،
3. ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في رأسه، فجعل يسلب الدم عنه ويقول: كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله تعالى، فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾، وقال الضحاك: هم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يدعو على المشركين فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾، وقيل: استأذن في أن يدعو في استئصالهم، فلما نزلت هذه الآية علم أن منهم من سيسلم وقد آمن كثير منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم، وروى الترمذي عن ابن عامر قال: وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعو على أربعة نفر فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ فهداهم الله للإسلام، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح.
4. ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ قيل: هو معطوف على ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾، والمعنى: ليقتل طائفة منهم، أو يحزنهم بالهزيمة أو يتوب عليهم أو يعذبهم، وقد تكون ﴿أَوْ﴾ هاهنا بمعنى ﴿حَتَّى﴾ و﴿إِلَّا أَنْ﴾، قال امرؤ القيس: (أو نموت فنعذرا) قال علماؤنا: قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم) استبعاد لتوفيق من فعل ذلك به، وقوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ تقريب لما استبعده وإطماع في إسلامهم، ولما أطمع في ذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، قال علماؤنا: فالحاكي في حديث ابن مسعود هو الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو المحكي عنه، بدليل ما قد جاء صريحا مبينا أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما كسرت رباعيته وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه شقا شديدا وقالوا: لو دعوت عليهم! فقال: إني لم أبعث لعانا ولكني بعثت داعيا ورحمة، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، فكأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أوحي إليه بذلك قبل وقوع قضية أحد، ولم يعلنه له ذلك النبي، فلما وقع له ذلك تعين أنه المعني بذلك بدليل ما ذكرنا، ويبينه أيضا ما قاله عمر له في بعض كلامه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لقد دعا نوح على قومه فقال: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح] الآية، ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فقد وطئ ظهرك وأدمي وجهك وكسرت رباعيتك فأبيت أن تقول إلا خيرا، فقلت: (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، وقوله: (اشتد غضب الله على قوم كسروا رباعية نبيهم) يعني بذلك المباشر لذلك، وقد ذكرنا اسمه على اختلاف في ذلك، وإنما قلنا إنه خصوصي في المباشر، لأنه قد أسلم جماعة ممن شهد أحدا وحسن إسلامهم.
5. زعم بعض الكوفيين أن هذه الآية ناسخة للقنوت الذي كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يفعله بعد الركوع في الركعة الأخيرة من الصبح، واحتج بحديث ابن عمر أنه سمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول في صلاة الفجر بعد رفع رأسه من الركوع فقال: (اللهم ربنا ولك الحمد في الآخرة ـ ثم قال ـ اللهم العن فلانا وفلانا) فأنزل الله تعالى﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ الآية، أخرجه البخاري، وأخرجه مسلم أيضا من حديث أبي هريرة أتم منه، وليس هذا موضع نسخ وإنما نبه الله تعالى على نبيه على أن الأمر ليس إليه، وأنه لا يعلم من الغيب شيئا إلا ما أعلمه، وأن الأمر كله لله يتوب على من يشاء ويعجل العقوبة لمن يشاء، والتقدير: ليس لك من الامر شي ولله ما في السماوات وما في الأرض دونك ودونهم يغفر لمن يشاء ويتوب على من يشاء، فلا نسخ، والله أعلم، وبين بقوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ أن الأمور بقضاء الله وقدره ردا على القدرية وغيرهم.
6. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بالقنوت، ليس لها صلة بالتفسير.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/199.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ متعلق بقوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ﴾ وقيل: متعلق بقوله: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ وقيل: متعلق بقوله: ﴿يُمْدِدْكُمْ﴾، والطرف: الطائفة، والمعنى: نصركم الله ببدر ليقطع طائفة من الكفار، وهم الذين قتلوا يوم بدر؛ أو: وما النصر إلا من عند الله ليقطع تلك الطائفة، أو يمددكم ليقطع.
2. معنى يكبتهم: يحزنهم، والمكبوت: المحزون، وقال بعض أهل اللغة: معناه: يكبدهم، أي: يصيبهم بالحزن والغيظ في أكبادهم، وهو غير صحيح، فإن معنى كبت: أحزن وأغاظ وأذل، ومعنى كبد أصاب الكبد.
3. ﴿فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾ أي: غير ظافرين بمطلبهم.
4. ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ جملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه، أي: أن الله مالك أمرهم يصنع بهم ما يشاء من الإهلاك، أو الهزيمة، أو التوبة إن أسلموا، أو العذاب، فقوله: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ عطف على قوله أو يكبتهم، وقال الفراء: إنّ: أو: بمعنى: إلا أن، بمعنى: ليس لك من الأمر شيء إلا أن يتوب عليهم، فتفرح بذلك، أو يعذبهم، فتشفى بهم.
5. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ كلام مستأنف لبيان سعة ملكه ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ أن يغفر له ﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ أن يعذبه، يفعل في ملكه ما يشاء، ويحكم ما يريد ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ وفي قوله: ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾: إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه، وتبشير لعباده بأنه المتصف بالمغفرة والرحمة على وجه المبالغة، وما أوقع هذا التذييل الجليل وأحبه إلى قلوب العارفين بأسرار التنزيل!.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/434.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي ليهلك وينقص طائفة منهم بالقتل والأسر، كما كان يوم بدر، من قتل سبعين وأسر سبعين منهم، واللام متعلقة، إما بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ﴾، وما بينهما تحقيق لحقيقته، وبيان لكيفية وقوعه ـ إما بما تعلق به الخبر في قوله تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾، من الثبوت والاستقرار ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ أي يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة تقويه للمؤمنين ﴿فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾ أي فيرجعوا منقطعي الآمال، وإنما أوقع بين المعطوف والمعطوف عليه في أثناء الكلام قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾
2. ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ اعتراضا لئلا يغفل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيرى لنفسه تأثيرا في بعض هذه الأمور فيحتجب عن التوحيد، أي ليس لك من أمرهم شيء، كيفما كان، ما أنت إلا بشر مأمور بالإنذار، إن عليك إلا البلاغ، إنما أمرهم إلى الله ـ أفاده القاشانيّ ـ وفي الاعتراض تخفيف من حزنه لكفرهم، وحرصه على هداهم، كما قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾
3. ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾، أي مما هم فيه من الكفر فيهديهم للإسلام بعد الضلالة ﴿أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ أي في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ أي يستحقون ذلك لاستمرارهم على العناد:
أ. روى البخاريّ عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد، قنت بعد الركوع، فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده: اللهم! ربنا ولك الحمد: اللهم! أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، اللهم! اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف، يجهر بذلك، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: اللهم العن فلانا وفلانا (لأحياء من العرب) حتى أنزل الله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ الآية.
ب. وقد أسند ما علقه عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر، يقول: اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا، بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، فأنزل الله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ الآية
ج. ورواه أحمد عن ابن عمر أيضا ولفظه: اللهم! العن فلانا وفلانا، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان ابن أمية، فنزلت هذه الآية: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ الآية، فيتوب عليهم كلهم.
د. وقال أحمد حدثنا هشيم حدثنا حميد عن أنس أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه، فقال: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم عز وجل، فأنزل الله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾، الآية ـ انفرد به مسلم، ورواه البخاريّ تعليقا
4. تقدم لنا في مقدمة التفسير تحقيق معنى سبب النزول، وأن الآية قد تذكر استشهادا في مقام، لكونها مما تشمله، فيطلق الراوي عليها النزول فيه، ولا يكون قصده أن هذا كان سببا لنزولها، والحكمة في منعه صلّى الله عليه وآله وسلّم من الدعاء عليهم ظهرت من توبتهم أخيرا، والإلحاح في الدعاء مظنة الإجابة، لا سيما من أشرف خلقه، فاقتضت حكمته تعالى إمهالهم إلى أن يتوبوا لسابق علمه فيهم، وفيه طلب التفويض في الأمور الملمة، لما في طيّها من الأسرار الإلهية.
5. ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾، منصوب بإضمار (أن) في حكم اسم معطوف ب (أو) على (الأمر) أو على (شيء)، أي ليس لك من أمرهم شيء، أو من التوبة عليهم، أو من تعذيبهم، أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم.
6. جعل ﴿أَوْ يَتُوبَ﴾ منصوبا بالعطف على (يكبتهم) ـ بعيد جدا، وإن قدمه بعض المفسرين على الوجه المتقدم، وذلك لأن قوله تعالى ﴿لَيْسَ لَكَ﴾ كلام مستأنف على ما صرحت به الروايات في سبب النزول، وهي المرجع في التأويل ـ والله أعلم ـ.
7. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ تقرير لما قبله من قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾، أي له ما فيهما ملكا وأمرا ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ فيحكم في خلقه بما يشاء، لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تذييل مقرر لمضمون قوله: ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، مع زيادة، وفي تخصيص التذييل به دون قرينة، من الاعتناء بشأن المغفرة والرحمة ما لا يخفى ـ أفاده أبو السعود ـ.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/409.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لِيَقْطَعَ﴾ يهلك، متعلِّق بـ (نَصَرَ) من قوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ﴾ وما بينهما بيان لكفاية وقوع النصر، و(إِذْ تَقُولُ) ظرف لـ (نَصَرَكُم) أو متعلِّق بقوله: ﴿مِنْ عِندِ اللهِ﴾، على أنَّه النصر المعهود، والمعلَّل بالبشارة الإمداد الصوري، قيل: ويجوز تعليقه بالنصر من قوله: ﴿وَمَا النَّصْرُ﴾ ولو جعلنا (إِذْ تَقُولُ) بدلا من (إِذْ غَدَوْتَ)، لكن فيه الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبيٍّ وهو الخبر، واعترض أيضًا بأنَّ فيه قصر النصر المخصوص المعلَّل بعلَّة معيَّنة على الحصول من جهته تعالى، مع أَنَّ مراد الآية قصر حقيقة النصر بلا تعليل بالقطع، أو قصر النصر المعهود.
2. ﴿طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ جماعة فقط لا الكلّ، سمَّاهم طرفا لأنَّه لا وصول إلى الوسط إِلَّا بعد أخذ الطرف، كقوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ﴾ [سورة التوبة: 123]، وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوَا اَنـَّا نَاتِي الَارْضَ نَنقُصُهَا مِنَ اَطْرَافِهَا﴾ [سورة الرعد: 41] وذلك بقتل سبعين وأسر سبعين ببدر من صناديدهم ومن يليهم في العزَّة والإعانة، وقيل: الطرف الجماعة الشرفاء، وذلك أنَّهم يتقدَّمون في السير، ومن ذلك قولهم: (الأطراف منازل الأشراف)
3. ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ يشدِّد غيظهم وذلَّهم، أو يوقع الوهن في قلوبهم، أو يصرعهم على وجوههم، قيل: أصله الغيظ والغمُّ المؤثِّر، وهو مادَّةٌ على حدة، ولا حاجة إلى دعوى أَنَّ التاء بدل من الدال في قولهم: كَبَدَه: أصاب كبده بضرٍّ كحزن، إِلَّا أنَّه قرئ: (أَوْ يَكْبِدَهُمْ)، وهي قراءة مقوِّية لدعوى الإبدال، ولعلَّ القراءة إن صحَّت قراءة تفسير لا تلاوة.
4. ﴿فَيَنقَلِبُواْ﴾ يرجعوا بالاِنهزام، ﴿خَآئِبِينَ﴾ مِمَّا رجوا، منقطعي الآمال، و(أَوْ) للتنويع، فإنَّ ذلك كلَّه واقع ببدر لا بعضه فقط، وإن جعلنا ذلك في أُحد فقد قُتل من الكفرة ستَّة عشر أو ثمانية عشر، وقتل صاحب لوائهم، وكان النصر للمسلمين إلى أن انتقلوا عن المركز الذي أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يلتزموه.
5. َلَمَّا كَسر عتبة بن أبي وقَّاص أو عبد الله بن قمَّة بحجر رباعيَته، (بفتح الراء وتخفيف الياء بعد العين) وهي السِّنُّ بين الثنيَّة والناب، وذلك منه في الفكِّ الأسفل الأيمن حتَّى إنَّه صلَّى قاعدا وصلُّوا وراءه قعودا، وشُجَّ وجهه يوم أحد قال: (كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيِّهم بالدم!)، وجعل يمسحه، أو همَّ أن يدعو عليهم ونهاه الله، وقيل: قال: (اللَّهم العن أبا سفيان، اللَّهم العن الحارث بن هشام، اللهمَّ العن سهيل بن عمرو، اللَّهم العن صفوان بن أميَّة)، وأيضا لَمَّا رأى ما فعلوا بحمزة من جذع أنفه وأذنيه ومذاكره همَّ أن يفعل فيهم ما هو أكبر من ذلك مِمَّا لم تسمع العرب مثله، ففي ذلك كلِّه نزل قوله تعالى:
6. ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الَامْرِ﴾ الهلاك الدنيويِّ أو الأخرويِّ أو غيره، ﴿شَيْءٌ﴾ بل الأمر كلُّه لله، فاصبر ولا يتغيَّر قلبك عليهم بما أصابك في سبيل الله، ﴿اَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِم﴾ بتوفيق التوبة كما تاب هؤلاء الأربعة الذين لعنهم، وأسلم خالد، ﴿أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ على عدم التوبة بالنار والأسر والغنم والقتل، والنَّصب للعطف على اسم خالص وهو (الأَمْر) أو (شَيْءٌ)، أي: ليس لك من هلاكهم شيء أو توبة الله عليهم أو تعذيبه إيَّاهم، لا شيء تدخل فيه التوبة ولا تعذيب ولا غيرهما، أخرج قلبك منهم بالكلِّية، أو بمعنى: إِلَّا أو إلى أن يتوب.. إلخ غاية لقوله: ﴿لَيْسَ﴾، وليس إذا تاب أو عَذَّب كان له من الأمر شيء، بل كقولك: لا أفعل كذا إن شاء الله إلى أن أموت أو إلى يوم القيامة مِمَّا لا يُفعل بعد الموت أو القيامة، أو بمعنى: إلى أن يتوب فتُسَرَّ أو يعذِّبهم فتشتفي.
7. وذلك في أُحد بسبب المشركين، وقيل: في أهل بئر معونة، أرسل إليهم أربعين أو سبعين رجلا يعلِّمونهم القرآن والدين على أربعة أشهر من أُحد، فاستصرخ عليهم عدوُّ الله عامر بن الطفيل قبائلَ من سليم وعصيَّة ورعل وذكوان فقاتلوهم كلّهم، إِلَّا كعب بن زيد من بني النجَّار تركوه وفيه رمق، فقنت صلّى الله عليه وآله وسلّم شهرا يلعنهم، فنزلت الآية.
8. ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ مستحقُّون التعذيب على ظلمهم أنفسهم وغيرهم بالشرك وغيره، فذكر المسبَّب بذكر السبب، أو ذكر السبب ليشعر بالمسبَّب، واحتجَّ للسببيَّة بقوله:
9. ﴿وَلِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الَارْضِ﴾ من أجزائهنَّ والحالِّ فيهنَّ وأهويتهنَّ، بالخلق والملك والربوبيَّة، ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَّشَآءُ﴾ الغفران له بالتوفيق إلى التوبة، ﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَّشَآءُ﴾ تعذيبه بالخذلان.
10. ليس من الحكمة أن يدخل الكفَّار الجنَّة غير تائبين، أو أن يدخل المطيع النار ميِّتا على الاستقامة، وما ليس حكمة لا يوصف الله به تعالى، قال الحسن: يغفر لمن يشاء بالتوبة، ولا يشاء أن يغفر إلَّا للتائبين، ويعذِّب من يشاء، ولا يشاء أن يعذِّب إلَّا المستوجبين للعذاب، ومثله قول عطاء: يغفر لمن يتوب عليه ويعذِّب من لقيه ظالما، ويدلُّ لذلك تقييد الغفران بالتوبة في غير هذه الآية، ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ للمحسنين بالتوبة، وما يدريك لعلَّهم يتوبون؟ فلا تشتغل بالدعاء عليهم بالهلاك، فإن لم يتوبوا فلن يفوتوا الله.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/372.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾ ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا متعلق بقوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ﴾ وبعض آخر إلى أنه من الكلام في وقعة أحد المقصودة بالذات؛ فإن ذكر النصر ببدر إنما جاء استطرادا ولذلك أنكروا أن يكون ذكر الملائكة الثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف متعلقا به، وهذا هو المختار عندنا، أي إنه فعل ما فعل ليقطع طرفا، أو وما النصر إلا من عنده ليقطع طرفا، ومعنى قطع الطرف منهم إهلاك طائفة منهم يقال: (قطع دابر القوم) إذا هلكوا وقد نطق به التنزيل، وعبر عن الطائفة بالطرف لأنهم الأقرب إلى المسلمين من الوسط وأراد بهم الإشراف منهم، كذا قيل، والمتبادر الأول لا لأنه من باب ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ﴾ كما قيل، بل لأن الطرف هو أول ما يوصل إليه من الجيش، وقد أهلك الله من المشركين يوم أحد طائفة في أول الحرب.
2. روى ابن جرير عن السدي أنه قال: ذكر الله قتلى المشركين يعني بأحد، وكانوا ثمانية عشر رجلا فقال: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قد ذكر غير واحد من أهل السير أن قتلى المشركين يوم أحد كانوا ثمانية عشر رجلا، ورد عليهم آخرون بأن حمزة وحده قتل نحو ثلاثين، وصرح بعضهم بأن سبب غلط من قال ذلك القول هو ما روي أن بعض المسلمين أراد عد قتلى المشركين فعد ثمانية عشر، وصرح بعضهم بأن سبب ذلك أن المشركين أخذوا قتلاهم أو دفنوهم لئلا يمثل بهم المسلمون بعد المعركة كما مثلوا هم بالمسلمين عندما أصابوا الغرة منهم، وهذا هو المعقول، وانتظر أيها القارئ قوله تعالى: ﴿أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها﴾ [آل عمران: 165]
3. ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ فسروه بأقوال، منها أن معناه يخزيهم ومنها أن معناه يصرعهم لوجوههم، وفي الأساس: كبت الله عدوه أكبه وأهلكه، ولكن صاحب الأساس فسر الكلمة في الكشاف بقوله: (ليخزيهم ويغيظهم بالهزيمة)، وقال الراغب: الكبت الرد بعنف وتذليل، وقال البيضاوي: (أو يخزيهم والكبت شدة الغيظ أو وهن يقع في القلب)، وكل هذه المعاني وردت في كتب اللغة وصرح البيضاوي بأن (أو) هنا للتنويع لا للترديد، والمعنى أنه يقطع طرفا وطائفة ويكبت طائفة أخرى أي ويتوب على طائفة ويعذب طائفة كما في الآية الآتية.
4. ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ جملة) ليس لك من الأمر شيء) معترضة بين هذا التقسيم، وما بعدها معطوف على ما قبلها، ولما كانت هذه الآية مما نزل في وقعة أحد كما روي في الصحيح تعين أن تكون التي قبلها كذلك وإلا كانت غير مفهومة إلا بتكلف ينزه القرآن عن مثله على كونه لا حاجة إليه، أما كونها نزلت في شأن وقعة أحد فيدل عليه وما ورد في سبب نزولها، روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد: (اللهم العن أبا سفيان اللهم العن الحارث بن هشام اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن أمية)، فنزلت هذه الآية فتيب عليهم كلهم، وروى البخاري عن أبي هريرة نحوه، وروى أحمد ومسلم من حديث أنس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟) فأنزل الله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾[352]، ذكر ذلك كله السيوطي في لباب النقول ولم يعز الأول إلى الترمذي والنسائي اكتفاء بمن هو أصح منهما رواية، وقد روى ذلك ابن جرير من عدة طرق، وما روي غير ذلك لا يعتد به، ولا تنافي بين حديث ابن عمر وحديث أنس لأن الجمع بينهما ظاهر، وهو أنه قال ما قال فيهم حين أدموه، ثم لعن رؤسائهم فنزلت الآية عقب ذلك كله.
5. أما المعنى فقد قال ابن جرير: يعني بذلك تعالى ذكره: ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ليس لك من الأمر شيء فقوله: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ منصوب عطفا على قوله أو ﴿يَكْبِتَهُمْ﴾ وقد يحتمل أن يكون تأويله ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم، فيكون نصب يتوب بمعنى (أو) التي هي في معنى (حتى) والقول الأول أولى بالصواب، لأنه لا شيء من أمر الخلق إلى أحد سوى خالقهم، قبل توبة الكفار وعقابهم وبعد ذلك، وتأويل ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ ليس إليك يا محمد من أمر خلقي إلا أن تنفذ فيهم أمري وتنتهي فيهم إلى طاعتي وإنما أمرهم إلي والقضاء فيهم بيدي دون غيري، أقضي فيهم وأحكم بالذي أشاء من التوبة على من كفر بي وعصاني وخالف أمري أو العذاب إما في عاجل الدنيا بالقتل والنقم المبيرة وإما في آجل الآخرة بما أعددت لأهل الكفر بي، انتهى قول ابن جرير وقد أورد بعده ما عنده من الروايات في الآية.
6.: لو لم يكن لما جرى في غزوة أحد حكمة إلا نزول هذه الآية لكفى فكيف وقد جمع إليها ما سيأتي من الحكم الدينية والاجتماعية والحربية!!
7. كان المؤمنون السابقون إلى الإسلام على ثقة من وعد الله تعالى بنصر نبيه وإظهار دينه لم يزلزل إيمانهم بذلك ضعفهم وقلتهم، ولا إخراج المشركين للمهاجرين من ديارهم وأموالهم، وكان وقعة بدر أول تباشير هذا النصر، فلما رأوا أن الله تعالى نصرهم على قلتهم وضعفهم بعد ما كان من دعاء الرسول وتضرعه واستغاثته ربه زادهم ذلك إيمانا بأنهم هم المنصورون، ولكن وقع في نفوس الكثيرين ـ إن لم نقل في نفوس الجميع ـ أن نصرهم سيكون بالآيات والعناية الخاصة من غير التزام للسنن الإلهية في الاجتماع البشري، وأن وجود الرسول فيهم ودعاءه على أعدائهم هما أفعل في التنكيل بالكفار من التزام الأسباب الظاهرة التي أهمها طاعة القائد والتزام النظام العسكري وغير ذلك، ولكن الإسلام دين الفطرة لا الخوارق.
8. كانت عاقبة ذلك أن قصروا في هذه الأسباب يوم أحد حتى ظهر عليهم العدو وجرح الرسول نفسه ـ وإن لم يقصر هو ولم ينهزم صلّى الله عليه وآله وسلّم كما هي السنة الاجتماعية التي بينها تعالى قبل ذلك في سورة الأنفال بقوله: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال: 5] ـ وإن تبرم الرسول من الكافرين ودعا على رؤسائهم، فكان ذلك فرصة لإعلام المؤمنين بحقيقة من حقائق دين الفطرة، وهي أن الرسول بشر ليس له من أمر العباد ولا من أمر الكون شيء، وإنما هو معلم وأسوة حسنة فيما يعلمه والأمر كله لله كما صرح به في الآية 154 يدبره بمقتضى سننه كما نص على ذلك في الآية 137 وكلا الآيتين من هذا السياق.
9. هذا البيان الإلهي في هذه الواقعة يتمكن في النفوس ما لا يتمكن لو لم يكن مقرونا بواقعة مشهودة لا مجال معها لتأويله ولا لتخصيصه أو تقييده، فهو من أقوى دعائم التوحيد في القرآن؛ ودلائل نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ لو كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مؤسس ملك؛ وزعيم سياسة يديرها بالرأي، لما قال مثل هذا القول؛ في مثل هذا الموطن، فأي نصيب من هذا الدين للذين يجعلون أمر العباد وتدبير شؤون الكون لطائفة من أصحاب القبور أو الأحياء، الذين يلقبون بالمشايخ والأولياء، فيزعمون أنهم ينصرون ويخذلون، ويسعدون ويشقون، ويميتون، ويحيون، ويغنون ويفقرون، ويمرضون ويشفون، ويفعلون كل ما يشاؤون؟؟، هل يعد هؤلاء من أهل الإسلام، وأتباع القرآن، الذي يخاطب خاتم النبيين والمرسلين، حين لعن رؤساء المشركين، الذين حاربوه حتى خضبوا بالدم محياه، وكسروا إحدى ثناياه، بقوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ وقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾؟
10. هذا تعليم القرآن الحكيم، وهذا هديه القويم، فهل كان أهل بخارى مهتدين به عندما كانوا يقولون وقد علموا بعزم روسيا على الاستيلاء على بلادهم: إن شاه نقشبند هو حامي هذه البلاد فلن يستطيعها أحد؟ هل كان أهل فاس مهتدين عندما لجؤوا إلى قبر وليهم إدريس، يستغيثونه ويستفتحون به على الفرنسيس، هل كان المسلمون على شيء من هدي هذا الدين عندما كانوا يستنصرون بقراءة البخاري أو يستغيثون بالأولياء في بلاد كثيرة؟ أيزعمون أن تلك النزعات الوثنية تعد من الدعاء المشروع؟ ألم يعتبروا بهذه الآية وما رواه أهل الصحيح في سببها وهو دعاء النبي على رؤساء المشركين حين فعلوا ما فعلوا؟ ألم يتعلموا من ذلك أن الاستعداد بالفعل، مقدم على الدعاء بالقول، ألم يروا أن سلفهم كانوا ينصرون، أيام لم يكونوا دائما يقولون: (اللهم نكس أعلامهم، اللهم زلزل أقدامهم، اللهم يتم أطفالهم، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين) وأنهم بعد اللهج بهذه الكلمة، غير منصورين في جهة من الجهات؟ فالعمل العمل، الاستعداد الاستعداد، الأهبة الأهبة، ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60] ولا قوة إلا بالعلم، والمال، ولا مال إلا بالعدل، ولا عدل مع حكم الاستبداد، ثم بعد كمال الاستعداد، يكون الذكر والاستمداد ﴿إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله ولا تنازعوا فتفشلوا﴾ [الأنفال: 45 ـ 46] هذا هدى الإسلام وقد تمثل لهم صدقه في النبي وصالحي المؤمنين، ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون: 68]؟
11. ثم أكد تعالى هذه الحقيقة وأيدها بقوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فمن كان له ملك السماوات والأرض كان حقيقا بان يكون له الأمر كله في السماوات والأرض، ولا يمكن أن يكون لأحد من أهلهما شركة معه ولا رأي ولا وساطة تأثير في تدبيرهما، وإن كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا إلا من سخره تعالى للقيام بشيء فإنه يكون خاضعا لذلك التسخير، لا يستطيع الخروج فيه عن السنن العامة التي قام بها نظام الكون ونظام الاجتماع، وفي ذلك تأديب من الله تعالى لرسوله وإعلام بان ذلك اللعن والدعاء على المشركين مما لم يكن ينبغي له، ولذلك قال ابن جرير في تفسير الآية: (يعني بذلك تعالى ذكره ليس لك يا محمد من الأمر شيء ولله جميع ما بين أقطار السماوات والأرض من مشرق الشمس إلى مغربها دونك ودونهم يحكم فيهم بما شاء ويقضي ما أحب فيتوب على من أحب من خلقه العاصين أمره ونهيه ثم يغفر له ويعاقب من يشاء منهم على جرمه فينتقم منه الغفور الذي يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه من خلقه بفضله عليهم بالعفو والصفح والرحيم بهم في تركه عقوبتهم عاجلا على عظيم ما يأتون من المآثم)، ولا تنس أن مشيئته المغفرة أو التعذيب جارية على سن حكيمة مطردة كما تقدم غير مرة.
__________
(1) تفسير المنار: 4/117.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾ أي إن المقصود من نصركم بامداد الملائكة أن يهلك طائفة منهم، ويخزى طائفة أخرى ويغيظهم بالهزيمة، فيرجعوا خائبين لا أمل لهم في نصر، وعبر بالطرف لأنه أقرب إلى المؤمنين من الوسط، فهو أول ما يوصل إليه من الجيش، وقد أهلك الله من المشركين طائفة أول الحرب يوم أحد، قدر عددهم بنحو ثمانية عشر رجلا، وعبر بالخيبة دون اليأس، لأن الأولى لا تكون إلا بعد توقع النصر وانتظاره، والثانية بعده وبدونه، وضد الخيبة الظفر، وضد اليأس الرجاء.
2. ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها لبيان أن الأمر كله بيد الله فقال: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ أي ليس إليك أيها الرسول من أمر خلقي إلا أن تنفذ فيهم أمرى، وتنتهى فيهم إلى طاعتي، ثم أمرهم بعد ذلك، والقضاء فيهم بيدي دون غيرى، أقضى فيهم وأحكم بالذي أشاء من التوبة، أو عاجل العذاب بالقتل والنقم، أو آجله بما أعددت لأهل الكفر بي من العذاب في الآخرة.
3. ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ أي ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم، ليس لك من الأمر شيء، روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال يوم أحد: اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية فتاب الله عليهم كلهم)، وروى أحمد ومسلم عن أنس (أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كسرت رباعيته يوم أحد، وشجّ في وجهه حتى سال الدم على وجهه، فقال: كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا وهو يدعوهم إلى ربهم، فأنزل الله ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ الآية.
4. لما حدث في وقعة أحد لحكما دينية واجتماعية وحربية يمكن أن نحملها لك فيما يلى: كان المؤمنون في وقعة بدر واثقين بنصر الله لنبيه وإظهار دينه، لم يضعف إيمانهم بذلك قلتهم وضعفهم، ولا إخراج المشركين للمهاجرين من ديارهم وأموالهم، ولما رأوا تباشير النصر ازدادوا إيمانا بأنهم المنصورون، وأن جندهم هم الغالبون ولكن خيّل إلى الكثير منهم أن النصر سيكون بالآيات، وخوارق العادات، من غير التزام السنن الإلهية التي جعلها الله في هذا الكون، وبنى عليها نظم الحياة، وأن وجود الرسول بين ظهرانيهم، ودعاءه ربه واستغاثته إياه أشد نكالا بالعدو من اتباع السنن الظاهرة التي من أهمها التزام النظام العسكري وإطاعة القائد، وجودة التعبئة، وحسن الحيلة، والتدبير في وضع الخطط الحربية، إلى نحو أولئك، وفاتهم أن الدين الإسلامي دين الفطرة، لا دين خوارق العادات، وسلوك طريق المعجزات، فلما قصّروا في الأخذ بالأسباب يوم أحد ظهر عليهم عدوهم، وجرح الرسول، وإن كان هو لم يقصر ولم ينهزم، ولكن البلاء إذا نزل لا يخص من كان السبب في وجوده كما قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ وكان من هذا درس عظيم للمؤمنين لمسوه بأيديهم وعلموا أن الرسول بشر ليس له من أمر العباد شيء، وإنما هو معلّم وأسوة حسنة فيما يعلم، والأمر كله لله يدبره بمقتضى سننه في الخلق.
5. هذا البيان الإلهي في تلك الموقعة التي رأوا نتائجها بأعينهم ـ برهان ساطع أمام الملأ على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذ لو كان زعيما سياسيا، ومؤسسا لبناء مملكة يريد توطيد دعائمها بفتوحه لأطراف البلاد، لما قال مثل هذا القول في مواطن الدفاع، وحب النصر على الأعداء، ولا سبيل للنصر على العدو إلا بالاستعداد والحيطة، وحسن التدبير والكياسة الحربية، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ ولا قوة إلا بالعلم والمال، ولا مال إلا إذا انتشر العدل في الأمة وبث بين أفرادها روح التعاون والشورى في مهامّ الأمور كما قال: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾
6. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قال ابن جرير: (أي لله جميع ما بين أقطار السماوات والأرض من مشرق الشمس إلى مغربها، دونك ودونهم، يحكم فيهم بما شاء، ويقضى فيهم بما أحب، فيتوب على من شاء من خلقه العاصين أمره ونهيه، ثم يغفر له، ويعاقب من شاء منهم على جرمه، فينتقم منه، فهو الغفور يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه من خلقه، بفضله عليهم بالعفو والصفح، وهو الرحيم بهم في تركه عقوبتهم عاجلا على عظيم ما يأتون من المآثم)
7. في هذا تأديب من الله لرسوله، وإعلام له بأن الدعاء على المشركين ولعنهم مما لم يكن ينبغي منك، إذ الأمر كله لله، وليس لأحد من أهل السماوات والأرض شركة معه ولا رأى ولا تدبير فيهما، وإن كان ملكا مقرّبا أو نبيا مرسلا، إلا من سخره الله للقيام بشيء من ذلك، فيكون خاضعا لذلك التسخير، لا يستطيع الخروج فيه عن السنن العامة التي قام بها نظام الكون ونظام الاجتماع.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/61.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
ثم يبين الله تعالى حكمة هذا النصر.. أي نصر.. وغاياته التي ليس لأحد من البشر منها شيء: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾
1. إن النصر من عند الله، لتحقيق قدر الله، وليس للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا للمجاهدين معه في النصر من غاية ذاتية ولا نصيب شخصي، كما أنه ليس له ولا لهم دخل في تحقيقه، وإن هم إلا ستار القدرة تحقق بهم ما تشاء! فلا هم أسباب هذا النصر وصانعوه؛ ولا هم أصحاب هذا النصر ومستغلوه! إنما هو قدر الله يتحقق بحركة رجاله، وبالتأييد من عنده، لتحقيق حكمة الله من ورائه وقصده.
2. ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فينقص من عددهم بالقتل، أو ينقص من أرضهم بالفتح، أو ينقص من سلطانهم بالقهر، أو ينقص من أموالهم بالغنيمة، أو ينقص من فاعليتهم في الأرض بالهزيمة! ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾، أي يصرفهم مهزومين أذلاء، فيعودوا خائبين مقهورين.
3. ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾، فإن انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة، وقد يقودهم إلى الإيمان والتسليم، فيتوب الله عليهم من كفرهم، ويختم لهم بالإسلام والهداية.
4. ﴿أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ يعذبهم بنصر المسلمين عليهم، أو بأسرهم، أو بموتهم على الكفر الذي ينتهي بهم إلى العذاب.. جزاء لهم على ظلمهم بالكفر، وظلمهم بفتنة المسلمين، وظلمهم بالفساد في الأرض، وظلمهم بمقاومة الصلاح الذي يمثله منهج الإسلام للحياة وشريعته ونظامه.. إلى آخر صنوف الظلم الكامنة في الكفر والصد عن سبيل الله.
5. على أية حال فهي حكمة الله، وليس لبشر منها شيء.. حتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يخرجه النص من مجال هذا الأمر، ليجرده لله وحده ـ سبحانه ـ فهو شأن الألوهية المتفردة بلا شريك.
6. بذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من هذا النصر: من أسبابه ومن نتائجه! وبذلك يطامنون من الكبر الذي يثيره النصر في نفوس المنتصرين، ومن البطر والعجب والزهو الذي تنتفخ به أرواحهم وأوداجهم! وبذلك يشعرون أن ليس لهم من الأمر شيء، إنما الأمر كله لله أولا وأخيرا.
7. بذلك يرد أمر الناس ـ طائعهم وعاصيهم ـ إلى الله، فهذا الشأن شأن الله وحده ـ سبحانه، شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها: طائعهم وعاصيهم سواء.. وليس للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وليس للمؤمنين معه إلا أن يؤدوا دورهم، ثم ينفضوا أيديهم من النتائج، وأجرهم من الله على الوفاء، وعلى الولاء، وعلى الأداء.
ملابسة أخرى في السياق اقتضت هذا التنصيص: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ فسيرد في السياق قول بعضهم: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾.. وقولهم: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾.. ليقول لهم: إن أحدا ليس له من الأمر من شيء، لا في نصر ولا في هزيمة، إنما الطاعة والوفاء والأداء هي المطلوبة من الناس، وأما الأمر بعد ذلك فكله لله، ليس لأحد منه شيء، ولا حتى لرسول الله.. فهي الحقيقة الأصيلة في التصور الإسلامي، وإقرارها في النفوس أكبر من الأشخاص وأكبر من الأحداث، وأكبر من شتى الاعتبارات.
8. ويختم هذا التذكير ببدر، وهذا التقرير للحقائق الأصيلة في التصور، بالحقيقة الشاملة التي ترجع إليها حقيقة أن أمر النصر والهزيمة مرده إلى حكمة الله وقدره.. يختم هذا التقرير بتقرير أصله الكبير: وهو أن الأمر لله في الكون كله، ومن ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وفق ما يشاء: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، فهي المشيئة المطلقة، المستندة إلى الملكية المطلقة، وهو التصرف المطلق في شأن العباد، بحكم هذه الملكية لما في السماوات وما في الأرض، وليس هنالك ظلم ولا محاباة للعباد، في المغفرة أو في العذاب، إنما يقضي الأمر في هذا الشأن بالحكمة والعدل، وبالرحمة والمغفرة، فشأنه ـ سبحانه ـ الرحمة والمغفرة: ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، والباب مفتوح أمام العباد لينالوا مغفرته ورحمته، بالعودة إليه، ورد الأمر كله له، وأداء الواجب المفروض، وترك ما وراء ذلك لحكمته وقدره ومشيئته المطلقة من وراء الوسائل والأسباب.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/472.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾ هو تعليل لما جاء في ختام الآية السابقة على هذه الآية، وهو قوله تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ حيث اقتضت عزّة الله وحكمته أن ينصر المؤمنين في معركة بدر، هذا النصر الذي كان منحة من الله كتبها بأيدي المؤمنين، ولولا فضل العزيز الحكيم لما نال المسلمون ما نالوا من أعدائهم.. ولكن قضى الله بذلك ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي ليقضى على جانب من الذين كفروا بالقتل، وبذلك ينهدّ ركن من هذا البناء الأسود، الذي يصدّ عباد الله عن دين الله.
2. ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ أي يملأ قلوبهم حسرة وألما، وذلك حين ينقلب الأحياء من جيش البغي هذا، بالهزيمة، وبما خلّفوا وراءهم في ميدان المعركة من جثث وأشلاء، لأبطالهم، وفلذات أكبادهم.
3. فهذا الجيش الآثم الباغي: فريقان: فريق حصدته سيوف المسلمين فى المعركة، وفريق فرّ مثخنا بالجراح، محملا بخزي الهزيمة وعارها مثقلا بالحزن والألم، لما فقد من أهل وأحباب، وتغلى مراجل الضغينة والحقد في رؤوس المشركين، وتتحول مكة كلها إلى ذئاب عاوية، تتردد في بيوتها، وفي أنديتها، وطرقاتها أصداء هذا العواء المسعور، تسبّ وتتوعد (محمدا) ومن اجتمع إليه من مهاجرين وأنصار، ثم ها هي ذي تجيء إليه محملة بحقدها، مشحونة ببغضائها، لتلقاه في يوم كيوم بدر، تراق فيه الدماء، وتتناثر الأشلاء، ويتقطع فيه ما بقي بينه وبين قومه من أواصر الرحم والقرابة.. فما أمرّ هذا وما أقساه! ويأسى النبيّ الكريم لهذا ويحزن، وكان يودّ ألا يبلغ الأمر بينه وبين أهله إلى هذا الحدّ، وهو الذي جاءهم بالهدى والرحمة، ودعاهم إلى البر والتقوى، ولكن القوم أبوا إلّا إعناتا له، وخلافا عليه، وإمعانا في توجيه الأذى والضرّ إليه وإلى من اتبعه، حتى لقد حملوه على أن يهاجر من موطنه، ليخلص بدينه، وليجد له طريقا غير هذا الطريق المسدود! فكان قول الله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ عزاء للنبيّ، وتخفيفا لما وجد في نفسه من تلك الحال التي وقعت بينه وبين أهله وذوى قرابته.. كما كان فيه إلفات لهؤلاء المشركين إلى الجهة التي نالتهم بهذا السوء الذي حلّ بهم، جزاء كفرهم وعنادهم، وأنها جهة لا تنال.. إنها يد الله القوى العزيز، لا يد محمد، ولا أصحاب محمد، وفي هذا تيئيس لهم من أن يأخذوا بثأرهم الذي احتسبوه على محمد وأصحاب محمد، فما كان لمحمد وأصحابه من هذا الأمر شيء.
4. قوله تعالى: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ فتح لصفحة جديدة، ولحساب جديد مع هؤلاء المشركين، بعد وقعة بدر.. فهم بين أمرين: إما أن يرجع راجعهم إلى الله ويستجيب لدعوة الحق الذي يدعى إليه، فيجد المغفرة والرحمة، وإما أن يزداد إثمه إثما، فيمضى في طريق العناد والكفر، والمحادّة لله ولرسوله، فيلقى الجزاء الذي هو أهله، ولا جزاء له غير العذاب الأليم، ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾، فما محمد إلا رسول، يبلّغ ما أنزل إليه من ربّه.. والله سبحانه هو الذي يرجع إليه الأمر كلّه، له ما في السماوات والأرض، لا يملك أحد معه شيئا.
5. ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ لا معقب لحكمه ولا ناقض لأمره! وفي قوله تعالى تعقيبا على هذا الحكم: ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ما يكشف فضل الله على عباده، ورحمته بهم، وأنها رحمة عامة شاملة، تنال الخلق جميعا، حتى أولئك العصاة المتمردين، وحتى وهم يتقلبون في العذاب الأليم! فهو عذاب فيه رحمة لهم، وتطهير لما تلطخوا به من أدران الإثم والشرك!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/580.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾ متعلّق ب (النّصر) باعتبار أنّه علّة لبعض أحوال النصر، أي ليقطع يوم بدر طرفا من المشركين، والطّرف ـ بالتحريك ـ يجوز أن يكون بمعنى النّاحية، ويخصّ بالنّاحية الّتي هي منتهى المكان، قال أبو تمّام:
çكانت هي الوسط المحميّ فاتّصلت...بها الحوادث حتّى أصبحت طرفاé
فيكون استعارة لطائفة من المشركين كقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ [الرعد: 41] ويجوز أن يكون بمعنى الجزء المتطرّف من الجسد كاليدين والرجلين والرأس فيكون مستعارا هنا لأشراف المشركين، أي ليقطع من جسم الشرك أهم أعضائه، أي ليستأصل صناديد الّذين كفروا، وتنكير (طرفا) للتفخيم، ويقال: هو من أطراف العرب، أي من أشرافها وأهل بيوتاتها.
2. معنى ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ يصيبهم بغمّ وكمد، وأصل كبت كبد بالدال إذا أصابه في كبده، كقولهم: صدر إذا أصيب في صدره، وكلي إذا أصيب في كليته، ومتن إذا أصيب في متنه، ورئي إذا أصيب في رئته، فأبدلت الدال تاء وقد تبدل التاء دالا كقولهم: سبد رأسه وسبته أي حلقه، والعرب تتخيّل الغمّ والحزن مقرّه الكبد، والغضب مقرّه الصّدر وأعضاء التنفّس، قال أبو الطيب يمدح سيف الدّولة حين سفره عن أنطاكية:
çلأكبت حاسدا وأري عدوا...كأنّهما وداعك والرّحيلé
3. استقرى أحوال الهزيمة فإنّ فريقا قتلوا فقطع بهم طرف من الكافرين، وفريقا كبتوا وانقلبوا خائبين، وفريقا منّ الله عليهم بالإسلام، فأسلموا، وفريقا عذّبوا بالموت على الكفر بعد ذلك، أو عذبوا في الدنيا بالذلّ، والصغار، والأسر، والمنّ عليهم يوم الفتح، بعد أخذ بلدهم و(أو) بين هذه الأفعال للتقسيم.
4. هذا القطع والكبت قد مضيا يوم بدر قبل نزول هذه الآية بنحو سنتين، فالتّعبير عنهما بصيغة المضارع لقصد استحضار الحالة العجيبة في ذلك النصر المبين العزيز النظير.
5. جملة ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ معترضة بين المتعاطفات، والخطاب للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيجوز أن تحمل على صريح لفظها، فيكون المعنى نفي أن يكون للنّبي، أي لقتاله الكفار بجيشه من المسلمين، تأثير في حصول النّصر يوم بدر، فإن المسلمين كانوا في قلّة من كلّ جانب من جوانب القتال، أي فالنصر حصل بمحض فضل الله على المسلمين، وهذا من معنى قوله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ [الأنفال: 17]
6. لفظ (الأمر) من قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ معناه الشأن، و(أل) فيه للعهد، أي من الشأن الذي عرفتموه وهو النّصر، ويجوز أن تحمل الجملة على أنّها كناية عن صرف النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الاشتغال بشأن ما صنع الله بالّذين كفروا، من قطع طرفهم، وكبتهم أو توبة عليهم، أو تعذيب لهم: أي فذلك موكول إلينا نحقّقه متى أردنا، ويتخلّف متى أردنا على حسب ما تقتضيه حكمتنا، وذلك كالاعتذار عن تخلّف نصر المسلمين يوم أحد.
7. لفظ (الأمر) بمعنى شأن المشركين، والتعريف فيه عوض عن المضاف إليه، أي ليس لك من أمرهم اهتمام، وهذا تذكير بما كان للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم بدر من تخوّف ظهور المشركين عليه، وإلحاحه في الدّعاء بالنّصر، ولعلّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يودّ استيصال جميع المشركين يوم بدر حيث وجد مقتضى ذلك وهو نزول الملائكة لإهلاكهم، فذكّره الله بذلك أنّه لم يقدّر استيصالهم جميعا بل جعل الانتقام منهم ألوانا فانتقم من طائفة بقطع طرف منهم، ومن بقيّتهم بالكبت، وهو الحزن على قتلاهم، وذهاب رؤسائهم، واختلال أمورهم، واستبقى طائفة ليتوب عليهم ويهديهم، فيكونوا قوّة للمسلمين فيؤمنوا بعد ذلك، وهم من آمن من أهل مكّة قبل الفتح، ويوم الفتح: مثل أبي سفيان، والحارث بن هشام أخي أبي جهل، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وخالد بن الوليد، وعذّب طائفة عذاب الدنيا بالأسر، أو بالقتل: مثل ابن خطل، والنضر بن الحارث، فلذلك قيل له: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾، ووضعت هذه الجملة بين المتعاطفات ليظهر أنّ المراد من الأمر هو الأمر الدائر بين هذه الأحوال الأربعة من أحوال المشركين، أي ليس لك من أمر هذه الأحوال الأربعة شيء ولكنّه موكول إلى الله، هو أعلم بما سيصيرون إليه.
8. جعل هذه الجملة قبل قوله: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ استئناس للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذ قدّم ما يدلّ على الانتقام منهم لأجله، ثمّ أردف بما يدلّ على العفو عنهم، ثمّ أردف بما يدلّ على عقابهم، ففي بعض هذه الأحوال إرضاء له من جانب الانتصار له، وفي بعضها إرضاء له من جانب تطويعهم له، ولأجل هذا المقصد عاد الكلام إلى بقية عقوبات المشركين بقوله تعالى: ﴿أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾
9. ولكون التّذكير بيوم بدر وقع في خلال الإشارة إلى وقعة أحد، كأنّ في هذا التّقسيم إيماء إلى ما يصلح بيانا لحكمة الهزيمة اللاحقة المسلمين يوم أحد، إذ كان في استبقاء كثير من المشركين، لم يصبهم القتل يومئذ، ادّخار فريق عظيم منهم للإسلام فيما بعد، بعد أن حصل رعبهم من المسلمين بوقعة بدر، وإن حسبوا للمسلمين أي حساب بما شاهدوه من شجاعتهم يوم أحد، وإن لم ينتصروا، ولا يستقيم أن يكون قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ متعلّقا بأحوال يوم أحد: لأنّ سياق الكلام ينبو عنه، وحال المشركين يوم أحد لا يناسبه قوله: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلى قوله: ﴿خَائِبِينَ﴾، ووقع في (صحيح مسلم)، عن أنس بن مالك: أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شجّ وجهه، وكسرت رباعيته يوم أحد، وجاء المسلمون يمسحون الدم عن وجه نبيّهم، فقال النّبي ـ عليه السّلام ـ: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيّهم وهو يدعوهم إلى ربّهم)، أي في حال أنّه يدعوهم إلى الخير عند ربّهم، فنزلت الآية، ومعناه: لا تستبعد فلاحهم، ولا شكّ أن قوله فنزلت هذه الآية متأوّل على إرادة: فذكّر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذه الآية، لظهور أن ما ذكروه غير صالح لأن يكون سببا لأنّ النّبي تعجّب من فلاحهم أو استبعده، ولم يدّع لنفسه شيئا، أو عملا، حتّى يقال: (ليس لك من الأمر شيء)، وروى الترمذي: أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دعا على أربعة من المشركين، وسمّى أناسا، فنزلت هذه الآية لنهيه عن ذلك، ثمّ أسلموا وقيل: إنّه همّ بالدعاء، أو استأذن الله أن يدعو عليهم بالاستيصال، فنهى، ويردّ هذه الوجوه ما في (صحيح مسلم)، عن ابن مسعود، قال كأنّي انظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يحكي نبيئا من الأنبياء ضربه قومه، وهو يمسح الدم عن وجهه، وهو يقول: ربّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون، وورد أنّه لمّا شجّ وجهه يوم أحد قال له أصحابه: لو دعوت عليهم، فقال: إنّي لم أبعث لعّانا، ولكنّي بعثت داعيا ورحمة، اللهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون، وما ثبت من خلقه صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنّه كان لا ينتقم لنفسه.
أغرب جماعة فقالوا نزل قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ نسخا لما كان يدعو به النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قنوته على رعل، وذكوان، وعصية، ولحيان، الّذين قتلوا أصحاب بئر معونة، وسندهم في ذلك ما وقع في (البخاري) أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يزل يدعو عليهم، حتّى أنزل الله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾، قال ابن عطية: وهذا كلام ضعيف كله وليس هذا من مواضع الناسخ والمنسوخ، وكيف يصحّ أن تكون نزلت لنسخ ذلك وهي متوسطة بين علل النّصر الواقع يوم بدر، وتفسير ما وقع في (صحيح البخاري) من حديث أبي هريرة: أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ترك الدعاء على المشركين بعد نزول هذه الآية أخذا بكامل الأدب، لأنّ الله لمّا أعلمه في هذا بما يدلّ على أن الله أعلم بما فيه نفع الإسلام، ونقمة الكفر، ترك الدعاء عليهم إذ لعلّهم أن يسلموا، وإذ جعلنا دعاءه صلّى الله عليه وآله وسلّم على قبائل من المشركين في القنوت شرعا تقرّر بالاجتهاد في موضع الإباحة لأن أصل الدعاء على العدوّ مباح، فتركه لذلك بعد نزول هذه الآية، من قبيل النسخ بالقياس، نسخت حكم الإباحة التي هي استواء الفعل والترك بإثبات حكم أولوية الفعل.
10. ومنهم من أبعد المرمى، وزعم أن قوله: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ منصوب بأن مضمرة وجوبا، وأنّ (أو) بمعنى حتّى: أي ليس لك من أمر إيمانهم شيء حتّى يتوب الله عليهم، أي لا يؤمنون إلّا إذا تاب عليهم، وهل يجهل هذا أحد حتّى يحتاج إلى بيانه، على أن الجملة وقعت بين علل النصر، فكيف يشتّت الكلام، وتنتثر المتعاطفات.
11. ومنهم من جعل ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ عطفا على قوله: ﴿الْأَمْرُ﴾ أو على قوله: ﴿شَيْءٍ﴾، من عطف الفعل على اسم خالص بإضمار أن على سبيل الجواز، أي ليس لك من أمرهم أو توبتهم شيء، أو ليس لك من الأمر شيء أو توبة عليهم.
12. سؤال وإشكال: هلّا جمع العقوبات متوالية: فقال ليقطع طرفا من الّذين كفروا، أو يكبتهم فينقلبوا خائبين، أو يتوب عليهم، أو يعذّبهم، والجواب: روعي قضاء حقّ جمع النظير أولا، وجمع الضدّين ثانيا، بجمع القطع والكبت، ثم جمع التوبة والعذاب، على نحو ما أجاب به أبو الطيب عن نقد من نقد قوله في سيف الدّولة:
çوقفت وما في الموت شكّ لواقف...كأنّك في جفن الردى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى حزينة...ووجهك وضّاح وثغرك باسمé
إذ قدّم من صفتيه تشبيهه بكونه في جفن الردى لمناسبة الموت، وأخّر الحال وهي ووجهك وضّاح لمضادّة قوله كلمى حزينة، في قصة مذكورة في كتب الأدب، واللام الجارّة لام الملك، وكاف الخطاب لمعيّن، وهو الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذه الجملة تجري مجرى المثل إذ ركبت تركيبا وجيزا محذوفا منه بعض الكلمات، ولم أظفر، فيما حفظت من غير القرآن، بأنّها كانت مستعملة عند العرب، فلعلّها من مبتكرات القرآن، وقريب منها قوله: ﴿وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الممتحنة: 4] وسيجيء قريب منها في قوله الآتي: ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [آل عمران: 154]، و﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ [آل عمران: 154] فإن كانت حكاية قولهم بلفظه، فقد دلّ على أنّ هذه الكلمة مستعملة عند العرب، وإن كان حكاية بالمعنى فلا.
13. ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ إشارة إلى أنّهم بالعقوبة أجدر، وأنّ التّوبة عليهم إن وقعت فضل من الله تعالى.
14. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تذييل لقوله: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ مشير إلى أن هذين الحالين على التوزيع بين المشركين، ولمّا كان مظنّة التطلّع لمعرفة تخصيص فريق دون فريق، أو تعميم العذاب، ذيّله بالحوالة على إجمال حضرة الإطلاق الإلهية، لأنّ أسرار تخصيص كلّ أحد بما يعيّن له، أسرار خفيّة لا يعلمها إلّا الله تعالى، وكلّ ميسّر لما خلق له.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/213.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾ في هذا النص الكريم بيان لثمرات نصر الله تعالى، وفيه يتبين أن نصر الله لعبادة المؤمنين ينته إلى غايات منها:
أ. أن يقطع طرفا من الذين كفروا، وفسر العلماء ذلك بأن يقتل فريق منهم ويؤسر فريق، فإن ذلك قطع لهم، وعندى أن قطع طرف من الذين كفروا يتحقق بذلك، ويتحقق بما هو أقوى منه، وهو أن تنقص عليهم الأرض من أطرافها، ويستولى على جزء من أرضهم، حتى يتحقق قوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ [الأحزاب]
ب. ومن غايات النصر ونتائجه أن يكبت الله تعالى الذين كفروا بسبب كفرهم، والكبت يطلق بعدة معان، فيراد به الرد العنيف، ويراد به شدة الغيظ، وقيل: إن أصله الكبد، أي إصابة الكبد وتقريحه بالغيظ الشديد، ويطلق ويراد به الخزي، والمعنى أن من غايات نصر الله تعالى للمؤمنين أن يصاب الذين كفروا بالغيظ الشديد والخزي والألم النفسي، حتى يخبو صوت الكفر، ويعلو صوت الإيمان، ويصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعند الناس ينقلبون، أي يعودون خائبين، وفي التعبير عن العودة بالانقلاب إشارة إلى أن مقاصدهم قد انقلبت، فقد أرادوا اقتلاع الإسلام فما وهن المسلمون، وأرادوا أن يطفئوا النور فما انطفأ، فالانقلاب عودة من غير تحقق المقاصد، وفي هذا إشارة إلى أن الجراحات التي أصابت المؤمنين لم تكن نصرا للكافرين، بل قد كانت ثمرة النصر للمؤمنين، إذ قد انقلب الكفار خائبين: ﴿وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا﴾ [الأحزاب]، ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [إبراهيم]
2. ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ الكلام متصل بغزوة أحد وما فيها من عبر، فإنه يروى في الصحاح عن أنس: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج وجهه الكريم، حتى سال منه الدم الزكى، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم) فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾
3. سواء أكان هذا هو السبب في النزول أم لم يكن، فإن الخبر صحيح في ذاته، والآية الكريمة متصلة بما قبلها، وهو اتصال تفسير وتتميم على بعض التخريجات، أو اتصال موضوع على تخريج آخر، إذ إن موضوعها متصل بغزوة أحد كالآيات قبلها، والتخريجان يظهران في تفسير قوله تعالى: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾:
أ. فإن بعض العلماء يعتبرها معطوفة على قوله تعالى في الآية السابقة: ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ ويكون قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ جملة معترضة؛ والمعنى على هذا: إن النصر من عند الله العزيز الحكيم يعطيه عباده المؤمنين ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم، بأن يخزيهم ويرد كيدهم في نحورهم، أو يتوب عليهم أو يعذبهم، ولكن الأمر في هذا ليس لك، إنما هو لله تعالى، لأنه يتصل بتدبيره سبحانه الكوني وتقديره الأزلي وليس لك إلا أن تدبر ما تستطيعه، وتقدر ما يدخل في حسبانك، وتنفيذ ما تكلف بتكليفه وقد رجح هذا التخريج الزمخشري وقال فيه: (المعنى أن الله مالك أمرهم، فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر، وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم)، هذا هو التخريج الأول في قوله تعالى: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾
ب. وهناك تخريج آخر مؤداه أن الاتصال ليس اتصال عطف بين الآيتين، إنما هو اتصال موضوع فقط، وهذه الآية تكون لأمر جديد في الموضوع، وهو بيان أن هؤلاء منهم من يفلح فيتوب، ومنهم من يصر على الكفر فيعذب، وتكون نصب ﴿أَوْ يَتُوبَ﴾ على تقدير (أن) الناصبة، وتكون (أو) بمعنى (حتى) والمعنى: ليس لك من أمرهم شيء فيما يتعلق بمستقبلهم حتى يتوب الله عليهم فتفرح بتوبتهم، أو حتى يصروا فيعذبهم فترى آية الله فيهم وصدق وعده لأنبيائه، إذ قد وعد، ووعده حق وصدق، وقيل إن (أو) هنا بمعنى (إلا)، والمعنى: ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح، أو يعذبهم فيذهب غيظ المؤمنين، والمؤدى واحد سواء كانت (أو) بمعنى (حتى) أو (إلا)
4. ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ تعليل لعذابهم عند إصرارهم، فالسبب في التعذيب بعد هذا الإصرار أنهم ظالمون، لأنهم اعتدوا على المؤمنين ففتنوهم عن دينهم الذي ارتضوا، واعتدوا على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بإيذائه والسخرية منه، واعتدوا مرة ثالثة بقتال المؤمنين، ومحاولة اقتلاع مدينتهم الطاهرة، واعتدوا على الحقائق فموهوها وزيفوها، واعتدوا على أنفسهم فأضلوها وأفسدوها؛ اعتدوا كل هذه الأنواع من الاعتداء فكانوا ظالمين ومستحقين للعذاب، وقد أكد سبحانه وتعالى وصفهم بالظلم ب (إنّ) المؤكدة للحكم، وبالجملة الاسمية، وبوصفهم بالظلم كأنه شأن من شؤونهم وطبيعة في نفوسهم، إذ لم تهدهم إلى الحق الحجج الدامغة، ولا الآيات البينة ولا القوة الغالبة.
5. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ هذا تأكيد للنفي السابق في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ إذ الأمر في السماوات والأرض كله لله تعالى، وسلطانه تعالى على ما في السماوات والأرض سلطان المنشئ والمدبر والمالك والعالم بماضي ما فيها وحاضره ومستقبله، خلق كل شيء فقدره تقديرا، وهو يعلم بما يجرى فيه، وما سيكون من شأن له في المستقبل فهو علام الغيوب الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وإذا كان كذلك فلا سلطان لأحد سواه، وليس لأحد مهما أعلى الله تعالى منزلته، واختصه بفضله ورحمته، شيء من الأمر، وهو سبحانه وتعالى يعلم توبة التائب قبل أن يتوب، وإصراره على الذنب قبل أن يموت، وهو الذي يغفر إن شاء، ويعذب من يشاء، ولذا قال بعد ذلك للدلالة على كمال سلطانه: ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾
6. سلطانه تعالى في هذا مطلق لا قيد يقيده؛ لأنه الحكم المطلق الذي لا يرد حكمه، والقادر المهيمن القاهر فوق عباده، ولقد قيد الزمخشري الغفران بالتوبة، ويقول في ذلك: (عن الحسن البصرى) يغفر لمن يشاء بالتوبة ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين، ويعذب من يشاء) ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين لعذابه، وعن عطاء: (يغفر لمن يتوب إليه، ويعذب من لقبه ظالما..) ويشير إلى اختيار ذلك الرأي الذي نقله، ويقرر أن السياق يؤدى إلى هذا، لأن هذا تفسير لقوله تعالى من قبل: أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون، إذ تكون المغفرة عند التوبة والعذاب عند البقاء على الظلم، ويرمى الذي يسوغون الغفران لغير التائبين بأنهم يتصامون ويتعامون عن آيات الله فيخبطون خبط عشواء!، والأمر في هذه القضية يرجع إلى أن المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ يقررون أن الذنب لا يغفر إلا بالتوبة، لصدق وعد الله ووعيده وقد وعد المتقين والتائبين بالثواب، وأوعد الظالمين بالعقاب، والله سبحانه وتعالى منجز وعده ووعيده، وأكثر العلماء على أن الله تعالى وصف نفسه بالغفران، وقال: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء] ولقد ذيل سبحانه وتعالى النص الكريم بقوله: ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وصف سبحانه وتعالى ذاته العلية بصيغة المبالغة في الغفران، فقال: ﴿غَفُورٌ﴾ أي كثير المغفرة يحبها ويريدها، وهو رحيم، والرحمة أوسع معنى وأشمل من مطلق التجاوز عن الذنب، بل إن الرحمة قد تعم العقاب كما تعم الثواب، فاقتران الرحمة بالغفران يدل على ثلاثة أمور.
أ. أولها: أن الله تعالى لا يكتفى بغفران الذنوب عن العصاة التائبين، بل يثيبهم على ما يفعلون من حسنات، وإن الحسنات عنده سبحانه وتعالى يذهبن السيئات.
ب. ثانيها: أن الغفران من الرحمة، وما دام من الرحمة فلا قيد يقيده، والله أعلم بمن يكون موضع رحمته، ومكان مثوبته.
ج. ثالثها: أن العذاب للمصر على الذنب الذي يعيث في الأرض فسادا، ويفتن الناس عن دينهم يعد من الرحمة؛ لأن رحمة الله تعالى عامة لا خاصة، ومن الرحمة بالعامة عقاب العصاة المفسدين، وثواب الطائعين الأبرار.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1401.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾، اي ان الله سبحانه أمدكم بالملائكة ليهلك طائفة من الكافرين بالقتل والأسر، أو يخزيهم بالهزيمة، فيرجعوا خائبين لا أمل لهم بالنصر.
2. ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾، قد يظن المسلمون ـ بالنظر إلى تعظيمهم رسول الله ـ ان له يدا فيما حدث للمشركين ببدر، أو يحدث لهم من الهزيمة، فدفع سبحانه هذا الوهم بأن الأمر كله لله وحده.. وقد أكد القرآن في العديد من آياته بأن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم هو بشير ونذير، يبلغ أحكام الله لعباده، وكفى، وغير بعيد أن تكون الحكمة من هذا التكرار والتأكيد ان لا يغالي المسلمون في نبيهم، كما غالى المسيحيون بالسيد المسيح عليه السلام.
3. ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾، يتوب منصوب، لأنه معطوف على يكبتهم المنصوبة في الآية السابقة، والمعنى ان الأمر كله لله، فأما أن يهلكهم، أو يتوب عليهم ان أسلموا، أو يعذبهم ان أصروا على الكفر، لأنهم يستحقون العذاب بظلمهم، أي بكفرهم.
4. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ومن كان له ملك السماوات والأرض كان حقيقا بأن يكون له الأمر كله، ولا شيء لأحد معه، ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾، ذكرنا أكثر من مرة ان العقل يحكم بأن الكافر يستحق العقاب، ولكن لا يحتمه على كل حال، بل ان لله سبحانه ان يغفر عنه لحكمة، مع استحقاقه للعقاب، تماما كما تغفر عمن أساء اليك، وتسقط ديونك عمن هو مدين لك.. وجانب الرحمة والمغفرة عند الله هو الغالب تفضلا منه وكرما.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/154.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ إلى آخر الآيات، اللام متعلق بقوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ﴾ وقطع الطرف كناية عن تقليل عدتهم وتضعيف قوتهم بالقتل والأسر كما وقع يوم بدر فقتل من المشركين سبعون وأسر سبعون، والكبت هو الإخزاء والإغاظة.
2. ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ معترضة، وفائدتها بيان أن الأمر في القطع والكبت لله، وليس للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه صنع حتى يمدحوه ويستحسنوا تدبيره إذا ظفروا على عدوهم ونالوا منه، ويلوموه ويوبخوه إذا دارت الدائرة عليهم ويهنوا ويحزنوا كما كان ذلك منهم يوم أحد على ما حكاه الله تعالى.
3. ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ معطوف على قوله: ﴿لْيَقْطَعْ﴾، والكلام متصل، وقوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، بيان لرجوع أمر التوبة والمغفرة إلى الله تعالى، والمعنى: أن هذا التدبير المتقن منه تعالى إنما هو ليقطع طرفا من المشركين بالقتل والأسر أو ليخزيهم ويخيبهم في سعيهم أو ليتوب عليهم أو ليعذبهم، أما القطع والكبت فلأن الأمر إليه لا إليك حتى تمدح أو تذم، وأما التوبة والعذاب فلأن الله هو المالك لكل شيء فيغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، ومع ذلك فإن مغفرته ورحمته تسبقان عذابه وغضبه فهو الغفور الرحيم.
4. إنما أخذنا قوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، في موضع التعليل للفقرتين الأخيرتين أعني قوله: ﴿أَوْ يَتُوبَ﴾، لما في ذيله من اختصاص البيان بهما أعني قوله: ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾
5. ذكر المفسرون وجوها أخر في اتصال قوله: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾، وفي معنى العطف في قوله: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾، وكذا في ما يعلله قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾، وما يعلله قوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، أغمضنا عن التعرض لها والبحث عنها لقلة الجدوى فيها لمخالفتها ما يفيده ظاهر الآيات بسياقها الجاري، فمن أراد الاطلاع عليها فليراجع مطولات التفاسير.
6. ذكر هنا قصة غزوة أحد كما هي في كتب السيرة، وبرواية الإمام الصادق، وعلق عليها بقوله: في القصة روايات أخر ربما تخالف هذه الرواية في بعض فقراتها:
أ. منها: ما في هذه الرواية أن عدة المشركين كانت خمسة آلاف فإن غالب الروايات أنهم كانوا ثلاثة آلاف رجل.
ب. ومنها: ما فيها أن عليا عليه السلام قتل حاملي الراية وهم تسعة ويوافقها فيه روايات أخر، ورواه ابن الأثير في الكامل عن أبي رافع، وبقية الروايات تنسب قتل بعضهم إلى غيره عليه السلام والتدبر في القصة يؤيد ما في هذه الرواية.
ج. ومنها: ما فيها أن هندا أعطت وحشيا عهدا في قتل حمزة فإن ما روته أهل السنة أن الذي أعطاه العهد مولاه جبير بن مطعم وعده تحريره على الشرط، وإتيانه بكبد حمزة إلى هند دون جبير يؤيد ما في هذه الرواية.
د. ومنها: ما فيها أن جميع المسلمين تفرقوا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا علي وأبو دجانة وهو الذي اتفقت عليه الروايات، وفي بعضها ذكر لغيرهما حتى أنهي من ثبت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى ثلاثين رجلا لكن هذه الروايات ينفي بعضها ما في بعض، وعليك بالتدبر في أصل القصة والقرائن التي تبين الأحوال حتى يخلص لك الحق، فإن هذه القصص والروايات شهدت مواقف موافقة ومخالفة ومرت بأجواء نيرة ومظلمة حتى انتهت إلينا.
هـ. ومنها: ما فيها أن الله بعث ملكا فحمل كبد حمزة فرده إلى موضعه، وليس في غالب الروايات، وفي بعضها كما في الدر المنثور عن ابن أبي شيبة وأحمد وابن المنذر عن ابن مسعود في حديث قال ثم قال أبو سفيان: قد كان في القوم مثلة وإن كانت لمن غير ملإ منا ما أمرت ولا نهيت، ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرني، قال فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه، وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها فقال رسول الله ص: أأكلت شيئا؟ قالوا: لا قال ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة النار، الحديث، وفي روايات أصحابنا وغيرهم: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أصيب يومئذ بشجة في جبهته، وكسرت رباعيته: واشتكت ثنيته رواه مغيرة.
7. الروايات في قصة أحد كثيرة جدا ولم نرو من بينها فيما تقدم ويأتي إلا النزر اليسير الذي يتوقف عليها فهم معاني الآيات النازلة فيها، فالآيات في شأن القصة أقسام:
أ. فمنها: ما تتعرض لفشل من فشل من القوم وتنازع أو هم أن يفشل يومئذ.
ب. ومنها: ما نزل ولحنه العتاب واللوم على من انهزم وانكشف عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد كان الله حرم عليهم ذلك.
ج. ومنها: ما يتضمن الثناء على من استشهد قبل انهزام الناس، ومن ثبت ولم ينهزم وقاتل حتى قتل.
د. ومنها: ما يشتمل على الثناء الجميل على من ثبت إلى آخر الغزوة وقاتل ولم يقتل.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/10.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾ وعدكم الله ذلك الوعد الذي يكون معه النصر إن تم شرطه، فينصركم ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ كأنهم شبهوا بالجسد الواحد، فقتل بعضهم، وأسر بعضهم، قطع لطرف منهم لأنهم يفصلون عنهم بالقتل والأسر.
2. ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ يذلهم ويبطل قوّتهم، قال في (الكشاف): (ويقال: كبته: بمعنى كَبَدَه، إذا ضرب كبده بالغيظ والحرقة)، وفي (لسان العرب): (وقال الفراء: كبتوا: أي غيظوا واحزنوا يوم الخندق كما كبت من قاتل الأنبياء قبلهم، قال الأزهري: وقال من احتج للفراء: أصل الكبت الكَبْد فقلبت الدال تاء أخذ من الكبد وهو معدن الغيظ والأحقاد، فكأن الغيظ لما بلغ مبلغه أصاب أكبادهم فأحرقها)، وقال الشرفي في (المصابيح): (الكبت في اللغة: صرع الشيء على وجهه، يقال: كبته فانكبت، هذا تفسير، ثم يذكر والمراد منه الإخزاء والإهلاك واللعن والهزيمة والغيظ والإذلال وكل ذلك ذكره المفسرون)، والمناسب للسياق من هذه المعاني الإخزاء والإغاظة والإذلال فأما اللعن فهو غير داخل في الترديد بين قطع طرف أو كبت لأنهم كلهم ملعونون، والإهلاك لا يناسب السياق؛ لقوله تعالى: ﴿فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾ وهي مناسبة للمعنى الأصلي سواء كان هو الكبت بمعنى إصابة الكبد ـ بالدال ـ أو كان المعنى الأصلي هو الصرع على الوجه أي الكبُّ ـ بالباء الموحدة المشددة ـ وقوله: ﴿فَيَنْقَلِبُوا﴾ أي يرجعوا عن القتال ﴿خَائِبِينَ﴾ لم ينالوا خيراً ولا نالوا مرادهم.
3. ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ بأن يهديهم للإسلام ﴿أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ بعذاب من عنده، فالأمر لله يفعل ما يشاء و﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ يعني النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليس شريكاً في شيء من أمرهم، بل أمرهم إلى الله وحده وليس على الرسول إلا البلاغ، وامتثال أمر الله في الجهاد وقبول إسلام من أسلم والقيام بما كلفه الله، وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ أي يستحقون التعذيب.
4. قال في (المصابيح) قُبَيْلَ تفسير قوله الله تعالى: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا﴾: (قال الحاكم ـ يعني الجشمي صاحب التفسير الكبير ـ: جميع مغازي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ست وعشرون غزوة، قاتل في تسع منها، بدر الكبرى كانت يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة، وذلك أن جبريل أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يخبره بعير أبي سفيان المقبلة من الشام فخرج في خِفّ من أصحابه، وبلغ ذلك أبا سفيان فغيّر الطريق وبعث النفير إلى مكة فخرجوا حتى أتوا بدراً فرأى بعضهم الحرب وبعضهم الكفّ ثم اتفقوا على الحرب فقُتِلَ جماعة وأسِرَ جماعة منهم العباس ثم فدى الأسارى، ومنها أحد في شوال سنة ثلاث، والخندق وقريظة في شوال سنة أربع، وبني المصطلق، وبني لحيان في شعبان سنة خمس، وخيبر في سنة ستّ، والفتح في رمضان سنة ثمان، وحنين والطائف في شوال سنة ثمان، وأول مغازيه بدر وآخرها تبوك، وسراياه ستة وستون)، قوله: عِير أبي سفيان كان الله قد أباحها، ودل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ﴾، وقوله: فقتل جماعة وأسر جماعة: أي من المشركين، وقوله: والفتح في شهر رمضان: أي فتح مكة المكرمة، وقد جعل الخندق في السنة الرابعة، وقال شيخنا العلامة مجد الدين بن محمد في (التحف): (وفي الخامسة يوم الأحزاب..) إلخ، ومثله في (سيرة بن هشام) وفي قول الحاكم: خيبر في سنة ست، وفي كلام شيخنا في (التحف): سنة سبع وهو الذي في (سيرة ابن هشام) وفي (سيرة ابن هشام): (أن غزوة تبوك في رجب سنة تسع)
5. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي لله وحده كل العالمين، لا شريك له فيهم ولا في بعض منهم ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ لأنهم عباده، لا منازع له في قضائه فيهم، ولا معقب لحكمه، وقد بيّن في كتابه من يشاء أن يغفر لهم ومن يشاء أن يعذبهم؛ وليست الآية مسوقة لبيانهم ولا لإبطال بيانهم، ولا تعارض بينها وبين بيان من يشاء لهم المغفرة أو العذاب، ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فمن أسلم وأصلح بعد كفره قبل توبته ولو كان ممن قد حارب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/531.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ويحطم جانبا من قوّتهم العسكرية، ويسقط مواقعهم المتقدمة وتأثيراتهم القوية على الناس عندما تنزل الهزيمة بهم، وقد ذكر صاحب مجمع البيان أن هناك اختلافا في وجه اتّصاله بما قبله، (فقيل: يتصل بقوله: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾؛ ومعناه أعطاكم الله هذا النصر وخصكم به ليقطع طائفة من الذين كفروا بالأسر والقتل، وقيل: هو متصل بقوله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ﴾؛ أي: ولقد نصركم الله ببدر ليقطع طرفا)
2. ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ بالهزيمة ﴿فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾ خاسرين لم يحصلوا على شيء مما أرادوه وعملوا له في الدنيا والآخرة.
3. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾:
أ. فروي عن أنس بن مالك، وابن عباس، والحسن، وقتادة، والربيع، أنه لما كان من المشركين يوم أحد ما كان من كسر رباعيّة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وشجّه حتى جرت الدماء على وجهه قال كيف يفلح قوم نالوا هذا من نبيهم صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو مع ذلك حريص على دعائهم إلى ربهم؟ فأعلمه الله أنه ليس إليه فلاحهم، وأنه ليس إليه إلا أن يبلغ الرسالة ويجاهد حتى يظهر الدين، وإنما ذلك إلى الله تعالى، وكان الذي كسر رباعيته وشجّه في وجهه عتبة بن أبي وقاص، فدعا عليه بأن لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا، فمات كافرا قبل أن يحول الحول وأدمى وجهه رجل من هذيل يقال له عبد الله بن قمية، فدعا عليه، فكان حتفه أن سلّط الله عليه تيسا فنطحه حتى قتله، وروي أنه كان يمسح الدم على وجهه ويقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، فعلى هذا يمكن أن يكون على وجل من عنادهم وإصرارهم على الكفر فأخبره تعالى: أنه ليس إليه إلا ما أمر به من تبليغ الرسالة ودعوتهم، إلى الهدى، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 3]
ب. وقيل: إنه استأذن ربه في يوم أحد في الدعاء عليهم، فنزلت الآية، فلم يدع عليهم بعذاب الاستئصال، وإنما لم يؤذن له فيه لما كان في المعلوم من توبة بعض عن أبي علي الجبائي.
ج. وقيل: أراد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يدعو على المنهزمين عنه من أصحابه يوم أحد، فنهاه الله عن ذلك وتاب عليهم، ونزلت الآية: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ أي: ليس لك أن تلعنهم وتدعو عليهم، عن عبد الله بن مسعود.
د. وقيل: لما رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمون ما فعل بأصحابه وبعمه حمزة من المثلة، من جدع الأنوف والآذان وقطع المذاكير، قالوا: لئن أدالنا الله منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا بنا ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قطّ، فنزلت الآية، عن محمد بن إسحاق والشعبي.
هـ. وقيل: نزلت في أهل بئر معونة، وهم سبعون رجلا من قرّاء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأميرهم المنذر بن عمرو، بعثهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ليعلّموا الناس القرآن والعلم، فقتلهم جميعا عامر بن الطفيل، وكان فيهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر، فوجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من ذلك وجدا شديدا، وقنت عليهم شهرا، فنزل: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾، عن مقاتل.
الظاهر ـ كما جاء في مجمع البيان ـ قال: (والأصح أنها نزلت في أحد، لأن أكثر العلماء عليه ويقتضيه سياق الكلام، وإنّما قال: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ مع أن له صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يدعوهم إلى الله ويؤدّي إليهم بتبليغهم لأن معناه: ليس لك من أمر عقابهم واستئصالهم أو الدعاء عليهم أو لعنهم حتى تقع إنابتهم، فجاء الكلام على الإيجاز لأن المعنى مفهوم لدلالة الكلام عليه)
4. قد نلاحظ على هذه الروايات الواردة في أسباب النزول أنها كانت اجتهادات تفسيرية من أصحابها، فقد ركزت في أكثرها على مسألة دعاء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على الأعداء في معركة أحد ولعنهم، أو على التمثيل بهم في جولة أخرى، بينما نجد الآيتين في مقام بيان حقيقة إيمانية كلية في سنة الله في الكافرين الظالمين وفي قدرته الشاملة التي تجعل له السلطة الكاملة عليهم في المغفرة أو العذاب، للتأكيد على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في ذاته وفي دوره ـ لا يملك من الأمر في ذلك شيئا، لأن الأشياء في نتائجها الحاسمة تنطلق من إرادة الله، فلا دور للأنبياء إلا تهيئة الأجواء الملائمة للهداية أو المتحركة في مواقع التحدي من أجل تنفيذ أوامر الله في الأخذ بالوسائل التي يملكونها، مما أعطاهم الله القدرة فيه، لأن النتائج مربوطة بالحركة العامة للأوضاع والوسائل التي قد يملك الناس بعض القدرة على تحريكها بإرادة الله، ولكنهم لا يملكون كل شيء فيها من الداخل والخارج، والله العالم.
5. ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ في مصير هؤلاء الناس الذين حاربوك لتحدد ـ أنت ـ ذلك بطريقتك الخاصة، لأن الله لم يجعل للأنبياء ذلك إلا في دائرة خاصة من خلال وسيلة الدعاء تارة والشفاعة أخرى، فهما يتحركان من خلال ما حدّده الله لك من منهج ومواقع، فليس لك أن تشفع إلا لمن ارتضى أو تدعو إلّا لمن يريد الله لك أن تدعو له، ويبقى الأمر لله أن يعذبهم إن شاء أو يتوب عليهم ويغفر لهم إذا أراد.
6. ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ انطلاقا من حكمته العميقة الشاملة في العذاب والمغفرة اللذين لا ينطلقان من حالة طارئة أو الخضوع لضغط معين كما هو عند الناس، بل ينطلقان من السنّة الإلهية من موقع الحكمة في ذلك كله، فله أن يغفر لهم يتوب عليهم، وله أن يعذبهم.
7. ﴿فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ يستحقون العذاب، كما يمكن أن تنالهم المغفرة عند توفر عناصرها فيهم من خلال إنابتهم إلى الله وعودتهم إليه.
8. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ فله الكلمة العليا في شؤون مخلوقاته، وله الإرادة الحاسمة الفاعلة في مصيرهم في الدار الآخرة، لأنه يملك الأمر كله في الدنيا والآخرة، ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ المغفرة له ﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ عذابه، ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فقد سبقت رحمته غضبه، فيبقى الأمل لكل المذنبين في التعلق برحمته ليستريحوا في ساحة غفرانه، ولا مجال لليأس من ذلك كله، ولكن المسألة تبقى متحركة بين الخوف والرجاء، لا سيما أن الله لم يعين مواقع المغفرة والعذاب، وقد قيل: إنّما علّق الغفران والعذاب بالمشيئة، لأن المشيئة مطابقة للحكمة، فلا يشاء إلا ما تقتضي الحكمة مشيئة.
9. سؤال وإشكال: كيف يعذب الله عباده بالإجرام مع سعة رحمته؟ والجواب: رحمته لا تغلب حكمته، إذ لا تكون رحمته برقة القلب كما تكون الرحمة منا.
10. لقد عالجت هاتان الآيتان دور النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في الشؤون العامّة من قضايا الحرب والقتال، فليس هو قائدا يتصرف بمزاج القائد الذي يملك الأمر كله فيعفو عندما تدفعه نوازعه الذاتية إلى العفو، ويعاقب ويعذب عندما يوحي إليه مزاجه بذلك، بل هو رسول ينذر ويبشر، وجنديّ لله في ما يأمره به وينهاه عنه، فإذا انطلق في حياته من خلال الدور القيادي، فإنه يتسلم خطّة القيادة من ربّه في ما يشرعه الله له من أحكام، وما يخطط له من خطط، فهو القائد الذي يتحرك من خلال دور الجندية الخاضعة للقيادة العليا.
11. في ضوء ذلك، لا بدّ للمسلمين من أن يفهموا المسألة من هذا المنطلق الذي يوحي بأن الرسول لا يملك أمر التصرف من ناحية ذاتيّة ليمكن لهم أن يقدّموا إليه اقتراحات العفو من حيث يريدون العفو لبعض الأسرى، أو يحاوروه في موضوع العذاب من حيث يريدون العذاب لبعض آخر، بل كلّ ما هناك أنه يتلقى الأمر من الله ـ ربّه وربّ العالمين ـ فيصدر العفو عندما يقرر الله العفو عن إنسان ما، ويقرر العذاب عندما يقرر الله له ذلك، لأنهم ظالمون يستحقون كلّ ألوان العذاب بسبب ظلمهم وتمردهم وطغيانهم.. وتأتي الآية الثانية لتقرّر مبدأ رجوع كل شيء إلى الله، لأنه مالك لكل ما في السماوات وما في الأرض، فيغفر لمن يشاء في الدنيا والآخرة، ويعذب من يشاء في الدنيا والآخرة.. وقد سبقت رحمته غضبه، فإنه الغفور الرحيم الذي لا ينسى أحدا من غفرانه ورحمته.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/256.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثمّ إنه سبحانه عقب هذه الآيات بقوله: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾، وهذه الآية وإن ذهب المفسّرون في تفسيرها مذاهب مختلفة، إلّا أنها ـ في ضوء ما ذكرناه في تفسير الآيات السابقة بمعونة الآيات نفسها وبمعونة الشواهد التاريخية ـ واضحة المراد بيّنة المقصود كذلك، فهي تقصد أن تأييد الله للمسلمين بإنزال الملائكة عليهم إنما هو لأجل القضاء على جانب من قوّة العدو العسكرية، وإلحاق الذلة بهم.
2. يبقى أن نعرف أن (طرف) الشيء يعني جانبه وقطعة منه، وأمّا (يكبتهم) فيعني الرد بعنف وإذلال.
3. ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ وقع بين المفسّرين في تفسير هذه الآية كلام كثير، إلّا أن ما هو مسلّم تقريبا هو أن الآية الحاضرة نزلت بعد (معركة أحد) وهي ترتبط بأحداث تلك المعركة، والآيات السابقة تؤيد هذه الحقيقة أيضا.
4. هذه الآية تشكل جملة مستقلة، وعلى هذا تكون جملة ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ بمعنى (إلّا أن يتوب عليهم) ويكون معنى مجموع الآية كالتالي: ليس لك حول مصيرهم شيء، فإنهم قد استحقوا العذاب بما فعلوه، بل ذلك إلى الله، يعفو عنهم إن شاء أو يأخذهم بظلمهم، والمراد بالضمير (هم) إمّا الكفّار الذين ألحقوا بالمسلمين ضربات مؤلمة، حتّى أنهم كسروا رباعية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وشجوا جبينه المبارك، وإما المسلمين الذين فروا من ساحة المعركة، ثمّ ندموا على ذلك بعد أن وضعت الحرب أوزارها واعتذروا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وطلبوا منه العفو، فالآية تقول: إن العفو عنهم، أو معاقبتهم على ما فعلوا، أمر يعود إلى الله تعالى، وأن النبي لن يفعل شيئا بدون إذنه سبحانه.
5. هناك تفسير آخر، وهو أن يعتبر قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ جملة اعتراضية، وتكون جملة ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ جملة معطوفة على ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ وتعتبر هذه الآية متصلة بالآية السابقة، وعلى هذا يكون المراد من مجموع الآيتين، السابقة والحاضرة هو: إن الله سيمكنكم من وسائل النصر ويصيب الكفّار بإحدى امور أربعة: إما أن يقطع طرفا من جيش المشركين، أو يردهم على أعقابهم خائبين مخزيين، أو يتوب عليهم إذا أصلحوا، أو يعذبهم بظلمهم، وعلى كلّ حال فإنه سيعامل كلّ طائفة وفق ما تقتضيه الحكمة والعدالة، وليس لك أن تتخذ أي موقف من عندك إذ كلّ ذلك إلى الله تعالى.
6. نقلت في سبب نزول هذه الآية روايات عديدة منها أنه لما كان من المشركين يوم (أحد) ما كان من كسر رباعية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وشجه حتّى جرى الدم على وجهه الشريف، ولحق بالمسلمين ما لحق من الخسائر في الأرواح والإصابات في الأبدان قلق النبي على مصير أولئك القوم، وفكر في نفسه، كيف يمكن أن تهتدي تلك الجماعة المتمادية في غيها وعنادها وقال: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟)، فنزلت الآية وأخبره تعالى فيها أنه ليس إليه إلّا ما امر به من تبليغ الرسالة ودعائهم إلى الهدى، فهو ليس مسئولا عن هدايتهم إن لم يهتدوا ولم يستجيبوا لندائه.
7. لا بدّ هنا من الانتباه إلى نقطتين:
أ. إن المفسّر المعروف صاحب تفسير (المنار) يعتقد أن هذه الآية تعلم المسلمين درسا كبيرا في مجال الاستفادة من الوسائل والأسباب الطبيعية للنصر، وإن وعد الله لهم بإنزال النصر عليهم، ليس بمعنى أن للمسلمين أن يتجاهلوا الوسائل الحربية، والتخطيط العسكري، وما شاكل ذلك من الأسباب المادية اللازمة للقتال ولتحقيق الانتصار، وانتظار أن يدعو لهم النبي لينزل عليهم النصر الالهي، دون الأخذ بالأسباب القتالية المتعارفة، ولهذا جاءت الآية تخاطب النبي قائلة: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ بمعنى أن أمر النصر لم يوكل إليك، بل هو إلى الله، وقد جعل الله لتحقيقه سننا ونواميس يجب أن يستخدمها الناس حتّى يتحقّق لهم النصر والغلبة (وبالتالي فإن دعاء النبي وإن كان مؤثرا ومفيدا، إلّا أن له موارد استثنائية خاصّة)، وهذا الكلام وإن كان منطقيا في حد ذاته، إلّا أنه لا يلائم ما جاء في ذيل الآية إذ يقول سبحانه: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ ولهذا لا يمكن تفسير الآية بما قاله هذا الكاتب.
ب. إن هذه الآية وإن كانت تنفي أن يكون للنبي الحقّ في أن يغفر للكفار والمشركين أو يعذبهم، إلّا أنها لا تتعارض مع ما يستفاد من الآيات الأخرى من تأثير دعائه صلّى الله عليه وآله وسلّم وعفوه وشفاعته، لأن المقصود في الآية الحاضرة هو نفي أن يكون للنبي كلّ ذلك على نحو الاستقلال، وعلى هذا لا ينافي أن يكون له كلّ ذلك (من العفو أو المجازاة) بإذن الله سبحانه، فله بالتالي أن يعفو ـ بإذن الله ـ لمن أراد، أو يجازي حيث تصح المجازاة، كما أن له أن يهيئ عوامل النصر وأسباب الظفر، بل وله ـ بإذن الله ـ أن يحيي الموتى كما كان يفعل المسيح عليه السّلام بإذنه سبحانه.
8. إن الذين تمسكوا بقوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ لنفي وإنكار قدرة الرسول على هذا الأمر نسوا ـ في الحقيقة ـ الآيات القرآنية الأخرى في هذا المجال، فالقرآن الكريم يقول في سورة النساء: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾، فاستغفار النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عد ـ طبق هذه الآية ـ من العوامل المؤثرة لمغفرة الذنوب، وسوف نوضح هذه الحقيقة في أبحاثنا القادمة عند تفسير الآيات المناسبة إن شاء الله.
9. ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تأكيد لمفاد الآية السابقة، فيكون المعنى هو: أن العفو أو المجازاة ليس بيد النبي، بل هو الله الذي بيده كلّ ما في السماوات وكلّ ما في الأرض، فهو الحاكم المطلق لأنه هو الخالق، فله الملك وله التدبير، وعلى هذا الأساس فإن له أن يغفر لمن يشاء من المذنبين، أو يعذّب، حسب ما تقتضيه الحكمة، لأن مشيئته تطابق الحكمة: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾
10. ثمّ إنه سبحانه يختم الآية بقوله: ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تنبيها إلى أنه وإن كان شديد العذاب، إلّا أن رحمته سبقت غضبه، فهو غفور رحيم قبل أن يكون شديد العقاب والعذاب.
11. هنا يحسن بنا أن نشير إلى ما ذكره أحد كبار العلماء المفسّرين الإسلاميين وهو العلّامة الطبرسي من سؤال وجواب حول هذه الآية، لكونه على اختصاره في غاية الأهمية من الناحية الاعتقادية، فقد ذكر في ذيل هذه الآية أنه: سئل بعض العلماء: كيف يعذب الله عباده بذنوبهم مع سعة رحمته؟ فقال: (رحمته لا تغلب حكمته، إذ لا تكون رحمته برقة القلب كما تكون الرحمة منا)، بمعنى أن الرحمة الإلهية لا تكون على أساس عاطفي كما هو الحال فينا، بل إن رحمته ممتزجة دائما مع حكمته، وحكمته توجب عقوبة المذنبين إلّا في موارد خاصّة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/680.
68. الربا والتقوى والوعيد الإلهي
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈68⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 130 ـ 132]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: لعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه(1).
__________
(1) مسلم: 1597.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: كانت ثقيف تداين بني المغيرة في الجاهلية، فإذا حل الأجل قالوا: نزيدكم وتؤخرون عنا، فنزلت: ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٥٠.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في الآية: إن الرجل كان يكون له على الرجل المال، فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه، فيقول المطلوب: أخر عني وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك، فذلك الربا أضعافا مضاعفة(1).
2. روي أنّه قال: فوعظهم الله، ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ في أمر الربا فلا تأكلوا؛ ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ لكي تفلحوا(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ فخوف آكل الربا من المؤمنين بالنار التي أعدت للكافرين(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ يعني: في تحريم الربا؛ ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ يعني: لكي ترحموا، فلا تعذبون(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٥٩.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ نزلت في ثقيف وبني المغيرة، كان رجل يبيع البيع إلى أجل، فيحل الأجل، فيقول: أخر عني وأزيدك، فنزلت هذه الآية(1).
2. روي أنّه قال: كانوا يتبايعون إلى الأجل، فإذا حل الأجل زادوا عليهم وزادوا في الأجل، فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾(2).
__________
(1) الثوري في تفسيره: ص٨٠.
(2) ابن المنذر: ٩١٢.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ إياكم وما خالط هذه البيوع من الربا، فإن الله قد أوسع الحلال وأكثره وأطابه، ولا يلجئنكم إلى المعصية فاقة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٥٩.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ من أكل الربا فلم ينته فله النار(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٦٠.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾، وذلك أن الرجل كان إذا حل ماله طلبه من صاحبه، فيقول المطلوب: أخر عني، وأزيدك على مالك، فيفعلون ذلك، فوعظهم الله تعالى، وقال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ في الربا؛ ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٠١.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، أي: فأطيعوا الله لعلكم أن تنجوا مما حذركم من عذابه، وتدركوا ما رغبكم فيه من ثوابه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ معاتبة للذين عصوا رسوله حين أمرهم بالذي أمرهم به في ذلك اليوم وفي غيره؛ يعني: في يوم أحد(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٥١.
(2) ابن جرير: ٦/٥٢.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾: كان أبي يقول: إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف، وفي السن، يكون للرجل فضل دين، فيأتيه إذا حل الأجل، فيقول له: تقضي، أو تربي؟ فإن كان عنده شيء يقضيه قضى، وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثم حقة، ثم جذعة، ثم رباعيا، ثم هكذا إلى فوق، وفي العين يأتيه، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا، تكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة، أو يقضيه، قال فهذا قوله: ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٥٠.
ابن عيينة:
روي عن سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) أنه قال لمن عنده: أي الربا هو أربى؟ قالوا: أي شيء هو؟ قال ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾، قالوا: أي شيء هو؟ قال أن يكون للرجل على الرجل دين، فيأتيه، فيقول: ائتني حقي، فيقول: أزيدك، وأخرني، فهو أربى الربا، قال وأشد الربا ما نهى الله عنه(1).
__________
(1) ابن المنذر: ١/٥٩.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنّه قال: علة تحريم الربا لما نهي الله عزّ وجلّ عنه، ولما فيه من فساد الأموال، لأن الإنسان إذا اشترى الدرهم بالدرهمين، كان ثمن الدرهم درهما وثمن الآخر باطلا، فبيع الربا وشراؤه وكس على كل حال، على المشتري وعلى البائع، فحرم الله عزّوجلّ على العباد الربا لعلة فساد الأموال، كما حظر على السفيه أن يدفع إليه ماله، لما يتخوف عليه من فساده حتى يؤنس منه رشد، فلهذه العلة حرم الله عزّ وجلّ الربا، وبيع الدرهم بالدرهمين، وعلة تحريم الربا بعد البينة لما فيه من الاستخفاف بالحرام المحرم، وهي كبيرة بعد البيان وتحريم الله عزّ وجلّ لها، لم يكن إلا استخفافا منه بالمحرم الحرام، والاستخفاف بذلك دخول في الكفر، وعلة تحريم الربا بالنسيئة لعلة ذهاب المعروف، وتلف الأموال، ورغبة الناس في الربح، وتركهم القرض، والقرض صنائع المعروف، ولما في ذلك من الفساد والظلم وفناء الأموال(1).
__________
(1) من لا يحضره الفقيه: 3/371/1748.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا﴾ كقوله: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ ففيه نهي عن الأخذ؛ كقوله: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ [النساء: 161]؛ فعلى ذلك قوله: ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا﴾ أي: لا تأخذوا.
2. سؤال وإشكال: ما معنى النهي عن المضاعفة ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ وغير المضاعفة حرام!؟ والجواب: يحتمل هذا وجوها:
أ. يحتمل: أن يكون هذا قبل تحريم الربا، فنهوا عن أخذ المضاعفة.
ب. ويحتمل قوله: ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا﴾ أي: لا تكثروا أموالكم بأخذ المضاعفة.
ج. ويحتمل: ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ أي: لا تصرّوا على استحلال الرّبا فتثبتون عليه آخر الأبد.
د. ويحتمل: ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ تضعيف العذاب.
هـ. ويحتمل ما قيل: كان أحدهم يبايع الرجل إلى أجل، فإذا حل الأجل زاد في الربح، وزاد الآخر في الأجل، وذلك كان ربا الجاهلية.
3. قوله تعالى: ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل الأكل؛ لأنه نهاية كل كسب.
ب. ويحتمل الأخذ؛ كقوله: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ [النساء: 161] وقوله: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 278]، وقوله: ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ في الأخذ، أي: لا تأخذوا لتكثّروا أموالكم، أو تقصدوا بذلك تضاعف أموالكم إلى غير حد.
4. ليس في الآية الكريمة أن القليل ليس بمحرم، لكن ذلك هو مقصود أكله؛ فنهوا عن ذلك، وحرمة القليل بغير ذلك من ليكثّروا أن يكون في نازلة عليها، خرج النهي لا على الإذن بدون ذلك، ولو كان على حقيقة الأكل فهو على النهي عن التوسع بالربا أو الأمر بالعود إلى ما لا ربا فيه، وإن كان في ذلك ضيق
5. يحتمل أن يكون في الآية إضمار؛ فيقول: لا تأكلوا الربا؛ لأنكم إن أكلتموه بعد العلم بالتحريم ـ تضاعفت عليكم المآثم والعقوبات، وقد جعل الله للربا أعلاما دلت على ما غلظ شأنها؛ نحو ما وصف من لا يتقيه لا ينفيه بالخروج بحرب الله وحرب رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبالتخبط يوم القيامة، وانتفاخ البطن وما جرى في معاقبة اليهود، وبتحريم أشياء لمكان ذلك، وقوم شعيب ما حل بهم بلزومهم بتعاطي الربا، والله أعلم.
6. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ ولا تأخذوا الربا ولا تستحلوه ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
7. في قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ دلالة أنها إنما أعدت للكافرين، لم تعدّ لغيرهم، فذلك يرد على المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ حيث خلدوا صاحب الكبيرة في النار، والله تعالى يقول: إنها أعدت للكافرين، وهم يقولون: ولغير الكافرين.
8. قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: للذين اتقوا الشرك؛ كقوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾.. إن كان هذا هو التأويل، فكل من لم يستحق بفعله اسم الكفر ـ فهو في الآية؛ إذ قال في النار: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ لم يجز أن تكون هي أبدا لغيرهم؛ لوجهين:
• أحدهما: إذ لا يجوز أن تكون الجنة المتخذة للمؤمنين تكون لغيرهم؛ فكذلك النار المعدة للكافرين، وهذا أولى بجواز القول في إيجاب الجنة لمن لا يكون منه الإيمان؛ نحو الذرية، وفساد القول فيهم بالنار
• الثاني: أنها إذا جعلت لغيرهم أو أعدت لغيرهم ـ كان لا يكون للكفر فضل هيبة ولفعله فضل فزع في القلوب بوجود ذلك، ومعلوم أن ذلك بالعواقب لا بنفس الفعل ـ ثبت أنه لا يجب خلود من ليس بكافر فيها حتى يكون ممن أعدّت له، ولغير أثر وتحذير لا تحقيق ذلك كله
ب. ويحتمل: للذين اتقوا جميع أنواع المعاصي.. إن كان هذا هو التأويل من اتقاء جميع المعاصي فيكون لذلك بعد عبارتان:
• إحداهما: أن قد ظهر أهل الجنة وأهل النار، وبينهم قوم لم تبلغ بهم الذنوب الشرك، فيدخلون في الوعيد بالنار المعدة لهم، ولا اتقوا جميع المعاصي؛ فيكونون في الوعد المطلق فيمن أعدت له الجنة؛ فحقه الوقف فيه حتى يظهر ذلك في قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 116]، وفي قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ [الأحقاف: 164] وقوله: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ [التوبة: 102] الآية، وغير ذلك من آيات العفو والمغفرة، وما كان ذلك واجبا في الحكمة، فيكون القائم به يستحق وصف العدل لا العفو والمغفرة ـ ثبت أن ذلك فيما قد وجب، أو يكون فيمن يجزيهم جزاءهم ويدخلهم الجنة؛ إذ أخبر أنه لا يجزي السيئة إلا بمثلها، وبالتخليد مضاعفة ذلك من وجهين:
● أحدهما: أنه عذاب الكفر، وهذا دونه.
● الثاني: منع لذة الحسنة بكليتها، بل حق ذلك أن يكون كقوله: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ الآية [الزلزلة: 7] أن يجزي بالأمرين جميعا، ولا قوة إلا بالله.
• الثاني: أنه قد جاء بمقابل السيئة من الحسنات، ومقابل كل أنواع من المعاصي من الطاعات، وقد وعد على الحسنة عشر أمثالها؛ فمحال أن يقابل مثل الذي دون الشرك من السيئات ـ الشرك في إحباط العمل، ولا يقابل مثل الذي دون الإيمان الإيمان في إحباط الذنوب، ويجب له الجنة، ثم مع ذلك الإيمان الذي لا أرفع منه، وهو الذي بعثه على الخوف والرجاء وقت الإساءة، وعلى أنه لو خشي على نفسه كل بلاء ورجا كل نفع في الكفر بربه ـ لم يؤثر ذلك مع ما وعد على الحسنة عشر أمثالها، ثم يبطل لذة ذلك كله، ويلزم الخلق القول فيه بالكرم والعفو والرحمة، ولا قوة إلا بالله.
9. قوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. ذكر ـ والله أعلم ـ طاعة الرسول؛ لأن من الناس من لا يرى طاعة الرسول؛ فأمر عزّ وجل بطاعة رسوله ـ لئلا يخالفوا أمر الله ولا أمر رسوله، وأن من أطاع الله ولم ير طاعة رسوله فهو لم يطع الله في الحقيقة.
ب. ويحتمل: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ﴾ في أمره ونهيه، وأطيعوا الرسول فيما بين في سننه أو دعا أو بلغ، والقصد في الآية إلى فرض طاعة الرسول، وأطيعوا الرسول في أمره ونهيه، كما أطعتم الله في أمره ونهيه.
(2).
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/476.
(2) تأويلات أهل السنة: 2/479.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
أ. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا﴾ يريد بالأكل الأخذ والربا زيادة القدر في مقابلة لزيادة الأجل وهو ربا الجاهلية المتعارف بينهم بالنسأ.
ب. ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ وهو أن يقول عند حلول الأجل إما أن تعطيني وإما أن تربيني فإن لم تعطه ضاعف ذلك عليه ثم يفعل ذلك عند حلوله من بعد حتى يصير أضعافاً مضاعفة.
ج. ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ فدلت هذه الآية أن الربا من الكبائر التي يستحق عليها الوعيد بالنار ويتفاضل العقاب بتفاضل المعاصي.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/152.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا﴾ يريد بالأكل الأخذ، والربا زيادة القدر مقابلة لزيادة الأجل، وهو ربا الجاهلية المتعارف بينهم بالنساء.
2. ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ وهو أن يقول له بعد حلول الأجل: إما أن تقضي وإمّا أن تربي، فإن لم يفعله ضاعف ذلك عليه ثم يفعل كذلك عند حلوله من بعد حتى تصير أضعافا مضاعفة.
3. ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ فدل أن الربا من الكبائر التي يستحق عليها الوعيد بالنار، واختلفوا في نار آكل الربا على قولين:
أ. أحدهما: أنها كنار الكافرين من غير فرق تمسكا بالظاهر.
ب. الثاني: أنها ونار الفجار أخف من نار الكفار، لما بينهما من تفاوت المعاصي.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/424.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما ذكر الله تعالى أن له عذاب من يشاء، والعفو عمن يشاء، وصل ذلك بالنهي عما لو فعلوه لاستحقوا عليه العقاب، وعذبوا عليه، وهو الربا.
2. الربا المنهي عنه قال عطا، ومجاهد: هو ربا الجاهلية، وهو الزيادة على أصل المال بالتأخير عن الأجل الحال، ويدخل فيه كل زيادة محرمة في المعاملة من جهة المضاعفة.
3. وجه تحريم الربا هو المصلحة التي علمها الله تعالى، وقيل فيه وجوه على وجه التقريب:
أ. منها للفصل بينه وبين البيع.
ب. ومنها أنه مثال العدل يدعو إليه ويحض عليه.
ج. ومنها أنه يدعو إلى مكارم الأخلاق بالإقراض وإنظار المعسر من غير زيادة، وهذا الوجه روي عن أبي عبد الله عليه السلام.
4. في قوله تعالى: ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ قولان:
أ. أحدهما: للمضاعفة بالتأخير أجلا بعد أجل كلما أخر عن أجل إلى غيره زيد عليه زيادة على المال.
ب. الثاني: ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ أي يضاعفون في أموالكم.
5. في تكرير تحريم الربا هاهنا مع ما تقدم في قوله: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ وغير ذلك قولان:
أ. أحدهما: للتصريح بالنهي عنه بعد الاخبار بتحريمه لما في ذلك من تصريف الخطر له وشدة التحرز منه.
ب. الثاني: لتأكيد النهي عن هذا الضرب منه الذي يجري على الاضعاف المضاعفة.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾:
أ. قيل: معناه اتقوا معاصيه.
ب. وقيل: اتقوا عذابه بترك معاصيه.
7. ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، لكي تنجحوا بإدراك ما تأملونه، وتفوزوا بثواب الجنة، لأن (لعل) وان كان للشك، فان ذلك لا يجوز على الله تعالى، وقد بينا لذلك نظائر فيما مضى.
8. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ وعندكم(2) يجوز أن يدخلها الفساق أيضاً، وعند المعتزلة كلهم ـ ومن وافقهم ـ يدخلها الفساق قطعاً، وهلا قال أعدت للجميع؟ والجواب: أما على ما نذهب إليه، ففائدة ذلك اعلامنا أنها أعدت للكافرين قطعاً، وذلك غير حاصل في الفساق، لأنا نجوز العفو عنهم، ومن قال أعدت للفساق قال أضيفت إلى الكافرين، لأنهم أحق بها، وإن كان الجميع يستحقونها، لأن الكفر أعظم المعاصي فأعدت النار للكافرين، ويكون غيرهم من الفساق تبعاً لهم في دخولها.
9. سؤال وإشكال: على هذا هل يجوز أن يقال: ان النار أعدت لغير الكافرين من الفاسقين؟ والجواب: عن ذلك أجوبة:
أ. أحدها: قال الحسن يجوز ذلك، لأنه من الخاص الذي معه دلالة على العام، كما قال: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ وليس كل من دخل النار كفر بعد إيمانه، ومثله قوله: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾ وليس كل الكفار يقول ذلك، ومنه قوله: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وليس كل الكفار سووا الشياطين برب العالمين.
ب. الثاني: أنه لا يقال أعدت لغيرهم من الفاسقين، لأن اعدادها للكافرين من حيث كان عقابهم هو المعتمد وعقاب الآخرين له تبع، كما قال: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ولا خلاف أنه يدخلها الأطفال والمجانين إلا أنهم تبع للمتقين، لأنه لولاهم لم يدخلوها، ولا يقال: إن الجنة أعدت لغير المتقين.
ج. الثالث: أن تكون هذه النار ناراً مخصوصة فيها الكفار خاصة دون الفساق وان كان هناك نار أخرى يدخلها الفساق، كما قال: ﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾، وكما قال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ وهذا قول أبي علي.
10. استدل البلخي بهذه الآية على أن الربا كبيرة، لأن تقديره ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ أن يأكلوا الربا، فيستحقونها، والإجماع حاصل على أن الربا كبيرة، فلا يحتاج إلى هذا التأويل، لأن الآية يمكن أن يقول قائل: إنها بمعنى الزجر والتحذير عن الكفر، فقط.
11. ﴿أعدت﴾ فالاعداد هو تقديم عمل الشيء لغيره مما هو متأخر عنه، وقد قدم فعل النار ليصلاها الكفار، والاعداد والإيجاد والتهيئة والتقدمة متقاربة المعنى.
12. ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾: أمر بالطاعة لله ورسوله، والوجه في الأمر بالطاعة لله ورسوله مع أن العقل دال عليه يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: أن يكون ذلك تأكيداً لما في العقل، كما وردت نظائره، كقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، و﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ وغير ذلك.
ب. الثاني: لاتصاله بأمر الربا الذي لا تجب الطاعة فيه إلا بالسمع، لأنه ليس مما يجب تحريمه عقلا كما يجب تحريم الظلم بالعقل.
13. سؤال وإشكال: إذا كانت طاعة الرسول طاعة الله فما وجه التكرار؟ والجواب: عنه جوابان:
أ. أحدهما: المقصود بها طاعة الرسول فيما دعا إليه مع القصد لطاعة الله تعالى.
ب. الثاني: ليعلم أن من أطاعه فيما دعا إليه كمن أطاع الله، فيسارع إلى ذلك بأمر الله.
14. الطاعة موافقة الارادة الداعية إلى الفعل بطريق الرغبة، والرهبة، ولذلك صح أن يجيب الله تعالى عبده، وان لم يصح منه أن يطيعه، لأن الاجابة إنما هي موافقة الارادة مع القصد إلى موافقتها على حد ما وقعت من المريد.
قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: لترحموا، وقد بينا لذلك نظائر.
ب. الثاني: ان معناه ينبغي للعباد أن يعملوا بطاعة الله على الرجاء للرحمة بدخول الجنة، لئلا يزلوا فيستحقوا الإحباط والعقوبة أو يوقعوها على وجه لا يستحق به الثواب، بل يستحق به العقاب، وفيها معنى الشك، لكنه للعباد دون الله تعالى.
15. في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها قولان:
أ. أحدهما: لاتصال الأمر بالطاعة بالنهي عن أكل ﴿الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ كأنه قال: وأطيعوا الله فيما نهاكم عنه من أكل الربا، وغيره لتكونوا على سبيل الهدى.
ب. الثاني: قال ابن إسحاق: انه معاتبة للذين عصوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، بما أمرهم به يوم أحد: من لزوم مراكزهم، فخالفوا واشتغلوا بالغنيمة إلا طائفة منهم قُتلوا، وكان ذلك سبب هزيمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/588.
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الإعداد والاتخاذ والتهيئة نظائر متقاربة، وأصل الإعداد من العدد؛ لأنه مما يعد لما يعد، والربا أصله الزيادة، ومنه الربوة.
2. سؤال وإشكال: كيف يتصل النهي عن الربا بما قبله؟ والجواب: هو نهي عن أمور الجاهلية في باب الربا، اتصل بالنهي عن حال الجاهلية في الكفر وحذر النار المعدة لهم، وأمرهم بالتقوى.
3. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ صدقوا وأتوا بخصال الإيمان ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا﴾ ذكر الأكل لأنه معظم الانتفاع وإن كان غيره من التصرفات منهيًا عنها ﴿الرِّبَا﴾:
أ. قيل: ربا الجاهلية، وهو الزيادة على أصل المال بالتأخير عن الأجل الحال عن عطاء ومجاهد، ويدخل فيه كل زيادة محرمة في المعاملات.
ب. وقيل: الربا عام في الجميع.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾:
أ. قيل: مضاعفة بالتأخير أجلا بعد أجل كلما أخر عن أجل زيد زيادة.
ب. وقيل: معناه تضاعفون به أموالكم.
5. إنما كرر تحريم الربا مع ذكره في سورة البقرة:
أ. قيل: للتصريح في النهي عنه.
ب. وقيل: لتأكيد النهي لما يحتاج إليه من الزواجر.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾:
أ. قيل: اتقوا معاصيه.
ب. وقيل: اتقوا عذابه بفعل طاعاته.
ج. وقيل: اتقوا الله في أمر الربا.
د. وقيل: اتقوا أن تحللوا شيئًا حرمه الله.
7. ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي لكي تفلحوا، والفلاح: الظفر بالبغية ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ﴾ يعني واتقوا الأفعال الموجبة لدخول النار ﴿الَّتِي أُعِدَّتْ﴾ هيئت ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾
8. سؤال وإشكال: كيف قيل ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾، والفاسقون يدخلونها؟ والجواب: فيه وجوه:
أ. قيل: لأن الكافر أحق بها، وإن كان غيره يدخلها من حيث كان الكفر أعظم الإجرام، ومعظم العقاب لهم، فكأنها معدة لهم.
ب. وقيل: إن عقابهم هو الأصل، وغيره تبع كقوله في الجنة: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ وإن دخلها الأطفال والمجانين.
ج. وقيل: هي نار في دركة يكون فيها الكفار خاصة، وجهنم دركات، عن أبي علي.
د. وقيل: إثباته لهم لا يدل على نفيه عن سواهم، ذكره (2).
9. ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ﴾ فيما أمركم به، وأطيعوا الرسول فيما شرع لكم؛ لأن طاعته طاعة لله ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي لكي ترحموا فلا يعذبكم.
10. تدل الآيات الكريمة على:
أ. تحريم الربا.
ب. أن المال المأخوذ فيه محرم لئلا يظن أنه منهي، وإن كان المأخوذ فيه يقع ملكًا كالبيع وقت النداء.
ج. أن باتقاء الربا وجميع المعاصي ينال الفلاح، وقد ثبت أن الربا كبيرة بالآية والسنة والإجماع، وهذا في المنصوص عليه، فأما المجتهد فقد يجوز أن يكون جاريا مجرى المنصوص فيمن أدى اجتهاده إليه، ويجوز ألا يكون كبيرة، وإن ساواه في التحريم، وذلك موقوف على الدليل.
د. يدل قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ﴾ أن مرتكب الربا من أهل النار، وآخر الآية يدل على أن الرحمة تنال بالطاعة، وذلك يبطل قول المرجئة.
هـ. أنَّه يريد من جميعهم ما ينال به الرحمة دون المعاصي بخلاف قول الْمُجْبِرَةِ.
11. القراءة الظاهرة ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ بالألف، وقرأ أبو جعفر وشيبة مضعفة) بغير ألف.
12. ﴿لَعَلَّ﴾ قيل: معناه اللام أي لترحموا، وليس معناه الشك، وقيل ﴿لَعَلَّ﴾ للتعرض أي يعمل الطاعات متعرضًا لرحمته تعالى راجيًا له.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/380.
(2) الكلام هنا للقاضي.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما ذكر سبحانه ان له التعذيب لمن يشاء، والمغفرة لمن يشاء، وصل ذلك بالنهي عما لو فعلوا لاستحقوا عليه العذاب، وهو الربا، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: صدقوا الله ورسوله ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا﴾ ذكر الأكل لأنه معظم الانتفاع، وإن كان غيره من التصرفات أيضا منهيا عنه.
2. اختلف في معنى الرباء:
أ. قيل: الزيادة على أصل المال بالتأخير عن الاجل الحال.
ب. وقيل: هو ربا الجاهلية، عن عطا ومجاهد.
3. في قوله تعالى: ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن يضاعف بالتأخير أجلا بعد أجل، كلما أخر عن أجل إلى غيره زيد زيادة على المال.
ب. الثاني: معناه تضاعفون به أموالكم، ويدخل فيه كل زيادة محرمة في المعاملة من جهة المضاعفة.
4. وجه تحريم الربا هو المصلحة التي علمها الله، وذكر فيه وجوه على وجه التقريب منها:
أ. أنه للفصل بينه وبين البيع.
ب. أنه يدعو إلى العدل، ويحض عليه.
ج. أنه يدعو إلى مكارم الأخلاق بالاقراض، وانظار المعسر من غير زيادة، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
5. إنما أعاد تحريم الربا مع ما سبق ذكره في سورة البقرة لأمرين:
أ. أحدهما: التصريح بالنهي عنه بعد الاخبار بتحريمه، لما في ذلك من تصريف الخطر له، وشدة التحذير منه.
ب. الثاني: لتأكيد النهي عن هذا الضرب منه الذي يجري على الاضعاف المضاعفة.
6. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ أي: اتقوا معاصيه، وقيل: اتقوا عقابه بترك معاصيه.
7. ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ لكي تنجحوا بادراك ما تأملونه، وتفوزوا بثواب الجنة ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ﴾ أي: اتقوا الأفعال الموجبة لدخول النار ﴿الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ أي: هيئت واتخذت للكافرين.
8. الوجه في تخصيص الكفار باعداد النار لهم أنهم معظم أهل النار، فهم العمدة في اعداد النار لهم، وغيرهم من الفاسقين يدخلونها على وجه التبع، فهو كقوله ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾، ومعلوم أنه قد يدخلها غير المتقين من الأطفال والمجانين، وقال الحسن: تخصيص الكفار باعداد النار لهم، لا يمنع من مشاركة غيرهم إياهم، كما أن تخصيص المرتدين باسوداد الوجوه، لا يمنع من مشاركة سائر الكفار إياهم، ومثله في القرآن كثير، والأصل أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على أن ما عداه بخلافه.
9. ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ﴾ فيما أمركم به، ﴿و﴾ أطيعوا ﴿الرَّسُولَ﴾ فيما شرع لكم، ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي: لكي ترحموا فلا يعذبكم.
10. سؤال وإشكال: إذا كانت طاعة الرسول طاعة الله، فما وجه التكرار؟ والجواب: عنه شيئان:
أ. أحدهما: ان المقصد بها طاعة الرسول فيما دعا إليه مع القصد لطاعة الله.
ب. الثاني: إنما قال ذلك ليعلم أن من أطاعه فيما دعا إليه، فهو كمن أطاع الله، فيسارع إلى ذلك بأمر الله.
11. قيل في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها قولان:
أ. أحدهما: لاتصال الامر بالطاعة بالنهي عن أكل الربا، فكأنه قال: وأطيعوا الله فيما نهاكم عنه من أكل الربا وغيره.
ب. الثاني: ما قاله محمد بن إسحاق بن يسار: انه معاتبة للذين عصوا رسول الله لما أمرهم به (يوم أحد) من لزوم مراكزهم، فخالفوا واشتغلوا بالغنيمة، وكان ذلك سبب هزيمة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/834.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا﴾ قال أهل التفسير: هذه الآية نزلت في ربا الجاهلية. قال سعيد بن جبير: كان الرجل يكون له على الرجل المال، فاذا حلّ الأجل، فيقول: أخّر عني، وأزيدك على مالك، فتلك الأضعاف المضاعفة.
2. ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ قال ابن عباس: هذا تهديد للمؤمنين، لئلا يستحلوا الربا، قال الزجاج: والمعنى: اتقوا أن تحلّوا ما حرّم الله فتكفّروا.
__________
(1) زاد المسير: 1/326.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. من الناس من قال إنه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد، أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا﴾ وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية ابتداء كلام ولا تعلق لها بما قبلها.
ب. وقال القفال: يحتمل أن يكون ذلك متصلًا بما تقدم من جهة أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعيا للمسلمين إلى الاقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر فيتمكنون من الانتقام منهم، فلا جرم نهاهم الله عن ذلك.
2. ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل، فإذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجداً لذلك المال قال: زد في المال حتى أزيد في الأجل فربما جعله مائتين، ثم إذا حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك، ثم إلى آجال كثيرة، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها فهذا هو المراد من قوله: ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾، وانتصب ﴿أَضْعَافًا﴾ على الحال.
3. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ اتقاء الله في هذا النهي واجب، وأن الفلاح يتوقف عليه، فلو أكل ولم يتق زال الفلاح وهذا تنصيص على أن الربا من الكبائر لا من الصغائر.
4. تفسير قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ تقدم في سورة البقرة في قوله: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21] وتمام الكلام في الربا أيضاً مر في سورة البقرة.
5. سؤال وإشكال: النار التي أعدت للكافرين تكون بقدر كفرهم وذلك أزيد مما يستحقه المسلم بفسقه، فكيف قال: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾؟ والجواب: تقدير الآية: اتقوا أن تجحدوا تحريم الربا فتصيروا كافرين.
6. سؤال وإشكال: ظاهر قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ يقتضي أنها ما أعدت إلا للكافرين، وهذا يقتضي القطع بأن أحداً من المؤمنين لا يدخل النار وهو على خلاف سائر الآيات، والجواب: من وجوه:
أ. الأول: أنه لا يبعد أن يكون في النار دركات أعد بعضها للكفار وبعضها للفساق، فقوله: ﴿النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ إشارة إلى تلك الدركات المخصوصة التي أعدها الله للكافرين، وهذا لا يمنع ثبوت دركات أخرى في النار أعدها الله لغير الكافرين.
ب. الثاني: أن كون النار معدة للكافرين، لا يمنع دخول المؤمنين فيها لأنه لما كان أكثر أهل النار هم الكفار فلأجل الغلبة لا يبعد أن يقال: إنها معدة لهم، كما أن الرجل يقول لدابة ركبها لحاجة من الحوائج، إنما أعددت هذه الدابة للقاء المشركين، فيكون صادقا في ذلك وإن كان هو قدر ركبها في تلك الساعة لغرض آخر فكذا هاهنا.
ج. الثالث: أن القرآن كالسورة الواحدة فهذه الآية دلت على أن النار معدة للكافرين وسائر الآيات دالة أيضا على أنها معدة لمن سرق وقتل وزنى وقذف، ومثاله قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾ [الملك: 8] وليس لجميع الكفار يقال ذلك، وأيضا قال تعالى: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ﴾ [الشعرا: 94] إلى قوله: ﴿إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعرا: 98] وليس هذا صفة جميعهم ولكن لما كانت هذه الشرائط مذكورة في سائر السور، كانت كالمذكورة هاهنا، فكذا فيما ذكرناه والله أعلم.
د. الرابع: أن قوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ إثبات كونها معدة لهم ولا يدل على الحصر كما أن قوله في الجنة ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133] لا يدل على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين والحور العين.
هـ. الخامس: أن المقصود من وصف النار بأنها أعدت للكافرين تعظيم الزجر، وذلك لأن المؤمنين الذين خوطبوا باتقاء المعاصي إذا علموا بأنهم متى فارقوا التقوى أدخلوا النار المعدة للكافرين، وقد تقرر في عقولهم عظم عقوبة الكفار، كان انزجارهم عن المعاصي أتم، وهذا بمنزلة أن يخوف الوالد ولده بأنك إن عصيتني أدخلتك دار السباع، ولا يدل ذلك على أن تلك الدار لا يدخلها غيرهم فكذا هاهنا.
7. سؤال وإشكال: هل تدل الآية على أن النار مخلوقة الآن أم لا؟ والجواب: نعم لأن قوله: ﴿أُعِدَّتْ﴾ إخبار عن الماضي فلا بد أن يكون قد دخل ذلك الشيء في الوجود.
8. ثم قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ ولما ذكر الوعيد ذكر الوعد بعده على ما هو العادة المستمرة في القرآن، وقال محمد بن إسحاق بن يسار: هذه الآية معاتبة للذين عصوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حين أمرهم بما أمرهم يوم أحد، وقال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: هذه الآية دالة على أن حصول الرحمة موقوف على طاعة الله وطاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا عام فيدل الظاهر على أن من عصى الله ورسوله في شيء من الأشياء أنه ليس أهلا للرحمة وذلك يدل على قول أصحاب الوعيد.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/364.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ هذا النهي عن أكل الربا اعتراض بين أثناء قصة أحد، قال مجاهد: كانوا يبيعون البيع إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا في الثمن على أن يؤخروا، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾،
1. إنما خص الربا من بين سائر المعاصي، لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة] والحرب يؤذن بالقتل، فكأنه يقول: إن لم تتقوا الربا هزمتم وقتلتم، فأمرهم بترك الربا، لأنه كان معمولا به عندهم، والله أعلم.
2. ﴿أَضْعَافًا﴾ نصب على الحال و﴿مُضَاعَفَةً﴾ نعته، وقرئ (مضعفة) ومعناه: الربا الذي كانت العرب تضعف فيه الدين، فكان الطالب يقول: أتقضي أم تربي؟ كما تقدم في البقرة.
3. ﴿مُضَاعَفَةً﴾ إشارة إلى تكرار التضعيف عاما بعد عام كما كانوا يصنعون، فدلت هذه العبارة المؤكدة على شنعة فعلهم وقبحه، ولذلك ذكرت حالة التضعيف خاصة.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي في أموال الربا فلا تأكلوها، ثم خوفهم فقال: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي﴾ قال كثير من المفسرين: وهذا الوعيد لمن استحل الربا، ومن استحل الربا فإنه يكفر، وقيل: معناه اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان فتستوجبون النار، لأن من الذنوب ما يستوجب به صاحبه نزع الإيمان ويخاف عليه، من ذلك عقوق الوالدين، وقد جاء في ذلك أثر: أن رجلا كان عاقا لوالديه يقال له علقمة، فقيل له عند الموت: قل لا إله إلا الله، فلم يقدر على ذلك حتى جاءته أمه فرضيت عنه، ومن ذلك قطيعة الرحم وأكل الربا والخيانة في الأمانة، وذكر أبو بكر الوراق عن أبي حنيفة أنه قال: أكثر ما ينزع الإيمان من العبد عند الموت، ثم قال أبو بكر: فنظرنا في الذنوب التي تنزع الإيمان فلم نجد شيئا أسرع نزعا للإيمان من ظلم العباد.
4. في هذه الآية دليل على أن النار مخلوقة ردا على الجهمية، لأن المعدوم لا يكون معدا، ثم قال: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ﴾ يعني أطيعوا الله في الفرائض ﴿وَالرَّسُولُ﴾ في السنن: وقيل: ﴿أَطِيعُوا اللهَ﴾ في تحريم الربا ﴿وَالرَّسُولُ﴾ فيما بلغكم من التحريم، ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي كي يرحمكم الله.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/203.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قيل: هو كلام مبتدأ للترهيب والترغيب فيما ذكر؛ وقيل: هو اعتراض بين أثناء قصة أحد.
﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ ليس لتقييد النهي لما هو معلوم من تحريم الربا على كل حال، ولكنه جيء به باعتبار ما كانوا عليه من العادة التي يعتادونها في الربا، فإنهم كانوا يربون إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا في المال مقدارا يتراضون عليه، ثم يزيدون في أجل الدّين، فكانوا يفعلون ذلك مرّة بعد مرّة حتى يأخذ المربي أضعاف دينه الذي كان له في الابتداء و﴿أَضْعَافًا﴾: حال، و﴿مُضَاعَفَةً﴾: نعت له، وفيه إشارة إلى تكرار التضعيف عاما بعد عام، والمبالغة في هذه العبارة تفيد تأكيد التوبيخ.
2. ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ فيه الإرشاد إلى تجنب ما يفعله الكفار في معاملاتهم، قال كثير من المفسرين: وفيه أنه يكفر من استحلّ الربا؛ وقيل: معناه: اتقوا الربا الذي ينزع منكم الإيمان، فتستوجبون النار، وإنما خصّ الربا في هذه الآية: لأنه الذي توعد الله عليه بالحرب منه لفاعله.
3. ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ حذف المتعلق مشعر بالتعميم، أي: في كل أمر ونهي ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي: راجين الرحمة من الله عز وجلّ.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/438.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَاكُلُواْ الرِّبَا﴾ لا تتملَّكوه ببيع أو شراء أو موالاة أو مؤاجرة أو إصداق أو إرث أو قبول هبة أو صدقة أو هديَّة منه وغير ذلك؛ فإنَّ النفقة منه في الجهاد وأنواع الخير لا تقبل بل تزيد سوءًا، وإنَّما هو من شأن المشركين، ينتفعون به وهم معاقبون عليه، ﴿أَضْعَافًا﴾ جمع ضِعف، بمعنى المضاعف، أي: متكرِّر، حال من (الرِّبَا)، ﴿مُضَاعَفَةً﴾ أجلاً بعد أجل، كلَّما تمَّ أجل ولم يقض ما عليه زاد في الدَّين، وزيد له في الأجل، فقد يستغرق المال القليل بذلك مالا كثيرا، أو رهنا كثيرا بالغلق.
2. ضِعْفُ الشيء: مثله، فذلك اثنان، وضِعْفُه أيضًا: مثلاه، فهما ثلاثة، وضعفاه أيضًا أربعة، وذلك به خمسة، وعبارة بعض: تضعيف الشيء: ضمُّ عدد آخر إليه، وقد يزاد، وقد ينظر إلى أوَّل مراتبه؛ لأنَّه المتيقِّن، ثمَّ إنَّه قد يكون الشيء المضاعف مأخوذا معه فيكون ضعفاه ثلاثة، وقد لا يكون فيكون اثنين، والصواب أن يقول: فيكون بضعفيه ثلاثة.
3. ذلك نهي عن واقعة، إذ كانوا يفعلون في الجاهليَّة ذلك، وليس مُخرِجًا عن التحريم للضِّعْف الواحد أو القليل، فإنَّه حرام أيضًا، وهذا كقولنا: (اللَّهم تقبَّل قليلا من أعمالنا، واعف عن كثير من ذنوبنا)، أي: عن كثير هي ذنوبنا، فإنَّه ليس للمخلوق بالنسبة إلى عظمة الله إِلَّا قليل من العمل الصالح ولو اجتهد كلَّ الاجتهاد، فيطلب قبوله كلَّه لا بعضه، وذنوب غير المعصوم كثيرة ويطلب غفرانها كلَّها لا بعضها.
4. ﴿وَاتَّقُواْ اللهَ﴾ بترك الربا المضاعف أضعافا وسائر المعاصي والربا المفرد، ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ لتفلحوا، ﴿وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ بالتحرُّز عمَّا يفعلونه من الشرك والربا وسائر المعاصي، وهم مخاطبون بفروع الشريعة، والنار المعذَّب بها المشركون وغيرهم واحدة بالحقيقة، ولو اختلفت بزيادة الشدَّة على المشركين، ﴿وَأَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ في الأمر والنهي، ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ لترحموا في الدنيا والآخرة.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/375.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ هذا نهي عن الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه في الجاهلية من تضعيفه، كان الرجل منهم إذا بلغ الدّين محله يقول: إما أن تقضي حقي أو تربي وأزيد في الأجل، وفي ندائهم باسم (الإيمان) إشعار بأن من مقتضى الإيمان وتصديقه ترك الربا، وقد تقدم في البقرة من المبالغة في النهي عنه ما يروع من له أدنى تقوى، يوجب، لمن لم يتركه وما يقاربه، الضمان بالخذلان في كل زمان: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة: 279]، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة: 86]
2. ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ أي زيادات متكررة، وليس لتقييد النهي به، لما هو معلوم من تحريمه على كل حال، بل لمراعاة عادتهم كما بيّنا، ومحله النصب على الحالية من الربا، وقرئ (ضعفة)
3. ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ فيما تنهون عنه ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ بإيفاء حقوقكم وصونكم عن أعدائكم، كما صنتم حقوق الأشياء، ومما يعلم به حكمة نظم هذه الآية في سلك قصة أحد، ما رواه أبو داوود عن أبي هريرة أن عمرو بن أقيش كان له ربا في الجاهلية، فكره أن يسلم حتى يأخذه، فجاء يوم أحد، فقال: أين بنو عمي؟ قالوا بأحد، قال أين فلان؟ قالوا: بأحد، قال فأين فلان؟ قالوا: بأحد، فلبس لأمته، وركب فرسه، ثم توجه قبلهم، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو! قال إني قد آمنت، فقاتل حتى جرح، فحمل إلى أهله جريحا، فجاءه سعد بن معاذ، فقال لأخته: سليه: حمية لقومك وغضبا لهم أم غضبا لله عز وجل؟ فقال: بل غضبا لله عز وجل ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فمات، فدخل الجنة، وما صلى لله عز وجل صلاة.. قال الدينوريّ: وكان أبو هريرة يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل قط! فيسكت الناس، فيقول أبو هريرة: هو أخو بني عبد الأشهل، وعند ابن إسحاق: فذكر لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إنه لمن أهل الجنة ـ هذا ملخص ما أورده البقاعيّ.
4. ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ بالتحرز عن متابعتهم في الربا ونحوه، روي عن أبي حنيفة أنه كان يقول: هي أخوف آية في القرآن، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه.
5. ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ أي في ترك الربا ونحوه ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/411.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وضع هذه الآيات الواردة في الترهيب والترغيب والإنذار والتبشير في سياق الآيات الواردة في قصة أحد هو من سنة القرآن في مزج فنون الكلام وضروب الحكم والأحكام بعضها ببعض، ومحل بيان سبب ذلك وحكمته مقدمة التفسير، وقد نشير إلى بعضها أحيانا في تفسير بعض الآيات ـ على أن هذه السنة لا تنافي أن يكون لاتصال كل آية أو آيات بما قبلها وجه وجيه تتقبله البلاغة بقبول حسن كما علم مما سبق، قال الرازي هنا: اعلم أن من الناس من قال: إنه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا﴾ وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية ابتداء الكلام ولا تعلق لها بما قبلها، وقال القفال: يحتمل أن يكون ذلك متصلا بما تقدم، من جهة أن المشركين أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعيا للمسلمين إلى الإقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر فيتمكنون من الانتقام منهم، لا جرم نهاهم عن ذلك ا هـ، والأول قول بعض المعتزلة، ويقال في الثاني: إن المروي في السير أن المشركين أنفقوا في حرب أحد ما ربحوا في تجارة العير التي جاءت من الشام عام بدر كما تقدم، فما أورده الرازي غير وجيه.
2. قال محمد عبده: وجه الاتصال بين هذه الآيات وما قبلها أن ما قبلها في بيان أن الله نصر المؤمنين وهم أذلة، وأنهم إنما نصروا بتقوى الله وامتثال الأمر والنهي، ولذلك خذلوا في أحد عند المخالفة والطمع في الغنيمة ـ وقد جاء هذا بعد النهي عن اتخاذ البطانة من اليهود وبيان أنه لا يضر المؤمنين كيد هؤلاء اليهود ما اعتصموا بالصبر والتقوى ـ وقد كان من موادة المؤمنين لليهود واتخاذ البطانة منهم أن منهم من رابى كما كانوا يرابون، وكان البعض الآخر مظنة أن يرابي توسلا لجلب المال المحبوب بسهولة، فكان الترتيب في الآيات هكذا: نهاهم عن اتخاذ البطانة من اليهود وأمثالهم من المشركين بشروطها التي هي مثار الضرر، ثم بين لهم ما يتقون به ضررهم وشر كيدهم وهو تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله؛ ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك طردا أو عكسا بذكر وقعة بدر ووقعة أحد، ثم نهاهم عن عمل آخر من شر أعمال أولئك اليهود ومن اقتدى بهم من المشركين وأشدها ضررا وهو أكل الربا أضعافا مضاعفة قال: وقد كان ما تقدم تمهيدا لهذا النهي وحجة على أن الربح المتوقع منه ليس هو سبب السعادة وإنما سببها ما ذكر من التقوى والامتثال.
3. يقوي رأي محمد عبده أن السياق كان من أول السورة إلى نحو سبعين آية في محاجة النصارى، ثم انتقل إلى اليهود ووردت قصة أحد وما فيها من العبر في سياق الكلام عن اليهود، ثم بعد انتهائها يعود الكلام إلى اليهود سيما فيما يتعلق بأمر المال والنفقات، فلا غروا إذا ذكر في أول الكلام في هذه الغزوة شيء يتعلق بذلك ولكل منهما مناسبة واشتباك بصلة المسلمين باليهود، والحرب مما يستعان عليه بالمال وحال اليهود فيه معلومة، والغرض من هذه الآية الحث على بذل المال في سبيل الله كالدفاع عن الملة والأمة والتنفير عن الطمع فيه، وشرّه أكل الربا أضعافا مضاعفة ولذلك قدم النهي عن هذا الشر على الأمر بذلك الخير تقديما للتخلية على التحلية فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾
4. هذا أول ما نزل في تحريم الربا وآيات البقرة في الربا نزلت بعد هذه، بل هي آخر آيات الأحكام نزولا، والمراد بالربا فيها ربا الجاهلية المعهودة عند المخاطبين عند نزولها لا مطلق المعنى اللغوي الذي هو الزيادة، فما كل ما يسمى زيادة محرم، قال ابن جرير: (يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة في إسلامكم بعد إذ هداكم الله، كما كنتم تأكلونه في جاهليتكم، وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم أن الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه، فيقول له الذي عليه المال: أخّرْ عني دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه)، ثم ذكر بعض الروايات في ذلك:
أ. فمنها عن عطاء: كانت ثقيف تداين في بني المغيرة في الجاهلية فإذا حل الأجل قالوا نزيدكم وتؤخرون.
ب. وعن مجاهد أنه قال في الآية: (ربا الجاهلية)
ج. وعن ابن زيد قال كان أبي زيد (العالم الصحابي الجليل) يقول: (إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن: يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول: تقضيني أو تزيدني، فإذا كان عنده شيء يقضيه قضى وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في (السنة) الثانية ثم حقه ثم جذعه ثم رباعياً ثم هكذا إلى فوق، وفي العين (النقود) يأتي فإن لم يكن عنده أضعفه في العالم القابل؛ فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا فتكون مئة فيجعلها إلى قابل مائتين؛ فإن لن يكن عنده جعله أربع مائة يضعفها له كل سنة أو يقضيه قال: فهذا قوله ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾
5. أنت ترى أن هذا الذي فسر به زيد الآية هو الربا الفاحش المعروف في هذا الزمان بالمركب، وترى أن ما قاله ابن جرير ومن روي عنهم من السلف في تصوير الربا كله في اقتضاء الدين بعد حلول الأجل ولا شيء منه في العقد الأول كان يعطيه المئة بمئة وعشرة، أو أكثر أو اقل، وكأنهم كانوا يكتفون في العقد الأول بالقليل فإذا حل الأجل ولم يقض المدين وهو في قبضتهم اضطروه إلى قبول التضعيف في مقابلة الإنساء، وما قالوه هو المروي عن عامة أهل الأثر، ومنه عبارة الإمام أحمد الشهيرة التي أوردناها في تفسير آية البقرة، وهي أنه لما سئل عن الربا الذي لا يشك فيه قال: (هو أن يكون له دين فيقول له أتقضي أم تربي؟ فإن لم يقض زاده في المال وزاده هذا في الأجل) وهذا هو المعروف في الشرع بربا النسيئة، وذكر ابن حجر المكي في الزواجر أن ربا الجاهلية كان الإنساء فيه بالشهور فإنه قال بعد ذكر أنواع الربا: (وربا النسيئة هو الذي كان مشهورا في الجاهلية لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا ورأس المال باق بحاله فإذا حل طالبه برأس ماله فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل، وتسمية هذا نسيئة مع أنه يصدق عليه ربا الفضل أيضا لأن النسيئة هي المقصودة منه بالذات، وهذا النوع مشهور الآن بين الناس وواقع كثيرا، وكان ابن عباس لا يحرم إلا ربا النسيئة محتجا بأنه المتعارف بينهم فينصرف النص إليه)، ثم ذكر أن الأحاديث صحت بتحريم سائر أنواع الربا.
6. ما قاله ابن عباس من أن نص القرآن الحكيم ينصرف إلى ربا النسيئة الذي كان معروفا عندهم متعين، وهو ما جرينا عليه هنا وفي سورة البقرة إذ جعلنا حرف التعريف فيه للعهد، وهو المراد أيضا بحديث الصحيحين (إنما الربا في النسيئة)، وفي لفظ (لا ربا إلا في النسيئة)، وكان غير واحد من الصحابة يبيح ربا الفضل كأسامة وابن عمر، ومن حرمه حرمه بالحديث لا بنص القرآن، وأما ربا الفضل فإنما حرم لسد الذريعة كما قال ابن القيم، واستدل عليه بحديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرماء)، والرماء هو الربا.
7. غفل عن هذا الفقهاء الذين قالوا إن الربا قسمان أحدهما معقول المعنى والآخر تعبدي، أي إن الأول محرم لما فيه من الضرر العظيم وهو ربا النسيئة، وقد بينا وجه ضرر الربا في تفسير سورة البقرة بالتفصيل ـ والثاني لا يعرف سبب تحريمه لأنه ليس فيه ضرر وهو ما يعبرون عنه بالتعبدي أي أنه حرم علينا لنتركه عبادة لله وامتثالا لأمره فقط، وهذا غلط ظاهر، والصواب ما قاله ابن القيم في أعلام الموقعين وهو: الربا نوعان جلي وخفي، فالجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلي، فتحريم الأول قصد وتحريم الثاني وسيلة، فأما الجلي فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة آلافا مؤلفة، وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج فإذا رأى المستحق يؤخر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يبذلها له تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس، ويدافع من وقت إلى وقت، فيشتد ضرره، وتعظم مصيبته، ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه فيأكل مال أخيه بالباطل ويحصل أخوه على غاية الضرر، فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله، ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره ولهذا كان من أكبر الكبائر.
8. ثم ذكر عقب هذا كلمة الإمام أحمد في الربا الذي لا شك فيه وقد ذكرناها آنفا ويعني بذكرها هنا أن ذلك هو الربا الذي يعد من أكبر الكبائر، لا الربا الذي حرم لسد الذريعة كربا الفضل، فإن الفرق بينهما كالفرق بين الزنا والنظر إلى الأجنبية بشهوة أو لمس يدها كذلك أو الخلوة بها ولو مع عدم الشهوة لأن هذه الأشياء ليست محرمة لذاتها بل لسد الذريعة، أي لئلا تكون وسيلة إلى الزنا المحرم لذاته، والوعيد الشديد إنما يكون على المحرم الشديد ضرره كالزنا وأكل الربا المضاعف.. فقول ابن حجر إن ما ورد من الوعيد على الربا شامل لجميع أنواعه خطأ فإن منها عنده بيع قطعة من الحلي كسوار بأكثر من وزنها دنانير أو بيع كيل من التمر الجيد بكيل وحفنة من التمر الرديء مع تراضي المتبايعين وحاجة كل منهما إلى ما أخذه، ومثل هذا لا يدخل في نهي القرآن ولا في وعيده ولا يصح أن يقاس عليه، كما لا يصح أن يقال إن خلوة الرجل بامرأة لا يشتهيها ولا تشتهيه كالزنا في حرمته ووعيده، وقد صرح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنه إنما نهى عن ربا الفضل لأنه يخشى أن يكون ذريعة للربا الذي حرمه الله في كتابه وتوعده عليه بذلك في سورة البقرة، ولا ينافي ذلك تسميته في بعض الروايات الأخرى ربا، فقد أطلق اسم الربا على المعاصي القولية التي لا دخل للمعاملات المالية فيها كالغيبة، ففي حديث البزار بسند قوي ـ كما صرح به في الزواج ـ (من أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه) أي غيبته، وحديث أبي يعلى بسند صحيح كما صرح به أيضا (أتدرون أربى الربا عند الله؟ ـ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: فإن أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم)، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 58] وفي معناهما أحاديث أخرى عند أبي داود وابن أبي الدنيا والطبراني والبيهقي، بل فسر بعضهم الربا في قوله: ﴿وما آتيتم من الربا﴾ [الروم: 39] بالهدية والعطية التي يتوقع بها مزيد مكافأة.
9. المحرم لذاته لا يباح إلا لضرورة، كأكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر، وما كل محرم تلجئ إليه الضرورة، والمحرم لسدّ الذريعة قد يباح للحاجة، قال ابن القيم في أعلام الموقعين: (وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا فإنه ما حرم تحريمَ المقاصد)، ثم أفاض القول في حل بيع الحليّ المباح بأكثر من وزنه من جنسه وحقق أن للصنعة قيمة في نفسها، ثم قال: (يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان لسد الذريعة كما تقدم بيانه وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة كما أبيحت العرايا من ربا الفضل وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر وكما أبيح النظر (أي إلى المرأة الأجنبية) للخاطب والشاهد والطبيب والعامل من جملة النظر المحرم، وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال حرم لسد ذريعة التشبه بالنساء الملعون فاعله وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة وكذلك ينبغي أن يباح بيه الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها لان الحاجة تدعو إلى ذلك وتحريم التفاضل إنما كان لسد الذريعة، فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع ولا تتم مصلحة الناس إلا به أو بالحيل، والحيل باطلة في الشرع)
10. إنما تعرضت هنا لربا الفضل وهو ليس مما تتناوله الآية الكريمة للتفرقة، ولأن مسألة الربا قد قامت لها البلاد المصرية وقعدت في هذه الأيام واقترح كثيرون إنشاء بنك إسلامي، وألقيت فيها خطب كثيرة في نادي دار العلوم بالقاهرة خالف فيها بعض الخطباء بعضا، فمال بعضهم إلى منع كل ما عده الفقهاء من الربا وأنحى بعضهم على الفقهاء ولم يعتد بقولهم ومال آخرون إلى عدم منع ربا الفضل أو ما دون المضاعف فغلا بعضهم وتوسط بعض، ولم يأت أحد بتحرير البحث وإقناع الناس بشيء يستقر عليه الرأي، وفي الليلة التي ختم فيها هذا البحث ألقى كاتب هذا خطابا وجيزا في المسألة قال رئيس النادي حفني بك ناصف في خطبته الختامية إنه فصل الخطاب ورغب إلينا هو (رئيس النادي) وغيره أن ندونه، وهذا هو بالمعنى: إن الله تعالى قد حرم ربا النسيئة الذي كانت عليه الجاهلية تحريما صريحا ونهى عنه نهيا مؤكدا، وورد في الأحاديث الصحيحة تحريم ربا الفضل والنهي عنه، فالبحث في هذه المسألة من وجهين:
أ. الوجه الأول: النظر فيها من الجهة النظرية المعقولة، فنقول: إن كل ما جاء به الإسلام من الأحكام الثابتة المحكمة فهو خير وإصلاح للبشر وموافق لمصالحهم ما تمسكوا به، ولكن من الناس من يظن اليوم أن إباحة الربا ركن من أركان المدنية لا تقوم بدونه، فالأمة التي لا تتعامل بالربا لا ترتقي مدنيتها ولا يحفظ كيانها، وهذا باطل في نفسه إذ لو فرضنا أن تركت جميع الأمم أكل الربا فصار الواجدون فيها يقرضون العادمين قرضا حسنا ويتصدقون على البائسين والمعوزين ويكتفون بالكسب من موارده الطبيعية كالزراعة والصناعة والتجارة والشركات ومنها المضاربة لما زادت مدنيتهم إلا ارتقاء ببنائها على أساس الفضيلة والرحمة والتعاون الذي يحبب الغني إلى الفقير، ولما وجد فيها الاشتراكيون الغالون، والفوضويون المغتالون، وقد قامت للعرب مدنية إسلامية لم يكن الربا من أركانها فكانت خير مدنية في زمنها، فما شرعه الإسلام من منع الربا هو عبارة عن الجمع بين المدنية والفضيلة، وهو أفضل هداية للبشر في حياتهم الدنيا.
ب. الوجه الثاني: النظر فيها من الجهة العملية بحسب حال المسلمين الآن في مثل هذه البلاد، فإننا نرى كثيرين يوافقوننا على أنه لو وجد للإسلام دول قوية وأمم عزيزة تقيم الشرع وتهتدي بهدى القرآن لأمكنها الاستغناء عن الربا، ولكانت مدنيتها بذلك أفضل، فلا اعتراض على الإسلام في تحريم الربا لأن شرعه لا يمكن أن يبيح الربا، وهو دين غرضه تهذيب النفوس وإصلاح حال المجتمع، لا توفير ثروة بعض الأفراد من أهل الأثرة، ولكنهم يقولون إننا نعيش في زمن ليس فيه أمم إسلامية ذات دول قوية تقيم الإسلام وتستغني عمن يخالفها في أحكامها وإنما زمام العالم في أيدي أمم مادية قد قبضت على أزمة الثروة في العالم حتى صارت سائر الأمم والشعوب عيالا عليها، فمن جاراها منهم في طرق كسبها والربا من أركانه فهو الذي يمكن أن يحفظ وجوده معها، ومن لم يجارها في ذلك انتهى أمره بأن يكون مستعبدا لها، فهل يبيح الإسلام لشعب مسلم هذه حاله مع الأوربيين كالشعب المصري أن يتعامل بالربا ليحفظ ثروته وينميها فيكون أهلا للاستقلال أم يحرم عليه ذلك ـ والحالة حالة ضرورة ـ ويوجب عليه أن يرضى باستنزاف الأجنبي لثروته وهي مادة حياته؟ هذا ما يقوله كثير من مسلمي مصر الآن، والجواب: بعد تقرير قاعدة أن الإسلام يوافق مصالح الآخذين به في كل زمان ومكان ـ من وجهين يوجه كل واحد منهما إلى فريق من المسلمين.
• أما الأول: فيوجه إلى فريق المقلدين، وهم أكثر المسلمين في هذا العصر، فيقال لهم: إن في مذاهبكم التي تتقلدونها، مخرجا من هذه الضرورة التي تدعونها، وذلك بالحيلة التي أجازها الإمام الشافعي الذي ينتمي إلى مذهبه أكثر أهل هذا القطر والإمام أبو حنيفة الذي يتحاكمون على مذهبه كافة، ومثلهم في ذلك أهل المملكة العثمانية التي أنشئت فيها مصاريف (بنوك) الزراعة بأمر السلطان وهي تقرض بالربا المعتدل مع إجراء حيلة المبايعة التي يسمونها المبايعة الشرعية.
• وأما الثاني: فيوجه إلى أهل البصيرة في الدين الذين يتبعون الدليل ويتحرون مقاصد الشرع فلا يبيحون لأنفسهم الخروج عنها بحيلة ولا تأويل، فيقال لهم: إن الإسلام كله مبني على قاعدة اليسر ورفع الحرج والعسر الثابتة بنص قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185] وقوله: ﴿ما يرد الله ليجعل عليكم من حرج﴾ بالمائدة: 6] وإن المحرمات في الإسلام قسمان: الأول: ما هو محرم لذاته لنا فيه من الضرر، وهو لا يباح إلا لضرورة، ومنه ربا النسيئة المتفق على تحريمه، وهو مما لا تظهر الضرورة إلى أكله، أي إلى أن يقرض الإنسان غيره فيأكل ماله أضعافا مضاعفة كما تظهر في أكل الميتة وشرب الخمر أحيانا ـ والثاني: ما هو محرم لغيره كربا الفضل المحرم لئلا يكون ذريعة وسببا لربا النسيئة، وهو يباح للضرورة بل وللحاجة كما قال ابن القيم وأورد له الأمثلة من الشرع فقسم الربا إلى جلي وخفي وعده من الخفي (وقد ذكرنا عبارته آنفا)، فأما الأفراد من أهل البصيرة فيعرف كل من نفسه هل هو مضطر أو محتاج إلى أكل هذا الربا وإيكاله غيره، فلا كلام لنا في الأفراد، وإنما المشكل تحديد ضرورة الأمة أو حاجتها فهو الذي فيه التنازع، وعندي أنه ليس لفرد من الأفراد أن يستقل بذلك، وإنما يرد مثل هذا الأمر إلى أولي الأمر من الأمة، أي أصحاب الرأي والشأن فيها والعلم بمصالحها، عملا بقوله في مثله من الأمور العامة: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83] فالرأي عندي أن يجتمع أولو الأمر من مسلمي هذه البلاد وهم كبار العلماء المدرسين والقضاة ورجال الشورى والمهندسون والأطباء وكبار المزارعين والتجار ويتشاوروا بينهم في المسألة ثم يكون العمل بما يقررون أنه قد مست إليه الضرورة أو ألجأت إليه حاجة الأمة.
11. هذا هو معنى ما قلته في نادي دار العلوم.. هذا وإن مسلمي الهند قد سبقوا مسلمي مصر إلى البحث في هذه المسألة وأكثروا الكتابة فيها في الجرائد ولكنهم طرقوا بابا لم يطرقه المصريون، وهو ما جاء في بعض المذاهب من إباحة جميع المعاملات الباطلة والعقود الفاسدة في غير دار الإسلام، والأصل في هذه المسألة أن الإسلام لم يحرم الربا ولا غيره من المعاملات إلا بعد أن صار له سلطة وحكم في دار الهجرة، وكأنهم يرون المجال واسعا للبحث في بلاد الهند هل هي دار إسلام أم لا دون بلاد مصر التي لا تزال حكومتها الرسمية إسلامية بحسب قوانين الدول وإن كان كل من السلطان صاحب السيادة على هذه البلاد والأمير والقاضي النائبين عنه فيها لا يستطيعون منع الربا منها ولا غير الربا من المحرمات التي أباحها القانون المصري.
12. الأضعاف جمع قلة لضعف (بكسر الضاد) وضعف الشيء مثله الذي يثنيه فضعف الواحد واحد فهو إذا أضيف إليه ثناه، وهو من الألفاظ المتضايفة أي التي يقتضي وجودها وجود آخر من جنسها كالنصف والزوج ويختص بالعدد فإذا ضاعفت الشيء ضممت إليه مثله مرة وأكثر، قال الأستاذ الأمام: إذا قلنا إن الأضعاف المضاعفة في الزيادة فقط (التي هي الربا) يصح ما قاله المفسر (الجلال) في تصوير المسألة بتأخير أجل الدين والزيادة في المال وهذا هو الذي كان معروفا في الجاهلية ويصح أيضا أن تكون الأضعاف بالنسبة إلى رأس المال وهذا واقع الآن فإنني رأيت في مصر من استدان بربا ثلاثة في المائة كل يوم؛ فانظر كم ضعفا يكون في السنة، وقد قال ﴿مُضَاعَفَةً﴾ بعد ذكر الأضعاف كأن العقد قد يكون ابتداء في الأضعاف ثم تأتي المضاعفة بعد ذلك بتأخير الأجل وزيادة المال.
13. حاصل المعنى لا تأكلوا الربا حال كونه أضعافا تضاعف بتأخير أجل الدين الذي هو رأس المال وزيادة المال ضعف ما كان كما كنتم تفعلون في الجاهلية فإن الإسلام لا يبيح لكم ذلك لما فيه من القسوة والبخل واستغلال ضرورة المعوز أو حاجته: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في أهل الحاجة والبؤس فلا تحملوهم من الدين هذه الأثقال التي ترزحهم وربما تخرب بيوتهم: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ في دنياكم بالتراحم والتعاون فتتحابون والمحبة أس السعادة.
14. ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ الذين قست قلوبهم واستحوذ عليهم الطمع والبخل فكانوا فتنة للفقراء والمساكين وأعداء البائسين والمعوزين.
15. ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ فيما نهينا عنه من أكل الربا وما أمرنا به من الصدقة؛ ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ في الدنيا بما تفيدكم الطاعة من صلاح حال مجتمعكم، وفي الآخرة بحسن الجزاء على أعمالكم، فإن الراحمين يرحمهم الرحمن كما ورد في الحديث المرفوع عند أحمد وأبي داود والترمذي وقد رويناه مسلسلا، قال محمد عبده: قوله: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ﴾ وعيد للمرابين بجعلهم مع الكافرين إذا عملوا فيهم عملهم وفيه تنبيه إلى أن الربا قريب من الكفر، وهذا القول بعد قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ تأكيد بعد تأكيد ثم أكده أيضا بالأمر بطاعته وطاعة الرسول فمؤكدات التنفير من الربا أربعة، وقد قلنا من قبل إن مسألة الربا ليست مدنية محضة بل هي دينية أيضا والغرض الديني منها التراحم المفضي إلى التعاون فالمقرض اليوم قد يكون مقترضا غدا، فمن أعان جدير بأن يعان.
__________
(1) تفسير المنار: 4/122.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن نهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ البطانة من اليهود وأمثالهم من المشركين بشروط ذكرها هي مثار الضرر، ثم بين لهم أن كيدهم لا يضرهم ما اعتصموا بتقوى الله وطاعته وطاعة رسوله؛ ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك بما حدث لهم حين صدقوا الله ورسوله من الفوز والفلاح في وقعة بدر، وبما حدث لهم حين عصوا الله وخالفوا أمر القائد وهو الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في وقعة أحد، وكيف حل بهم البلاء، ونزلت بهم المصائب مما لم يكونوا ينتظرون القليل منها، نهاهم هنا عن شر عمل من أعمال اليهود ومن اقتدى بهم من المشركين وهو الربا، مع بيان أن الربح المتوقع منه ليس هو السبب في السعادة، بل السعادة إنما تكون في تقوى الله وامتثال أوامره، وفي ذلك حث على بذل المال في سبيل الله كالدفاع عن الملة، وتنفير من البخل والشح والكلب على جمع المال بكل وسيلة مستطاعة، وشر تلك الوسائل أكل الربا أضعافا مضاعفة.
2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ أي لا تأكلوا الربا حال كونه أضعافا مضاعفة بتأخير أجل الدّين الذي هو رأس المال، وزيادة المال إلى ضعف ما كان كما كنتم تفعلون في الجاهلية، فإن الإسلام لا يبيح لكم ذلك، لما فيه من القسوة واستغلال ضرورة المعوز وحاجته، قال ابن جرير: (لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة في إسلامكم بعد إذ هداكم الله، كما كنتم تأكلونه في جاهليتكم، وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم أن الرجل منهم يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه، فيقول له الذي عليه المال: أخّر دينك عنى وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة، فنهاهم الله عزّ وجل في إسلامهم عنه)، وقال الرازي: (كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل، فإذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجدا لذلك المال قال الدائن زد في المال حتى أزيد في الأجل، فربما جعله مائتين، ثم إذا حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك ثم إلى آجال كثيرة، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها، فهذا هو المراد من قوله تعالى: ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾)
3. ربا الجاهلية هو ما يسمى في عصرنا بالربا الفاحش وهو ربح مركب، وهذه الزيادة الفاحشة كانت بعد حلول الأجل، ولا شيء منها في العقد الأول، كان يعطيه المائة بمائة وعشرة أو أكثر أو أقل، وكأنهم كانوا يكتفون في العقد الأول بالقليل من الربح، فإذا حل الأجل ولم يقض الدين وهو في قبضتهم اضطروه إلى قبول التضعيف في مقابلة الإنساء، وهذا هو الربا النسيئة، قال ابن عباس: إن نص القرآن الحكيم ينصرف إلى ربا النسيئة الذي كان معروفا عندهم.
4. على الجملة فالربا نوعان:
أ. ربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، وهو أن يؤخر دينه ويزيده في المال، وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة آلافا مؤلفة، وفي الغالب لا يفعل مثل ذلك إلا معدم محتاج، فهو يبذل الزيادة ليفتدى من أسر المطالبة، ولا يزال كذلك يعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويوقعه في المشقة والضرر، فمن رحمة الله وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرّم الربا ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهده، وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله، ولم يجيء مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره، ولهذا كان من أكبر الكبائر.
ب. ربا الفضل كأن يبيع قطعة من الحلي كسوار بأكثر من وزنها دنانير، أو يبيع كيلة من التمر الجيد بكيلة وحفنة من التمر الرديء مع تراضى المتبايعين، وحاجة كل منهما إلى ما أخذه، ومثل هذا لا يدخل في نهى القرآن ولا في وعيده، ولكنه ثبت بالسنة فقد روى ابن عمر قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل سواء بسواء، ولا تشفوا بعضه على بعض إني أخشى عليكم الرّماء ـ الربا ـ)
5. سؤال وإشكال: هذه الآية هي أولى الآيات نزولا في تحريم الربا، وآيات البقرة نزلت بعد هذه، بل هي آخر آيات الأحكام نزولا، وقد يقول بعض المسلمين الآن: إنا نعيش في عصر ليس فيه دول إسلامية قوية تقيم الإسلام وتستغنى عمن يخالفها في أحكامها بل زمام العالم في أيدى أمم مادية تقبض على الثروة، وبقية الشعوب عيال عليها، فمن جاراها في طرق الكسبـ والربا من أهم أركانه ـ أمكنه أن يعيش معها، وإلا كان مستعبدا لها، أفلا تقضى ضرورة كهذه على الشعوب الإسلامية التي تتعامل مع الأوربيين كالشعب المصري مثلا أن تتعامل بالربا كي تحفظ ثروتها وتنميها، وحتى لا يستنزف الأجنبي ثروتها وهى مادة حياتها؟ والجواب: إن المحرمات في الإسلام ضربان:
أ. ضرب محرم لذاته لما فيه من الضرر، ومثل هذا لا يباح إلا لضرورة كأكل الميتة وشرب الخمر، والربا المستعمل الآن هو ربا النسيئة وهو متفق على تحريمه، فإذا احتاج المسلم إلى الاستقراض ولم يجد من يقرضه إلا بالربا فالإثم على آخذ الربا دون معطيه، لأن له فيه ضرورة.
ب. ضرب محرم لغيره وهو ربا الفضل لأنه ربما كان سببا في ربا النسيئة، وهو يباح للضرورة والحاجة أيضا.
6. المسلم يعرف إن كان محتاجا إلى الربا ومضطرا إليه أم لا، فإن كان محتاجا حل له تناوله ويكون مثله أكل الميتة وشرب الخمر ونحوهما، وإلا لم يحل ذلك، إذ الربا يضر بإيمان المؤمنين، وإن كان زيادة في مال الرابى فهو في الحقيقة نقصان، لأن الفقراء الذين يشاهدونه يأخذ أموالهم بهذا التعامل يلعنونه ويدعون عليه، وبذلك يسلب الله الخير من يديه، إن عاجلا أو آجلا في نفسه وماله، وتتوجه إليه المذمة من الناس لقساوة قلبه، وغلظ كبده، وقد ورد في الأثر: إن آخذ الربا لا يقبل منه صدقة ولا جهاد ولا حج ولا صلاة.
7. ثم أكد النهى فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي واتقوا الله فيما نهيتم عنه من الأمور التي من جملتها الربا، ولا تكن قلوبكم قاسية على عباده من ذوى الحاجة والبؤس، فتحملوهم من الدين ما لا تحتمله طاقتهم، وتستغلّوا عوزهم وحاجتهم، فتشتطوا في الربا حتى تخربوا بيوتهم وتجعلوهم من ذوى الفاقة والمتربة ـ لعل ذلك يكون سبب فلا حكم في دنياكم، فإن الرحمة وحسن المعونة يوجدان المحبة في القلوب، والمحبة أساس السعادة في الدنيا والآخرة.
8. ثم زاد النهى تأكيدا فقال: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ أي وابتعدوا عن متابعة المرابين، وتعاطى ما يتعاطون من أكل الربا الذي يفضى بكم إلى دخول النار التي أعدها الله للكافرين، وفي هذا من شديد الزجر ما لا يخفى؛ فان المؤمنين الذين خوطبوا باتقاء المعاصي إذا علموا أنهم متى فارقوا التقوى أدخلوا هذه النار كان انزعاجهم عن المعاصي أتم، ومن ثم روى عن أبى حنيفة رحمة الله أنه كان يقول: إن هذه أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه.
9. ثم بالغ في النهى وشدّد فيه أيما تشديد فقال: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي وأطيعوا الله ورسوله فيما نهيا عنه من أكل الربا، وما أمرا به من الصدقة، كي ترحموا في الدنيا بصلاح حال المجتمع وفي الآخرة بحسن الجزاء على أعمالكم، وقد ورد في الأثر (الراحمون يرحمهم الرحمن) رواه أبو داوود والترمذي.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/64.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قبل أن يدخل السياق في صميم الاستعراض للمعركة ـ معركة أحد ـ والتعقيبات على وقائعها وأحداثها، تجيء التوجيهات المتعلقة بالمعركة الكبرى، التي ألمعنا في مقدمة الحديث إليها، المعركة في أعماق النفس وفي محيط الحياة.. يجيء الحديث عن الربا والمعاملات الربوية وعن تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله، وعن الإنفاق في السراء والضراء، والنظام التعاوني الكريم المقابل للنظام الربوي الملعون، وعن كظم الغيظ والعفو عن الناس وإشاعة الحسنى في الجماعة، وعن الاستغفار من الذنب والرجوع إلى الله وعدم الإصرار على الخطيئة.
2. تجيء هذه التوجيهات كلها قبل الدخول في سياق المعركة الحربية؛ لتشير إلى خاصية من خواص هذه العقيدة: الوحدة والشمول في مواجهة هذه العقيدة للكينونة البشرية ونشاطها كله؛ ورده كله إلى محور واحد: محور العبادة لله والعبودية له، والتوجه إليه بالأمر كله، والوحدة والشمول في منهج الله وهيمنته على الكينونة البشرية في كل حال من أحوالها، وفي كل شأن من شؤونها، وفي كل جانب من جوانب نشاطها، ثم تشير تلك التوجيهات بتجمعها هذا إلى الترابط بين كل ألوان النشاط الإنساني؛ وتأثير هذا الترابط في النتائج الأخيرة لسعي الإنسان كله، كما أسلفنا.
3. المنهج الإسلامي يأخذ النفس من أقطارها، وينظم حياة الجماعة جملة لا تفاريق، ومن ثم هذا الجمع بين الإعداد والاستعداد للمعركة الحربية؛ وبين تطهير النفوس ونظافة القلوب، والسيطرة على الأهواء والشهوات، وإشاعة الود والسماحة في الجماعة.. فكلها قريب من قريب.. وحين نستعرض بالتفصيل كل سمة من هذه السمات، وكل توجيه من هذه التوجيهات، يتبين لنا ارتباطها الوثيق بحياة الجماعة المسلمة، وبكل مقدراتها في ميدان المعركة وفي سائر ميادين الحياة!
4. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ لقد سبق الحديث عن الربا والنظام الربوي بالتفصيل في الجزء الثالث من هذه الظلال فلا نكرر الحديث عنه هنا.. ولكن نقف عند الأضعاف المضاعفة، فإن قوما يريدون في هذا الزمان أن يتواروا خلف هذا النص، ويتداروا به، ليقولوا: إن المحرم هو الأضعاف المضاعفة، أما الأربعة في المائة والخمسة في المائة والسبعة والتسعة.. فليست أضعافا مضاعفة، وليست داخلة في نطاق التحريم! ونبدأ فنحسم القول بأن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع، وليست شرطا يتعلق به الحكم، والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا ـ بلا تحديد ولا تقييد: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾.. أيا كان! فإذا انتهينا من تقرير المبدأ فرغنا لهذا الوصف، لنقول: إنه في الحقيقة ليس وصفا تاريخيا فقط للعمليات الربوية التي كانت واقعة في الجزيرة، والتي قصد إليها النهي هنا بالذات، إنما هو وصف ملازم للنظام الربوي المقيت، أيا كان سعر الفائدة.
5. إن النظام الربوي معناه إقامة دورة المال كلها على هذه القاعدة، ومعنى هذا أن العمليات الربوية ليست عمليات مفردة ولا بسيطة، فهي عمليات متكررة من ناحية، ومركبة من ناحية أخرى، فهي تنشئ مع الزمن والتكرار والتركيب أضعافا مضاعفة بلا جدال.
6. إن النظام الربوي يحقق بطبيعته دائما هذا الوصف، فليس هو مقصورا على العمليات التي كانت متبعة في جزيرة العرب، إنما هو وصف ملازم للنظام في كل زمان، ومن شأن هذا النظام أن يفسد الحياة النفسية والخلقية ـ كما فصلنا ذلك في الجزء الثالث: كما أن من شأنه أن يفسد الحياة الاقتصادية والسياسية ـ كما فصلنا ذلك أيضا ـ ومن ثم تتبين علاقته بحياة الأمة كلها، وتأثيره في مصائرها جميعا، والإسلام ـ وهو ينشئ الأمة المسلمة ـ كان يريد لها نظافة الحياة النفسية والخلقية، كما كان يريد لها سلامة الحياة الاقتصادية والسياسية، وأثر هذا وذاك في نتائج المعارك التي تخوضها الأمة معروف.
7. النهي عن أكل الربا في سياق التعقيب على المعركة الحربية أمر يبدو إذن مفهوما في هذا المنهج الشامل البصير، أما التعقيب على هذا النهي بالأمر بتقوى الله رجاء الفلاح؛ واتقاء النار التي أعدت للكافرين.. أما التعقيب بهاتين اللمستين فمفهوم كذلك؛ وهو أنسب تعقيب: إنه لا يأكل الربا إنسان يتقي الله ويخاف النار التي أعدت للكافرين.. ولا يأكل الربا إنسان يؤمن بالله، ويعزل نفسه من صفوف الكافرين.. والإيمان ليس كلمة تقال باللسان؛ إنما هو اتباع للمنهج الذي جعله الله ترجمة عملية واقعية لهذا الإيمان، وجعل الإيمان مقدمة لتحقيقه في الحياة الواقعية، وتكييف حياة المجتمع وفق مقتضياته، ومحال أن يجتمع إيمان ونظام ربوي في مكان، وحيثما قام النظام الربوي فهناك الخروج من هذا الدين جملة؛ وهناك النار التي أعدت للكافرين!
8. المماحكة في هذا الأمر لا تخرج عن كونها مماحكة.. والجمع في هذه الآيات بين النهي عن أكل الربا والدعوة إلى تقوى الله، وإلى اتقاء النار التي أعدت للكافرين، ليس عبثا ولا مصادفة، إنما هو لتقرير هذه الحقيقة وتعميقها في تصورات المسلمين، وكذلك رجاء الفلاح بترك الربا وبتقوى الله.. فالفلاح هو الثمرة الطبيعية للتقوى، ولتحقيق منهج الله في حياة الناس.. ولقد سبق الحديث في الجزء الثالث عن فعل الربا بالمجتمعات البشرية، وويلاته البشعة في حياة الإنسانية، فلنرجع إلى هذا البيان هناك، لندرك معنى الفلاح هنا، واقترانه بترك النظام الربوي المقيت!
9. ثم يجيء التوكيد الأخير: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، وهو أمر عام بالطاعة لله والرسول، وتعليق الرحمة بهذه الطاعة العامة، ولكن للتعقيب به على النهي عن الربا دلالة خاصة، هي أنه لا طاعة لله وللرسول في مجتمع يقوم على النظام الربوي؛ ولا طاعة لله وللرسول في قلب يأكل الربا في صورة من صوره.. وهكذا يكون ذلك التعقيب توكيدا بعد توكيد، وذلك فوق العلاقة الخاصة بين أحداث المعركة التي خولف فيها أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين الأمر بالطاعة لله وللرسول، بوصفها وسيلة الفلاح، وموضع الرجاء فيه.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/473.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآيات والآيتان اللتان بعدها، تجيء هكذا بين تلك الأحداث التي يعرضها القرآن عن الصراع الدائر بين المسلمين والمشركين، في معارك بدر وأحد.
2. سؤال وإشكال: الحديث عن الربا هنا، يبدو وكأنه شيء غريب في هذا الجوّ، الذي لا نسمع فيه إلا قعقعة السلاح، ولا يرى فيه إلا الدماء والأشلاء! فما شأن الرّبا هنا؟ وما داعيته في هذا المقام؟ والجواب: عرفنا في وقوفنا بين يدى آيات الرّبا في سورة البقرة، أن الربا كبيرة الكبائر، وأنه لفداحة جرمه لم يدخله الإسلام في دائرة الجرائم التي يطهّر مقترفوها بإقامة الحدّ عليهم فيها، ولهذا فإن الذي يبدو لنا ـ والله أعلم ـ من وضع الرّبا هنا، وسط المعارك الدائرة بين الإسلام والكفر، أنه خطر كهذا الخطر الذي يتهدد المسلمين من الشرك والمشركين، وأنه إذا كان المسلمون مشتبكين في معركة ضارية مع المشركين، ليقتلعوا بذور الشرك والضلال من المجتمع الإنساني فإن ذلك ينبغي ألا يشغلهم عن معركة أخرى يجب أن يشتبكوا فيها مع عدوّ لا يقل خطرا في إفساد الكيان الإنساني وتدمير معالم الإنسانية في الإنسان ـ عن الشرك.. ألا، وهو الربا!
3. خطاب المؤمنين في قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً﴾ يتضمن أمرين:
أ. أولهما: نهى المسلمين مقارفة هذا الإثم، والعمل على محاربته في أنفسهم، حتى يجلوه عنها، كما أجلوا الشرك من قبل منها.
ب. ثانيهما: محاربة هذا الإثم، وجهاده حيث أطلّ برأسه في أي مكان تناله أيديهم، وتصل إليه قوتهم، كما يحاربون الشرك ويجاهدونه.. فإنه ـ أي الربا ـ ربيب الشرك، وثمرته البكر في شجرته الخبيثة! فحيث كان شرك، كان ظلم، والربا هو أشأم وجوه الظلم، وعلى هذا، فإنه كما لا يجتمع إيمان وشرك في قلب مؤمن، كذلك لا يجتمع إيمان وربا في حياة المؤمن! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾، فانظر إلى قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وما فيها من تشكيك في إيمان المؤمنين، ونزع تلك الصفة عنهم، والتي خوطبوا بها في أول الآية، في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وذلك إذا لم ينزعوا عن الرّبا، ويخلّصوا أنفسهم منه، ثم انظر بعد هذا في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ تجد أنها حرب معلنة من الله ورسوله.. فيا للهول، ويا للبلاء! وعلى من؟ على المؤمنين الذين آمنوا بالله ولكن بقي معهم الربا! إنهم إذن والمشركون سواء! يحاربهم الله ورسوله.. ويجاهدهم المؤمنون كما يجاهدون المشركين، فالمعركة مع الربا والمرابين معركة في صميمها مع الشرك والمشركين! ولهذا فقد أضيف الربا هنا إلى الشرك، ودخل في حسابه.. وبهذا صارت معركته وجهاده جزءا من معركة الشرك، وجهاد المشركين.
4. في قوله تعالى: ﴿لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً﴾ قد يبدو أن النهى في تحريم الربا، وفي درجه مع الشرك في قرن واحد ـ إنما هو الربا الفاحش. الذي يتضاعف فيه رأس المال بمضاعفة المدة التي يبقى فيها المال في يد المقترض بالربا، ويكون ـ بمفهوم المخالفة ـ أن هذا النهى لا يرد على الربا إذا لم يكن على تلك الصورة الفاحشة! ولكن ـ مع قليل من النظر في وجه الآية الكريمة ـ نجد أن قوله تعالى: ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ وإن يكن حالا من أحوال الربا، مقيدا للربا في عمومه وإطلاقه.. إلا أن هذا الحال يكاد يكون الحال الشامل لجميع أحوال الربا، الذي كان معروفا شائعا في هذا الوقت، وهو ربا النسيئة، الذي يتضاعف فيه رأس المال على امتداد الزمن، وإذن فهذا الوصف بالأضعاف المضاعفة للربا هو تقرير لحقيقة الربا، وكشف لوجهه الكريه، الذي يغتال أموال الناس على تلك الصورة البشعة التي لم تكن تتخلف أبدا عن المعاملات الربوية يومئذ! ويكون معنى الآية: نهى المؤمنين عن أكل الربا، الذي يأكل بدوره أموال الناس، حتى ينتفخ ويتورم، ويصبح أضعاف ما كان عليه، بتلك الأورام الخبيثة التي التصقت به.. فهو زاد تخمر وتعفن، تصدّ عنه النفوس الطيبة، ولو هلكت.. لأن في تناوله الهلاك المحقق.
5. قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ تأكيد لاجتناب الربا، وتحذير من أكله.. لأن آكله لا يفلح أبدا.. لأنه لم يكن على تقوى من الله ومن حرم التقوى والخشية من الله فقد حرم الفلاح، وفي قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ ما يكشف عن جريمة الربا، وأنها باب من أبواب الكفر، ومدخل من مداخله ـ كما أشرنا إلى ذلك من قبل ـ فالنار المعدّة للكافرين، هي معدة أيضا لآكلي الربا.. فمن لم يتق الله وينتهى عما نهى الله عنه من أكل الربا فهو مع الكافرين في نار جهنم، يلقى ما يلقى الكافرون، من عذاب ونكال.. وهذا يلتقى مع قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ فمن لم يتق الله، ويتجنب الربا فليس بالمؤمن، ولا هو في المؤمنين! وقوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ التفات إلى المؤمنين، ودعوة لهم إلى الطاعة العامة لله ورسوله، بعد أن أطاعوه في ترك الربا.
6. في قوله تعالى ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ تذكير لهم بالرحمة التي يجب أن تملأ قلوبهم عطفا وبرّا بالنّاس، فلا يغتالوا أموالهم بالرّبا، ولا يأكلوها ظلما وعدوانا، فإنهم إن رحموا الناس، رحمهم ربّ الناس، وفي الأثر: (الراحمون يرحمهم الرحمن)
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/583.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لولا أنّ الكلام على يوم أحد لم يكمل، إذ هو سيعاد عند قوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ إلى قوله: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ [آل عمران: 171] الآية لقلنا إنّ قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا﴾ اقتضاب تشريع، ولكنّه متعيّن لأن نعتبره استطرادا في خلال الحديث عن يوم أحد، ثمّ لم يظهر وجه المناسبة في وقوعه في هذا الأثناء، قال ابن عطية: ولا أحفظ سببا في ذلك مرويا، وقال الفخر: من النّاس من قال لمّا أرشد الله المؤمنين إلى الأصلح لهم في أمر الدين والجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنّهي فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا﴾ فلا تعلّق لها بما قبلها، وقال القفّال: لمّا أنفق المشركون على جيوشهم أموالا جمعوها من الربا، خيف أن يدعو ذلك المسلمين إلى الإقدام على الرّبا، وهذه مناسبة مستبعدة، وقال ابن عرفة: لمّا ذكر الله وعيد الكفار عقّبه ببيان أن الوعيد لا يخصّهم بل يتناول العصاة، وذكر أحد صور العصيان وهي أكل الربا، وهو في ضعف ما قبله، وعندي بادئ ذي بدء أن لا حاجة إلى اطّراد المناسبة، فإن مدّة نزول السورة قابلة، لأن تحدث في خلالها حوادث ينزل فيها قرآن فيكون من جملة تلك السورة، كما بيّناه في المقدّمة الثّامنة، فتكون هاته الآية نزلت عقب ما نزل قبلها فكتبت هنا ولا تكون بينهما مناسبة إذ هو ملحق إلحاقا بالكلام.
2. سؤال وإشكال: يتّجه أن يسأل سائل عن وجه إعادة النّهي عن الربا في هذه السورة بعد ما سبق من آيات سورة البقرة ـ بما هو أوفى ممّا في هذه السورة، والجواب: أنّ الظاهر أنّ هذه الآية نزلت قبل نزول آية ـ سورة البقرة ـ فكانت هذه تمهيدا لتلك، ولم يكن النّهي فيها بالغا ما في ـ سورة البقرة ـ وقد روي أن آية البقرة نزلت بعد أن حرّم الله الربا وأن ثقيفا قالوا: كيف ننهى عن الربا، وهو مثل البيع، ويكون وصف الربا ب ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ نهيا عن الربا الفاحش وسكت عمّا دون ذلك ممّا لا يبلغ مبلغ الأضعاف، ثمّ نزلت الآية الّتي في ـ سورة البقرة ـ ويحتمل أن يكون بعض المسلمين داين بعضا بالمراباة عقب غزوة أحد فنزل تحريم الرّبا في مدّة نزول قصّة تلك الغزوة، وتقدّم الكلام على معنى أكل الرّبا، وعلى معنى الربا، ووجه تحريمه، ـ في سورة البقرة ـ.
3. ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ حال من ﴿الرِّبَا﴾ والأضعاف جمع ضعف ـ بكسر الضّاد ـ وهو معادل الشيء في المقدار إذا كان الشيء ومماثله متلازمين، لا تقول: عندي ضعف درهمك، إذ ليس الأصل عندك، بل يحسن أن تقول: عندي درهمان، وإنّما تقول: عندي درهم وضعفه، إذا كان أصل الدرهم عندك، وتقول: لك درهم وضعفه، إذا فعلت كذا، والضعف يطلق على الواحد إذا كان غير معرّف بال نحو ضعفه، فإذا أريد الجمع جيء به بصيغة الجمع كما هنا، وإذا عرف الضعف بال صحّ اعتبار العهد واعتبار الجنس، كقوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا﴾ [سبأ: 37] فإن الجزاء أضعاف، كما جاء في الحديث إلى سبعمائة ضعف.
4. ﴿مُضَاعَفَةً﴾ صفة للأضعاف أي هي أضعاف يدخلها التّضعيف، وذلك أنّهم كانوا إذا داينوا أحدا إلى أجل داينوه بزيادة، ومتى أعسر عند الأجل أو رام التأخير زاد مثل تلك الزيادة، فيصير الضعف ضعفا، ويزيد، وهكذا، فيصدق بصورة أن يجعلوا الدّين مضاعفا بمثله إلى الأجل، وإذا ازداد أجلا ثانيا زاد مثل جميع ذلك، فالأضعاف من أوّل التداين للأجل الأوّل، ومضاعفتها في الآجال الموالية، ويصدق بأن يداينوا بمراباة دون مقدار الدّين ثمّ تزيد بزيادة الآجال، حتّى يصير الدّين أضعافا، وتصير الأضعاف أضعافا، فإن كان الأوّل فالحال واردة لحكاية الواقع فلا تفيد مفهوما: لأنّ شرط استفادة المفهوم من القيود أن لا يكون القيد الملفوظ به جرى لحكاية الواقع، وإن كان الثّاني فالحال واردة لقصد التشنيع وإراءة هذه العاقبة الفاسدة، وإذ قد كان غالب المدينين تستمرّ حاجتهم آجالا طويلة، كان الوقوع في هذه العاقبة مطردا، وحينئذ فالحال لا تفيد مفهوما كذلك إذ ليس القصد منها التقييد بل التشنيع، فلا يقتصر التّحريم بهذه الآية على الربا البالغ أضعافا كثيرة، حتّى يقول قائل: إذا كان الرّبا أقلّ من ضعف رأس المال فليس بمحرّم، فليس هذا الحال هو مصبّ النّهي عن أكل الربا حتّى يتوهّم متوهّم أنّه إن كان دون الضعف لم يكن حراما، ويظهر أنّها أوّل آية نزلت في تحريم الربا، وجاءت بعدها آية البقرة، لأن صيغة هذه الآية تناسب ابتداء التشريع، وصيغة آية البقرة تدلّ على أن الحكم قد تقرّر، ولذلك ذكر في تلك الآية عذاب المستمرّ على أكل الرّبا، وذكر غرور من ظنّ الرّبا مثل البيع، وقيل فيها ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ [البقرة: 275] الآية، كما ذكرناه آنفا، فمفهوم القيد معطّل على كلّ حال.
5. حكمة تحريم الرّبا هي قصد الشّريعة حمل الأمّة على مواساة غنيّها محتاجها احتياجا عارضا موقّتا بالقرض، فهو مرتبة دون الصدقة، وهو ضرب من المواساة إلا أن المواساة منها فرض كالزكاة، ومنها ندب كالصّدقة والسلف، فإن انتدب لها المكلّف حرّم عليه طلب عوض عنها، وكذلك المعروف كلّه، وذلك أن العادة الماضية في الأمم، وخاصّة العرب، أنّ المرء لا يتداين إلّا لضرورة حياته، فلذلك كان حقّ الأمّة مواساته، والمواساة يظهر أنّها فرض كفاية على القادرين عليها، فهو غير الّذي جاء يريد المعاملة للربح كالمتبايعين والمتقارضين: للفرق الواضح في العرف بين التعامل وبين التداين إلّا أن الشرع ميّز هاته الواهي بعضها عن بعض بحقائقها الذاتية، لا باختلاف أحوال المتعاقدين، فلذلك لم يسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الرّبا في السلف، ولو كان المستسلف غير محتاج، بل كان طالب سعة وإثراء بتحريك المال الّذي يتسلّفه في وجوه الربح والتجارة ونحو ذلك، وسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الشركة والتّجارة ودين السّلم، ولو كان الرّبح في ذلك أكثر من مقدار الرّبا تفرقة بين المواهي الشرعية.
6. يمكن أن يكون مقصد الشريعة من تحريم الرّبا البعد بالمسلمين عن الكسل في استثمار المال، وإلجاؤهم إلى التشارك والتعاون في شؤون الدنيا، فيكون تحريم الرّبا، ولو كان قليلا، مع تجويز الربح من التّجارة والشركات، ولو كان كثيرا تحقيقا لهذا المقصد.
7. قضى المسلمون قرونا طويلة لم يروا أنفسهم فيها محتاجين إلى التعامل بالرّبا، ولم تكن ثروتهم أيّامئذ قاصرة عن ثروة بقية الأمم في العالم، أزمان كانت سيادة العالم بيدهم، أو أزمان كانوا مستقلّين بإدارة شؤونهم، فلمّا صارت سيادة العالم بيد أمم غير إسلامية، وارتبط المسلمون بغيرهم في التّجارة والمعاملة، وانتظمت سوق الثّروة العالمية على قواعد القوانين الّتي لا تتحاشى المراباة في المعاملات، ولا تعرف أساليب مواساة المسلمين، دهش المسلمون، وهم اليوم يتساءلون، وتحريم الربا في الآية صريح، وليس لما حرّمه الله مبيح، ولا مخلص من هذا المضيق إلا أن تجعل الدول الإسلامية قوانين مالية تبنى على أصول الشريعة في المصارف، والبيوع، وعقود المعاملات المركبة من رؤوس الأموال وعمل العمّال، وحوالات الديون ومقاصّتها وبيعها، وهذا يقضي بإعمال أنظار علماء الشريعة والتدارس بينهم في مجمع يحوي طائفة من كلّ فرقة كما أمر الله تعالى.
8. تقدّم ذكر الربا والبيوع الربوية عند تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ الآيات الخمس من سورة البقرة [275]
9. ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ تحذير وتنفير من النّار وما يوقع فيها، بأنّها معدودة للكافرين وإعدادها للكافرين، عدل من الله تعالى وحكمة لأنّ ترتّب الأشياء على أمثالها من أكبر مظاهر الحكمة، ومن أشركوا بالله مخلوقاته، فقد استحقّوا الحرمان من رحماته، والمسلمون لا يرضون بمشاركة الكافرين لأنّ الإسلام الحقّ يوجب كراهية ما ينشأ عن الكفر، وذاك تعريض واضح في الوعيد على أخذ الربا.
10. مقابل هذا التنفير الترغيب الآتي في قوله: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133]، والتّقوى أعلى درجات الإيمان.
11. تعريف النار بهذه الصّلة يشعر بأنّه قد شاع بين المسلمين هذا الوصف للنّار بما في القرآن من نحو قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6]، وقوله: ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ﴾ [الشعراء: 91] الآية.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/217.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن أشار سبحانه إلى أن التفرق وعدم الطاعة للرسول كان سببا للهزيمة يوم أحد، والتعاون والاتحاد كان أساس القوة والنصر والتأييد من الله تعالى يوم بدر أخذ يبين أن قوة الأمة تكون بالتعاون، ولعل أبعد الأمور عن معنى التعاون ـ الربا، ولهذا نهى الله سبحانه وتعالى عن الربا في هذا المقام؛ فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾
2. ذكر القفال ـ من علماء الشافعية ـ أن بين هذه الآية الناهية عن أكل الربا أضعافا مضاعفة، وغزوة أحد مناسبة ظاهرة، وذلك أن المشركين في غزوة أحد أنفقوا على عساكرهم أموالا كثيرة جمعوها من الربا، ولعل ذلك يدعو بعض المسلمين إلى الإقدام على الربا، حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر ويتمكنوا من الانتقام منهم، فلا جرم نهاهم عن ذلك.
3. ابتدأ الله سبحانه وتعالى الآية بالنداء بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لبيان أن أكل الربا ليس من شأن أهل الإيمان، وإنما هو من خواص أهل الكفر والعصيان، فإذا كان المشركون يأكلون الربا ويتقوّون به، ويكاثرون أهل الإيمان بأموالهم التي اكتسبوها من السحت فليس لأهل الحق أن يجاروهم، بل عليهم أن يحرموه على أنفسهم، ولا يأكلوا إلا حلالا طيبا.
4. (الربا) معناه الزيادة، والمراد بها هنا الزيادة على الدّين، وهو ربا الجاهلية، ذلك أن الرجل منهم كان يكون له على رجل منهم مال فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه، فيقول المدين: أخر عنى دينك، ولقد قال عطاء: كانت ثقيف تداين بنى المغيرة في الجاهلية، فإذا حل الأجل قالوا: نزيدكم وتؤخرون، ولقد قال زيد بن ثابت: إنما كان ربا الجاهلية في التضعيف يكون للرجل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول: (تقضينى أو تزيدنى)، وبهذه الأخبار الصحاح تبين أمران:
أ. أولهما: أن ربا الجاهلية كان أساسه الزيادة في الدّين للزيادة في الأجل من غير نظر إلى سبب الدّين، وأن هذا الربا المنصوص عليه في الآية هو ربا الجاهلية، وهو الذي ذكره النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في خطبة الوداع، إذ قال (ألا إن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أبدأ به ربا عمى العباس بن عبد المطلب) ويبين بهذا أن المضاعفة هي في الزيادة لا في أصل الدين، فهي التي تتضاعف سنة بعد أخرى، وذلك هو معنى اللفظ في واضح معناه؛ لأن المضاعفة في الآية موضوعها الربا، والربا ليس هو أصل الدّين، إنما هو الزيادة عليه، وإن كلمة الربا مرادفة لكلمة الفائدة في لغة الاقتصاديين، فإذا قال قائل: لا تأكلوا الفائدة أضعافا مضاعفة، أفيكون المراد مضاعفة الدين أم مضاعفة الزيادة؟ وإن ضعف الشيء معناه مثله ومعنى الإضعاف إضافة أمثاله، ومعنى ضاعفها أكثر من الإضعاف سنة بعد أخرى، وهذا النوع من الربا هو الذي يسمى في لغة الصحابة والفقهاء بالنسيئة، وهو حرام لا شك، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل إنه يكفر من يجحد تحريمه، وقال ابن عباس: لا ربا إلا ربا النسيئة.
ب. يقابل ربا النسيئة ربا البيوع، وهو المنصوص عليه في حديث: (البر بالبر مثلا بمثل يدا بيد، والذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد، والفضة بالفضة مثلا بمثل يدا بيد، والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد، والتمر بالتمر مثلا بمثل يدا بيد، والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى)، وقد اتفق العلماء على أن بيع هذه الأصناف لا بد أن يكون بغير زيادة إذا كانت بمثلها كقمح بقمح، ولا بد من قبضها، وإذا اختلف الجنس كقمح بشعير جاز الزيادة، ولا بد من القبض في المجلس، والتأخير يسمى ربا النّساء، والزيادة المحرمة تسمى ربا الفضل، وما يماثل هذه الأصناف يكون لها مثل حرمتها كالأرز، والزيت ونحو ذلك، وقد اختلفوا في تعيين من يماثلها اختلافا طويلا قد دون في كتب الفقه، وأقرب الآراء في نظري هو قول حذاق المالكية: (إن علة التحريم هو الثمنية والطعم معا قبل الادخار)؛ لأن نظام المقايضة في هذه الأموال يؤدى إلى احتكارها في يد منتجيها، ويريد الإسلام الاتجار فيها بتوسيط النقدين لكيلا يكون تغرير ولا غرر، ولذلك قال بعض الصحابة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: عندي تمر وأريد رطبا، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (بع التمر واشتر الرطب)، ولا شك أن ذلك يمكن من ليس عنده تمر ولا رطب من أن يأكل، ولأن السعر يكون مضبوطا، وتحريم المقايضة في الذهب والفضة إلا بالمثل لأنهما مقاييس لضبط قيم الأموال فلا يصح أن تكون موضع اتجار حتى لا يقيد التقوىم.
5. ربا الجاهلية المنصوص عليه في الآية يحرم كل زيادة قلت أو كثرت، أيا كان سبب الدين، إذ يقول سبحانه في آخر البقرة وهى آخر آيات الربا نزولا: ﴿وإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة]
6. ادعى بعض الذين يريدون أن يطوعوا الشريعة لتخضع للنظام الربوى اليهودي القائم ـ أن ربا القرآن هو ربا الديون الاستهلاكية أي الديون التي تقترضها لغرض: ليأكل أو ليسكن أو ليشترى ثيابا، وذلك قول باطل، لأن تخصيص عموم القرآن لا يكون بالتحكم في عباراته، بل يكون تخصيصه بنصوص، أو بقواعد مستمدة من نصوص الدين عامة، ولأن العرب لم تكن حياتهم عريضة،؛ لأن عيشهم كان ساذجا ولم يكن معقدا، إذ حياتهم تقوم على التمر واللبن وسكنى الأخبية، فلما ذا يكون الاقتراض للاستهلاك!؟ ولأن ربا الجاهلية كان حيث التجارة، فقد كان في مكة والمدينة وهما يتجران كما هو ثابت في التاريخ إذ ينقلان بضائع الروم إلى الفرس، وبضائع الفرس إلى الروم عن طريق القواقل في الصحراء، وقد قال الله تعالى: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾ [قريش]، ولأن الدائنين الذين كانوا يرابون في الجاهلية لا يتصور منهم أن يجيئهم محتاج للمال ينفقه في حاجاته الضرورية فيمتنع عن إعطائهم إلا بربا، فهذا العباس الذي كان يسقى الحجيج جميعا نقيع الزبيب والتمر لا يتصور منه أن يجيء إليه محتاج، فلا يعطيه إلا بفائدة، إنما يتصور أن يعطى تاجرا يتجر في ماله ولا يحد له الكسب إلا بزيادة محدودة مستمرة لا بنسبة من الربح؛ ولأن المدينين الذين جاءت الأخبار بذكرهم لم يكونوا من الفقراء، بل كانوا من التجار، فبنو المغيرة الذين كانوا مدينين لبعض ثقيف هم تجار لا فقراء.
7. وبهذا يتبين أن تحريم الربا في الإسلام لإيجاد نظام اقتصادي تمنع فيه الأزمات، وقد بينا ذلك من قبل في عدة بحوث ومقالات، ولذا قال سبحانه: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، أي اجعلوا بينكم وبين غضب الله تعالى وقاية، فأطيعوه في أوامره ونواهيه، ولا تحاولوا التخلص منها بما تزعمون من أوهام لا أصل لها، فلا تأكلوا الربا، ولا تعينوا عليه، ولا تحرفوا الكلم عن مواضعه، لعلكم تفلحون، أي لترجوا أن تنالوا الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة، وهذه إشارة إلى أن تحريم الربا فيه صلاح الدنيا، وأن أولئك الذين يزعمون أن المصلحة في إباحته في عصرنا ويتأولون الشريعة ليخضعوها لتلك المدينة الآثمة، واهمون في معنى المصلحة، لأن علماء الاقتصاد يقررون أن نظام الفائدة هو سبب الأزمات، وهو نظام مؤقت حتى يجدوا ما يحل محله، وعندنا نظامنا، وأكثر البلاد الخاضعة للنظام الروسي أو آخذة به حرمته، والاشتراكية الوطنية الألمانية قبل الحرب حرمته، ولم يضر مصلحتها شيء، بل حمت مصالح البلاد.
8. ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ أي اجعلوا بينكم وبين النار التي أعدها الله تعالى للكافرين وقاية من الطاعة، ولا تنحرفوا عن الشرع ومقاصده إلى أهواء الكافرين ومنازعهم، وقد اقترنت هذه الآية بآية تحريم الربا لتهديد المعاندين أو الذين يمارون في الشرع ويجادلون فيه، وهذا كقوله تعالى في آية تحريم الربا في البقرة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة]، فالذين يأكلون الربا أو يدعون إليه، أو يسهلون أمره أو يوطئون أحكام الشريعة لأحكام الكافرين يحاربون الله ورسوله.
9. ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ جاء الأمر بالطاعة لله ولرسوله بعد ذلك النهى القاطع؛ لأن ما يتعلق بالأموال يتحكم فيه الأهواء، وتستولى عليه المنازع المختلفة فيكون مظنة العصيان بتأويل فاسد، أو تحريف مقصود، أو انحراف بسبب الطمع فينساق الشخص في طاعة من لا يطاع، ويترك طاعة الله والرسول، وفي ذكر طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله في قرن واحد إشارة إلى أن طاعة الرسول طاعة الله، وأن الرسول مطاع فيما يقول عن الله، ومعنى النص: أطيعوا الله والرسول رجاء أن تكونوا في رحمة لا في شقاء، وفي هذا إشارة إلى أن تحريم الربا فيه رحمة عامة شاملة، اللهم اجعلنا في طاعتك وطاعة رسولك دائما.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1405.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ذكر المفسرون وجوها عديدة لربط هذه الآية بما قبلها، وسبق ان أشرنا أكثر من مرة إلى ان من سنة القرآن ان يمزج بعض الأحكام ببعض، بالإضافة إلى ان آياته نزلت بالتدريج، ولمناسبات شتى.
2. استدل البعض بهذه الآية على ان الربا المحرم هو الربا الفاحش، أما غير الفاحش فليس بحرام، لمكان لفظ أضعافا مضاعفة، والصحيح ان الربا محرم بجميع أقسامه ومراتبه.. وأضعافا ليس قيدا للنهي، وإنما هو اشارة إلى ما كان عليه المرابون في الجاهلية.. هذا، إلى وجود الأخبار، وقيام الإجماع على ان قليل الربا محرم كالكثير منه، بل كل ما كان كثيره حراما فقليله كذلك ربا كان أو غير ربا.
3. أطال صاحب تفسير المنار الشرح والتفصيل عند تفسير هذه الآية، وانتهى أخيرا إلى ان الربا على قسمين:
أ. الأول ربا النسيئة، وهو ان يكون للرجل دين على آخر إلى أجل، فإذا حلّ الأجل، وعجز المديون قال للدائن: زدني في الأجل ثانية، وأزيدك في المال، وهكذا كلما زاد الأجل، زاد المال، ثم قال صاحب المنار: ان هذا النوع من الربا محرم لذاته.
ب. الثاني: أن يعطيه مائة درهم بمائة وعشرة إلى أجل ابتداء، وادخل صاحب المنار هذا القسم بربا الفضل، وقال: ان هذا النوع ليس محرما لذاته، وإنما يحرم لسد الذريعة، أي خوفا أن يجر إلى ربا النسيئة الذي هو محرم ذاتا، وبكلمة ان ربا النسيئة عند صاحب المنار محرم كغاية، وربا الفضل محرم كوسيلة، ثم قال: (ان ربا الفضل يباح للضرورة، بل وللحاجة كما قال ابن القيم)
4. يلاحظ على ما ذكره:
أ. أولا: ان النص الثابت كتابة وسنة يحرم جميع أنواع الربا من غير فرق بين أن يكون التأجيل للمرة الأولى، أو للمرة الثانية.
ب. ثانيا: ان قوله (بل وللحاجة) من سهو القلم، لأن الضرورات تبيح المحظورات، أما الحاجات فليس، والفرق بين الحاجة والضرورة ان الحاجة يمكن الاستغناء عنها ولو بالصبر، أما الضرورة فلا يجدي معها شيء الا سدها بالذات.
ج. ثالثا: ان الضرورة هنا غير متحققة إطلاقا، لا بالنسبة إلى القابض، ولا بالنسبة إلى الدافع، أما القابض أي صاحب المال فلأن المفروض ان لديه ما يقيم به الأود، ولو يوما واحدا، وأما الدافع فإن الضرورة إذا سوغت له أخذ المال فإنها لا تسوغ له دفع الربا، وان اشترط عليه، لأن الشرط فاسد، وإذا أخذ منه قهرا عنه فلا يحل للآخذ، لأنه أكل للمال بالباطل.
د. رابعا: لو سلمنا جدلا بأن الضرورة ممكنة بالنسبة إلى القابض فإنها تسقط الحكم التكليفي دون الوضعي، فإذا سرق الجائع المضطر رغيفا يسقط عنه العقاب ما في ذلك ريب، ولكنه مسؤول عن ثمن الرغيف، وعليه أن يدفعه إلى صاحبه عند الميسرة.. ومن أباح أخذ الربا للضرورة لا يوجب رده عند الميسرة إلى من أخذ منه.
5. ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، في هذا دلالة على أمرين:
أ. الأول: ان أكل الربا معصية لله والرسول.
ب. الثاني: ان من يعصي الله والرسول لا تناله رحمة الله بحال.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/155.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. آيات داعية إلى الخير، زاجرة عن الشر والسوء، وهي مع ذلك لا تفقد الاتصال بما قبلها ولا ما بعدها من الآيات الشارحة لقصة غزوة أحد، وبيان ما كان في المؤمنين يومئذ من مساوئ الحالات والخصال المذمومة التي لا يرتضيها الله سبحانه، وهي الموجبة لما دب فيهم من الوهن والضعف ومعصية الله ورسوله، فالآيات من تتمة الآيات النازلة في غزوة أحد، ثم هدايتهم إلى ما يأمنون به الوقوع في هذه الورطات المهلكة، والعقبات المردية ودعوتهم إلى تقوى الله والثقة به والثبات على طاعة الرسول، فهذه الآيات التسع خاصة فيها ترغيب وتحذير، فهي ترغب المؤمنين على المسارعة إلى الخير وهي الإنفاق في سبيل الله في السراء والضراء، وكظم الغيظ والعفو عن الناس، ويجمعها بث الإحسان والخير في المجتمع، والصبر على تحمل الأذى والسوء، والصفح عن الإساءة قبالة الإساءة، فهذه هي الطريقة الوحيدة التي تستحفظ بها حياة المجتمع ويشد بها عظمه فيقوم على ساق.
2. من لوازم هذا الإنفاق والإحسان ترك الربا ولذلك بدأ به، وهو كالتوطئة للدعوة إلى الإحسان والإنفاق، فقد مر في آيات الإنفاق والربا من سورة البقرة أن الإنفاق بجميع طرقه من أعظم ما يعتمد عليه بنية المجتمع، وأنه الذي ينفخ روح الوحدة في المجتمع الإنساني فتتحد به قواه المتفرقة فتنال بذلك سعادته في الحياة، ويقوى به على دفع كل آفة مهلكة أو موذية تقصده، وإن الربا من أعظم ما يضاد الإنفاق في خاصته هذه، فهذا ما يرغبهم الله فيه ثم يرغبهم في أن لا ينقطعوا عن ربهم بقواطع الذنوب والمعاصي فإن أتوا بما لا يرضاه لهم ربهم تداركوه بالتوبة والرجوع إليه ثانيا وثالثا من غير أن يكسلوا أو يتوانوا، وبهذين الأمرين يستقيم سيرهم في صراط الحياة السعيدة فلا يضلون ولا يقفون فيهلكوا.
3. هذا البيان كما ترى أحسن طريق يهدي به الإنسان إلى تكميل نفسه بعد ظهور النقص وأجود سبيل في علاج الرذائل النفسانية التي ربما دبت في النفوس المحلاة بالفضائل فأورثت السفال والسقوط وهددت بالهلكة والردى.
4. تعليم القرآن وقرانه العلم بالعمل، من دأب القرآن في تعليمه الإلهي، إذ لم يزل يجعل في مدة نزولها ـ وهي ثلاث وعشرون سنة ـ لكليات تعاليمه مواد أولية حتى إذا عمل بشيء منها أخذ صورة العمل الواقع مادة لتعليمهم ثانيا فألقاها إليهم بعد إصلاح الفاسد من أجزائه وتركيبه بالصحيح الباقي، وذم الفاسد، والثناء على الصحيح المستقيم والوعد الجميل والشكر الجزيل لفاعله، فكتاب الله العزيز كتاب علم وعمل لا كتاب فرض وتقدير، ولا كتاب تعمية وتقليد، فمثله مثل المعلم يلقي إلى تلامذته الكليات العلمية في أوجز بيان وأقصر لفظ ويأمرهم بالعمل بها ثم يأخذ ما عملوه ثانيا ويحلله إلى أوائل أجزائه من صحيح وفاسد فيبين لهم موارد النقص والقصور مشفعة بالعظة والوعيد، ويمدح موارد الاستقامة والصحة ويقارنها بالوعد والشكر ويأمرهم بالعمل ثانيا، وهذا فعاله حتى يكملوا في فنهم ويسعدوا في جدهم.
5. هذا الذي ذكرناه من الحقائق القرآنية اللائحة للمتدبر الدقيق في بادئ مرة فتراه سبحانه ينزل كليات الجهاد مثلا في آياته بادئ مرة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾.. ويأمر المؤمنين به فيها ثم يأخذ قصة بدر ثانيا ويأمرهم بما يبين لهم فيها ثم قصة أحد ثم قصة أخرى وهكذا، وتراه سبحانه يقص قصص السابقين من الأنبياء وأممهم ثم يجعلها بعد إصلاحها وبيان وجه الحق فيها عبرة للاحقين ودستورا لعملهم وهكذا، وقد نزل في هذه الآيات من هذا القبيل قوله: ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ الآية، وقوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ﴾ الآيات.
6. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا﴾ إلى آخر الآيات الثلاث قد مر سابقا وجه إطلاق الأكل وإرادة الأخذ.
7. ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ يشير إلى الوصف الغالب في الربا فإنه بحسب الطبع يتضاعف فيصير المال أضعافا مضاعفة بإنفاد مال الغير وضمه إلى رأس المال الربوي.
8. في قوله: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾، إشارة إلى كفر آكل الربا كما مر في سورة البقرة في آيات الربا: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/17.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ قال الشرفي في (المصابيح): (قال في (البرهان) ـ أي الإمام أبو الفتح الديلمي عليه السلام، أحد أئمة الزيدية له ترجمة في (التحف) ـ: بل يريد بالأكل الأخذ، والربا: زيادة القدر في مقابلة زيادة الأجل وهو ربا الجاهلية المتعارف بينهم بالنَّسا، وهو أن يقول عند حلول الأجل إما أن تعطيني وإما أن تربيني، فإن لم يعطه ضاعف ذلك عليه، ثم يفعل ذلك عند حلوله من بعد حتى يصير أضعاًفاً مضاعفة)، وقال في (الكشاف): (نهى عن الربا مع توبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه كان الرجل منهم إذا بلغ الدَّين محِلَّه زاد في الأجل فاستغرق بالشيء الطفيف مال المديون)، وهذا واضح وقد حرم الله الربا بما في (سورة البقرة) من قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ إلى قوله: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [آية:275 ـ 279] وفي ذلك أحاديث مشهورة.
2. قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أمر بالتقوى بترك المعاصي كلها من الربا وغيره، وهو تأكيد للنهي عن الربا، قال الشرفي في (المصابيح): (قال إمامنا المنصور بالله ـ يعني القاسم بن محمد عليه السلام ـ: دلت على تحريم الربا، وعلى وجوب تقوى الله سبحانه وهي أن يلزم المؤمن ما أوجب الله ويجتنب ما حرم الله)
3. في قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ وجوه:
أ. الأول: أن المراد بالكافرين المستحلين للربا، الذين قالوا: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ [البقرة:275] فحذر الله من استحلال الربا، لأن بعض المسلمين كانوا قد ألِفُوا الربا في الجاهلية وصار عندهم أمراً مأنوساً، فحذرهم من الاستمرار على التساهل به.
ب. الثاني: أن المراد بالكافرين: الكافرون بنعمة الله، لأن الربا من أعظم الكفر لنعم الله، لأنه استعمال المال الذي أنعم الله به على عبده في معصيته البشعة الشنيعة.
ج. الثالث: أن المراد بالنار التي أعدت للكافرين: نار الآخرة جملتها، فقد أعدت للكافرين الجاحدين وغيرهم، لكل منهم على قدر جرائمه كما دل عليه القرآن الحكيم وكثير من الأحاديث النبوية كالوعيد على آكل الربا، فالمعنى أنكم إن أكلتم الربا دخلتم تلك النار وإن لم تكونوا من الكفار.
4. ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ فيما قد أمر الله به ونهى، وفيما يستقبل من أمر الله ونهيه، فليس لمؤمن الخِيَرَةُ من أمره فيما قضى الله ورسوله، ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ بصرف عذابه عنكم يوم القيامة، قال تعالى: ﴿مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ [الأنعام:16]
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/534.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال كانوا يتبايعون إلى الأجل، فإذا حلّ الأجل زادوا عليهم، وزادوا في الأجل، فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء، قال كانت ثقيف تداين بني المغيرة في الجاهلية، فإذا جاء الأجل قالوا: نزيدكم وتؤخرون عنا فنزلت: ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾
2. جاء في مجمع البيان: قد قيل في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها قولان: (أحدهما): لاتّصال الأمر بالطاعة بالنهي عن أكل الربا، فكأنه قال: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ﴾ في ما نهاكم عنه من أكل الربا وغيره، و(الثاني): ما قاله محمد بن إسحاق بن يسار أنه معاتبة للذين عصوا رسول الله لما أمرهم به يوم أحد من لزوم مراكزهم فخالفوا، واشتغلوا بالغنيمة، وكان ذلك سبب هزيمة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
3. نلاحظ في هذا المجال، أن القرآن لم ينزل بشكل مرتب على الطريقة الحالية، بل نزل على دفعات لتربية المجتمع المسلم في كل قضاياه ومشاكله وأوضاعه المتنوعة التي كانت المسيرة الإسلامية ـ في حربها وسلمها ـ تواجهها في مختلف المراحل، مما قد يفرض الحديث عن منهج أخلاقي تارة، وعن نظام اقتصادي أخرى، وعن قضايا متصلة بالسلم أو الحرب في حركة الإنسان المسلم فيها، وعن علاقة القيادة بالقاعدة وعلاقة القاعدة بها، وغير ذلك، مما لا يفرض وجود حالة من الارتباط بين الآيات، لأنه ليس هناك ارتباط بين مواقع نزولها ومنطلقات موضوعاتها.
4. تبقى المشكلة في الترتيب القرآني عند جمع القرآن، فإذا كان النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي أمر بجمعه تحت رعايته، فلا بد لنا من البحث عن طبيعة الارتباط بينها، بمعرفة المناسبة التي جعلت النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يضع هذه الآية أو تلك في سياق تلك الآيات، وربما كانت المناسبة أن الأجواء التي تثيرها السورة هي حركة الإنسان في ساحة الصراع في كل حال من أحوالها، وفي كل شأن من شؤونها، فمن النظام الجهادي الذي يجعل الإنسان يواجه التحدي في حالات الخطر من أجل حماية الرسالة والرساليين، إلى النظام الأخلاقي الذي يواجه الإنسان فيه الموقف الحاد في جهاد النفس من أجل حمايتها من الانحراف، ويدخل في ذلك الخط الاقتصادي الإسلامي في مواجهة الخط المنحرف، وبذلك تكون المناسبة في ارتباط النشاط الإنساني في التشريع الإسلامي ببعضه البعض، باعتبار أن الإنسان يمثل وحدة تتكامل أجزاؤها في مختلف جوانب نشاطه الإنساني في حركة الحياة.
5. تحدث القرآن عن الربّا في سورة البقرة، وأعاد الحديث عنه في هذه الآية، للتنديد ببعض حالاته التي كانت موجودة في الجاهلية، في ما ذكره المفسرون: (يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حلّ الأجل، فيقول له: تقضيني أو تزيدني؟.. فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا، فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة أو يقضيه)، ولعل هذا ما تقتضيه طبيعية النظام الربوي الذي يستغل حاجة المدين وظروفه الضيّقة التي قد لا تسمح له بالوفاء في الموعد المحدّد، لا سيما في الأجواء الربوية التي قد تجعل الإنسان يستدين أكثر من طاقته، لأنه يجد الدين سهلا يوحي بالامتداد، فيؤدي ذلك إلى استيفاء الدائن دينه أضعافا مضاعفة، وهذا ما نجده في الأوضاع المعاصرة التي يفرضها النظام الربوي، سواء في ذلك الديون التي تحصل بين الناس على مستوى الأفراد، أو التي تحصل على مستوى الدول، فإن المدين قد ينفق كل عمره في الجهد والعمل من دون أن يستطيع وفاء الرّبا، فضلا عن أصل الدين لتضاعف ذلك عليه، وفي ضوء ذلك، قد نفهم من الآية أنها ليست واردة في معالجة هذه الحالة بالذات، بل هي واردة في الإيحاء بالنتائج الطبيعية للنظام الربوي التي تتمثل في تضعيف المبلغ الذي يستدينه الإنسان إلى عدّة أضعاف.
6. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾؛ وبذلك تبطل حجّة الذين أرادوا أن يفهموا منها اختصاص حرمة الربا في الإسلام بالرّبا الفاحش الذي تزيد به الفائدة عن مثل الشيء لتكون ضعفا له بل أكثر، وقد نضيف إلى ذلك، أن اختصاص الآية بما ذكر لا يوجب اختصاص حرمة الرّبا به، لأنّ آية سورة البقرة: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275] كانت شاملة لجميع موارده، ولا موجب لتخصيص إحداهما بالأخرى، لأنّ من الممكن أن تكون هذه الآية جارية على أسلوب التشديد بهذا النموذج الفاحش من الربّا.. ونزيد على ذلك، أن الانسجام مع المدلول الحرفي لهذه الآية يفرض علينا أن نلتزم به، فلا بدّ حينئذ من أن يكون واردا في الاتجاه الذي ذكرناه من التأكيد على النتائج الطبيعية للنظام الربوي، والله العالم بأسرار آياته وأحكامه.
7. جاء في بعض التفاسير: إن الله حرّم الربا في القرآن كتحريم الخمر في أربعة مواضع، وسار التحريم في مراحل أربع، الموضوع الأول منها مكي، والباقي مدني:
أ. ففي مكة أنزل الله: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ﴾ [الروم: 39]؛ وهذا يقابل آية الخمر المكية: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ [النحل: 67] وفي كلا الآيتين تمهيد للتحريم وتعريض به وإيماء إلى ضرورة تجنّبه.
ب. ثم قصّ علينا القرآن في المدينة سيرة اليهود الذين حرّم عليهم الربا، فأكلوه وعاقبهم الله بمعصيتهم، فقال: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ [النساء: 161]؛ وهذا نظير المرحلة الثانية في تحريم الخمر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219]؛ وكلا الآيتين إنذار بالتحريم، وتعريض به، وإيذان بعقوبة المخالف.
ج. ثم نهى تعالى عن الربا الفاحش الذي يتزايد حتى يصير أضعافا مضاعفة، وهو ما كان في الجاهلية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ [آل عمران: 130]؛ وهذا يشابه المرحلة الثالثة من مراحل تحريم الخمر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: 43]؛ فكلا الآيتين نهي جزئيّ صريح، إلا أن آية الربا نهي عن الصّورة الفاحشة من صور الربا وهو الربا الجاهلي، وآية الخمر نهي جزئي عن تناول المسكر وقت إرادة الصلاة.
د. ثم جاء التحريم القاطع لكل من الربا والخمر، أمّا الربا فقد نهى الله عن كل ما يزيد عن رأس مال الدين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 278]؛ الآيات، وأما الخمر فقد أمر الله باجتنابه في كل الأحوال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90]، وقوله تعالى: ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]؛ اللام للجنس، أي: حرّم جنس الربا، وليست للمعهود الذهني وهو ربا الجاهلية أو ربا النسيئة، وإنما يفيد النص وإطلاقه تحريم جميع أنواع الربا، مثل إباحة أنواع البيع في قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾ [البقرة: 275]
8. نلاحظ على هذا الحديث أن الآيات المذكورة في ترتيب المراحل لا توحي بالمرحلية، فإننا:
أ. في الآية الأولى نجد أن الآية تدل ـ بنحو الكناية ـ على أن الربا ليس محبوبا عند الله، بل هو مرفوض عنده باعتبار أن سياقه هو سياق الترغيب في الصدقة والتنديد بالربا.
ب. أمّا الآية الثانية فإن ذمّ اليهود بأخذهم الربا، وقد نهوا عنه، يوحي بأن أخذ الربا من الأمور التي حرمها الله في كل زمان ومكان، ولذلك ندّد بهم في مقام الإيحاء بانحرافهم عن الله في ذلك، ولذا عقبه بأكلهم أموال الناس بالباطل.
ج. وأما الثالثة، فإنها واردة في النهي عن الربا مطلقا، فإن ذلك الأضعاف المضاعفة وارد في النتائج الطبيعية للنظام الربوي لا لتخصيص النهي به.
9. وهكذا فإننا لا نجد في هذا السرد القرآني للآيات دليلا على ما ذكر، لا سيما أن هذا القائل لم يذكر التاريخ التفصيلي لنزول هذه الآيات ليكون ذلك أساسا للترتيب التدريجي في التحريم، والله العالم.
10. انطلق القرآن، كعادته في آيات التشريع، في إثارة أجواء التقوى وعلاقتها بالفلاح وإطاعة الله والرسول، وعلاقتها بالرحمة الإلهية، والتحذير من النّار التي أعدّها الله للكافرين لأنّ الكفر يمثّل التمرّد على الله، وذلك هو قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فقد ربط الله الفلاح في الدنيا والآخرة بالتقوى، ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ كما أراد لهم أن يجعلوا النار أمامهم كلما أراد الشيطان أن يغويهم بوسوسته ووسائله الخفية، ليتذكروا حريقها ولهيبها وعنف عذابها الذي أعده للكافرين به أو المنحرفين عن خطه المستقيم بالتمرد على أوامره ونواهيه، ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ وبيّن لهم أن طاعة الله والرسول هي التي تجعل الإنسان موضعا لرحمة الله، ليتحركوا ـ في طلبهم لرحمته ـ على هذا الأساس، ويمتد في جانبه العملي إلى انحراف الإنسان عن الخط التشريعي الذي رسمه الله للناس، ممّا يجعل من التمرّد على أحكام الله نوعا من أنواع الكفر العملي الذي يسوّغ للتعبير القرآني أن يستعمل كلمة الكافرين صفة للمؤمنين الذين ينحرفون عن خط الإيمان في سلوكهم العملي، للإيحاء بالقيمة العملية للإيمان في ما يريد الله للمؤمنين أن يتمثلوه في ممارستهم له في حياتهم الخاصة والعامّة.
11. قد يكون هذا الأسلوب من أفضل الأساليب التي تدعو إلى الاهتمام بالاستقامة على خطّ التشريع، لأنها لا تجعل منه مادّة قانونية جامدة تلزمه بالفعل أو تمنعه منه، بل تهيّئ له الأجواء الروحيّة الداخلية التي تربط خطواته المنسجمة مع التشريع بقضية المصير في ما يريده الإنسان لنفسه من الفلاح والنجاح والنجاة من الهلاك والعذاب في الدنيا والآخرة والحصول على رحمة الله ورضوانه، وذلك بإطاعة الله ورسوله في ما يأمران به أو ينهيان عنه، وقد يكون للتأثيرات الاقتصادية التي تتمثل في النظام الربوي سلبا أو إيجابا على حركة الحياة العمليّة لدى النّاس مدخل كبير في الإيحاء بهذه الأجواء، ليتمكن الإنسان من خلالها من السيطرة على السلبيّات التي تتحداه في حياته، على أساس الالتزام الواعي بهذا التشريع.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/262.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآيات السابقة ـ كما عرفت ـ تحدثت حول معركة (أحد) وحوادثها ووقائعها، والدروس والعبر المختلفة التي تعلمها منها المسلمون، غير أن هذه الآيات الثلاث، والآيات الست اللاحقة بها تحتوي على سلسلة من البرامج الاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية، ثمّ يستأنف القرآن بعد هذه الآيات التسع، حديثه حول معركة (أحد) ووقائعها.
2. يمكن أن يكون هذا النوع من الحديث والبيان مبعث استغراب ودهشة للبعض، إلّا أن الانتباه إلى مبدأ أساسي يوضح حقيقة هذا الأمر، ويكشف الغطاء عن سر هذا الأسلوب، وذلك المبدأ هو: إن القرآن ليس كتابا كبقية الكتب ذات النمط الكلاسيكي الذي يعتمد نظام الفصول والأبواب الخاصة، بل هو كتاب نزل (نجوما) وبصورة تدريجية طوال ثلاثة وعشرين عاما، وذلك طبقا للاحتياجات التربوية المختلفة، وفي أماكن وأزمنة مختلفة، فيوم حدثت معركة أحد ووقائعها نزلت الآيات التي تتحدث عمّا يرتبط بهذه المعركة من برامج وقضايا حربية، ويوم كانت الحاجة تتطلب بيان بعض البرامج والتعاليم الاقتصادية كالموقف من الربا، أو بعض المسائل الحقوقية كأحكام الزوجية أو بعض القضايا التربوية والأخلاقية كالتوبة كانت تنزل الآيات التي تتناول هذه الأمور، فيستنتج من هذا أنه قد لا يوجد أي ارتباط خاص بين بعض الآيات وبين ما قبلها أو ما بعدها، وليس من الضروري أن نبحث عن مثل هذا الارتباط ـ كما يحاول بعض المفسّرين ذلك ـ أو أن نتكلف افتعال ذلك بين قضايا لم يرد الله سبحانه الاتصال والارتباط بينها، لأن مثل هذا العمل لا يتفق مع روح القرآن وكيفية نزوله في الحوادث المختلفة، والمناسبات المتنوعة وحسب الاحتياجات والظروف المنفصلة.
3. على أنه لا ريب في أن جميع السور والآيات القرآنية مرتبطة ومترابطة ـ على وجه ـ وهو أن جميعها تؤلف برنامجا كاملا ومنهاجا متكاملا مترابطا لصنع الإنسان وصياغته، وتربيته بأفضل تربية وصياغة وأسماها، كما أنها بمجموعها نزلت لإيجاد مجتمع فاضل، واع متقدم في جميع الأبعاد والجوانب المادية والمعنوية.
4. بما قلناه يعلل عدم ارتباط الآيات التسع التي أشرنا إليها مع ما تقدمها أو يلحقها من الآيات في هذه السورة المباركة.
5. كلنا يعرف أن أسلوب القرآن في مكافحة الانحرافات الاجتماعية المتجذرة في حياة الناس يعتمد معالجة الأمور خطوة فخطوة، فهو أولا يهيئ الأرضية المناسبة، ويطلع الرأي العام على مفاسد ما يطلب محاربته ومكافحته، ثمّ بعد أن تتهيأ النفوس لتقبل التحريم النهائي يعلن عن التحريم في صيغته القانونية النهائية (ويتبع هذا الأسلوب خاصة إذا كان ذلك الأمر الفاسد ممّا استشرى في المجتمع، وكانت رقعة انتشاره واسعة)، كما أننا نعلم أيضا أن المجتمع العربي في العهد الجاهلي كان مصابا ـ بشدة ـ بداء الربا، حيث كانت الساحة العربية (وخاصة مكة) مسرحا للمرابين، وقد كان هذا الأمر مبعثا للكثير من المآسي الاجتماعية، ولهذا استخدم القرآن في تحريم هذه الفعلة النكراء أسلوب المراحل، فحرم الربا في مراحل أربع:
أ. يكتفي في الآية 39 من سورة الروم بتوجيه نصح أخلاقي حول الربا إذ قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾، بهذا يكشف عن خطأ الذين يتصورون أن الربا يزيد من ثروتهم، في حين أن إعطاء الزكاة والإنفاق في سبيل الله هو الذي يضاعف الثروة.
ب. يشير ـ ضمن انتقاد عادات اليهود وتقاليدهم الخاطئة الفاسدة ـ إلى الربا كعادة سيئة من تلك العادات، إذ يقول في الآية 161 من سورة النساء: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾
ج. يذكر في الآية الحاضرة ـ كما سيأتي تفسيرها المفصل ـ حكم التحريم بصراحة، ولكنه يشير إلى نوع واحد من أنواع الربا، وهو النوع الشديد والفاحش منه فقط.
د. وأخيرا أعلن في الآيات 275 إلى 279 من سورة البقرة عن المنع الشامل والشديد عن جميع أنواع الربا، واعتباره بمنزلة إعلان الحرب على الله سبحانه.
6. في الآية الحاضرة إشارة إلى الربا الفاحش معبرة عن ذلك بقوله: ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾، والمراد من (الربا الفاحش) هو أن تكون الزيادة الربوية تصاعدية، بمعنى أن تضم الزيادة المفروضة أولا على رأس المال ثمّ يصبح المجموع موردا للربا، بمعنى أن الزيادة ثانيا تقاس بمجموع المبلغ (الذي هو عبارة عن رأس المال والزيادة المفروضة في المرة الأولى) ثمّ تضم الزيادة المفروضة ثانيا إلى ذلك المبلغ، وتفرض زيادة ثالثة بالنسبة إلى المجموع، وهكذا يصبح مجموع رأس المال والزيادة في كلّ مرّة رأس مال جديد تضاف عليه زيادة جديدة بالنسبة، وبهذا يبلغ الدين أضعاف المبلغ الأصلي المدفوع إلى المديون حتّى يستغرق كلّ ماله، ولهذا قال القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾
7. يستفاد من الأخبار والروايات أن الرجل ـ في الجاهلية ـ إذا كان يتخلف عن أداء دينه عند الموعد المقرر طلب من الدائن أن يضيف الزيادة على المبلغ ثمّ يؤخره إلى أجل آخر، وهكذا حتّى يستغرق بالشيء الطفيف مال المديون، وهذا هو السائد بعينه في عصرنا الحاضر ويفعله المرابون الكبار دون رحمة.
8. لا شكّ أن مثل هذا الفعل يدر على أصحاب الأموال مبالغ ضخمة دون عناء، فلا يمكن الارتداع عنه الّا بتقوى الله، ولهذا عقب سبحانه نهيه عن مثل هذا الربا الظالم بقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ لكن هل يكفي الأمر بتقوى الله والترغيب في الفلاح في صورة ترك الربا؟ أم لا بدّ من التلويح بالع،ذاب الأخروي للمرابين؟ ولهذا قال سبحانه في الآية الثانية ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ فهذه الآية تأكيد لحكم التقوى الذي مرّ في الآية السابقة، ويوحي التعبير ب (الكافرين) أن أخذ الربا لا يتفق أساسا مع روح الإيمان، ولهذا ينتظر المرابين ما ينتظر الكافرين من النار والعذاب، كما يستفاد من ذلك أن النار أعدت أساسا للكافرين، وينال العصاة والمذنبون من هذه النار بقدر شباهتهم بالكفار، وتعاونهم معهم.
9. ثم إنه سبحانه يمزج ذلك التهديد بشيء من التشجيع والترغيب للمطيعين والممتثلين لأوامره تعالى إذ يقول: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/687.
69. المسارعون للمغفرة والجنة وصفاتهم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈69⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ والله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران: 133 ـ 136]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن في كتاب الله لآيتين، ما أذنب عبد ذنبا، فقرأهما، فاستغفر الله؛ إلا غفر له: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ الآية، وقوله: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ [النساء: ١١٠] الآية(1).
2. روي أنّه قال: إن في القرآن لآيتين، ما أذنب عبد ذنبا، ثم تلاهما واستغفر الله؛ إلا غفر له، فسألوه عنهما، فلم يخبرهم، فقال علقمة والأسود أحدهما لصاحبه: قم بنا، فقاما إلى المنزل، فأخذا المصحف، فتصفحا البقرة، فقالا: ما رأيناهما، ثم أخذا في النساء حتى انتهيا إلى هذه الآية: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: ١١٠]، فقالا: هذه واحدة، ثم تصفحا آل عمران، حتى انتهيا إلى قوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: ١٣٥]، فقالا: هذه أخرى، ثم أطبقا المصحف، ثم أتيا عبد الله، فقالا: هما هاتان الآيتان؟ فقال عبد الله: نعم(2).
3. روي أنّه قال: أنه ذكر عنده بنو إسرائيل، وما فضلهم الله به، فقال: كان بنو إسرائيل إذا أذنب أحدهم ذنبا أصبح وقد كتبت كفارته على أسكفة بابه، وجعلت كفارة ذنوبكم قولا تقولونه، تستغفرون الله فيغفر لكم، والذي نفسي بيده، لقد أعطانا الله آية لهي أحب إلي من الدنيا وما فيها: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ الآية(3).
__________
(1) سعيد بن منصور: ٥٢٦.
(2) سنن سعيد بن منصور، ٤/١٣٧١.
(3) ابن المنذر: ٩٣٤.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾: إلى أداء الفرائض(1).
2. روي أنّه قال: تجرّع الغيظ فإنّي لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ولا ألذّ مغبّة(2).
3. روي أنّه قال: الكظم ثمرة الحلم(3).
4. روي أنّه قال: الكاظم من أمات أضغانه(3).
5. روي أنّه قال: اكظم الغيظ عند الغضب وتجاوز مع الدولة تكن لك العاقبة(3).
6. روي أنّه قال: أقدر الناس على الصواب من لم يغضب(3).
7. روي أنّه قال: أفضل الناس من كظم غيظه وحلم عن قدرة(3).
8. روي أنّه قال: بالكظم يكون الحلم(3).
9. روي أنّه قال: رأس الحلم الكظم(3).
10. روي أنّه قال: طوبى لمن كظم غيظه ولم يطلقه، وعصى أمر نفسه فلم يهلكه(3).
11. روي أنّه قال: ظفر الشيطان بمن ملكه غضبه(3).
12. روي أنّه قال: كم من غيظ تجرّع مخافة ما هو أشدّ منه(3).
13. روي أنّه قال: متى أشفي غيظي إذا غضبت؟ أحين أعجز عن الانتقام فيقال لي لو صبرت، أم حين أقدر عليه فيقال لي لو عفوت؟(4).
14. روي أنّه قال:ّ من آوى اليتيم ورحم الضعيف وارتفق على والده ورفق على ولده ورفق بمملوكه أدخله الله تعالى في رضوانه ويسّر عليه رحمته، ومن كف غضبه وبسط رضاه وبذل معروفه ووصل رحمه وأدى أمانته جعله الله تعالى في نوره الأعظم يوم القيامة(5).
15. روي أنّه قال: الغضب شرّ إن أطعته دمّر(6).
16. روي أنّه قال: الغضب عدوّ فلا تملّكه نفسك(7).
17. روي أنّه قال: الغضب يفسد الألباب يبعد من الصواب(8).
18. روي أنّه قال: آفة القدرة منع الإحسان(9).
19. روي أنّه قال: عليكم بالإحسان إلى العباد، والعدل في البلاد تأمنوا عند قيام الأشهاد(10).
20. روي أنّه كتب يوصي بعض عماله يقول: لا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، والزم كلّا منهم ما ألزم نفسه(11).
21. روي أنّه كتب يوصي بعض عماله يقول: اعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظنّ وال برعيّته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إيّاهم على ما ليس له قبلهم، فليكن منك في ذلك أمر يّجتمع لك به حسن الظّنّ برعيّتك، فإن حسن الظّنّ يقطع عنك نصبا طويلا(11).
22. روي أنّه قال: إطعام الأسير والإحسان إليه حق واجب وإن قتلته من الغد(12).
23. روي أنّه قال في خطبة له: لا شفيع انجح من التوبة(13).
24. روي أنّه قال: الندم على الخطيئة يمحوها(14).
25. روي أنّه قال: من ندم فقد تاب(14).
26. روي أنّه قال: ندم القلب يكفّر الذنب ويمحّص الجريرة(15).
27. روي أنّه قال: من أعطى أربعا لم يحرم أربعا: من أعطي الدعاء لم يحرم الإجابة، ومن أعطي التوبة لم يحرم القبول، ومن أعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة، ومن أعطي الشكر لم يحرم الزيادة، وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى، قال في الدعاء: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]، وقال في الاستغفار: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 110]، وقال في الشكر: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7]، وقال في التوبة: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 17](16).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٤٨.
(2) نهج البلاغة وصيّة: 31: ص 933.
(3) غرر الحكم: ص246.
(4) نهج البلاغة حكمة: 185/1175.
(5) الأشعثيّات: ص166.
(6) غرر الحكم: ص42.
(7) غرر الحكم: ص48.
(8) غرر الحكم: ص49.
(9) غرر الحكم: ص 337.
(10) غرر الحكم: ص 341.
(11) نهج البلاغة: ص 988.
(12) قرب الإسناد: 42.
(13) روضة الكافي: ص17.
(14) غرر الحكم، 194 و195.
(15) غرر الحكم، 194.
(16) البلاغة، حكمة: 130/1151.
الحسن:
روي عن الإمام الحسن (ت 50 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: اعلموا أنّ الحلم زينة، والوقار مروءة، والصّلة نعمة(1).
2. روي أنه كان له شاة تعجبه فوجدها يوما مكسورة الرجل فقال للغلام: (من كسر رجلها؟) قال أنا، قال (لم؟) قال لأغمّنك، قال الحسن: لأفرحنّك، أنت حرّ لوجه الله تبارك وتعالى(2).
3. روي أنّه قال: لو شتمني أحد في إحدى اذني ثمّ اعتذر في الاخرى لقبلت(3).
4. روي أنه كان له جار يهودي انخرق جداره إلى منزل الحسن، فصارت النّجاسة تنزل إلى داره واليهودي لا يعلم بذلك، فدخلت زوجته يوما، فرأت النّجاسة قد اجتمعت في دار الحسن، فأخبرت زوجها بذلك، فجاء اليهودي إليه معتذرا، فقال: أمرني جدّي صلّى الله عليه وآله وسلّم بإكرام الجار، فأسلم اليهودي(4).
5. روي أنّ شاميّا رأى الإمام الحسن راكبا فجعل يلعنه، والحسن لا يردّ، فلمّا فرغ أقبل الحسن فسلّم عليه وضحك فقال: (أيّها الشيخ أظنّك غريبا ولعلّك شبّهت؛ فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإنْ كنْت جائعا أشبعناك، وإنْ كنْت عريانا كسوناك، وإنْ كنْت محتاجا أغنيناك، وإنْ كنْت طريدا آويناك، وإنْ كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأنّ لنا موضعا رحبا وجاها عريضا ومالا كثيرا)، فلمّا سمع الرجل كلامه، بكى ثمّ قال أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ، وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقدا لمحبّتهم(5).
روي عن عمير بن إسحاق قال كان مروان أميرا علينا فكان يسبّ عليّا كلّ جمعة على المنبر وحسن يسمع فلا يردّ شيئا، ثمّ أرسل إليه رجلا يقول له: بعلي وبعليّ وبعليّ وبك وبك وما وجدت مثلك إلّا مثل البغلة يقال لها: من أبوك، فتقول: امّي الفرس، فقال له الحسن: ارجع إليه فقل له: إنّي والله لا أمحو عنك شيئا ممّا قلت بأن أسبّك، ولكن موعدي وموعدك الله، فإن كنت صادقا جزاك الله بصدقك، وإنْ كنْت كاذبا فالله أشدّ نقمة(6).
6. روي عن جويرية بن أسماء قال: لمّا مات الحسن بن عليّ وأخرجوا جنازته حمل مروان سريره، فقال له الحسين: (أتحمل سريره أما والله لقد كنت تجرعه الغيظ) فقال مروان: إنّي كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال(7).
__________
(1) كتاب الأخلاق كما في: المستدرك، 2/304.
(2) مقتل الإمام الحسين للخوارزمي: ص127.
(3) نزهة المجالس: 1/209.
(4) نزهة المجالس ومنتخب النفائس 1/238.
(5) بحار الأنوار 43/344.
(6) تاريخ الخلفاء: ص190.
(7) مقاتل الطالبيين: ص 75.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ لم يصمتوا على ما فعلوا(1).
2. روي أنّه قال: يغمضوا(2).
3. روي أنّه قال: قالوا: يا نبي الله، بنو إسرائيل أكرم على الله منا، كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه: اجدع أذنك، اجدع أنفك، افعل، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فنزلت: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ إلى قوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألا أخبركم بخير من ذلك؟)، فقرأ هؤلاء الآيات(3).
__________
(1) أبو جعفر الرملي في جزئه: ص١٠٣.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٦٦.
(3) الواحدي في أسباب النزول: ص١٢٤.
الحسين:
روي عن الإمام الحسين (ت 61 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: الحلم: كظم الغيظ وملك النفس(1).
2. روي أنّه قال: إنّ الحلم زينة، والوفاء مروءة، والصلة نعمة والاستكبار صلف، والعجلة سفه، والسفه ضعف، والعلوّ ورطة، ومجالسة الدناة شين، ومجالسة أهل الفسق ريبة(2).
__________
(1) مشكاة الأنوار: ص216.
(2) نزهة الناظر: ص81.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: تقرن السماوات السبع والأرضون السبع، كما تقرن الثياب بعضها إلى بعض، فذاك عرض الجنة(1).
2. روي أنّ نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قول الله: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، ما الكاظمون؟ قال الحابسون الغيظ، قال عبد المطلب بن هاشم(2):
çفحضضت قومي واحتبست قتالهم... والقوم من خوف قتالهم كظمé
3. روي أنّه قال: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ كاظمون على الغيظ، كقوله: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ [الشورى: ٣٧]، يغضبون في الأمر لو وقعوا فيه كان حراما، فيغفرون، ويعفون؛ يلتمسون وجه الله بذلك(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ كقوله: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 22]، يقول: لا تقسموا على أن لا تعطوهم من النفقة، واعفوا واصفحوا(3).
5. روي أنّه قال: كل ذنب أصر عليه العبد كبير، وليس بكبير ما تاب منه العبد(4).
6. روي أنّه قال: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنها معصية(5).
7. روي أنّه قال: سارعوا إلى الإسلام(6).
8. روي أنّه قال: إلى التوبة(7).
9. روي أنّه رجلا من أهل الكتاب قال له: تقولون: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾، فأين النار؟ فقال له: إذا جاء الليل فأين النهار؟ وإذا جاء النهار فأين الليل؟(8).
10. روي أنّه قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعو عند الكرب يقول: لا إله إلّا الله العظيم الحليم، لا إله إلّا الله ربّ السّماوات والأرض وربّ العرش العظيم(9).
11. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾، يريد نبهان التمار، وكنيته أبو مقبل، أتته امرأة حسناء جميلة تبتاع منه تمرا، فضرب على عجزها، فقالت: والله، ما حفظت غيبة أخيك، ولا نلت حاجتك، فأسقط في يده، فذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إياك أن تخون امرأة غاز)، فذهب يبكي، فقام ثلاثة أيام النهار صائما، والليل قائما حزينا، فلما كان يوم الرابع أنزل الله تعالى فيه: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ الآية، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأخبره بما نزل فيه، فحمد الله، وشكره، وقال: يا رسول الله، هذه توبتي، قبلها الله مني، فكيف لي حتى يقبل شكري؟ فأنزل الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾ [هود: ١١٤](10).
12. روي أنّه قال: إن رجلين أنصاريا وثقفيا آخى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بينهما، فكانا لا يفترقان، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في بعض مغازيه، وخرج معه الثقفي، وخلف الأنصاري في أهله وحاجته، وكان يتعاهد أهل الثقفي، فأقبل ذات يوم، فأبصر امرأة صاحبه قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها، فوقعت في نفسه، فدخل ولم يستأذن حتى انتهى إليها، فذهب ليقبلها، فوضعت كفها على وجهها، فقبل ظاهر كفها، ثم ندم واستحيا، فأدبر راجعا، فقالت: سبحان الله! خنت أمانتك، وعصيت ربك، ولم تصب حاجتك، قال فندم على صنيعه، فخرج يسيح في الجبال، ويتوب إلى الله تعالى من ذنبه، حتى وافى الثقفي، فأخبرته أهله بفعله، فخرج يطلبه حتى دل عليه، فوافقه ساجدا وهو يقول: رب، ذنبي، قد خنت أخي، فقال له: يا فلان، قم فانطلق إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فسله عن ذنبك؛ لعل الله أن يجعل له فرجا وتوبة، فأقبل معه حتى رجع إلى المدينة، وكان ذات يوم عند صلاة العصر نزل جبريل عليه السلام بتوبته، فتلا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ إلى قوله: ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾، فقال عمر: يا رسول الله، أخاص هذا لهذا الرجل، أم للناس عامة؟ قال (بل للناس عامة(11).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٥٣.
(2) الدرّ المنثور: ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء.
(3) ابن جرير: ٦/٥٩.
(4) ابن أبي الدنيا في التوبة: ٦٠.
(5) تفسير الثعلبي: ٣/١٦٩.
(6) تفسير الثعلبي: ٣/١٤٨.
(7) تفسير البغوي: ٤/١٠٤.
(8) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره: ص٥٥.
(9) البخاري: 6345.
(10) أبو نعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة: ٥/٢٧٠٩.
(11) أورده الواحدي في أسباب النزول: ص١٢٣ من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن [ابن عباس] ابن عباس (ت 68 هـ) كما في العجاب لابن حجر: ٢/٧٥٧.
أنس:
روي عن أنس بن مالك (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ التكبيرة الأولى(1).
2. روي أنّه سئل عن الجنة: أفي السماء، أم في الأرض؟ فقال: وأي أرض وسماء تسع الجنة!؟ قيل: فأين هي؟ قال فوق السماوات السبع، تحت العرش(2).
__________
(1) ابن المنذر: ١/٣٨٢.
(2) تفسير الثعلبي: ٣/١٤٩.
السجاد:
روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) أن جارية جعلت تسكب عليه الماء؛ يتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجه، فرفع رأسه إليها، فقالت: إن الله يقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، قال كظمت غيظي، قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾، قال قد عفا الله عنك، قالت: ﴿والله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، قال اذهبي؛ فأنت حرة(1).
__________
(1) البيهقي: ٨٣١٧.
النهدي:
روي عن أبي عثمان النهدي (ت 95 هـ) أنه كان إذا تتلى هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ قال: نعم ما جازاك على الذنب(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٦٧.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾، يعني: عرض سبع سماوات وسبع أرضين لو لصق بعضهن إلى بعض؛ فالجنة في عرضهن(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾، يعني: الذين يتقون الشرك(2).
3. روي أنّه قال: ثم نعتهم الله، فقال: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ﴾ يعني: ينفقون الأموال في طاعة الله: ﴿فِي السَّرَّاءِ﴾ يعني: في الرخاء، ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ يعني: في الشدة(2).
4. روي أنّه قال: ﴿وَسَارِعُوا﴾ سارعوا بالأعمال الصالحة ﴿إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ لذنوبكم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٦١.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٦٢.
النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنّه قال في الآية: الظلم من الفاحشة، والفاحشة من الظلم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٦٢.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ذكروا العرض الأكبر على الله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أن الله يملك مغفرة الذنوب(2).
3. روي أنّه قال: إلى الجهاد(3).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٦٩.
(2) تفسير الثعلبي: ٣/١٧٠.
(3) تفسير الثعلبي: ٣/١٤٨.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ لم يواقعوا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ لم يمضوا على المعصية(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ لم يقيموا على ذنب(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنه يغفر لمن استغفر، ويتوب على من تاب(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٦٧.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٦٦.
(3) الدرّ المنثور: عبد بن حميد، وابن المنذر.
ابن سيرين:
روي عن محمد بن سيرين (ت 110 هـ) أنه سئل عن هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾، فقال: أعطانا الله هذه الآية مكان ما جعل لبني إسرائيل في كفارات ذنوبهم(1).
__________
(1) ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: الإحسان أن تعم ولا تخص؛ كالريح، والشمس، والمطر(1).
2. روي عن ثابت البناني: سمعت الحسن البصري قرأ هذه الآية: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ الآية، ثم قرأ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ الآية، فقال: إن هذين النعتين لنعت رجل واحد(2).
3. روي أنّه قال: إتيان الذنب عمدا إصرار حتى يتوب(2).
4. روي أنّه قال: ﴿الكاظمين الغيظ﴾ عن الأرقاء، ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ إذا جهلوا عليهم(3).
5. روي أنّه قال: يقال يوم القيامة: ليقم من كان له على الله أجر، فما يقوم إلا إنسان عفا، ثم قرأ هذه الآية: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ والله يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾(4).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٦٧.
(2) عبد الرزاق: ١/١٣٣.
(3) ابن وهب في الجامع: ٢/٥٤.
(4) ابن جرير: ٦/٥٩.
شهر:
روي عن شهر بن حوشب (ت 112 هـ) أنّه قال: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٧٠.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قيل له: إنّ والينا جعلت فداك رجل يتولّاكم أهل البيت ويحبّكم وعليّ في ديوانه خراج فإن رأيت جعلني اللّه فداك أن تكتب إليه كتابا بالإحسان إليّ فقال لي: (لا أعرفه) فقلت: جعلت فداك إنّه على ما قلت من محبّيكم أهل البيت وكتابك ينفعني عنده؛ فأخذ القرطاس وكتب: (بسم اللّه الرحمن الرحيم، أمّا بعد فإن موصل كتابي هذا ذكر عنك مذهبا جميلا، وإنّ مالك من عملك ما أحسنت فيه فأحسن إلى إخوانك؛ واعلم أنّ اللّه عزّ وجلّ سائلك عن مثاقيل الذّر والخردل(1).
2. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾: الإصرار هو أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله، ولا يحدث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار(2).
__________
(1) الكافي 5/112.
(2) الكافي: 2/219.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ والله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ قوم أنفقوا في العسر واليسر، والجهد والرخاء(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ والله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، فمن استطاع أن يغلب الشر بالخير فليفعل، ولا قوة إلا بالله، فنعمت ـ والله ـ الجرعة يتجرعها ابن آدم من صبر وأنت مغيظ، وأنت مظلوم(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ قدما قدما في معاصي الله، لا ينهاهم مخافة الله حتى جاءهم أمر الله(2).
4. روي أنّه قال: إياكم والإصرار؛ فإنما هلك المصرون الماضون قدما، لا ينهاهم مخافة الله عن حرام حرمه الله عليهم، ولا يتوبون من ذنب أصابوه، حتى أتاهم الموت وهم على ذلك(3).
5. روي أنّه قال: كانوا يرون أن الجنة فوق السماوات السبع، وأن جهنم تحت الأرضين السبع(4).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٥٨.
(2) عبد الرزاق: ١/١٣٤.
(3) ابن جرير: ٦/٦٦.
(4) تفسير الثعلبي: ٣/١٤٩.
ميمون:
روي عن ميمون بن مهران (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ وجبت لهم المغفرة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٦٧.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: إنما وصف عرضها، فأما طولها فلا يعلمه إلا الله(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٤٨.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ فيسكتوا، ولا يستغفروا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنهم قد أذنبوا، ثم أقاموا ولم يستغفروا(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٦٧.
ابن عبيد:
روي عن عبد الله بن عبيد (ت 131 هـ) أنّه قال: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ إن تابوا تاب الله عليهم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٦٧.
ابن أسلم:
روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾: عمن ظلمهم، وأساء إليهم(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٦٧.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: الفاحشة: ما دون الزنا؛ من قبلة، أو لمسة، أو نظرة فيما لا يحل، ﴿أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بالمعصية(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٦٩.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ما من عبد كظم غيظا إلا زاده الله عز وجل عزا في الدنيا والآخرة، وقال الله عز وجل: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ والله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ وأثابه الله مكان غيظه ذلك(1).
2. روي أنّه قال: في رسالته إلى أصحابه: وإيّاكم ومعاصي الله أن تركبوها، فإنّه من انتهك في معاصي الله فركبها فقد أبلغ في الإساءة إلى نفسه، وليس بين الإحسان والاساءة منزلة، فلأهل الإحسان عند ربّهم الجنّة ولأهل الإساءة عند ربّهم النار(2).
3. روي أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يتوب إلى الله عزّ وجلّ في كلّ يوم سبعين مرّة(3).
4. روي أنّه قال: رحم الله عبدا لم يرض من نفسه أن يكون إبليس نظيرا له في دينه، وفي كتاب الله نجاة من الردى، وبصيرة من العمى، ودليل إلى الهدى، وشفاء لما في الصدور فيما أمركم الله به من الاستغفار مع التوبة، قال ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أنفسهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135]، وقال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 110]، فهذا ما أمر الله به من الاستغفار، واشترط معه بالتوبة والإقلاع عمّا حرّم الله، فإنّه يقول: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: 10]، وهذه الآية تدلّ على أنّ الاستغفار لا يرفعه إلى الله إلّا العمل الصالح والتوبة(4).
5. روي أنّه قال: ـ في حديث طويل ـ يعظ أصحابه: وإياكم والإصرار على شيء مما حرم الله تعالى في ظهر القرآن وبطنه، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يعني المؤمنين قبلكم، إذا نسوا شيئا مما اشترط الله في كتابه عرفوا أنهم قد عصوا في تركهم ذلك الشيء، فاستغفروا ولم يعودوا إلى تركه، فذلك معنى قول الله: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(5).
6. روي أنّه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ صعد إبليس جبلا بمكة، يقال له: ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه، فقالوا: يا سيدنا، لم تدعونا!؟ قال نزلت هذه الآية، فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين، فقال: أنا لها بكذا وكذا، فقال: لست لها، فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها، فقال الوسواس الخناس: أنا لها، فقال: بماذا؟ قال أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة، فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة(6).
__________
(1) الكافي: 2/89.
(2) روضة الكافي 1/15.
(3) أصول الكافي: 2/438.
(4) تفسير العيّاشي 1/198.
(5) الكافي: 8/10.
(6) الأمالي: 376/5.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ يغيظون في الأمر لو دفعوا به لكانت معصية لله، فيغفرون ذلك(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ أصابوا ذنوبا(2).
3. روي أنّه قال: ﴿ذَكَرُوا اللهَ﴾ ذكروا الله عند تلك الذنوب والفاحشة؛ ﴿فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾، يقول الله تعالى لنبيه: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ ولم يقيموا على تلك الذنوب(4).
5. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ جعل جزاءهم جنات تجري من تحتها الأنهار(5).
6. روي أنّه قال: ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ أجر العاملين بطاعة الله الجنة(5).
7. روي أنّه قال: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ يغيظون في الأمر، فيغفرون، ويعفون عن الناس، ومن فعل ذلك فهو محسن، ﴿والله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، بلغني: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال عند ذلك: إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصمه الله، وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت(1).. وهو غير صحيح النسبة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) ابن المنذر: ١/٣٨٤.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٦٤.
(3) ابن أبي حاتم: ٣/٧٦٥.
(4) ابن أبي حاتم: ٣/٧٦٦.
(5) ابن أبي حاتم: ٣/٧٦٨.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم رغبهم، فقال سبحانه: ﴿وَسَارِعُوا﴾ بالأعمال الصالحة: ﴿إِلَى مَغْفِرَةٍ﴾ لذنوبكم: ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا﴾ يقيموا ﴿عَلَى مَا فَعَلُوا﴾(2).
3. روي أنّه قال: فمن استغفر فـ: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ لذنوبهم: ﴿مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ يعني: مقيمين في الجنان، لا يموتون(2).
4. روي أنّه قال: ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾، يعني: التائبين من الذنوب(2).
5. روي أنّه قال: ومن يفعل هذا فقد أحسن، فذلك قوله: ﴿والله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إني أرى هؤلاء في أمتي قليلا، وكانوا أكثر في الأمم الخالية(1).. وهو غير صحيح النسبة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٠١.
(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٠٢.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾، أي: ذلك لمن أطاعني، وأطاع رسولي(1).
2. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ الآية، ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ والله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، أي: وذلك الإحسان، وأنا أحب من عمل به(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ أي: إن أتوا فاحشة، ﴿أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بمعصية؛ ذكروا نهي الله عنها، وما حرم الله عنها، فاستغفروا لها، وعرفوا أنه لا يغفر الذنوب إلا هو(3).
4. روي أنّه قال: ﴿ذَكَرُوا اللهَ﴾ ذكروا نهي الله عنها، وما حرم عليهم منها؛ ﴿فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾ فاستغفروا لها، وعرفوا أنه لا يغفر الذنوب إلا هو(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾، أي: لم يقيموا على معصيتي، كفعل من أشرك بي فيما عملوا به من كفر بي(5).
6. روي أنّه قال: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يعلمون ما حرمت عليهم من عبادة غيري(6).
7. روي أنّه قال: ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾، أي: ثواب المطيعين(7).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٥٦.
(2) ابن جرير: ٦/٥٨.
(3) ابن جرير: ٦/٦٥.
(4) ابن أبي حاتم: ٣/٧٦٥.
(5) ابن جرير: ٦/٦٦.
(6) ابن جرير: ٦/٦٩.
(7) ابن جرير: ٦/٧٠.
الأوزاعي:
روي عن الأوزاعي (ت 157 هـ) أنّه قال: الإصرار: أن يعمل الرجل الذنب فيحتقره(1).
__________
(1) البيهقي: ٧١٥٤.
العطار:
روي عن أبان العطار (ت 160 هـ) أنّه قال: كان يقال: لا قليل مع إصرار، ولا كثير مع استغفار(1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٣١٩.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: الإحسان: أن تحسن إلى من أساء إليك(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٦٧.
عطاف:
روي عن عطاف بن خالد (ت 171 هـ)، قال: بلغني: أنه لما نزل قوله: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ صاح إبليس بجنوده، وحثا على رأسه التراب، ودعا بالويل والثبور، حتى جاءته جنوده من كل بر وبحر، فقالوا: ما لك يا سيدنا؟ قال آية نزلت في كتاب الله لا يضر بعدها أحدا من بني آدم ذنب، قالوا: وما هي؟ فأخبرهم، قالوا: نفتح لهم باب الأهواء فلا يتوبون، ولا يستغفرون، ولا يرون إلا أنهم على الحق، فرضي منهم بذلك(1).
__________
(1) الدرّ المنثور: الحكيم الترمذي.
الكاظم:
روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنّه قال: كفّارة عمل السلطان الإحسان إلى الإخوان(1).
__________
(1) تحف العقول: ص 410.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ يحتمل أن يكون هذا موصولا بقوله عزّ وجل: ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ [آل عمران: 130] أي: لا تأخذوا الربا أضعافا مضاعفة فتكثروا أموالكم، وحقيقته: وسارعوا إلى ما فيه وعد المغفرة من ربكم: بالإجابة له إلى ما دعا، والقيام به بحق الوفاء، وقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ في استحلال الربا؛ لأن من استحل محرما فقد كفر، وحقيقته: اتقوا ما أوعدكم ربكم عليه النار، وأصل الطاعة: الائتمار بأمر المطاع في كل أمر، فمن أطاع الله فيما أمر، وأطاع رسوله ـ رحمه ربه، وفي الطاعة رحمة الخلق؛ على ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: لن تدخلوا الجنّة حتّى تراحموا؛ قالوا: كلّنا نرحم يا رسول الله؛ قال: ليس رحمة الرّجل ولده؛ ولكنّه رحمة عامّة، ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ﴾ في تحريم الربا، وأطيعوا الرسول: في تبليغه إليكم تحريم الربا والنهي عن أخذه، ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي: ارحموا الناس وترحموهم في ترك أخذ الربا، ترحمون أنتم، وتنجون من النار ومن عذاب الله.
2. ثم قال: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي: بادروا بالتوبة والرجوع عن استحلال الربا والترك عن أخذه، والمغفرة هي فعل الله، لكنه ـ والله أعلم ـ كأنه قال بادروا إلى الأسباب التي بها تستوجبون المغفرة من ربكم، والمغفرة: هي الستر في اللغة، ثم يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: ألا يهتك أستاركم في الآخرة إذا تبتم.
ب. ويحتمل: أن ينسى عليكم سيئاتكم في الجنة؛ لأن ذكر المساوئ في الجنة تنقص عليهم نعمه، فأخبر عزّ وجل أنّه ينسيهم مساوئهم في الجنة؛ لئلا ينقص ذلك عليهم.
3. ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ وبادروا ـ أيضا ـ بالتوبة عن استحلال الربا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فمعنى ضرب مثل الجنة بضرب السماوات والأرض، وذلك ـ والله أعلم ـ:
أ. ذكر هو أن للسماوات والأرض أحوالا ليست تلك الأحوال لغيرها من الخلائق؛ بقوله عزّ وجل: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غافر: 57]؛ وذلك أنهما عندهم من أشد الخلائق وأقواها، فقال: إن الذي قدر على اتخاذ ما هو أشدّ وأقوى وأصلب ـ لقادر على إنشاء ما هو دونه، وهو هذا العالم الصغير.
ب. ووصف ـ أيضا ـ السّماوات والأرض بالغلظ والكثافة والشدة؛ لقوله عزّ وجل: ﴿سَبْعَ سَماواتٍ شِداداً﴾ وغلاظا، ثم أخبر عزّ وجل أنها مع غلظها وكثافتها تكاد أن تنشق لعظيم ما قالوا بأن لله ولدا وشريكا بقوله: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا﴾ [مريم: 90 ـ 91]؛ ليعلموا عظيم القول وقبحه؛ لئلا يقولوا في الله ما لا يليق به.
ج. ووصف ـ أيضا ـ السّماوات والأرض بالدوام إلى وقت يبعد فناؤهما في أوهام الخلق، وإن كانا فانيان بقوله عزّ وجل: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ [هود: 107]
4. فإذا كان للسماوات والأرض ما ذكرنا من الأحوال عند الخلق، ليست تلك الأحوال لغيرها من الخلائق؛ من شدتها وقوتها، وصلابتها وكثافتها وسعتها ـ شبه عرض جنته وسعتها بسعة السماوات والأرض وعرضهما؛ لما هما عند الخلق ليسا بذوي نهاية، وإن كانا ذوي نهاية وغاية؛ كما وصف أهل الجنة وأهل النّار بالدوام فيهما بدوام السّماوات والأرض، وإن كانا فيهما غير دائمين أبدا؛ لبعد فنائهما عن أوهام الخلق؛ فعلى ذلك الأول.
5. فيه دلالة أن الجنة ذو نهاية المكان في العرض، وإن لم تكن بذات نهاية الوقت وغايته؛ لأنه ذكر العرض لها، وكل ذي عرض يحتمل نهاية عرضه ـ والله أعلم ـ ولو لم يكن ذا نهاية من حيث العرض، فكأن الله غير موصوف بالقدرة على الزيادة، ومن زال عنه وصف ذلك ـ انقطع عنه الطمع، واضمحل الرجاء، وبعد، فإن ثم دارا أخرى سوى الجنة، فأوجب ذلك نهاية الجنة من حيث العرض، إذ كان غير الجنة دار أخرى مثلها في ارتفاع نهاية الوقت، وجائز وجود أمرين مختلفين على اتفاق في الوقت، ومحال وجودهما في مكان واحد اتفاق بمكان؛ لذلك لزم نهايتهما، وإن زالت عنهما نهاية الوقت.
6. قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. الاتقاء: هو من الطاعة في كل أمره ونهيه، وترك مخالفته في ذلك كله، ثم سبب التقوى يكون بوجوه ثلاثة: بذكر عظمته وجلاله ورفعته عن مخالفة أمره ونهيه؛ فيذله من جميع الذي ذكر.. إن كان على هذا: فكأنه وصف النهاية لمن أعدّت الجنة، وقد يجوز أن يكون لهم أتباع في الشركة، وإن لم يبلغوا تلك الرتبة بفضل الله، أو بما أعطى من ذكر فيهم من الشفاعة، أو بما شاركوا أولئك في أصل الاعتقاد بقبول ذلك، وإن كان منهم تقصير على أنه قد يذكر في كل بأعلى ما به يصير لمقته، من غير تخصيص في أصل له الوعد والوعيد، إلا من حيث التشديد والتفضيل، فمثله الأوّل؛ أيد ذلك قسمته أهل الجنة قسمين: السابقين، ـ وأصحاب اليمين، ثم قال في الذين من ذكر: الذين ﴿خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا﴾ [التوبة: 102]، وقد بين في آخر ذلك ما يدل على ذلك، وهو من ذكر من الذين يأتون الفواحش والظلم، ثم ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ ويكون في ذلك وجهان: أحدهما: أن الله تعالى بمنّه يوفقه لما يرضيه في آخر أمره؛ ليختمه به؛ إذ كان في وقت ارتكابه ما ارتكب، وتقصيره فيما قصر ـ معتقدا جلال ربّه، خائفا عظمته، راجيا رحمته، متعرضا لما عرفه من الكرم والعفو، فيكون هو شريك من ذكر في الخاتمة، وإن كان منه تخلف عنه في الابتداء أو أن يكون يجزيه عما قصر وفرط؛ حتى يطهره مما كان من الخلط؛ فيرجع إلى ما وافق الأول في جملة الاعتقاد، فتكون معدة لمن جمع ذلك، والجمع يكون بالذي ذكر، أو بالعفو والجود؛ إذ جعل الجزاء طريقه الجود والكرم، لا الاستحقاق.
ب. الثاني: أن يريد بـ ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ﴾ اتقوا الشرك بالذي أخبر عزّ وجل بقوله: ﴿إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: 38]، ثم وصفهم بالذي ذكر من الأفعال المحمودة؛ لا أن ذلك بكليته شرط لأن يعد له الجنة حتى يحرم من لم يبلغ ذلك.. إن كان على هذا: فالآية تخرج مخرج الترغيب في جميع تلك الأوصاف، وتكون الجنة في الإطلاق معدّة للمتقين، الذين اتقوا الشركة والدرجات وما فيها من الفضائل والمراتب، على قدر ما يبقى من أنواع الخلاف في الأفعال، ويتوسل إلى الله تعالى بالمبادرة والمسارعة إلى ما فيه الرغائب؛ وعلى ذلك أمر الوعد بتفضيل الدّرجات في الجنة، وتفريق الدركات في النار، على ما أعدت النار في الجملة للكفرة، ويتفاوت أهلها بتفاوت الأفعال من الخلاف والتمرد.
7. ثم السّبب الذي به يستعان على التقوى ثلاثة:
أ. أحدها: أن يذكر المرء عظمته وجلاله وقدرته عليه في كل أحواله؛ فيتقى مخالفته بالهيبة والإجلال.
ب. الثاني: أن يذكر عظم نقمته الموعودة، وعذابه المعد لأهل الخلاف له؛ فيتقيه إشفاقا على نفسه.
ج. وجملة ذلك: أن من تأمل ما إليه مرجعه، والذي منه بدؤه وما فيه متقلبه، من أول أحواله إلى منتهي آجاله، حتى صيّر ذلك كله كالعيان لقلبه ـ سهل عليه وجه التقوى؛ لما عند ذلك تذهب شهواته، وتضمحل أمانيه.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾:
أ. قيل: السرّاء: الرخاء، والضراء: الشدة.. أي أن الإنفاق في حال الرخاء والسعة ـ أيسر وأهون على المرء من الإنفاق في حال الضيق والفقر، فإذا أنفق في الأحوال استوجب بذلك المدح، والسبب الذي ييسّر عليه الأمر وجهان: أحدهما: علمه بأن الذي في يديه، وكثرة الانتفاع بما لا ملك للمنتفع به، وحرمان ذي الملك ذلك فيه.
ب. وقيل: السراء: السعة، والضراء: الضيق؛ وهو واحد.
ج. وقيل: السراء: ما يسرهم الإنفاق؛ من نحو الولد وغيره، يسرّه الإنفاق عليه، والأجنبي يضره.
د. يحتمل فيما يسرّهم ويضرّهم، أو في حال يسر وعسر، أو حال بلاء ونعمة، ثم السبب الذي يسهل سبيل الإنفاق في تلك الأحوال ـ وإن كان بالذي ذكر في تسهيل التقوى ـ هذا وجوه ثلاثة:
• أحدها: أن ترى مالك لمن له يد امتحنك بحق ذلك وحفظه، وأنك إذا بذلته ارتفعت عنك مئونة الحفظ، ومراعاة الحق على ما لم يكن ذاك عنك نفعه الذي كان له وقت كونه في يدك؛ إذ هو بعد البذل في يد من يدك قبله في يده، فكأنه لم يخرج من يدك بحيث النفع، وإنما سقطت عنك ما ذكرت من المئونة؛ إذ معلوم وجودها لك في الظاهر؛ لا منتفع به، ومن لا ملك له في الشيء منتفع به، على العلم باستواء الأمر على من له بذلت
• الثاني: أن تشعر قلبك جوده بمن آثره على ما عنده، وقدرته على إعطائه إياه من خزائنه التي لا تنفد، ولا يتعذر عليه، فتيقن بذلك، وتعلم أنه لك على الإيصال إليه؛ فيما لم يكن أوصله، وعلى ذلك فيما أعطاه في القدرة واحد؛ فيهون عليه ذلك؛ والله أعلم.
• الثالث: أن تعلم أنّ الذي عليه جبل وإليه دفع؛ ليس للوقت الذي فيه؛ ولكن ليتزود لمعاده، ويكتسب به الحياة الدائمة، والمنفعة التي لا تنفد، فيصير كبائع الشيء بأضعاف ثمنه، أو كباذل ما فيه فكاك رقبته، أو كمقدم ما يمتهن إلى مكان مهنته، أو كمن يعدّ الشيء في مسكنه لوقت حاجته، فإن مثله آثر الشيء على الطبيعة، وألذ شيء في العقل، ولا قوة إلا بالله.
9. الأصل في قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي: من لم يبلغ بما يرتكب من المعاصي ـ الكفر، لم يمتنع من احتمال التسمية المتقين على إرادة خصوص التقوى؛ وهو ممتنع عن احتمال التسمية بالكفر على صرف الآية في إعداد النار إلى خصوص أو عموم، فثبت به خروج صاحب الكبائر عن أهل الاسم الذي أعدّت له النار، ولم يثبت خروجه عن أهل الاسم الذي له أعدت الجنة، فالقول فيه، وإنما ذلك في الجنة فاسد بأوجه:
أ. أحدها: مع الإشكال فيما يحرم الجنة، والإحاطة بأن النار لم يذكر أنها أعدت له أدخل فيها، فيكون في ذلك إسقاط شهادة تثبت بيقين بالشك، وإيجاب شهادة لم تجب بالخيال.
ب. والثاني: أن يكون في ذلك إسقاط اسم العفو والرحمة؛ إذ لو لم يجعل لمثله ـ لبطل أن يكون له موضع لما في غيره استحقاق، واللَّه أعلم.
ج. والثالث: ما فيه إسقاط الموازنة والمقابلة مع مجيء الآيات بالكتب التي تقرأ الموازين التي توزن؛ مع ما في ذلك مخالفته التوهم بالكريم الذي أمرنا أن نسميه بها؛ مع ما قد جاء من التجاوز عن السيئات والتقبل للحسنات من واحد، وفي ذلك قلب ذلك، واللَّه أعلم.
10. ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ رُويَ عن رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من كظم غيظا ـ وهو يقدر على إنفاذه ـ ملأه الله أمنا وإيمانا)، والغيظ متردد بين الحزن والغضب، والحزن على من فوقه، والغضب على من دونه، والغيظ بين ذلك، مدحهم عزّ وجل بترديد حزنهم وغيظهم في أجوافهم.
11. ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ أي: عمّن ظلم، وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (ما عفا رجل عمّن ظلمه إلّا زاده الله بها عزّا) ومن عفا عن الناس عن مظلمة ـ فقد أحسن بذلك؛ كما يقال: فلان يحسن بكذا؛ ولا يحسن.
12. قوله تعالى: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، الإحسان يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: العلم والمعرفة.
ب. ويحتمل: أن يفعل فعلا ليس عليه من نحو المعروف والأيادى الذي ليس عليه، إنما فعله الإفضال.
13. ذكر الله تعالى ـ هاهنا ـ المحسنين وحبّه، وأخبر في الآية الأولى أنّ الجنة أعدت للمتقين بقوله عزّ وجل: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ ثم قال: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ وأخبر أنّ النار أعدت للكافرين، ثم اختلفوا فيه:
أ. قال بعضهم: من لم يكن من المتقين لم تعدّ الجنة له، فهو ممّن أعدّت له النار، وهو قول الخوارج والبغاة(2).
ب. وقال آخرون: إنه أخبر أن النّار أعدت للكافرين، فهو إذا لم يكن كافرا ـ ليس ممّن أعدّت له النّار، فهو ممّن أعدّت له الجنة.
ج. وقال غيرهم: أخبر أن النار أعدّت للكافرين وأخبر أنّ الجنة أعدّت للمتقين، فوصف المتقين: فهم الذين اتقوا معاصيه، وتركوا مخالفة أمره ونهيه، فإذا كان قوم لهم مساوئ ـ لم يدخلوا في إطلاق قوله عزّ وجل: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ولا دخلوا في قوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ فيكون لهم موضعا بالنار.
14. أما عندنا(3): فإنه يرجى دخول من ارتكب المساوئ من المؤمنين في قوله عزّ وجل: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾:
أ. بقوله عزّ وجل: ﴿اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 102] ذكر خلط عمل الصالح مع السيئ، ثم وعد لهم التوبة بقوله عزّ وجل: ﴿عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ والعسى من الله واجب.
ب. الثاني: قوله عزّ وجل: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ [الأحقاف: 16] فإذا تجاوز لم يبق لهم مساوئ؛ فصاروا من أهل هذه الآية: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾، وقوله ـ أيضا ـ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ قالوا: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، أخبر أنهم ﴿إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ وقد ذكرنا فيما تقدم أنهم لأي معنى ظلموا أنفسهم، حيث لم يسلموا أنفسهم لله خالصين، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، فإذا لم يسلموا له ـ وضعوا أنفسهم في غير موضعها، لذلك صاروا ظلمة أنفسهم.
15. ﴿ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ أي: طلبوا لذنوبهم مغفرة، وأقرّوا أنه لا يغفر الذنوب إلا الله، ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا﴾ على ذنوبهم، والإصرار: هو الدوام عليه، ثم أخبر أن جزاء هؤلاء المغفرة من ربهم؛ ﴿وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ إلى آخر ما ذكر.
16. دلّت هذه الآيات على تأييد قولنا: إن أهل المساوئ والفواحش إذا تابوا صاروا ممن أعدّت لهم الجنة، وإن لم يكونوا من المتقين من قبل، فمثله إذا تجاوز الله عن سيئاتهم؛ وعفا عنهم بما هو عفو غفور
17. قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ الآية، يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: أن يكون الظلم غير الفاحشة.
ب. ويحتمل: أن يكون واحدا في المراد؛ إذ قد يكون في المعنى أن كل عاص ظالم لنفسه، بمعنى ضرّها؛ ونحس لحظّها؛ إذا فعل ما ليس له الفعل ووضع اختياره في غير موضعه، وهما معنيا الظلم، وكذلك من تعدى حدّ الله أو آثر ما يزجره العقل والشرع ـ فقد فحش فعله، وذلك معنى الظلم الذي وصفت؛ إذ فعل ما ليس له، واختياره غير الذي له ـ هو الذي يزجره العقل والشرع
ج. ويحتمل وجها آخر غير هذين: وهو أن الظلم يجمع كل وجوه الخلاف؛ عظم أو صغر، ولذلك قد نسب ذلك إلى زلات الأخيار، نحو ما قيل لآدم عليه السلام في أكل الشجرة: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 35]، وقيل في الشرك: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: 51]
18. الفواحش: ما ظهر وتبين قبحه؛ لا ما قلّ أو كثر في الذنوب، وعلى ذلك النقصان ظلما بقوله عزّ وجل: ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف: 33]، وقد يوصف العيب والنقصان بالفحش؛ لكنه إذا كثر وظهر فمثله في الزلات، ويكون كالطيب في المحلّلات من المباح ونحوه في الدرجة ثم ليس بنا حاجة إلى معرفة المقصود بالذكر في الآية؛ لما فيها الرجوع عن ذلك، وطلب المغفرة، وكل أنواع المآثم بالتوبة تغفر بما وعد الله في الشرك، والزنا، والقتل؛ فما دونه ـ بقوله: ﴿يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الفرقان: 69] إلى تمام الآية
19. قوله تعالى: ﴿إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل الفاحشة: ما فحش في العقل وقبح.
ب. وقال آخرون: كل محرم منهيّ فهو فاحشة.
20. الأول كأنه أقرب؛ لأن الشيء ما لم يبلغ في الفحش والقبح غايته؛ فإنه لا يقال: فاحشة، وإذا بلغ الغاية ـ فحينئذ كالطيب، أنه إنما يقال ذلك إذا بلغ غايته في الحل واللّذة، فأما أن يقال لكل حل في الإطلاق طيبا ـ فلا، فعلى ذلك: الفواحش؛ لا يقال لكل محظور محرم، إنما يقال ما بلغ في القبح والفحش غايته، فأما أن يقال ذلك لكل محرم منهي ـ فلا، وبالله التوفيق.
21. الطيب: ما استطابه الطبع؛ فإذا بلغ طيبه غايته في الطبع؛ فهو طيب
22. ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنها معصية فلا يقيمون عليها، ولكن يتوبون، فمن تاب من ذنبه فجزاؤه ما ذكر.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/480.
(2) نرى أن البغاة هم المرجئة، الذين يعارضون الوعيد الإلهي.
(3) يقصد أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ والإصرار الثبوت على المعاصي وترك الاستغفار ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنهم قد أتوا بالمعصية.
﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ والفاحشة من كبائر الذنوب أو ظلمواأنفسهم في فعلها ﴿ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ لأن ذكر الله عز وجل يبعث على التوبة والاستغفار يقولون: اللهم اغفر لنا ذنوبنا فإن الله عز وجل قد سهل على هذه الأمة ما شدد على بني إسرائيل كانوا إذا أذنب أحد منهم أصبح مكتوباً على بابه في كفارة ذنبه اجدع أنفك، اجدع أذنك ونحو ذلك؛ فجعل لأمتنا الاستغفار.
__________
(1) لبرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/153.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في معنى الفاحشة في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: الكبائر من المعاصي.
ب. الثاني: الربا وهو قول جابر والسدي.
2. ﴿أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ قيل المراد به الصغائر من المعاصي.
3. في قوله تعالى: ﴿ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنهم ذكروه بقلوبهم فلم ينسوه، ليعينهم ذكره على التوبة والاستغفار.
ب. الثاني: ذكروا الله قولا بأن قالوا: اللهم اغفر لنا ذنوبنا، فإن الله قد سهل على هذه الأمة ما شدد على بني إسرائيل، إذ كانوا إذا أذنب الواحد منهم أصبح مكتوبا على بابه من كفارة ذنبه: اجدع أنفك، اجدع أذنك ونحو ذلك، فجعل الاستغفار، وهذا قول ابن مسعود وعطاء بن أبي رباح.
4. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ أربعة تأويلات:
أ. أحدها: أنه الإصرار على المعاصي، وهو قول قتادة.
ب. الثاني: أنه مواقعة المعصية إذا هم بها، وهو قول الحسن.
ج. الثالث: السكوت على المعصية وترك الاستغفار منها، وهو قول السدي.
د. الرابع: أنه الذنب من غير توبة.
5. ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنهم قد أتوا معصية ولا ينسونها، وقيل: معناه وهم يعلمون الجهة في أنها معصية.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/425.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ نافع وابن عامر (سارعوا) بلا واو، والباقون بالواو، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام بلا واو، وفي مصاحف أهل العراق بالواو، والمعنى واحد، وإنما الفرق بينهما استئناف الكلام إذا كان بلا واو، ووصلها بما تقدم إذا قرئ بواو، لأنه يكون عطفاً على ما تقدم، وفي هذه الآية الامر بالمبادرة إلى مغفرة الله باجتناب معصيته وإلى الجنة التي عرضها السماوات والأرض بفعل طاعته.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾:
أ. قال ابن عباس، والحسن: معناه عرضها كعرض السماوات السبع، والأرضين السبع إذا ضم بعض ذلك إلى بعض، واختاره الجبائي، والبلخي، وإنما ذكر العرض بالعظم دون الطول، لأنه يدل على أن الطول أعظم، وليس كذلك لو ذكر الطول بدلا من العرض، ومثل الآية قوله: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ ومعناه إلا كبعث نفس واحدة، وقال الشاعر:
çكأن عذيرهم بجنوب سِلى...نعام فاق في بلد قفارé
أي عذير نعام وقال آخر:
çحسبت بغام راحلني عناقا...وما هي ويب غيرك بالعناقé
أي صوت عناق.
ب. وقال أبو مسلم: معناه ثمنها لو بيعت كثمن السماوات والأرض لو بيعا، كما يقال عرضت هذا المتاع للبيع، والمراد بذلك عظم مقدارها، وجلالة قدرها، وانه لا يوازيها شيء وإن عظم، وهذا مليح غير أن فيه تعسفاً شديداً.
3. سؤال وإشكال: إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض فأين تكون النار!؟ والجواب: أنه روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه لما سئل عن ذلك، قال: (سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل) وهذه معارضة فيها إسقاط المسألة، لأن القادر على أن يذهب بالليل حيث شاء قادر على أن يذهب بالنهار حيث شاء، وروي أنه سئل عن ذلك ابن عباس، وغيره من الصحابة.
4. سؤال وإشكال: الجنة في السماء، كيف يكون لها هذا العرض؟ والجواب: يزاد فيها يوم القيامة، ذكره أبو بكر أحمد بن علي على تسليم انها في السماء ويجوز أن تكون الجنة مخلوقة في غير السماوات والأرض، وفي الناس من قال ان الجنة والنار ما خلقتا بعد وإنما يخلقهما الله على ما وصفه، وقال البلخي: المراد بذلك وصفها بالسعة والعظم، كما يقول القائل في دار واسعة هذه دنيا وغرضه بذلك وصفه لها بالكبر.
5. ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ معنى المتقين المطيعين لله ورسوله لاجتنابهم المعاصي وفعلهم الطاعات، ويجوز لاحتجازهم بالطاعة من العقوبة، وإنما أضيفت إلى المتقين، لأنهم المقصودون بها، وان دخلها الأطفال، والمجانين، فعلى وجه التبع، وكذلك حكم الفساق لو عفي عنهم.
6. فيمن تكلم في أصول الفقه من استدلّ بقوله: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ﴾ على أن الأمر يقتضي الفور دون التراخي، لأنه تعالى أمر بالمسارعة والمبادرة إلى مغفرة وذلك يقتضي التعجيل، ومن خالف في تلك، قال المسارعة إلى ما يقتضي الغفران واجبة وهي التوبة، ووجوبها على الفور، فمن أين أن جميع المأمورات كذلك.
7. ﴿الَّذِينَ﴾ في موضع الجر، لأنه صفة المتقين، فذكر الله صفاتهم التي تعلو بها درجاتهم منها:
أ. أنهم يتقون عذاب الله بفعل طاعته، والانتهاء عن معصيته.
ب. وانهم ينفقون في السراء، والضراء وقد بينا فيما تقدم معنى الإنفاق.
8. في معنى السراء والضراء، قولان:
أ. أحدهما: قال ابن عباس في اليسر، والعسر، فكأنه قال في السراء بكثرة المال، والضراء بقلته.. وإنما خصا بالذكر لأن السرور بالمال يدعو إلى الضن به، كما يدعو ضيقه إلى التمسك به خوف الفقر، لانفاقه.
ب. الثاني: في حال السرور، وحال الاغتمام، أي لا يقطعهم شيء من ذلك عن إنفاقه في وجوه البر، فيدخل فيه اليسر والعسر.
﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ أي المتجرعين له، فلا ينتقمون ممن يدخل عليهم الضرر بل يصبرون على ذلك، ويتجرعونه، وأصل الكظم شد رأس القربة عن ملئها، تقول: كظمت القربة إذا ملأتها ماء ثم شددت رأسها، وفلان كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئاً حزناً، ومنه قوله: ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَكَظِيمٌ﴾ أي ممتلئ حزناً، وكذلك إذا امتلأ غضباً لم ينتقم، وكظم البعير، والناقة إذا لم تجر، والكظامة القناة التي تجري تحت الأرض، سميت بذلك، لامتلائها بالماء كامتلاء القربة المكظومة، ويقال: أخذ بكظمه أي بمجرى نفسه، لأنه موضع الامتلاء بالنفس، وكظامة الميزان المسمار الذي يدور فيه اللسان، لأنه يشده ويعتمد عليه.
9. الفرق بين الغيظ، والغضب أن الغضب ضد الرضا، وهو ارادة العقاب المستحق بالمعاصي، ولعنه، وليس كذلك الغيظ، لأنه هيجان الطبع بكره ما يكون من المعاصي، ولذلك يقال غضب الله على الكفار، ولا يقال اغتاظ منهم، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (ما من جرعة يتجرعها الرجل أو الإنسان أعظم أجراً من جرعة غيظ في الله)
10. في الآية دلالة على جواز العفو عن المعاصي وإن لم يتب، لأنها دلت على الترغيب في العفو من غير إيجاب له بإجماع المسلمين.
11. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ معناه يريد اثابتهم وتنعيمهم، والمحسن يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: من هو منعم على غيره على وجه عار من وجوه القبيح.
ب. ويحتمل أن يكون مشتقاً من الافعال الحسنة التي منها الإحسان إلى الغير، وغير ذلك من وجوه الطاعات والقربات.
12. ﴿وَالَّذِينَ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ يحتمل أن يكون موضعه جراً بالعطف على المتقين، فيكون من صفتهم ما تضمنه على قول الحسن، ويحتمل أن يكون رفعاً على الاستئناف، ويكون عطف جملة على جملة، فيكون من صفة فرقة غير الأولى، ويجوز أن يرجع إلى الأولى في الموضع على المدح.
13. قوله تعالى: ﴿إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل أن يكون أراد غير الظلم، ولذلك عطف عليه بقوله: ﴿أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ حتى لا يكون تكراراً.
ب. وقال الرماني: أراد بالفاحشة الكبيرة، وبـ ﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ الصغيرة.
ج. وقال مجاهد: هما ذنبان.. وأصل الفاحشة الفحش، وهو الخروج إلى عظم القبح في العقل أو رأي العين فيه، وكذلك قيل للطويل المفرط أنه الفاحش الطول، وأفحش فلان في كلامه إذا أفصح بذكر الفحش، وقال جابر والسدي: الفاحشة هاهنا: الزنا أو ما جرى مجراه من الكبير.
14. في قوله تعالى: ﴿ذَكَرُوا اللَّهَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: ذكروا وعيد الله، فيكون من الذكر بعد النسيان، والمدح على أنهم تعرضوا للذكر.
ب. والآخر: انهم ذكروا الله بأن قالوا: اللهم اغفر لنا ذنوبنا، فانا تبنا، نادمين عليها مقلعين عنها.
15. قال ابن مسعود، وعطا ابن أبي رياح: كانت بنو إسرائيل إذا أذنب الواحد منهم ذنباً أصبح مكتوباً على بابه كفارة ذنبك اجدع اذنك اجدع انفك، فسهل الله ذلك على هذه الأمة بأن جعل توبتها الاستغفار بدلا منه منة منه تعالى.
16. ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾ الرفع محمول على المعنى، وتقديره: وهل يغفر الذنوب إلا الله أو هل رئي أحد يغفر الذنوب إلا الله.
17. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾ وقد يغفر بعضنا لبعض إساءته إليه؟ والجواب: عنه جوابان:
أ. أحدهما: أنه أراد بذلك غفران الكبائر العظام، لأن الاساءة من بعضنا لبعض صغيرة بالإضافة إلى ما يستحق من جهته.
ب. الثاني: أنه لا يغفر الذنب الذي يستحق عليه العقاب إلا الله تعالى.
18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾:
أ. قيل: الإصرار هو المقام على الذنب من غير إقلاع منه بالتوبة في قول قتادة.. وهو أقوى، لأنه نقيض التوبة.
ب. وقال الحسن: هو فعل الذنب من غير توبة.
19. الإصرار: أصله الشد من الصرة والصر شدة البرد، والإصرار إنما هو ارتباط الذنب بالإقامة عليه، وما قاله الحسن هو في حكم الإصرار.
20. قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ هاهنا يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: وهم يعلمون الخطيئة ذاكرين لها غير ساهين، ولا ناسين، قال الجبائي، والله عز وجل يغفر للعبد ما نسيه من ذنوبه، وان لم يتب منه بعينه، كما يغفر له ما تاب منه، لأنه قد فعل في حال النسيان جميع ما عليه.
ب. الثاني: وهم يعلمون الحجة في أنها خطيئة، وأما من اجتهد في الأحكام فأخطأ على مذهب من يقول بالاجتهاد، فلا اثم عليه، وكذلك من تزوج بذات محرم من الرضاع أو النسب وهو لا يعلم، أو غير ذلك، فلا إثم عليه بلا خلاف لأنه لم يعلم ذلك، فاقدم عليه، ولا يلزم على ذلك أن يكون الكافر معذوراً بكفره إذا لم يعلمه قبيحاً، لأن الكافر له طريق إلى العلم به، وكذلك نقول: إن من أسلم في دار الحرب، وخرج فاستحل في طريقه الخمر أو لحم الخنزير قبل أن يعلم تحريمها من الشرع، فلا اثم عليه، لأنه في تلك الحال لا طريق له إلى العلم بقبحه.
21. ﴿أُولَئِكَ﴾ في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ اشارة إلى من تقدم وصفهم من المتقين الذين ينفقون في السراء والضراء، ويكظمون الغيظ، ويعفون عن الناس، و﴿إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾، فقال هؤلاء: ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ وقد مضى تفسير ذلك أجمع فيما مضى.
22. ثم قال: ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ يعني ما وصفه من الجنات وأنواع الثواب، والمغفرة بستر الذنب حتى تصير كأنها لم تعمل في زوال العار بها والعقوبة بها، والله تعالى متفضل بذلك لأنا بينا أن إسقاط العذاب عند التوبة تفضل منه تعالى، فأما استحقاق الثواب بالتوبة فواجب عقلا لا محالة، لأنه لو لم يكن مستحقاً لذلك لقبح تكليفه التوبة لما فيها من المشقة والكلفة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/592.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. المسارعة: المبادرة.
ب. الكَظْم: اجتراع الغيظ، وأصله سد رأس القربة عن ملئها، كظمت القربة أي ملأتها، ثم شددت رأسها، وفلان كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئًا حزنا ممسكًا عليه، وكذلك إذا امتلأ غضبًا لم ينتقم به.
ج. العفو والصفح من النظائر، وهو المجاوزة عن الذنب حتى لا يأخذ به.
د. أصل الفحش القبح والخروج عن الحد، ومنه قيل للطويل المفرط: إنه لفاحش الطول.
هـ. الإصرار قيل: أصله الشد من الصرة، والصِّرّ: شدة البرد، والإصرار: ارتباط الذنب بالإقامة عليه، وقيل: أصل الإصرار الثبات على الشيء.
و. المغفرة: ستر الخطيئة حتى يصير كأنه لم يكن، وأصل الباب الستر، ومنه المغفرة، ويقال: اغفر متاعك في الوعاء، ومنه الغفران.
2. مما روي في سبب نزول الآيات الكريمة:
أ. روي أن أقوامًا من المؤمنين قالوا: يا رسول الله، بنو إسرائيل أكرم على الله منا، كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة بابه: اجدع أنفك، اقطع أذنك، افعل كذا، فسكت رسول الله، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: ألا أخبركم بخير من ذلك، وقرأ هذه الآية، وفيه تسهيل عما كان شدد على بني إسرائيل، فجعل لأمتنا الاستغفار بدلاً منه، عن ابن مسعود وعطاء بن أبي رباح.
ب. وقيل: نزلت في نبهان التمار، أتته امرأة تبتاع منه تمرًا فقال لها: إن هذا التمر ليس بجيد، وفي البيت أجود منه، وذهب بها إلى بيته، فضمها إلى نفسه وقبلها، فقالت له: اتق الله، فتركها وندم، وأتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذكر له ذلك، فنزلت الآية، عن عطاء.
ج. وقيل: آخى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين أنصاري ـ وثقفي، فخرج الثقفي غازًيا واستخلف الأنصاري على أهله، فاشْترى ذات يوم لهم لحمًا، فأخذت امرأته منه ودخلت بيتا فتبعها وقبلها، ثم ندم وانصرف، فقالت: والله ما حفظت غيبة أخيك، ولا نلت حاجتك، فخرج ووضع التراب على رأسه، وهام على وجهه، ورجع الثقفي، وسألها عن حاله، فوصفت له الحال والأنصاري يسيح في الجبال تائبًا، فطلبه الثقفي، وأتى به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزلت الآية، عن مقاتل والكلبي.
3. لما حذر الله تعالى عن الأفعال الموجبة للعقاب، حثهم على الأفعال الموجبة للثواب، فقال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا﴾ بادروا ﴿إِلَى مَغْفِرَةٍ﴾ إلى فعل يوجب لكم المغفرة والجنة، واختلفوا في ذلك:
أ. فقيل: إلى الإسلام، عن ابن عباس.
ب. وقيل: إلى أداء الفرائض، إلى فعل يوجب لكم المغفرة والجنة، عن علي.
ج. وقيل: إلى الإخلاص، عن عثمان.
د. وقيل: إلى الهجرة، عن أبي العالية.
هـ. وقيل: إلى التكبيرة الأولى، عن أنس بن مالك.
و. وقيل: إلى أداء الطاعات، عن سعيد بن جبير.
ز. وقيل: إلى الجهاد عن الضحاك.
ح. وقيل: إلى الصلوات الخمس، عن يمان.
ط. وقيل: إلى التوبة الموجبة للمغفرة، عن عكرمة والأصم والقاضي.
ي. وقيل: إلى الأعمال الصالحة عن مقاتل.
ك. وقيل: ائتمار أمر الله تعالى والانتهاء عما نهى الله عنه، عن أبي بكر الوراق.
ل. وقيل: إلى المسارعة في الطاعة والتوبة، عن أبي علي.
م. وقيل: في جميع ما سبق عن أبي مسلم.
4. ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا﴾ وإنما ذكر العرض بالعِظَم دون الطول:
أ. لأنه يدل على أن الطول أعظم، وليس كذلك لو ذكر الطول بدلاً من العرض.
ب. وعن الزهري قال: إنما وصف العرض، فأما الطول فلا يعلمه إلا الله.
ج. وقيل: لم يرد العرض الذي هو خلاف الطول، وإنما أراد سعتها وعظمها، والعرب إذا وصفت الشيء بالسعة وصفته بالعرض، أنشد أبو مسلم:
çبِلادٌ عريضةٌ وأرضٌ أَرِيضَةٌ... مَدَاقِعُ غَيْثٍ في فَضَاءٍ عَرِيضِé
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كعَرْض السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾:
أ. قيل: يعني كعرض السماوات السبع والأرضين السبع إذا ضم بعض ذلك إلى بعض، عن ابن عباس والحسن.
ب. وقيل: تقديره: عرضها عرض السماوات، فحذف كقوله: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ﴾ يعني كبعث نفس.
6. سؤال وإشكال: إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض، فأين تكون النار؟ والجواب: سئل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك فقال: (سبحان الله، إذا جاء النهار فأين يذهب الليل) وهذه معارضة حسنة سقطت المسألة؛ لأن القادر على أن يذهب الليل حيث شاء قادر على أن يخلق النهار حيث شاء، وروي أن جماعة من اليهود سألوا عثمان عن ذلك، فأتى بهذا، فقالوا: إنه لمثلها في التوراة، وسئل ابن عباس عن ذلك، فأجاب كذلك.
7. سؤال وإشكال: فإن الجنة في السماء فكيف يكون لها هذا العرض؟ والجواب:
أ. إنها فوق السماوات السبع تحت العرش، عن أنس وقتادة، والنار تحت الأرضين السبع، عن قتادة.
ب. وقيل: يزاد فيها يوم القيامة، عن أبي بكر أحمد بن علي والقاضي.
8. ﴿أُعِدَّتْ﴾ هيئت ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ لمن اتقى معاصي الله ومخالفة أمره، وإنما قال: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ وإن كان يدخلها غيرهم كالأطفال والمجانين والحور العين:
أ. قيل: لأنهم المقصودون، وغيرهم كالتبع.
ب. وقيل: لولا المؤمنون لما خلق الله تعالى الجنة عن القاضي.
9. ثم بيّن صفة المتقين، فقال: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ﴾ يعني يخرجون أموالهم في أبواب البر ﴿فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾:
أ. قيل: في اليسر والعسر، عن ابن عباس كأنه قيل: في السراء بكثرة المال والضراء بقلَّته.
ب. وقيل: في حال السرور والاغتمام، أي لا يقطعه شيء في إنفاقه في وجوه البر.
ج. وقيل: ينفقونها فيما يحبون، وفيما يكرهون.
د. وقيل: في اليسر ينفقون في الزكاة وغيرها من الواجبات، وفي العسر يؤثرون على أنفسهم، عن أبي مسلم.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾:
أ. قيل: حلماء يتجرعون الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه.
ب. وقيل: هم الَّذِينَ يردون غيظهم، ولا يكافئون من أساء إليهم خشية.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾:
أ. قيل: عمن ظلمهم وأساء إليهم، ويقدرون على انتقام فلا يفعلون تقربًا إلى الله عزِ وجل عن زيد بن أسلم ومقاتل.
ب. وقيل: عن المملوكين، عن الكلبي.
12. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ﴾ يريد لكرامته وثوابه ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾:
أ. من يحسن إلى الناس.
ب. وقيل: من يحسن عمله بترك الذنوب.
ج. قال الحسن: الإحسان أن تعم ولا تخص كالريح والشمس والمطر.
د. قال الثوري: الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، فأما إلى من أحسن إليك فإنه متاجرة كنقد السوق خذ مني وهات.
13. عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: رأيت قصورًا مشرفة على الجنة فقلت: يا جبريل لمن هذا؟ قال: (للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)
14. اختلف في علاقة قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ بما قبله:
أ. قيل: إن الآية اتصلت بما قبلها؛ لأنها من صفة المتقين.
ب. وقيل: بل هما فرقتان بيَّن أن الجنة للمتقين، ومن تاب إزالة للتهمة.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾:
أ. قيل: الفاجر بالزنا، وظلم النفس سائر المعاصي، عن السدي.
ب. وقيل: الفاحشة الكبائر، وظلم النفس الصغائر، عن الأصم، وهو اختيار القاضي، وقال علي بن عيسي: الفاحشة لا تكاد تقع إلا على كبيرة، وقال مجاهد: هما ذنبان.
ج. وقيل: هما جميع المعاصي، عن أبي علي وأبي مسلم.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ذَكَرُوا اللهَ﴾:
أ. قيل: ذكروا وعيد الله، فيكون من الذكر بعد النسيان والمدح لأنهم تعرضوا للذكر.
ب. وقيل: ذكروا الله بأن قالوا: اللهم اغفر لنا بإنابتنا وندمنا، عن مقاتل.
ج. وقيل: ذكروا نهي الله.
د. وقيل: ذكروا العرض على الله عن الضحاك.
هـ. وقيل: تفكروا أن الله سائلهم، عن الواقدي.
17. ﴿فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ أي طلبوا من الله المغفرة ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾:
أ. قيل: فيه تقديم وتأخير، ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ولم يصروا ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾
ب. وقيل: إنه يتصل بقوله: ﴿فَاسْتَغْفَرُوا﴾ تقديره: فاستغفروا لعلمهم أنه لا يغفر الذنوب إلا الله، فلا يحتاج إلى تقديم وتأخير، ومعناه لا يغفر أحد الذنب إلا الله، أي لا يقدر عليه، ولا يمكنه.
18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾:
أ. قيل: لم يقيموا ولم يدوموا لكنهم تابوا وأنابوا عن قتادة وغيره.
ب. وقيل: هو الذنب من غير توبة عن الحسن.
ج. وقيل: الإصرار السكوت وترك الاستغفار عن السدي، وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار)
19. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾:
أ. قيل: يعلمون الخطيئة بالذكر لها؛ لأنه تعالى يغفر للعبد ما نسيه، عن السدي وأبي علي.
ب. وقيل: يعلم الحجة في أنها خطيئة، فأما من اجتهد فأخطأ وهو لا يعلم أو لا دليل عليه فلا إثم عليه.
ج. وقيل: يعلمون أنها معصية، عن ابن عباس والحسن ومقاتل.
د. وقيل: يعلمون أن الله يملك مغفرة ذنوبهم، عن الضحاك.
هـ. وقيل: يعلمون أنهم إن استغفروا غفر لهم، وأن التوبة تمحو الحَوْبَةَ.
20. ﴿أُولَئِكَ﴾ من تقدم ذكرهم ﴿جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ عفو عنهم وستر لذنوبهم ﴿وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أي تحت أشجارها وأبنيتها ﴿الْأَنْهَارُ﴾ يعني الماء في الأنهار ﴿خَالِدِينَ﴾ دائمين ﴿فِيهَا﴾ في الجنات ونعيمها ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ أي نعم أجر المطيعين ما ذكر.
21. تدل الآيات الكريمة على:
أ. وجوب المسارعة إلى التوبة والطاعات الموجبة للمغفرة.
ب. أن المغفرة غير الجنة؛ لأن العطف يوجب ذلك، فالمغفرة إزالة العقوبة، والجنة إيجاب الرحمة، وأحدهما ينفصل عن الآخر.
ج. أن المتقي إنما يصير متقيًا بهذه الصفات، وأن الجنة لا تنال إلا بذلك، وقد يجب الإنفاق في جميع الأحوال بوجوه، فوجب حمل الآية على الواجب، وذكر أبو مسلم أنه مما يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان؛ لأن وَصْفَ العرض، وقوله: ﴿أُعِدَّتْ﴾ يقتضي ذلك، ومن خالفه يقول: المراد به المستقبل كقوله: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ﴾
د. سعة الجنة، وروى الأصم عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (ما بين مصراعي باب الجنة مسيرة أربعين عامًا، ليأتي عليه يوم يزدحم الخلق عليه ازدحام الإبل وردت حمسًا ظمأ)
هـ. الترغيب في التقوى لتنال المغفرة والجنة.
و. أن التوبة توجب المغفرة.
ز. أن الإصرار على الذنب كبيرة.
ح. أن غفران الذنوب لله تعالى فيجب الانقطاع إليه.
ط. يدل قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنه من يعلم الذنب يجب أن يندم عليه، فإن علمها مفصلاً ندم، وإن علمها جملة ندم كذلك.
ي. يدل قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ أن التوبة يستحق بها الغفران، خلاف قول بعضهم.
ك. أنه مع المغفرة يستحق الثواب.
ل. أن الجنة تنال بهذه الأمور، فيبطل قول المرجئة.
م. يدل قوله تعالى: ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ على أن ذلك أجر لعملهم، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ أن الثواب لا يستحق بالعمل.
22. قرأ نافع وابن عامر: (سارعوا) بغير واو، كذلك هو في مصاحف المدينة والشام، وقرأ الباقون بالواو، وكذلك هو في مصاحف مكة والعراق ومصحف عثمان، والمعنى واحد إلا بمقدار الاستئناف أو وصل الكلام.
23. مسائل لغوية ونحوية:
أ. موضع ﴿وَالَّذِينَ﴾:
• قيل: جر عطف على ﴿الْمُتَّقِينَ﴾
• وقيل: رفع على الاستئناف، كأنه عطف جملة على جملة، فعلى الأول هم فرقة واحدة، وعلى الثاني فرقتان، ويجوز أن يكون راجعًا إلى الأولين، ويكون محله رفعًا على المدح.
ب. رفع اسم الله في قوله: ﴿إِلَّا اللهُ﴾ وليس قبله جُحْدٌ:
• قيل: على المعنى لا على اللفظ تقديره: وهل يغفر الذنوب أحد إلا الله.
• وقيل: لا يغفر الذنوب إلا الله، وقيل: حرف استفهام، وفيه نفي، فوضع موضع النفي، تقديره: وليس يغفر أحد الذنب إلا الله.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/383.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
أ. أصل الكظم: شد رأس القربة عن ملئها، تقول كظمت القربة: إذا ملأتها ماء ثم شددت رأسها، وفلان كظيم ومكظوم: إذا كان ممتلئا حزنا، وكذلك إذا كان ممتلئا غضبا لم ينتقم، وكظم البعير: إذا لم يجتر، والكظامة: القناة التي تجري تحت الأرض، سميت بذلك لامتلائها تحت الأرض، وفي (غريب الحديث) لأبي عبيدة: (عن أوس بن أبي أوس، أنه رأى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أتى كظامة قوم، فتوضأ ومسح على قدميه)، ويقال: أخذ بكظمه أي: مجرى نفسه لأنه موضع الامتلاء بالنفس، والفرق بين الغيظ والغضب أن الغضب ضد الرضا: وهو إرادة العقاب المستحق بالمعاصي ولعنه، وليس كذلك الغيظ: لأنه هيجان الطبع بتكره ما يكون من المعاصي، ولذلك يقال: غضب الله على الكفار، ولا يقال: اغتاظ منهم.
ب. أصل الفاحشة الفحش: وهو الخروج إلى عظيم القبح، أو رأي العين فيه، ولذلك قيل للطويل المفرط: انه لفاحش الطول، وأفحش فلان: إذا أفصح بذكر الفحش.
ج. الاصرار: أصله الشد من الصرة، والصر: شدة البرد، فكأنما هو ارتباط الذنب بالإقامة عليه، وقيل: أصله الثبات على الشيء، وقال الحطيئة يصف الخيل:
çعوابس بالشعث الكماة إذا انتقوا... علالتها بالمخصرات أصرتé
أي: إذا اختاروا بقية جريها بالسياط، ثبتت على جريها.
1. لما حذر الله تعالى عن الأفعال الموجبة للعقاب، عقبه بالحث على الأفعال الموجبة للثواب، فقال: ﴿وَسَارِعُوا﴾ أي: بادروا ﴿إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ باجتناب معاصيه، ومعناه إلى الاعمال التي توجب المغفرة، واختلف في ذلك:
أ. فقيل: سارعوا إلى الاسلام، عن ابن عباس.
ب. وقيل: إلى أداء الفرائض عن علي بن أبي طالب عليه السلام.
ج. وقيل: إلى الهجرة، عن أبي العالية.
د. وقيل: إلى التكبيرة الأولى، عن أنس بن مالك.
هـ. وقيل: إلى أداء الطاعات، عن سعيد بن جبير.
و. وقيل: إلى الصلوات الخمس، عن يمان.
ز. وقيل: إلى الجهاد، عن الضحاك.
ح. وقيل: إلى التوبة، عن عكرمة.
2. ﴿وَجَنَّةٍ﴾ أي: والى جنة ﴿عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾، واختلف في معناه على أقوال:
أ. أحدها: ان المعنى عرضها كعرض السماوات السبع، والأرضين السبع، إذا ضم بعض ذلك إلى بعض، عن ابن عباس والحسن، واختاره الجبائي والبلخي، وإنما ذكر العرض بالعظم دون الطول، لأنه يدل على أن الطول أعظم من العرض، وليس كذلك لو ذكر الطول دون العرض، ومثل الآية قوله ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ ومعناه: الا كخلق وبعث نفس واحدة، وقال الشاعر:
çكأن عذيرهم بجنوب سلى... نعام قاق في بلد قفارé
أي: عذير نعام، وقال آخر: حسبت بغام راحلتي عناقا، وما هي ويب غيرك بالعناق أي: صوت عناق.
ب. وثانيها: ان معناه ثمنها لو بيعت كثمن السماوات والأرض لو بيعتا، كما يقال: عرضت هذا المتاع للبيع، والمراد بذلك: عظم مقدارها، وجلالة قدرها، وأنه لا يساويها شيء، وان عظم، عن أبي مسلم الأصفهاني، وهذا وجه مليح إلا أن فيه تعسفا.
ج. وثالثها: ان عرضها لم يرد به العرض الذي هو خلاف الطول، وإنما أراد سعتها وعظمها، والعرب إذا وصفت الشيء بالسعة، وصفته بالعرض، قال امرؤ القيس:
çبلاد عريضة وأرض أريضة...مواقع عيث في فضاء عريضé
وقال ذو الرمة: (فأعرض في المكارم واستطالا) أي: توسع فيها.
3. سؤال وإشكال: إذا كانت الجنة عرضها كعرض السماء والأرض، فأين تكون النار؟ والجواب: روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل عن ذلك، فقال: سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل؟ وهذه معارضة فيها اسقاط المسألة، لان القادر على أن يذهب بالليل حيث شاء، قادر على أن يخلق النهار حيث شاء.
4. سؤال وإشكال: إذا كانت الجنة في السماء، فكيف يكون لها هذا العرض؟ والجواب:
أ. قيل: إن الجنة فوق السماوات السبع تحت العرش، عن أنس بن مالك.
ب. وقيل: إن الجنة فوق السماوات السبع، عن قتادة.
ج. وقيل: إن معنى قولهم: ان الجنة في السماء انها في ناحية السماء، وجهة السماء، لا أن السماء تحويها، ولا ينكر ان يخلق الله في العلو أمثال السماوات والأرضين، فان صح الخبر أنها في السماء الرابعة، كان كما يقال: في الدار بستان، لاتصاله بها، وكونه في ناحية منها، أو يشرع إليها بابها، وإن كان أضعاف الدار.
د. وقيل: إن الله يريد في عرضها يوم القيامة، فيكون المراد عرضها السماوات والأرض يوم القيامة، لا في الحال، عن أبي بكر أحمد بن علي، مع تسليم أنها في السماء.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾:
أ. قيل: أي: المطيعين لله ولرسوله، لاجتنابهم المقبحات، وفعلهم الطاعات، ويجوز لاحتجازهم بالطاعة عن العقوبة، وإنما أضيفت إلى المتقين لأنهم المقصودون بها، وان دخلها غيرهم من الأطفال والمجانين، فعلى وجه التبع، وكذلك حكم الفساق لو عفي عنهم.
ب. وقيل: معناه: انه لولا المتقون لما خلقت الجنة، كما يقال: وضعت المائدة للأمير.
6. قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ يدل على أن الجنة مخلوقة اليوم، لأنها لا تكون معدة الا وهي مخلوقة.
7. ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ صفة للمتقين، وفي معنى السراء والضراء قولان:
أ. أحدهما: ان معناه في اليسر والعسر، عن ابن عباس، أي: في حال كثرة المال، وقلته.
ب. الثاني: في حال السرور والاغتمام أي: لا يقطعهم شيء من ذلك، عن انفاق المال في وجوه البر.
8. ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ أي: المتجرعين للغيظ عند امتلاء نفوسهم منه، فلا ينتقمون ممن يدخل عليهم الضرر، بل يصبرون على ذلك.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾:
أ. قيل: يعني: الصافحين عن الناس، المتجاوزين عما يجوز العفو والتجاوز عنه، مما لا يؤدي إلى الاخلال بحق الله تعالى.
ب. وقيل: العافين عن المملوكين.
10. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ أي: من فعل ذلك فهو محسن، والله يحبه بايجاب الثواب له، ويحتمل أن يكون الاحسان شرطا مضموما إلى هذه الشرائط، قال الثوري: الاحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، فأما من أحسن إليك فإنه متاجرة كنقد السوق، خذ مني وهات.
11. أول ما عدد الله من أخلاق أهل الجنة السخاء، ومما يؤيد ذلك من الاخبار:
أ. ما رواه أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (السخاء شجرة في الجنة، أغصانها في الدنيا من تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى الجنة، والبخل شجرة في النار، أغصانها في الدنيا، فمن تعلق بغصن من أغصانها، قادته إلى النار)
ب. وقال علي عليه السلام: الجنة دار الأسخياء.
ج. وقال عليه السلام: السخي قريب من الله، قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار.
12. ثم عد تعالى بعد ذلك من أخلاق أهل الجنة كظم الغيظ، مما جاء فيه من الاخبار:
أ. ما رواه أبو امامة قال: قال رسول الله: (من كظم غيظه وهو قادر على إنفاذه، ملأه الله يوم القيامة رضا)
ب. وفي خبر آخر: (ملأه الله يوم القيامة أمنا وايمانا)
ج. وقال أيضا: (كاظم الغيظ كضارب السيف في سبيل الله في وجه عدوه وملأ الله قلبه رضا)
د. وفي خبر آخر: (ملأ الله قلبه يوم القيامة أمنا وأمانا)
هـ. وقال عليه السلام: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)
13. ثم ذكر العافين عن الناس، وروى أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن هؤلاء في أمتي قليل، الا من عصم الله، وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت)، وفي هذا دليل واضح على أن العفو عن المعاصي مرغب فيه، مندوب إليه، وإن لم يكن واجبا، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما عفا رجل عن مظلمة قط، الا زاده الله بها عزا)
14. ثم ذكر سبحانه أنه يحب المحسنين والمحسن هو المنعم على غيره على وجه عار من وجوه القبح، ويكون المحسن أيضا هو الفاعل للأفعال الحسنة من وجوه الطاعات والقربات، وروي ان جارية لعلي بن الحسين، جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها فشجه، فرفع رأسه إليها، فقالت له الجارية: ان الله تعالى يقول ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ فقال لها: قد كظمت غيظي، قالت ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ قال: قد عفا الله عنك، قالت ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله.
15. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾:
أ. روي أن قوما من المؤمنين قالوا: يا رسول الله! بنو إسرائيل أكرم على الله منا، كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة بابه: (أجدع أنفك، أو أذنك، افعل كذا) فسكت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزلت الآية، فقال: ألا أخبركم بخير من ذلكم؟ وقرأ عليهم هذه الآية، عن ابن مسعود، وفي ذلك تسهيل لما كان قد شدد فيه على بني إسرائيل، إذ جعل الاستغفار بدلا منه.
ب. وقيل: نزلت في نبهان التمار، أتته امرأة تبتاع منه تمرا، فقال لها: ان هذا التمر ليس بجيد، وفي البيت أجود منه، وذهب بها إلى بيته، فضمها إلى نفسه، فقبلها، فقالت له: اتق الله، فتركها وندم، وأتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وذكر له ذلك، فنزلت الآية، عن عطاء.
16. ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ اختلفوا في الفاحشة وظلم النفس:
أ. فقيل: الفاحشة الزنا، وظلم النفس: سائر المعاصي، عن السدي وجابر.
ب. وقيل: الفاحش: الكبائر، وظلم النفس: الصغائر، عن القاضي عبد الجبار ابن أحمد الهمداني.
ج. وقيل: الفاحشة: اسم لكل معصية ظاهرة وباطنة، الا أنها لا تكاد تقع الا على الكبيرة، عن علي بن عيسى.
د. وقيل: فعلوا فاحشة فعلا، أو ظلموا أنفسهم قولا.
17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾:
أ. قيل: أي: ذكروا وعيد الله فانزجروا عن المعصية، واستغفروا لذنوبهم، فيكون من الذكر بعد النسيان، وإنما مدحهم لأنهم تعرضوا للذكر.
ب. وقيل: ذكروا الله بأن قالوا: اللهم اغفر لنا ذنوبنا فانا تبنا نادمين عليها، مقلعين عنها.
18. ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾ من لطيف فضل الله تعالى، وبليغ كرمه، وجزيل منته، وهو الغاية في ترغيب العاصين في التوبة، وطلب المغفرة، والنهاية في تحسين الظن للمذنبين، وتقوية رجاء المجرمين، وهذا كما يقول السيد لعبده، وقد أذنب ذنبا: اعتذر إلي ومن يقبل عذرك سواي.
19. سؤال وإشكال: ان العباد قد يغفر بعضهم لبعض الإساءة؟ والجواب: ان الذنوب التي يستحق عليها العقاب، لا يغفرها الا الله، وأيضا فإنه أراد سبحانه غفران الكبائر العظام، والإساءة من بعضنا على بعض صغيرة بالإضافة إليها.
20. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾:
أ. قيل: أي: لم يقيموا على المعصية، ولم يواظبوا عليها، ولم يلزموها.
ب. وقال الحسن: هو فعل الذنب من غير توبة، وهو قريب من الأول، وذلك لا يكفي، فان التوبة مجرد الاستغفار مع الاصرار، وذلك أن الاستغفار إنما يؤثر عند ترك الاصرار، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (لا صغيرة مع الاصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار) يعني لا تبقى الكبيرة كبيرة مع التوبة والاستغفار، ولا تبقى الصغيرة صغيرة مع الاصرار،
ج. وفي تفسير ابن عباس: الاصرار السكون على الذنب بترك التوبة، والاستغفار منه.
21. قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يحتمل وجوها:
أ. أحدها: ان معناه وهم يعلمون الخطيئة ذاكرين لها، غير ساهين ولا ناسين، لأنه تعالى يغفر للعبد ما نسيه من ذنوبه، وإن لم يتب منه بعينه، عن الجبائي والسدي.
ب. وثانيها: ان معناه وهم يعلمون الحجة في أنها خطيئة، فإذا لم يعلموا، ولا طريق لهم إلى العلم به، كان الاثم موضوعا عنهم، كمن تزوج أمة من الرضاع والنسب، وهو لا يعلم به، فإذا لا يأثم، وهذا معنى قول ابن عباس والحسن.
ج. وثالثها: ان المراد وهم يعلمون أن الله يملك مغفرة ذنوبهم، عن الضحاك.
22. ﴿أُولَئِكَ﴾: إشارة إلى من تقدم وصفهم من المتقين الذين ينفقون في السراء والضراء إلى آخر الكلام أي: هؤلاء ﴿جَزَاؤُهُمْ﴾ على أعمالهم وتوبتهم ﴿مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي: ستر لذنوبهم ﴿وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ قد مر تفسيرها في سورة البقرة.
23. ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ هذا يعني ما وصفه من الجنات، وأنواع الثواب، والمغفرة بستر الذنوب، حتى تصير كأنها لم تعمل في زوال العار بها، والعقوبة عليها، والله تعالى متفضل بذلك، لان اسقاط العقاب عند التوبة، تفضل منه، وأما استحقاق الثواب بالتوبة، فواجب لا محالة عقلا، لأنه لو لم يكن مستحقا بالتوبة، لقبح تكليفه التوبة، لما فيها من المشقة.
24. اختلف في علاقة قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ بما قبله:
أ. قيل: إن الآية اتصلت بما قبلها، لأنها من صفة المتقين.
ب. وقيل: بل هما فرقتان بين تعالى أن الجنة للمتقين المنفقين في السراء والضراء، إلى آخر الآية، ولمن عثر ثم تاب، ولم يصر.
25. قرأ أهل المدينة، والشام: (سارعوا) بغير واو، وكذلك هو في مصاحفهم، والباقون بالواو، وكذلك هو في مصاحف مكة والعراق.. والفرق بينهما استئناف الكلام إذا كان بغير واو، ووصلها بما تقدم إذا قرئ بواو، لأنه يكون عطفا على ما تقدم، ويجوز أيضا ترك الواو لان الجملة الثانية متلبسة بالأولى، مستغنية عن عطفها بالواو، كما جاء في التنزيل ﴿ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ وقال: ﴿سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾
26. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿وَالَّذِينَ﴾: عطف على المتقين، وقيل: رفع على الاستئناف، كأنه عطف جملة على جملة، فعلى القول الأول: هم فرقة واحدة، وعلى القول الثاني: هم فرقتان، ويجوز أن يكون راجعا إلى الأولين، ويكون محله رفعا على المدح.
ب. ﴿إِلَّا اللهُ﴾ يرتفع الله حملا على المعنى، لا على اللفظ، إذ قبله جحد وتقديره: وهل يغفر الذنوب أحد الا الله، أو هل رأى أحد يغفر الذنوب الا الله، ومعناه: لا يغفر الذنوب الا الله، لان الاستفهام قد يقع موقع النفي ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾: المخصوص بالمدح محذوف، وتقديره ونعم أجر العاملين أجرهم.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/836.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ كلّهم أثبت الواو في ﴿وَسَارِعُوا﴾ إلا نافعا، وابن عامر، فإنّهما لم يذكراها، وقال أبو عليّ: وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشّام، فمن قرأ بالواو، عطف ﴿وَسَارِعُوا﴾ على ﴿وَأَطِيعُوا﴾ ومن حذفها، فلأنّ الجملة الثانية ملتبسة بالأولى، فاستغنت عن العطف، ومعنى الآية: بادروا إلى ما يوجب المغفرة.
2. في المراد بموجب المغفرة هاهنا عشرة أقوال:
أ. أحدها: أنه الإخلاص، قاله عثمان بن عفّان.
ب. الثاني: أداء الفرائض، قاله عليّ بن أبي طالب.
ج. الثالث: الإسلام، قاله ابن عباس.
د. الرابع: التّكبيرة الأولى من الصّلاة، قاله أنس بن مالك.
هـ. الخامس: الطّاعة، قاله سعيد بن جبير.
و. السادس: التّوبة، قاله عكرمة.
ز. السابع: الهجرة، قاله أبو العالية.
ح. الثامن: الجهاد، قاله الضّحّاك.
ط. التاسع: الصّلوات الخمس، قاله يمان.
ي. العاشر: الأعمال الصّالحة، قاله مقاتل.
3. ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ قال ابن قتيبة: أراد بالعرض السّعة، ولم يرد العرض الذي يخالف الطّول، والعرب تقول: بلاد عريضة، أي: واسعة، وقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم للمنهزمين يوم أحد: (لقد ذهبتم فيها عريضة)، قال الشاعر:
çكأنّ بلاد الله وهي عريضة...على الخائف المطلوب كفّة حابلé
قال: وأصل هذا من العرض الذي هو خلاف الطّول، وإذا عرض الشيء اتّسع، وإذا لم يعرض ضاق ودقّ، وقال سعيد بن جبير: لو ألصق بعضهنّ إلى بعض كانت الجنّة في عرضهنّ.
4. ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ قال ابن عباس: في العسر واليسر، ومعنى الآية: أنّهم رغبوا في معاملة الله، فلم يبطرهم الرّخاء فينسيهم، ولم تمنعهم الضّرّاء فيبخلوا.
5. ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ قال الزجّاج: يقال: كظمت الغيظ: إذا أمسكت على ما في نفسك منه، وكظم البعير على جرّته: إذا ردّدها في حلقه، وقال ابن الأنباريّ: الأصل في الكظم: الإمساك على غيظ وغمّ، وروى ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: ما تجرّع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى.
6. في قوله تعالى: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه العفو عن المماليك، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: أنه على إطلاقه، فهم يعفون عمّن ظلمهم، قاله زيد بن أسلم، ومقاتل.
7. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أن امرأة أتت إلى نبهان التّمّار تشتري منه تمرا فضمّها، وقبّلها، ثم ندم، فأتى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكر ذلك؛ فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس.
ب. الثاني: أنّ أنصاريا وثقفيّا آخى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بينهما، فخرج الثّقفيّ مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في بعض مغازيه، فكان الأنصاري يتعاهد أهل الثّقفيّ، فجاء ذات يوم فأبصر المرأة قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها، فدخل ولم يستأذن؛ فذهب ليلثمها فوضعت كفّها على وجهها، فقبّله ثم ندم، فأدبر راجعا، فقالت: سبحان الله خنت أمانتك، وعصيت ربك ولم تصب حاجتك، قال فخرج يسيح في الجبال، ويتوب إلى الله من ذنبه، فلما قدم الثّقفيّ أخبرته المرأة بفعله، فخرج يطلبه حتى دل عليه، فندم على صنيعه، فوافقه ساجدا يقول: ذنبي ذنبي، قد خنت أخي، فقال له: يا فلان انطلق إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فاسأله عن ذنبك، لعلّ الله أن يجعل لك منه مخرجا، فرجع إلى المدينة، فنزلت هذه الآية بتوبته، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وذكره مقاتل.
ج. الثالث: أن المسلمين قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: بنو إسرائيل أكرم على الله منّا! كان أحدهم إذا أذنب، أصبحت كفارة ذنوبه مكتوبة في عتبة بابه، فنزلت هذه الآية، فقال النبيّ عليه السلام: (ألا أخبركم بخير من ذلك)؟ فقرأ هذه الآية، والتي قبلها، هذا قول عطاء.
8. اختلفوا هل هذه الآية نعت للمنفقين في السّرّاء والضّرّاء؟ أم لقوم آخرين؟ على قولين:
أ. أحدهما: أنها نعت لهم، قاله الحسن.
ب. الثاني: أنها لصنف آخر، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
9. الفاحشة: القبيحة، وكل شيء جاوز قدره فهو فاحش، وفي المراد بها هاهنا قولان:
أ. أحدهما: أنها الزّنى، قاله جابر بن زيد، والسّدّيّ، ومقاتل.
ب. الثاني: أنها كلّ كبيرة، قاله جماعة من المفسرين.
10. اختلفوا في (الظّلم) المذكور بعدها:
أ. فلم يفرّق قوم بينه وبين الفاحشة، وقالوا: الظّلم للنّفس فاحشة أيضا.
ب. وفرّق آخرون، فقالوا: هو الصّغائر.
11. في قوله تعالى: ﴿ذَكَرُوا اللَّهَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه ذكر اللسان، وهو الاستغفار، قاله ابن مسعود، وعطاء في آخرين.
ب. الثاني: أنه ذكر القلب، ثم فيه خمسة أقوال:
• أحدها: أنه ذكر العرض على الله، قاله الضّحّاك.
• الثاني: أنه ذكر السّؤال عنه يوم القيامة، قاله الواقديّ.
• الثالث: ذكر وعيد الله لهم على ما أتوا، قاله ابن جرير.
• الرابع: ذكر نهي الله لهم عنه.
• الخامس: ذكر غفران الله؛ ذكر القولين أبو سليمان الدّمشقيّ.
12. الإصرار: قال الزجّاج: هو الإقامة على الشيء، وقال ابن فارس: هو العزم على الشيء والثّبات عليه، وللمفسرين في المراد بالإصرار ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه مواقعة الذّنب عند الاهتمام به، وهذا مذهب مجاهد.
ب. الثاني: أنه الثّبوت عليه من غير استغفار، وهذا مذهب قتادة، وابن إسحاق.
ج. الثالث: أنه ترك الاستغفار منه، وهذا مذهب السّدّيّ.
13. في معنى ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: وهم يعلمون أنّ الإصرار يضرّ، وأنّ تركه أولى من التّمادي، قاله ابن عباس، والحسن.
ب. الثاني: يعلمون أنّ الله يتوب على من تاب، قاله مجاهد، وأبو عمارة.
ج. الثالث: يعلمون أنهم قد أذنبوا، قاله السّدّيّ، ومقاتل.
__________
(1) زاد المسير: 1/326.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ نافع وابن عامر ﴿سارِعُوا﴾ بغير واو، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام، والباقون بالواو، وكذلك هو في مصاحف مكة والعراق ومصحف عثمان، فمن قرأ بالواو عطفها على ما قبلها والتقدير أطيعوا الله والرسول وسارعوا، ومن ترك الواو فلأنه جعل قوله: ﴿سارِعُوا﴾ وقوله: ﴿أَطِيعُوا اللهَ﴾ [آل عمران: 132] كالشيء الواحد، ولقرب كل واحد منها من الآخر في المعنى أسقط العاطف.. وروي عن الكسائي الإمالة في ﴿سارِعُوا﴾ و﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ﴾ [المؤمنون: 61]، و﴿نُسَارِعُ﴾ [المؤمنون: 56] وذلك جائز لمكان الراء المكسورة، ويمنع كما المفتوحة الإمالة، كذلك المكسورة يميلها.
2. قالوا في الكلام حذف والمعنى: وسارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم ولا شك أن الموجب للمغفرة ليس إلا فعل المأمورات وترك المنهيات، فكان هذا أمرا بالمسارعة إلى فعل المأمورات وترك المنهيات.
3. تمسك كثير من الأصوليين بهذه الآية في أن ظاهر الأمر يوجب الفور ويمنع من التراخي ووجهه ظاهر، وللمفسرين فيه كلمات:
أ. إحداها: قال ابن عباس: هو الإسلام ووجهه ظاهر، لأنه ذكر المغفرة على سبيل التنكير، والمراد منه المغفرة العظيمة المتناهية في العظيم وذلك هو المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام.
ب. الثاني: روي عن علي بن أبي طالب أنه قال هو أداء الفرائض، ووجهه أن اللفظ مطلق فيجب أن يعم الكل.
ج. الثالث: أنه الإخلاص وهو قول عثمان بن عفان، ووجهه أن المقصود من جميع العبادات الإخلاص، كما قال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: 5]
د. الرابع: قال أبو العالية: هو الهجرة.
هـ. الخامس: أنه الجهاد وهو قول الضحاك ومحمد بن إسحاق، قال: لأن من قوله: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [آل عمران: 121] إلى تمام ستين آية نزل في يوم أحد فكان كل هذه الأوامر والنواهي مختصة بما يتعلق بباب الجهاد.
و. السادس: قال سعيد بن جبير: إنها التكبيرة الأولى.
ز. السابع: قال عثمان: إنها الصلوات الخمس.
ح. الثامن: قال عكرمة: إنها جميع الطاعات، لأن اللفظ عام فيتناول الكل.
ط. التاسع: قال الأصم: سارعوا، أي بادروا إلى التوبة من الربا والذنوب، والوجه فيه أنه تعالى نهى أولا عن الربا، ثم قال ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ فهذا يدل على أن المراد منه المسارعة في ترك ما تقدم النهي عنه.
ي. والأولى ما تقدم من وجوب حمله على أداء الواجبات والتوبة عن جميع المحظورات، لأن اللفظ عام فلا وجه في تخصيصه.
4. ثم إنه تعالى بين أنه كما تجب المسارعة إلى المغفرة فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة، وإنما فصل بينهما لأن الغفران معناه إزالة العقاب، والجنة معناها إيصال الثواب، فجميع بينهما للإشعار بأنه لا بد للمكلف من تحصيل الأمرين، فأما وصف الجنة بأن عرضها السماوات فمعلوم أن ذلك ليس بحقيقة لأن نفس السماوات لا تكون عرضا للجنة، فالمراد كعرض السماوات والأرض.
5. سؤال وإشكال: ما معنى أن عرضها مثل عرض السماوات والأرض والجواب: فيه وجوه:
أ. الأول: أن المراد لو جعلت السماوات والأرضون طبقا طبقا بحيث يكون كل واحدة من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ، ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة، وهذا غاية في السعة لا يعلمها إلا الله.
ب. الثاني: أن الجنة التي يكون عرضها مثل عرض السماوات والأرض إنما تكون للرجل الواحد لأن الإنسان إنما يرغب فيما يصير ملكا، فلا بد وأن تكون الجنة المملوكة لكل واحد مقدارها هذا.
ج. الثالث: قال أبو مسلم: وفيه وجه آخر وهو أن الجنة لو عرضت بالسماوات والأرض على سبيل البيع لكانتا ثمنا للجنة، تقول إذا بعت الشيء بالشيء الآخر عرضته عليه وعارضته به، فصار العرض يوضع موضع المساواة بين الشيئين في القدر، وكذا أيضا معنى القيمة لأنها مأخوذة من مقاومة الشيء بالشيء حتى يكون كل واحد منهما مثلا للآخر.
د. الرابع: المقصود المبالغة في وصف سعة الجنة وذلك لأنه لا شيء عندنا أعرض منهما ونظيره قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ [هود: 107] فإن أطول الأشياء بقاء عندنا هو السماوات والأرض، فخوطبنا على وفق ما عرفناه، فكذا هاهنا.
6. سؤال وإشكال: لم خص العرض بالذكر؟ والجواب: فيه وجهان:
أ. الأول: أنه لما كان العرض ذلك، فالظاهر أن الطول يكون أعظم، ونظيره قوله: ﴿بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ [الرحمن: 54] وإنما ذكر البطائن لأن من المعلوم أنها تكون أقل حالا من الظهارة، فإذا كانت البطانة هكذا فكيف الظهارة؟ فكذا هاهنا إذا كان العرض هكذا فكيف الطول.
ب. الثاني: قال القفال: ليس المراد بالعرض هاهنا ما هو خلاف الطول، بل هو عبارة عن السعة كما تقول العرب: بلاد عريضة، ويقال هذه دعوى عريضة، أي واسعة عظيمة، والأصل فيه أن ما اتسع عرضه لم يضق، وما ضاق عرضه دق، فجعل العرض كناية عن السعة.
7. سؤال وإشكال: أنتم تقولون: الجنة في السماء فكيف يكون عرضها كعرض السماء؟ والجواب: من وجهين:
أ. الأول: أن المراد من قولنا إنها فوق السماوات وتحت العرش، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: في صفة الفردوس (سقفها عرش الرحمن)، وروي أن رسول هرقل سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: إنك تدعو إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين فأين النار؟ فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار)، والمعنى والله أعلم أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم، والليل في ضد ذلك الجانب، فكذا الجنة في جهة العلو النار في جهة السفل، وسئل أنس بن مالك عن الجنة: أفي الأرض أم في السماء؟ فقال: وأي أرض وسماء تسع الجنة، قيل فأين هي؟ قال: فوق السماوات السبع تحت العرش.
ب. الثاني: أن الذين يقولون الجنة والنار غير مخلوقتين الآن، بل الله تعالى يخلقهما بعد قيام القيامة، فعلى هذا التقدير لا يبعد أن تكون الجنة مخلوقة في مكان السماوات والنار في مكان الأرض والله أعلم.
8. ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ظاهره يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وقد سبق تقرير ذلك.
9. لما بين الله تعالى أن الجنة معدة للمتقين ذكر صفات المتقين حتى يتمكن الإنسان من اكتساب الجنة بواسطة اكتساب تلك الصفات:
أ. فالصفة الأولى، وهي ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ وفيه وجوه:
• الأول: أن المعنى أنهم في حال الرخاء واليسر والقدرة والعسر لا يتركون الإنفاق، وبالجملة فالسراء هو الغنى، والضراء هو الفقر، يحكى عن بعض السلف أنه ربما تصدق ببصلة، وعن عائشة أنها تصدقت بحبة عنب.
• الثاني: أن المعنى أنهم سواء كانوا في سرور أو في حزن أو في عسر أو في يسر فإنهم لا يدعون الإحسان إلى الناس.
• الثالث: المعنى أن ذلك الإحسان والإنفاق سواء سرهم بأن كان على وفق طبعهم، أو ساءهم بأن كان على خلاف طبعهم فإنهم لا يتركونه، وإنما افتتح الله بذكر الإنفاق لأنه طاعة شاقة ولأنه كان في ذلك الوقت أشرف الطاعات لأجل الحاجة اليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين.
ب. الصفة الثانية، وهي ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ يقال: كظم غيظه إذا سكت عليه ولم يظهره لا بقول ولا بفعل قال المبرد: تأويله أنه كتم على امتلائه منه، يقال: كظمت السقاء إذا ملأته وسددت عليه، ويقال: فلان لا يكظم على جرته إذا كان لا يحتمل شيئا، وكل ما سددت من مجرى ماء أو باب أو طريق فهو كظم، والذي يسد به يقال له الكظامة والسدادة، ويقال للقناة التي تجري في بطن الأرض كظامة، لا لامتلائها بالماء كامتلاء القرب المكظومة، ويقال: أخذ فلان بكظم فلان إذا أخذ بمجرى نفسه، لأنه موضع الامتلاء بالنفس، وكظم البعير كظم البعير كظوماً إذا أمسك على ما في جوفه ولم يجتر، ومعنى قوله: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ الذين يكفون غيظهم عن الإمضاء ويردون غيظهم في أجوافهم، وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم وهو كقوله: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ [الشورى: 37]، ومما ورد في فضله:
• قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا)
• وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم لأصحابه: (تصدقوا) فتصدقوا بالذهب والفضة والطعام، وأتاه الرجل بقشور التمر فتصدق به، وجاءه آخر فقال: والله ما عندي ما أتصدق به، ولكن أتصدق بعرضي، فلا أعاقب أحدا بما يقوله في حديثه، فوفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من قوم ذلك الرجل وفد، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لقد تصدق منكم رجل بصدقة ولقد قبلها الله منه تصدق بعرضه)
• وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه زوجه الله من الحور العين حيث يشاء)
• وقال: (ما من جرعتين أحب إلى الله من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بصبر وحسن عزاء ومن جرعة غيظ كظمها)
• وقال: (ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب)
ج. الصفة الثالثة، وهي ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ قال القفال:
• يحتمل أن يكون هذا راجعا إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا، فنهي المؤمنون عن ذلك وندبوا إلى العفو عن المعسرين، قال تعالى عقيب قصة الربا والتداين ﴿وَإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 280] ويحتمل أن يكون كما قال في الدية: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ [البقرة: 178] إلى قوله: ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 280]
• ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين مثلوا بحمزة وقال: (لأمثلن بهم)، فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة، فكان تركه فعل ذلك عفوا، قال تعالى في هذه القصة ﴿وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَخَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل: 126]، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه)، وروي عن عيسى بن مريم صلوات الله عليه: ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذلك مكافأة انما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك.
10. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ يجوز أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون، وأن تكون للعهد فيكون إشارة إلى هؤلاء، والإحسان إلى الغير إما أن يكون بإيصال النفع اليه أو بدفع الضرر عنه:
أ. أما إيصال النفع اليه فهو المراد بقوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ ويدخل فيه إنفاق العلم، وذلك بأن يشتغل بتعليم الجاهلين وهداية الضالين، ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات.
ب. وأما دفع الضرر عن الغير فهو إما في الدنيا وهو أن لا يشتغل بمقابلة تلك الإساءة أخرى، وهو المراد بكظم الغيظ، وإما في الآخرة وهو أن يبرئ ذمته عن التبعات والمطالبات في الآخرة، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾
11. صارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على جميع جهات الإحسان إلى الغير، ولما كانت هذه الأمور الثلاثة مشتركة في كونها إحسانا إلى الغير ذكر ثوابها فقال: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ فإن محبة الله للعبد أعم درجات الثواب.
12. في علاقة قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بما قبله وجهان:
أ. الأول: أنه تعالى لما وصف الجنة بأنها معدة للمتقين بين أن المتقين قسمان:
• أحدهما: الذين أقبلوا على الطاعات والعبادات، وهم الذين وصفهم الله بالإنفاق في السراء والضراء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس.
• ثانيهما: الذين أذنبوا ثم تابوا، وهو المراد بقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ وبين تعالى أن هذه الفرقة كالفرقة الأولى في كونها متقية، وذلك لأن المذنب إذا تاب عن الذنب صار حاله كحال من لم يذنب قط في استحقاق المنزلة والكرامة عند الله.
ب. الثاني: أنه تعالى ندب في الآية الأولى إلى الإحسان إلى الغير، وندب في هذه الآية إلى الإحسان إلى النفس، فإن المذنب العاصي إذا تاب كانت تلك التوبة إحساناً منه إلى نفسه.
13. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾:
أ. روى ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في رجلين، أنصاري وثقفي، والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كان قد آخى بينهما، وكانا لا يفترقان في أحوالهما، فخرج الثقفي مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بالقرعة في السفر، وخلف الأنصاري على أهله ليتعاهدهم، فكان يفعل ذلك ثم قام إلى امرأته ليقبلها فوضعت كفها على وجهها، فندم الرجل، فلما وافى الثقفي مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لم ير الأنصاري، وكان قد هام في الجبال للتوبة، فلما عرف الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم سكت حتى نزلت هذه الآية.
ب. وقال ابن مسعود: قال المؤمنون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا، فكان أحدهم إذا أذنب ذنباً أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره: اجدع أنفك، افعل كذا، فأنزل الله تعالى هذه الآية وبين أنهم أكرم على الله منهم حيث جعل كفارة ذنبهم الاستغفار.
14. الفاحشة هاهنا نعت محذوف، والتقدير: فعلوا فعلة فاحشة، وذكروا في الفرق بين الفاحشة وبين ظلم النفس وجوها:
أ. الأول: قال الزمخشري: الفاحشة ما يكون فعله كاملا في القبح، وظلم النفس: هو أي ذنب كان مما يؤاخذ الإنسان به.
ب. الثاني: أن الفاحشة هي الكبيرة، وظلم النفس، هي الصغيرة، والصغيرة يجب الاستغفار منها، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مأموراً بالاستغفار وهو قوله: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: 19] وما كان استغفاره دالا على الصغائر بل على ترك الأفضل.
ج. الثالث: الفاحشة: هي الزنا، وظلم النفس: هي القبلة واللمسة والنظرة، وهذا على قول من حمل الآية على السبب الذي رويناه، ولأنه تعالى سمى الزنا فاحشة، فقال تعالى: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً﴾ [الإسراء: 32]
15. في قوله تعالى: ﴿ذَكَرُوا اللهَ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: أن المعنى ذكروا وعيد الله أو عقابه أو جلاله الموجب للخشية والحياء منه، فيكون من باب حذف المضاف، والذكر هاهنا هو الذي ضد النسيان وهذا معنى قول الضحاك، ومقاتل، والواقدي، فإن الضحاك قال: ذكروا العرض الأكبر على الله، ومقاتل، والواقدي قال تفكروا أن الله سائلهم، وذلك لأنه قال بعد هذه الآية ﴿فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ وهذا يدل على أن الاستغفار كالأثر، والنتيجة لذلك الذكر، ومعلوم أن الذكر الذي يوجب الاستغفار ليس إلا ذكر عقاب الله، ونهيه ووعيده، ونظير هذه الآية قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201]
ب. الثاني: أن المراد بهذا الذكر ذكر الله بالثناء والتعظيم والإجلال، وذلك لأن من أراد أن يسأل الله مسألة، فالواجب أن يقدم على تلك المسألة الثناء على الله، فهنا لما كان المراد الاستغفار من الذنوب قدموا عليه الثناء على الله تعالى، ثم اشتغلوا بالاستغفار عن الذنوب.
16. ﴿فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ المراد منه الإتيان بالتوبة على الوجه الصحيح، وهو الندم على فعل ما مضى مع العز على ترك مثله في المستقبل، فهذا هو حقيقة التوبة، فأما الاستغفار باللسان، فذاك لا أثر له في إزالة الذنب، بل يجب إظهار هذا الاستغفار لإزالة التهمة، ولإظهار كونه منقطعاً إلى الله تعالى، وقوله: ﴿لِذُنُوبِهِمْ﴾ أي لأجل ذنوبهم.
17. ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾ المقصود منه أن لا يطلب العبد المغفرة إلا منه، وذلك لأنه تعالى هو القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة، فكان هو القادر على إزالة ذلك العقاب عنه، فصح أنه لا يجوز طلب الاستغفار إلا منه، ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾ جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، والتقدير: فاستغفروا لذنوبهم ولم يصروا على ما فعلوا.
18. في قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ عقب قوله: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ وجهان:
أ. الأول: أنه حال من فعل الإصرار، والتقدير: ولم يصروا على ما فعلوا من الذنوب حال ما كانوا عالمين بكونها محظورة محرمة لأنه قد يعذر من لا يعلم حرمة الفعل، أما العالم بحرمته فإنه لا يعذر في فعله ألبتة.
ب. الثاني: أن يكون المراد منه العقل والتمييز والتمكين من الاحتراز من الفواحش فيجري مجرى قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (رفع القلم عن ثلاث)
19. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ والمعنى أن المطلوب أمران:
أ. الأول: الأمن من العقاب وإليه الإشارة بقوله: ﴿مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾
ب. الثاني: إيصال الثواب اليه وهو المراد بقوله: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾
20. ثم بين تعالى أن الذي يحصل لهم من ذلك وهو الغفران والجنات يكون أجراً لعملهم وجزاء عليه بقوله: ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ قال القاضي: وهذا يبطل قول من قال إن الثواب تفضل من الله وليس بجزاء على عملهم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/366.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَسَارِعُوا﴾ قرأ نافع وابن عامر (سارعوا) بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام، وقرأ باقي السبعة ﴿وَسَارِعُوا﴾، وقال أبو علي: كلا الأمرين شائع مستقيم، فمن قرأ بالواو فلأنه عطف الجملة على الجملة، ومن ترك الواو فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى مستغنية بذلك عن العطف بالواو.
2. المسارعة: المبادرة، وهي مفاعلة، وفي الآية حذف، أي سارعوا إلى ما يوجب المغفرة وهي الطاعة، قال أنس ابن مالك ومكحول في تفسير: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾: معناه إلى تكبيرة الإحرام، وقال علي بن أبي طالب: إلى أداء الفرائض، عثمان بن عفان: إلى الإخلاص، الكلبي: إلى التوبة من الربا، وقيل: إلى الثبات في القتال، وقيل غير هذا، والآية عامة في الجميع، ومعناها معنى ﴿استبقوا الخيرات﴾ [البقرة] وقد تقدم.
3. ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ تقديره كعرض فحذف المضاف، كقوله: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان] أي إلا كخلق نفس واحدة وبعثها، قال الشاعر:
çحسبت بغام راحلتي عناقا...وما هي ويب غيرك بالعناقé
يريد صوت عناق، نظيره في سورة الحديد ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد] واختلف العلماء في تأويله:
أ. فقال ابن عباس: تقرن السماوات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض، فذلك عرض الجنة، ولا يعلم طولها إلا الله، وهذا قول الجمهور، وذلك لا ينكر، فإن في حديث أبي ذر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض وما الكرسي في العرش إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، فهذه مخلوقات أعظم بكثير جدا من السماوات والأرض، وقدرة الله أعظم من ذلك كله.
ب. وقال الكلبي: الجنان أربعة: جنة عدن وجنة المأوى وجنة الفردوس وجنة النعيم، وكل جنة منها كعرض السماء والأرض لو وصل بعضها ببعض.
ج. وقال إسماعيل السدي: لو كسرت السماوات والأرض وصرن خردلا، فبكل خردلة جنة عرضها كعرض السماء والأرض.
د. وفي الصحيح: إن أدنى أهل الجنة منزلة من يتمنى ويتمنى حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله تعالى: (لك ذلك وعشرة أمثال) رواه أبو سعيد الخدري، خرجه مسلم وغيره.
هـ. وقال يعلى بن أبي مرة: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بحمص شيخا كبيرا قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بكتاب هرقل، فناول الصحيفة رجلا عن يساره، قال: فقلت من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا: معاوية، فإذا كتاب صاحبي: إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار)، وبمثل هذه الحجة استدل عمر على اليهود حين قالوا له: أرأيت قولكم ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ فأين النار؟ فقالوا له: لقد نزعت بما في التوراة.
4. نبه تعالى بالعرض على الطول لأن الغالب أن الطول يكون أكثر من العرض، والطول إذا ذكر لا يدل على قدر العرض، قال الزهري: إنما وصف عرضها، فأما طولها فلا يعلمه إلا الله، وهذا كقول تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ [الرحمن] فوصف البطانة بأحسن ما يعلم من الزينة، إذ معلوم أن الظواهر تكون أحسن وأتقن من البطائن، وتقول العرب: بلاد عريضة، وفلاة عريضة، أي واسعة، قال الشاعر:
çكأن بلاد الله وهي عريضة...على الخائف المطلوب كفة حابلé
وقال قوم: الكلام جار على مقطع العرب من الاستعارة، فلما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى حسنت العبارة عنها بعرض السماوات والأرض، كما تقول للرجل: هذا بحر، ولشخص كبير من الحيوان: هذا جبل، ولم تقصد الآية تحديد العرض، ولكن أراد بذلك أنها أوسع شي رأيتموه.
5. عامة العلماء على أن الجنة مخلوقة موجودة: لقوله ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ وهو نص حديث الإسراء وغيره في الصحيحين وغيرهما، وقال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: إنهما غير مخلوقتين في وقتنا، وإن الله تعالى إذا طوى السماوات والأرض ابتدأ خلق الجنة والنار حيث شاء، لأنهما دار جزاء بالثواب والعقاب، فخلقتا بعد التكليف في وقت الجزاء، لئلا تجتمع دار التكليف ودار الجزاء في الدنيا، كما لم يجتمعا في الآخرة، وقال ابن فورك: الجنة يزاد فيها يوم القيامة، قال ابن عطية: وفي هذا متعلق لمنذر بن سعيد وغيره ممن قال: إن الجنة لم تخلق بعد، قال ابن عطية: (وقول ابن فورك يزاد فيها) إشارة إلى موجود، لكنه يحتاج إلى سند يقطع العذر في الزيادة، قلت: صدق ابن عطية فيما قال: وإذا كانت السماوات السبع والأرضون السبع بالنسبة إلى الكرسي كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض، والكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، فالجنة الآن على ما هي عليه في الآخرة عرضها كعرض السماوات والأرض، إذ العرش سقفها، حسب ما ورد في صحيح مسلم، ومعلوم أن السقف يحتوي على ما تحته ويزيد، وإذا كانت المخلوقات كلها بالنسبة إليه كالحلقة فمن ذا الذي يقدره ويعلم طوله وعرضه إلا الله خالقه الذي لا نهاية لقدرته، ولا غاية لسعة مملكته، تعالى.
6. ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ﴾ هذا من صفة المتقين الذين أعدت لهم الجنة، وظاهر الآية أنها مدح بفعل المندوب إليه، و﴿السَّرَّاءِ﴾ اليسر ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ العسر، قاله ابن عباس والكلبي ومقاتل، وقال عبيد بن عمير والضحاك: السراء والضراء الرخاء والشدة، ويقال في حال الصحة والمرض، وقيل: في السراء في الحياة، وفي الضراء يعني يوصي بعد الموت، وقيل: في السراء في العرس والولائم، وفي الضراء في النوائب والمآتم، وقيل: في السراء النفقة التي تسركم، مثل النفقة على الأولاد والقرابات، والضراء على الأعداء، ويقال: في السراء ما يضيف به الفتى ويهدى إليه، والضراء ما ينفقه على أهل الضر ويتصدق به عليهم، قلت: ـ والآية تعم.
7. ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ كظم الغيظ رده في الجوف، يقال: كظم غيظه أي سكت عليه ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بعدوه، وكظمت السقاء أي ملائه وسددت عليه، والكظامة ما يسد به مجرى الماء، ومنه الكظام للسير الذي يسد به فم الزق والقربة، وكظم البعير جرته إذا ردها في جوفه، وقد يقال لحبسه الجرة قبل أن يرسلها إلى فيه: كظم، حكاه الزجاج، يقال: كظم البعير والناقة إذا لم يجترا، ومنه قول الراعي:
çفأفضن بعد كظومهن بجرة...من ذي الأبارق إذ رعين حقيلاé
الحقيل: موضع، والحقيل: نبت، وقد قيل: إنها تفعل ذلك عند الفزع والجهد فلا تجتر، قال أعشى باهلة يصف رجلا نحارا للإبل فهي تفزع منه:
çقد تكظم البزل منه حين تبصره...حتى تقطع في أجوافها الجررé
ومنه: رجل كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئا غما وحزنا، وفي التنزيل: ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [يوسف:]، ﴿ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [النحل]،﴿إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ [القلم]
8. الغيظ أصل الغضب، وكثيرا ما يتلازمان لكن فرقان ما بينهما، أن الغيظ لا يظهر على الجوارح، بخلاف الغضب فإنه يظهر في الجوارح مع فعل ما لأبد، ولهذا جاء إسناد الغضب إلى الله تعالى إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم، وقد فسر بعض الناس الغيظ بالغضب، وليس بجيد، والله أعلم.
9. ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ العفو عن الناس أجل ضروب فعل الخير، حيث يجوز للإنسان أن يعفو وحيث يتجه حقه، وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه، واختلف في معنى ﴿عَنِ النَّاسِ﴾، فقال أبو العالية والكلبي والزجاج: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ يريد عن المماليك، قال ابن عطية: وهذا حسن على جهة المثال، إذ هم الخدمة فهم يذنبون كثيرا والقدرة عليهم متيسرة، وإنفاذ العقوبة سهل، فلذلك مثل هذا المفسر به، وروي عن ميمون بن مهران أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارة، وعنده أضياف فعثرت فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، استعمل قول الله تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، قال لها: قد فعلت، فقالت: اعمل بما بعده ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾، فقال: قد عفوت عنك، فقالت الجارية: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، قال ميمون: قد أحسنت إليك، فأنت حرة لوجه الله تعالى، وروي عن الأحنف بن قيس مثله، وقال زيد ابن سلم: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ عن ظلمهم وإساءتهم، وهذا عام، وهو ظاهر الآية، وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال عند ذلك: (إن هؤلاء من أمتي قليل إلا من عصمه الله وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت)
10. مدح الله تعالى الذين يغفرون عند الغضب وأثنى عليهم فقال: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ [الشورى]، وأثنى على الكاظمين الغيظ بقوله: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾، وأخبر أنه يحبهم بإحسانهم في ذلك، ووردت في كظم الغيظ والعفو عن الناس وملك النفس عند الغضب أحاديث، وذلك من أعظم العبادة وجهاد النفس، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجرا من جرعة غيظ في الله)، وروى أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، ما أشد من كل شي؟ قال: ﴿غَضِبَ اللهُ﴾، قال فما ينجي من غضب الله؟ قال: لا تغضب)، قال العرجي:
çوإذا غضبت فكن وقورا كاظما...للغيظ تبصر ما تقول وتسمع
فكفى به شرفا تبصر ساعة...يرضى بها عنك الإله وترفعé
وقال عروة بن الزبير في العفو:
çلن يبلغ المجد أقوام وإن شرفوا...حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مشرقة...لا عفو ذل ولكن عفو إكرامé
وروى أبو داوود وأبو عيسى الترمذي عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء) قال: هذا حديث حسن غريب، وروى أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان أجره على الله فليدخل الجنة فيقال من ذا الذي أجره على الله فيقوم العافون عن الناس يدخلون الجنة بغير حساب)، ذكره الماوردي، وقال ابن المبارك: كنت عند المنصور جالسا فأمر بقتل رجل، فقلت: يا أمير المؤمنين، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد بين يدي الله تعالى من كانت له يد عند الله فليتقدم فلا يتقدم إلا من عفا عن ذنب)، فأمر بإطلاقه.
11. ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ أي يثيبهم على إحسانهم، قال سري السقطي: الإحسان أن تحسن وقت الإمكان، فليس كل وقت يمكنك الإحسان، قال الشاعر:
çبادر بخير إذا ما كنت مقتدرا...فليس في كل وقت أنت مقتدرé
وقال أبو العباس الجماني فأحسن:
çليس في كل ساعة وأوان...تتهيأ صنائع الإحسان
وإذا أمكنت فبادر إليها...حذرا من تعذر الإمكانé
12. ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ ذكر الله تعالى في هذه الآية صنفا، هم دون الصنف الأول فألحقهم به برحمته ومنه، فهؤلاء هم التوابون:
أ. قال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت هذه الآية في نبهان التمار ـ وكنيته أبو مقبل ـ أتته امرأة حسناء باع منها تمرا، فضمها إلى نفسه وقبلها فندم على ذلك، فأتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكر ذلك له، فنزلت هذه الآية.. وهذا عام، وقد تنزل الآية بسبب خاص ثم تتناول جميع من فعل ذلك أو أكثر منه،
ب. وقد قيل: إن سبب نزولها أن ثقفيا خرج في غزاة وخلف صاحبا له أنصاريا على أهله، فخانه فيها بأن اقتحم عليها فدفعت عن نفسها فقبل يدها، فندم على ذلك فخرج يسيح في الأرض نادما تائبا، فجاء الثقفي فأخبرته زوجته بفعل صاحبه، فخرج في طلبه فأتى به إلى أبي بكر وعمر رجاء أن يجد عندهما فرجا فوبخاه، فأتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبره بفعله، فنزلت هذه الآية، والعموم أولى للحديث.
ج. وروي عن ابن مسعود أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا، حيث كان المذنب منهم تصبح عقوبته [مكتوبة] على باب داره، وفي رواية: كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره: اجدع أنفك، اقطع أذنك، افعل كذا، فأنزل الله تعالى هذه الآية توسعة ورحمة وعوضا من ذلك الفعل ببني إسرائيل، ويروى أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية.
13. الفاحشة تطلق على كل معصية، وقد كثر اختصاصها بالزنا حتى فسر جابر بن عبد الله والسدي هذه الآية بالزنا، و﴿أَوْ﴾ في قوله: ﴿أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ قيل هي بمعنى الواو، والمراد ما دون الكبائر.
14. ﴿ذَكَرُوا اللهَ﴾ معناه بالخوف من عقابه والحياء منه، الضحاك: ذكروا العرض الأكبر على الله، وقيل تفكروا في أنفسهم أن الله سائلهم عنه، قاله الكلبي ومقاتل، وعن مقاتل أيضا: ذكروا الله باللسان عند الذنوب.
15. ﴿فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ أي طلبوا الغفران لأجل ذنوبهم، وكل دعاء فيه هذا المعنى أو لفظه فهو استغفار، وقد تقدم في صدر هذه السورة سيد الاستغفار، وأن وقته الأسحار، فالاستغفار عظيم وثوابه جسيم، حتى لقد روى الترمذي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له، وإن كان قد فر من الزحف، وروى مكحول عن أبي هريرة قال: ما رأيت أكثر استغفارا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال مكحول: ما رأيت أكثر استغفارا من أبي هريرة، وكان مكحول كثير الاستغفار، قال علماؤنا: الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار ويثبت معناه في الجنان، لا التلفظ باللسان، فأما من قال بلسانه: أستغفر الله، وقلبه مصر على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار، وصغيرته لاحقة بالكبائر، وروي عن الحسن البصري أنه قال: استغفارنا يحتاج إلى استغفار، قلت: هذا يقوله في زمانه، فكيف في زماننا هذا الذي يرى فيه الإنسان مكبا على الظلم! حريصا عليه لا يقلع، والسبحة في يده زاعما أنه يستغفر الله من ذنبه وذلك استهزاء منه واستخفاف، وفي التنزيل: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ [البقرة]، وقد تقدم.
16. ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾ أي ليس أحد يغفر المعصية ولا يزيل عقوبتها إلا الله، ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا﴾ أي ولم يثبتوا ويعزموا على ما فعلوا، وقال مجاهد: أي ولم يمضوا، وقال معبد بن صبيح: صليت خلف عثمان وعلي إلى جانبي، فأقبل علينا فقال: صليت بغير وضوء ثم ذهب فتوضأ وصلى.
17. ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، الإصرار هو العزم بالقلب على الأمر وترك الإقلاع عنه، ومنه صر الدنانير أي الربط عليها، قال الحطيئة يصف الخيل:
çعوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا...علالتها بالمحصدات أصرتé
أي ثبتت على عدوها، وقال قتادة: الإصرار الثبوت على المعاصي، قال الشاعر:
çيصر بالليل ما تخفي شواكله...يا ويح كل مصر القلب ختارé
قال سهل بن عبد الله: الجاهل ميت، والناسي نائم، والعاصي سكران، والمصر هالك، والإصرار هو التسويف، والتسويف أن يقول: أتوب غدا، وهذا دعوى النفس، كيف يتوب غدا وغدا لا يملكه!، وقال غير سهل: الإصرار هو أن ينوي أن يتوب فإذا نوى التوبة النصوح خرج عن الإصرار، وقول سهل أحسن، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (لا توبة مع إصرار)
18. قال علماؤنا: الباعث على التوبة وحل الإصرار إدامة الفكر في كتاب الله العزيز الغفار، وما ذكره الله سبحانه من تفاصيل الجنة ووعد به المطيعين، وما وصفه من عذاب النار وتهدد به العاصين، ودام على ذلك حتى قوي خوفه ورجاؤه فدعا الله رغبا ورهبا، والرغبة والرهبة ثمرة الخوف والرجاء، يخاف من العقاب ويرجو الثواب، والله الموفق للصواب، وقد قيل: (إن الباعث على ذلك تنبيه إلهي ينبه به من أراد سعادته، لقبح الذنوب وضررها إذ هي سموم مهلكة)، وهذا خلاف في اللفظ لا في المعنى، فإن الإنسان لا يتفكر في وعد الله ووعيده إلا بتنبيهه، فإذا نظر العبد بتوفيق الله تعالى إلى نفسه فوجدها مشحونة بذنوب اكتسبها وسيئات اقترفها، وانبعث منه الندم على ما فرط، وترك مثل ما سبق مخافة عقوبة الله تعالى صدق عليه أنه تائب، فإن لم يكن كذلك كان مصرا على المعصية وملازما لأسباب الهلكة، قال سهل بن عبد الله: علامة التائب أن يشغله الذنب على الطعام والشراب، كالثلاثة الذين خلفوا.
19. في قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أقوال:
أ. فقيل: أي يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها، قال النحاس: وهذا قول حسن.
ب. وقيل: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أني أعاقب على الإصرار.
ج. وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنهم إن تابوا تاب الله عليهم.
د. وقيل: ﴿يَعْلَمُونَ﴾ أنهم إن استغفروا غفر لهم.
هـ. وقيل: ﴿يَعْلَمُونَ﴾ بما حرمت عليهم، قاله ابن إسحاق.
و. وقال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبي: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أن الإصرار ضار، وأن تركه خير من التمادي.
ز. وقال الحسن بن الفضل: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أن لهم ربا يغفر الذنب.. وهذا أخذه من حديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يحكي عن ربه تعالى قال: (أذنب عبدا ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي ـ فذكر مثله مرتين، وفي آخره: اعمل ما شئت فقد غفرت لك) أخرجه مسلم، وفيه دليل على صحة التوبة بعد نقضها بمعاودة الذنب، لأن التوبة الأولى طاعة وقد انقضت وصحت، وهو محتاج بعد مواقعة الذنب الثاني إلى توبة أخرى مستأنفة، والعود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه، لأنه أضاف إلى الذنب نقض التوبة، فالعود إلى التوبة أحسن من ابتدائها، لأنه أضاف إليها ملازمة الإلحاح بباب الكريم، وإنه لا غافر للذنوب سواه، وقوله في آخر الحديث (اعمل ما شئت) أمر معناه الإكرام في أحد الأقوال، فيكون من باب قوله: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ﴾ [الحجر]، وآخر الكلام خبر عن حال المخاطب بأنه مغفور له ما سلف من ذنبه، ومحفوظ إن شاء الله تعالى فيما يستقبل من شأنه، ودلت الآية والحديث على عظيم فائدة الاعتراف بالذنب والاستغفار منه، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه) أخرجاه في الصحيحين، وقال:
çيستوجب العفو الفتى إذا اعترف...بما جنى من الذنوب واقترفé
وقال آخر:
çأقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه...إن الجحود جحود الذنب ذنبانé
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم)، وهذه فائدة اسم الله تعالى الغفار والتواب، على ما بيناه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.
20. الذنوب التي يتاب منها إما كفر أو غيره، فتوبة الكافر إيمانه مع ندمه على ما سلف من كفره، وليس مجرد الإيمان نفس توبة، وغير الكفر إما حق لله تعالى، وإما حق لغيره، فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك، غير أن منها ما لم يكتف الشرع فيها بمجرد الترك، بل أضاف إلى ذلك في بعضها قضاء كالصلاة والصوم، ومنها ما أضاف إليها كفارة كالحنث في الأيمان والظهار وغير ذلك، وأما حقوق الآدميين فلا بد من إيصالها إلى مستحقيها، فإن لم يوجدوا تصدق عنهم، ومن لم يجد السبيل لخروج ما عليه لإعسار فعفو الله مأمول، وفضله مبذول، فكم ضمن من التبعات وبدل من السيئات بالحسنات.
21. ليس على الإنسان إذا لم يذكر ذنبه ويعلمه أن يتوب منه بعينه، ولكن يلزمه إذا ذكر ذنبا تاب منه، وقد تأول كثير من الناس فيما ذكر شيخنا أبو محمد عبد المعطي الإسكندراني أن الإمام المحاسبي يرى أن التوبة من أجناس المعاصي لا تصح، وأن الندم على جملتها لا يكفي، بل لأبد أن يتوب من كل فعل بجارحته وكل عقد بقلبه على التعيين، ظنوا ذلك من قوله، وليس هذا مراده، ولا يقتضيه كلامه، بل حكم المكلف إذا عرف حكم أفعاله، وعرف المعصية من غيرها، صحت منه التوبة من جملة ما عرف، فإنه إن لم يعرف كون فعله الماضي معصية لا يمكنه أن يتوب منه لا على الجملة ولا على التفصيل، ومثاله رجل كان يتعاطى بابا من أبواب الربا ولا يعرف أنه ربا فإذا سمع كلام الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة] عظم عليه هذا التهديد، وظن أنه سالم من الربا، فإذا علم حقيقة الربا الآن، ثم تفكر فيما مضى من أيامه وعلم أنه لابس منه شيئا كثيرا في أوقات متقدمة، صح أن يندم عليه الآن جملة، ولا يلزمه تعيين أوقاته، وهكذا كل ما واقع من الذنوب والسيئات كالغيبة والنميمة وغير ذلك من المحرمات التي لم يعرف كونها محرمة، فإذا فقه العبد وتفقد ما مضى من كلامه تاب من ذلك جملة، وندم على ما فرط فيه من حق الله تعالى، وإذا استحل من كان ظلمه فحالله على الجملة وطابت نفسه بترك حقه جاز، لأنه من باب هبة المجهول، هذا مع شح العبد وحرصه على طلب حقه، فكيف بأكرم الأكرمين المتفضل بالطاعات وأسبابها والعفو عن المعاصي صغارها وكبارها، قال شيخنا: هذا مراد الإمام، والذي يدل عليه كلامه لمن تفقده، وما ظنه به الظان من أنه لا يصح الندم إلا على فعل فعل وحركة حركة وسكنة سكنة على التعيين هو من باب تكليف مالا يطاق، الذي لم يقع شرعا وإن جاز عقلا، ويلزم عنه أن يعرف كم جرعة جرعها في شرب الخمر، وكم حركة تحركها في الزنا، وكم خطوة مشاها إلى محرم، وهذا مالا يطيقه أحد، ولا تتأتى منه توبة على التفصيل.
22. في قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا﴾ حجة واضحة ودلالة قاطعة لما قال سيف السنة، ولسان الأمة القاضي أبو بكر بن الطيب: أن الإنسان يؤاخذ بما وطن عليه بضميره، وعزم عليه بقلبه من المعصية، وفي التنزيل: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج] وقال: ﴿فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾ [القلم]، فعوقبوا قبل فعلهم بعزمهم، وفي البخاري (إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار) قالوا: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصا على قتل صاحبه)، فعلق الوعيد على الحرص وهو العزم وألغى إظهار السلاح، وأنص من هذا ما خرجه الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري وصححه مرفوعا: (إنما الدنيا لأربعة نفر رجل أعطاه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم الله فيه حقا فهذا أفضل المنازل، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو صادق النية يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فأجرهما سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يخبط في مال بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل به رحمه ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأخبث المنازل، ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما فهو يقول لو أن مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فوزرهما سواء)، وهذا الذي صار إليه القاضي هو الذي عليه عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، ولا يلتفت إلى خلاف من زعم أن ما يهم الإنسان به وإن وطن عليه لا يؤاخذ به، ولا حجة له في قول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه فإن عملها كتبت سيئة واحدة) لأن معنى (فلم يعملها) فلم يعزم على عملها بدليل ما ذكرنا، ومعنى (فإن عملها) أي أظهرها أو عزم عليها بدليل ما وصفنا، وبالله توفيقنا،
23. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ رتب تعالى بفضله وكرمه غفران الذنوب لمن أخلص في توبته ولم يصر على ذنبه، ويكن أن يتصل هذا بقصة أحد، أي من فر ثم تاب ولم يصر فله مغفرة الله.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/204.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَسَارِعُوا﴾ عطف على أطيعوا، وقرأ نافع، وابن عامر: ﴿سارِعُوا﴾ بغير واو، وكذلك في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام، وقرأ الباقون: بالواو، قال أبو علي: كلا الأمرين سائغ مستقيم.
2. المسارعة: المبادرة، وفي الآية حذف، أي: سارعوا إلى ما يوجب المغفرة من الطاعات، وقوله: ﴿عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ أي: عرضها كعرض السماوات والأرض، ومثله الآية الأخرى: ﴿عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ وقد اختلف في معنى ذلك؛ فذهب الجمهور: إلى أنها تقرن السماوات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض فذلك عرض الجنة، ونبه بالعرض على الطول لأن الغالب أن الطول يكون أكثر من العرض، وقيل: إن هذا الكلام جاء على نهج كلام العرب من الاستعارة دون الحقيقة، وذلك أنها لمّا كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى، حسن التعبير عنها بعرض السماوات والأرض مبالغة، لأنهما أوسع مخلوقات الله سبحانه فيما يعلمه عباده، ولم يقصد بذلك التحديد.
3. السراء: اليسر، والضراء: العسر، وقد تقدّم تفسيرهما، وقيل: السراء: الرخاء، والضراء: الشدّة، وهو مثل الأول؛ وقيل: السراء في الحياة، والضراء بعد الموت.
4. ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ يقال: كظم غيظه: أي: سكت عليه ولم يظهره، ومنه كظمت السقاء: أي: ملأته، والكظامة: ما يسد به مجرى الماء، وكظم البعير جرّته: إذا ردّها في جوفه، وهو عطف على الموصول الذي قبله.
5. ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ أي: التاركين عقوبة من أذنب إليهم واستحق المؤاخذة، وذلك من أجلّ ضروب الخير، وظاهره العفو عن الناس سواء كانوا من المماليك أم لا، وقال الزجاج وغيره: المراد بهم: المماليك، واللام في المحسنين يجوز أن تكون للجنس، فيدخل فيه كل محسن من هؤلاء وغيرهم، ويجوز أن تكون للعهد، فيختص بهؤلاء، والأول أولى اعتبارا بعموم اللفظ لا بخصوص السياق، فيدخل تحته كل من صدر منه مسمى الإحسان، أيّ إحسان كان.
6. ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ هذا مبتدأ، وخبره: ﴿أُولَئِكَ﴾ وقيل: معطوف على المتقين، والأوّل أولى، وهؤلاء هم صنف دون الصنف الأوّل ملحقين بهم، وهم التوّابون.
7. الفاحشة: وصف لموصوف محذوف، أي: فعلة فاحشة، وهي تطلق على كل معصية، وقد كثر اختصاصها بالزنا، وقوله: ﴿أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: باقتراف ذنب من الذنوب؛ وقيل: أو: بمعنى الواو، والمراد ما ذكر، وقيل: الفاحشة: الكبيرة، وظلم النفس: الصغيرة؛ وقيل غير ذلك.
8. ﴿ذَكَرُوا اللهَ﴾ أي: بألسنتهم، أو أخطروه في قلوبهم، أو ذكروا وعده ووعيده ﴿فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ أي: طلبوا المغفرة لها من الله سبحانه، وتفسيره: بالتوبة، خلاف معناه لغة.
9. في الاستفهام بقوله: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾ من الإنكار ـ مع ما يتضمنه من الدلالة ـ على أنه المختص بذلك سبحانه دون غيره، أي: لا يغفر جنس الذنوب أحد إلا الله، وفيه ترغيب لطلب المغفرة منه سبحانه، وتنشيط للمذنبين أن يقفوا في مواقف الخضوع والتذلل، وهذه الجملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه.
10. ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ عطف على: فاستغفروا، أي: لم يقيموا على قبيح فعلهم، وقد تقدّم تفسير الإصرار، والمراد به هنا: العزم على معاودة الذنب، وعدم الإقلاع عنه بالتوبة منه.
11. ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ جملة حالية، أي: لم يصروا على فعلهم عالمين بقبحه.
12. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ﴾ الإشارة إلى المذكورين بقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾، وقوله: ﴿جَزَاؤُهُمْ﴾ بدل اشتمال من اسم الإشارة، وقوله: ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ خبر و﴿مِنْ رَبِّهِمُ﴾ متعلق بمحذوف وقع صفة لمغفرة، أي: كائنة من ربهم، وقوله: ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ المخصوص بالمدح محذوف، أي: أجرهم، أو ذلك المذكور، وقد تقدّم تفسير الجنات وكيفية جري الأنهار من تحتها.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/437.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ إلى موجبها؛ كترك الربا وسائر المعاصي، وكالإسلام، والتوبة، والإخلاص، والتوبة من الذنوب، وقضاء الدَّين، والجهاد، وتزويج البكر البالغة بقصد التقرُّب، ودفن الميِّت، وإكرام الضيف، وأداء الفرائض والنفل، والهجرة من موضع لا يجد فيه الإنسان إقامة دينه، وتكبير الإحرام عقب الإمام، والنفل من أسباب التوفيق للتوبة والجنَّة، كما قال:
2. ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالَارْضُ﴾ أي كعرضهما، والمراد الأرضون السبع، بأن يُوصَل بعضُها ببعض وتُجعل أرقَّ من الكاغد الرقيق جدًّا، بالجبال والشجر والنجوم التي فيها والقمرين، وعن ابن عبَّاس: تقرن كما تقرن الثياب، أو جنَّة الواحد، أو تمثيل للكثرة ولو كانت الجنَّة أوسع منهما، وإذا كان العرض كذلك فكيف الطول!؟، وجمع السماء لأنَّها أنواع، وأفرَد الأرضين لأنَّهنَّ جنس واحد هو التراب، وفي بعض الأخبار تخالُفُهنَّ.
3. ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ في الوجود على الصحيح، أو في وعد الله، سئل أنس عن الجنَّة أفي الأرض أم في السماء؟ فقال: (أيُّ أرض أو سماء تسع الجنَّة؟ بل فوق السماوات تحت العرش)، وقيل: في السماء الرابعة، وقيل: في السماء الدنيا، وقيل: في عالم آخر، وروي أَنَّ هرقل قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : إنَّك تدعو إلى جنَّة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال: (سبحان الله! فأين اللَّيل إذا جاء النهار؟) والمعنى أَنَّ النهار في جنب من العالم واللَّيل في جنب آخر، فكذا الجنَّة في جنب أعلى، والنار في جنب آخر أسفل، وأنَّ الله قادر أن يجعلها حيث شاء، كما قدر على جعل اللَّيل حيث شاء، وكذا سأل اليهود عمر فأجاب بذلك، فقالوا: إنَّ في التوراة مثلها، أي: (الجنَّة والنار حيث يشاء الله)، قال قتادة: (الجنَّة تحت العرش، والنار تحت الأرضين)، ويقال في قوله تعالى: ﴿وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [سورة الذاريات: 22] ﴿مَا تُوعَدُونَ﴾: الجنَّة، فالمراد: بابها في السماء، ولا ينافي أَنَّ طولها وعرضها أكبر من السماء.
4. صفات التقوى والإنفاق وما بعدهما لا توجد في الصبيان والمجانين، ولكن يدخلهم الله الجنَّة بفضله، كما أنَّه قد يموت من تاب من شرك أو فسق قبل تلك الأوصاف فيدخل الجنَّة، وأمَّا ما قيل من دخول الصبيان والمجانين جنَّة غير تلك، فيعارضه ما جاء أَنَّ الصبيان يدخلون الجنَّة مع آبائهم لتقرَّ أعينهم، وأنَّ أطفال المشركين خدم لأهل الجنَّة.
5. ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ﴾ ما تيسَّر بحسب ما قدروا عليه، ﴿فِي السَّرَّآءِ﴾ حالة الحسن، من فرح ورخاء وسعة وصحَّة، وفي الحياة وعلى الولد والقريب ونحو ذلك، ﴿وَالضَّرَّآءِ﴾ حالة السوء من حزن وشدَّة وضيق ومرض، وبعد الموت بالإيصاء، وعلى العدوِّ ونحو ذلك، والمراد لا يخلون من نفقة، ويروى أَنَّ عائشة # تصدَّقت بعنبة وقالت: (كم فيها من مثاقيل الذر)، تعني قوله تعالى: ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [سورة النساء: 40]
6. ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ الكافِّين أنفسهم عن المجازاة بنحو كلام سوء للصبر، بلا ظهور أثر له على البشرة أو مع ظهوره الضروريِّ مع القدرة عليها، كما تمنع القربة بوكائها من خروج مائها، روى أحمد وأبو داود وعبد الرزَّاق والطبري وغيرهم عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا)، وروى أحمد عن أنس عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله تبارك وتعالى على رؤوس الخلائق، حتَّى يخيِّره تعالى من أيِّ الحور شاء)، والغيظ: هيجان الطبع لرؤية ما يكره، أو لاستحضاره، وإن تبعه إرادة الانتقام فغضب، والغضب يظهر على الجوارح بخلاف الغيظ.
7. ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ لا يعاقبونهم، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنَّ هؤلاء في أمَّتي قليل إِلَّا من عصم الله)، وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت، ولا ينافي هذا أَنَّ هذه الأمَّة أفضل لأنَّه قد يكون في المفضول ما لم يكن في الفاضل، أو القلَّة باعتبار مقابلة هذه الأمَّة بالأمم كلِّها، فإنَّ ما فيها أقلُّ مِمَّا في مجموع الأمم كلِّها، ولا يصحُّ ما قيل: إنَّ القلَّة في الحديث تحتمل معنى العدم، وقد اجتمع ذلك في النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ رجع ابن أُبي عن أُحُد برجاله ولم يُظهِر صلّى الله عليه وآله وسلّم نفاقه لعامَّة المسلمين بل كظم، وعفا عن الرماة إذ فارقوا المركز، وعفا عن المشركين كلَّما أوحي إليه بإنْ شئتَ أُهلكوا.
8. قدَّم الإنفاقَ لأنَّ المال شقيق الروح، والكظمَ لأنَّ فيه ملْكَ النفس وقت الغضب، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ينادي مناد يوم القيامة: أين الذين كانت أجورهم على الله؟ فلا يقوم إِلَّا من عفا)، ورواه للرشيد ابن عيينة وقد غضب على رجل فخلَّاه، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من سرَّه أن يشرف له البنيان يوم القيامة وترفع له الدرجات فليعف عمَّن ظلمه، ويُعطِ من حرمه، ويَصِلْ من قطعه) رواه الطبرانيُّ عن أبي بن كعب.
9. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ المذكورين بالكظم والإنفاق والعفو وغيرهم، وقيل: المراد المذكورون، والإحسان: إتقان العمل، وقيل: الإنعام على الخلق، وقع إبريق من جارية تصبُّ الوَضوء على رأس عليِّ بن الحسين، فشجَّه، فقالت: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، قال: (كظمت غيظي)، قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾، قال: (عفوت)، قالت: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، قال: (أعتقتك لوجه الله)، وفي الحديث: (الإحسان أَن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك)
10. زعم عطاء أَنَّ المسلمين قالوا: يا رسول الله، بنو إسرائيل خير منَّا إذا أصبح أحدهم وجد مكتوبا على باب داره: (مخرجك من ذنبك أن تجدع أنفك)، فسكت صلّى الله عليه وآله وسلّم ؛ فنزل: ﴿سَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ إلى ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، فقال: (ألا أنبئكم بخير من ذلكم)، فقرأ ذلك، يعني: أَنَّ المغفرة بما ذكر في الآيات خير من المغفرة بنحو جذع الأنف، فأنتم خير منهم، وهؤلاء السائلون توهَّموا أَنَّ التصريح بجزاء الذنب أنَّه كذا تفضيل؛ لأنَّه يوقن أَنَّه مغفور، ونحن نرى ذلك تضييقا.
11. ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً﴾ الفعلة القبيحة شرعًا وعقلا، كالزنى والقتل، قولا أو فعلا أو عقدا، مِمَّا لا يتعدَّى إلى الغير أو يتعدَّى، والتاء للنقل عن الوصفيَّة، إذ تغلَّبت عليه الاسميَّة، ﴿اَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ﴾ مِمَّا دون ذلك مِمَّا لا يتعدَّى، أو يتعدَّى؛ كسرقة ثمرة أو حبَّة أو قُبلة، ﴿ذَكَرُواْ﴾ بقلوبهم، ﴿اللهَ﴾ عظمة حقِّه، وهو أَن يطاع ولا يُعصَى، أو عقابه، أو حكمه بالتحريم، أو سؤاله، أو غفرانه، ﴿فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ﴾ ندما وتوبة.
12. ﴿وَمَنْ يَّغْفِرُ الذُّنُوبَ﴾ الاستفهام نفي، ﴿إِلَّا اللهُ﴾ بدل من ضمير (يَغْفِرُ)، والجملة معترضة، ﴿وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ﴾ من الفواحش وظلم النفس، بل أقلعوا، ثمَّ إن عادوا أقلعوا وهكذا، ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أَنَّ ما فعلوه معصية، أي: لم يصرُّوا عالمين أنَّه معصية، وهذا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لمن لم يصله خبر المعصية، وأمَّا بعده فلا عذر، والجاهل دون العالم في المعصية، إِلَّا أنَّه قد يتعدَّى به الجهل إلى تحليل الحرام أو تحريم الحلال، والإصرار: العزم على العود، أو الاهتمام به، أو العزم، أو الاهتمام على أن لا يتوب مِمَّا فعل، ولو اعتقد أن لا يعود، ولا إصرار إن فعل ولم ينو أن لا يتوب أو أن يعود، وقيل: إن لم يتب في الحال فهو مصرٌّ.
13. آخى صلّى الله عليه وآله وسلّم بين ثقفيٍّ وأنصاريٍّ، فسافر معه صلّى الله عليه وآله وسلّم في غزوة، فاستخلف الأنصاريَّ على أهله، فدخل يوما دار الثقفيِّ فوافى زوجه عارية من مغتسل، فأراد قبلتها، فسترت وجهها بيدها فقبَّل يدها، وندم وخرج تائها نادما، ولَمَّا رجع من سفره بحث عنه فوجده في صحراء ساجدًا مستغفرا من ذنب، قائلا: خنت أخي، فقال له: أخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بذنبك فأخبره، وضمَّ ابنُ التيهان التمَّار امرأةً جاءته تشتري التمر وقبَّلها وندم، وأخبره صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزلت فيهما، وقال: (هي لكلِّ مسلم)، ويجوز أن تكون الآية تعريضا بقوم أصرُّوا وهم يعلمون، فلا تفيد أنَّه من أصرَّ بلا علم معذور، فإنَّ هذا لا يوجد بعد تمام الدين وانقطاع الوحي فيما يدرك بالعلم، ولو كان قد يسهل له إذا لم يكن جهله عن تقصير في طلب العلم به، أو يقدَّر: (وهم يعلمون أَنَّ الله يتوب على من تاب)، أو يعلمون المؤاخذة به وعفو الله.
14. ﴿أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الَانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ يدخلونها مقدَّرين الخلود، أو يجزون بها مقدَّرين الخلود، أو يعتبر ما في (جَزَآؤُهُم) من معنى يجزون.
15. الذين آمنوا ثلاث طبقات في هؤلاء الآيات: متَّقون، وتائبون، ومصرُّون، ودلَّت على أَنَّ الجنَّة للمتَّقين والتائبين دون المصرِّين؛ لأنَّه ولو لم يكن فيها الحصر لكن يتبادر ذلك مع أدلَّته من خارج، وهو التقييد بالتوبة في كثير من الآيات والأحاديث.
16. ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ المغفرة والجنَّات، والعمل: ترك المعاصي وفعل الطاعات، وذكر أحدهما مغنٍ؛ لأنَّ ترك الواجب معصية، فيجب ترك هذا الترك، وترك المعصية طاعة.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/5.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾ أي إلى ما يؤدي إليهما من الاستغفار والتوبة والأعمال الصالحة، وقوله: ﴿عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ أي كعرضهما، كما قال في سورة الحديد: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد: 21]، وفي العرض وجهان:
أ. الأول: أنه على حقيقته، وتخصيصه بالذكر تنبيها على اتساع طولها، فإن العرض في العادة أدنى من الطول، كما قال تعالى في صفة فرض الجنة: ﴿بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ [الرحمن: 54]، أي فما ظنك بظاهرها؟ فكذا هنا.
ب. الثاني: أنه مجاز عن السعة والبسطة، قال القفال: ليس المراد بالعرض هاهنا ما هو خلاف الطول، بل هو عبارة عن السعة، كما تقول العرب: بلاد عريضة، ويقال: هذه دعوى عريضة أي واسعة عظيمة، والأصل فيه أن ما اتسع عرضه لم يضق وما ضاق عرضه دق، فجعل العرض كناية عن السعة، وقال الزمخشريّ: المراد وصفها بالسعة والبسطة، فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه تعالى وأبسطه ـ والله أعلم.
2. ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ﴾ أي في حال الرخاء واليسر ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ أي في حال الضيقة والعسر، وإنما افتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس، فمخالفتها فيه منقبة شامخة ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ أي الممسكين عليه في نفوسهم، الكافّين عن إمضائه مع القدرة عليه، اتقاء التعدي فيه إلى ما وراء حقه، روى الإمام أحمد عن جارية بن قدامة السعديّ أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله قل لي قولا ينفعني وأقلل عليّ لعلّي أعيه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا تغضب، فأعاد عليه، حتى أعاد عليه مرارا، كل ذلك يقول: لا تغضب، انفرد به أحمد، وروى من طريق آخر أن رجلا قال يا رسول الله أوصني، قال لا تغضب، قال الرجل: ففكرت حين قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ما قال فإذا الغضب يجمع الشركله.
3. ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ أي ظلمهم لهم، ولو كانوا قد قتلوا منهم، فلا يؤاخذون أحدا بما يجني عليهم، ولا يبقى في أنفسهم موجدة، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ [الشورى: 37]، قال القفال: يحتمل أن يكون هذا راجعا إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا، فنهى المؤمنون عن ذلك، وندبوا إلى العفو عن المعسرين، قال تعالى عقيب قصة الربا والتداين: ﴿وإِنْ كانَ ذُ وعُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 280]، ويحتمل أن يكون كما قال تعالى في الدية: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ [البقرة: 178]، إلى قوله: ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾، ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين مثلوا بحمزة وقال: لأمثلنّ بهم، فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة، فكان تركه فعل ذلك عفوا، قال تعالى في هذه القصة: ﴿وإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ولَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَخَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل: 126] ـ انتهى ـ وظاهر أن عموم الآية مما يشمل كل ما ذكر، إذ لا تعيين ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ اللام إما للجنس، وهم داخلون فيه دخولا أوليا، وإما للعهد، عبر عنهم بالمحسنين إيذانا بأن النعوت المعدودة من باب الإحسان الذي هو الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفيّ المستلزم لحسنها الذاتيّ، وقد فسره صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها، أفاده أبو السعود.
4. ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ من السيئات الكبار ﴿أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ أي بأي نوع من الذنوب ﴿ذَكَرُوا اللهَ﴾ أي تذكروا حقه وعهده فاستحيوه وخافوه.
5. ﴿فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ أي لأجلها بالتوبة والإنابة إليه تعالى:
أ. قال البقاعيّ: ولما كان هذا مفهما أنه يغفر لهم لأنه غفار لمن تاب، أتبعه بتحقيق ذلك، ونفى القدرة عليه عن غيره، مرغبا في الإقبال عليه بالاعتراض بين المتعاطفين بقوله: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ﴾ أي يمحو آثارها حتى لا تذكر ولا يجازي عليها ﴿إِلَّا اللهُ﴾ أي الملك الأعلى.
ب. وقال أبو السعود: ﴿من﴾ استفهام إنكاريّ، أي لا يغفر الذنوب أحد إلا الله، خلا أن دلالة الاستفهام على الانتفاء أقوى وأبلغ لإيذانه بأنه كل أحد ممن له حظ من الخطاب يعرف ذلك الانتفاء، فيسارع إلى الجواب به، والمراد به وصفه سبحانه بغاية سعة الرحمة وعموم المغفرة، والجملة معترضة بين المعطوفين، أو بين الحال وصاحبها لتقرير الاستغفار والحث عليه، والإشعار بالوعد بالقبول.
ج. وقال الزمخشريّ: في هذه الجملة وصف لذاته تعالى بسعة الرحمة، وقرب المغفرة، وأن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه، وأن عدله يوجب المغفرة للتائب، لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه، وجب العفو والتجاوز، وفيه تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة، وبعث عليها، وردع عن اليأس والقنوط، وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل، وكرمه أعظم، والمعنى أنه وحده معه مصححات المغفرة.
د. وفي مسند الإمام أحمد عن الأسود بن سريع أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أتي بأسير، فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: عرف الحق لأهله.
هـ. وفيه أيضا: عن أبي سعيد الخدريّ قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: إن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم! فقال الله: فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني.
6. ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا﴾ أي لم يقيموا ﴿عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ أي ما فعلوه من الذنوب من غير استغفار ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ حال من فاعل (يصروا) أي لم يصروا على ما فعلوا وهم عالمون بقبحه، والنهي عنه، والوعيد عليه، والتقييد بذلك، لما أنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح، وقد روى أبو داوود والترمذيّ والبزار وأبو يعلى عن مولى لأبي بكر عن أبي بكر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة)، وإسناده لا بأس به، قال ابن كثير: وقول عليّ بن المدينيّ والترمذيّ: ليس إسناد هذا الحديث بذاك ـ فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر، ولكن جهالة مثله لا تضرّ لأنه تابعيّ كبير، ويكفيه نسبته إلي أبي بكر، فهو حديث حسن(2).
7. ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما مر من الصفات الحميدة ﴿جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي ستر لذنوبهم ﴿وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أي من أنواع المشروبات ﴿خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ المخصوص بالمدح محذوف، أي ذلك، يعني ما ذكر من المغفرة والجنات.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/413.
(2) ظاهر الحديث معارض للقرآن الكريم ولحقيقة الاستغفار، فالاستغفار الذي يجعل صاحبه يعود للذنب، وفي نفس اليوم، وسبعين مرة ليس استغفارا.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم ذكر جزاء المتقين بعد الأمر المؤكد باتقاء النار اتباعا للوعيد بالوعد وقرنا للترهيب بالترغيب كما هي سنته فقال: ﴿وسارعوا إلى مغفرة ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين﴾
2. المسارعة إلى المغفرة والجنة هي المبادرة إلى أسبابها وما يعد الإنسان لنيلها من التوبة عن الإثم كالربا والإقبال على البر كالصدقة.. والمراد بكون عرض الجنة كعرض السماوات والأرض المبالغة في وصفها بالسعة والبسطة تشبيها لا بأوسع ما علمه الناس وخص العرض بالذكر لأنه يكون عادة أقل من الطول، وقال البيضاوي: إن هذا الوصف على طريقة التمثيل، وقال في قوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾: (هيئت لهم، وفيه دليل على أن الجنة مخلوقة وأنها خارجة عن هذا العالم)، وهو ما احتج به الأشاعرة على من قال من المعتزلة إنها ليست بمخلوقة الآن كما في كتب العقائد، قال محمد عبده: وقد اختلفوا في الجنة هل هي موجودة بالفعل أم توجد بعد في الآخرة ولا معنى لهذا الخلاف ولا هو مما يصح التفرق واختلاف المذاهب فيه.
3. ثم وصف المتقين بالصفات الخمس الآتية فقال: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ أي في حالة الرخاء والسعة وحالة الضيق والعسرة كل حالة بحسبها كما قال تعالى في بيان حقوق النساء المعتدات: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ [الطلاق: 7] والسراء من السرور أي الحالة التي تسر والضراء من الضرر أي الحالة الضارة وروي عن ابن عباس تفسيرهما باليسر والعسر، وقد بدأ وصف المتقين بالإنفاق لوجهين:
أ. أحدهما: مقابلته بالربا الذي نهى عنه في الآية السابقة فإن الربا هو استغلال الغني حاجة المعوز وأكل ماله بلا مقابل والصدقة إعانة له وإطعامه ما لا يستحقه فهي ضد الربا، ولم يرد في القرآن ذكر الربا إلا وقبح ومدحت معه الزكاة والصدقة كما قال: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ [الروم: 39] وفي سورة البقرة: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة: 276]
ب. ثانيهما: أن الإنفاق في السراء والضراء أدل على التقوى وأشق على النفوس وأنفع للبشر من سائر الصفات والأعمال، قال محمد عبده ما مثاله: إن المال عزيز على النفس لأنه الآلة لجلب المنافع والملذات، ورفع المضار والمؤلمات، وبذله في طريق الخير والمنافع العامة التي ترضي الله تعالى يشق على النفس، أما في السراء فلما يحدثه السرور والغنى من الأشر والبطر والطغيان وشدة الطمع وبعد الأمل، وأما في الضراء فلأن الإنسان يرى نفسه فيها جديرا بأن يأخذ ومعذورا إن لم يعط وإن لم يكن معذورا بالفعل، إذ مهما كان فقيرا لا يعدم وقتا يجد فيه فضلا ينفقه في سبيل الله ولو قليلا، وداعية البذل في النفس هي التي تنبه الإنسان إلى هذا العفو الذي يجده أحيانا ليبذله، فإن لم تكن الداعية موجودة في أصل الفطرة فأمر الدين الذي وضعه الله لتعديل الفطرة المائلة وتصحيح مزاج المعتلة يوجدها ويكون نعم المنبه لها وقد فسر بعضهم الضراء بما يخرج الفقراء من هذه الصفة من صفات المتقين وليس بسديد.
4. سؤال وإشكال: يقول من لا علم عنده: إن تكليف الفقير والمسكين البذل في سبيل الله لا معنى له ولا عناء فيه، وربما يقول أكثر من هذا ـ يعني أنه ينتقد ذلك من الدين، والجواب: العلم الصحيح يفيدنا أنه يجب أن تكون نفس الفقير كريمة في ذاتها وأن يتعود صاحبها الإحسان بقدر الطاقة، وبذلك ترتفع نفسه وتطهر من الخسة وهي الرذيلة التي تعرض للفقراء فتجرهم إلى رذائل كثيرة، ثم إن النظر يهدينا إلى أن القليل من الكثير كثير، فلو أن كل فقير في القطر المصري مثلا يبذل في السنة قرشا واحدا لأجل التعليم لاجتمع من ذلك ألوف الألوف، وتيسر به عمل في البلاد كبير فكيف إذا أنفق كل أحد على قدره كما قال تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾؟
5. إذا كان الله تعالى قد جعل الإنفاق في سبيله علامة على التقوى أو أثرا من آثارها حتى في حال الضراء وكان انتفاؤه علامة على عدم التقوى التي هي سبب دخول الجنة فكيف يكون حال أهل السراء الذين يقبضون أيديهم؟ وهل يغني عن هؤلاء من شيء أداء الرسوم الدينية الظاهرة التي يتمرنون عليها عادة مع الناس؟
6. الصفة الثانية للمتقين هي ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ قال الراغب: الغيظ أشد الغضب، وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من فوران دم قلبه، وقال محمد عبده: الغيظ ألم يعرض للنفس إذا هضم حق من حقوقها المادية كالمال أو المعنوية كالشرف، فيزعجها إلى التشفي والانتقام، ومن أجاب داعي الغيظ إلى الانتقام لا يقف عند حد الاعتدال ولا يكتفي بالحق بل يتجاوزه إلى البغي، لذلك كان من التقوى كظمه، وفي روح المعاني: (إن الغيظ هيجان الطبع عند رؤية ما ينكر، والفرق بينه وبين الغضب ما يظهر على الجوارح والغيظ ليس كذلك)، والاقتصار في سبب الغيظ على رؤية ما ينكر غير مسلم، أما الكظم فقد قال في الأساس: (كظم البعير جرته ازدردها وكف عن الاجترار.. وكظم القربة ملأها وسد رأسها وكظم الباب سده، وهو كظام الباب لسداده، ومن المجاز كظم الغيظ وعلى الغيظ، فهو كاظم، وكظمه الغيظ والغم أخذ بنفسه فهو مكظوم وكظيم: ﴿إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ [القلم: 48] ﴿ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [النحل: 58] وما كظم فلان على جرته: إذا لم يسكت على ما في جوفه حتى تكلم به، وغمني وأخذ بكظمي، وهو مخرج النفس وبأكظامي)، وقال محمد عبده: (أصل الكظيم مخرج النفس، والغيظ وإن كان معنى له أثر في الجسم يترتب عليه عمل ظاهر فإنه يثور بنفس الإنسان حتى يحمله على ما لا يجوز من قول أن فعل فلذلك سمي حبسه وإخفاء أثره كظما)، وقال الزمخشري في الكشاف بعد الإشارة إلى أصل معنى الكظم: (ومنه كظم الغيظ وهو أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له أثرا، ويروى عن عائشة أن خادما لها غاظها فقالت: (لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء)
7. الصفة الثالثة للمتقين هي ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ العفو عن الناس هو التجافي عن ذنب المذنب منهم وترك مؤاخذته مع القدرة عليها وتلك مرتبة في ضبط النفس والحكم عليها وكرم المعاملة قل من يتبوأها، فالعفو مرتبة فوق مرتبة كظم الغيظ إذ ربما يكظم المرء غيظه على حقد وضغينة.
8. الصفة الرابعة للمتقين، وهي مرتبة أعلى من العفو، وهي ما أفاده قوله عز وجل: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ فالإحسان وصف من أوصاف المتقين ولم يعطفه على ما سبقه من الصفات بل صاغه بهذه الصيغة تميزا له بكونه محبوبا عند الله تعالى ـ لا لمزيد مدح من ذكر من المتقين المتصفين بالصفات السابقة ولا مجرد مدح المحسنين الذي يدخل في عمومه أولئك المتقون كما قيل ـ فالذي يظهر لي هو ما أشرت إليه من أنه وصف رابع للمتقين كما يتضح من الواقعة الآتية: يروى أن بعض السلف غاظه غلام له فجأة غيظا شديدا فهم بالانتقام منه فقال الغلام: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، فقال: كظمت غيظي، قال الغلام: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾، قال: عفوت عنك، قال: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، قال: اذهب فأنت حر لوجه الله، فهذه الواقعة تبين لك ترتب المراتب الثلاث.
9. الصفة الخامسة للمتقين هي ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ الفاحشة الفعلة الشديدة القبح، وظلم النفس يطلق على كل ذنب، قال البيضاوي: (وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة ولعل الفاحشة ما تتعدى وظلم النفس ما ليس كذلك: وذكر الله عند الذنب يكون بتذكر نهيه ووعيده أو عقابه أو تذكر عظمته وجلاله، وهما مرتبتان مرتبة دنيا لعامة المؤمنين المتقين المستحقين للجنة، وهي أن يتذكروا عند الذنب النهي والعقوبة فيبادروا إلى التوبة والاستغفار ـ ومرتبة عليا لخواص المتقين، وهي أن يذكروا إذا فرط منهم ذنب ذلك المقام الإلهي الأعلى المنزه عن النقص الذي هو مصدر كل كمال، وما يجب طلب قربه بالمعرفة والتخلق الذي هو منتهى الآمال، فإذا هم تذكروا انصرف عنهم طائف الشيطان، ووجدوا نفس الرحمن، فرجعوا إليه طالبين مغفرته، راجين رحمته، ملتزمين سنته، واردين شرعته، عالمين أنه لا يغفر الذنوب سواه، وأنه يضل من يدعون عند الحاجة إلا إياه، لأن الكل منه وإليه، وهو المتصرف بسننه فيه والحاكم بسلطانه عليه، وقال محمد عبده أعيد الموصول لإفادة التنويع: فهؤلاء نوع من المتقين غير الذين ينفقون في السراء)
10. ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ لا يصر المؤمن المتقي من أهل الدرجة الدنيا على ذنبه وهو يعلم أن الله تعالى نهى عنه وتوعد عليه ولا يصر كذلك بالأولى صاحب الدرجة العليا، من أهل الإيمان والتقوى، وهو يعلم أن الذنوب فسوق عن نظام الفطرة السليمة، واعتداء على قانون الشريعة القويمة، وبعد عن مقام النظام العام الذي يعرج عليه البشر إلى قرب ذي الجلال والإكرام، ومثال ذلك من يخضع لقوانين الحكام الوضعية خوفا من العقوبة، ومن يخضع لها احتراما للنظام، وما أبعد الفرق بين الفريقين، قالت رابعة العدوية رحمها الله تعالى:
çكلهم يعبدون من خوف نار...ويرون النجاة حظا جزيلا
أو لأن يسكنوا الجنان فيحظوا...بقصور ويشربوا سلسبيلا
ليس لي في الجنان والنار حظ...أنا لا أبتغي سواك بديلاé
11. الآية هادية إلى أن المتقين الذين أعد الله لهم الجنة لا يصرون على ذنب يرتكبونه صغيرا كان أو كبيرا لأن ذكره عز وجل يمنع المؤمن بطبيعته أن يقيم على الذنب، وقد بينا في مواضع كثيرة من التفسير أن الإيمان والعمل بمقتضاه متلازمان، وقد قالوا إن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة، وهذا أقل ما يقال فيها، ورب كبيرة أصابها المؤمن بجهالة وبادر إلى التوبة منها فكانت دائما مذكرة له بضعفه البشري وسلطان الغضب أو الشهوة عليه ووجوب مقاومة هذا السلطان طلبا للكمال بالقرب من الرحمن، خير من صغيرة يقترفها المرء مستهينا بها فيصر عليها فتأنس نفسه بالمعصية، وتزول منها هيبة الشريعة، فيتجرأ بعد ذلك على الكبائر فيكون من الهالكين، ورأيت المفسرين يوردون هنا حديث: (ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة)، وهو حديث ضعيف رواه أبو داود والترمذي عن أبي بكر، ومن الجاهلين من يراه فيغتر به ظانا أن الاستغفار باللسان كاف في التوبة ومنافاة الإصرار، وأن الحديث كالمفسر للآية، فيتجرأ على المعصية وكلما أصاب منها شيئا حرك لسانه بكلمة (استغفر الله) مرة أو مرات وربما عاد مئة أو أكثر واعتقد أن ذلك كفارة له، والصواب أن الاستغفار في الحديث عبارة عن التوبة لا عن كون اللفظ كفارة، على أنه لا حجة فيه لضعفه.. وأما الآية فقد فهمت معناها وأنها جعلت كلا من الاستغفار وعدم الإصرار أثرا طبيعيا لذكر الله عز وجل بالمعنى الذي بيناه لأهل المرتبتين من المتقين، وحاسب نفسك هل تجدك من الذاكرين؟
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾:
أ. قيل: يعني بقوله ﴿أُولَئِكَ﴾ المتقين الموصوفين بما تقدم من الصفات الخمس، وفيه تأكيد للوعد وتفصيل ما للموعود به.
ب. وقيل: هو خبر لقوله ﴿والذين إذا فعلوا الفاحشة﴾ الخ، بناء على أنهم قسم مستقل وأن (الذين) مبتدأ لا معطوف على ما قبله، وقد تقدم تفسير ﴿وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ فلا نعيده.
13. قوله عز وجل: ﴿ونعم أجر العالمين﴾ نص في أن هذا الجزاء إنما هو على تلك الأعمال، التي منها ما هو إصلاح لحال الأمة كإنفاق المال، ومنها ما هو إصلاح لنفس العامل، وكلها مما يرقي النفس البشرية، حتى تكون أهلا لتلك المراتب العلية، أي ونعم ذلك الجزاء الذي ذكره من المغفرة والجنات أجرا للعالمين، تلك الأعمال البدنية كالإنفاق، والنفسية كعدم الإصرار، وإن كانوا يتفاوتون فيه لتفاوتهم في التقوى والأعمال.
__________
(1) تفسير المنار: 4/133.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ أي وبادروا إلى العمل لما يوصلكم إلى مغفرة ذنوبكم ويدخلكم جنة واسعة المدى أعدّها الله لمن اتقاه وامتثل أوامره، وترك نواهيه، فاعملوا الخيرات، وتوبوا عن الآثام كالربا ونحوه، وتصدقوا على ذوى البؤس والفاقة.
2. روى أن رسول هرقل ملك الروم قدم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بكتاب هرقل وفيه: إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار! فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار؟.. يريد أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم، والليل في ضد ذلك الجانب، فكذا الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل، وقال أبو مسلم: إن العرض هنا ما يعرض من الثمن في مقابلة المبيع أي ثمنها لو بيعت كثمن السماوات والأرض، والمراد بذلك عظم مقدارها وجلالة خطرها، وأنه لا يساويها شيء وإن عظم.
3. ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي هيئت لهم وفي الآية دليل على أن الجنة مخلوقة الآن، وأنها خارجة عن هذا العالم، إذ أنها تدل على أن الجنة أعظم منه، فلا يمكن أن يكون محيطا بها.
4. ثم وصف الله المتقين بجملة أوصاف كلها مناقب ومفاخر فقال: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ﴾ أي الذين ينفقون في السعة والضيق، فينفقون في كل حال بحسبها، ولا يتركون الإنفاق بوجه، وأثر عن عائشة أنها تصدقت بحبة عنب، وأثر عن بعض السلف أنه تصدق ببصلة، وفي الحديث (اتقوا النار ولو بشقّ تمرة، وردوا السائل ولو بظلف محرق)
5. بدأ الله وصف المتقين بالإنفاق لأمرين:
أ. أنه جاء في مقابلة الربا الذي نهى عنه في الآية السابقة، إذ أن الصدقة إعانة للمعوز المحتاج، وإطعام له ما لا يستحقه، والربا استغلال الغنى حاجة ذلك المعوز لأكل أمواله بلا مقابل فهي ضده، ومن ثم لم يرد في القرآن ذكر الربا إلا ذم وقبّح، ومدحت معه الزكاة والصدقة، اقرأ قوله: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ وقوله: ﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾
ب. أن الانفاق في حالي اليسر والعسر أدل على التقوى، لأن المال عزيز على النفس، فبذله في طرق الخير والمنافع العامة التي ترضى الله يشق عليها، أما في السراء فلما يحدثه السرور والغنى من البطر والطغيان وشدة الطمع وبعد الأمل، وأما في الضراء فلأن الإنسان يرى أنه أجدر أن يأخذ لا أن يعطى، ولكنه مع هذه الحال لا يعدم وقتا يجد فيه ما ينفقه في سبيل الله ولو قليلا.
6. حب الخير هو الذي يحرك في الإنسان داعية البذل لإنفاق هذا العفو القليل، فإن لم توجد تلك الداعية بحسب الفطرة فالدين ينميها ويقويها، إذ هو قد جاء لتعديل الأمزجة المعتلة، وإصلاح الفطر المعوجة، وقد أرشدنا هدى الدين إلى أن النفوس يجب أن تكون كريمة في ذاتها مهما ألحّ عليها الفقر وأن تتعود الإحسان بقدر الطاقة لتسمو عن الرذائل التي قد تجرها إليها الحاجة، فتبعد بقدر الإمكان عن ذل السؤال، ومدّ الأيدي إلى الناس، لطلب الإحسان، وإراقة ماء الوجه أمام بيوت الأغنياء، لما في ذلك من الذلة والصغار وهى ما لا يرضاها مؤمن لنفسه يعتقد أن الأرزاق في قبضة الله وهو الذي يعطى ويمنع، وقد جعل لكسب المال أوجها كثيرة يستطيع المرء أن يسعى إليها ليحصل عليه، وقد وردت أحاديث كثيرة في الحض على اكتساب المال من كل طريق حلال، والبعد عن ذل السؤال، إلا أن بذل القليل من الأفراد والجماعات إذا اجتمع صار كثيرا، ومن ثم كانت الأمم الراقية تقيم مشروعاتها النافعة للأمة في الزراعة أو الصناعة أو في بناء الملاجئ والمستشفيات بالتبرعات القليلة التي تؤخذ من أفرادها، وبذا تقدمت في سائر فنون المدنية والحضارة، ولذا حث الله على بذل الخير ولو قليلا بقوله: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾
7. من هذا ترى أن الله جعل من أهم علامات التقوى بذل المال، كما أن الشح به علامة عدم التقوى، والتقوى هي السبيل الموصل إلى الجنة، فانظر إلى أهل الثراء الذين يقبضون أيديهم عن بذل المعونة للأفراد والجماعات ويكنزون في صناديقهم القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، هل تغنيهم صلاتهم وصومهم شيئا مع هذا الشح البادي على وجوههم؟ فما هي إلا حركات وأعمال، مرنوا عليها دون أن يكون لها الأثر الناجع في نفوسهم، إذ الصلاة التي يقبلها الله، والصوم الذي يرضاه الله، هو ما ينهى عن الفحشاء والمنكر، وأيّ منكر أشد من الضنّ بالمال حين الحاجة إليه لنفع أمة أو فرد، ولو جاد المسلمون بأموالهم عند الحاجة إلى البذل لكان لنا شأن آخر بين أرباب الديانات الأخرى، ولكنا من ذوى العزة والمكانة بينها، ولكنا صرنا إلى ما ترى، عسى الله أن يغير من نفوس المسلمين، ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم باتباع أوامر كتابهم، واجتناب نواهيه، ففي ذلك السعادة لهم في الدنيا والأخرى.
8. ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ أي والممسكين عليه الكافّين عن إمضائه مع القدرة عليه، ومن أجاب داعى الغيظ وتوجه بعزيمة إلى الانتقام لا يقف عند حد الاعتدال، ولا يكتفى بالحق، بل يتجاوزه إلى البغي، ومن ثم كان من التقوى كظمه، وقد أثر عن عائشة أن خادما لها غاظها فقالت: لله درّ التقوى، ما تركت لذى غيظ شفاء، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم (ما من جرعتين أحبّ إلى الله من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بصبر وحسن عزاء، ومن جرعة غيظ كظمها)، وقال (ليس الشديد بالصّرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب)، وخلاصة ذلك: هم الذين يكظمون غيظهم عن الإمضاء والنفاذ، ويردونه في أجوافهم، وهذا كقوله في الآية الأخرى ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾
9. ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ أي والذين يتجاوزون عن ذنوب الناس ويتركون مؤاخذتهم مع القدرة على ذلك، وتلك منزلة من ضبط النفس وملك زمامها قلّ من يصل إليها، وهى أرقى من كظم الغيظ، إذ ربما كظم المرء غيظه على الحقد والضغينة، أخرج الطبراني عن أبىّ بن كعب أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من سره أن يشرف له البنيان، وترفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه، ويعط من حرمه، ويصل من قطعه)، وفي الآية إيماء إلى حسن موقع عفوه صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الرماة، وترك مؤاخذتهم بما فعلوا من مخالفة أمره، وإرشاد له إلى ترك ما عزم عليه من مجازاة المشركين بما فعلوه بحمزة حتى قال حين رآه قد مثّل به: لأمثلنّ بسبعين منهم.
10. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ أي والله يحب الذين يتفضلون على عباده البائسين ويواسونهم ببعض ما أنعم الله به عليهم شكرا له على جزيل نعمائه، أخرج البيهقي أن جارية لعلى بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها فشجه، فرفع رأسه فقالت: إن الله يقول ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ فقال لها: قد كظمت غيظى، قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ قال: قد عفا الله عنك، قالت: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى.
11. الإحسان إلى غيرك:
أ. إما بإيصال النفع إليه، وهو الذي عناه الله بقوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ ويدخل فيه إنفاق العلم بتعليم الجاهلين وهداية الضالين، وإنفاق المال في وجوه الخير والعبادات، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم (السخىّ قريب من الله قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار)
ب. وإما بدفع الضر عنه إما في الدنيا بألا يقابل الإساءة بإساءة أخرى وهو ما عناه الله بقوله: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا)، وإما في الآخرة بأن يعفو عماله عند الناس من التبعات والحقوق، وهذا هو المراد بقوله: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ ومن ثم كانت هذه الآية جامعة لوجوه الإحسان إلى غيرك، وقد ذكر الله الجزاء على الإحسان بقوله: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ إذ محبة الله للعبد عظم درجات الثواب.
12. ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ أي والذين إذا فعلوا من القبيح ما يتعدى أثره إلى غيره كالغيبة ونحوها، أو فعلوا ذنبا يكون مقصورا عليهم كشرب الخمر ونحوه ـ ذكروا عند ذلك وعد الله ووعيده، وعظمته وجلاله، فرجعوا إليه تعالى طالبين مغفرته، راجين رحمته، علما منهم أنه لا يغفر الذنوب سواه، فهو الفعال لما يشاء بمقتضى حكمته وعلمه الواسع.
13. ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾ جملة جاءت معترضة بين ما قبلها وما بعدها، تصويبا لفعل التائبين، وتطييبا لقلوبهم، وبشارة لهم بسعة الرحمة وقرب المغفرة، وإعلاء لقدرهم بأنهم علموا أن لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه، وأن من كرمه أن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأن العبد إذا التجأ إليه، وتنصل عن الذنب بأقصى ما يقدر عليه عفا عنه وتجاوز عن ذنوبه وإن جلّت، فإن عفوه أجلّ وكرمه أعظم، كما أن فيها تحريضا للعباد على التوبة وحثا لهم عليها، وتحذيرا من اليأس والقنوط.
14. ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي ولم يقيموا على القبيح من غير استغفار ورجوع بالتوبة، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم (لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار)، يريد صلّى الله عليه وآله وسلّم أن الصغيرة مع الإصرار كبيرة، وقوله: وهم يعلمون أي بقبحه والنهى عنه والوعيد عليه، والفائدة من ذكر هذا بيان أنه إذا لم يعلم بقبحه يعذر في فعله.
15. المؤمن المتقي لا يصر على الذنب وهو يعلم نهى الله عنه ووعيده عليه، إذ يعلم أن الذنب فسوق وخروج عن نظام الفطرة السليمة، واعتداء على حقوق الشريعة، فالآية تومئ إلى أن المتقين الذين أعد الله لهم الجنة لا يصرون على ذنب يرتكبونه صغيرا كان أو كبيرا، لأن ذكرهم لله يمنعهم أن يقيموا على الذنوب، إذ الإصرار على الصغائر يجعلها كبائر، ورب كبيرة أصابها المؤمن بجهالة، وبادر إلى التوبة منها فكانت مذكّرة له بضعفه البشرى، ودليلا على أن للغضب سلطانا عليه ـ تكون دون صغيرة يقترفها مستهينا بها مصرّا عليها مستأنسا بها، فتزول من نفسه هيبة الشريعة، ويتجرأ بعد ذلك على ارتكاب الكبائر فيكون من الهالكين، وقد رووا حديث (ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة)، وقد ضعفه المحدثون، إلى أنه ليس المراد من الاستغفار الاستغفار باللسان، وأنه كاف في التوبة، وأن تحريك اللسان بكلمة أستغفر الله مرة أو عدة مرات يرفع إثم الذنب، بل استغفار فيه هو التوبة النصوح التي عرفت معناها في قوله: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ لا كون اللفظ كفارة للذنب.
16. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي إن أولئك المتقين الذين وصفوا بما تقدم من الصفات ـ لهم أمن من العقاب، ولهم ثواب عظيم عند ربهم في جنات تجرى من تحتها الأنهار.
17. ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ أي إن هذا الجزاء إنما هو على تلك الأعمال التي منها ما هو نافع للأمة كإنفاق المال في وجوهه، ومنها ما هو إصلاح لنفس العامل، فهو أجر للعمل وجزاء عليه، ويتفاوت الناس في التقوى بحسب ذلك، وخلاصة ذلك: نعم هذا الجزاء الذي ذكر من المغفرة والجنات أجرا للعاملين تلك الأعمال بدنية كانت كانفاق المال ونفسية كعدم الإضرار بغيرك على تفاوت في ذلك.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/69.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لقد سبق في سورة البقرة أن رأينا السياق هناك يجمع بين الحديث عن الربا، والحديث عن الصدقة، بوصفهما الوجهين المتقابلين للعلاقات الاجتماعية في النظام الاقتصادي؛ وبوصفهما السمتين البارزتين لنوعين متباينين من النظم: النظام الربوي، والنظام التعاوني.. فهنا كذلك نجد هذا الجمع في الحديث عن الربا والحديث عن الإنفاق في السراء والضراء، فبعد النهي عن أكل الربا، والتحذير من النار التي أعدت للكافرين، والدعوة إلى التقوى رجاء الرحمة والفلاح.. بعد هذا يجيء الأمر بالمسارعة إلى المغفرة؛ وإلى جنة عرضها السماوات والأرض ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾، ثم يكون الوصف الأول للمتقين هو: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ ـ فهم الفريق المقابل للذين يأكلون الربا أضعافا مضاعفة ـ ثم تجيء بقية الصفات والسمات.
2. التعبير هنا يصور أداء هذه الطاعات في صورة حسية حركية.. يصوره سباقا إلى هدف أو جائزة تنال: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.. ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾.. سارعوا فهي هناك: المغفرة والجنة.. ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾
3. ثم يأخذ في بيان صفات المتقين: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ فهم ثابتون على البذل، ماضون على النهج، لا تغيرهم السراء ولا تغيرهم الضراء، السراء لا تبطرهم فتلهيهم، والضراء لا تضجرهم فتنسيهم، إنما هو الشعور بالواجب في كل حال؛ والتحرر من الشح والحرص؛ ومراقبة الله وتقواه.. وما يدفع النفس الشحيحة بطبعها، المحبة للمال بفطرتها.. ما يدفع النفس إلى الإنفاق في كل حال، إلا دافع أقوى من شهوة المال، وربقة الحرص، وثقلة الشح.. دافع التقوى، ذلك الشعور اللطيف العميق، الذي تشف به الروح وتخلص، وتنطلق من القيود والأغلال، ولعل للتنويه بهذه الصفة مناسبة خاصة كذلك في جو هذه المعركة، فنحن نرى الحديث عن الإنفاق يتكرر فيها، كما نرى التنديد بالممتنعين والمانعين للبذل ـ كما سيأتي في السياق القرآني ـ مكررا كذلك، مما يشير إلى ملابسات خاصة في جو الغزوة، وموقف بعض الفئات من الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله.
4. ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ كذلك تعمل التقوى في هذا الحقل، بنفس البواعث ونفس المؤثرات، فالغيظ انفعال بشري، تصاحبه أو تلاحقه فورة في الدم؛ فهو إحدى دفعات التكوين البشري، وإحدى ضروراته، وما يغلبه الإنسان إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبعثة من إشراق التقوى؛ وإلا بتلك القوة الروحية المنبثقة من التطلع إلى أفق أعلى وأوسع من آفاق الذات والضرورات.
5. وكظم الغيظ هو المرحلة الأولى، وهي وحدها لا تكفي، فقد يكظم الإنسان غيظه ليحقد ويضطغن؛ فيتحول الغيظ الفائر إلى إحنة غائرة؛ ويتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين.. وإن الغيظ والغضب لأنظف وأطهر من الحقد والضغن.. لذلك يستمر النص ليقرر النهاية الطليقة لذلك الغيظ الكظيم في نفوس المتقين.. إنها العفو والسماحة والانطلاق.. إن الغيظ وقر على النفس حين تكظمه؛ وشواظ يلفح القلب؛ ودخان يغشى الضمير.. فأما حين تصفح النفس ويعفو القلب، فهو الانطلاق من ذلك الوقر، والرفرفة في آفاق النور، والبرد في القلب، والسلام في الضمير.
6. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ والذين يجودون بالمال في السراء والضراء محسنون، والذين يجودون بالعفو والسماحة بعد الغيظ والكظم محسنون.. والله ﴿يُحِبُّ﴾ المحسنين.. والحب هنا هو التعبير الودود الحاني المشرق المنير، الذي يتناسق مع ذلك الجو اللطيف الوضيء الكريم، ومن حب الله للإحسان وللمحسنين، ينطلق حب الإحسان في قلوب أحبائه، وتنبثق الرغبة الدافعة في هذه القلوب.. فليس هو مجرد التعبير الموحي، ولكنها الحقيقة كذلك وراء التعبير! والجماعة التي يحبها الله، وتحب الله.. والتي تشيع فيها السماحة واليسر والطلاقة من الإحن والأضغان.. هي جماعة متضامة، وجماعة متآخية، وجماعة قوية، ومن ثم علاقة هذا التوجيه بالمعركة في الميدان والمعركة في الحياة على السواء في هذا السياق!
7. ثم ننتقل إلى صفة أخرى من صفات المتقين: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾
8. يا لسماحة هذا الدين! إن الله ـ سبحانه ـ لا يدعو الناس إلى السماحة فيما بينهم حتى يطلعهم على جانب من سماحته ـ سبحانه وتعالى ـ معهم، ليتذوقوا ويتعلموا ويقتبسوا: إن المتقين في أعلى مراتب المؤمنين.. ولكن سماحة هذا الدين ورحمته بالبشر تسلك في عداد المتقين ﴿الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾.. والفاحشة أبشع الذنوب وأكبرها، ولكن سماحة هذا الدين لا تطرد من يهوون إليها، من رحمة الله، ولا تجعلهم في ذيل القافلة.. قافلة المؤمنين.. إنما ترتفع بهم إلى أعلى مرتبة.. مرتبة (المتقين).. على شرط واحد، شرط يكشف عن طبيعة هذا الدين ووجهته، أن يذكروا الله فيستغفروا لذنوبهم، وألا يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أنه الخطيئة، وألا يتبجحوا بالمعصية في غير تحرج ولا حياء.. وبعبارة أخرى أن يكونوا في اطار العبودية لله، والاستسلام له في النهاية، فيظلوا في كنف الله وفي محيط عفوه ورحمته وفضله.
9. إن هذا الدين ليدرك ضعف هذا المخلوق البشري الذي تهبط به ثقلة الجسد أحيانا إلى درك الفاحشة، وتهيج به فورة اللحم والدم فينزو نزوة الحيوان في حمى الشهوة، وتدفعه نزواته وشهواته وأطماعه ورغباته إلى المخالفة عن أمر الله في حمى الاندفاع، يدرك ضعفه هذا فلا يقسو عليه، ولا يبادر إلى طرده من رحمة الله حين يظلم نفسه، حين يرتكب الفاحشة.. المعصية الكبيرة.. وحسبه أن شعلة الإيمان ما تزال في روحه لم تنطفئ، وأن نداوة الإيمان ما تزال في قلبه لم تجف، وأن صلته بالله ما تزال حية لم تذبل، وأنه يعرف أنه عبد يخطئ وأن له ربا يغفر.. وإذن فما يزال هذا المخلوق الضعيف الخاطئ المذنب بخير.. إنه سائر في الدرب لم ينقطع به الطريق، ممسك بالعروة لم ينقطع به الحبل، فليعثر ما شاء له ضعفه أن يعثر، فهو واصل في النهاية ما دامت الشعلة معه، والحبل في يده، ما دام يذكر الله ولا ينساه، ويستغفره ويقر بالعبودية له ولا يتبجح بمعصيته.. إنه لا يغلق في وجه هذا المخلوق الضعيف الضال باب التوبة، ولا يلقيه منبوذا حائرا في التيه! ولا يدعه مطرودا خائفا من المآب.. إنه يطمعه في المغفرة، ويدله على الطريق، ويأخذ بيده المرتعشة، ويسند خطوته المتعثرة، وينير له الطريق، ليفيء إلى الحمى الآمن، ويثوب إلى الكنف الأمين.
10. شيء واحد يتطلبه: ألا يجف قلبه، وتظلم روحه، فينسى الله.. وما دام يذكر الله، ما دام في روحه ذلك المشعل الهادي، ما دام في ضميره ذلك الهاتف الحادي، ما دام في قلبه ذلك الندى البليل.. فسيطلع النور في روحه من جديد، وسيئوب إلى الحمى الآمن من جديد، وستنبت البذرة الهامدة من جديد.. إن طفلك الذي يخطئ ويعرف أن السوط ـ لا سواه ـ في الدار.. سيروح آبقا شاردا لا يثوب إلى الدار أبدا، فأما إذا كان يعلم أن إلى جانب السوط يدا حانية، تربت على ضعفه حين يعتذر من الذنب، وتقبل عذره حين يستغفر من الخطيئة.. فإنه سيعود! وهكذا يأخذ الإسلام هذا المخلوق البشري الضعيف في لحظات ضعفه.. فإنه يعلم أن فيه بجانب الضعف قوة، وبجانب الثقلة رفرفة، وبجانب النزوة الحيوانية أشواقا ربانية.. فهو يعطف عليه في لحظة الضعف ليأخذ بيده إلى مراقي الصعود، ويربت عليه في لحظة العثرة ليحلق به إلى الأفق من جديد، ما دام يذكر الله ولا ينساه، ولا يصر على الخطيئة وهو يعلم أنها الخطيئة! والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة)(2).
11. هؤلاء المتقون ما لهم؟ ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ فهم ليسوا سلبيين بالاستغفار من المعصية، كما أنهم ليسوا سلبيين بالإنفاق في السراء والضراء، وكظم الغيظ والعفو عن الناس.. إنما هم عاملون، ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾.. المغفرة من ربهم، والجنة تجري من تحتها الأنهار بعد المغفرة وحب الله.. فهنالك عمل في أغوار النفس، وهنالك عمل في ظاهر الحياة، وكلاهما عمل، وكلاهما حركة، وكلاهما نماء.
12. هنالك الصلة بين هذه السمات كلها وبين معركة الميدان التي يتعقبها السياق.. وكما أن للنظام الربوي ـ أو النظام التعاوني ـ أثره في حياة الجماعة المسلمة وعلاقته بالمعركة في الميدان، فكذلك لهذه السمات النفسية والجماعية أثرها الذي أشرنا إليه في مطلع الحديث.. فالانتصار على الشح، والانتصار على الغيظ، والانتصار على الخطيئة، والرجعة إلى الله وطلب مغفرته ورضاه.. كلها ضرورية للانتصار على الأعداء في المعركة، وهم إنما كانوا أعداء لأنهم يمثلون الشح والهوى والخطيئة والتبجح! وهم إنما كانوا أعداء لأنهم لا يخضعون ذواتهم وشهواتهم ونظام حياتهم لله ومنهجه وشريعته، ففي هذا تكون العداوة، وفي هذا تكون المعركة، وفي هذا يكون الجهاد.. وليس هنالك أسباب أخرى يعادي فيها المسلم ويعارك ويجاهد، فهو إنما يعادي لله، ويعارك لله، ويجاهد لله! فالصلة وثيقة بين هذه التوجيهات كلها وبين استعراض المعركة في هذا السياق.. كما أن الصلة وثيقة بينها وبين الملابسات الخاصة التي صاحبت هذه المعركة، من مخالفة عن أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن طمع في الغنيمة نشأت عنه المخالفة، ومن اعتزاز بالذات والهوى نشأ عنه تخلف عبد الله ابن أبيّ ومن معه.
13. ومن ضعف بالذنب نشأ عنه تولي من تولى ـ كما سيرد في السياق ـ ومن غبش في التصور نشأ عنه عدم رد الأمور إلى الله، وسؤال بعضهم: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾؟ وقول بعضهم: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾
14. القرآن يتناول هذه الملابسات كلها، واحدة واحدة، فيجلوها، ويقرر الحقائق فيها، ويلمس النفوس لمسات موحية تستجيشها وتحييها.. على هذا النحو الفريد الذي نرى نماذج منه في هذا السياق.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/475.
(2) ذكرنا الانتقادات الموجهة للحديث، وعدم صحته سابقا.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، إثارة وإغراء بالمبادرة إلى طلب المغفرة من الله، باجتناب المحرمات، وعلى رأسها الكفر والربا.. فمن بادر بالتوبة، ورجع إلىّ الله من قريب، مستغفرا ربه، وجد ربّا غفورا رحيما يفتح له مع خزائن رحمته أبواب جنته وما فيها من نعيم مقيم.
2. هذه الجنة التي وعد بها المتقون تسع النّاس، وأضعاف أضعاف الناس، عرضها السماوات والأرض.. يجد فيها المؤمنون والتائبون ـ مهما كثر عددهم ـ مكانا فسيحا، لا حدّ له، حيث يسرحون ويمرحون ما شاءوا، فليخرس إذن أولئك المتنطعون والمتزمّتون، الذين يضيّقون من رحمة، أو يضيقون بها، حتى لكأنهم يرون أن ما يبسطه الله من رحمة ورضوان لعباده إنما هو مقتطع مما يمنّون أنفسهم به عند الله.. وأنّه كلما كثرت أعداد المقبولين عند الله، والداخلين في رحمته ـ تحيّف ذلك من نصيبهم، وأخذ الكثير من حظهم.. وهذا ـ لا شك ـ سوء ظن بالله، وعدوان على مشيئته، شأنهم في هذا شأن بنى إسرائيل، الذين أكل الحسد قلوبهم أن ينال أحد من من الله خيرا غيرهم، كما قال تعالى فيهم: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ وكما قال فيهم أيضا: ﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ﴾
3. قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ صفة من صفات المتقين، فمن شان التقوى أن تقيم في كيان الإنسان عواطف الرحمة والإحسان، فلا يمسك صاحبها خيرا لنفسه خاصة، بل إن كل ما في يده هو له وللناس.. فهو ينفق منه في كل حال.. في يسره وعسره، في سرّائه وضرّائه، وفي سرّاء الناس وضرائهم، لا يمنع فضله عن طالبه أبدا!
4. قوله تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ بيان للصفات المكملة للتقوى، المجمّلة للمتقين، فمن اتقى الله، كان رحيما بالناس، حدبا عليهم، يلقى إساءتهم بالصفح والمغفرة، فلا يصل إليهم منه أذى، بيد أو لسان، والكاظمون الغيظ والعافون عن الناس، هم وإن كانوا في المتقين المحسنين، إلا أنهما درجتان في الإحسان والتقوى.. فالكظم درجة، والعفو درجة أعلى من تلك الدرجة.. فالذي تلقّى الإساءة وهو قادر على مقابلتها بمثلها ثم أمسك عن الردّ، وكظم في نفسه ما أثارته الإساءة في مشاعره من غيظ ونقمة، هو على درجة من التقوى والإحسان.. أما إذا ذهب إلى أكثر من هذا، فمسح ما بصدره من غيظ ونقمة، وأظهر العفو والمغفرة، فهو على حظ أكبر من الإحسان والتقوى.. وأرفع من هذا درجة، وأعلى مقاما في التقوى والإحسان، من دفع السيئة، لا يكظم الغيظ المتولد منها، ولا بالعفو عن المسيء بل دفعها بالإحسان إليه.. وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾، ويقول سبحانه أيضا: ﴿أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ﴾، ودفع السيئة بالحسنة إنما هو من باب الإنفاق، ولكنه إنفاق من أطيب وأعزّ ما يملك الناس: إنه إنفاق من سعة صدر، ومن كرم خلق، مما لا يرزقه إلا أهل الصبر والتقوى.. وفي هذا يقول الحق جلّ وعلا: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ فيما يروى عن علىّ بن أبى طالب.. أن جارية له كانت تقوم على وضوئه وفي يدها إبريق، فسقط الإبريق من يدها وانكسر.. ونظر إليها الإمام ـ كرم الله وجهه ـ فقالت: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ فقال: كظمت غيظى.. ثم قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ فقال: (ولقد عفوت عنك) قالت: (والله يحب المحسنين) فقال: (أنت حرة لوجه الله)!
5. قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ الفاحشة: المنكر الغليظ من العمل والقول.. وأكثر ما تكون في الأعمال السيئة.. وظلم النفس: يقع على كل مكروه ينالها من قبل صاحبها فيما يمسّ خاصة الإنسان من أذى، أو يتجاوزه إلى غيره من الناس.. فالزنا، فاحشة، والكفر ظلم! وكلّ من الأمرين ظلم وفاحشة معا.
6. هذا الصنف من الناس إذا أصاب فاحشة أو ارتكب إثما، ذكر الله، وذكر عظمة الله وجلاله، وعلمه به، وفضله عليه، وذكر لقاء ربّه، ومحاسبته بين يديه.. فرجع إلى الله من قريب، تائبا مستغفرا ـ هذا الصنف من الناس معدود في المتقين من عباد الله، إذ غسل الحوبة بالتوبة، وبعد عن الله ثم عاد إليه، واقترب منه، وفي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾ إغراء للعصاة والمذنبين، بالتوبة والقبول إذا هم مدّوا أيديهم إليه، وطلبوا الصفح والمغفرة منه!
7. في قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ إشارة إلى ما تصحّ عليه توبة التائبين، وهو أنّهم إذا فعلوا المعصية لم يصرّوا على معاودتها، بل أخذتهم خشية الله، واستولى عليهم الندم.. وأقبلوا على الله تائبين مستغفرين.
8. قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يفسح العذر للذين يأتون الفاحشة عن جهل، أو خطأ، كمن يشرب خمرا وهو يظنها غير الخمر.
9. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ الإشارة هنا إلى جميع من ذكروا في قوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.. إلى قوله سبحانه: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ فهؤلاء الذين جاء ذكرهم في هذه الآيات الثلاث، هم من المتقين، وهم من الذين يتلقّون هذا الجزاء الحسن من الله، جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها.
10. في قوله تعالى: ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ مدح وتمجيد لهذا الجزاء العظيم الذي ناله هؤلاء الذين أنعم الله عليهم، فاتقوه، وأنفقوا في السّرّاء والضراء، وكظموا الغيظ وعفوا عن الناس.. ومثلهم أولئك الذين إذا فعلوا فاحشة، أو واقعوا المعصية ذكروا جلال الله وعظمته، فرجعوا إليه من قريب، باسطين يد التوبة والمغفرة، فالجزاء الذي ناله هؤلاء المحسنون المتقون، شيء عظيم رائع.. وهل شيء أعظم من الجنة وأروع؟.. ثم إن هذا الجزاء ـ وإن يكن فضلا من الله وإحسانا ـ هو عن إحسان كان من هؤلاء العاملين، وعن عمل من هؤلاء المحسنين: أجراه الله على أيديهم، ووفقهم إليه، وفي هذا يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/586.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ﴿سارِعُوا﴾ دون واو عطف، تتنزّل جملة ﴿سارِعُوا﴾ منزلة البيان، أو بدل الاشتمال، لجملة ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ لأنّ طاعة الله والرّسول مسارعة إلى المغفرة والجنّة فلذلك فصلت، ولكون الأمر بالمسارعة إلى المغفرة والجنّة يؤول إلى الأمر بالأعمال الصّالحة جاز عطف الجملة على الجملة الأمر بالطّاعة، فلذلك قرأ بقية العشرة ﴿وَسَارِعُوا﴾، بالعطف وفي هذه الآية ما ينبئنا بأنّه يجوز الفصل والوصل في بعض الجمل باعتبارين.
2. السرعة المشتقّ منها سارعوا مجاز في الحرص والمنافسة والفور إلى عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة والجنة، ويجوز أن تكون السرعة حقيقة، وهي سرعة الخروج إلى الجهاد عند النفير كقوله في الحديث: (وإذا استنفرتم فانفروا)، والمسارعة، على التقادير كلّها تتعلّق بأسباب المغفرة وأسباب دخول الجنة، فتعليقها بذات المغفرة والجنة من تعليق الأحكام بالذوات على إرادة أحوالها عند ظهور عدم الفائدة في التعلّق بالذات.
3. جيء بصيغة المفاعلة، مجرّدة عن معنى حصول الفعل من جانبين، قصد المبالغة في طلب الإسراع، والعرب تأتي بما يدلّ في الوضع على تكرّر الفعل وهم يريدون التأكيد والمبالغة دون التكرير، ونظيره التثنية في قولهم: لبيك وسعديك، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ [الملك: 4]
4. تنكير ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ ووصلها بقوله: ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ مع تأتّي الإضافة بأن يقال إلى مغفرة ربّكم، لقصد الدّلالة على التّعظيم، ووصف الجنة بأنّ عرضها السماوات والأرض على طريقة التشبيه البليغ، بدليل التّصريح بحرف التّشبيه في نظيرتها في آية سورة الحديد.
5. العرض في كلام العرب يطلق على ما يقابل الطول، وليس هو المراد هنا، ويطلق على الاتّساع لأنّ الشيء العريض هو الواسع في العرف بخلاف الطويل غير العريض فهو ضيق، وهذا كقول العديل:
çودون يد الحجّاج من أن تنالني...بساط بأيدي الناعجات عريضé
6. ذكر السماوات والأرض جار على طريقة العرب في تمثيل شدّة الاتّساع، وليس المراد حقيقة عرض السماوات والأرض ليوافق قول الجمهور من علمائنا بأن الجنّة مخلوقة الآن، وأنّها في السماء، وقيل: هو عرضها حقيقة، وهي مخلوقة الآن لكنّها أكبر من السماوات وهي فوق السماوات تحت العرش، وقد روي: العرش سقف الجنة، وأما من قال إن الجنّة لم تخلق الآن وستخلق يوم القيامة، وهو قول المعتزلة وبعض أهل السنّة منهم منذر بن سعيد البلّوطي الأندلسي الظاهري، فيجوز عندهم أن تكون كعرض السماوات والأرض بأن تخلق في سعة الفضاء الّذي كان يملؤه السماوات والأرض أو في سعة فضاء أعظم من ذلك، وأدلّة الكتاب والسنّة ظاهرة في أنّ الجنّة مخلوقة، وفي حديث رؤيا رآها النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو الحديث الطويل الذي فيه قوله: (إنّ جبريل وميكاييل قالا له: ارفع رأسك، فرفع فإذا فوقه مثل السحاب، قالا: هذا منزلك، قال فقلت: دعاني أدخل منزلي، قالا: إنّه بقي لك عمر لم تستكمله فلو استكملت أتيت منزلك)
7. ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ أعقب وصف الجنّة بذكر أهلها لأنّ ذلك ممّا يزيد التّنويه به، ولم يزل العقلاء يتخيّرون حسن الجوار كما قال أبو تمام:
çمن مبلغ أفناء يعرب كلّها...أني بنيت الجار قبل المنزلé
8. جملة ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ استئناف بياني لأنّ ذكر الجنّة عقب ذكر النّار الموصوفة بأنّها أعدّت للكافرين يثير في نفوس السامعين أن يتعرّفوا من الذين أعدّت لهم: فإن أريد بالمتّقين أكمل ما يتحقّق فيه التّقوى، فإعدادها لهم لأنّهم أهلها ـ فضلا من الله تعالى ـ الّذين لا يلجون النار أصلا ـ عدلا من الله تعالى ـ فيكون مقابل قوله: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 131]، ويكون عصاة المؤمنين غير التّائبين قد أخذوا بحظّ من الدارين، لمشابهة حالهم حال الفريقين عدلا من الله وفضلا، وبمقدار الاقتراب من أحدهما يكون الأخذ بنصيب منه، وأريد المتّقون في الجملة فالإعداد لهم باعتبار أنّهم مقدّرون من أهلها في العاقبة.
9. أجرى الله تعالى على المتّقين صفات ثناء وتنويه، هي ليست جماع التّقوى، ولكن اجتماعها في محلّها مؤذن بأنّ ذلك المحلّ الموصوف بها قد استكمل ما به التقوى، وتلك هي مقاومة الشحّ المطاع، والهوى المتّبع:
أ. الصفة الأولى: الإنفاق في السّرّاء والضّراء، والإنفاق تقدّم غير مرّة وهو الصدقة وإعطاء المال والسلاح والعدة في سبيل الله، والسرّاء فعلاء، اسم لمصدر سرّه سرّا وسرورا، والضّراء كذلك من ضرّه، أي في حالي الاتّصاف بالفرح والحزن، وكأنّ الجمع بينهما هنا لأنّ السرّاء فيها ملهاة عن الفكرة في شأن غيرهم، والضرّاء فيها ملهاة وقلّة موجدة، فملازمة الإنفاق في هذين الحالين تدلّ على أنّ محبّة نفع الغير بالمال، الّذي هو عزيز على النّفس، قد صارت لهم خلقا لا يحجبهم عنه حاجب ولا ينشأ ذلك إلّا عن نفس طاهرة.
ب. الصفة الثّانية: الكاظمين الغيظ، وكظم الغيظ إمساكه وإخفاؤه حتّى لا يظهر عليه، وهو مأخوذ من كظم القربة إذا ملأها وأمسك فمها، قال المبرّد: فهو تمثيل للإمساك مع الامتلاء، ولا شكّ أن أقوى القوى تأثيرا على النّفس القوّة الغاضبة فتشتهي إظهار آثار الغضب، فإذا استطاع إمساك مظاهرها، مع الامتلاء منها، دلّ ذلك على عزيمة راسخة في النّفس، وقهر الإرادة للشهوة، وهذا من أكبر قوى الأخلاق الفاضلة.
ج. الصفة الثالثة: العفو عن النّاس فيما أساؤوا به إليهم، وهي تكملة لصفة كظم الغيظ بمنزلة الاحتراس لأنّ كظم الغيظ قد تعترضه ندامة فيستعدي على من غاظه بالحقّ، فلمّا وصفوا بالعفو عمّن أساء إليهم دلّ ذلك على أنّ كظم الغيظ وصف متأصّل فيهم، مستمرّ معهم، وإذا اجتمعت هذه الصّفات في نفس سهل ما دونها لديها.
10. بجماعها يجتمع كمال الإحسان ولذلك ذيل الله تعالى ذكرها بقوله: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ لأنه دال على تقدير أنهم بهذه الصفات محسنون والله يحبّ المحسنين.
11. ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ إن كان عطف فريق آخر، فهم غير المتّقين الكاملين، بل هم فريق من المتّقين خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا، وإن كان عطف صفات، فهو تفضيل آخر لحال المتّقين بأن ذكر أوّلا حال كمالهم، وذكر بعده حال تداركهم نقائصهم.
12. الفاحشة الفعلة المتجاوزة الحدّ في الفساد، ولذلك جمعت في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ﴾ [النجم: 32] واشتقاقها من فحش بمعنى قال قولا ذميما، كما في قول عائشة: (لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فاحشا ولا متفحّشا)، أو فعل فعلا ذميما، ومنه ﴿قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [الأعراف: 28]
13. لا شك أنّ التّعريف هنا تعريف الجنس، أي فعلوا الفواحش، وظلم النفس هو الذنوب الكبائر، وعطفها هنا على الفواحش كعطف الفواحش عليها في قوله: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ﴾ [النجم: 32]، فقيل: الفاحشة المعصية الكبيرة، وظلم النّفس الكبيرة مطلقا، وقيل: الفاحشة هي الكبيرة المتعدية إلى الغير، وظلم النّفس الكبيرة القاصرة على النّفس، وقيل: الفاحشة الزنا، وهذا تفسير على معنى المثال.
14. الذكر في قوله: ﴿ذَكَرُوا اللهَ﴾ ذكر القلب وهو ذكر ما يجب لله على عبده، وما أوصاه به، وهو الّذي يتفرّع عنه طلب المغفرة؛ وأمّا ذكر اللّسان فلا يترتّب عليه ذلك، ومعنى ذكر الله هنا ذكر أمره ونهيه ووعده ووعيده، والاستغفار: طلب الغفر أي الستر للذنوب، وهو مجاز في عدم المؤاخذة على الذنب، ولذلك صار يعدّي إلى الذنب باللام الدالة على التّعليل كما هنا، وقوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [غافر: 55]، ولمّا كان طلب الصفح عن المؤاخذة بالذنب لا يصدر إلا عن ندامة، ونية إقلاع عن الذنب، وعدم العودة إليه، كان الاستغفار في لسان الشارع بمعنى التوبة، إذ كيف يطلب العفو عن الذنب من هو مستمرّ عليه، أو عازم على معاودته، ولو طلب ذلك في تلك الحالة لكان أكثر إساءة من الذنب، فلذلك عدّ الاستغفار هنا رتبة من مراتب التّقوى، وليس الاستغفار مجرّد قول (أستغفر الله) باللّسان والقائل ملتبس بالذنوب، وعن رابعة العدوية أنّها قالت: (استغفارنا يحتاج إلى الاستغفار) وفي كلامها مبالغة فإنّ الاستغفار بالقول مأمور به في الدّين لأنّه وسيلة لتذكّر الذنب والحيلة للإقلاع عنه.
15. جملة ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾ معترضة بين جملة ﴿فَاسْتَغْفَرُوا﴾ وجملة ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾، والاستفهام مستعمل في معنى النّفي، بقرينة الاستثناء منه، والمقصود تسديد مبادرتهم إلى استغفار الله عقب الذنب، والتعريض بالمشركين الّذين اتّخذوا أصنامهم شفعاء لهم عند الله، وبالنّصارى في زعمهم أنّ عيسى رفع الخطايا عن بني آدم ببلية صلبه.
16. قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا﴾ إتمام لركني التّوبة لأنّ قوله: ﴿فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ يشير إلى الندم، وقوله: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا﴾ تصريح بنفي الإصرار، وهذان ركنا التّوبة، وفي الحديث: (النّدم توبة)، وأما تدارك ما فرّط فيه بسبب الذنب فإنّما يكون مع الإمكان، وفيه تفصيل إذا تعذّر أو تعسّر، وكيف يؤخذ بأقصى ما يمكن من التدارك.
17. ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ حال من الضّمير المرفوع في (ذكروا) أي: ذكروا الله في حال عدم الإصرار، والإصرار: المقام على الذنب، ونفيه هو معنى الإقلاع.
18. ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ حال ثانية، وحذف مفعول يعلمون لظهوره من المقام أي يعلمون سوء فعلهم، وعظم غضب الربّ، ووجوب التوبة إليه، وأنّه تفضّل بقبول التّوبة فمحا بها الذنوب الواقعة.
19. انتظم من قوله تعالى: ﴿ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا﴾ وقوله: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا﴾ وقوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ الأركان الثلاثة الّتي ينتظم منها معنى التّوبة في كلام أبي حامد الغزالي في كتاب التّوبة من (إحياء علوم الدّين) إذ قال: (وهي علم، وحال، وفعل، فالعلم هو معرفة ضرّ الذنوب، وكونها حجابا بين العبد وبين ربّه، فإذا علم ذلك بيقين ثار من هذه المعرفة تألّم للقلب بسبب فوات ما يحبّه من القرب من ربّه، ورضاه عنه، وذلك الألم يسمّى ندما، فإذا غلب هذا الألم على القلب انبعثت منه في القلب حالة تسمّى إرادة وقصدا إلى فعل له تعلّق بالحال والماضي والمستقبل، فتعلّقه بالحال هو ترك الذنب (الإقلاع)، وتعلّقه بالمستقبل هو العزم على ترك الذنب في المستقبل (نفي الإصرار)، وتعلّقه بالماضي بتلافي ما فات):
أ. فقوله تعالى: ﴿ذَكَرُوا اللهَ﴾ إشارة إلى انفعال القلب.
ب. وقوله: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا﴾ إشارة إلى الفعل وهو الإقلاع ونفي العزم على العودة.
ج. وقوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ إشارة إلى العلم المثير للانفعال النفساني.
20. رتّبت هاته الأركان في الآية بحسب شدّة تعلّقها بالمقصود: لأنّ ذكر الله يحصل بعد الذنب، فيبعث على التّوبة، ولذلك رتّب الاستغفار عليه بالفاء، وأمّا العلم بأنّه ذنب، فهو حاصل من قبل حصول المعصية، ولولا حصوله لما كانت الفعلة معصية، فلذلك جيء به بعد الذكر ونفي الإصرار، على أنّ جملة الحال لا تدلّ على ترتيب حصول مضمونها بعد حصول مضمون ما جيء به قبلها في الأخبار والصّفات، ثمّ إن كان الإصرار، وهو الاستمرار على الذنب، كما فسّر به كان نفيه بمعنى الإقلاع لأجل خشية الله تعالى، فلم يدلّ على أنّه عازم على عدم العود إليه، ولكنّه بحسب الظاهر لا يرجع إلى ذنب ندم على فعله، وإن أريد بالإصرار اعتقاد العود إلى الذنب فنفيه هو التّوبة الخالصة، وهو يستلزم حصول الإقلاع معه إذ التلبّس بالذنب لا يجتمع مع العزم على عدم العود إليه، فإنّه متلبّس به من الآن.
21. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ استئناف للتنويه بسداد عملهم: من الاستغفار، وقبول الله منهم، وجيء باسم الإشارة لإفادة أنّ المشار إليهم صاروا أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة، لأجل تلك الأوصاف الّتي استوجبوا الإشارة لأجلها، وهذا الجزاء وهو المغفرة وعد من الله تعالى، تفضّلا منه: بأن جعل الإقلاع عن المعاصي سببا في غفران ما سلف منها، وأمّا الجنّات فإنّما خلصت لهم لأجل المغفرة، ولو أخذوا بسالف ذنوبهم لما استحقّوا الجنّات فالكلّ فضل منه تعالى.
22. ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ تذييل لإنشاء مدح الجزاء، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره هو، والواو للعطف على جملة ﴿جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ فهو من عطف الإنشاء على الإخبار، وهو كثير في فصيح الكلام، وسمّي الجزاء أجرا لأنّه كان عن وعد للعامل بما عمل، والتّعريف في (العاملين) للعهد أي: ونعم أجر العاملين هذا الجزاء، وهذا تفضيل له والعمل المجازي عليه أي إذا كان لأصناف العاملين أجور، كما هو المتعارف، فهذا نعم الأجر لعامل.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/221.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآيات موصولة بالآيات التي قبلها؛ إذ الآيات التي قبلها ختمت بالأمر بطاعة الله ورسوله، فقد قال سبحانه: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ وفي هذه الآيات بيان معنى هذه الطاعة المطلوبة التي تؤدى إلى التراحم والتواصل والتواد، ولذلك كانت هناك رواية بالقراءة من غير وصل بالواو ﴿سارِعُوا﴾ بدل ﴿وَسَارِعُوا﴾ وإن رواية القراءة من غير وصل واضحة من حيث النسق في أنها تفصيل لمعنى الطاعة المطلوبة، والقراءة المشهورة التي عليها القراء السبعة فيها ما يدل على أنها لبيان معنى الطاعة بالمعاني لا بالنسق.
2. ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ المسارعة هنا معناها المبادرة والاتجاه الذي لا تراخى فيه، ومعنى المسارعة إلى مغفرة الله تعالى المبادرة باتخاذ طريقها، بأن يطهر قلبه من المعاصي ونفسه من الأدران، ويتجه إليه سبحانه بقلب سليم قد رحض عنه المعاصي كما رحض الثوب من الأوساخ، ولقد فسر ذو النورين قوله تعالى ﴿إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ بالإخلاص، أي بادروا بالإخلاص وتنقية القلوب إلى مغفرة الله تعالى فإن ذلك هو الطريق المستقيم لطلب رضا الله تعالى، ولقد عظّم سبحانه وتعالى شأن المغفرة التي ينبغي طلبها والاتجاه إليها فذكر بأنها تجيء من ربكم الذي خلقكم ونماكم ورعاكم، فهي مغفرة تعلو بعلو مصدرها وهى الأمان والاعتصام.
3. يلاحظ أن القرآن يعدى المسارعة في الخير بـ (إلى)، والمسارعة في الشر بـ (في)، فيقول سبحانه: ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ ويقول هنا: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ﴾ لأن المسارعة في الكفر تنقّل في براثنه فهم في قبته المظلمة التي تحيط بهم يتنقلون بالضلال في أرجائها، وهم في مرتبة واحدة، أما المسارعة إلى الخير، فإنها انتقال من رتبة إلى رتبة، ومن مقام صالح إلى مقام أصلح منه.
4. ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ هذا عطف على مغفرة، وفيها إشارة إلى أن مغفرة الله سبحانه تطلب وحدها؛ لأن فيها طلب رضا الله تعالى، ورضا الله تعالى أكبر غايات المتقين، ولذا قال تعالى في جزاء المتقين: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة]، فأكابر المتقين يطلبون رضا الله لذاته لا خوفا من ناره ولا طمعا في جناته، فالمطلب الأكبر هو المغفرة، والمطلب الذي يليه هو ﴿جنة عرضها السماوات والأرض﴾ وهو ما يطلبه الذين دون الصدّيقين والشهداء.
5. العرض ضد الطول، وهو أقصر منه في الغالب، والنص لبيان سعة الجنة، لأنها رحمة الله تعالى بعباده الأتقياء، ولذا عبر عن هذه السعة بأوسع ما يدركه الحس، وأوسع ما يعلمه الناس من خلقه سبحانه.
6. سؤال وإشكال: لم ذكر العرض، ولم يذكر الطول، وهو أدل على الانفراج والبسط؟ والجواب: أن ذكر العرض أبلغ في الدلالة، لأنه إذا كان عرضها كعرض السماوات والأرض فإنه يذهب العقل في إدراك طولها كل مذهب، ويتصور الكثير من الصور، وذلك كقول الله تعالى: ﴿بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ [الرحمن] فإنه إذا كانت البطانة من الحرير الثمين فكيف يكون ما فوق البطانة مما تراه الأعين ويسر الناظرين؟ وقد يقال إن ذكر العرض ذكر للطول فإن تنسيق البيان يوجب المساواة بين طول الجنة وطول السماوات والأرض، كما أن عرضها كعرضهما، ويكون ذلك من الإيجاز البليغ، وقد فسر أبو مسلم الأصفهاني ـ العرض هنا ـ بالأشياء القيمية المعروضة للبيع التي جمعها عروض، ومن ذلك قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس)، ويكون المعنى على هذا التفسير أن الجنة في قيمتها وعلوها وسموها ومكانتها تعادل السماوات والأرض في قيمتهما، فهي الحياة وهى النعيم المقيم الدائم.
7. ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي هيئت ووضعت للمتقين، وهم الذين جعلوا بينهم وبين الشر وقاية أي جعلوا أنفسهم في حصن فلا مدخل للشيطان إليها، ولا سارب له في قلوبهم، وصار ذلك شأنا من شؤونهم حتى كان وصفا وحالا دائمة مستمرة لهم.
8. أخذ الله تعالى بعد ذلك يبيّن سبحانه وتعالى الصفات التي رفعتهم إلى هذه الرتبة، والتي جعلتهم يصلون إلى هذه المنزلة فذكر خمس صفات كلها ذات صلة وثيقة ببناء مجتمع سليم قوى ثابت، وقد ذكر الصفة الأولى فقال سبحانه: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ ومعنى النص السامي أنهم ينفقون، ويتجدد إنفاقهم آنا بعد آن، ولذا عبر المضارع؛ لأن التعبير بالمضارع يفيد التجدد المستمر، والتعبير بالماضي يفيد الواقع المنقضى.
9. معنى قوله تعالى: ﴿فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ أنهم ينفقون في حال مسرتهم، وحال مساءتهم، وهذا يشمل أحوالا كثيرة، فهم ينفقون في حال الغنى والفقر واليسر والعسر، وكل حال بمقدارها، وفي حال الصحة والمرض، وفي السرور والحزن، وحال عرس أو مأتم أو حبس، والمغزى في هذا أنه لا تشغلهم أنفسهم عن حاجة الناس إليهم أو إلى أموالهم، ولا تشغلهم همومهم الخاصة عن هموم الناس، والإنفاق منهم ليس لمناسبات تعرض وتزول، ولا لأحوال تجيء ثم تحول، بل هو لطبيعة ثابتة فيهم مستقرة غير مفترقة لا تزايلهم، وقدم الإنفاق على غيره من الصفات، لأنه وصف إيجابي وما عداه سلبى أو يتصل به، والإيجابى في أكثر أحواله أشق من السلبى، ولأنه أدل على الإخلاص، ولأنه في صدر الإسلام كان المجتمع أشد احتياجا إليه من غيره، إذ كان الفقر كثيرا، وكانت الحاجة إلى المال في الجهاد أشد؛ إذ كان ذلك ابتداء دولة، ولذلك قرن الأمر بالإنفاق بالنهى عن التعرض للتهلكة، فقال تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة]
10. ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ كظم الغيظ أن يمسك على ما في نفسه، فيحملها على الصبر، ولا يظهر أثر لهذا الغيظ، ولقد قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: (الغيظ أشد الغضب وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من فوران دم قلبه)، والغيظ بلا شك يدفع إلى الثورة وهى مظاهر الغضب فكظمه إبقاؤه في النفس وعدم ظهور آثاره في القول أو في الفعل، وأصل كظم من كظم السقاء إذا ملأه وسد فاه، والكظامة ما يسد به مجرى الماء، وكظم البعير إذا لم يجتر.
11. هذا الوصف ليس فيه منع للألم الذي يحدث من الأذى، بل إنه يدعو إلى كبح جماح الغضب ومنع نفسه من الاسترسال في مجاوبة الشر بمثله، وإن هذا لا ينال إلا بشق الأنفس وقوة الإرادة: ولذلك قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) ولقد اعتبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أقرب القربات ألا يغضب، واعتبر أن إبعاد المؤمن الغضب عن نفسه إبعاد لغضب الله تعالى عليه، فقد سأله أنس عما يبعد غضب الله تعالى، فقال له صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تغضب)
12. غضب المؤمن يجب أن يكون لأجل حقوق الله، وغيظه يجب أن يكون لانتهاك حرمات الله تعالى، ولقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجرا من جرعة غيظ في الله تعالى)
13. الوصف الثالث من أوصاف المتقين هو العفو، وهو ثمرة لكظم الغيظ، وإنه يجب أن يكون معه لأن الغيظ الشديد إذا لم يصحبه عفو فإنه يمض القلب، ويفسد النفس، وينهك القوى فلا بد أن يقترن بالكظم العفو لمصلحة الشخص ولمصلحة الناس، ولكيلا تتولد الإحن، وتتكاثر المحن، وليس العفو هو الستر على الجرائم العامة، فإن الجرائم العامة إذا ظهرت وجب العقاب لأنه تقليم لأظفارها، وقطع لآثارها فلا يصح العفو عن زان يعلن جريمته، ولا عن سارق اعتاد السرقة واستهان بالحرمات، وروّع الآمنين، كما لا يصح العفو عن فساق الألسنة، الذين يقذفون الناس، ويرمونهم بالسوء، ويعملون بذلك على إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، فإن العفو في هذه الأمور استهانة بحرمات الله تعالى، إنما العفو المطلوب هو الذى يكون في أنواع الأذى الشخصي وهى التي ينطبق عليها قول الله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف] وقوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت]، ولقد ذكرت عائشة في وصف النبيّ أنه كان لا يغضب إلا أن تنتهك حرمات الله، فإذا انتهكت حرمات الله لا يقوم لغضبه شيء حتى ينتقم لله.
14. ختم سبحانه هذه الآية بقوله تعالى: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ وهى الصفة الرابعة، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى بهذه الصفة لتوجيه النظر إليها، ولبيان أنها أعلى منازل التقوى، وأنها تنال بها محبة الله تعالى، والإحسان معناه الإتقان والإجادة، وهو يطلق في عبارات القرآن الكريم بإطلاقين أحدهما أن يراد به الإجادة المطلقة في كل ما يطالب الله تعالى به عباده، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف]، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في إحسان العبادة: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، والثاني أن يكون العمل أكثر من المكافأة، فهو لا يكافئ بالعدل بل يزيد، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ [النحل]، وقوله تعالى: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص]
15. الإحسان بالإطلاق الأول يتعدى بنفسه ويذكر بجواره العمل، والثاني يتعدى بـ (إلى) ويذكر بجواره المحسن إليه، وأقرب الإطلاقين فى الآية الكريمة هو الثاني، فإنها تومئ إلى أن البر التقى يكظم غيظه، ويعفو عمن ظلمه بل يحسن إليه إن كان للإحسان موضع، وإن الله سبحانه وتعالى أمر أهل الفضل بألا يذهب غيظهم بإحسانهم فقد قال تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ﴾ [النور] فقد نزلت هذه الآية عندما حلف أبو بكر ألا يعطى بعض قرابته الذين خاضوا في حديث الإفك بالنسبة لعائشة زوج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن هذه الدرجة هي أقصى ما تصل إليه السماحة البشرية، وهى لا تكون إلا لنفس محبة للناس، ولذلك كانت المكافأة هي حب الله تعالى.
16. ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ هذا هو الوصف الخامس من أوصاف المتقين الذين أعدت لهم الجنان التي عرضها كعرض السماوات والأرض، والفاحشة هي المعصية الزائدة التي تكون خارجة على مقتضى الطبيعة الإنسانية الفاضلة، وقد غلبت على الزنا، وبذلك فسر بعض العلماء الفاحشة هنا، وعلى هذا الرأي يكون المراد من قوله تعالى: ﴿أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ كل ذنب غير المعصية، وقال آخرون: الفاحشة الذنب الكبير، وظلم النفس الذنب الصغير، وبعض المفسرين يقول الفاحشة ما يتعدى أذاها إلى غيره، وظلم النفس ما لا يتجاوز الأذى نفسه، ويكون هذا كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ﴾ [النساء] وهذا كله على أن الفاحشة وظلم النفس أمران متغايران؛ وبعض العلماء على أنهما وجهان للمعصية، وأن كل معصية كبيرة فيها هذان الوجهان وتكون (أو) بمعنى (الواو)، ويكون المعنى: من يرتكب فاحشة ويظلم نفسه، ويتذكر الله عند ارتكابها فيعود إلى ربه يكون من المتقين؛ وإلى هذا نميل، والتعبير بصيغة الشرط ﴿إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ﴾ يفيد اقتران الجواب بالشرط، أي أن ذكر الله يكون عند الارتكاب ولا يكون بينهما تراخ يجعل الشر يفرخ في النفس، فالتوبة إلى الله تكون فور الارتكاب لا تراخى بينهما ولا يستمر في المعصية حتى تحيط به خطيئته، وهذا ما صرح الله تعالى به فى قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء]
17. معنى قوله تعالى: ﴿ذَكَرُوا اللهَ﴾ أي تذكروا أوامره ونواهيه وتذكروا عظمة الله تعالى وجلاله وقوته، ولذكر الله تعالى مرتبتان (إحداهما) ذكر أوامره ونواهيه وما أعده للمذنبين وما أعده للمتقين (والثانية) وهى العليا ذكر جلاله وعظمته وعلمه بما تخفى الصدور وهذه لا ينالها إلا الأبرار المقربون.
18. ذكر الله تعالى لا بد أن يتبعه لا محالة الاستغفار والإنابة، ولذا عقبه سبحانه بقوله: ﴿فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ فهو ثمرة ملازمة ونتيجة محتمة للذكر.
19. ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ الكلام موصول بالكلام السابق، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾ فيه بيان إجابة الاستغفار وفيه بيان أنه لا مفزع من الله إلا إليه، ولذا يقول الزمخشري في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾ (وصف لذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة، وإن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وإنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله، وأن عدله يوجب المغفرة للتائب لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو والتجاوز، وفيه تطييب لنفوس العباد وتنشيط للتوبة وبعث عليها، وردع عن اليأس والقنوط، وإن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم)، وذلك كلام مستقيم لولا أنه أوجب المغفرة حيث التوبة، والله تعالى لا يجب عليه شيء، وإن رحمة الله بعباده مع علمه بطبيعة تكوينهم الذي يتنازعه الخير والشر جعلت المغفرة قريبة، ولذا ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (والذى نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم) وشرط الاستغفار المجاب ألا يصر المذنب على ذنبه، ولذا قال تعالى: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي لم يصروا على الفعل الذي فعلوه بأن تكون عندهم النية إلى العودة إليه، وقد فعلوه وهم يعلمون أمر الله تعالى فيه ونهيه، ولذلك قال العلماء: (لا توبة مع الإصرار) وإن الاستغفار مع الإصرار ذنب في ذاته وقد قال الحسن البصرى: (استغفارنا يحتاج إلى استغفار) وإن من الإصرار على الذنوب أن يعلن التوبة، وللناس عنده مظالم لا يردها، فحقوق العباد لا تقبل التوبة فيها إلا بعد ردها إلى أصحابها، وإن التائب المعترف بذنبه المستكبر له التائب عنه مقرب إلى ربه حتى إن الصوفية يقولون: (إن معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت دلا وافتخارا)
20. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي أولئك الذين اتصفوا بهذه الصفات بسببها قد استحقوا برحمة الله تعالى جزاءهم وهو ثلاثة: أعلاها مغفرة من ربهم الذي خلقهم وهذه المغفرة دليل رضاه، وهو أعلى جزاء، والثاني الجنات التي تتوافر فيها أنواع النعيم، وثالثها الخلود، فهو نعيم ليس على مظنة الانتهاء، إذ إن توقع الزوال ينقص من قدره، ولذلك قال بعد ذلك سبحانه: ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ أي ذلك الجزاء جدير بأن يرغب فيه، ويتنافس فيه المتنافسون، ويطلبه كل عارف لحقيقته لم تلهه الدنيا بما فيها، فذلك المدح للحث على طلبه والعمل على استحقاقه وعدم التخلف عن الاتجاه إليه، اللهم اغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1410.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن نهى سبحانه عن أكل الربا، وحذر من النار، ودعا إلى التقوى وطاعة الله والرسول، بعد هذا كله أمر بالمسارعة إلى فعل الخير الذي يستوجب رضوان الله وجنته.. ومن أظهر الخيرات والمبرات التراحم والتعاون وانفاق المال لوجه الله تعالى، كما نصت الآية الآتية.. وقوله: ﴿عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ كناية عن السعة.
2. وصف الله المتقين بأوصاف هي مناقب وفضائل حتى عند من لا يؤمن بالله واليوم الآخر:
أ. منها: ﴿يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾، لا يبطرهم الغنى، ويزيد في طمعهم وحرصهم، فيشحون بالمال، ولا يضجرهم الفقر، ويبعثهم على اليأس ويرون انهم أجدر بالأخذ لا بالعطاء، وهم في الحالين سواء ينفقون حسبما يستطيعون، وفي الحديث: تصدقوا ولو بشق تمرة.
ب. ومنها: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، ولا شيء أدل على قوة الإيمان، ورجاحة العقل من تمالك النفس وكظم الغيظ، وإذا كان في تجرع الغيظ مرارة ومشقة على النفس، فإنه وقاية من كثير من المصائب والكوارث، قال الإمام علي عليه السلام يوصي ولده الإمام الحسن عليه السلام: تجرع الغيظ فاني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة، ولا ألذ مغبة.
ج. ومنها: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾، والعفو عمن أساء أفضل بكثير من كظم الغيظ، لأن الإنسان كثيرا ما يضبط نفسه، ويكظم غيظه بدافع من صالحه الخاص، وتجنبا للوقوع في المشاكل، أما العفو عن ذنوب الناس فهو احسان محض، قال الإمام علي عليه السلام: إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه.
د. ومنها: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويتحقق الإحسان بكل ما فيه نفع مادي أو معنوي، كثر، أو قلّ، ولو بكلمة (من هنا الطريق)، قال الشيخ المراغي في تفسير هذه الآية: (أخرج البيهقي ان جارية لعلي بن الحسين عليه السلام جعلت تسكب الماء عليه ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها فشجته، فرفع رأسه، فقالت: ان الله يقول: والكاظمين الغيظ، فقال لها: قد كتمت غيظي، قالت: والعافين عن الناس، قال قد عفا الله عنك، قالت: والله يحب المحسنين، قال اذهبي أنت حرة لوجه الله تعالى)
هـ. ومنها: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾، الفاحشة أفحش الذنوب وأكبرها، ومنها الاعتداء على حقوق الناس، وليس في ظلم النفس اعتداء على الغير، ولكن قد يكون فاحشا كالكفر، فيكون ذكره بعد ذكر الفاحشة من باب ذكر العام بعد الخاص.. ومهما يكن، فإن الله يعفو عن الجميع، ويغفر كل ذنب كبيرا كان أو صغيرا بشرط الاستغفار، أي التوبة النصوحة، ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي ان الله سبحانه يغفر لمن تاب وأقلع عن الذنب، أما من أصر واستمر في فعل الذنب، وهو يعلم بأنه ذنب فلا يغفر الله له، ومعنى هذا ان من ارتكب قبيحا عن جهل بقبحه فهو معذور.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/158.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾، المسارعة هي الاشتداد في السرعة وهي ممدوحة في الخيرات، ومذمومة في الشرور، وقد قورن في القرآن الكريم المغفرة بالجنة في غالب الموارد، وليس إلا لأن الجنة دار طهارة لا يدخل فيها قذارات المعاصي والذنوب وأدرانها، ولا من تقذر بها إلا بعد المغفرة والإزالة.
2. المغفرة والجنة المذكورتان في هذه الآية تحاذيان ما في الآيتين التاليتين، أما المغفرة فتحاذي ما في قوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾، وأما الجنة فتحاذي ما في قوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾
3. ﴿جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ﴾، المراد بالعرض السعة وهو استعمال شائع، وكان التعبير كناية عن بلوغها في السعة غايتها أو ما لا يحدها الوهم البشري، وله معنى آخر سنشير إليه في البحث الروائي الآتي.
4. ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ كالتوطئة لذكر ما يذكره بعد من أوصاف المتقين، فإن الغرض هو بيان الأوصاف التي ترتبط بحال المؤمنين في المقام أعني عند نزول هذه الآيات وقد نزلت بعد غزوة أحد وقد جرى عليهم ومنهم ما جرى من الضعف والوهن والمخالفة، وهم مع ذلك مشرفون على غزوات أخر مثلها، وحوادث تشابهها، وبهم حاجة إلى الاتحاد والاتفاق والتلاؤم.
5. ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ إلى آخر الآية السراء والضراء ما يسر الإنسان وما يسوؤه أو اليسر والعسر، والكظم في الأصل هو شد رأس القربة بعد ملئها فاستعير للإنسان إذا امتلأ حزنا أو غضبا، والغيظ هيجان الطبع للانتقام بمشاهدة كثرة ما لا يرتضيه، بخلاف الغضب فهو إرادة الانتقام أو المجازاة، ولذلك يقال: غضب الله ولا يقال: اغتاظ.
6. في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، إشارة إلى أن ما ذكره من الأوصاف معرف لهم، وإنما هو معرف للمحسنين في جنب الناس بالإحسان إليهم، وأما في جنب الله فمعرفهم ما في قوله تعالى: ﴿وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ الآيات، بل هذا الإحسان المذكور في هذه الآيات هو المحتد للمذكور في قوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾، الآية فإن الإنفاق ونحوه إذا لم يكن لوجه الله لم يكن له منزلة عند الله سبحانه على ما يدل عليه قوله تعالى فيما سبق من الآيات: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ الآية وغيره.
7. يدل على ما ذكرناه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، فإن هذا الجهاد هو بذل الجهد ولا يكون إلا فيما يخالف هوى النفس ومقتضى الطبع، ولا يكون إلا إذا كان عندهم إيمان بأمور يقتضي الجري على مقتضاها، والثبات عليها مقاومة بإزاء ما يحبه طبع الإنسان وتشتهيه نفسه، ولازمه بحسب القول والاعتقاد أن يكونوا قائلين ربنا الله وهم مستقيمون عليه، وبحسب العمل أن يقيموا هذا القول بالجهاد في عبادة الله فيما بينهم وبين الله، وبالإنفاق وحسن العشرة فيما بينهم وبين الناس، فتحصل مما ذكرنا أن الإحسان إتيان الأعمال على وجه الحسن من جهة الاستقامة والثبات على الإيمان بالله سبحانه.
8. ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ الفاحشة ما تتضمن الفحش والقبيح من الأفعال، وشاع استعماله في الزنا، فالمراد بالظلم بقرينة المقابلة سائر المعاصي الكبيرة والصغيرة، أو خصوص الصغائر على تقدير أن يراد بالفاحشة المنكر من المعاصي وهي الكبائر.
9. في قوله تعالى: ﴿ذَكَرُوا اللهَ﴾ دلالة على أن الملاك في الاستغفار أن يدعو إليه ذكر الله تعالى دون مجرد التلفظ باعتياد ونحوه، وقوله: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾ تشويق وإيقاظ لقريحة اللواذ والالتجاء في الإنسان.
10. ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، إنما قيد به الاستغفار لأنه يورث في النفس هيئة لا ينفع معه ذكر مقام الرب تعالى وهي الاستهانة بأمر الله، وعدم المبالاة بهتك حرماته، والاستكبار عليه تعالى، ولا تبقى معه عبودية ولا ينفع معه ذكر، ولذلك بعينه قيده بقوله: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، وهذه قرينة على كون الظلم في صدر الآية يشمل الصغائر أيضا، وذلك أن الإصرار على الذنب يستوجب الاستهانة بأمر الله والتحقير لمقامه سواء كان الذنب المذكور من الصغائر أو الكبائر، فقوله: ﴿مَا فَعَلُوا﴾ أعم من الكبيرة، والمراد بما فعلوا هو الذي ذكر في صدر الآية، وإذ ليست الصغيرة فاحشة فهو ظلم النفس لا محالة.
11. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ بيان لأجرهم الجزيل، وما ذكره تعالى في هذه الآية هو عين ما أمر بالمسارعة إليه في قوله: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾.. ومن ذلك يعلم أن الأمر إنما كان بالمسارعة إلى الإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس والاستغفار.
12. في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ﴾ عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه سئل إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض ـ فأين تكون النار؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل؟.. وما فسر كلامه صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن المراد كون النار في علم الله تعالى ـ كما أن الليل عند مجيء النهار في علم الله تعالى ـ فإن أريد أن النار لا يعزب عن علمه تعالى فمن المعلوم أن هذا الجواب لا يدفع الإشكال فإن السؤال إنما هو عن مكان النار لا عن علم الله تعالى بها، وإن أريد أن من الممكن أن يكون هناك مكان آخر وراء السماوات والأرض تكون النار متمكنة فيها فهو وإن لم يكن مستبعدا في نفسه لكن مقايسة الجنة والنار بالنهار والليل حينئذ لا تكون في محلها، فإن الليل لا يخرج عن حيطة السماوات والأرض عند مجيء النهار فالحق أنه تفسير غير مرضي، وأظن أن الرواية ناظرة إلى معنى آخر وتوضيحه: أن الآخرة بنعيمها وجحيمها وإن كانت مشابهة للدنيا ولذائذها وآلامها، وكذلك الإنسان الحال فيها وإن كان هو الإنسان الذي في الدنيا بعينه على ما هو مقتضى ظواهر الكتاب والسنة غير أن النظام الحاكم في الآخرة غير النظام الحاكم في الدنيا، فإنما الآخرة دار أبدية وبقاء، والدنيا دار زوال وفناء، ولذلك كان الإنسان يأكل ويشرب وينكح ويتمتع في الجنة فلا يعرضه ما يعرض هذه الأفعال في الدنيا، وكذلك الإنسان يحترق بنار الجحيم، ويقاسي الآلام والمصائب في مأكله ومشربه ومسكنه وقرينه في النار ولا يطرأ عليه ما يطرأ عليه معها وهو في الدنيا، ويعمر عمر الأبد ولا يؤثر فيه ذلك كهولة أو شيبا أو هرما وهكذا، وليس إلا أن العوارض والطواري المذكورة من لوازم النظام الدنيوي دون مطلق النظام الأعم منه ومن النظام الأخروي، فالدنيا دار التزاحم والتمانع دون الآخرة، ومما يدل عليه أن الذي نجده في ظرف مشاهدتنا من الحوادث الواقعة يغيب عنا إذا شاهدنا غيره ثانيا كحوادث الأمس وحوادث اليوم، والليل والنهار وغير ذلك، وأما الله سبحانه فلا يغيب عنه هذا الذي نشاهده أولا ويغيب عنا ثانيا ولا الذي نجده بعده ولا مزاحمة بينهما، فالليل والنهار وكذا الحوادث المقارنة لهما متزاحمات متمانعات بحسب نظام المادة والحركة، وهي بعينها لا تتزاحم ولا تتمانع بحسب نظام آخر، ويستفاد ذلك من قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا﴾، وإذا أمكن ذلك في مثل الليل والنهار وهما متزاحمان جاز في السماوات والأرض أن تسع ما يساويهما سعة، وتسع مع ذلك شيئا آخر يساويه مقدارا كالجنة والنار مثلا لكن لا بحسب نظام هذه الدار بل بحسب نظام الآخرة، ولهذا نظائر في الأخبار كما ورد: أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وما ورد: أن المؤمن يوسع له في قبره مد بصره، فعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل؟)، لظهور أن لو كان المراد أن الله سبحانه لا يجهل الليل إذا علم بالنهار لم يرتبط بالسؤال، وكذا لو كان المراد أن الليل يبقى في الخارج مع مجيء النهار اعترض عليه السائل بأن الليل يبطل مع وجود النهار إذا قيسا إلى محل واحد من مناطق الأرض، وإن اعتبرا من حيث نفسهما فالليل بحسب الحقيقة ظل مخروط حادث من إنارة الشمس، وهو يدور حول الكرة الأرضية بحسب الحركة اليومية فالليل والنهار سائران حول الأرض دائما من غير بطلان ولا عينيه.
13. للرواية نظائر بين الروايات كما ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ من قوله عليه السلام: إذا غابت الشمس فأين يصير هذا الشعاع المنبسط على الأرض؟ الحديث، وسيجيء البحث عنها.
14. ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بقوله: هناك روايات كثيرة جدا في حسن الخلق وسائر الأخلاق الفاضلة كالإنفاق والكظم والعفو ونحوها واردة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأئمة أهل البيت عليه السلام أخرنا إيرادها إلى محل آخر أنسب لها.
في الكافي، عن الصادق عليه السلام: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، وفي تفسير العياشي، عن الصادق عليه السلام في حديث قال: (وفي كتاب الله نجاة من الردى، وبصيرة من العمى، وشفاء لما في الصدور ـ فيما أمركم الله به من الاستغفار والتوبة ـ قال الله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، وقال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، فهذا ما أمر الله به من الاستغفار، واشترط معه التوبة والإقلاع عما حرم اللهـ فإنه يقول: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾، وبهذه الآية يستدل أن الاستغفار لا يرفعه إلى اللهـ إلا العمل الصالح والتوبة).. قد استفاد عليه السلام الإقلاع وعدم العود بعد التوبة من نفي الإصرار، وكذا احتياج التوبة والاستغفار إلى صالح العمل بعده من عموم الكلم الطيب في قوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ الآية.
15. في المجالس، عن الصادق عليه السلام قال:(لما نزلت هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾، صعد إبليس جبلا بمكة يقال له ثور ـ فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه ـ فقالوا له: يا سيدنا لم تدعونا؟ قال نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا وكذا ـ فقال: لست لها، فقام آخر فقال مثل ذاك ـ فقال: لست لها، فقال الوسواس الخناس: أنا لها ـ قال بما ذا؟ قال أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة ـ فإذا واقعوها أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة).. والرواية مروية من طرق أهل السنة أيضا.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/20.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ قرئ ﴿سَارِعُوا﴾ بدون العطف، وقرئ: ﴿وَسَارِعُوا﴾ بـ (الواو) والمسارعة، والمبادرة، والمسابقة متقاربة يجمعها تعجيل العمل و﴿مَغْفِرَةٌ﴾ نكرة يراد بها مغفرة خاصة، وهي المغفرة في الآخرة، المغفرة الخاصة للمتقين؛ لأن الناس في الدنيا يشتركون في مغفرةٍ المحسن والمسيء، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ [الرعد:6] وقال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا﴾ [الكهف:58]
2. قوله تعالى: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ يدل على أن المغفرة صرف عذاب جهنم، فكأنه قال سارعوا إلى صرف النار عنكم وإدخالكم الجنة.
3. في قوله تعالى: ﴿عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ﴾ ترغيب عظيم، يفيد: أن للواحد من أهلها مملكة لقلّة أهلها مع سعتها.
4. قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ تفسير للمسارعة أنها المسارعة إلى التقوى وفيها، ثم بيّن المتقين لأن أصل المتقي من يتخذ لنفسه وقاية تقيه فيختلف معناه باختلاف ما يتّقى فبيّن أن المتقي هو المطيع، إلا أن أهل الطاعة طبقتان:
أ. الطبقة الأولى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ فهذه درجة المحسنين، ولن يبلغ هذه الدرجة إلا الأخيار، كما قال الشاعر:
çذريني أنل ما لا ينال من العلى... فصعب العلى في الصعب والسهل في السهلé
والمقصود بهم: المؤمنون، ولذلك قال في آخرها: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ التاركين لما يحبط الأعمال ويمنع قبولها، فالصفات المذكورة عناوين لفضلهم، وعلامات لكمالهم
• ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ﴾ حال السرور بسعة الرزق ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ حال الإقلال والحاجة، فهم ﴿يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر:9] والمراد الإنفاق في وجوه الخير المقربة إلى الله.
• ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ الذين يصبرون ويمنعون أنفسهم من فعل ما يشفي الغيظ من الانتقام، قال في (المصابيح): (قال المبرد: تأويله أنه كتمه على امتلائه، ومنه يقال: كظمت السقاء: إذا ملأته وشددت عليه، والكاظم الممتلئ غيظاً) انتهى المراد، أي الممتلئ الذي يحبسه كما يشد على القربة.
• ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ تقرباً إلى الله، ولذلك يعفو عن القريب والبعيد، والغني والفقير، والصغير والكبير، والمحسن والمسيء، يصل من قطعه، ويعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه إلا فيما شرعه الله من الحدود والآداب فيفعله لله لا انتقاماً لنفسه.
• ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ وهؤلاء منهم، فما أعظم شأنهم وأسعد حالهم في الآخرة، وقد فسر الله المحسنين في قوله تعالى: ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [لقمان:3 ـ 5]
ب. الطبقة الثانية من المتقين: ﴿الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ فعلوا معصية فاحشة زائدة في قبحها ﴿أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بأي ذنب تعرضوا به لعقوبة من الله ﴿ذَكَرُوا اللهَ﴾ الرقيب عليهم العليم بما يصنعون، الذي إليه يرجعون، المنعم عليهم نعماً لا تحصى، ذكروه ذكراً بقلوبهم أدّاهم إلى الاستغفار وترك الإصرار على العصيان؛ لأجل أنه تفريط في جنب الله.
5. الاستغفار: طلب الغفران، والمراد به: ما تطابق عليه القلب واللسان، والمراد: استغفروا الله أي طلبوه الغفران ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾ ولذلك طلبوه ولم يطلبوا غيره أو يتكلوا على غيره كما يتكل المشركون على شفاعة شركائهم.
6. ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أن قد عصوا به ربهم، فهم متعمدون له عالمون أنه معصية فخرجوا عنه بترك الإصرار وترك الإصرار: بالإضراب عنه، والعزم أن لا يعودوا إليه أبداً، وبالاستغفار، فالتوبة أمران هما المذكوران، فأما الندم على ما مضى من المعصية فهو شرط؛ لأنه لا يخرج عن الرضى بالمعصية إلا بالندم على فعلها فهو شرط في ترك الإصرار، لأن من الذنب الرضى بالذنب، قال أمير المؤمنين عليه السلام فيما روي في (نهج البلاغة): (الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كل داخل في باطل إثمان: إثم العمل به، وإثم الرضى به)، وهو موافق لكلام له آخر، حاصله: أن الرضى بالمعصية مشاركة فيها، واحتج لذلك بقول الله تعالى: ﴿فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ﴾ [الشعراء:157] فعمهم والذي باشر عقرها واحد منهم، قال تعالى: ﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ﴾ [القمر:29]، وفي كتاب (الاعتبار وسلوة العارفين) ما لفظه: (وعن القاسم بن إبراهيم عليه السلام: التوبة: الندم، والعزم على ألا يعود إلى شيء من المعاصي والإخلال بالواجب، وذلك مروي عن علي بن موسى الرضا عليه السلام وعليه الاعتماد، فالتوبة: الندم، والعزم على أن لا يعود إلى أمثاله في القبيح أو الإخلال بالواجب شرط)، والأولى أنهما ركنان للخروج من الإصرار لتحقيق الخروج عن الإصرار، وقد دلت الآية دلالة واضحة على أن الاستغفار وحده لا يكفي بل لابد من ترك الإصرار وإلا لم يكن العاصي من المتقين، وهذا واضح وعلى هذا فلا يقبل الاستغفار مع الإصرار؛ لقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة:27] والمصر ليس مؤمناً، لأن المؤمن هو المسلّم لأمر الله وحكمه وأين التسليم من العاصي المصر، والإيمان شرط في قبول العمل لقوله الله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾ [الأنبياء:94]
7. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ أهل الصفات المذكورة من قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ جزاؤهم ما سارعوا إليه المغفرة والجنة التي عرضها السماوات والأرض، لهم فيها جنات بساتين كثيفة الشجر ملتفة الغصون ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ فهي مخضرة على الدوام ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا﴾ [الرعد:35] وللأنهار جمال مع جمال الشجر فاجتمع جمالهما.
8. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ لا يموتون ولا يفارقونها ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ ذلك الأجر العظيم ﴿وَنِعْمَ﴾ كلمة مدح، تفيد: استحقاق الممدوح للمدح من الله مالك الملك، قال الشرفي في (المصابيح): (ودلت الآيات على أن الجنة للمتقين والتائبين دون المصرين خلاف ما افتراه الرازي والمجبرة، ودل قوله تعالى: ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ على أن ذلك أجر لعملهم، فيبطل قول المجبرة: أن الثواب لا يستحق بالعمل)
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/536.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول الآيات الكريمة:
أ. جاء في المجمع: روي أن قوما من المؤمنين قالوا: يا رسول الله، بنو إسرائيل أكرم على الله منا، كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة بابه: (أجدع أنفك أو أذنك افعل كذا)، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزلت الآية، فقال: ألا أخبركم بخبر من ذلكم؟ وقرأ عليهم هذه الآية، عن ابن مسعود.. وفي ذلك تسهيل لما كان قد شدّد فيه على بني إسرائيل، إذ جعل الاستغفار بدلا منه.
ب. وقيل: نزلت في نبهان التمار، أتته امرأة تبتاع منه تمرا، فقال لها: إن هذا التمر ليس بجيّد، وفي البيت أجود منه، وذهب بها إلى بيته فضمّها إلى نفسه فقبّلها، فقالت له: اتّق الله، فتركها وندم، وأتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذكر له ذلك، فنزلت الآية؛ عن عطاء.
2. في هذه الآيات دعوة للمؤمنين إلى الإسراع في الحصول على المغفرة من الله بالعمل على تحصيل أسبابها، التي جعلها الله في الانسجام مع خطّه المستقيم في العقيدة والتشريع، وفي الوصول إلى الجنّة الواسعة التي عرضها السماوات والأرض في إيحاء بالامتداد الواسع.. ولعلّ في هذه الدعوة إلى الإسراع، بعض الإيحاء بأنّ العمر الذي يعيشه الإنسان فرصة سانحة قد لا تمتد طويلا، فمن الممكن أن يكون قصيرا لا يتسع للانتظار الطويل، فلا بدّ من اغتنامه كفرصة لا تعوّض، ممّا يقتضي بذلك الجهد في اتجاه الطاعة بأسرع وقت ممكن للحصول على نتائجها الدنيوية والأخروية.
3. ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ بالسير في خط الطاعة والبعد عن خط المعصية بالالتزام بأوامر الله ونواهيه من خلال الإسلام في عقائده ومفاهيمه وشرائعه، فإنه السبيل الأقوم للحصول على مغفرة الله سبحانه.
4. ذكر المفسّرون وجوها في تفسير المراد من قوله: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾، فهل ذلك ثابت في حالة ضمّ بعضها إلى بعض، أم أن ذلك كناية عن السعة، من دون أن يكون فيه نوع من الدقة في التحديد، أم أن هناك وجها آخر غير ذلك؟ ربّما كان الأقرب أنها واردة مورد الكناية عن السعة، لأنّ السياق لا يقتضي أكثر من ذلك، بل يوحي بشيء من هذا القبيل، ومع ذلك فإن تحقيق هذا غير مهم من ناحية الفكرة العامّة للآية، وهي التركيز على الصفات المميّزة للمتقين الذين أعدّت لهم هذه الجنّة، وهي صفات خمس ثلاث منها تتصل بطبيعة حركة العلاقات الاجتماعية التي تربط المتقين بالناس في حيويّة الممارسة وإنسانيتها وطهارتها وفاعليتها، وذلك هو قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾، وتفصيل الموضوع في هذه الصفات في عدة نقاط:
أ. ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ الإنفاق على الناس في حالتي الشدة والرخاء، مما يعني أنّ هذا الإنفاق ليس حالة طارئة في ذات التقي، يختص بأريحية الإنسان في حالات الرخاء، بل هو حالة أصيلة تحرّك الإنسان نحو العطاء حتى في أشدّ حالات الضيق والضرّ.
ب. ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ الذي يعبّر عن الإرادة القويّة التي يواجه بها الإنسان حالات الانفعال التي تدفعه إلى الاندفاع في تفجير الغيظ الذي تمتلئ به نفسه تجاه الآخرين، فلا يسمح لها بأن تجرّه إلى ذلك ممّا لا تحمد عقباه، بل يحاول أن يحبس غيظه في صدره.
ج. ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ الذي يمثل الروح المتسامحة الطبيعة التي لا تنطلق من عقدة نفسية داخليّة عندما تكظم غيظها، بل تعمل على التخلص من كل أجواء الغيظ بتفريغ النفس من كل الحالات السلبيّة التي تثيره وتعقّده، وذلك بأن يتلمس أسباب العفو في دراسته للنقص الذي ركّب في الإنسان، أو للظروف الداخلية أو الخارجية التي دفعته نحو الخطأ، أو بغير ذلك مما يوحي بالأسباب التخفيفيّة الباعثة على العفو عنه، واعتبار كأن الخطأ لم يكن، في كل سلبياته الذاتية، وهذا ما يجعل من الأمر بالصبر وكظم الغيظ وسيلة للتهدئة والتبريد الداخلي، من أجل دفع الإنسان إلى التفكير الهادئ المتّزن الذي لا يتعامل مع العنف، بل يتعامل مع الرفق واللين، ولا يندفع في اتجاه تعقيد المشاكل بل يعمل على حلّها مهما أمكن، ذلك هو السبيل الذي يجعل من العفو حالة واعية واقعية بدلا من أن تكون حالة مزاجية طارئة لا ترتكز على أساس من وعي وفكر وإيمان.
د. ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ قد تكون هذه صفة رابعة توحي بأن العفو وحده لا يكفي في إزالة النتائج السلبيّة إزاء الحالة النفسية التي أوجدها الغيظ، فلا بدّ من الإحسان لتتحوّل السلبيّات إلى إيجابيات.. وهذا ما يمكن أن تعبر عنه القصة المرويّة في سيرة الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السّلام الذي كانت إحدى جواريه تصب الماء من الإبريق على يده، فسقط على رأسه فشجّه فقالت له: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، فقال: قد كظمت غيظي، فأردفت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾، فقال: قد عفوت عنك، فقالت: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، فقال: اذهبي فأنت حرّة لوجه الله.
هـ. أمّا الصفة الأخيرة فقد حدثنا الله عنها في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾ وهي تتصل بعمق الصلة الروحية بالله، مما يجعل من الأخطاء الطارئة التي يفعلها الإنسان في معصيته لله، مجرد حدث عابر لا يمتد في حياته ولا يستمر، بل يتحوّل إلى ندم عميق يبعث في النفس حالة الخشوع التي تدفع إلى الاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله، لأن الإصرار على الذنب لا يتناسب مع الإخلاص لله والسير على خطه المستقيم، فإن معناه الإيحائي يتمثل في اللّامبالاة النفسية والعملية برضى الله وغضبه، مما يعني ضعفا في الإيمان، ونقصا في الروحية.. وقد أكّدت الآية بطريقة الجملة الاعتراضية، أن الله يغفر الذنوب التي يتوب منها الإنسان، بينما لا يواجه هذا الإنسان في حياته العامّة مثل هذا الفيض السمح من المغفرة لدى الآخرين في ما إذا عاش بعض الأخطاء في حياته العامّة أو الخاصّة، والظاهر أن المراد بالفاحشة في الآية مطلق المعصية التي تمثل تجاوز الحدّ الذي يجب على الإنسان أن يقف عنده في علاقته بالله، ولا تختص بما كان مرتبطا بالعرض، لأن الآية واردة في ما هو أشمل من ذلك، كما أن ذلك هو المراد من ظلم الإنسان نفسه، فإن المعصية تمثّل ظلما للنفس في ما تستتبعه من سلبيّات في الحياة الدنيا وعقوبات في الآخرة.
5. تشير الآية إلى هؤلاء الذين يتصفون بهذه الصفات التي تمثّل سعة الأفق ورحابة الصدر وعمق العاطفة الإنسانية، وعظمة الشعور بالمسؤولية وقوّة الإرادة وامتداد الصلة الروحيّة في علاقتهم بالله وابتعادهم عن الإصرار على المعصية، وانسجامهم مع الخطّ العملي للطاعة ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾؛ ثم تفيض في تصوير الجزاء الأوفى الذي ينالونه عند الله ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ كنتيجة لما قدّموه بين أيديهم من أعمال، ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾
6. نستوحي من هذه الآيات، أن عظمة الشخصية الإنسانية هي في امتزاج الجوانب الإنسانية والعملية والروحية ببعضها البعض، لتمثل التوازن في حركة الشخصية وفاعليتها في الحياة، بعيدا عن فكرة الجانب الواحد الذي قد يرى فيه بعض الناس مظهرا حيّا من مظاهر التقييم، كما نلاحظ في النماذج التي تتميّز بالروحية في العبادة إلى مستوى الفناء والذوبان في محبّة الله، ولكنها تتميّز ـ في الجانب السلبي ـ بالقسوة في المعاملة والعلاقة، أو بالبخل في جانب العطاء، أو بالانفتاح على المعاصي مع الإصرار، أو بالانحرافات الاجتماعية في نطاق الكلمة والفعل والأسلوب.. فإن ذلك الارتباك في طبيعة هذه الصفات يدلّ على وجود خلل في عمق الصفة الواحدة المتميّزة وابتعادها عن الأجواء الرحبة الطاهرة، ذلك كلّه في نطاق الأوضاع الإسلامية السليمة.
7. تنتهي الآيات بما بدأت به من الحديث عن الجنّة والمغفرة كجزاء على ما قدّموا من عمل في سبيل تقويم نفوسهم وتوجيهها إلى الالتزام بالخطّ الإيماني الذي يتحوّل إلى معاناة وإحساس وحركة حياة من أجل الأفضل، لتوحي للإنسان، بأن المسارعة إلى المغفرة والجنّة تبدأ من تربية الذات على الصفات الأصيلة التي تعمّق في الإنسان معنى إنسانيّته وتحوّله إلى عنصر خيّر تتحرّك فيه التقوى لتربطه بالله من جهة، وبالناس من جهة أخرى من خلال ارتباطه بالله.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/269.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن هددت الآيات السابقة العصاة وتوعدتهم بالعذاب والجحيم، وبشرت الأبرار المطيعين بالرحمة الإلهية وشوقتهم إليها جاءت الآية الأولى من هذه الآيات تشبه سعي المطيعين واجتهادهم بالسباق، والمسابقة المعنوية التي تهدف الوصول إلى الرحمة الإلهية، والنعم والعطايا الربانية الخالدة ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾
2. ﴿وَسَارِعُوا﴾ تعني تسابق اثنين أو أكثر للوصول إلى هدف معين فيحاول كلّ واحد ـ باستخدام المزيد من السرعة ـ أن يسبق صاحبه ومنافسه وهو أمر مندوب في الأعمال والأخلاق الصالحة، ومقبوح مذموم في الأفعال السيئة والأخلاق القبيحة.
3. إن القرآن الكريم يستفيد هنا ـ في الحقيقة ـ من نقطة نفسية هي:
أ. أن الإنسان لا يؤدي عمله بسرعة فائقة إذا كان بمفرده، وكان العمل من النوع الروتيني، أما إذا اتخذ العمل طابع المسابقة والتنافس الذي يستعقب جائزة قيمة ومكافأة ثمينة نجده يستخدم كلّ طاقاته، ويزيد من سرعته لبلوغ ذلك الهدف، ونيل تلك الجائزة، ثمّ إذا كان الهدف المجعول في هذه الآية هو (المغفرة) في الدرجة الأولى فلأن الوصول إلى أي مقام معنوي لا يتأتى بدون المغفرة والتطهر من أدران الذنوب، فلا بدّ إذن من تطهير النفس من الذنوب أولا، ثمّ الدخول في رحاب القرب الإلهي، ونيل الزلفى لديه، هذا هو الهدف أول.
ب. وأما الهدف الثاني لهذا السباق المعنوي العظيم فهو (الجنة) التي يصرح القرآن الكريم أن سعتها سعة السماوات والأرض ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾
4. هناك تفاوت قليلا بين هذه الآية وبين الآية 21 من سورة الحديد ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾، ففي هذه الآية ذكرت لفظة (المسابقة) مكان (المسارعة) كما ذكرت السماء بصورة المفرد المصدّر بألف ولام الجنس الذي يفيد العموم، كما استعمل هنا كاف التشبيه فيكون معنى هذه الآية هو أن سعة الجنة مثل سعة السماء والأرض، ومعنى الآية المبحوثة هنا هو أن سعة الجنة هي سعة السماوات والأرض فيكون المعنيان سواء.
5. ثم إنه سبحانه يختم الآية الحاضرة بقوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ فهذه الجنة العظيمة الموصوفة بتلك السعة قد هيئت للذين يتقون الله ويخشونه ويجتنبون معاصيه ويمتثلون أوامره.
6. ينبغي أن نعلم أن المراد بالعرض هنا ليس هو الطول والعرض الهندسي بل المراد ـ كما عليه اهل اللغة ـ هو السعة.
7. سؤال وإشكال: هل الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان بالفعل، أم أنهما توجدان فيما بعد على أثر أعمال الناس؟ والجواب: يعتقد أكثر العلماء المسلمين أن للجنة والنار وجودا خارجيا وفعليا، وأن ظواهر الآيات القرآنية تؤيد هذه النظرية نذكر من باب النموذج ما يلي:
أ. ذكرت في الآية الحاضرة وآيات قرآنية أخرى لفظة (أعدت) وما شابه ذلك من مادة هذه اللفظة، وقد استعملت تارة بشأن الجنة وتارة بشأن النار.
ب. فيستفاد من هذه الآيات أن الجنة والنار معدتان فعلا، وإن كانتا تتوسعان فيما بعد على أثر أعمال الناس، (تأمل)
ج. نقرأ في الآيات 13 و14 و15 المرتبطة بالمعراج في سورة (والنجم) قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ وهذا يشهد مرّة أخرى بأن الجنة موجودة فعلا.
د. يقول سبحانه في سورة (التكاثر) الآية 5 و6 و7 ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ أي لو كان لديكم علم يقيني لشاهدتم الجحيم، بل لرأيتموها رأى العين.
هـ. ثمّ إن هناك روايات ترتبط بالمعراج، وروايات أخرى تحمل شواهد على هذه المسألة.
8. سؤال وإشكال: إذا كانت الجنة والنار موجودتين فعلا فأين تقعان؟ والجواب: يمكن الإجابة على هذا السؤال على نحوين:
أ. الأول: إن الجنة والنار تقعان في باطن هذا العالم ولا غرابة في هذا، فإننا نرى السماء والأرض والكواكب بأعيننا، ولكننا لا نرى العوالم التي توجد في باطن هذا العالم، ولو أننا ملكنا وسيلة أخرى للإدراك والعلم لأدركنا تلك العوالم أيضا، ولو قفنا على موجودات أخرى لا تخضع أمواجها لرؤية البصر، ولا تدخل ضمن نطاق حواسنا الفعلية، والآية المنقولة عن سورة (التكاثر) وهي قوله سبحانه: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ هي الأخرى شاهدة على هذه الحقيقة ومؤيدة لهذا الرأي، بها أن يشاهدوا الجنة والنار مشاهدة حقيقة، ويمكن التمثيل لهذا الموضوع بالمثال الآتي: لنفترض أن هناك في مكان ما من الأرض جهازا قويا للإرسال الإذاعي يبث في العالم ـ وبمعونة الأقمار الفضائية والأمواج الصوتية ـ تلاوات شيقة لآيات القرآن الكريم، بينما يقوم جهاز قوي إذاعي آخر ببث أصوات مزعجة وصاخبة بنفس القوّة، لا شكّ أننا لا نملك القدرة على إدراك هذين النوعين من البث بحواسنا العادية، ولا أن نعلم بوجودهما إلّا إذا استعنا بجهاز استقبال فإننا حينما ندير المؤشر على الموج المختص بكل واحد من هذين البثين نستطيع فورا أن نلتقط ما بثته كلّ واحدة من تينك الإذاعتين ونستطيع أن نميز بينهما بجلاء، ودون عناء، وهذا المثال وإن لم يكن كاملا من جميع الجهات إلّا أنه يصور لنا حقيقة هامة، وهي أنه قد توجد الجنة والنار في باطن هذا العالم غير أننا لا نملك إدراكها بحواسنا، بينما يدركها من يملك الحاسة النفاذة المناسبة.
ب. الثاني: إن عالم الآخرة والجنة والنار عالم محيط بهذا الكون، وبعبارة أخرى: إن كوننا هذا يقع في دائرة ذلك العالم، تماما كما يقع عالم الجنين ضمن عالم الدنيا، إذ كلنا يعلم أن عالم الجنين عالم مستقل له قوانينه وأوضاعه، ولكنه مع ذلك غير منفصل عن هذا العالم الذي نحن فيه، بل يقطع في ضمنه وفي محيطه ونطاقه، وهكذا الحال في عالم الدنيا بالنسبة إلى عالم الآخرة.
9. إذا وجدنا القرآن يقول: بأن سعة الجنة سعة السماوات والأرض فإنما هو لأجل أن الإنسان لا يعرف شيئا أوسع من السماوات والأرض ليقيس به سعة الجنة، ولهذا يصور القرآن عظمة الجنة وسعتها وعرضها بأنها كعرض السماوات والأرض، ولم يكن بد من هذا، فكما لو أننا أردنا أن نصور للجنين ـ فيما لو عقل ـ حجم الدنيا التي سينزل إليها، لم يكن لنا مناص من التحدث إليه بالمنطق الذي يدركه وهو في ذلك المحيط، ثمّ إنه تبين من ما مرّ الجواب على السؤال الآخر، وهو إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض فأين تكون النار؟
أ. لأنه حسب الجواب الأول يتضح أن النار هي الأخرى تقع في باطن هذا العالم، ولا ينافي وجودها فيه وجود الجنة فيه أيضا (كما تبين من مثال جهازي الإرسال)
ب. وأما حسب الجواب الثاني (وهو كون عالم الجنة والنار محيطا بهذا العالم الذي نعيش فيه) فيكون الجواب على هذا السؤال أوضح لأنه يمكن أن تكون النار محيطة بهذا العالم، وتكون الجنة محيطة بها فتكون النتيجة أن تكون الجنة أوسع من النار.
10. لما صرّح في الآية السابقة بأن الجنة أعدت للمتقين، تعرضت الآية التالية لذكر مواصفات المتقين فذكرت خمسا من صفاتهم الإنسانية السامية وأولها أنّهم ينفقون أموالهم في جميع الأحوال، في الشدّة والرخاء، في السرّاء والضرّاء ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾، وهم بهذا العمل يثبتون روح التعاطف مع الآخرين، وحب الخير الذي تغلغل في نفوسهم، ولهذا فهم يقدمون على هذا العمل الصالح والخطوة الإنسانية في جميع الظروف والأحوال، ولا شكّ أن الإنفاق في حال الرخاء فقط لا يدلّ على التغلغل الكامل للصفات الإنسانية في أعماق الروح وإنما يدلّ على ذلك إذا أقدم الإنسان على الإنفاق والبذل في مختلف الظروف وفي جميع الأحوال، فإن ذلك ممّا يدلّ على تجذر تلك الصفة في النفوس.
11. سؤال وإشكال: كيف يمكن للإنسان أن ينفق عندما يكون فقيرا؟ والجواب: واضح تمام الوضوح:
أ. أولا: لأن الفقراء يمكنهم إنفاق ما يستطيعون عليه، فليس للإنفاق حدّ معين لا في القلة ولا في الكثرة.
ب. وثانيا: لأن الإنفاق لا ينحصر في بذل المال والثروة فحسب، إذ للإنسان أن ينفق من كلّ ما وهبه الله، ثروة كان أو علما أو جاها أو غير ذلك من المواهب الإلهية الأخرى، وبهذا يريد الله سبحانه أن يركز روح التضحية والعطاء، والبذل والسخاء حتّى في نفوس الفقراء والمقلين حتّى يبقوا ـ بذلك ـ في منأى عن الرذائل الأخلاقية التي تنشأ من (البخل)
12. إن الذين يستصغرون الإنفاقات القليلة في سبيل الله ويحتقرونها إنما يذهبون هذا المذهب، لأنهم حسبوا لكلّ واحد منها حسابا مستقلا وخاصا، ولو أنهم ضموا هذه الإنفاقات الجزئية بعضها إلى بعض، ودرسوها مجتمعة لتغيرت نظرتهم هذه، فلو أن كلّ واحد من أهل قطر من الأقطار ـ فقراء وأغنياء ـ قدم مبلغا صغيرا لمساعدة الآخرين من عباد الله، ولتقدم الأهداف والمشاريع الاجتماعية، لاستطاعوا أن يقوموا بأعمال ضخمة وكبيرة، مضافا إلى ما يجنونه من هذا العمل من آثار معنوية لا ترتبط بحجم الإنفاق، وتعود إلى المنفق في كلّ حال.
13. الملفت للنظر هو أن أول صفة ذكرت للمتقين هنا هو (الإنفاق) لأن هذه الآيات تذكر ـ في الحقيقة ـ ما يقابل الصفات التي ذكرت للمرابين والمستغلّين في الآيات السابقة، هذا مضافا إلى أن غض النظر عن المال والثروة في السرّاء والضراء من أبرز علائم التقوى.
14. الصفة الثانية للمتقين هي أنهم قادرون على السيطرة على غضبهم: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، ولفظة (الكظم) تعني في اللغة شد رأس القربة عند ملئها، فيقول كظمت القربة إذا ملأتها ماء ثمّ شددت رأسها، وقد استعملت كناية عمن يمتلئ غضبا ولكنه لا ينتقم، وأما لفظة (الغيظ) فتكون بمعنى شدّة الغضب والتوتر والهيجان الروحي الشديد الحاصل للإنسان عندما يرى ما يكره، وحالات الغيظ والغضب من أخطر الحالات التي تعري الإنسان، ولو تركت وشأنها دون كبح لتحولت إلى نوع من الجنون الذي يفقد الإنسان معه السيطرة على أعصابه وتصرفاته وردود فعله، ولهذا فإن أكثر ما يقترفه الإنسان من جرائم وأخطاء وأخطرها على حياته هي التي تحصل في هذه الحالة، ولهذا تجعل الآية (كظم الغيظ) و(كبح جماح الغضب) الصفة البارزة الثانية من صفات المتقين، قال النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم (من كظم غيظا وهو قادر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا)، وهذا الحديث يفيد أن كظم الغيظ له أثر كبير في تكامل الإنسان معنويا، وفي تقوية روح الإيمان لديه.
15. الصفة الثالثة للمتقين هي أنهم يصلحون عمن ظلمهم ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾، إن كظم الغيظ أمر حسن جدا، إلّا أنه غير كاف لوحده، إذ من الممكن أن لا يقلع ذلك جذور العداء من قلب المرء، فلا بدّ للتخلص من هذه الجذور والرواسب أن يقرن (كظم الغيظ) بخطوة أخرى وهي (العفو والصفح) ولهذا أردفت صفة (الكظم للغيظ) التي هي بدورها من أنبل الصفات بمسألة العفو، ثمّ إنّ المراد هو العفو والصفح عن من يستحقون العفو، لا الأعداء المجرمون الذين يحملهم العفو والصفح على مزيد من الإجرام، وينتهي بهم إلى الجرأة أكثر.
16. الصفة الرابعة للمتقين هي أنهم محسنون: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، وهنا إشارة إلى مرحلة أعلى من (العفو والصفح) وبهذا يرتقي المتقون من درجة إلى أعلى في سلّم التكامل المعنوي، وهذه السلسلة التكاملية هي أن لا يكتفي الإنسان تجاه الإساءة إليه بكظم الغيظ بل يعفو ويصفح عن المسيء ليغسل بذلك آثار العداء عن قلبه، بل يعمد إلى القضاء على جذور العداء في فؤاد خصمه المسيء إليه أيضا، وذلك بالإحسان إليه، وبذلك يكسب وده وحبه، ويمنع من تكرار الإساءة إليه في مستقبل الزمان.
17. خلاصة القول أن القرآن يأمر المسلم بأن يكظم غيظه أولا ثمّ يطهر قلبه بالعفو عنه، ثمّ يطهر فؤاد خصمه من كلّ رواسب الضغينة وبقايا العداء بالإحسان إليه.. إنه تدرج عظيم من صفة إنسانية خيّرة إلى صفة إنسانية أعلى هي قمة الخلق وذروة الكمال المعنوي، ولقد روي في المصادر الشيعية والسنية في ذيل هذه الآية أن جارية لعلي بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها فشجه، فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية: إن الله تعالى يقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ فقال لها: قد كظمت غيظي، قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ قال (قد عفوت وقد عفى الله عنك) قالت: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ قال اذهبي فأنت حرة لوجه الله.. إن هذا الحديث شاهد حي بأن كلّ مرحلة متأخرة من تلك المراحل أفضل من المرحلة المتقدمة.
18. الصفة الخامسة للمتقين هي أنهم لا يصرون على ذنب: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾، و(الفاحشة) مشتقة أصلا من الفحش، وهو كلّ ما اشتد قبحه من الذنوب، ولا يختص بالزنا خاصة، لأن الفحش ـ في الأصل ـ يعني (تجاوز الحدّ) الذي يشمل كلّ ذنب.
19. هذا وفي الآية الكريمة إشارة إلى إحدى صفات المتقين، فالمتقون مضافا إلى الاتصاف بما ذكر من الصفات الإيجابية، إذا اقترفوا ذنبا، ﴿ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾، ويستفاد من هذه الآية أن الإنسان لا يذنب ما دام يتذكر الله، فهو إنما يذنب إذا نسي الله تماما واعترته الغفلة، ولكن لا يلبث هذا النسيان وهذه الغفلة ـ لدى المتقين ـ حتّى تزول عنهم سريعا ويذكرون الله، فيتداركون ما فات منهم، ويصلحون ما أفسدوه.
20. إن المتقين يحسون إحساسا عميقا بأنه لا ملجأ لهم إلّا الله، فلا بدّ أن يطلبوا منه المغفرة لذنوبهم دون سواه ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ﴾
21. ينبغي أن نعلم أن القرآن ذكر مضافا إلى (الفاحشة) (ظلم النفس) ﴿أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ ويمكن أن يكون الفرق بين هذين هو أن الفاحشة إشارة إلى الذنوب الكبيرة، و(ظلم النفس) إشارة إلى الذنوب الصغيرة.
22. ثمّ إنه سبحانه تأكيدا لهذه الصفة قال: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، وقد نقل عن الإمام الباقر عليه السّلام أنّه قال: الإصرار: أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله، ولا يحدث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار)، وفي أمالي الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام قال (لما نزلت هذه الآية ﴿إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ صعد إبليس جبلا بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته، فاجتمعوا إليه فقالوا يا سيدنا لم دعوتنا؟ قال نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين، فقال: أنا لها بكذا وكذا، قال لست لها فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها، فقال: الوساوس الخناس أنا لها، قال بماذا؟ قال: أعدهم وامنيهم حتّى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة)
23. من الواضح أن النسيان ناشئ من التساهل، والوساوس الشيطانية، وإنما يبتلى بها من سلم نفسه لها، وخضع لتأثيرها، وتعاون مع الوسواس الخناس واستجاب له، ولكن اليقظين المؤمنين تجدهم في أعلى درجة من مراقبة النفس، فكلّما صدرت منهم خطيئة أو بدر ذنب، بادروا ـ في أقرب فرصة ـ إلى غسل ما ران على قلوبهم ونفوسهم من درن المعصية، وأغلقوا منافذ أفئدتهم على جنود الشيطان الذين لا يستطيعون النفوذ إلى القلوب من الأبواب المؤصدة.
24. هذه هي أبرز صفات المتقين وأقوى المعالم في سلوكهم وخلقهم، قد تعرضت لذكرها الآيات السابقة، والآن جاء الدور ليذكر القرآن الكريم ما ينتظر هذا الفريق من الثواب والجزاء اللائق، وكان ذلك إذ قال سبحانه: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾، لقد ذكر في هذه الآية جزاء المتقين الذين تعرضت الآيات السابقة لذكر أوصافهم وأبرز صفاتهم، وهذا الجزاء عبارة عن: مغفرة ربانية، وجنات خالدات تجري من تحتها الأنهار بدون انقطاع أبدا، والحقيقة أن الإشارة هنا كانت إلى المواهب المعنوية (وهي المغفرة والطهارة الروحية والتكامل المعنوي) أولا، ثمّ إلى المواهب المادية.
25. ثمّ إنه سبحانه يعقب ما قال عن الجزاء بقوله: ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ أي ما أروع هذا الجزاء الذي يعطي للعالمين لا للكسالى، الذين يتهربون من مسئولياتهم، ويتملصون من التزاماتهم.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/692.
70. سنن الله والسير والبيان والهداية
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ من المدارس الإسلامية المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ حول تفسير المقطع ⌈70⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 137 ـ 139]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ شرائع(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٧١.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ الذين من بعدهم إلى يوم القيامة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٧٠.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ موعظة للمتقين خاصة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٧٠.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: أول ما نزل من آل عمران: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾، ثم أنزلت بقيتها يوم أحد(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَهُدًى﴾، يعني: تبيان(2).
__________
(1) الدرّ المنثور: ابن أشتة في كتاب المصاحف.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٧٠.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿قَدْ خَلَتْ﴾، يعني: مضت(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٦٨.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿بَيَانٌ﴾ من العمى(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَهُدًى﴾ من الضلالة(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَمَوْعِظَةً﴾ من الجهل(1).
__________
(1) سعيد بن منصور: ٥٢٧.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾، قال تداول من الكفار والمؤمنين، في الخير والشر(1).
2. روي أنّه قال: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ قد خلت من قبلكم سنن بالهلاك فيمن كذب قبلكم(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٧١.
(2) تفسير الثعلبي: ٣/١٧١.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ ألم يسيروا في الأرض فينظروا كيف عذب الله قوم نوح، وقوم لوط، وقوم صالح، والأمم التي عذب الله تعالى(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ يعدهم، فيتقوا نقمة الله، ويحذروها(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٧١.
(2) ابن أبي حاتم: ٣/٧٧٠.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ عاقبة الأولين والأمم قبلكم، كان سوء عاقبتهم متعهم الله قليلا، ثم صاروا إلى النار(1).
2. روي أنّه قال: ﴿هَذَا بَيَانٌ﴾ هو هذا القرآن، جعله الله بيانا للناس عامة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ خصوصا(2).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٧٢ .
(2) ابن جرير: ٦/٧٤.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ معناه مضت.. وسنن: أعلام(1).
2. روي أنّه قال: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ﴾ بيان من العمى، وهدى من الضّلالة، وموعظة من الجهل(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 113.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَهُدًى﴾ نور(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٣/٧٧٠.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ كان تبيانه للناس عامة، وهدى وموعظة للمتقين خاصة(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٧٤.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ مضت لكل أمة سنة ومنهاج، إذا اتبعوها ـ رضي الله عنهم ـ(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/١٧١.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ خاصة(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٧٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ يعني: عذاب الأمم الخالية، فخوف هذه الأمم بعذاب الأمم؛ ليعتبروا فيوحدوه؛ ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ للرسل بالعذاب، كان عاقبتهم الهلاك(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٣٠٣.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ذكر المصيبة التي نزلت بهم، والبلاء الذي أصابهم، والتمحيص لما كان فيهم، واتخاذه الشهداء منهم، فقال تعزية لهم وتعريفا فيما صنعوا وما هو صانع بهم: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾، أي: قد مضت مني وقائع نقمة في أهل التكذيب لرسلي والشرك بي؛ في عاد، وثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين، فرأوا مثلات قد مضت مني فيهم، ولمن كان على مثل ما هم عليه، مثل ذلك مني، وإن أمليت لهم، أي: لا تظنوا أن نقمتي انقطعت عن عدوكم وعدوي؛ للدولة التي أدلتهم بها عليكم؛ لأبتليكم بذلك، لأعلم ما عندكم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾، أي: هذا تفسير للناس إن قبلوه(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَهُدًى وَمَوْعِظَةً﴾، أي: نور وآداب(3).
4. روي أنّه قال: فأما قوله: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ فإنه يعني: لمن اتقى الله تعالى بطاعته، واجتناب محارمه(3).
5. روي أنّه قال: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾، أي: لمن أطاعني، وعرف أمري(3).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٧٢.
(2) ابن جرير: ٦/٧٥.
(3) ابن جرير: ٦/٧٦.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ أمثال(1).
__________
(1) ابن جرير: ٦/٧٣.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عزّ وجل: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل أحكاما، والأحكام تكون على وجهين: حكم يجب لهم، وهو الثواب عند الطاعة، واتباع الحق، وعذاب يحل بهم عند الخلاف والمعصية.
ب. ويحتمل (السنن): الأحكام المشروعة.
2. قوله تعالى: ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ حتى تروا آثار من كذب الرسل وما حلّ بهم من العذاب؛ بالتكذيب.
ب. أو ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ أي سلوا من يعلم ما الذي حل بهم حتى يخبروكم ما مضى من الهلاك في الأمم الخالية، وهذا تنبيه من الله عزّ وجل إياهم أنكم إن كذبتم الرسول ـ فيحل بكم ما قد حلّ بمن قد كان قبلكم، وإن أطعتم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فلكم من الثواب ما لهم، فاعتبروا به كيف كان جزاؤهم بالتكذيب، وما في القرآن مثل هذا فمعناه: لو سألت لأخبروك.
ج. وقيل: ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ أي: تفكروا في القرآن يخبركم عن الأمم الماضية؛ فكأنكم سرتم في الأرض، وما في القرآن مثل هذا ـ فمعناه: لو سألت لأخبروك؛ فإن فيه خبر من كان قبلكم من الأمم، وما لهم من الثواب بالتصديق والطاعة، وما عليهم من العقاب بالتكذيب.
3. قوله عزّ وجل: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ يحتمل في المكذبين بالرسل والمصدقين، ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾:
أ. يحتمل: لو سرتم فيها لرأيتم آثارهم، ولعرفتم بذلك ما إليه ترجع عواقب الفريقين.
ب. ويحتمل: الأمر بالتأمّل في آثارهم، والنظر في الأنباء عنهم؛ ليكون لهم به العبر، وعما هم عليه مزدجر.
ج. ويحتمل (السنن): الموضوع من الأحكام، وبما به امتحن من قبلهم؛ ليعلموا أن الذي بلوا به ليس ببديع؛ بل على ذلك أمر من تقدمهم؛ كقوله: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 9]، وكقوله عزّ وجل: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ [آل عمران: 144]
4. قوله تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل قوله: ﴿هَذَا بَيَانٌ﴾ يعني: القرآن؛ هو بيان للناس، وهدى من الضلالة، ﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي: يتعظ به المتقون.
ب. ويحتمل ﴿بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾ ما ذكر من السنن التي في الأمم الخالية.
5. دل قوله عزّ وجل: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140] أن لله في صرف الدولة إلى أهل الشرك فعل وتدبير؛ إذ أضاف ذلك إليه ما به الدولة، ثم ذلك معصية وقهر وتذليل، فثبت جواز كون ما هو فعل معصية إلى الله من طريق التخليق والتقدير، والله أعلم؛ إذ ذلك لهم بما هم عصاة به عزّ وجل والله أعلم.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/490.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ أي سنن من الله في الأمم السالفة أهلكهم بها والسنة أصلها الطريقة المتبوعة في الخير والشر قال الشاعر:
çمن معشر سنت لهم آباؤهم... ولكل قوم سنة وإمامهاé
وقال آخر:
çوإن الأولى بالطف من آل هاشم... تأسوا فسنوا للكرام التأسياé
2. ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾ أي القرآن فيه ما يحتاج إليه الناس من الهدى ﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي يتعظ به كل من آمن واتقى.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/154.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه سنن من الله في الأمم السالفة أهلكهم بها.
ب. الثاني: يعني أنهم أهل سنن كانوا عليها في الخير والشر، وهو قول (2).
2. أصل السنة الطريقة المتبعة في الخير والشر، ومنه سنة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال لبيد بن ربيعة:
çمن معشر سنت لهم آباؤهم...ولكل قوم سنّة وإمامهاé
وقال سليمان بن فيد:
çفإن الألى بالطف من آل هاشم...تآسوا فسنوا للكرام التآسياé
3. في قوله تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه القرآن، وهذا قول الحسن، وقتادة.
ب. الثاني: أنه ما تقدم ذكره في قوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ الآية، وهذا قول ابن إسحاق.
4. ﴿وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ نور وأدب.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/426.
(2) الكلام هنا للزجّاج.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾:
أ. قيل: أي سنن من الله تعالى في الأمم السالفة إذ لهم آثار في الديار فيها أعظم الاعتبار والاتعاظ ـ على قول الحسن، وابن إسحاق ـ فأمر الله أن يسيروا في الأرض، ويتعرفوا أخبارهم، وما نزل بهم ليتعظوا بذلك، وينتهوا عن مثل ما فعلوه.
ب. وقال الزجاج: معناه ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أهل (سنن) في الشر.
2. السنة: الطريقة المجعولة ليقتدي بها، فمن ذلك سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال لبيد:
çمن معشر سنت لهم آباؤهم...ولكل قوم سنة وإمامها
وإن الألى بالطف من آل هاشم...تأسوا فسنوا للكرام التأسياé
سنة الله عز وجل الإهلاك للأمم الضالة بهذه المنزلة، وأصل السنة الاستمرار في جهة، سن الماء سناً: إذا صبه حتى يفيض من الإناء، وسنه بالمسن إذا أمره عليه لتحديده، وفلان مسنون الوجه أي مستطيله، وقوله: ﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ قيل معناه متغير، لاستمرار الزمان به حتى تغير، ومنه السن واحد الأسنان، لاستمرارها على منهاج، والسنان، لاستمرار الطعن به، والسنن استمرار الطريق.
3. الخلو: الانفراد، فمنه الخلاء، لانفراد المكان، ومنه التخلية لانفراد الشيء بها عن صاحبه، ومنه الخلية من النوق التي خلا ولدها بذبح أو موت، لانفرادها عنه، والخلية من السفن التي تخلى تسير في نفسها، ومنه الخلا مقصور: الحشيش اختليته إذا قطعته، لانفراده بالقطع، ومنه المخلاة، ومن ذلك المخالاة المخادعة، لانفراد صاحبها بمن يخاليه يوهمه التخصص به، فمعنى (خلت) انفردت بالهلاك دون من بقي.
4. ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ﴾ العاقبة هو ما يؤدي إليها السبب المتقدم، وليس كذلك الآخرة، لأنه قد كان يمكن أن تجعل هي الأولى في العدة للمكذبين يريد به الجاحدين البعث، والنشور، والثواب، والعقاب الدافعين لمن يخبر بذلك بالرد بالتكذيب، فجازاهم الله تعالى في الدنيا بعذاب الاستئصال، ولهم في الآخرة عظيم النكال.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾:
أ. قال الحسن وقتادة: قوله: ﴿هَذَا﴾ إشارة إلى القرآن، ووصفه بأنه بيان، لأنه دلالة للناس، وحجة لهم، والبيان هو الدلالة.
ب. وقال ابن إسحاق هو إشارة إلى ما تقدم ذكره في قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ الآية أي هذا الذي عرفتكم بيان للناس، وهو اختيار البلخي، والطبري.
6. الفرق بين البيان، والهدى ـ على ما قاله الرماني ـ أن البيان إظهار المعنى للنفس كائنا ما كان، والهدى: بيان لطريق الرشد، ليسلك دون طريق الغي، والموعظة:
أ. قيل: ما يلين القلب ويدعو إلى التمسك، بما فيه من الزجر عن القبيح، والدعاء إلى الجميل.
ب. وقيل: الموعظة: هو ما يدعو ذلك إيهاماً، لانتفاعهم به فان قيد بأنه دلالة لهم وداع لهم إلى فعل الطاعة، وذكر ما يزيل الإيهام كان جائزاً، وينبغي أن يتبع في ذلك ما ورد به القرآن.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/598.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الخلو: أصله الانفراد، والخلاء: المكان الذي لا شيء فيه لانفراد المكان، وخَلَتْ: انفردت بالهلاك دون من بقي.
ب. السُّنّة: السيرة، قال الهذلي:
çفَلاَ تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أَنْتَ سِرْتَها... فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهاé
والسنة: الطريقة المحمودة يقتدى بها، ومنه: سنة رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال الشاعر:
çوَإِن الأُلَى بِالطَّفِّ مِنْ آل هَاشِمٍ... تَأَسَّوْا فَسَنُّوا لِلْكِرَامِ التَأَسِّيَاé
أصله الاستمرار.
ج. الموعظة: حال يدعو بالرغبة والرهبة إلى الجنة بدلاً من السيئة.
2. لما بَيَّنَ تعالى ما فعله بالمؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة بَيَّنَ أن ذلك عادته تعالى في خلقه، فقال سبحانه: ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ أي مضت ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾:
قيل: يا أصحاب محمد.
وقيل: إنه خطاب لمن انهزم يوم أحد.
3. تقديره: قد كان لي نِقَمٌ فيمن مضى، فاعتبروا بها أيها المكذبون بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿سُنَنَ﴾:
أ. قيل: أمثال، عن ابن زيد.
ب. وقيل: أمم، عن المفضل، والسُّنّة: الأمة، قال الشاعر:
çمَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ فَضْلٍ كَفَضْلِكُم... وَلاَ رَأْوا مِثْلَكُمْ من سَالِفِ السَّنَنِé
ج. وقيل: معناه أهل سنن في الشر، عن الزجاج.
د. وقيل: شرائع، عن عطاء.
هـ. وقيل: أحكام، عن الأصم.
و. وقيل: نصيب لكل أمة سنة أي طريقة إذا اتبعوها ¤، عن الكلبي.
ز. وقيل: سنن بالهلاك فيمن كذب قبلكم، عن مجاهد.
ح. وقيل: هلاكه إياهم عند عصيانهم بالاستئصال، وسمي سنة لكثرة فعل الله ذلك بهم، عن أبي علي.
ط. وقيل: بإمهالهم إلى منتهى آجالهم ثم أخذهم.
ي. وقيل: أوامره فيهم ونواهيه.
ك. وقيل: بالهلاك في الكافرين كعاد وثمود وغيرهم، وبالنجاة في المؤمنين.
4. تقدير الآية: قد مضت مني فيمن كان قبلكم من الأمم سنن وطرائق ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا﴾ إلى آثارهم ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ﴾ الَّذِينَ كذبوا أنبياء الله:
قيل: هذا تنبيه على أنه تعالى لا يقطع نعمه على أعدائه.
وقيل: بل تسلية للمؤمنين يوم أحد يقول: أمهلتهم ثم أخذتهم على ما تقتضيه الحكمة.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿هَذَا﴾:
أ. قيل: هذا القرآن، عن الحسن وقتادة.
ب. وقيل: ما أوحيت إليك مما حاججت به، وما نصرتك به، والظفر الذي حصل، عن الأصم.
ج. وقيل: ما تقدم ذكره في قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾
د. وقيل: هذا الذي عرفتكم، عن ابن إسحاق.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بَيَانٌ﴾:
أ. قيل: أي دلالات تدلهم على الحق.
ب. وقيل: بيان أنه من عند الله، عن الأصم.
7. ﴿وَهُدًى وَمَوْعِظَةً﴾ فالبيان إظهار المعنى للنفس كائنًا ما كان، والهدى بيان طريق الرشد ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ خصهم:
أ. لأنهم اهتدوا به، وإن كان هدى لجميع الناس.
ب. وقيل: لطفًا لهم يدعوهم إلى الطاعة، والمتقي من يتقي معاصي الله.
8. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن سنة الله في الماضي والغابر إهلاك العصاة ونجاة المؤمنين.
ب. أن القرآن بيان عام، فإنه يدل ويهدي، فيدل أنه لا شيء فيه إلا ويُعرفُ معناه.
ج. التنبيه على مواضع الاعتبار لينظروا في آثار الأمم الماضين، ويحترزوا لئلا ينزل بهم ما نزل بمن كان قبلهم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/390.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. السنة: الطريقة المجعولة ليقتدى بها، ومن ذلك سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لبيد: من معشر سنت لهم آباؤهم، ولكل قوم سنة، وامامها وقال سليمان بن قتة: وان الأولى بالطف من آل هاشم تآسوا فسنوا للكرام التآسيا وأصل السنة: الاستمرار في جهة، يقال: سن الماء: إذا صبه حتى يفيض من الاناء، وسن السكين بالمسن: إذا أمره عليه لتحديده، ومنه السن: واحد الأسنان لاستمرارها على منهاج، والسنان: لاستمرار الطعن به، والسنن: استمرار الطريق.
ب. العاقبة: ما يؤدي إليها السبب المتقدم وليس كذلك الآخرة، لأنه قد كان يمكن ان تجعل هي الأولى في العدة.
ج. الموعظة: ما يلين القلب، ويدعو إلى التمسك بما فيه من الزجر عن القبيح والدعاء إلى الجميل، وقيل: الموعظة هو ما يدعو بالرغبة والرهبة إلى الحسنة، بدلا من السيئة.
2. لما بين سبحانه ما يفعله بالمؤمن والكافر في الدنيا والآخرة، بين أن ذلك عادته في خلقه، فقال: ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ أي: قد مضت ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ يا أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقيل: هو خطاب لمن انهزم يوم أحد.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿سُنَنَ﴾:
أ. قيل: من الله في الأمم السالفة، إذا كذبوا رسله، وجحدوا نبوتهم بالاستئصال، وتبقية آثارهم في الديار للاعتبار والاتعاظ، عن الحسن وابن إسحاق.
ب. وقيل: سنن أي أمثال، عن ابن زيد.
ج. وقيل: سنن أمم، والسنة: الأمة، عن المفضل، وقال الشاعر:
çما عاين الناس من فضل كفضلكم... ولا رأوا مثلكم في سالف السننé
د. وقيل: معناه أهل سنن.
هـ. وقيل: معناه قد مضت لكل أمة سنة ومنهاج، إذا اتبعوها، رضي الله عنهم، عن الكلبي.
4. ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ أي: تعرفوا أخبار المكذبين، وما أنزل بهم، لتتعظوا بذلك، وتنتهوا عن مثل ما فعلوه، ولا تسلكوا في التكذيب والانكار طريقتهم، فيحل بكم من العذاب ما حل بهم، وأراد بالمكذبين الجاحدين للبعث والنشور، والثواب والعقاب، جازاهم الله تعالى في الدنيا بعذاب الاستئصال، وفي الآخرة بأليم العذاب، وعظيم النكال.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿هَذَا﴾:
أ. قيل: إشارة إلى القرآن ﴿بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾ أي: دلالة وحجة لهم كافة، عن الحسن، وقتادة.
ب. وقيل: إشارة إلى ما تقدم من قوله ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ أي هذا الذي عرفتكم بيان للناس، عن ابن أبي إسحاق، واختاره البلخي والطبري.
6. ﴿وَهُدًى﴾ قال علي بن عيسى: الفرق بين البيان والهدى أن البيان إظهار المعنى للغير كائنا ما كان، والهدى بيان لطريق الرشد ليسلك دون طريق الغي.
7. ﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ وإنما خص المتقين به مع كونه بيانا وهدى وموعظة للناس كافة، لان المتقين هم المنتفعون به، والمهتدون بهداه، والمتعظون بمواعظه.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/842.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ السّنن: جمع سنّة، وهي الطّريقة، وفي معنى الكلام قولان:
أ. أحدهما: قد مضى قبلكم أهل سنن وشرائع، فانظروا ماذا صنعنا بالمكذّبين منهم، وهذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: قد مضت قبلكم سنن الله في إهلاك من كذّب من الأمم، فاعتبروا بهم، وهذا قول مجاهد.
2. في معنى قوله تعالى: ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه السّير في السّفر، قال الزجّاج: إذا سرتم في أسفاركم، عرفتم أخبار الهالكين بتكذيبهم.
ب. الثاني: أنه التّفكّر، ومعنى: فانظروا: اعتبروا، والعاقبة: آخر الأمر.
3. ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾ قال سعيد بن جبير: هذه الآية أوّل ما نزل من (آل عمران)، وفي المشار إليه ب ﴿هَذَا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه القرآن، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل.
ب. الثاني: أنه شرح أخبار الأمم السّالفة، قاله ابن إسحاق.
4. البيان: الكشف عن الشيء، بان الشّيء: اتّضح، وفلان أبين من فلان، أي: أفصح، قال الشّعبيّ: هذا بيان للنّاس من العمى، وهدى من الضّلالة، وموعظة من الجهل.
__________
(1) زاد المسير: 1/328.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما وعد الله تعالى على الطاعة والتوبة من المعصية الغفران والجنات، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين، فقال: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾:
أ. قال الواحدي: أصل الخلو في اللغة الانفراد والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ويستعمل أيضا في الزمان بمعنى المضي لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه، وكذا الأمم الخالية.
ب. أما السنة فهي الطريقة المستقيمة والمثال المتبع، وفي اشتقاق هذه اللفظة وجوه:
• الأول: أنها فعلة من سن الماء يسنه إذا والى صبه، والسن الصب للماء، والعرب شبهت الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب فإنه لتوالي أجزاء الماء فيه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد، والسنة فعلة بمعنى مفعول.
• ثانيها: أن تكون من سننت النصل والسنان أسنه سنا فهو مسنون إذا حددته على المسن، فالفعل المنسوب إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سمي سنة على معنى أنه مسنون.
• ثالثها: أن يكون من قولهم: سن الإبل إذا أحسن الرعي، والفعل الذي داوم عليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سمي سنة بمعنى أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أحسن رعايته وإدامته.
2. المراد من الآية: قد انقضت من قبلكم سنن الله تعالى في الأمم السالفة، واختلفوا في ذلك:
أ. فالأكثرون من المفسرين على أن المراد سنن الهلاك والاستئصال بدليل قوله تعالى: ﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ وذلك لأنهم خالفوا الأنبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها، ثم انقرضوا ولم يبق من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة عليهم، فرغب الله تعالى أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في تأمل أحوال هؤلاء الماضين ليصير ذلك داعيا لهم إلى الإيمان بالله ورسله والإعراض عن الرياسة في الدنيا وطلب الجاه.
ب. وقال مجاهد: بل المراد سنن الله تعالى في الكافرين والمؤمنين؛ فإن الدنيا ما بقيت لا مع المؤمن ولا مع الكافر، ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى، والكافر بقي عليه اللعنة في الدنيا والعقاب في العقبى.
3. ثم إنه تعالى قال: ﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾:
أ. لأن التأمل في حال أحد القسمين يكفي في معرفة حال القسم الآخر.
ب. وأيضاً يقال الغرض منه زجر الكفار عن كفرهم وذلك إنما يعرف بتأمل أحوال المكذبين والمعاندين.
4. نظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات: 171 ـ 173]، وقوله: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 128، القصص: 83] وقوله: ﴿أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: 105]
5. ليس المراد بقوله: ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا﴾ الأمر بذلك لا محالة، بل المقصود تعرف أحوالهم، فإن حصلت هذه المعرفة بغير المسير في الأرض كان المقصود حاصلًا، ولا يمتنع أن يقال أيضاً: إن لمشاهدة آثار المتقدمين أثراً أقوى من أثر السماع كما قال الشاعر:
çإن آثارنا تدل علينا...فانظروا بعدنا إلى الآثارé
6. ثم قال تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ويعني بقوله: ﴿هَذَا﴾ ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده وذكره لأنواع البينات والآيات، ولا بد من الفرق بين البيان وبين الهدى وبين الموعظة، لأن العطف يقتضي المغايرة، وفيه وجهان:
أ. الأول: أن البيان هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت الشبهة حاصلة، فالفرق أن البيان عام في أي معنى كان، وأما الهدى فهو بيان لطريق الرشد ليسلك دون طريق الغي، وأما الموعظة فهي الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين، فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان:
• أحدهما: الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى.
• الثاني: الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة.
ب. الثاني: أن البيان هو الدلالة، وأما الهدى فهو الدلالة بشرط كونها مفضية إلى الاهتداء، وقد تقدم هذا البحث في تفسير قوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]
7. في تخصيص هذا البيان والهدى والموعظة للمتقين وجهان:
أ. أحدهما: أنهم هم المنتفعون به، فكانت هذه الأشياء في حق غير المتقين كالمعدومة ونظيره قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: 45] ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ [يس: 11] ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28] وقد تقدم تقريره في تفسير قوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾
ب. الثاني: أن قوله: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾ كلام عام، ثم قوله: ﴿وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ مخصوص بالمتقين، لأن الهدى اسم للدلالة بشرط كونها موصلة إلى البغية، ولا شك أن هذا المعنى لا يحصل إلا في حق المتقين والله أعلم بالصواب.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/370.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا تسلية من الله تعالى للمؤمنين، والسنن جمع سنة وهي الطريق المستقيم، وفلان على السنة أي على طريق الاستواء لا يميل إلى شي من الأهواء، قال الهذلي:
çفلا تجزعن من سنة أنت سرتها...فأول راض سنة من يسيرهاé
والسنة: الإمام المتبع المؤتم به، يقال: سن فلان سنة حسنة وسيئة إذا عمل عملا اقتدي به فيه من خير أو شر، قال لبيد:
çمن معشر سنت لهم آباؤهم...ولكل قوم سنة وإمامهاé
والسنة الأمة، والسنن الأمم، عن المفضل، وأنشد:
çما عاين الناس من فضل كفضلهم...ولا رأوا مثلهم في سالف السننé
وقال الزجاج: والمعنى أهل سنن، فحذف المضاف، وقال أبو زيد: أمثال، وقال عطاء: شرائع، وقال مجاهد: المعنى ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ يعنى بالهلاك فيمن كذب قبلكم كعاد وثمود، والعاقبة: آخر الأمر، وهذا في يوم أحد، يقول فأنا أمهلهم وأملي لهم وأستدرجهم حتى يبلغ الكتاب أجله، يعني بنصرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين وهلاك أعدائهم الكافرين.
2. ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ يعني القرآن، عن الحسن وغيره، وقيل: هذا إشارة إلى قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾، والموعظة الوعظ، وقد تقدم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/217.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ هذا رجوع إلى وصف باقي القصة، والمراد بالسنن: ما سنّه الله في الأمم من وقائعه، أي: قد خلت من قبل زمانكم وقائع سنّها الله في الأمم المكذبة، وأصل السنن: جمع سنة، وهي: الطريقة المستقيمة، ومنه قول الهذلي:
çفلا تجزعن من سنّة أنت سرتها...فأوّل راض سنّة من يسيرهاé
والسنة: الإمام المتبع المؤتمّ به، ومنه قول لبيد:
çمن معشر سنّت لهم آباؤهم...ولكلّ قوم سنّة وإمامهاé
والسنة: الأمة، والسنن: الأمم، قاله المفضل الضبي، وقال الزجاج: المعنى في الآية: أهل سنن، فحذف المضاف.
2. الفاء في قوله: ﴿فَسِيرُوا﴾ سببية؛ وقيل: شرطية، أي: إن شككتم فسيروا، والعاقبة: آخر الأمر، والمعنى: سيروا فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، فإنهم خالفوا رسلهم بالحرص على الدنيا، ثم انقرضوا فلم يبق من دنياهم التي آثروها أثر، هذا قول أكثر المفسرين، والمطلوب من هذا السير المأمور به: هو حصول المعرفة بذلك، فإن حصلت بدونه فقد حصل المقصود، وإن كان لمشاهدة الآثار زيادة غير حاصلة لمن لم يشاهدها.
3. الإشارة بقوله: ﴿هَذَا﴾ إلى قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ وقال الحسن: إلى القرآن ﴿بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾ أي: تبيين لهم، وتعريف الناس للعهد، وهم: المكذبون، أو للجنس، أي: للمكذبين وغيرهم، وفيه حث على النظر في سوء عاقبة المكذبين وما انتهى إليه أمرهم.
4. ﴿وَهُدًى وَمَوْعِظَةً﴾ أي: هذا النظر مع كونه بيانا فيه هدى وموعظة للمتقين من المؤمنين، فعطف الهدى والموعظة على البيان يدل على التغاير ولو باعتبار المتعلق، وبيانه: أن اللام في الناس إن كانت للعهد: فالبيان للمكذبين والهدى والموعظة للمؤمنين، وإن كانت للجنس: فالبيان لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم والهدى والموعظة للمتقين وحدهم.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/440.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ مضت، ﴿مِن قَبْلِكُمْ﴾ الخطاب للمؤمنين، وقيل: للكفَّار، ﴿سُنَنٌ﴾ قيل: طُرُق في الأمم السابقة، من إهلاك بعضٍ بالطاعون، وبعضٍ بالخسف، وبعض بالرجم، وبعض بالصيحة، وبعض بالإغراق، وغير ذلك، بسبب كفرهم بعد إمهالهم، فلا تعجلوا ولا تَضيقوا بوقعة أُحد، وهذه تسلية للمؤمنين، ويجوز ـ على ضعف ـ أن يكون (سُنَنٌ) بمعنى أمم، كقوله:
çما عاين الناس من فضل كفضلهم...ولا أرى مثله في سالف السننé
لكن يحتمل أنَّ المعنى: في سالف أهل السنن، أي: الطرق، وليس السنن بمعنى الطرق متبادرا، وأيضا يحتاج إلى تقدير: قد خلت من قبلكم سنن ـ أي: أمم ـ وخالف من خالف منهم نبيئهم، وكذا يبعد كون السنن الأديان المنسوخة، وقدَّر الزجَّاج في الآية: أهل أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ.
2. ﴿فَسِيرُواْ فِي الَارْضِ﴾ أنشِئوا السفر لتروا آثار المهلَكين قبلكم، أو المراد: سيروا بقلوبكم، أي: تأمَّلوا في الأرض بسير وغيره، واختار لفظ السير لأنَّ العيان أقوى، والعطف عطف إنشاء على إخبار، أو المراد: تنبَّهوا، أو يقدِّر: إن لم توقنوا بإهلاك الأمم فسيروا، وذلك للمؤمنين زيادة تثبيت، ﴿فَانظُرُواْ﴾ بأبصاركم وقلوبكم، ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ لرسلهم من الإهلاك آخر الأمر بعد إمهال.
3. ﴿هَذَا﴾ أي: القرآن، أو خلوُّ سنن من قبلكم، أو نظركم، أو الحثُّ عليه، ﴿بَيَانٌ﴾ مزيل للشبهة، ﴿للنَّاسِ﴾ كلِّهم، وقيل: للعهد، وهم الناس المكذِّبون، ﴿وَهُدًى﴾ إلى الطريق الرشد المأمور بسلوكه، ﴿وَمَوْعِظَةٌ﴾ كلام يفيد الزجر عمَّا لا ينبغي في الدين، وذِكْرُ الهدى والموعظة بعد البيان تخصيصٌ بعد تعميم، ﴿لِّلْمُتَّقِينَ﴾ خصَّهم بالذكر لأنَّهم المنتفعون دون غيرهم، هدى وموعظة للمتَّقين باعتبار مبدئهم، فهم المشارفون للتقوى، أو مقضيٌّ لهم في الأزل بالتقوى، أو هم متَّقون بالفعل فتراد الزيادة، فإنَّ زيادة الهدى والوعظ هدى ووعظ.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/11.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم عاد التنزيل إلى تفصيل بقية قصد أحد، بعد تمهيده مبادئ الرشد والصلاح بقوله: ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ أي مضت ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ أي وقائع من أنواع المؤاخذات والبلايا للأمم المكذبين ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ التي فيها ديارهم الخربة وآثار إهلاكهم ﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ أي وقيسوا بهم عاقبة اللاحقين بهم في الهلاك والاستئصال، والأمر بالسير والنظر، لما أن لمشاهدة آثار المتقدمين أثرا في الاعتبار والروعة، أقوى من أثر السماع.
2. ﴿هَذَا﴾ أي القرآن أو ما تقدم من مؤاخذة المذكورين ﴿بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ﴾ أي تخويف نافع ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/417.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآيات وما بعدها في قصة أُحد وما فيها من السنن الاجتماعية والحكم والأحكام فهي متصلة بقوله عز وجل: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ الخ الآيات التي تقدمت، وذكرنا حكمة النهي عن الربا والأمر بالمسارعة إلى المغفرة ووصف المتقين في سياق الكلام على هذه القصة، وقال الإمام الرازي في بيان وجه الاتصال: (إن الله تعالى لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية بالغفران والجنات أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية، وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين)، وإنما هذا الذي قاله بيان لاتصال الآية الأولى من هذه الآيات بما قبلها مباشرة مع صرف النظر عن السياق والاتصال بين مجموع الآيات السابقة واللاحقة.
2. ذكر في الآيات السابقة خبر وقعة أحد، وأهم ما وقع فيها مع التذكير بوقعة بدر وما بشروا به في ذلك، وفي هذه الآيات وما بعدها يذكر السنن والحكم في ذلك ويعلم المؤمنين من علم الاجتماع ما لم يكونوا يعلمون، ولذلك افتتحها بقوله الحكيم: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾، قال محمد عبده: إن بعض المفسرين يجعل الآيتين الأوليين من هذه الآيات تمهيدا لما بعدهما من النهي عن الوهن والحزن وما يتبع ذلك وعلى هذا جرى (الجلال) كأنه يقول: إن هذا الذي وقع لا يصح أن يضعف عزائمكم، فإن السنن التي قد خلت من قبلكم تبين لكم كيف كانت مصارعة الحق للباطل، وكيف ابتلي أهل الحق أحيانا بالخوف والجوع والانكسار في الحرب ثم كانت العاقبة لهم، فانظروا كيف كانت عاقبة المكذبين للرسل المقاومين لهم، فإنهم كانوا هم المخذولين المغلوبين، وكان جند الله هم المنصورين الغالبين، وإذا كان الأمر كذلك فلا تهنوا ولا تحزنوا لما أصابكم في أحد، ثم قال ما مثاله مع إيضاح وزيادة: هذا رأي ضعيف فإن ذكر السنن بعد آيات متعددة، في موضوعات مختلفة تفيد معاني كثيرة، فإن الله تعالى نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين بدت لهم بغضاؤهم وبين هو لهم مجامع خبثهم وكيدهم ـ ثم ذكر النبي والمؤمنين بوقعة أحد وما كان فيها بالإجمال وذكرهم بنصره لهم ببدر، ثم ذكر المتقين وأوصافهم وما وعدوا به؛ ثم ذكر بعد ذلك كله مضي السنن في الأمم وأنه بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين، فذكر السنن بعد ذلك كله يفيد معاني كثيرة تحتاج إلى شرح طويل جدا لا معنى واحدا كما قيل، وإن في القرآن من إفادة المباني القليلة للمعاني الكثيرة بمعونة السياق والأسلوب ما لا يخطر في بال في أحد من كتاب البشر وعلمائهم ومثل هذا مما تجب العناية ببيانه.
3. يقول الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز: إن كون القرآن معجزا ببلاغته يوجب علينا أن نجعل أسلوبه الذي كان معجزا به فنا ليبقى دالا على وجه إعجازه كذلك أقول: إن إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سننا يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علما من العلوم لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه، فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال وقد بينها العلماء بالتفصيل عملا بإرشاده، كالتوحيد والأصول والفقه.
4. العلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها(2)، والقرآن يحيل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها، ولا يحتج علينا بعدم تدوين الصحابة لها، فإن الصحابة لم يدونوا غير هذا العلم من العلوم الشرعية التي وضعت لها الأصول والقواعد؛ وفرعت منها الفروع والمسائل، وإنني لا أشك في كون الصحابة كانوا مهتدين بهذه السنن وعالمين بمراد الله من ذكرها، يعني أنهم بما لهم من معرفة أحوال القبائل العربية والشعوب القريبة منهم ومن التجارب والأخبار في الحرب وغيرها وبما منحوا من الذكاء والحذق وقوة الاستنباط كانوا يفهمون المراد من سنن الله تعالى ويهتدون بها في حروبهم وفتوحاتهم وسياستهم للأمم التي استولوا عليها، لذلك قال وما كانوا عليه من العلم بالتجربة والعمل أنفع من العلم النظري المحض، وكذلك كانت علومهم كلها، ولما اختلفت حالة العصر اختلافا احتاجت معه الأمة إلى تدوين علم الأحكام وعلم العقائد وغيرهما كانت محتاجة أيضا إلى تدوين هذا العلم، ولك أن تسميه علم السنن الإلهية أو علم الاجتماع أو علم السياسة الدينية، سم بما شئت فلا حرج في التسمية(2).
5. معنى الجملة: انظروا إلى من تقدمكم من الصالحين والمكذبين فإذا أنتم سلكتم سبيل الصالحين فعاقبتكم كعاقبتهم، وإن سلكتم سبل المكذبين فعاقبتكم كعاقبتهم، وفي هذا تذكير لمن خالف أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في أحد، ففي الآية مجاري أمن ومجاري خوف، فهو على بشارته لهم فيها بالنصر وهلاك عدوهم ينذرهم عاقبة الميل عن سننه، ويبين لهم أنهم إذا ساروا في طريق الضالين من قبلهم فإنهم ينتهون إلى مثل ما انتهوا إليه، فالآية خبر وتشريع، وفي طيها وعد ووعيد.
6. السنن جمع سنة وهي الطريقة المعبدة والسيرة المتبعة أو المثال المتبع، قيل: إنها من قولهم سن الماء إذا والى صبه فشبهت العرب الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب فإنه لتوالي أجزائه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد، ومعنى خلت: مضت وسلفت: أي أن أمر البشر في اجتماعهم وما يعرض فيه من مصارعة الحق للباطل وما يتبع ذلك من الحرب والنزال والملك والسيادة وغير ذلك قد جرى على طرق قويمة وقواعد ثابتة اقتضاها النظام العام، وليس الأمر أنفا كما يزعم القدرية، ولا تحكما واستبدادا كما يتوهم الحشوية.
7. جاء ذكر السنن الإلهية في مواضع من الكتاب العزيز، كقوله تعالى في سياق أحكام القتال وما كان في وقعة بدر: ﴿قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين﴾ [الأنفال: 38] وقوله في سياق أحوال الأمم مع أنبيائهم: ﴿قد خلت سنة الأولين﴾ [الحجر: 13] وقوله في سياق دعوة الإسلام: ﴿وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذب قبلا﴾ [الكهف: 55] وقوله في مثل هذا السياق: ﴿فهل ينظرون إلا سنة الأولين؟ فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا﴾ [فاطر: 43] وصرح في سور أخرى كما صرح هنا بأن سننه لا تتبدل ولا تتحول كسورة بني إسرائيل وسورة الأحزاب وسورة الفتح.
8. هذا إرشاد إلهي، لم يعهد في كتاب سماوي، ولعله أرجئ إلى أن يبلغ الإنسان كمال استعداده الاجتماعي، فلم يرد إلا في القرآن، الذي ختم الله به الأديان، حيث كان الملّيون من جميع الأجيال يعتقدون أن أفعال الله تعالى في خلقه تشبه أفعال الحاكم المستبد في حكومته؛ المطلق في سلطته؛ فهو يحابي بعض الناس فيتجاوز لهم عما يعاقب لأجله غيرهم، ويثيبهم على العمل الذي لا يقبله من سواهم، لمجرد دخولهم في عنوان معين، وانتمائهم إلى نبي مرسل، وينتقم من بعض الناس لأنهم لم يطلق عليهم ذلك العنوان، أو لم يتفق لهم الانتماء إلى ذلك الإنسان.. هذا ما كانوا يظنون في دينهم ويسندونه إلى مشيئة الله المطلقة، من غير تفكر في حكمته البالغة، وتطبيقها على سننه العادلة، فإن نبههم منبه إلى ما يصيبهم بل ما أصاب أنبياءهم من البلاء، قالوا إنه تعالى يفعل ما يشاء، وذلك رفع درجات، أو تكفير للسيئات وأشباه هذا الكلام الذي يشتبه عليهم حقه بباطله، ويلتبس عليهم حاليه بعاطله، وقد كان وما زال علة غرور أصحابه بدينهم، واحتقارهم لكل ما عليه غيرهم، فجاء القرآن يبين للناس أن مشيئة الله تعالى في خلقه إنما تنفذ على سنن حكيمة وطرائق قويمة، فمن سار على سننه في الحرب ـ مثلا ـ ظفر بمشيئة الله وإن كان ملحدا أو وثنيا، ومن تنكبها خسر وإن كان صديقا أو نبيا، وعلى هذا يتخرج انهزام المسلمين في وقعة أحد حتى وصل المشركون إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فشجوا رأسه، وكسروا سنه، وردّوه في تلك الحفرة، كما بينا ذلك في تفسير الآيات السابقة، وسيأتي بسطه في الآيات اللاحقة، ولكن المؤمنين الصادقين أجدر الناس بمعرفة سنن الله تعالى في الأمم، وأحق الناس بالسير على طريقها الأمم، لذلك لم يلبث أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن ثابوا يومئذ إلى رشدهم، وتراجعوا للدفاع عن نبيهم، وثبتوا حتى انجلى عنهم المشركون، ولم ينالوا منهم ما كانوا يقصدون.
9. كأن بعض المسلمين لم يكونوا قد حفظوا ما ورد في السور المكية من إثبات سنن الله في خلقه وكونها لا تتبدل ولا تتحول كسورة الحجر وبني إسرائيل والكهف والملائكة أو (فاطر)، وهي التي ذكرنا بعضها آنفا وأشرنا إلى بعض ـ أو حفظوه ولم يفقهوه ولم يظهر لهم انطباقه على ما وقع لهم في أحد كما يعلم من قوله الآتي: ﴿أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم﴾ [آل عمران: 165] لذلك صرح لهم في بدء الآيات التي تبين لهم سننه أن له سننا عامة جرى عليها نظام الأمم من قبل، وأن ما قع لهم مما يقص حكمته عليهم هو مطابق لتلك السنن التي لا تتحول ولا تتبدل.
10. لما كان التعليم بالقول وحده من غير تطبيق على الواقع مما ينسى أو يقل الاعتبار به، نبههم على هذا التطبيق في أنفسهم وأرشدهم إلى تطبيقه على أحوال الأمم الأخرى، فقال: ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ قال محمد عبده: أي إن المصارعة بين الحق والباطل قد وقعت من الأمم الماضية وكان أهل الحق يغلبون أهل الباطل وينصرون عليهم بالصبر والتقوى: أي اتقاء ما يجب اتقاؤه في الحرب بحسب الزمان والمكان ودرجة استعداد الأعداء، وكان ذلك يجري بأسباب مطردة، وعلى طرائق مستقيمة، يعلم منها أن صاحب الحق إذا حافظ عليه ينصر ويرث الأرض، وأن من ينحرف عنه ويعيث في الأرض فسادا يخذل وتكون عاقبته الدمار، فسيروا في الأرض واستَقْرُوا ما حل بالأمم ليحصل لكم العلم الصحيح التفصيلي بذلك وهو الذي يحصل به اليقين ويترتب عليه العمل وقال بعض المفسرين: أي إن لم تصدقوا فسيروا، وهذا قول باطل.
11. والسير في الأرض والبحث عن أحوال الماضين وتعرف ما حل بهم، هو الذي يوصل إلى معرفة تلك السنن والاعتبار بها كما ينبغي، نعم إن النظر في التاريخ الذي يشرح ما عرفه الذين ساروا في الأرض ورأوا آثار الذين خلوا يعطي الإنسان من المعرفة ما يهديه إلى تلك السنن ويفيده عظة واعتبارا، ولكن دون اعتبار الذي يسير في الأرض بنفسه ويرى الآثار بعينه، ولذلك أمر الناس بالسير والنظر.
12. ثم أتبع ذلك بقوله: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ قال محمد عبده ما مثاله: مع زيادة تتخلله: كأنه يقول إن كل إنسان له عقل يعتبر به، فهو يفهم أن السير في الأرض يدله على تلك السنن، ولكن المؤمن المتقي أجدر بفهمها لأن كتابه أرشده إليها، وأجدر كذلك بالاهتداء والاتعاظ بها، وقد بينا في تفسير الفاتحة أن لسير الناس في الحياة سننا يؤدي بعضها إلى الخير والسعادة وبعضها إلى الهلاك والشقاء، وأن من يتبع تلك السنن فلا بد أن ينتهي إلى غايتها سواء كان مؤمنا أو كافرا، كما قال سيدنا علي: (إن هؤلاء قد انتصروا باجتماعهم على باطلهم وخُذلتم بتفرقكم عن حقكم)، ومن هذه السنن أن اجتماع الناس وتواصلهم وتعاونهم على طلب مصلحة من مصالحهم يكون مع الثبات من أسباب نجاحهم ووصولهم إلى مقصدهم سواء كان ما اجتمعوا عليه حقا أو باطلا؛ وإنما يصلون إلى مقصدهم بشيء من الحق والخير ويكون ما عندهم من الباطل قد ثبت باستناده إلى ما معهم من الحق، وهو فضيلة الاجتماع والتعاون والثبات، فالفضائل لها عماد من الحق، فإذا قام رجل بدعوى باطلة ولكن رأى جمهور من الناس أنه محق يدعو إلى شيء نافع، وأنه يجب نصره، فاجتمعوا عليه ونصروه وثبتوا على ذلك، فإنهم ينجحون معه بهذه الصفات، ولكن الغالب أن الباطل لا يدوم بل لا يستمر زمنا طويلا، لأنه ليس له في الواقع ما يؤيده بل له ما يقاومه فيكون صاحبه دائما متزلزلا، فإذا جاء الحق ووجد أنصارا يجرون على سنة الاجتماع في التعاون والتناصر، ويؤيدون الداعي إليه بالثبات والتعاون، فإنه لا يلبث أن يدمغ الباطل وتكون العاقبة لأهله، فإن شابت حقهم شائبة من الباطل، أو انحرفوا عن سنن الله في تأييده، فإن العاقبة تنذرهم بسوء المصير.
13. القرآن يهدينا في مسائل الحرب والتنازع مع غيرنا إلى أن نعرف أنفسنا وكنه استعدادنا لنكون على بصيرة من حقنا، ومن السير على سنن الله في طلبه وفي حفظه، وأن نعرف كذلك حال خصمنا ونضع الميزان بيننا وبينه، وإلا كنا غير مهتدين ولا متعظين.
14. إيضاح النكتة في جعل البيان للناس كافة والهدى والموعظة للمتقين خاصة:
أ. هو بيان أن الإرشاد عام، وأن جريان الأمور على السنن المطردة حجة على جميع الناس مؤمنهم وكافرهم تقيهم وفاجرهم؛ وهي تدحض ما وقع للمشركين والمنافقين من الشبهة على الإسلام إذ قالوا: لو كان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم رسولا من عند الله لما نيل منه، فكأنه يقول لهم: إن سنن الله حاكمة على رسله وأنبيائه كما هي حاكمة على سائر خلقه، فما من قائد عسكر يكون في الحالة التي كان عليها المسلمون في أحد ويعمل ما عملوا إلا ويُنال منه أي لا يخالفه جنده، ويتركون حماية الثغر التي يؤتون من قبله، ويخلون بين عدوهم وبين ظهورهم، وما يعبر عنه بخط الرجعة من مواقعهم، والعدوّ مشرف عليهم، إلا ويكونون عرضة للانكسار إذا هو كرّ عليهم من ورائهم، لا سيما إذا كان ذلك بعد فشل وتنازع كما يأتي بيانه، فما ذكر من أن لله تعالى سننا في الأمم هو بيان لجميع الناس لاستعداد كل عاقل لفهمه، واضطراره إلى قبول الحجة المؤلفة منه، إلا أن يترك النظر أو يكابر ويعاند.
ب. أما كونه هدى وموعظة للمتقين خاصة، فهو أنهم هم الذين يهتدون بمثل هذه الحقيقة، ويتعظون بما ينطبق عليها من الوقائع فيستقيمون على الطريقة، وهم الذين تكمل لهم الفائدة والموعظة، لأنهم يتجنبون ويتقون نتائج الإهمال التي يظهر لهم أن عاقبتها ضارة.
15. فليزن مسلمو هذا الزمان إيمانهم وإسلامهم بهذه الآيات ولينظروا أين مكانهم من هدايتها، وما هو حظهم من موعظتها؟ أما أنهم لو فعلوا فبدؤوا بالسير في الأرض لمعرفة أحوال الأمم البائدة وأسباب هلاكها، ثم اعتبروا بحال الأمم القائمة وبحثوا عن أسباب عزها وثباتها، لعلموا أنهم أمسوا من أجهل الناس بسنن الله، وأبعدهم من معرفة أحوال خلق الله، ولرأوا أن غيرهم أكثر منهم سيرا في الأرض، وأشد منهم استنباطا لسنن الاجتماع، وأعرق منهم في الاعتبار بما أصاب الأولين، والاتعاظ بجهل المعاصرين، فهل يليق بمن هذا كتابهم؛ أن يكون من يسمونه بسمة العداوة له أقرب إلى هدايته هذه منهم؟؟ كلا، إن المؤمن بهذا الكتاب هو من يهتدى به ويتعظ بمواعظه، ولذلك جعل الهداية والموعظة من شؤون المتقين الثابتة لهم، والمتقون هم المؤمنون القائمون بحقوق الإيمان، كما قال في أول سورة البقرة:﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ الخ وقد مر وصف المتقين وذكر جزائهم في الآيات التي قبل هاتين الآيتين، وهذا التعبير أبلغ من الأمر بالهدى والموعظة وهو يتضمن الأمر بالثبات فيه والحث على المحافظة عليه لأنه قوام التقوى التي هي قوام الإيمان، ولذلك قال بعده: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
__________
(1) تفسير المنار: 4/139.
(2) الكلام هنا، وما بعده لمحمد عبده.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كان الكلام في سابق الآيات في قصة أحد وأهم أحداثها، ثم ذكرهم بوقعة بدر وما كتب لهم فيها من النصر على قلة عددهم وعددهم، وفي هذه الآيات وما بعدها يذكرهم بسنن الله في خليقته، وأن من سار على نهجها أدى به ذلك إلى السعادة، ومن حاد عنها ضل وكانت عاقبته الشقاء والبوار، وأن الحق لا بد أن ينتصر على الباطل مهما كانت له أول الأمر من صولة، كما وعد الله بذلك على ألسنة رسله، ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾، وقال: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾
2. ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ أي إن أمر البشر في اجتماعهم وما يعرض فيه من مصارعة الحق للباطل، وما يلابس ذلك من الحرب والطعان والنزال والملك والسيادة يجرى على طرق قويمة وقواعد ثابتة اقتضتها الحكمة والمصلحة العامة.
3. جاء ذكر السنن الإلهية في مواضع من الكتاب الكريم كقوله: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ﴾، وقوله: في سياق دعوة الإسلام: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا﴾، والمراد بذلك أن مشيئة الله في خلقه تسير على سنن حكيمة من سار عليها ظفر وإن كان ملحدا أو وثنيا، ومن تنكبها خسر وإن كان صديقا أو نبيا، وعلى هذا فلا عجب أن ينهزم المسلمون في وقعة أحد، وأن يصل المشركون إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيشجوا رأسه، ويكسروا سنه، ويردوه في حفرة.
4. المسلمون الصادقون أولى الناس بمعرفة تلك السنن في الأمم وأجدر الناس بأن يسيروا على هديها، لذلك لم يلبث أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن ثابوا إلى رشدهم يومئذ ورجعوا إلى الدفاع عن نبيهم وثبتوا حتى انجلى المشركون عنهم ولم ينالوا ما كانوا يقصدون.
5. الخلاصة ـ إن النظر في أحوال من تقدمكم من الصالحين والمكذبين يهديكم إلى الطريق المستقيم، فإن أنتم سلكتم سبيل الصالحين فعاقبتكم كعاقبتهم، وإن سلكتم سبيل المكذبين فحالكم كحالهم.
6. في الآية تذكير لمن خالف أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد وإرشاد لهم؛ إلى أنهم بين عاملى خوف ورجاء، فهي على أنها بشارة لهم بالنصر على عدوهم إنذار بسوء العاقبة إذا هم حادوا عن سننه، وساروا في طريق الضالين ممن قبلهم، وعلى الجملة فالآية خبر وتشريع وتتضمن وعدا ووعيدا وأمرا ونهيا.
7. جرت سنة الله بأن للمشاهدة في تثبيت الحقائق ما ليس للقول وحده، إذ القول قد ينسى ويقل الاعتبار به، من قبل هذا أرشدهم إلى الاعتبار وقياس ما في أنفسهم على ما كان لدى غيرهم من قبلهم ومن ثم قال: ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ أي فسيروا في الأرض وتأملوا فيما حل بالأمم قبلكم ليحصل لكم العلم الصحيح المبنى على المشاهدة والاختبار، وتسترشدوا بذلك إلى أن المصارعة قد وقعت بين الحق والباطل في الأمم السالفة، وانتهى أمرها إلى غلبة أهل الحق لأهل الباطل، وانتصارهم عليهم ما تمسكوا بالصبر والتقوى، ويدخل في ذلك اتباع ما أمر الله به من الاستعداد للحرب وإعداد العدة لقتال العدو كما أمر الله به في قوله: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾، وجرى ذلك على سنن مستقيمة وأسباب مطردة لا تغيير فيها ولا تبديل.
8. السير في الأرض والبحث عن أحوال الماضين وتعرف ما حل بهم ـ نعم العون على معرفة تلك السنن والاعتبار بها، وقد نستفيد هذه الفائدة بالنظر في كتب التاريخ التي دونها من ساروا في الأرض، ورأوا آثار الذين خلوا، فتحصل لنا العظة والعبرة، ولكنها تكون دون اعتبار الذين يسيرون في الأرض بأنفسهم، ويرون الآثار بأعينهم
çتلك آثارنا تدل علينا...فانظروا بعدنا إلى الآثارé
9. ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي هذا الذي تقدم بيان للناس كافة وهدى وموعظة للمتقين منهم خاصة، فالإرشاد عام للناس وحجة على المؤمن والكافر، التقى منهم والفاجر، وذلك يدحض ما وقع للمشركين والمنافقين من الشبهة بنحو قولهم لو كان محمد رسولا حقا لما غلب في وقعة أحد، فهذا الهدى والبيان يرشد إلى أن سنن الله حاكمة على الأنبياء والرسل كما هي حاكمة على سائر خلقه، فما من قائد يخالفه جنده، ويتركون حماية الثّغر الذي يؤتون من قبله، ويخلون بين عدوهم وبين ظهورهم، والعدو مشرف عليهم، إلا كان جيشه عرضة للانكسار إذا كر العدو عليه ـ قطع خط الرجعة ـ ولا سيما إذا كان بعد فشل وتنازع، ومن ثم كان هذا البيان لجميع الناس، كلّ على قدر استعداده للفهم وقبول الحجة.
10. أما كونه هدى وموعظة للمتقين خاصة، فلأنهم هم الذين يهتدون بمثل هذه الحقائق، ويتعظون بما ينطبق عليها من الوقائع، فيستقيمون ويسيرون على النهج السوىّ، ويتجنبون نتائج الإهمال التي تظهر لهم مضرة عاقبتها، فالمؤمن حقا هو الذي يهتدى بهدى الكتاب ويسترشد بمواعظه كما قال: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ فالقرآن يهدينا في مسائل الحرب والتنازع مع غيرنا إلى أن نروز أنفسنا؛ ونعرف كنه استعدادنا لنكون على بصيرة من حقنا؛ فنسير على سنن الله في طلبه وفي حفظه، وأن نعرف كذلك حال خصمنا ونضع الميزان بيننا وبينه، وإلا كنا غير مهتدين ولا متعظين.
__________
(1) تفسير المراغي: 4/75.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد ذلك يبدأ السياق في الفقرة الثالثة من الاستعراض فيلمس أحداث المعركة ذاتها، ولكنه ما يزال يتوخى تقرير الحقائق الأساسية الأصيلة في التصور الإسلامي، ويجعل الأحداث مجرد محور ترتكن إليه هذه الحقائق.
2. في هذه الفقرة يبدأ بالإشارة إلى سنة الله الجارية في المكذبين، ليقول للمسلمين إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنة الثابتة، إنما هو حادث عابر، وراءه حكمة خاصة.. ثم يدعوهم إلى الصبر والاستعلاء بالإيمان، فإن يكن أصابتهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها، وإنما هنالك حكمة وراء ما وقع يكشف لهم عنها: حكمة تمييز الصفوف، وتمحيص القلوب، واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم؛ ووقف المسلمين أمام الموت وجها لوجه وقد كانوا يتمنونه، ليزنوا وعودهم وأمانيهم بميزان واقعي! ثم في النهاية محق الكافرين، بإعداد الجماعة المسلمة ذلك الإعداد المتين.. وإذن فهي الحكمة العليا من وراء الأحداث كلها سواء كانت هي النصر أو هي الهزيمة.
3. لقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة، وأصابهم القتل والهزيمة، أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير، قتل منهم سبعون صحابيا، وكسرت رباعية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وشج وجهه، وأرهقه المشركون، وأثخن أصحابه بالجراح.. وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر، حتى لقال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم: ﴿أَنَّى هَذَا﴾ وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون!؟ والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض، يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور، فهم ليسوا بدعا في الحياة؛ فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي جزافا، إنما هي تتبع هذه النواميس، فإذا هم درسوها، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام، واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق، ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين؛ بدون الأخذ بأسباب النصر، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول.
4. السنن التي يشير إليها السياق هنا، ويوجه أبصارهم إليها هي: عاقبة المكذبين على مدار التاريخ، ومداولة الأيام بين الناس، والابتلاء لتمحيص السرائر، وامتحان قوة الصبر على الشدائد، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين.
5. وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال، والمواساة في الشدة، والتأسية على القرح، الذي لم يصبهم وحدهم، إنما أصاب أعدائهم كذلك، وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفا، وأهدى منهم طريقا ومنهجا، والعاقبة بعد لهم، والدائرة على الكافرين.
6. ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها، وحاضرها بماضيها، فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها، وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم، ولم تكن معارفهم، ولم تكن تجاربهم ـ قبل الإسلام ـ لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة، لولا هذا الإسلام ـ وكتابه القرآن ـ الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى، وخلق به منهم أمة تقود الدنيا.. إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله، ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة وماجريات حياتهم؛ فضلا على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها، فضلا على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعا.. وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة، ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان! إنما حملتها إليهم هذه العقيدة، بل حملتهم إليها! وارتقت بهم إلى مستواها، في ربع قرن من الزمان، على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون؛ ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية، إلا بعد أجيال وأجيال.. فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية، وأنه إلى الله تصير الأمور.. فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله، واتسع له تصورها، ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة، فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان ـ بعد هذا ـ إلى مشيئته الطليقة!
7. ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ وهي هي التي تحكم الحياة، وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة، فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله ـ بمشيئة الله ـ في زمانكم، وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم.
8. ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ فالأرض كلها وحدة، والأرض كلها مسرح للحياة البشرية، والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر.
9. ﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض، وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك.. ولقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة، بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه، وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل.. وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة: إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغدا، ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة، وكي تحذر الانزلاق مع المكذبين من جهة أخرى، وقد كان هنالك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير، وفي السياق سيرد من هذه الدواعي الكثير.
10. وعلى إثر بيان هذه السنة يتجاوب النداء للعظة والعبرة بهذا البيان: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾، هذا بيان للناس كافة، فهو نقلة بشرية بعيدة ما كان الناس ببالغيها لولا هذا البيان الهادي، ولكن طائفة خاصة هي التي تجد فيه الهدى، وتجد فيه الموعظة، وتنتفع به وتصل على هداه.. طائفة (المتقين)
11. إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى، والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها.. والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل، وبالهدى والضلال.. إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل، إنما تنقص الناس الرغبة في الحق، والقدرة على اختيار طريقه.. والرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه لا ينشئهما إلا الإيمان، ولا يحفظهما إلا التقوى.. ومن ثم تتكرر في القرآن أمثال هذه التقريرات، تنص على أن ما في هذا الكتاب من حق، ومن هدى، ومن نور، ومن موعظة، ومن عبرة.. إنما هي للمؤمنين وللمتقين، فالإيمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة، وهما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى والنور والانتفاع بالموعظة والعبرة.. واحتمال مشقات الطريق.. وهذا هو الأمر، وهذا هو لب المسألة.. لا مجرد العلم والمعرفة.. فكم ممن يعلمون ويعرفون، وهم في حمأة الباطل يتمرغون، إما خضوعا لشهوة لا يجدي معها العلم والمعرفة، وإما خوفا من أذى ينتظر حملة الحق وأصحاب الدعوة!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/480.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هنا يلتفت المسلمون(2) إلى أنفسهم التفاتا قويّا، يفتشون عن مواطن القوة والضعف في إيمانهم وصبرهم، حتى يكونوا على الشرط الذي اشترطه الله عليهم، ليمدّهم بالقوة، وليمكّن لهم من عدوهم، وتجيء آيات القرآن الكريم، لتلتقى مع هذا الشعور، الذي يفتش فيه المسلمون عن أنفسهم، ولتكون في مجال البصر وهم يرتادون مواقع الخير الذي يدنيهم من التقوى، ويمكن لهم من الصبر.. وإذا في الآيات التي يتلوها الرسول عليهم بعد أن تلقاها من ربّه لساعته ـ إذا في هذه الآيات الدواء والشفاء، إذ يقول الله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ الآيات.. فعلى ضوء هذه الآيات الكريمة، يعرض المسلم نفسه، ويطّلع على ما تكون قد انطوت عليه مما نهى الله، مما لم يكن يراه، وهو في زحمة الأحداث المتلاحقة، التي كانت تمرّ بالمسلمين في تلك الفترة الحرجة من حياة الإسلام ـ فيعمل على تنقيتها، والخلاص منها.. وقد أشرنا من قبل إلى ما في هذه الآيات الكريمة من معانى الإحسان، وما تحمل من دواء عتيد لسقام النفوس، ومرضى القلوب! ثم يجيء قوله تعالى بعد ذلك: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ فيذكر المسلمون من الآية الكريمة أن لله سبحانه وتعالى سننا في خلقه، لن تتخلف أبدا، وأن من هذه السنن وتلك الأحكام والقوانين التي أخذ الله بها النّاس، ما تضمّنه قوله سبحانه ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾، وما جاء به قوله سبحانه: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾
2. وبهذا يرى المسلمون أنهم مطالبون بأن يعملوا وأن يحسنوا ما وسعهم العمل، وما أمكنهم الإحسان، وأن يلقوا عدوّهم بالصّبر وتوطين النفس على الجهاد والتضحية والبذل في سبيل الله، وأن يشروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله.. وهنا يأذن الله لهم بالنصر، ويريهم في عدوّهم ما يحبّون، وإلّا فقد رضوا لأنفسهم بالهزيمة، التي اكتسبوها بالقعود عن البذل والتضحية.
3. ينظر المسلمون في سنن الله التي خلت في عباده، وما لهذه السنن من آثار في تقدير مصائر الأمم والأفراد على السواء، وإذا الّذين كذّبوا بآيات الله، وآذوا رسل الله، قد أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.. قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وأصحاب مدين.. هؤلاء جميعا هم ممن كذبوا الرّسل، فأخذهم الله بذنوبهم، وأوردهم موارد الهلاك في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار.. وفي هذا بقول الله تعالى: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.. فهذا هو مصير الذين كفروا بآيات الله وكذّبوا رسله، وإلى مثل هذا المصير يصير أولئك الذين كذّبوا رسول الله وآذوه، ووقفوا منه ومن دعوته هذا الموقف العنادىّ المغرق في العناد والضلال.
4. في هذا تطمين للمسلمين، وتثبيت لأقدامهم، وأنهم على طريق النصر، إذا هم صبروا واتقوا، وأن أعداءهم إلى البوار والهلاك إن أصرّوا على ما هم عليه من شرك وضلال.. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾.. ويقول سبحانه: ﴿كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ ثم تمتلئ أسماع المسلمين وقلوبهم بعد هذا بقوله تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾.. فيرجعون إلى هذا البيان الذي استقبلتهم به تلك الآيات، وهم على مشارف المعركة والالتحام بعدوّهم، ويرتلون هذا البيان مرة بعد مرة، فيخلص إليهم منه في كل مرة ما يزيد إيمانهم إيمانا ويقينهم يقينا، وإذا هم يمضون إلى المعركة في ثقة وطمأنينة، وفي إصرار على كسب المعركة وبلوغ النصر! وتدور المعركة، وتهبّ ريح النصر على المسلمين، وفي لحظة خاطفة يرون أنهم كسبوا المعركة، فألقى كثير منهم السلاح، وأقبل على الغنائم ينتزعها من بين يدى العدو قبل أن يفرّ بها! ولكن سرعان ما تتبدل الأمور، وتسكن ريح النصر، ويقع المسلمون ليد أعدائهم، فيقتلون منهم نحو سبعين قتيلا.. وينكشف الرسول، إذ تتناثر الكتيبة التي حوله، بين قتيل، وجريح، ومهزوم.. ويثبت الرسول الكريم مع فئة قليلة من أصحابه، ويخلص إليه من سهام العدوّ أذى كثير، حتى لتشجّ رأسه، وتنكسر ثنيّته، وينادى منادى المشركين: أن محمدا قتل! وهنا يستبدّ الهول والفزع بالمسلمين، وتكاد تنتهى المعركة بالهزيمة القاصمة، لولا أن نادى منادى الرسول: أن رسول الله هنا في المعركة، يقاتل المشركين.. فتثوب إلى المسلمين ألبابهم الشاردة، ويجتمعون إلى رسول الله، ويصمدون معه في ردّ عدوان المعتدين.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/596.
(2) هذا الكلام تتمة لما سبق في المقطع 66 من هذه السورة.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ استئناف ابتدائي: تمهيد لإعادة الكلام على ما كان يوم أحد، وما بينهما استطراد، كما علمت آنفا، وهذا مقدّمة التّسلية والبشارة الآيتين، ابتدئت هاته المقدّمة بحقيقة تاريخية: وهي الاعتبار بأحوال الأمم الماضية.
2. جيء بـ (قد)، الدّالة على تأكيد الخبر، تنزيلا لهم منزلة من ينكر ذلك لما ظهر عليهم من انكسار الخواطر من جراء الهزيمة الحاصلة لهم من المشركين، مع أنّهم يقاتلون لنصر دين الله، وبعد أن ذاقوا حلاوة النّصر يوم بدر، فبيّن الله لهم أنّ الله جعل سنّة هذا العامل أن تكون الأحوال فيه سجالا ومداولة، وذكّرهم بأحوال الأمم الماضية، فقال: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾، والله قادر على نصرهم، ولكن الحكمة اقتضت ذلك لئلّا يغترّ من يأتي بعدهم من المسلمين، فيحسب أنّ النّصر حليفهم، ومعنى خلت مضت وانقرضت، كقوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ [آل عمران: 137]
3. السنن جمع سنة ـ وهي السيرة من العمل أو الخلق الذي يلازم المرء صدور العمل على مثالها قال لبيد:
çمن معشر سنّت لهم آباؤهم...ولكلّ قوم سنّة وإمامهاé
وقال خالد الهذلي يخاطب أبا ذؤيب الهذلي:
çفلا تجزعن من سنّة أنت سرتها...فأوّل راض سنّة من يسيرهاé
وقد تردّد اعتبار أئمّة اللّغة إيّاها جامدا غير مشتقّ، أو اسم مصدر سنّ، إذ لم يرد في كلام العرب السّنّ بمعنى وضع السنّة، وفي (الكشاف) في قوله: ﴿سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾ في سورة الأحزاب [38]: سنة الله اسم موضوع موضع المصدر كقولهم تربا وجندلا، ولعلّ مراده أنّه اسم جامد أقيم مقام المصدر كما أقيم تربا وجندلا مقام تبّا وسحقا في النصب على المفعولية المطلقة، الّتي هي من شأن المصادر، وأنّ المعنى تراب له وجندل له أي حصب بتراب ورجم بجندل، ويظهر أنّه مختار صاحب (القاموس) لأنّه لم يذكر في مادّة سنّ ما يقتضي أنّ السنّة اسم مصدر، ولا أتى بها عقب فعل سنّ، ولا ذكر مصدرا لفعل سنّ، وعلى هذا يكون فعل سنّ هو المشتقّ من السنّة اشتقاق الأفعال من الأسماء الجامدة، وهو اشتقاق نادر، والجاري بكثرة على ألسنة المفسّرين والمعربين: أنّ السنّة اسم مصدر سنّ ولم يذكروا لفعل سنّ مصدرا قياسيا، وفي القرآن إطلاق السنّة على هذا المعنى كثيرا: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا﴾ [فاطر: 43]
4. فسّروا السنن هنا بسنن الله في الأمم الماضية، والمعنى: قد مضت من قبلكم أحوال للأمم، جارية على طريقة واحدة، هي عادة الله في الخلق، وهي أنّ قوّة الظالمين وعتوهم على الضعفاء أمر زائل، والعاقبة للمتّقين المحقّين، ولذلك قال: ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ أي المكذّبين برسل ربّهم وأريد النظر في آثارهم ليحصل منه تحقّق ما بلغ من أخبارهم، أو السؤال عن أسباب هلاكهم، وكيف كانوا أولي قوة، وكيف طغوا على المستضعفين، فاستأصلهم الله أو لتطمئنّ نفوس المؤمنين بمشاهدة المخبر عنهم مشاهدة عيان، فإنّ للعيان بديع معنى لأنّ بلغتهم أخبار المكذّبين، ومن المكذّبين عاد وثمود وأصحاب الأيكة وأصحاب الرسّ، وكلّهم في بلاد العرب يستطيعون مشاهدة آثارهم، وقد شهدها كثير منهم في أسفارهم.
5. في الآية دلالة على أهميّة علم التّاريخ لأنّ فيه فائدة السير في الأرض، وهي معرفة أخبار الأوائل، وأسباب صلاح الأمم وفسادها، قال ابن عرفة: (السير في الأرض حسّي ومعنوي، والمعنوي هو النظر في كتب التّاريخ بحيث يحصل للنّاظر العلم بأحوال الأمم، وما يقرب من العلم، وقد يحصل به من العلم ما لا يحصل بالسير في الأرض لعجز الإنسان وقصوره)
6. إنّما أمر الله بالسير في الأرض دون مطالعة الكتب لأنّ في المخاطبين من كانوا أمّيين، ولأنّ المشاهدة تفيد من لم يقرأ علما وتقوّي علم من قرأ التّاريخ أو قصّ عليه.
7. ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ تذييل يعمّ المخاطبين الحاضرين ومن يجيء بعدهم من الأجيال، والإشارة إمّا إلى ما تقدّم بتأويل المذكور، وإمّا إلى حاضر في الذهن عند تلاوة الآية وهو القرآن.
8. البيان: الإيضاح وكشف الحقائق الواقعة، والهدى: الإرشاد إلى ما فيه خير النّاس في الحال والاستقبال، والموعظة: التحذير والتخويف، فإن جعلت الإشارة إلى مضمون قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ [آل عمران: 137] الآية فإنّها بيان لما غفلوا عنه من عدم التّلازم بين النّصر وحسن العاقبة، ولا بين الهزيمة وسوء العاقبة، وهي هدى لهم لينتزعوا المسببات من أسبابها، فإن سبب النجاح حقا هو الصلاح والاستقامة، وهي موعظة لهم ليحذروا الفساد ولا يغترّوا كما اغترّت عاد إذ قالوا: (من أشدّ منّا قوّة)
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/226.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أشار سبحانه في الآيات السابقة إلى غزوة أحد وإمداد الله بالملائكة للمؤمنين في الحروب إن صبروا في اللقاء، ولم يختلفوا على قائدهم في المعركة، وجعلوا ما عند الله تعالى الغاية والمرمى، ثم ذكر من بعد ذلك سبحانه ما هو دواء القلوب، وغذاء الإيمان، وهو الطاعة والتعاون، وألا يأكل أحد حق أخيه أو ماله بالباطل، وأن المال الحلال هو قوة الحروب، والمال الحرام كمال الربا سحت، وطلبه من ضعف الإيمان، ويربى خور العزائم إذ إن شهوة المال، والشجاعة وحب الفداء خلال لا تجتمع في قلب رجل واحد، ثم بين سبحانه أن أعظم الذخائر هو تربية النفوس على التقوى وطلب مغفرة الله سبحانه وتعالى.
2. جاء بعد ذلك الكلام على أثر غزوة أحد في نفوس المؤمنين، وقد نهاهم سبحانه عن الضعف والوهن والحزن، وأمرهم أن يتخذوا من الهزيمة سبيلا للنصر، وإنها سنة الله في خلقه فعليهم أن يخضعوا لها ويقروا في ذات أنفسهم بها، ولذا قال سبحانه: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾
3. ﴿خَلَتْ﴾ معناها مضت وثبتت وتقررت، والسنن جمع سنة، وهى تطلق بمعنى الطريق المسلوك المعبد، وتطلق بمعنى المثال الذي يتبع، ولقد قيل إنها من قولهم سن الماء إذا صبه صبا متواليا فشبهت العرب به الطريقة المستقيمة المتبعة المستمرة، والمعنى أنه قد مضت وتقررت من قبلكم سنن ثابتة ونظم محكمة فيما قدره الله سبحانه وتعالى من نصر وهزيمة، وعزة وذلة، وعقاب في الدنيا وثواب فيها، فالحق يصارع الباطل، وينتصر أحدهما على الآخر بما سنّه سبحانه من سنة في النصر والهزيمة، من طاعة للقائد، وإحكام في التدبير، وقوة إيمان، واستعداد للفداء، وهكذا؛ ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾ [الرعد]
4. من سنن الله تعالى الثابتة ألا يمكن من الظلم وأن ينتصر أهل الحق إذا عملوا على نصرته، وتضافروا على إقامته ولم ينحرفوا عن طاعته، وأن أهل الباطل قد ينتصرون إن اتحدوا واستعدوا، فينالون الظفر لتخاذل أهل الحق وانقسامهم، أو إرادتهم عرض الدنيا، أو عدم الصبر على طاعة القائد العظيم كما كان الشأن في أحد.
5. من سنن الله تعالى أن يجعل العاقبة للصابرين الصادقين، فإن أملى للكافرين سنة فإنه سيأخذهم من بعد أخذ عزيز مقتدر، وينصر عليهم أهل الحق، وإنما قدر الله تعالى نصرتهم الوقتية على أهل الحق ليصقل أهل الإيمان، وليهديهم هداية عملية إلى طريق الانتصار، وليميز من بينهم ضعيف الإيمان، ويظهر نفاق أهل النفاق، وبذلك تتبين الصفوة المختارة التي يعتمد عليها، ويذهب الذين مردوا على النفاق بنفاقهم، فلا ينخدع بهم أحد، ولا يرجفون بكيدهم في الجماعة، ولقد بين سبحانه لأهل الإيمان عاقبة المكذبين تثبيتا لقلوبهم، وتأييدا لهم فقال جل من قائل: ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾، أي أنه إذا كانت سنة الله تعالى في خلقه، أو العاقبة دائما للمتقين، فسيروا في الأرض، فانظروا الحال التي قد انته بها الكاذبون، والتعبير بلفظ (كيف) الدال على الاستفهام يقصد به التصوير وتوضيح الحال في صورة تدعو إلى العجب وتثير الاستغراب، أي أن عاقبتهم التي انتهوا إليها من تدمير ديارهم، وتعفية آثارهم بعد أن طغوا وبغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، تثير العجب والدهشة لمن ضعف إيمانه، وتلقى بالطمأنينة والصبر والرضا لمن قوى إيمانه.
6. في هذه الآية وأمثالها من الآيات التي تدعو إلى السير في الأرض والبحث لمعرفة أحوال السابقين دعوة إلى أمرين:
أ. أحدهما: دراسة تاريخ الأمم بشكل عام، فإن التاريخ كتاب العبر، وسفر المعتبر، وهو رباط الإنسانية التي يربط حاضرها بماضيها.
ب. الثاني: دراسة أحوال الأمم من آثارها فإنها أصدق من رواية الرواة وأخبار المخبرين، فقد يكون التاريخ المكتوب أكاذيب، أما الآثار فصادقة لمن يعرف كيف يستنطقها، وإن الملوك وأشباههم يزيفون الأخبار المنقولة، وإنه ليحكي أن أحد الملوك كلف كاتبا أن يكتب تاريخ دولته، فسأل بعض أصحاب الكاتب عما يكتب فقال: (أكاذيب ألفقها وأباطيل أنمقها)
7. ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ الإشارة في النص السامي إلى ما تضمنته الآية السابقة من الحث على السير في الأرض وتعرف سنن الله تعالى من آثار المكذبين الذين طغوا أولا ثم ذلوا وأخذوا من حيث لا يحتسبون ـ وقد ذكر أن هذا بيان للناس أجمعين، يدركه كل من له بصر يبصر به، وفهم يفهم به، وتحقق البيان لا يقتضى تحقق أثره وهو المعرفة التي تهدى إلى الإيمان وتوجب الاتعاظ، إنما تكون الهداية من البيان والاتعاظ به للمتقين دون غيرهم، ولذلك جعل سبحانه البيان للناس جميعا، والهداية والموعظة للمتقين منهم فقط؛ إذ إن الهداية بالبيان تقتضى إشراقا روحيا، واستعدادا قلبيا، وإخلاصا في طلب الحقيقة، والموعظة وهى الاستفادة من العبر، تقتضى قلبا متفتحا لإدراك الحقائق والاتجاه إليها بقصد سليم، وذلك كله لا يتوافر إلا للمتقين الذين أخلصوا أنفسهم لله، وطلبوا الحق، وسلكوا سبيله لا يبغونه عوجا، ومثل البيان مثل البذر يلقى في الأرض، فإذا أصاب صحراء قاحلة جف ولم ينتج، وإذا أصاب أرضا خصبة أنبتت نباتا حسنا، وقد مثل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم العلم بالغيث وبين اختلاف الناس في تلقيه، فقال: (مثل ما بعثني الله كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله به الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعمل، ومثل من لم يرفع رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)
8. إذا كان الله سبحانه وتعالى قد بين هذا البيان فيجب على المؤمنين أن يعتبروا بسنن الله تعالى وأن يعرفوا أن ما أصابهم في أحد فبسنن الله، وعليهم أن يأخذوا الأهبة للمعركة القابلة، ولا تأسر تفكيرهم المعركة السابقة إلا بمقدار ما فيها من عظة وعبرة.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1418.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾، سبقت الاشارة إلى وقعة أحد، وان الانتصار فيها كان للمشركين، لأن المرابطين في الثغر من المسلمين تركوه، والعدو مشرف عليهم، فأخلوا بين عدوهم وبين ظهورهم.. وقد خاطب الله سبحانه، بقوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ان يتعرفوا على أخبار الماضين، وما حل بالمنحرفين منهم، ليتعظ الأصحاب بذلك، ولا يعودوا إلى مثل ما فعلوا في أحد من معصية الرسول بإخلاء الثغر الذي أمرهم بالبقاء فيه، مهما كانت النتائج، فلما خالفوه أصابهم ما أصاب الأمم السالفة التي خالفت أنبياءها.
2. ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾، ليس المراد من السير في الأرض هنا خصوص السفر، بل مطلق التعرف على أحوال الماضين بأي سبيل، وليس من شك ان من المفيد للعاقل أن يبحث عن أحوال الناس، ويطلع على الأسباب الموجبة لضعفهم، أو قوتهم، فيتعظ ويعتبر، ويسترشد إلى ما فيه خيره وصلاحه، ومن أجل هذا قال عز من قائل: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾، هذا اشارة إلى ذكر السنن الحكيمة التي من سار عليها ظفر، ومن تنكبها خسر.. ولا بد من البيان للناس كافة، ليكون حجة على من عصى، وهدى وموعظة لمن اتقى، فإنه السبيل الوحيد الذي يميز بين العاصي والمطيع.. ولولا البيان لا طاعة ولا عصيان.
3. في سنة 1387 هـ دعاني أهل البحرين لالقاء محاضرات دينية بمناسبة شهر رمضان المبارك، ومكثت عندهم حوالي 25 يوما ألقيت خلالها عشرين محاضرة، وكان الشباب يوجهون إليّ العديد من الأسئلة المتنوعة، وفي ذات يوم جاءني وفد منهم، وقالوا: حدثنا عن أسباب نكسة 5 حزيران من غير الوجهة الدينية، قلت: لا فرق بين العلم والدين من حيث النظر إلى القوانين والسنن التي تحكم الحياة، فإن مشيئة الله سبحانه في خلقه وعباده تسير على سنن علمية مستقيمة وأسباب مطردة، لا تختلف باختلاف المؤمنين أو الكافرين.. فالعارف بفن السباحة ـ مثلا ـ يعوم ويصل إلى شاطئ الأمان، ولو كان كافرا، والجاهل بالسباحة يرسب، ويكون عرضة للهلاك، ولو كان مؤمنا.. وكذلك من أعد العدة لعدوه واحتاط له ظفر به، وان كان ملحدا، إذا لم يكن الطرف الآخر على حذر واستعداد، ومن تقاعس وأهمل خسر، وان كان من الأولياء والصديقين، قال تعالى مخاطبا أصحاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بالآية 46 من الأنفال: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، وقال الإمام علي عليه السلام: (ان هؤلاء ـ يشير إلى أصحاب معاوية ـ قد انتصروا بإجماعهم على باطلهم، وخذلتم ـ الخطاب لأصحابه ـ بتفرقكم عن حقكم)، اذن، الحق لا ينتصر لمجرد انه حق، والباطل لا يخذل لمجرد أنه باطل، بل هناك سنن في هذه الحياة تسيّر المجتمع وتتحكم به، والله سبحانه لا يسقطها ويعطل سيرها، تماما كما هو شأنه في سنن الطبيعة، وعليه، فلا عجب أن تغتال الصهيونية جزءا من أرضنا بمعونة الاستعمار، ما دمنا في غفلة عنها وعن مقاصد أعوانها منقسمين إلى دويلات لا جامع بينها الا لفظ العرب والعربية.. أجل، قد تكون الجولة الأولى للباطل، ولكن العاقبة لمن صبر واتقى، لأن الباطل مهما استعد وتحصن فإنه يفقد القوى والصفات التي تؤهله للبقاء والاستمرار، فهو دائما عرضة للزوال.. ففي أية لحظة يجد الحق أنصارا يؤمنون به، ويضحون من أجله لا يلبث الباطل أن يدمغ ويضمحل، والذي يبعث على التفاؤل ان العرب لم يستسلموا للأمر الواقع، بل اتخذوا من المحنة والهزيمة دافعا إلى مزيد من الصلابة والتصميم.. لقد ظن الاستعمار ان طول الطريق يضعف العرب، وان احتلال أرضهم يلجئهم إلى الخضوع، ثم ظهر له انه خاطئ في ظنه، وانه لا شيء في حساب العرب الا الصبر والكفاح طويلا كان الطريق أو قصيرا، يسيرا كان أو عسيرا.
4. سؤال وإشكال: ان مشيئة الله تجري على القوانين والسنن المعروفة، مع انه سبحانه، قد أهلك قوم نوح بالطوفان، وقوم هود بريح عاتية، وأمطر أصحاب الفيل بحجارة من سجيل، وجعل عالي مدائن لوط سافلها، لا لشيء الا لمجرد العصيان ومخالفة الحق، كما جاء في كتابه العزيز، والجواب: ان الحكمة الإلهية اقتضت استثناء تلك الموارد الجزئية الخاصة على يد من سبق من الأنبياء، ولم تتكرر وتطرد في جميع الكفار والعصاة، فالقياس عليها قياس على الفرد النادر.
5. سؤال وإشكال: لماذا لا ينتصر الحق على كل حال، ما دام الله مريدا له ولأهله، كارها الباطل وأتباعه؟ والجواب:
أ. أولا لو انتصر الحق على كل حال لاتبعه الناس، كل الناس رغبة في النصر لأحبابه، وكرها بالباطل، ولتعذر التمييز بين الخبيث الذي يتبع الحق بقصد المنفعة والاتجار، وبين الطيّب الذي يتبع الحق لوجه الحق، ويتحمل في سبيله المحن والشدائد، هذا، إلى ان الأسباب لا تعرف الا بعد الهزيمة.
ب. ثانيا: لو سلّط الله المحنة على المبطلين أبدا ودائما، وأبعدها عن المحقين كذلك لبطل التكليف، والثواب والعقاب، لأن اتباع الحق، والحال هذه، يكون بالقهر والغلبة، لا بالإرادة والاختيار.
6. الخلاصة، ان على المسلم ان يتدبر معاني القرآن، ويتخذ منها ميزانا لعقيدته وتصوره عن النصر والهزيمة، والقوة والضعف، وان لكل منهما طريقه الخاص.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/160.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا﴾، السنن جمع سنة وهي الطريقة المسلوكة في المجتمع، والأمر بالسير في الأرض لمكان الاعتبار بآثار الماضين من الأمم الغابرة، والملوك والفراعنة الطاغية حيث لم ينفعهم شواهق قصورهم، ولا ذخائر كنوزهم، ولا عروشهم ولا جموعهم، وقد جعلهم الله أحاديث يعتبر بها المعتبرون، ويتفكه بها المغفلون، وأما حفظ آثارهم وكلاءة تماثيلهم والجهد في الكشف عن عظمتهم ومجدهم الظاهر الدنيوي الذي في أيامهم فمما لا يعتني به القرآن، فإنما هي الوثنية التي لا تزال تظهر كل حين في لباس، وسنبحث إن شاء الله في هذا المعنى في بحث مستقل نحلل فيه معنى الوثنية.
2. ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾ الآية التقسيم باعتبار التأثير فهو بلاغ وإبانة لبعض وهدى وموعظة لآخرين.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/26.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ قد مضت ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ في الزمان الماضي ﴿سُنَنَ﴾ عادات لله في إهلاك المكذبين ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ لتروا آثار المهلَكين، فإذا رأيتموهم ﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ هذا الخطاب للكفار إنذار بهلاكهم إن لم يؤمنوا؛ ووقوع الآية في أثناء سياق القتال بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين يشير إلى أنه يرجى النصر لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ﴿هَذَا﴾ القرآن ﴿بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾ وتوضيح للإنذار والإعذار والتبشير وطرق النجاة وأسباب العذاب وأسباب الجنة، وكل ما لأجله أرسل الرسول وأنزل القرآن مما كلف الناس به، فهو بيان لهم كلهم، ومعنى أنه بيان لهم: أنه من وضوح الدلالة على معانيه بحيث يتمكنون من فهمه كلهم، فقد أعد ليفهموه كلهم ومن لم يفهمه فمن جهته التقصير؛ لأنه ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء:195] وفي ذلك دلالة واضحة على عموم الخطاب به للناس كلهم وأنه ينبغي لهم كلهم أن يتفهموه ولا ييأس أحد من فهمه إذا فهم اللسان العربي، وأن فهمه لا يختص به الإمام ولا الشيخ.
3. ﴿وَهُدًى﴾ أي هذا القرآن هدى ﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ الذين يهتدون به لأنهم مستعدون لذلك فيعرفون طريق الخير الموصل إلى ربهم وموعظة لهم وزجر عن الباطل ببيان ما يؤدي إليه من العذاب والخسران.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/540.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ لفتة قرآنية للتاريخ في كل حوادثه القريبة والبعيدة، ودعوة للناس إلى دراسة سنن الله في الأرض وقوانينه الحتميّة التي تحكم الواقع الإنساني في خطوات التقدم والتأخر، والعمران والخراب، والرقيّ والهبوط؛ ليأخذوا من ذلك كله العبرة والدرس، ويعرفوا أن عاقبة التكذيب للأنبياء، والبعد عن خط الحق والشريعة، هي الدمار والموت والانهيار، وأنّ الحاضر لن يكون أفضل من الماضي في هذا الاتجاه لأنّ سنن الله لا تتغير، وفي ضوء ذلك، نعرف أن القرآن الكريم يضع التاريخ في موضعه التربوي الذي يستطيع الإنسان من خلاله أن يعرف الأسس التي كانت ترتكز عليها حركته، والقوانين الطبيعية التي تحكم أحداثه وظواهره في المجالات الاجتماعية والسياسية والحربية.. ويعرف في نهاية المطاف كيف يتحوّل الانسجام مع خط الله ـ عبر الإيمان به ـ إلى عنصر حضارة وتقدّم وانطلاق، وكيف يتحرّك البعد عنه ـ عبر الكفر والشرك والضلال ـ إلى عنصر تخلّف وتأخر وارتباك.. وبذلك لا يعود التاريخ قصة للمتعة واللهو وقتل أوقات الفراغ.
2. في قوله تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ إعلان عن طبيعة الآيات المتقدمة في ما تأمر به وما تنهى عنه، وما تطرح من مفاهيم ومواعظ وإرشادات وقضايا، ليعرف الناس أنها واردة من أجل إيضاح الحقيقة وجلاء المفاهيم، وإنارة الطريق، وموعظة الغافل التائه وتذكيره.. وقد اعتبرت ذلك كله، موجّها إلى المتقين، من خلال أن التقوى تدفع الإنسان إلى السعي نحو المعرفة باعتبارها مسئولية فكرية وعمليّة، وليست ترفا فكريّا يمكن للإنسان أن يستغني عنه، وبذلك يتحوّل البيان لديه إلى وضوح فكري، والهدى إلى حركة على الطريق المستقيم، والموعظة إلى انفتاح على آفاق الله الواسعة في رحاب الحياة.. أمّا غير المتقين، فقد أغلقوا عيونهم عن النور، وأصمّوا أسماعهم عن كلمات الحقّ وجمّدوا عقولهم عن التحرّك في اتجاه الحقيقة.
3. ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ مضت في الزمن الماضي الذي عاشت فيه أمم متنوعة في خصائصها وأعرافها ولغاتها وألوانها ومواقعها، في أوضاعها الخاصة والعامة، وفي صراعاتها المعنوية والمادية، وفي مواقفها إزاء الرسالات التي جاء بها الأنبياء وحيا من الله، وتحرّك فيها المصلحون في خط الرسالات في تمردها الفكري والعملي عليها، واضطهادها للرسل ودعاة الصلاح والإصلاح، فكانت لها في حركة التاريخ في الواقع الإنساني أكثر من سنّة إلهية تنفتح على أكثر من قانون عام تخضع له الحياة والإنسان في كل الأحداث التي تحدث في الواقع، وفي كل التطورات الإنسانية والمتغيرات الحياتية، وذلك في النظام الكوني والإنساني الذي أقام الله الحياة عليه، فلا يختلف فيه الحاضر عن الماضي، ولا ينفصل فيه المستقبل عن الحاضر، فهناك خط واحد ممتد في الزمان في الوجود الإنساني يتحرك عليه الإنسان، فهو الذي يضع لنفسه خيرها بإرادته الخيّرة، وهو الذي يضع لها شرّها بإرادته الشريرة، وهو الذي يغير الواقع من خلال تغيير فكره في تصوراته وتطلعاته وخططه للحياة وللحركة وللعلاقة بالإنسان وبالوجود، لأن الله جعل حركته مظهرا لفكره في مفرداته وأسلوبه وحركته في الواقع، وهكذا تنطلق الحضارات في عملية النباء والقوّة والامتداد والحيوية من خلال الانفتاح على القيم، وانحدار الإنسان إلى الدرك الأسفل في روحيته وحركته وبعده عن الخط المستقيم وقد أشار الله إلى بعض ذلك في قوله: ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 61 ـ 62]؛ وقوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ [الفتح: 23]
4. ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا﴾ أيها المكذبون الضالون المتمردون على الرسالة والرسول، وانظروا يا أيها الذين تواجهون خياراتكم في السير مع خط الرسالة والالتزام بها وفي الانفصال عنه.
5. ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ الذين كذبوا الرسل، وأعرضوا عن الرسالات، فابتعدوا بذلك عن الحصول على مصالحهم الحيوية التي هي سرّ التشريعات الإيجابية، والوقوع في المفاسد التي هي سرّ التشريعات السلبية، ثم طواهم الزمن من خلال العقوبات التي أنزلها الله بهم أو من خلال البلاء القاسي المتنوع الذي حلّ بهم، لتعرفوا أن مسألة التكذيب ليست مسألة سلبية في موقع صاحب الرسالة، بل هي كذلك في حياة المكذّب نفسه لما يخسره من الخير ويقع فيه من الشرّ.
6. ﴿هَذَا﴾ النداء الإلهي الصادر من موقع الرحمة الواسعة واللطف العميم والفضل العظيم من أجل أن يدعوكم إلى ما يحييكم ويحقق لكم النتائج الكبيرة في الدنيا والآخرة، ﴿بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾ ليملكوا وضوح الرؤية للمسؤولية، ﴿وَهُدًى﴾ يهتدون به إلى الصراط المستقيم، ﴿وَمَوْعِظَةً﴾ تليّن قلوبهم وتفتحها وتلطّف مشاعرهم وأحاسيسهم، وتوجّه خطواتهم إلى الطريق السوي، ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ الذين يخافون مقام ربهم ويخشونه ولا يخشون أحدا إلّا الله.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/276.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يعتبر القرآن الكريم ربط الماضي بالحاضر والحاضر بالماضي أمرا ضروريا لفهم الحقائق، لأن الارتباط بين هذين الزمانين (الماضي والحاضر) يكشف عن مسئولية الأجيال القادمة، ويوقفها على واجبها، ولهذا قال سبحانه: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾، وهذا يعني أن لله في الأمم سننا لا تختص بهم، بل هي قوانين وسنن عامة في الحياة تجري على الحاضرين كما جرت على الماضين سواء بسواء، وهي سنن للتقدّم والبقاء وسنن للتدهور والاندحار، التقدّم للمؤمنين المجاهدين المتحدين الواعين، والتدهور والاندحار للأمم المتفرقة المتشتتة الكافرة الغارقة في الذنوب والآثام.
2. للتاريخ أهمية حيوية لكلّ أمة من الأمم، لأن التاريخ يعكس الخصوصيات الأخلاقية والأعمال الصالحة وغير الصالحة، والأفكار التي كانت سائدة في الأجيال السابقة، كما يكشف عن علل سقوط المجتمعات أو سعادتها، ونجاحها وفشلها في العصور الغابرة المختلفة، وبكلمة واحدة: إن التاريخ مرآة الحياة الروحية والمعنوية للمجتمعات البشرية وهو لذلك خير مرشد محذر للأجيال القادمة، ولهذا نجد القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى السير في الأرض والنظر بإمعان وتدبر في آثار الأمم والشعوب التي سادت ثمّ بادت إذ يقول: ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾، إن آثار الماضين خير عبرة للقادمين، وبالنظر فيها والاعتبار بها يمكن للناس أن يعرفوا المسير الصحيح للسلوك والحياة.
3. إن الآثار المتبقية في مختلف بلدان العالم من الأمم والعهود السابقة ما هي ـ في الحقيقة ـ إلّا وثائق التاريخ الحية والناطقة، بل هي قادرة على أن تعطينا من الحقائق والأسرار أكثر ممّا يعطينا التاريخ المدون، إن الآثار الباقية من العصور السالفة بما فيها من أشكال وصور ونقوش وكيفيات تدلنا على ما كانت تتمتع به الأمم البائدة من روح وفكر، وثقافات ومبادئ، وعظمة أو صغار، في حين لا يجسّد التاريخ المدون سوى الحوادث الواقعة وسوى صور خاوية عنها، أجل، إن خرائب قصور الطغاة وبقايا آثار عظيمة مثل الأهرام، وبرج بابل، وقصور كسرى، وآثار الحضارة المندثرة لقوم سبأ، ومئات من نظائرها الأخرى من هذه الآثار المنتشرة في شتى أنحاء هذا الكوكب تنطوي ـ رغم صمتها ـ على ألف حديث وحديث، وألف كلمة وكلمة.
4. لهذا عمد كبار الشعراء إلى الاستلهام من هذه الأطلال والآثار واستوحوا منها الدروس والعبر والعظات، ونقلوا إلى الآخرين عبر قصائدهم ما كان يجيش في صدورهم، وينقدح في نفوسهم من المشاعر والأحاسيس المختلفة، تجاه ما تحكيه هذه الأطلال والآثار من معاني وتعطيه من دلالات، ولقد لخص أحد الأدباء هذه الحقيقة في بيت شعري إذ قال:
çان آثارنا تدل علينا...فانظروا بعدنا إلى الآثارé
5. إن مطالعة سطر واحد من هذه التواريخ الحية الناطقة تعادل ـ في الحقيقة ـ مطالعة كتاب ضخم في مجال التاريخ، وأن ما تبعثه تلك المطالعة في النفس والروح البشرية لا يقاس به شيء مهما عظم، ذلك لأننا عندما نقف أمام آثار الماضين تتمثل أمامنا تلك الآثار وكأنها قد استعادت حياتها، ودب فيها الروح، وكأن العظام النخرة قد خرجت من تحت الأرض حية، وكأن كلّ شيء قد عاد إلى سيرته الأولى، وكأن جميع الأشياء تنطق وتتحدث، ثمّ إذا أعدنا النظر وجدناها صامتة ميتة منسية، وهذه المقايسة بين هاتين الحالتين ترينا غباء أولئك المستبدون الذين يرتكبون آلاف الجرائم، وأفظع الجنايات للوصول إلى الشهوات العابرة، واللذائذ الخاطفة.
6. ولهذا يحث القرآن المسلمين على السير في الأرض، والنظر إلى آثار الماضين المدفونة تحت التراب أو الباقية على ظهر الأرض بأم أعينهم، وأن يتخذوا من كلّ ذلك العظة والعبرة وما أكثر العبر.
7. أجل، إن الإسلام يقر مسألة السياحة والسير في الأرض، ويوليها أهمية كبرى، لكن لا كما يريد السياح وطلاب اللذة والهوى، بل الدراسة آثار الأمم الماضية والتدبر فيها، والاعتبار بها، والوقوف على آثار العظمة الإلهية في شتى نقاط العالم وهذا هو ما يسميه القرآن الكريم بالسير في الأرض، والذي تأمر به الآيات العديدة ومن ذلك:
أ. ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾
ب. ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ وآيات أخرى.
ج. ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾
8. إن هذه الآية تقول بأن السير في الأرض والنظر في آثار الماضيين يفتح العقول والعيون، وينير القلوب والأفئدة، ويخلص الإنسان من الجمود والركود، وقد أشار الإمام علي أمير المؤمنين عليه السّلام إلى هذه الحقيقة في كلمات وخطب عديدة منها قوله: (فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته، ووقائعه ومثلاته واتعظوا بمثاوي خدودهم، ومصارع جنوبهم واستعيذوا بالله من لواقح الكبر كما تستعيذونه من طوارق الدهر، واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال، وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشرّ أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كلّ أمر لزمت العزة به شأنهم وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم من الاجتناب للفرقة واللزوم للألفة والتحاض عليها، والتواصي بها، واجتنبوا كلّ أمر كسر فقرتهم وأوهن منّتهم، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي)
9. لكن هذا التعليم الإسلامي الحي قد نسي ـ مع الأسف ـ كبقية التعاليم الإسلامية ولم يلتفت إليه المسلمون، بل إنّ بعض العلماء والمفكرين الإسلاميين حصروا الزمان والمكان في فكرهم، فعاشوا في عالم غير عالم الحياة هذا، وبقوا في معزل عن التحولات الاجتماعية، وأشغلوا أنفسهم بأمور حقيرة وقضايا جزئية قليله الأثر بالقياس إلى الأعمال الجوهرية والقضايا الأساسية، ففي عالم نجد فيه البابوات والقساوسة المسيحيين الذين طال ما حبسوا أنفسهم بين جدران الكنائس قد خرجوا من تلك العزلة الطويلة والانقطاع عن الحياة الاجتماعية إلى العالم الخارجي وراحوا يسيحون في الأرض، ويقيمون الجسور والعلاقات مع الأمم والشعوب ليزدادوا خبرة بالعصر، ويقفوا على متطلباته ومستجداته ومتغيراته الكثيرة، أفلا يجدر بالمسلمين أن يعملوا بهذا التعليم الإسلامي الصريح، ويخرجوا من النطاق الفكري الضيق الذي هم فيه حتّى يتحقق التحول المطلوب في حياة الأمة الإسلامية، وتحل الحركة الصاعدة محل الجمود والتقهقر، والتقدّم المطرد مكان التخلّف والتراجع.
10. لما كان التعليم الإلهي العظيم ـ رغم كونه موجها إلى عامة المخاطبين ـ لا ينتفع به ولا يستلهمه إلّا المتقون قال سبحانه تعقيبا على الآية السابقة ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾، أجل، إن المتقين الهادفين هم الذين يتعظون بهذه الأمور لأنهم يبحثون عن كلّ ما يعمق روح التقوى في نفوسهم، ويزيد بصيرتهم بالحقّ.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/704.